المواهب اللدنية بالمنح المحمدية

القسطلاني

مقدمة لفضيلة الأستاذ الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مقدمة لفضيلة الأستاذ الدكتور منيع عبد الحليم محمود بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أستاذ التفسير وعلوم القرآن وعميد كلية أصول الدين بالقاهرة- جامعة الأزهر الشريف الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الأطهار الطيبين أفضل الصلاة وأتم التسليم وبعد.. يقول الله تعالى معبرا عن الحكمة فى إرسال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» . ومن دعاء سيدنا إبراهيم، وسيدنا إسماعيل، وهما يرفعان القواعد من البيت: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» . من هذه الآيات ومن غيرها: نعلم أن الحكمة فى إرسال الرسل، إنما هى تبليغ آيات الله، أى تعاليمه وأحكامه وتكاليفه إلى بنى البشر، إن الله تعالى: لم يرد أن يترك البشر دون هداية فى الأمور الأساسية لبناء المجتمع وهى: العقيدة، والأخلاق والتشريع، فأرسل لأهل الأرض الدستور السماوى الذى يؤدى اتباعه والعمل به، إلى تزكية النفس وتطهيرها وصفائها. فالأديان والرسل إنما كانوا لبيان الأسس والقواعد التى لا يقوم المجتمع الصالح بدونها، وكانوا أيضا لمصلحة الفرد التى تتمثل فى الارتفاع به إلى مستوى التزكية والطهر والصفاء وهو مستوى يجد فيه من يحققه السعادة كل السعادة والبهجة كل البهجة، ويشعر كل من يرتقى فى معارجه منغمسا فى نور هداية الله سبحانه بالسكينة تحيط به وبالطمأنينة تملأ جميع أقطاره ويشعر فوق كل ذلك رضوان من الله أكبر، حكمة إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم إذن إنما هى إسعاد المجتمع وإسعاد الفرد والرقى بالجميع وبالإنسانية إلى المستوى الذى يرضاه الله لهما وهو المستوى الربانى. يقول الله تعالى فى حديث قدسى: «من عادى لى وليّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى مما افترضت عليه وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه» .

_ (1) سورة الجمعة: 2. (2) سورة البقرة: 129.

وفى هذا الحديث الشريف يبدأ الله سبحانه بالتوجيه فى قوة إلى صفاء القلب وطهارة النية لأوليائه وأولياوه هم: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ومن عاداهم فإنما يعادى المؤمن التقى ونتيجة هذه العداوة ما يقوله الله تعالى: «آذنته بالحرب» . ثم يرسم الله تعالى الطريق إلى حبه: وأول خطوة فى هذا الطريق أداء ما فرضته عليه، ولن يتأتى حبه تعالى دون الشرط الأول شرط القرب منه سبحانه، وهو أداء الفرائض. والحب دون أداء الفرائض زيف وكذب، بل إن أداء الفرائض شرط لحسن الظن بالله. لقد ترك قوم العمل وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل» . لابد من أداء الفرائض وإلا لما كان لمهملها إلى القرب من الله تعالى من سبيل ومع أداء الفرائض فى جو القرب- الإكثار من النوافل، فإذا أكثر من النوافل أحبه الله تعالى. ويترتب على حب الله تعالى للعبد هذا الخير الكثير الذى ذكره الله سبحانه فى الحديث القدسى. ويربط أسلافنا- رضوان الله عليهم- ربطا محكما بين محبة الله تعالى واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم متناسقين فى ذلك مع توجيه الله سبحانه قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» . وهذا الربط معناه الربط بين محبة الله تعالى والعمل. ومقدمات محبة الله تعالى هى العمل. ونتيجة محبة الله هى العمل، يقول الإمام أبو سعيد الخراز: وبلغنا عن الحسن البصرى رضى الله عنهما أن أناسا قالوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنا نحب ربنا حبّا شديدا فجعل الله تعالى لمحبته علما وأنزل عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» . فمن صدق المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فى هديه وزهده وأخلاقه، والتأسى به فى الأمور كلها والإعراض عن الدنيا وزهرتها وبهجتها، فإن الله عز وجل جعل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم علما ودليلا وحجة على أمته. ومن صدق المحبة لله تعالى إيثار محبته تعالى فى جميع الأمور على نفسك، وهواك، وأن تبدأ فى الأمور كلها بأمره قبل أمر نفسك ويقول: فعلامة الحب الموافقة للمحبوب، والتجارى مع طرقاته فى كل الأمور والتقرب إليه بكل حيلة، والهرب من كل ما لا يعينه على مذهبه، أما عن صلة المحبة بالإيمان فإن الإمام الغزالى يقول: وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب لله من شرط الإيمان فى أخبار كثيرة، إذ قال أبو رزين العقيلى: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» . وفى حديث آخر: «لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين» ، وفى رواية: «ومن نفسه» . كيف وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَ

_ (1) سورة آل عمران: 31. (2) سورة آل عمران: 31.

إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «1» ، وإنما أجرى ذلك فى معرض التهديد والإنكار. وهى أيضا أن يجد حلاوة الإيمان. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: 1- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. 2- وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. 3- وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يلقى فى النار» . ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة فى أقواله وأفعاله وأحواله. يقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً «2» . ويقول الشيخ الصاوى فى شرحه على تفسير الجلالين (الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واجب فى الأقوال والأفعال والأحوال لأنه لا ينطق عن هوى، ولا يفعل عن هوى بل جميع أفعاله وأقواله وأحواله عن ربه) . لذا قال العارف: وحصل بالهدى فى كل أمر ... فليس تشاء إلا ما يشاء والله سبحانه وتعالى يقول فى سورة النجم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «3» وإذا كان الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واجبا فإن له شروطا لا يتأتى الاقتداء الصحيح إلا بتحقيقها، وقد ذكرت الآية الكريمة هذه الشروط. والشرط الأول منها: أن يرجو الإنسان الله تعالى: ورجاء الله تعالى قد حذده الله سبحانه فى القرآن الكريم بقوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «4» فالعمل الصالح وعدم الشرك فى العبادة أمران لا زمان لمن كان يرجو لقاء الله فى صدق. ويقول الإمام ابن كثير فى ذلك: وهذا ركنا العمل المتقبل: لابد أن يكون خالصا لله، صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن طاوس قال: قال رجل: يا رسول الله إنى أقف الموقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطنى. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «5» . رجاء اليوم الآخر هو الشرط الثانى والتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يتمثل فى العمل لهذا اليوم حتى يلقى الله فيه وهو عنه راض. ويصف الله سبحانه الذين لا يرجون لقاءه، ولا يرجون اليوم الآخر فيقول: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «6» . والشرط الأخير فى الوصول إلى التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذكر الكثير. ولقد سأل

_ (1) سورة التوبة: 24. (2) سورة الأحزاب: 21. (3) سورة النجم: 3، 4. (4) سورة الكهف: 110. (5) سورة الكهف: 110. (6) سورة يونس: 7، 8.

رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: إن شرائع الإسلام كثرت على، فأخبرنى بشىء أتشبث به، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لا يزال فوك رطبا من ذكر» . والله سبحانه وتعالى يقول: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1» . كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدون به فى كل شىء ... أخرج البخارى ومسلم ومالك والترمذى والنسائى وابن ماجه عن سعيد بن يسار قال: كنت مع ابن عمر رضى الله عنهما فى طريق مكة فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، فقال ابن عمر رضى الله عنهما: أليس لك فى رسول الله أسوة حسنة؟ قلت: بلى. قال: فإنه كان يوتر على البعير. وأخرج البخارى ومسلم والنسائى وغيرهم عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة، ثم قرأ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «2» . أخرج أحمد عن ابن عباس رضى الله عنهما أن عمر رضى الله عنه أكب على الركن فقال: إنى لأعلم أنك حجر ولو لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك واستلمك ما استلمتك وما قبلتك لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «3» . من أجل هذه الأسس الأصيلة فى الإسلام منهج الحب والاتباع أو منهج العبودية كان كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للشيخ أحمد بن محمد القسطلانى المتوفى سنة 923 هـ وهو حلقة هامة فى سلسلة طويلة من الكتب المباركة التى تناولت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والقرآن هو المصدر الأول الذى تستمد منه صفات الرسول وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، سئلت السيدة عائشة- رضوان الله عليها- عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن» . والقرآن كان يتحدث عن الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- حديثا مباشرا يرسم القواعد فى العقيدة والأخلاق ويصور فى الوقت نفسه الطريق الذى كان يسير عليه السراج المنير الرؤف الرحيم- صلوات الله وسلامه عليه-، فالقرآن إذن المصدر الأول الذى تستمد منه صفات الرسول وأخلاقه صلى الله عليه وسلم. والمصدر الثانى هى كتب الأحاديث الصحيحة وخيرها صحيح البخارى يليه صحيح مسلم وكل كتاب من كتب الأحاديث على وجه العموم يخصص قسما منه لصفات الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره، ثم يأتى فى المرتبة الثالثة كتب السيرة القديم منها والحديث. ومن خير كتب السيرة سيرة ابن هشام والمواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلانى وكتاب الأنوار المحمدية للعارف بالله يوسف النبهانى. والإمام أحمد بن محمد القسطلانى مؤلف المواهب اللدنية بالمنح المحمدية من قمم علماء عصره، فكان إماما حافظا متقنا جليل القدر حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة بليغ العبارة حسن الجمع والتأليف لطيف الترتيب والترصيف زينة أهل عصره ونقاوة ذوى دهره، ولا يقدح فيه، تحامل معاصروه عليه فلا زالت الأكابر على هذا فى كل عصر. هكذا وصفه علماء التراجم وذكر صاحب كشف الظنون مؤلفات عديدة له نذكر منها: 1- إرشاد السارى فى شرح صحيح البخارى.

_ (1) سورة الجمعة: 10. (2) سورة الأحزاب: 21. (3) سورة الأحزاب: 21.

2- الإسعاد فى تلخيص الإرشاد. 3- اللآلئ السنية. 4- مراصد الصلات فى مقاصد الصلاة. 5- النور الساطع فى مختصر الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع. 6- يقظة ذوى الاعتبار فى موعظة أهل الاغترار. ويوضح الإمام القسطلانى فى مقدمة كتابه الذى بين أيدينا المنهج العلمى الذى اتبعه فى تكوينه حتى أصبح من أهم المراجع فى السيرة النبوية المشرفة والتى نعتبرها أيضا أهم تفسير للقرآن الكريم فى كل العصور وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ونعتبرها أيضا الرد السليم على الإلحاد ومهاجمة دين الإسلام فى عصرنا الراهن ويعبر بحق عن الفهم العميق لنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكره الإمام الأكبر عبد الحليم محمود شيخ الإسلام- تقدس سره- مما يجعلنا ندرك قيمة هذا المصدر يقول: يتحدث القرآن الكريم عن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-، فى كثير من سوره، يقول سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً «1» . ويقول سبحانه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «2» . ويقول سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «3» . ومن أجل هذه الصلة الإلهية برسول الله صلى الله عليه وسلم، أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى اتخاذ الرسول أسوة، فقال سبحانه: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً «4» . بل أمرنا سبحانه أن نأخذ ما آتانا، وأن ننتهى عما نهانا عنه، وهددنا إذا لم نلتزم ذلك، فقال سبحانه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ «5» . أما السر فى ذلك فهو: 1- أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-: لا ينطق عن الهوى ولا ينحرف عن صراط الله المستقيم، ولقد أقسم الله تعالى على ذلك فقال سبحانه:

_ (1) سورة الأحزاب: 45، 46. (2) سورة النساء: 80. (3) سورة آل عمران: 31. (4) سورة الأحزاب: 21. (5) سورة الحشر: 7.

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» . 2- كان رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- فى جميع أحواله حركة وسكونا، إشارة ونطقا، قلبا وقالبا، يمثل القرآن الكريم، وقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- تطبيقا للقرآن، لقد لبس القرآن ظاهرا وباطنا، لقد كان قرآنا. ولقد وصفته السيدة عائشة رضى الله عنها وصفا دقيقا حينما سئلت عن خلقه، فقالت: «كان خلقه القرآن» . ومن كان خلقه القرآن كان أسوة، وكان قدوة، وكان على خلق عظيم، ومن هنا وصف الله سبحانه وتعالى له إذ يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «2» والحق، أننا حينما نريد أن نكون صورة واضحة تامة عن رسول الله، - صلوات الله وسلامه عليه-، فإن الطريق الوحيد لذلك: إنما هو الإحاطة بالقرآن إحاطة واضحة تامة، والإحاطة بالقرآن على هذا النسق ليست من السهولة بمكان، بل ليست بممكنة: فالقرآن فى كل يوم يتفتح عن معان جديدة للإنسانية، ويتفتح عن معان جديدة للشخص المتأمل المتدبر: وهذه المعانى الجديدة: - إنسانية عامة، أو فردية شخصية- إنما هى إيضاح وتفسير للصورة النبوية الكريمة. والعكس أيضا صحيح، فإن المتدبر المتأمل فى الصورة النبوية الكريمة عن طريق السيرة الصحيحة، والأحاديث المعتمدة، يفهم عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كل يوم جديدا، وهذا الفهم إنما هو تفسير وإيضاح لجوانب من القرآن الكريم. لقد امتزج الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بالقرآن- كما قدمنا- روحا وقلبا وجسما، وامتزج القرآن به عقيدة وأخلاقا وتشريعا: فكان، - صلوات الله وسلامه عليه-، قرآنا يسير فى الناس، وكان القرآن روحا ينتقل، وكان قلبا ينبض، وكان لسانا ينطق بالهداية والإرشاد. ولقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- حريصا كل الحرص على أن يكون خلق الأمة الإسلامية القرآن، لقد عمل على ذلك طيلة بعثته. ويحدثنا القرآن الكريم عن موقف الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من الأمة فيقول سبحانه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» . صلوات الله وسلامه عليك يا سيدى يا رسول الله. ويتحدث- صلوات الله وسلامه عليه- عن حرصه الشديد على هداية أمته فيقول:

_ (1) سورة النجم: 1- 4. (2) سورة القلم: 4. (3) سورة التوبة: 128.

«مثلى ومثلكم: كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذهبن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدى» . هذه هى صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بربه، وهذه هى صلته بأمته. لقد ارتفع- صلوات الله وسلامه عليه- إلى السماء بل وتجاوزها إلى سدرة المنتهى، ورأى من آيات ربه الكبرى، لقد ارتفع إلى الأفق الأعلى فانغمس فى الأفق الأعلى وتلقى عن الله مباشرة كيفية الصلة به وهى الصلاة، ثم ... ثم انبسط إلى الأرض سراجا منيرا، رؤفا رحيما، هاديا، يدعو إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه. يقول أحد الصالحين: «صعد رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إلى السماء وتجاوز بذلك النهايات الكونية ثم عاد إلى الأرض لقد كان فعلا أدنى من قاب قوسين، أقسم بالله لو صعدت إلى السماء لما حاولت العودة إلى الأرض مرة أخرى» . بيد أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- نبى ورسول فهو متصل بالله دائما: إنه فى السماء على الدوام، وهو متصل بالبشر، يؤدى رسالة السماء كاملة غير منقوصة. إنه كان على حد تعبير القرآن: بَشَراً رَسُولًا فهو ببشريته مع الناس، وهو بسره مع الله: إنه مع الناس بإرادة الله وتوجيهه وأمره، إنه مع الناس بكلمة الله ورسالته، إنه مع الناس رسول من قبل الله. وبهذه المعانى كلها يمكننا أن نقول: إنه دائما مع الله ويمكننا أن نقول: إنه- منذ اللحظة الأولى للبعثة- لم ينزل إلى الأرض قط، وإنما كان دائما مع الله سبحانه وتعالى، فهو- صلوات الله وسلامه عليه- يبيت عند ربه، يقول صلى الله عليه وسلم: «لست كهيئتكم، أبيت عند ربى ... » . قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ «1» . إنه- صلوات الله وسلامه عليه-: «بشر» وما يجول فى خلد مسلم قط أن يخرجه عن البشرية، ولكنه- صلوات الله وسلامه عليه- «بشر يوحى إليه» . وما يتأتى قط أن يوحى الله إلى بشر إلا إذا أصبح وكأنه قطعة من النور: صفاء نفس، وطهارة قلب، وتزكية روح. فمنتهى القول فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم وبعض الناس حينما يقرأ القرآن الكريم، فتمر عليه الآية الكريمة: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ «2» . يقف عند كلمة: (بشر) فيحاول التركيز عليها وتوجيه الانتباه كله إليها، وتحويل الأنظار كلها نحوها، فيتحدث عن خصائص البشرية العادية ويبرزها، ويندفع فى هذا الاتجاه المنحرف اندفاعا لا يتناسب قط مع قوله تعالى: يُوحى إِلَيَّ* بل إنه فى اندفاعته الهوجاء ينسى يُوحى إِلَيَّ* ويهملها إهمالا.

_ (1) سورة الكهف: 110. (2) سورة الكهف: 110.

إنه ليس بنادر فى هذا العصر الحاضر أن يجرؤ بعض الناس فيتحدث عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-، وعن خطئه- معاذ الله- فى الرأى، وعن إصابته فيه، ويسير هذا البعض فى حديثه أو فى كتابته مستنتجا ومستنبطا وحاكما، وينسى فى كل ذلك: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «1» ، وينسى فى كل ذلك: يُوحى إِلَيَّ، وينسى: «لست كهيئتكم» ، وينسى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «2» . وينسى أن بعض المسائل يمكن أن تكون لها حلول مختلفة، كلها صحيحة: بعضها رفيق رحيم، وبعضها عادل حاسم، وأن الله سبحانه وتعالى قد بيّن للأمة الإسلامية أن رسوله- صلوات الله وسلامه عليه- وهو على صواب دائما- إنما يتخذ الحل الذى يتناسب مع ما حلاه الله به من الرأفة، وما فطره عليه سبحانه من الرحمة، وهو الحل الذى يتناسب مع طابع الرسالة الإسلامية العام: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «3» . والله سبحانه ببيانه ذلك فى هذه المواضع التى كان من الممكن أن يقف فيها الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- مع العدالة الحاسمة، فعدل عن ذلك إلى الرأفة الرحيمة ... أن الله سبحانه وتعالى ببيانه ذلك، إنما يمدح الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-، ويبين أن منزع الرحمة إنما هو الغالب عليه، - صلوات الله وسلامه عليه-. ولم يلغ الله سبحانه اتجاها عاما سار فيه الرسول، ولم ينقض قضية كلية أقرها، - صلوات الله وسلامه عليه-، ولم ينف مبدأ أثبته رسوله، فما كان- صلوات الله وسلامه عليه- يسير إلا على هدى من ربه، وعلى بصيرة من أمره، وقد شهد الله له بذلك حيث قال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ.. «4» . وما فعل الله فى كل ما تمسك به المنحرفون، وتمحك فيه المتمحكون إلا بيان رحمة الرسول، - صلوات الله وسلامه عليه-، ورأفته: أى أنه سبحانه كان يبين فى هذه المواطن فضله- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه- كما وصفه سبحانه-: على خلق عظيم، والبون شاسع بين هذه الوجهة الربانية، وبين التحدث عن خطأ وصواب، وأوضاع بشرية يركز عليها ولا يلتفت لسواها. ولنضرب لذلك مثلا: أن الذين ديدنهم الجدل يتحدثون كثيرا عن قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «5» . ويقذفون مباشرة بقولهم: أن العفو لا يكون إلا عن خطأ. ولهؤلاء نقول: أن الأساليب العربية فيها من أمثال هذا لكثير، ومنها قولهم مثلا: غفر الله لك، لم تشق على نفسك كل هذه المشقة؟

_ (1) سورة النجم: 3. (2) سورة النور: 63. (3) سورة الأنبياء: 107. (4) سورة الشورى: 52، 53. (5) سورة التوبة: 43.

عفا الله عنك، لم تعنّى نفسك فى سبيل هؤلاء؟ وكأن القائل يقول: رضى الله عنك، لم ترهق نفسك كل هذا الإرهاق؟ أن الآية القرآنية من هذا الوادى. وضم هذه الآية الكريمة إلى أختها التى فى سورة النور: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «1» . تجد المعنى واضحا جليا، وهو أن الله سبحانه، فوض الأمر لنبيه، - صلوات الله وسلامه عليه-، فى أن يأذن لهم أو لا يأذن. ليس النبى إذن معاتبا بهذه الآية- وحاشاه- بل كان صلى الله عليه وسلم مخيرا، فلما أذن لهم أعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا، ولتخلفوا بسبب نفاقهم، وأنه مع ذلك لا حرج عليه فى الإذن لهم، إنها آية مدح للرسول غاية فى الرقة ... ومن غير شك قد صدر الإذن لهم عن قلب رحيم، وعن هذا القلب الرحيم، وعن هذه الرحمة الفياضة، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يصدر فى أحكامه، وما كان فى ذلك إلا متبعا لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2» . وهكذا الأمر فى كل ما يمارى فيه الممارون. ومع ذلك فإننا نريد أن نزيد الأمر وضوحا فى الفرق بين من يركز على «بشر» ومن يركز على «يوحى إلى» لأهميته الكبرى، فنقص القصة التالية، ذات المغزى العميق، والقصة يرويها ابن عطاء الله السكندرى رضى الله عنه فى شرحه لقصيدة ولى الله: (أبو مدين) رضى الله عنه، يقول: زار بعض السلاطين ضريح أبى يزيد رضى الله عنه وقال: هل هنا أحد ممن اجتمع بأبى يزيد؟ فأشير إلى شيخ كبير فى السن كان حاضرا هناك. فقال له: هل سمعت شيئا من كلام أبى يزيد؟ فقال: نعم سمعته قال: «من زارنى لا تحرقه النار» . فاستغرب السلطان ذلك الكلام، فقال: كيف يقول أبو يزيد ذلك، وأبو جهل رأى النبى صلى الله عليه وسلم وتحرقه النار؟ فقال ذلك الشيخ للسلطان: أبو جهل لم ير النبى صلى الله عليه وسلم، إنما رأى (يتيم أبى طالب) ، ولو رآه صلى الله عليه وسلم لم تحرقه النار. ففهم السلطان كلامه وأعجبه هذا الجواب منه، أى أنه لم يره بالتعظيم والإكرام والأسوة، واعتقاد أنه رسول الله، ولو رآه بهذا المعنى لم تحرقه النار، لكنه رآه باحتقار، واعتقاد أنه (يتيم أبى طالب) ، فلم تنفعه تلك الرؤية. ولسنا هنا بصدد الحديث عن أبى يزيد رضى الله عنه، وإنما نريد أن نتحدث عن كلمة الشيخ للسلطان من أن أبا جهل لم ير النبى صلى الله عليه وسلم وإنما رأى (يتيم أبى طالب) . هذه النظرة لأبى جهل هى التى نريد أن يتنزه المؤمنون عنها.

_ (1) سورة النور: 62. (2) سورة الأنبياء: 107.

والمؤمنون- بحمد الله- لا يقعون فى هذا الإثم متعمدين، وإنما يتسلل هذا الإثم إلى بعض النفوس فى صورة لا شعورية، عندما يركز بعضهم على بشرية الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وكأنه لا شىء فيه غير البشرية. ومن الغريب أنهم حينما يتحدثون عن البشرية، ويركزون عليها يعتبرون أنفسهم تقدميين متطورين، وفاتهم أن هذه النظرة لأبى جهل إنما هى النظرة التى يتبناها المستشرقون والمبشرون فى العصر الحاضر، ليقللوا من شأن الرسول فى نظر مواطنيهم. وما كان المستشرقون فى تركيزهم على بشرية الرسول إلا متابعين فى ذلك زعيمهم الأكبر فى هذه النزعة- وهو أبو جهل. وكل من يركز على بشرية الرسول من الكتاب المسلمين إنما هو بذلك يتابع المستشرقين والمبشرين فى هذه النزعة، أو يتابع أبا جهل وهم فى ذلك ليسوا تقدميين ولا متطورين، وإنما هم من الرجعيين حيث ترجع فكرتهم إلى ما قبل ثلاثة عشر قرنا مضت، يتزعمهم فيها أبو الجهل كله، وأبو الظلمة القلبية كلها!!. ليس هناك إذن اجتهاد وخطأ وصواب، وإنما هناك تصرفات تصدر عن الكرم والرحمة، فيتحدث الله مبينا طبيعة رسوله الكريمة، وفطرته الرحيمة ورأفته الواضحة، ويبين فى الوقت نفسه: أن بعض هؤلاء الذين فاضت عليهم هذه الرحمة ليسوا جديرين بها وليسوا أهلا لها لفساد فطرهم وسوء نواياهم. من الحقائق المعروفة أن الإنسان يميل إلى التركيز على: «بشر» أو على: «يوحى إلى» حسب قوة شعوره الدينى وضعفه، فالذى لا إيمان له لا يرى إلا البشرية، ومن ضعف إيمانه يركز على البشرية. ويخفف التركيز على البشرية كلما قوى الإيمان، ويزداد التركيز على: «يوحى إلى» كلما ازداد الإيمان، حتى يصل الإنسان إلى ألا يرى أو لا يكاد يرى إلا «يوحى إلى» . صلوات الله وسلامه عليك يا سيدى يا رسول الله. وهناك إذن طرفان يمثلان فريقين من الناس. طرف: «بشرا» أو، «قل: إنما أنا بشر مثلكم» . وطرف: «يوحى إلى» أو «رسولا» ، وبين الطرفين يتأرجح عدد لا يحصى من المسلمين نزولا وارتفاعا، انخفاضا وسموّا. وأن مقياس الإيمان قوة وضعفا، مقياس درجة الإيمان الذى لا يخطئ، إنما هو ما وقر فى القلب أو غلب عليه، من البشرية أو من: «يوحى إلى» إنهما يمثلان ما يوضع فى كفتى ميزان. دع ما ادعته النصارى فى نبيهمو ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم ولعلك تتساءل الآن عن هذا الذى لا يرى أو لا يكاد يرى، إلا: «يوحى إلى» ماذا يرى؟ وكيف يرى؟. ما هى النظرة التى تنأى بنا عن: «يتيم أبى طالب» لتقربنا من «الأسوة» ؟ كيف ينبغى أن تكون نظرة المؤمن لرسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-؟.

والواقع أن الصورة الكاملة عن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- يلزم لها أن يصل الإنسان إلى مستواه- صلوات الله وسلامه عليه- أو إلى ما يقرب من مستواه وذلك لا يتأتى. بيد أنه إذا استحال ذلك فإنه من الميسور أن نورد صورتين، إحداهما: جاهلية، والآخرى إسلامية. والصورتان لسيدنا عمر رضى الله عنه. أما الصورة الأولى: فإنها «يتيم أبى طالب» كان سيدنا عمر يراها قبل أن يهديه الله للإسلام، وأراد سيدنا عمر أن يقتل «يتيم أبى طالب» حتى لا تتفرق كلمة القرشيين بسببه. ولكن دعاء رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-: «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بعمرو بن هشام، أو بعمر بن الخطاب» كانت قد استجيبت لخير سيدنا عمر فهداه الله للإسلام، ولازم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فناله من بركاته ومن خيره ما هيأه لأن يكون الخليفة الثانى للأمة الإسلامية أجمع، وأن يعز الله الإسلام به فى حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه-، وبعد وفاته. إن سيدنا عمر هذا الذى لم يكن للشيطان عليه من سبيل، والذى كان إذا سلك طريقا سلك الشيطان طريقا آخر: خشية منه ورهبة، والذى نزل القرآن أحيانا مصدقا لما رآه، إن سيدنا عمر صاحب: «يا سارية الجبل» يرسم لنا صورة إسلامية لسيده وحبيبه وصديقه ونبيه ورسوله- صلوات الله وسلامه عليه-. ولكن هذه الصورة: هى صورة سيدنا عمر، إنها تتناسب مع مستوى سيدنا عمر وهو من غير شك عظيم. ماذا كان يمكن أن يقول سيدنا أبو بكر- رضوان الله عليه-؟ وماذا كان يمكن أن يقول سيدنا على رضى الله عنه؟ وماذا كان يمكن أن يكون وصف سيدنا جبريل لو وصفه؟. إن الله سبحانه وتعالى يقول عنه- صلوات الله وسلامه عليه-: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» . وما كانت كلمة السيدة عائشة- رضوان الله عليها-: «كان خلقه القرآن» إلا تفسيرا لما أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة، أيمكنك أن تتصور المدى الذى تبلغه الآية الكريمة، وتفسير السيدة عائشة لها؟ أيتأتى لك أن تحيط بالقرآن، أستغفر الله وأتوب إليه. ولنعد إلى الصورة التى حاول رسمها صاحب: «يا سارية الجبل» ، لنعد إليها لنثبتها شارحين لبعض حوادثها، موضحين لبعض أنبائها، وسنجعل الإيضاح بين أقواس. بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع سيدنا عمر يبكى ويقول: «بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد كان جذع تخطب الناس عليه، فلما كثر الناس اتخذت منبرا لتسمعهم، فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن، فأمتك كانت أولى بالحنين إليك لما فارقتها» . يروى البخارى ومسلم، وكتب السنة كلها تقريبا وكتب السيرة (حادث حنين الجذع) بعدة روايات، وننقل هنا إحدى روايات البخارى:

_ (1) سورة القلم: 4.

عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «كان النبى صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه» . بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده: أن جعل طاعتك طاعته، فقال عز وجل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» . بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده: أن بعثك آخر الآنبياء، وذكرك فى أولهم، فقال عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ «2» . بأبى أنت وأمى يا رسول الله. لقد بلغ من فضيلتك عنده: أن أهل النار يودون أن يكونوا قد أطاعوك وهم بين أطباقها يعذبون: يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا «3» . بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا تنفجر منه الأنهار فماذا (فليس ذلك) بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك يا سيدى يا رسول الله. إن نبع الماء من بين أصابعه الشريفة- صلوات الله وسلامه عليه-، لم يحدث مرة واحدة وإنما حدث عدة مرات، رواه البخارى ومسلم وغيرهما من كتب السنة، وروته كتب السيرة بروايات عدة، فى ظروف مختلفة، مما يدل على كثرة حدوثه، وننقل هنا إحدى روايات الإمام البخارى: عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية، والنبى صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، فتوضأ فجهش الناس، فأسرعوا وتكاثروا نحوه فقال: «ما لكم؟» قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا من بين يديك. فوضع يده فى الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قلت: كم كنتم؟. قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر، ورواحها شهر، فماذا بأعجب من البراق حين سريت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح، صلى الله عليك. بأبى أنت وأمى يا رسول الله! لئن كان عيسى ابن مريم أعطاه الله إحياء الموتى، فماذا بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك وهى مشوية فقالت لك الذراع: لا تأكلنى فإنى مسمومة. يروى ابن سعد فى طبقاته: أخبرنا سعيد بن محمد الثقفى، عن محمد بن عمر، عن أبى سلمة قال: كان رسول الله

_ (1) سورة النساء: 80. (2) سورة الأحزاب: 7. (3) سورة الأحزاب: 66.

صلى الله عليه وسلم، لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، فأهدت إليه يهودية شاة مصلية، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هو وأصحابه، فقالت: إنى مسمومة، فقال لأصحابه: «ارفعوا أيديكم، فإنها قد أخبرتنى أنها مسمومة» قال: فرفعوا أيديهم، قال: فمات بشر بن البراء، فأرسل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حملك على ما صنعت» فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيّا لم يضرك وإن كنت ملكا أرحت الناس منك، قال: فأمر بها فقتلت. اه. بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» . ولو دعوت علينا بمثلها لهلكنا كلنا، فلقد وطىء ظهرك- تروى كتب السيرة أن عقبة بن أبى معيط وطأ على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة، حتى كادت عيناه تبرزان- وأدمى وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . لقد دمى وجهه- صلوات الله وسلامه عليه- وكسرت رباعيته فى غزوة أحد. روى ذلك البخارى ومسلم. أما حديث: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» فقد رواه البيهقى فى دلائل النبوة. بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد اتبعك فى قلة سنك، وقصر عمرك ما لم يتبع نوحا فى كثرة سنه، وطول عمره، ولقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل. بأبى أنت وأمى يا رسول الله: لو لم تجالس إلا كفؤا لك ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفؤا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تواكل إلا كفؤا لك ما واكلتنا، فقد والله جالستنا، ونكحت إلينا، وواكلتنا، ولبست الصوف، وركبت الحمار، وأردفت خلفك، ووضعت طعامك على الأرض تواضعا منك صلى الله عليك وسلم. هذه صورة. ومن الطريف أن نذكر صورة أخرى استنتاجية، استنتجها رجل لم يكن يعرف الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-، ولكنه رجل واسع الأفق رحب الخيال دقيق التفكير. وقد اتخذ الاحتياط اللازم حتى لا يشوب الصورة أى مطعن، هذا الرجل هو: (هرقل) . أتاه كتاب رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-، يدعوه إلى الإسلام فلم يهمل الكتاب ولم يمزقه، وإنما قرأه فى عناية وانتباه، ثم أراد أن يكون صورة صحيحة عن صاحب الخطاب، فسأل عما إذا كان بالمدينة بعض العرب الذين يعرفون الرسول فقيل له: إن بالمدينة تجارا من مكة يعرفون محمدا باعتباره من مواطنيهم فأمر بإحضارهم وكان منهم أبو سفيان. وسأل هرقل عن أقربهم نسبا إلى الرسول، فكان أبا سفيان فقربه منه وأدناه وقال لهم: إنى سائله عن أمور فإن كذبنى فكذبوه. يقول أبو سفيان، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عليه. وسنترك المقدمات والأسئلة الأولى: لأنها واضحة من النتائج التى انتهى إليها هرقل:

_ (1) سورة نوح: 26.

إن هرقل بعد أن انتهى من الأسئلة: بدأ- عن طريق الترجمان- يقول لأبى سفيان، على مشهد من الملأ الحاضر من أصحاب هرقل، ومن أصحاب أبى سفيان: سألتك عن نسبه: فذكرت أنه فيكم ذو نسب. فكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت: أن لا. فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسى بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت: أن لا. قلت: لو كان من آبائه من ملك، لقلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا. فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت: أن ضعفاؤهم اتبعوه. وهم: أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت: أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقّا فسيملك موضع قدمى هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم: فلو أنى أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. هذه الصورة التى كونها هرقل بمنطقه، ويمكن أن يكونها أو يكون مثيلات لها كل إنسان اتسع أفقه، ورحب تفكيره، وكل إنسان يصدق الله والحق: لابد أن ينتهى بما انتهى إليه هرقل

من قوله: «لو كنت عنده لغسلت عن قدميه» وإنما يغسل عن قدميه، من أجل: «يوحى إلى» إذ إن من اصطفاه الله لرسالته جدير بأن يكون أهلا لذلك. بيد أن هذه النهاية التى انتهى إليها هرقل، إنما هى الشعار الدائم الذى لا ينتهى بانتقال الرسول إلى الملأ الأعلى، فالرسول حى بيننا الآن برسالته وهديه وتعاليمه والغسل عن قدميه الآن أو بتعبير آخر احترامه: إنما هو باتباع هديه، والتزام رسالته، وتقديره تقديرا يتناسب مع اصطفاء الله له صلى الله عليه وسلم. ولقد ركز هرقل نوعا ما على الصدق والإخلاص، والواقع أن صورة الصدق والإخلاص كان يراهما كل من عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تعمه عصبية، أو حسد أو هوى. على أن صورة الصدق والإخلاص: كانت سمة من السمات التى اتصف بها الرسول قبل بعثته، وبعد بعثته- صلوات الله وسلامه عليه-، لقد لازمته طيلة حياته، لقد كان مجرد الخبر يلقيه- صلوات الله وسلامه عليه-، يأخذه أعدى أعدائه على أنه واقع لا محالة. فهذا أمية بن خلف- عدو لدود- يتلاحى مع سعد بن معاذ رضى الله عنه، يريد أن يمنعه من الطواف بالكعبة، فيقول له سعد بن معاذ فى حدة المناقشة: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه قاتلك» ويضطرب قلب أمية بن خلف ويسأل فى لهفة وضعف وتخاذل: أو قال ذلك حقّا؟ فلما أكد له سعد بن معاذ الخبر أسقط فى يده وقال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق، وقتل أمية بن خلف يوم بدر. على أن هذه الصورة تتمثل فى وضوح بيّن حينما أعلن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إلى قريش نبوته، فقال لهم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم تصدقونى؟» . لقد كانت إجابتهم عن هذا السؤال تعبر عن الحقيقة التى لمسوها فيه لقد قالوا: «نعم أنت عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذبا قط» . وصورة أخرى، صورة لم يرتب لها ترتيب مروى ولم يؤد إليها منطق محكم، صورة لم تكن نتيجة عشرة طويلة، ورفقة قريبة، وإنما جاءت على البديهة، وأوحت بها الملاحظة السليمة. إنها الصورة التى كونتها عنه- صلوات الله وسلامه عليه- أم معبد الخزاعية، وهى صورة لا تخص الجانب المعنوى منه وإنما تتصل على الأخص بالجانب الظاهر، وأردنا أن نثبتها هنا لنثبت بها (هيئة) وظاهرا بعد أن أثبتنا زوايا من المعنويات، وجوانب من التقدير والإجلال، إن الصورة التى نثبتها الآن مجرد وصف، إنها تعبير عن ملاحظة. هاجر رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى المدينة يرافقه أبو بكر رضى الله عنه، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط. مروا بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة قوية الأخلاق عفيفة تقابل الرجال، فتتحدث إليهم وتستضيفهم، وسألها الركب عن تمر أو لحم يشترونه فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، فقد كانت سنة من السنين العجاف، فقالت لهم:

والله لو كان عندنا شىء ما أعوزكم القرى. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى ركن الخيمة فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت: هذه شاة خلفها التعب عن الغنم. فقال- صلوات الله وسلامه عليه-: هل بها من لبن؟ فقالت: هى أجهد من ذلك. قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» . قالت: نعم بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله وقال: «اللهم بارك لها فى شاتها» . فامتلأ ضرع الشاة ودر لبنها: فدعا بإناء لها كبير، فحلب فيه حتى ملأه فسقى أم معبد فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب صلى الله عليه وسلم آخرهم وقال: «ساقى القوم آخرهم» . فشربوا جميعا مرة بعد مرة. ثم حلب فيه ثانية عودا على بدء، فغادروه عندها، ثم ارتحلوا عنها، فما لبثت أن جاء زوجها يسوق أعنزا عجافا هزلى فلما رأى اللبن عجب واستغرب وقال: «من أين لكم هذا ولا حلوبة فى البيت» ؟. قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت. قال: والله إنى لأراه صاحب قريش الذى يطلب، صفيه لى يا أم معبد؟ قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلج (مشرق) الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة (ضخامة البطن) ولم تزر به صعلة (لم يشنه صغر الرأس) وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف (طويل شعر الأجفان) ، وفى صوته صحل (رخيم الصوت) أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر، فى عنقه سطح (ارتفاع وطول) وفى لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقة خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق فصل لا نذر ولا هذر (لا عى فيه ولا ثرثرة فى كلامه) أجهر الناس وأجملهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب، ربعة (وسط ما بين الطول والقصر) لا تشنؤه (تبغضه) من طول ولا تقتحمه عين (تحتقره) من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا له رفقاء يخصون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود (يسرع أصحابه فى طاعته) ، محشود (يحتشد الناس حوله) ، لا عابث ولا منفذ (غير مخرف فى الكلام) . قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذى ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولو كنت وافقته يا أم معبد لتلمست أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت لذلك سبيلا. هذه هى الصورة التى حاولت أم معبد رسمها.

أما سيدنا عمرو بن العاص فإنه يقول فى صراحة وصدق- عندما حضرته الوفاة وعندما تذكر الماضى فخنقته العبرات، وتحدث مع ابنه عن أشياء عدة فى صورة مؤثرة-: (ما كان أحد أحب إلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل فى عينى منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينى منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت: لأنى لم أكن أملأ عينى منه) . هذا وبالله التوفيق. أ. د/ منيع عبد الحليم محمود أستاذ التفسير وعلوم القرآن وعميد كلية أصول الدين بالقاهرة جامعة الأزهر

الجزء الأول

الجزء الأول

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستهديه ونسعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد ... إننا أمام كتاب يتحدث عن سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولدراسة سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكانة خاصة، لا أقول فى نفوس متبعيه فقط، بل فى نفوس معاديه أيضا! وذلك يرجع إلى مكانة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى لم ينلها أحد قبله، ولن ينالها أحد بعده. فهو صفوة خلقه ورسوله إليهم جميعا عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، كما ورد فى حديث فضلت على الأنبياء بست فذكر منهم فكان النبى قبلى يرسل إلى قومه خاصة، وأرسلت إلى الناس عامة أبيضهم وأسودهم. ومن رحمة الله عز وجل بخلقه أنه عندما يختار لهم رسولا يجعله قدوة وأسوة فى حياته لما يدعو إليه، لا كلاما نظريّا فحسب، بل ترجمة عملية واقعية لما يدعو إليه، لأن الله عز وجل يعلم أن ذلك أبلغ وأوقع فى نفوس المتبعين، ولعل ذلك من أسباب كون الرسل من البشر لا من الملائكة؛ لأن طبيعة الملائكة تختلف عن طبيعة البشر، فلن تكون حياتهم أسوة لنا بخلاف الرسل من البشر.

ولأن حياة الرسل، وبخاصة رسولنا- صلى الله عليه وسلم- أسوة لنا اهتم العلماء قديما وحديثا بالتصنيف فى سيرة حياته- صلى الله عليه وسلم-، لنعرف عنه كل كبيرة وصغيرة، بل لم نجد أتباع رسل اهتموا بكل تفاصيل حياته خاصها وعامها كما اهتم علماؤنا بسيرة سيد الخلق أجمعين، محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولذلك حظيت حياته عن غيره من الأنبياء بمصنفات شتى لا تعد ولا تحصى ليجد كل واحد منا بغيته فى معرفة حياة رسولنا- صلى الله عليه وسلم-. ثم إن دراسة سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا تقف عند حد معرفة شمائله صلى الله عليه وسلم- فقط، بل معرفة شرعه- صلى الله عليه وسلم-، حيث إن فى سلوكه مع ربه نعرف هديه فى العبادات، ثم سلوكه مع من حوله نعرف هديه فى معاملة الخلق، فإذا كان مع زوجه عرفنا هديه فى معاملة الأزواج، وإن كان مع صاحب أو جار عرفنا هديه فى معاملة الأصحاب والجيران، ثم مع أعدائه عرفنا هديه فى السلم والحرب، وكيف نعامل أعداءنا!!، كل ذلك بضوابطه الشرعية التى بينتها سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ومن هؤلاء صاحب كتابنا شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلانى، وهو كتاب يتضمن السيرة والمغازى والخصائص والشمائل وأعلام النبوة، وسيرته- صلى الله عليه وسلم- فى العبادة، ولعله بذلك قد استوعب كل جوانب حياته صلى الله عليه وسلم- سواء كانت علاقته بربه، أو مع خلقه كأزواجه وأصحابه، حيث كان نعم الأب ونعم الأخ ونعم الزوج. إلا أنا نجد أنا صاحبنا قد غالى بعض الشىء فى مناقبه- صلى الله عليه وسلم-، قد بينا ذلك فى موضعه، ولا ننكر أنها قليلة بالنسبة إلى الكتاب عامة ولكن الأدب مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نضعه فى المكانة التى أراد الله عز وجل أن يضعه فيها، بل هو أيضا قد أمرنا بذلك، حيث قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» ، وليس فى ذلك نقص من مكانته- صلى الله عليه وسلم-، بل هذا رفعة له أن نصفه بأنه عبد ورسول، بل إن الله عز وجل حينما أراد أن يصفه فى أعظم رحلة على وجه الأرض

وهى رحلة الإسراء والمعراج لم يختر له إلا هذا اللقب فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ.. الآية. والخير كل الخير فى أن نقف عند ما وصفه به ربه، دون مغالاة أو تقصير حيث إن كلاهما مرفوض. ثم إن لنا كلمة أخيرة حول هذا العنوان وهو «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» حيث إن كلمة «اللدنية» تعطى انطباعا على أن «لدنه» غير «لدنى» مع العلم بأن سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معلومة للجميع، لا لدنّ فيها، كما أن هذه الكلمة وردت على لسان الخضر- عليه السّلام- مما أوحاه الله إليه، مما يدل على أنه رسول على الصحيح بوحى الله له، لأنه لا يحق لأحد مخالفة ظاهر الشريعة بحجة أى تأويل، إلا عن وحى أوحاه الله له، وهذا لا يكون إلا للأنبياء، أما غيرهم، فلا يصح لهم إلا ظاهر الشريعة، وإلا اتهمناه. ولذلك كان الأولى والأجدر بمصنفنا أن يختار اسما آخر غير هذا العنوان حتى لا يلتبس مع من يخالفون ظاهر النصوص بتأويلات مرفوضة بحجة العلم اللدنى الذى ما أنزل الله به من سلطان.

كلمة عن مصادر السيرة النبوية

كلمة عن مصادر السيرة النبوية إن المتتبع لما ألف فى السيرة النبوية، وما يلحقه من الخصائص النبوية، والشمائل المحمدية، وأعلام النبوة ودلائلها، يرى حشدا هائلا من المصادر والمراجع مما لا يكاد يحصيه مؤلف. وقد ذكر طرفا منهم العلامة السفاوى- رحمه الله- فى «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ» (ص 146- 160) ومما قاله بهذا الصدد فى آخر حديثه عنها «إلى غيرها مما لو حصل التصدى لجمعه كله فى كتاب لكان من عشرين مجلدا فأكثر» (ص 160) ، وكذلك ذكر بعضها العلامة الكتانى فى «الرسالة المستطرقة لبيان كتب السنة المشرفة» (ص 105- 110 و 197- 203) ، والمحاولة القيامة من الدكتور صلاح الدين المنجد فى كتابه: «معجم ما ألف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» . ناهيك عن الكتب المؤلفة فى الكتب والفنون والمؤلفين والعلوم الإسلامية مثل كتاب الدكتور فؤاد سزكين «تاريخ التراث العربى» مما يجعلنا نكاد نجزم بأنه ما من شاردة ولا واردة فى حياته- صلى الله عليه وسلم- إلا وذكرت ورويت عنه- بطريقة الإسناد- مما لم يتوفر لأحد فى القديم ولا الحديث ولا فيما سيأتى، والله أعلم. وقد كانت بداية التدوين فى السيرة أو فى المغازى والسير فى عصر التابعين ومن تلاهم أى فى النصف الثانى من القرن الأول الهجرى وأولى من عرف بذلك جماعة منهم: 1- سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجى. 2- سعيد بن المسيب بن حزن المخزومى. 3- عبد الله بن كعب بن مالك الأنصارى المتوفى سنة 97 هـ. 4- سهل بن أبى حثمة المدنى الأنصارى. 5- أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبى المتوفى سنة 103 هـ. وقد ذكرت المصادر أن له كتابا فى «المغازى» .

6- أبان بن عثمان بن عفان المتوفى سنة 96 أو 105 هـ. 7- عروة بن الزبير بن العوام الأسدى، المتوفى سنة 92 أو 93 أو 95 هـ. 8- شرحبيل بن سعد. 9- عاصم بن عمر بن قتادة المدنى، أبو عمرو المتوفى سنة 120 هـ. 10- أبو محمد القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق المتوفى سنة 107 هـ. 11- الزهرى، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب (50- 101) ، قيل إنه أول من أسند الحديث، وأول من دون السيرة، وعليه مدار سلاسل كثيرة من الأسانيد فى السيرة النبوية (انظر الروض الأنف 1/ 122، وحلية الأولياء 1/ 2) . وقد جمعت سيرته تحت اسم «المغازى» (بتحقيق سهيل زكار) . 12- السبيعى، أبو إسحاق عمرو عبد الله الهمدانى (المتوفى سنة 127) . 13- يعقوب بن عتبة بن المغيرة الثقفى المدنى (المتوفى سنة 123) . 14- عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم المدنى. وقد دون الحديث بأمر من عمر بن عبد العزيز وقيل هو من أوائل من دون فيه. (توفى سنة 130/ أو 135 هـ) . 15- يزيد بن رومان الأسدى المدنى، مولى آل الزبير (توفى سنة 130 هـ) . 16- أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود الأسدى ربيب عروة بن الزبير (توفى سنة 131 هـ) . 17- داود بن الحسين الأموى تلميذ عكرمة ونافع وشيخ ابن إسحاق ومالك (توفى سنة 135 هـ) .

18- أبو المعتمر سليمان بن طرخان التيمى (توفى سنة 143 هـ) . وغالب من ذكرنا من أعلام هذه الطبقات لم تصلنا مؤلفاتهم بل وصلنا شذرات من مروياتهم فى كتب المغازى والتاريخ كمغازى ابن إسحاق والواقدى وتاريخ الطبرى. 19- موسى بن عقبة بن أبى عياش أبو محمد الأسدى (المتوفى سنة 141 هـ) ، روى عن مالك قوله «عليكم بمغازى ابن عقبة فهى أصح المغازى» وقد وصلنا قسم من مروياته فى ابن سعد والطبرى. 20- محمد بن إسحاق بن يسار (85- 151 أو 152 هـ) قال ابن سيد الناس: «وعمدتنا فيما نورده من ذلك على محمد بن إسحاق، إذ هو العمدة فى هذا الباب لنا ولغيرنا» «1» . وقال الزهرى: لا يزال بالمدينة علم ما بقى هذا، يعنى ابن إسحاق. وقال شعبة: «محمد بن إسحاق أمير المحدثين» ، وقال ابن المدينى: مدار حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ستة فذكرهم، ثم قال: وصار علم الستة عن اثنى عشر أحدهم ابن إسحاق. وسئل ابن شهاب الزهرى عن المغازى فقال: هذا أعلم الناس بها، يعنى ابن إسحاق. وقال الشافعى «من أراد أن يتبحر فى المغازى فهو عيال على ابن إسحاق» ، وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصرى: محمد بن إسحاق قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه منهم سفيان وشعبة وابن عيينة والحمادان وابن المبارك وإبراهيم بن سعد، وقال عباس الدورى، سمعت أحمد بن حنبل وذكر محمد بن إسحاق فقال: أما فى المغازى وأشباهه فيكتب، وأما فى الحلال والحرام فيحتاج إلى مثل هذا ومد يده وضم أصابعه ... إلخ. ولابن إسحاق كتاب المغازى معروف وقد قسمه إلى ثلاثة أقسام: المبتدأ والمبعث والمغازى وقد طبع «المغازى والسير» بتحقيق سهيل زكار ... 21- معمر بن واقد مولى بنى حدان من بطون الأزد (توفى سنة

_ (1) راجع كلام ابن سيد الناس، وردّه على من طعن فى ابن إسحاق فى مقدمة عيون الأثر (1/ 12 وما بعدها) .

154 هـ) ألف أيضا «المغازى» وكان عبد الرزاق بن همام راوية كتبه. وروى الطبرى معظم روايته للمغازى. 22- الحنيفى: أبو محمد بن عبد الرحمن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان (توفى سنة 162 هـ) كتابه «السيرة» أحد المصادر الأساسية لمغازى الواقدى. 23- أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندى، معاصر لابن إسحاق وأحدث منه سنّا. (توفى سنة 170 هـ) ، له أيضا «المغازى» حصل الخطيب على إجازة روايته فى دمشق. وقد وصل إلينا قسم منه فى كتاب الواقدى. 24- إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزارى (توفى سنة 188 هـ) له كتاب «السير فى الأخبار» . 25- أبو إسماعيل محمد بن عبد الله الأزدى البصرى (توفى فى الربع الأخير من القرن الثانى الهجرى) . 26- يحيى بن سعيد بن أبان الأموى الكوفى (توفى سنة 194 هـ) له «المغازى» وقد وصلت إلينا قطع منه عند البخارى وذكر طرفا من أخباره ابن كثير فى قسم السيرة من البداية والنهاية. 27- أبو العباس الوليد بن مسلم الأموى الدمشقى (توفى سنة 195 هـ) . 28- أبو حذيفة إسحاق بن مبشر بن محمد البخارى (المتوفى سنة 206 هـ) . 29- الواقدى: أبو عبد الله محمد بن عمر (130- 207 هـ) كان الثانى بعد ابن إسحاق فى العلم بالمغازى والسير والتواريخ، قال أحمد: «هو بصير بالمغازى» وقال فيه أيضا «الواقدى يركب الأسانيد» وللعلماء فى قبول حديثه بين معدّل ومجرح «1» . وللواقدى كتاب «المغازى» مطبوع ومحقق وله كتب أخرى غيره مطبوعة أيضا. كفتوح الشام.

_ (1) عيون الأثر (1/ 23- 28) وانظر أيضا كتب الرجال والتعديل والتجريح.

30- أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميرى المعافرى (توفى سنة 218 أو 213 هـ) اشتهر بالسيرة وهو مختصر لابن إسحاق. مع بعض الزيادات أو التعقيبات والتصحيحات. وهى روايته عن البكائى عن ابن إسحاق. كما اشتهر شرحها للسهيلى المعروف بالروض الأنف، ولسيرته شروح واختصارات كثيرة. وقد طغت شهرة سيرته على مغازى ابن إسحاق نفسه حتى إنها لا تكاد تذكر إلا قليلا بجانبها. وقد طبعت السيرة النبوية لابن هشام طبعات عدة بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد مرة، وبتحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبيارى وعبد الحفيظ شلبى مرة ثانية، وللأستاذ عبد السلام هارون تهذيب لها مشهور، وقام أخيرا بتحقيقها الدكتور عمر عبد السلام تدمرى وطبعتها دار الكتاب العربى فى بيروت فى أربعة مجلدات. وابن هشام هو الذى أطلق على كتابه اسم «السيرة» فقال فى مستهله «هذا كتاب سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» . 31- ابن سعد، وهو أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصرى الزهرى المعروف بكاتب الواقدى. وقد اعتمد عليه فى كثير من مروياته. (ولد سنة 168 هـ وتوفى سنة 230 هـ ببغداد) وهو صاحب «الطبقات» المعروفة باسمه وقد تضمن سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونبذا من أخبار الصحابة والتابعين وسيرهم. قال الخطيب: «محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه فإنه يتحرى فى كثير من رواياته وهو أحد شيوخ البلاذرى المؤرخ الكبير، أجل كتبه «الطبقات الكبير» . والكتاب له مخطوطات كثيرة وهو مطبوع. 32- ابن عائذ، أبو عبد الله محمد بن عائذ بن أحمد الدمشقى القرشى (المتوفى سنة 233 هـ فى دمشق) له المغازى، نقل عنه ابن سيد الناس فى «عيون الأثر» . 33- حماد بن إسحاق بن إسماعيل الأزدى (المتوفى سنة 267 هـ) . 34- أبو زرعة عبد الرحمن بن عبد الله الدمشقى (المتوفى سنة 280 هـ فى دمشق) .

35- أبو على محمد بن هارون بن شعيب الأنصارى (المتوفى سنة 353) ثم تتابعت بعد هؤلاء كتب كثيرة فى السيرة النبوية نذكر من أبرزها: 1- جوامع السيرة لأبى محمد على بن أحمد بن حزم الأندلسى المتوفى سنة 456 هـ. 2- السيرة للحافظ الكبير عبد المؤمن بن خلف الدمياطى المصرى (توفى 705 هـ) . 3- «عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير» ، لابن سيد الناس أبو الفتح محمد بن محمد الأندلسى (توفى 734 هـ) ولبرهان الدين إبراهيم ابن محمد الحلبى (توفى 1044 هـ) شرح مشتهر عليه معروف «بإحسان العيون فى سيرة الأمين المأمون أو السيرة الحلبية» ... 4- مختصر السيرة لابن حجر العسقلانى (توفى سنة 852 هـ) . 5- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية لشهاب الدين أحمد بن محمد العسقلانى (توفى سنة 923 هـ) وهو كتابنا هذا ويتضمن السيرة والخصائص والشمائل وأعلام النبوة وسيرته- صلى الله عليه وسلم- فى العبادة، ومن أفضل شروحها شرح العلامة الزرقانى. 6- سبل الهدى والرشاد فى سيرة خير العباد «السيرة الشامية» لمحمد بن يوسف الصالح (توفى سنة 942 هـ) . 7- إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع للمقريزى أحمد بن على (توفى 845 هـ) . 8- بهجة المحافل وبغية الأماثل فى تلخيص المعجزات والسير والشمائل ليحيى بن أبى بكر العامرى (توفى 893 هـ) . 9- الدرر فى اختصار المغازى والسير لابن عبد البر القرطبى يوسف بن عبد الله (توفى سنة 463 هـ) . 10- الوفا فى سيرة المصطفى لعبد الرحمن بن على بن الجوزى (توفى 597 هـ) .

11- الاكتفا فى مغازى المصطفى والثلاثة الخلفا للكلاعى (توفى سنة 634 هـ) . 12- تاريخ الخميس فى أحوال أنفس النفيس للديار بكرى (المتوفى سنة 966 هـ) «1» وهناك كتب ألفت فى التاريخ العام، عرجت على السيرة النبوية والمغازى وكتبت فيها بإطناب أو بإسهاب أشهرها: 1- طبقات ابن سعد المتقدم الذكر- قسم السيرة. 2- تاريخ الإمام الطبرى (تاريخ الأمم والملوك) محمد بن جرير (توفى سنة 310 هـ) . 3- المنتظم لابن الجوزى (توفى سنة 597) . 4- الكامل فى التاريخ لابن الأثير عز الدين على بن محمد بن الأثير (توفى سنة 630 هـ) . 5- تاريخ الإسلام للذهبى محمد بن أحمد بن عثمان الدمشقى (توفى سنة 748 هـ) . وقد طبع منه قسما السيرة والمغازى فى مجلدين بتحقيق الدكتور عمر عبد السلام تدمرى. 6- البداية والنهاية لابن كثير (774 هـ) . 7- تاريخ دمشق لابن عساكر هبة الله على بن الحسين (توفى سنة 571 هـ) . وهناك مؤلفات فى السيرة تعدت السيرة إلى الحديث عن أمور أخرى من حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- من زاوية فقهية وحديثية من أمثال ما كتبه «ابن القيم الجوزية فى زاد المعاد فى هدى خير العباد» فضلا عن المنظومات فى السيرة والمغازى «2» كنظم مسيرة ابن هشام للقصرى، وللديرينى وللعراقى والدميرى وابن الشهبة والبقاعى ... إلخ. جزى الله هؤلاء العلماء خير ما جزى عباده، ببركة كتابتهم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحبهم له. ولله المنة والفضل يؤتيه من يشاء من عباده.

_ (1) راجع كتاب معجم ما ألف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للدكتور صلاح الدين المنجد (ص 101 وما بعدها) . (2) راجع المصدر السابق ص 130.

عملى فى الكتاب

عملى فى الكتاب 1- ضبط الآيات القرآنية مع عزوها إلى اسم السورة ورقم الآية. 2- تخريج الأحاديث النبوية مع بيان درجة صحتها من حيث القبول أو الرد مستفيدين فى ذلك من أقوال أهل هذا الشأن قديما وحديثا. 3- ضبط النص ومراجعته ومقابلته مع بعض المصادر التى كان يعزو إليها لتصويب ما قد رأيناه من خطأ أو زلل. 4- شرح غريب بعض الكلمات. 5- عزو القارئ إلى كتب أخرى شاركت المصنف فى بعض المواضع للاستزادة والاستفادة. 6- عمل ترجمة موجزة للمصنف للتعريف به. وأخيرا أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا هذا العمل، وأن يجعله فى ميزان حسناتنا، إنه نعم المولى ونعم النصير. وكتبه أبو عمرو عماد زكى البارودى 21 ذو القعدة سنة 1421 هـ الموافق 15 فبراير سنة 2001 م

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف «1» نسبه: هو أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك بن أحمد المعروف بالقسطلانى الإمام العلامة المسند المحدث أبو العباس شهاب الدين القتيبى المصرى ثم القاهرى، صاحب المؤلفات الحافلة والفضائل الكاملة. ولادته ونشأته: ولد الإمام فى ثانى عشر ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة بمصر ونشأ بها، فحفظ القرآن والشاطبية والجزرية والوردية فى النحو وغير ذلك. مشايخه: أخذ عن ابن حجر العسقلانى وعدة مشايخ منهم: عمر بن قاسم الأنصارى النشار وعبد الغنى الهيثمى والشهاب بن أسد وخالد الأزهرى النحوى، والفخر المقسمى والسخاوى، والبرهان العجلونى وشيخ الإسلام زكريا الأنصارى وقرأ صحيح البخارى فى خمسة مجالس على العلوى النشاوى وتتلمذ له. وأخذ بمكة أيضا عن جماعة منهم: النجم بن فهد وزينب ابنة الشوبكى. صفاته: لقد كان من أزهد الناس كثير الأسقام قانعا متعفف، وكان منقادا إلى

_ (1) انظر ترجمته فى: الضوء اللامع (2/ 103) ، شذرات الذهب (8/ 121) ، الكواكب السائرة (1/ 126) ، معجم المؤلفين (2/ 85) ، والنور المسافر (113) ، وخطط مبارك (6/ 11) ، والأعلام (1/ 232) ، ومعجم المطبوعات (1511) .

الحق من رد له سهوا أو غلطا، جيد القراءة للقرآن والحديث والخطابة شجى الصوت، مشارك فى الفضائل، متواضع متودد لطيف العشرة. وكان يجلس للوعظ بالجامع الغمرى فيجتمع عنده الجم الغفير ليس له نظير فى الوعظ، وكان له اعتقاد تام فى الصوفية. ولى مشيخة مقام أحمد بن أبى العباس الحرار بالقرافة الصغرى، وأقرأ الطلبة وكتب بخطه لنفسه ولغيره. ويحكى أن جلال الدين السيوطى كان ينقصه ويزعم أنه يسرق من كتبه ويستمد منها ولم ينسب النقل إليها وأدعى عليه بذلك بين يدى شيخ الإسلام زكريا الأنصارى فألزمه ببيان مدعاه فقال: إنه نقل عن البيهقى وله عدة مؤلفات فليذكر لنا أنه ذكره فى أى من مؤلفاته لنعلم أنه نقله عنه، ولكنه رأى ذلك فى مؤلفاتى فنقله، وكان الواجب عليه أن يقول: نقل السيوطى عنه. ثم إن الشيخ القسطلانى قصد إزالة ما فى خاطره فمشى من القاهرة حافى مكشوف الرأس إلى الروضة وكان السيوطى معتزلا عن الناس بها. فوصل إلى بابه ودقه فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلانى جئت إليك حافيا مكشوف الرأس ليطيب خاطرك علىّ. فقال له: قد طاب ولم يفتح له الباب ولم يقابله. وحج غير مرة وجاور سنة أربع وثمانين وأربع وتسعين وستين قبلها، وبالجملة فإنه كان إماما حافظا متقنا جليل القدر حسن التقرير والتحرير لطيف الإشارة بليغ العبارة حسن الجمع والتأليف لطيف الترتيب والترصيف زينة أهل عصره ونقاوة ذوى دهره ولا يقدح فيه، تحامل معاصريه عليه فلا زالت الأكابر على هذا فى كل عصر. قال عنه الشعراوى: كان من أحسن الناس وجها طويل القامة حسن الشيب يقرأ بالأربع عشرة رواية: وكان صوته بالقرآن يبكى القاسى إذا قرأ فى المحراب تساقط الناس من الخشوع والبكاء وقال: أقام عند النبى- صلى الله عليه وسلم- فحصل له جذب فصنف المواهب اللدنية لما صحا، وقد أكثر فيه من

وفاته:

الاستشهاد بكلام سيد وفا وكان يميل إلى الغلو فى رفعة قدر النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى أنه اختار مذهب مالك فى تفضيل المدينة على مكة «1» . وفاته: وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن المحرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة لعروض فالج له، نشأ من تأثره ببلوغه قطع رأس إبراهيم بن عطاء الله المكى صديق السلطان الغورى، بحيث سقط عن دابته وأغمى عليه فحمل إلى منزله ثم مات بعد أيام، وصلى عليه بالأزهر عقب صلاة الجمعة ودفن بقبة قاضى القضاة بدر الدين العينى من مدرسته بقرب جامع الأزهر. وتأثر كثير من الناس لموته لحسن معاشرته وتواضعه، وصلى عليه غائبة بدمشق مع جماعة منهم: البرهان ابن أبى شريف. وقال ابن أياس: وافق يوم وفاته دخول السلطان سليم عنوة إلى مصر وتملكه بها. مصنفاته: قال فى النور: ولقد ارتفع شأنه فأعطى السعادة فى قلمه وكلمه وصنف التصانيف المقبولة التى سارت بها الركبان فى حياته، وأول دليل على قبول أعماله وإخلاصه فى تأليفه عناية الناس بكتابه المواهب اللدنية ومغالاتهم فى ثمنه، ومن تصانيفه: 1- إرشاد السارى فى شرح صحيح البخارى «2» : وهو فى عشرة مجلدات. 2- الإسعاد فى تلخيص الإرشاد «3» : من فروع الشافعية لشرف الدين المقرى. 3- إمتاع الأسماع والأبصار «4» .

_ (1) انظر «الكواكب» السائرة (1/ 127) . (2) انظر: كشف الظنون (1/ 552) ، ومعجم المطبوعات (1511) . (3) انظر: كشف الظنون (1/ 69) . (4) المصدر السابق (1/ 166) .

4- الأنوار المضية فى شرح البردة «1» . 5- تحفة السامع والقارى بختم صحيح البخارى «2» . 6- رسالة فى الربع المجيب «3» . 7- الروض الزاهر فى مناقب الشيخ عبد القادر «4» . 8- زهر الرياض «5» . 9- العقود السنية فى شرح المقدمة الجزرية «6» : فى القراآت. 10- فتح الدانى فى شرح حرز الأمانى «7» : للشاطبى. زاد فيه زيادات ابن الجزرى مع فوائد غريبة لا توجد فى غيره. 11- فتح المواهبى فى مناقب الشاطبى «8» . 12- الكنز فى حمزة وهشام على الهمز «9» . 13- اللآلئ السنية «10» . 14- لطائف الإشارات لفنون القراآت «11» . 15- لوامع الأنوار فى الأوعية والأذكار «12» . 16- مدارك المرام فى مسالك الصيام «13» .

_ (1) المصدر السابق (1/ 1335) . (2) المصدر السابق (1/ 266) . (3) انظر: كشف الظنون (1/ 867) . (4) المصدر السابق (1/ 919) . (5) المصدر السابق (2/ 970) . (6) المصدر السابق (2/ 1799) . (7) المصدر السابق (1/ 647 و 2/ 1232) . (8) المصدر السابق (2/ 1225) . (9) المصدر السابق (2/ 1519) . (10) انظر: كشف الظنون (2/ 1534) . (11) المصدر السابق (2/ 1551) . (12) المصدر السابق (2/ 1562) . (13) المصدر السابق (2/ 1641) .

كلمة عن كتاب المواهب اللدنية

17- مراصد الصلات فى مقاصد الصلاة «1» . 18- مسالك الخفا إلى مشارع الصلاة على النبى المصطفى «2» . 19- مشارق الأنوار المضية فى شرح الكواكب الدرية «3» . 20- منهاج الابتهاج فى شرح الجامع الصحيح لمسلم بن الحجاج «4» : وهو إلى نحو نصفه فى ثمان مجلدات. 21- منهاج الهداية «5» . 22- المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: فى السيرة النبوية «6» . 23- نزهة الأبرار فى مناقب الشيخ أبى العباس أحمد الحرار «7» . 24- نفائس الأنفاس فى الصحبة واللباس «8» . 25- النور الساطع فى مختصر الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع «9» : للسخاوى. 26- يقظة ذوى الاعتبار فى موعظة أهل الاغترار «10» . كلمة عن كتاب المواهب اللدنية إن كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية جامع للسيرة النبوية المطهرة حسب تسلسلها الزمنى ابتداء من المولد وانتهاء بالوفاة، ويتضمن المغازى

_ (1) المصدر السابق (2/ 1652) . (2) المصدر السابق (2/ 1662) . (3) المصدر السابق (2/ 1335 و 1688) . (4) المصدر السابق (2/ 558) . (5) انظر: كشف الظنون (2/ 1847) . (6) المصدر السابق (2/ 1896) ، ومعجم المطبوعات (1512) . (7) المصدر السابق (2/ 1938) . (8) المصدر السابق (2/ 1965) . (9) المصدر السابق (2/ 1090) . (10) المصدر السابق (2/ 2050) .

والسرايا والبعوث والوفود والغزوات ثم الحديث عن صفات النبى- صلى الله عليه وسلم-. وخصائصه وجمال خلقه وخلقه ومواليه وأزواجه وسراريه وخدمه وركوبه وسلاحه وأصناف ثيابه ومعجزاته وغير ذلك. وقد قال ابن العماد الحنبلى عنه: «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» كتاب جليل المقدار عظيم الوقع كثير النفع ليس له نظير فى بابه» «1» . وقال صاحب كتاب كشف الظنون: «وقد شرح كتاب المواهب المولى العلامة خاتمة المحدثين محمد بن عبد الباقى بن يوسف الزرقانى المصرى المالكى المتوفى سنة (1122 هـ) ؛ شرحا حافلا فى أربع مجلدات جمع فيه أكثر الأحاديث المروية فى شمائل المصطفى وسيرته وصفاته الشريفة» «2» . وقال الزرقانى شارح الكتاب: «وله- أى القسطلانى- عدة مؤلفات أعظمها هذه المواهب اللدنية التى أشرقت من سطورها أنوار الأبهة والجلالة وقطرت من أديمها ألفاظ النبوة والرسالة أحسن فيها ترتيبا وضعا وأحكمها ترصيعا ووضعا وكساه الله فيها رداء القبول ففاقت على كثير مما سواها عند ذوى العقول» . وللشيخ أبى الضياء على بن على الشبراملسى سنة (1087 هـ) . حاشية على المواهب فى خمس مجلدات ضخام نقلها الأمينى فى خلاصة السير، وقد لخصه يوسف النبهانى فى كتاب سماه «الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية» . طبع فى بيروت سنة (1310 هـ) . وقد اعتمد مصنف كتاب المواهب اعتمادا كبيرا على كتاب الشفا للقاضى عياض. وقال الزرقانى شارحه: «لقد صدق المصنف- رحمه الله- فإنه فى هذا الكتاب اقتبس من أنوار الشفا وتعلق بأذياله فى غالب التقسيم والأبواب حتى أنه اقتفى أثره فى صدر الخطبة ... » .

_ (1) انظر: شذرات الذهب (8/ 122) . (2) انظر: كشف الظنون (2/ 1897) .

كما كان لكتاب فتح البارى للعسقلانى أثره أيضا وقد ذكر ذلك فى المقدمة فقال: «مستمدا من فتح البارى فيض فضله السارى» . وفى خاتمة الكتاب أيضا إشارة إلى ذلك قوله: «واستفتحت مغاليق المعانى بمغاشيح فتح البارى ... » . وقوله أيضا: «وقد انتهت كتابة النسخة المنقولة منها النسخة المباركة النافعة- إن شاء الله تعالى- فى خامس عشر شعبان المكرم سنة تسع وتسعين وثمانمائة وكان الابتداء فى المسودة المذكورة ثانى يوم قدومى من مكة المشرفة صحبة الحاج فى شهر محرم سنة ثمان وتسعين وثمانمائة» . فيكون على ذلك أنه قضى فى تأليفه مدة سنة وثمانية أشهر تقريبا.

صورة بداية الجزء الأول من المخطوط

صورة نهاية الجزء الأول من المخطوط

صورة الصفحة الأخيرة من الجزء الأول من المخطوط

صورة بداية الجزء الثانى من المخطوط

صورة الصفحة قبل الأخيرة من الجزء الثانى من المخطوط

صورة آخر المخطوط

المواهب اللّدنيّة بالمنح المحمّديّة تأليف الشيخ أحمد بن محمد القسطلانى المتوفى سنة 923 هـ

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله الذى أطلع فى سماء الأزل شمس أنوار معارف النبوة المحمدية، وأشرق من أفق أسرار الرسالة مظاهر تجلى الصفات الأحمدية، أحمده على أن وضع أساس نبوته على سوابق أزليته، ورفع دعائم رسالته على لواحق أبديته. وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، الفرد المنفرد فى فردانيته بالعظمة والجلال، الواحد المتوحد فى وحدانيته باستحقاق الكمال، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله أشرف نوع الإنسان، وإنسان عيون الأعيان، المستخلص من خالص خلاصة ولد عدنان، الممنوح ببدائع الآيات، المخصوص بعموم الرسالة وغرائب المعجزات، السر الجامع الفرقانى، والمخصص بمواهب القرب من النوع الإنسانى، مورد الحقائق الأزلية ومصدرها، وجامع جوامع مفرداتها ومنبرها، وخطيبها إذا حضر فى حظائر قدسها ومحضرها، بيت الله المعمور الذى اتخذه لنفسه، وجعله ناظما لحقائق أنسه، مدة مداد نقطة الأكوان، ومنبع ينابيع الحكم والعرفان، المفيض من بحر مدد الوفا، على القائل من أهل المعارف والاصطفا، حيث خاطب ذاته الأقدسية «1» ، بالمنح الأنفسية، فقال: فأنت رسول الله أعظم كائن ... وأنت لكل الخلق بالحق مرسل عليك مدار الخلق إذ أنت قطبه ... وأنت منار الحق تعلو وتعدل فؤادك بيت الله دار علومه ... وباب عليه منه للحق يدخل

_ (1) الأقدسية: نسبة إلى القدس والقدس، هو الطهر. أى: ذاته المطهرة.

ينابيع علم الله منه تفجرت ... ففى كل حى منه لله منهل منحت بفيض الفضل كل مفضل ... فكل له فضل به منك يفضل نظمت نثار الأنبياء فتاجهم ... لديك بأنواع الكمال مكلل فيا مدة الإمداد نقطة خطه ... ويا ذروة الإطلاق إذ يتسلل محال يحول القلب عنك وإننى ... وحقك لا أسلو ولا أتحول عليك صلاة الله منه تواصلت ... صلاة اتصال عنك لا تتنصل شخصت أبصار بصائر سكان سدرة المنتهى لجلال جماله، وحنت أرواح رؤساء الأنبياء إلى مشاهدة كماله، وتلفتت لفتات أنفس الملأ الأعلى إلى نفائس نفحاته، وتطاولت أعناق العقول إلى أعين لمحاته ولحظاته، فعرج به إلى المستوى الأقدس، وأطلعه على السر الأنفس، فى إحاطته الجامعة، وحضرات حظيرة قدسه الواسعة، فوقفت أشخاص الأنبياء فى حرم الحرمة، على أقدام الخدمة، وقامت أشباح الملائكة فى معراج الجلال، على أرجل الإجلال، وهامت أرواح العشاق فى مقامات الأشواق: كل إليك بكله مشتاق ... وعليه من رقبائه أحداق يهواك ما ناح الحمام بأيكة ... أو لاح برق فى الدجى «1» خفاق شوق إليه لا يزال يديره ... فجميعه لجميعه عشاق اشتاق القمر لمشاهدته فانشق، فشق مرائر الأشقياء المشاققين، وحن لمفارقته الجذع فتصدع فانصدعت قلوب الأغبياء المنافقين «2» . وبرقت من مشكاة بعثته بوارق طلائع الحقائق، وانقادت لدعوته العامة خاصة خلاصة الخلائق، ولم يزل يجاهد فى الله بصادق عزماته، وينظم أشتات الإسلام بعد افتراق جهاته، حتى كملت كمالات دينه وحججه البالغة، وتمت على سائر أمته الأمية نعمته السابغة، وخيّر فاختار الرفيق الأعلى، وآثر الآخرة على الأولى، فنقله الله قائما على قدم السلامة، إلى دار

_ (1) الدجى: سواد الليل مع غيم، حتى لا يرى فيه نجم ولا قمر. (2) ستأتى أدلة هذه المعجزات فى موضعها من الكتاب.

السلام وفردوس الكرامة، وبوأه أسنى مراقى التكريم فى دار المقامة، ومنحه أعلى مواهب الشرف فى اليوم المشهود، فهو الشاهد والمشهود «1» ، والمحمود بالمحامد التى يلهمها للحامد المحمود، ذو المنزلة العلية، والدرجة السنية، فى حظائر القدس الأقدسية، والمشاهد الأنفسية، واصل الله عليه فضائل الصلوات، وشرائف التسليم، ونوامى البركات، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، وصلاة وسلاما لا ينقطع عنهما أمد الأمد، ولا يحصرهما العدد أبد الأبد. وبعد: فهذه لطيفة من لطائف نفحات العواطف الرحمانية، ومنحة من منح مواهب العطايا الربانية، تنبىء عن نبذة من كمال شرف نبينا محمد- عليه أفضل الصلوات وأنمى التسليم وأسنى الصلات- وسبق نوبته فى الأزمان الأزلية، وثبوت رسالته فى الغايات الأحدية، والتبشير بأحمديته فى الأعصر الخالية، والتذكير بمحمديته فى الأمم الماضية، وإشراق بوارق لوامع أنوار آيات ولادته التى سار ضوء فجرها فى سائر بريته، ودار بدر فجرها فى أقطار ملته، وعواطف لطائف رضاعه وحضانته، وينابيع أسرار سر مسراه وبعثته وهجرته، وعوارف معارف عبوديته السارى عرف شذاها فى آفاق قلوب أهل ولايته، ونفائس أنفاس أحواله الزكية، ودقائق حقائق سيرته العلية، إلى حين نقلته لروضة قدسه الأحدية، وتشريفه بشرائف الآيات، وتكريمه بكرائم المعجزات، وترفيعه فى آى التنزيل برفعة ذكره، وعلو خطره، وتعظيم محاسن شمائله وخلائقه، وتخصيصه بعموم رسالته، ووجوب محبته واتباع طرائقه وسيادته الجامعة لجوامع السؤدد فى مشهد مشاهد المرسلين، وتفضيله بالشفاعة العظمى، العامة لعموم الأولين والآخرين، إلى غير ذلك من عجائب آياته ومنحه، وغرائب أعلام نبوته وحججه. أوردتها حججا قاهرة على الملحدين، وذكرى نافعة للموحدين، وتنبيها

_ (1) من معانى الشاهد والمشهود، معان غير ذلك.

لعزائم المهتدين، ولم أكن- والله- أهلا لذلك، ولم أر نفسى فيما هنالك، لصعوبة هذا المسلك، ومشقة السير فى طريق لم يكن لمثلى يسلك، وإنما هو نكتة سر قراءتى كتاب الشفا «1» بحضرة التخصيص والاصطفا، فى مكتب التأديب والتعليم فى مشهد مشاهد المؤانسة والتكريم، مستجليا فى مجالى تجليات الأنوار الأحمدية، محاسن صفات خلقته، وعظيم أخلاقه الزكية، ساريا بسر سيرته فى منهاج ملته إلى سماء هديه الأسنى، راتعا فى رياض روضة سنته النزيهة الحسنا، مستمدا من فتح البارى «2» ، فيض فضله السارى، فمنحنى صاحب هذه المنح من مصون حقائقه، وأبرز لى مما أكنّه من مكنون رقائقه، فانفتحت بالفتح المحمدى عين بصيرة الاستبصار وتنزه الناظر فى رياض ارتياض رقائق الأسرار، فاستجليت من أبكار مخدرات السنة النبوية من كل صورة معناها، واقتبست من تلألؤ مصباح مشكاة المعارف من كل بارقة أضواها، وانتشقت من كل عبقة صوفية شذاها، واجتنيت من أفنان لطائف تأويل آى الكتاب العزيز من كل ثمرة مشتهاها، ولا زلت فى جنات لطائف هذه المنح أغدو وأروح، فى غبوق وصبوح، حتى انهلت غمائم المعانى على أرض رياض المبانى، فأينعت أزهارها، وتكللت بنفائس جواهر العلوم أوراقها، وطابت لمجتنى رقائق الحقائق ثمارها، وتدفقت حياض بدائع ألفاظها، بزلال جوامع كلماتها، وخطب خطيب قلوب أبناء الهوى، على منبر الغرام الأقدس، يدعو لكمال محاسن الحبيب الأرأس، فترنحت بسلاف راح الارتياح نفائس الأرواح، وتمايلت بمطربات ألحان الحنين إلى جمال المحبوب كرائم الأشباح، وزمزم مزمزم الصفا، بحضرة خلاصة أولى الوفا، منشدا مرددا: حضر الحبيب وغاب عنه رقيبه ... حسبى نعيم زال عنه حسيبه داوى فؤادى الوصل من أدوائه «3» ... طوبى لقلبى والحبيب طبيبه

_ (1) هو: كتاب «الشفا فى حقوق المصطفى» للقاضى عياض. (2) يشير إلى كتاب «فتح البارى» للحافظ ابن حجر، وهو كتاب مشهور. (3) أدواء: جمع داء، بخلاف أدوية جمع دواء.

صدق المحب حبيبه فى حبه ... فحباه صدق الحب منه حبيبه لباه لب فؤاده فأجابه ... لما دعاه إلى الغرام وجيبه ولجامع الأهواء حيعل حبه ... ولحسنه خطب القلوب خطيبه فلما سمعت هذه المواهب آذان قلوب أولى الألباب، تلفتت عيون أعيانهم لتلخيص خلاصة جوهر هذا الخطاب، فى سفر يسفر عن وجه المنح النبوية منيع النقاب، فثنيت عنان القلم إلى تحصيل ماربهم، وتسطير مطالبهم، جانحا صوب الصواب، مودعا ما كان مستودعا لى فى غيابات الغيب فى هذا الكتاب، مستعينا فى ذلك بالقوى الوهاب، حتى أتاح الله لى ذلك، وتمم ما هنا لك، فأوضحت ما خفى من الدليل، ومهدت ما توعر من السبيل. وسميته: «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» ورتبته على عشرة مقاصد تسهيلا للسالك والقاصد: المقصد الأول: فى تشريف الله تعالى له- عليه السّلام- بسبق نبوته فى سابق أزليته، ونشره منشور رسالته فى مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته فى حظائر قدس كرامته، وطهارة نسبه وبراهين أعلام آيات حمله وولادته ورضاعه وحضانته، ودقائق حقائق بعثته وهجرته، ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه وسيرته، مرتبا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته. المقصد الثانى: فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال أخلاقه المنيفة، وأولاده الكرام الطاهرين وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأعمامه وإخوته من الرضاعة، وجداته وخدمه ومواليه وحرسه، وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع

والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام، ومؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه، وآلات حروبه، ودوابه، والوافدين إليه- صلى الله عليه وسلم- وفيه عشرة فصول. المقصد الثالث: فيما فضله الله سبحانه وتعالى به من كمال خلقته، وجمال صورته، وما كرمه به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية، وما تدعو ضرورة حياته إليه- صلى الله عليه وسلم-، وفيه ثلاثة فصول. المقصد الرابع: فى معجزاته الدالة على ثبوت نبوته وصدق رسالته وما اختص به من خصائص آياته وبدائع كراماته. وفيه فصلان. المقصد الخامس: فى تخصيصه- عليه السّلام- بخصائص المعراج والإسراء، وتعميمه بعموم لطائف التكريم فى حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى. المقصد السادس: فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره، ورفعة ذكره، وشهادته له تعالى بصدق نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته واتباع سنته، وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلا ومنّة إن أدركوه ليؤمنن به ولينصرنه، والتنويه به فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل، بأنه صاحب الرسالة والتبجيل. وفيه عشرة أنواع. المقصد السابع: فى وجوب محبته واتباع سنته، والاهتداء بهديه وطريقته، وفرض محبة

آله وأصحابه، وقرابته وعترته، وحكم الصلاة والتسليم عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه. وفيه ثلاثة فصول. المقصد الثامن: فى طبه- صلى الله عليه وسلم- لذوى الأمراض والعاهات، وتعبيره الرؤيا، وإنبائه بالأنباء المغيبات. وفيه ثلاثة فصول. المقصد التاسع: فى لطيفة من حقائق عباداته، ويشتمل على سبعة أنواع. المقصد العاشر: فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إليه، وزيارة قبره الشريف، ومسجده المنيف، وتفضيله فى الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم، والدرجات العليات، وتشريفه بخصائص الزلفى فى مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين، وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، وانفراده بالسؤدد فى مجمع مجامع الأولين والآخرين، وترقيه فى جنة عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه فى يوم المزيد أعلى معالى الحسنى وزيادة. وفيه ثلاثة فصول. والله تعالى جل جده وعز مجده أسأل بوجاهة وجهه الوجيه ونبيه النبيه أن يمدنى فى هذا الكتاب العزيز بمدد الإقبال والقبول، وينيلنى ومن كتبه أو قرأه أو سمعه والمسلمين من العواطف النبوية لطائف السؤل، ونهاية المأمول، وعلى الله قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

المقصد الأول

المقصد الأول * فى تشريف الله تعالى له- عليه السّلام- بسبق نبوته فى سابق أزليته، ونشره منشور رسالته فى مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته فى حظائر قدس كرامته. * وطهارة نسبه صلى الله عليه وسلم. * وبراهين أعلام آيات حمله وولادته. * ورضاعه وحضانته. * ودقائق حقائق بعثته. * وهجرته. * ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه. * وسيرته. مرتبا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته.

[تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم]

[تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم] اعلم يا ذا العقل السليم، والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم- وفقنى الله وإياك بالهداية إلى الصراط المستقيم- أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه، وتقدير رزقه، أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية «1» فى الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها، علوها وسفلها، على صورة حكمه، كما سبق فى سابق إرادته وعلمه، ثم أعلمه تعالى بنبوته، وبشره برسالته، هذا وآدم لم يكن إلا- كما قال، بين الروح والجسد «2» ، ثم انبجست منه- صلى الله عليه وسلم- عيون الأرواح، فظهر بالملأ الأعلى، وهو بالمنظر الأجلى، فكان لهم المورد الأحلى، فهو- صلى الله عليه وسلم- الجنس العالى على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس «3» . ولما انتهى الزمان باسم الباطن فى حقه- صلى الله عليه وسلم- إلى وجود جسمه، وارتباط الروح به، انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر، فظهر محمد صلى الله عليه وسلم- بكليته جسما وروحا، فهو- صلى الله عليه وسلم- وإن تأخرت طينته، فقد عرفت قيمته، فهو خزانة السر، وموضع نفوذ الأمر، فلا ينفذ أمر إلا منه، ولا ينقل خير إلا عنه: ألا بأبى من كان ملكا وسيدا ... وآدم بين الماء والطين واقف فذاك الرسول الأبطحى محمد ... له فى العلا مجد تليد وطارف أتى بزمان السعد فى آخر المدى ... وكان له فى كل عصر مواقف

_ (1) عبارة غامضة، تكلفها الخلف، ولم ترد عن السلف. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (3609) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 665) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) قلت كما تقدم، عبارات تكلفها الخلف، ولم ترد عن السلف.

أتى لانكسار الدهر بجبر صدعه ... فأثنت عليه ألسن وعوارف إذا رام أمرا لا يكون خلافه ... وليس لذاك الأمر فى الكون صارف «1» أخرج مسلم فى صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» «2» . ومن جملة ما كتب فى الذكر- وهو أم الكتاب- أن محمدا خاتم النبيين الأحزاب: 40. وعن العرباض بن سارية عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنى عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل فى طينته» «3» رواه أحمد والبيهقى، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وقوله: لمنجدل، يعنى: طريحا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه. وعن ميسرة الضبى «4» قال: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيّا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد» «5» هذا لفظ رواية الإمام أحمد. ورواه البخارى فى تاريخه وأبو نعيم فى الحلية وصححه الحاكم.

_ (1) قلت: الذى إذا أراد شيئا فلا يكون خلافه، هو الله عز وجل، أما غيره، فبالتبع لا بالأصل، ولولا أمر الله للشىء بذلك ما استطاع، وانظر إلى رغبته فى إسلام عمه أبى طالب، ولم يسلم، ويقول الله عز وجل له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ سورة القصص: 56، ولو كان الأمر كما قال الشاعر، لأسلم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ولا نقصد بهذا الكلام الانتقاص من شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولكن المقصد أن مشيئته- صلى الله عليه وسلم- تابعة لا أصلية، فالمشيئة الأصلية لله عز وجل، والتابعة لنبينا- صلى الله عليه وسلم- ولغيره، وكانت لنبينا- صلى الله عليه وسلم- منه الأكبر. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2653) فى القدر، باب: حجاج آدم وموسى- عليهما السلام-. (3) ضعيف: أخرجه أحمد فى المسند» (4/ 127 و 128) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6404) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 453 و 656) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 83) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2091) . (4) فى «المسند» (5/ 59) : ميسرة الفجر، وكذا فى «الإصابة» (6/ 239) لابن حجر، ولعل الضبى تصحيف، حديث لم أجد أحدا نسبه بهذه النسبة. (5) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 59) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 665) ، والطبرانى فى «الكبير» (20/ 353) .

وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين «1» . فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوى- نفع الله بعلومه- فى كتابه «المقاصد الحسنة» : لم نقف عليه بهذا اللفظ. انتهى. وقال الحافظ ابن رجب، فى اللطائف: وبعضهم يرويه: «متى كتبت» من الكتابة، انتهى. قلت: وكذا رويناه فى جزء من حديث أبى عمرو، إسماعيل بن نجيد، ولفظه: متى كتبت نبيّا؟ قال: «كتبت وآدم بين الروح والجسد» «2» . فتحمل هذه الرواية مع رواية العرباض بن سارية على وجوب نبوته وثبوتها، وظهورها فى الخارج، فإن الكتابة تستعمل فيما هو واجب. قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «3» . وكَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ «4» . وعن أبى هريرة أنهم قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوة قال: «وآدم بين الروح والجسد» «5» رواه الترمذى وقال: حديث حسن. وروينا فى جزء من أمالى أبى سهل القطان عن سهل بن صالح الهمدانى، قال: سألت أبا جعفر، محمد بن على، كيف صار محمد- صلى الله عليه وسلم- يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟ قال: إن الله تعالى لما أخذ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «6» . كان محمد- صلى الله عليه وسلم- أول من قال بلى، ولذلك صار يتقدم الأنبياء، وهو آخر من بعث.

_ (1) ليس له أصل، وانظر «كشف الخفاء» للعجلونى (2007 و 2017) . (2) تقدم من حديث أبى هريرة، وميسرة الفجر- رضى الله عنهما-. (3) سورة البقرة: 183. (4) سورة المجادلة: 21. (5) صحيح: وقد تقدم قبل قليل. (6) سورة الأعراف: 172.

فإن قلت: إن النبوة وصف لابد أن يكون الموصوف به موجودا، وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضا، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله؟ أجاب العلامة الغزالى فى كتاب «النفخ والتسوية» عن هذا، وعن قوله: «كنت أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا» «1» : «بأن المراد ب «الخلق» هنا: التقدير دون الإيجاد، فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن موجودا مخلوقا، ولكن الغايات والكمالات سابقة فى التقدير لاحقة فى الوجود» . «قال: وهو معنى قولهم: «أول الفكرة آخر العمل، وآخر العمل أول الفكرة» وبيانه: أن المهندس المقدر للدار، أول ما يمثل فى نفسه صورة الدار، فتحصل فى تقديره دار كاملة، وآخر ما يوجد من أعماله هى الدار الكاملة، فالدار الكاملة هى أول الأشياء فى حقه تقديرا، وآخرها وجودا، لأن ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان، وتركيب الجذوع، وسيلة إلى غاية وكمال وهى الدار، فالغاية هى الدار ولأجلها تقوم الآلات والأعمال» . «ثم قال: وأما قوله- عليه السّلام-: (كنت نبيّا) فإشارة إلى ما ذكرناه، وأنه كان نبيّا فى التقدير قبل تمام خلقة آدم- عليه السّلام-، لأنه لم ينشأ خلق آدم إلا لينتزع من ذريته محمد- صلى الله عليه وسلم- ويستصفى تدريجا إلى أن يبلغ كمال الصفا» . «قال: ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن يعلم أن للدار وجودين: وجودا فى ذهن المهندس ودماغه، والوجود الثانى أنه ينظر إلى صورة الدار خارج الذهن فى الأعيان، والوجود الذهنى سبب الوجود الخارج للعين، فهو سابق لا محالة، وكذلك فاعلم أن الله تعالى يقدر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا، انتهى. وهو متعقب بقول الشيخ تقى الدين السبكى: «إنه قد جاء أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون الإشارة بقوله: (كنت نبيّا) إلى روحه

_ (1) ضعيف جدّا: أخرجه أبو نعيم فى «الدلائل» (ص 42) .

الشريفة، أو إلى حقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنما يعلمها خالقها ومن أمده الله بنور إلهى، ثم إن تلك الحقائق يؤتى الله كل حقيقة منها ما يشاء فى الوقت الذى يشاء، فحقيقة النبى- صلى الله عليه وسلم- قد تكون من حين خلق آدم آتاها الله ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وأفاضه عليها من ذلك الوقت، فصار نبيّا، وكتب اسمه على العرش، وأخبر عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده «1» . «فحقيقته موجودة من ذلك الوقت وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها، واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية حاصل من ذلك الوقت، وإنما يتأخر البعث والتبليغ، وكل ما له من جهة الله ومن جهة تأهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخر فيه. وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة، وإنما المتأخر تكونه وتنقله إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم-» . «وقد علم من هذا: أن من فسره بعلم الله بأنه سيصير نبيّا لم يصل إلى هذا المعنى، لأن علم الله تعالى محيط بجميع الأشياء. ووصف النبى- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة فى ذلك الوقت ينبغى أن يفهم منه أنه أمر ثابت له فى ذلك الوقت. ولو كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير فى المستقبل لم يكن له خصوصية بأنه نبى وآدم بين الروح والجسد، لأن جميع الأنبياء يعلم الله تعالى نبوتهم فى ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية للنبى- صلى الله عليه وسلم- لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلاما لأمته ليعرفوا قدره عند الله تعالى» . وعن الشعبى «2» : قال رجل يا رسول الله، متى استنبئت؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد، حين أخذ منى الميثاق» «3» رواه ابن سعد، من رواية جابر الجعفى، فيما ذكره ابن رجب.

_ (1) لعله يشير إلى حديث شفاعة آدم حينما أذنب فذهب إلى ربه فاستشفع بمحمد- صلى الله عليه وسلم-، فسأله الله عز وجل، وما أعلمك به؟ فقال: وجدت اسمه مكتوب على عرشك، فعرفت أنه أحب الخلق إليك ... إلى آخره، فهو ضعيف جدّا، ولا حجة فيه، وسيأتى بعد قليل. (2) هو: عامر بن شراحيل الشعبى، من أئمة التابعين، وعلى ذلك فحديثه مرسل. (3) مرسل: أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (7/ 42) .

فهذا يدل على أنه من حين صور آدم طينا استخرج منه محمد- صلى الله عليه وسلم- ونبىء وأخذ منه الميثاق، ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى يخرج وقت خروجه الذى قدر الله خروجه فيه فهو أولهم خلقا. لا يقال: يلزم خلق آدم قبله، لأن آدم كان حينئذ مواتا لا روح فيه، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- كان حيّا حين استخرج ونبىء وأخذ منه الميثاق، فهو أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا. فإن قلت إن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه، كما دل عليه أكثر الأحاديث، والذى تقرر هنا: أنه استخرج ونبىء قبل نفخ الروح فى آدم- عليه السّلام-. أجاب بعضهم: بأنه- صلى الله عليه وسلم- خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح. فإن محمدا- صلى الله عليه وسلم- هو المقصود من خلق النوع الإنسانى، وهو عينه وخلاصته وواسطة عقده. والأحاديث السابقة صريحة فى ذلك، والله أعلم «1» . وروى عن على بن أبى طالب- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبيّا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد فى محمد- صلى الله عليه وسلم- لئن بعث، وهو حى، ليؤمنن به ولينصرنه، ويأخذ العهد بذلك على قومه. وهو مروى عن ابن عباس أيضا ذكرهما العماد بن كثير فى تفسيره «2» . وقيل: إن الله تعالى لما خلق نور نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- أمره أن ينظر إلى أنوار الأنبياء عليهم السلام، فغشيهم من نوره ما أنطقهم الله به فقالوا: يا ربنا، من غشينا نوره؟ فقال الله تعالى: هذا نور محمد بن عبد الله، إن آمنتم به جعلتكم أنبياء، قالوا: آمنا به وبنبوته فقال الله تعالى: أشهد عليكم؟ قالوا: نعم. فذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ

_ (1) قلت: إلا أنه لا توجد أحاديث صحيحة على ما يقول، ولا حجة فيها. (2) قلت: انظر تفسير ابن كثير عند تفسيره لسورة آل عمران، الآية: 81.

وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ إلى قوله: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «1» «2» . قال الشيخ تقى الدين السبكى: «فى هذه الآية الشريفة من التنويه بالنبى صلى الله عليه وسلم- وتعظيم قدره العلى ما لا يخفى، وفيه مع ذلك: أنه على تقدير مجيئه فى زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون رسالته ونبوته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله: «وبعثت إلى الناس كافة» «3» لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضا. ويتبين بذلك معنى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» «4» . «ثم قال: فإذا عرف هذا فالنبى- صلى الله عليه وسلم- نبى الأنبياء، ولهذا ظهر فى الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفى الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم. ولو اتفق مجيئه فى زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى- صلوات الله وسلامه عليهم- وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته. وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم» . انتهى وسيأتى- إن شاء الله تعالى- مزيد لذلك فى المقصد السادس. وذكر العارف الربانى عبد الله بن أبى جمرة فى كتابه «بهجة النفوس» ، ومن قبله ابن سبع فى «شفاء الصدور» عن كعب الأحبار، قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدا، أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التى هى قلب الأرض وبهاؤها ونورها، قال: فهبط جبريل فى ملائكة الفردوس وملائكة الرقيع الأعلى، فقبض قبضة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من موضع قبره الشريف، وهى

_ (1) سورة آل عمران: 81. (2) قلت: وهل يستدل على مثل هذه الأمور بأخبار لا أسانيد لها. (3) صحيح: أخرجه البخارى (335) فى التيمم، باب: وقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، ومسلم (521) فى المساجد، باب: رقم (1) ، من حديث جابر رضى الله عنه-. (4) صحيح: وقد تقدم.

بيضاء منيرة، فعجنت بماء التسنيم فى معين أنهار الجنة، حتى صارت كالدرة البيضاء، لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة حول العرش والكرسى، وفى السماوات والأرض والجبال والبحار، فعرفت الملائكة وجميع الخلق سيدنا محمدا وفضله قبل أن تعرف آدم- عليهما السلام- «1» . وقيل: لما خاطب الله تعالى السماء والأرض بقوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «2» . أجاب موضع الكعبة الشريفة. ومن السماء ما يحاذيها. وقد قال ابن عباس: أصل طينة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من سرة الأرض بمكة. فقال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا درة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم-، ومن موضع الكعبة دحيت الأرض فصار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الأصل فى التكوين، والكائنات تبع له. وقيل: لذلك سمى أميّا لأن مكة أم القرى، ودرته أم الخليقة «3» . فإن قلت: تربة الشخص مدفنه، فكان مقتضى هذا أن يكون مدفنه عليه الصلاة والسلام- بمكة، حيث كانت تربته منها. فقد أجاب عنه صاحب عوارف المعارف- أفاض الله علينا من عوارفه، وتعطف علينا بعواطفه- بأنه قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحى، فوقعت جوهرة النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى ما يجاذى تربته بالمدينة، فكان- صلى الله عليه وسلم- مكيّا مدنيّا، حنينه إلى مكة وتربته بالمدينة انتهى «4» . وفى «المولد الشريف» لابن طغر بك «5» : ويروى أنه لما خلق الله تعالى

_ (1) قلت: راوى هذا الأثر، هو كعب الأحبار، وهو أكثر الرواية عن أهل الكتاب، ومن الواضح أن ذلك منها. (2) سورة فصلت: 11. (3) قلت: وهذا كلام لا دليل عليه، ولا حجة فيه. (4) قلت: وهذا على صحة المقولة السابقة، وهى لم تصح أصلا. (5) هو: عمر بن أيوب بن أرسلان سيف الدين، أبو جعفر، المعروف بابن طغر بك الدمشقى التركى، توفى سنة (670 هـ) ، وكتابه اسمه «الدر النظيم فى مولد النبى الكريم» .

آدم، ألهمه أن قال: يا رب، لم كنيتنى أبا محمد، قال الله تعالى: يا آدم ارفع رأسك، فرفع رأسه فرأى نور محمد- صلى الله عليه وسلم- فى سرادق العرش، فقال: يا رب، ما هذا النور؟ قال: هذا نور نبى من ذريتك اسمه فى السماء أحمد، وفى الأرض محمد، لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماء ولا أرضا. ويشهد لهذا، ما رواه الحاكم فى صحيحه أن آدم- عليه السّلام- رأى اسم محمد- صلى الله عليه وسلم- مكتوبا على العرش، وأن الله تعالى قال لآدم لولا محمد ما خلقتك «1» . ولله در القائل: وكان لدى الفردوس فى زمن الرضا ... وأثواب شمل الأنس محكمة السدى يشاهد فى عدن ضياء مشعشعا ... يزيد على الأنوار فى الضوء والهدى فقال إلهى ما الضياء الذى أرى ... جنود السما تعشو إليه ترددا فقال نبى خير من وطىء الثرى ... وأفضل من فى الخير راح أو اغتدى تخيرته من قبل خلقك سيدا ... وألبسته قبل النبيين سؤددا فإن قلت: إن مذهب الأشاعرة «2» : أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض، فكيف تكون خلقة محمد علة فى خلق آدم- صلى الله عليهما وسلم-؟ أجيب: بأن الظاهرة من الأدلة تعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح التى هى غايات ومنافع لأفعاله تعالى، لا بواعث على إقدامه، ولا علل مقتضية لفاعليته، لأن ذلك محال فى حقه تعالى، لما فيه من استكماله بغيره. والنصوص شاهدة بذلك، كقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «3» . أى: قرنت الخلق بالعبادة، أى خلقتهم وفرضت عليهم العبادة، فالتعليل لفظى لا حقيقى، لأن الله تعالى مستغن عن المنافع، فلا

_ (1) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (2/ 672) ، من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- بسند ضعيف جدّا. (2) هى: إحدى الفرق الإسلامية، التى تخالف عقيدة أهل السنة والجماعة، فى بعض الأمور، وإمامهم فى ذلك، أبو الحسن الأشعرى وإليه ينسبوا، توفى سنة (424 هـ) . (3) سورة الذاريات: 56.

يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره، لأن الله قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل. وروى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: قلت يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، أخبرنى عن أول شىء خلقه الله تعالى قبل الأشياء. قال: يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن فى ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء، ولا أرض ولا شمس ولا قمر، ولا جنى ولا أنسى، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثانى اللوح، ومن الثالث العرش. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثانى الكرسى، ومن الثالث باقى الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات، ومن الثانى الأرضين ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثانى نور قلوبهم- وهى المعرفة بالله- ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله «1» .. وقد اختلف: هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدى؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمدانى: الأصح أن العرش قبل القلم، لما ثبت فى الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» «2» ، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش. والتقدير وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة بن الصامت، مرفوعا: «أول ما خلق الله القلم قال له اكتب، قال: رب، وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شىء» «3» رواه أحمد، والترمذى وصححه.

_ (1) موضوع: والحديث ليس له وجود فى «مصنف عبد الرزاق» . (2) صحيح: وقد تقدم. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (2155) فى القدر، باب: ما جاء فى الرضا بالقضاء، و (3319) فى كتاب التفسير، باب: ومن سورة ن والقلم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2017) .

ورويا أيضا من حديث أبى رزين العقيلى «1» مرفوعا: «إن الماء خلق قبل العرش» «2» . وروى السدى «3» بأسانيد متعددة: «أن الله تعالى لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء» «4» فيجمع بينه وبين ما قبله، بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا النور النبوى المحمدى والماء والعرش، انتهى. وقيل: الأولية فى كل بالإضافة إلى جنسه، أى أول ما خلق الله من الأنوار نورى، وكذا فى باقيها. وفى أحكام ابن القطان، مما ذكره ابن مرزوق، عن على بن الحسين عن أبيه عن جده أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «كنت نورا بين يدى ربى قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام» «5» . وفى الخبر: لما خلق الله آدم جعل ذلك النور فى ظهره فكان يلمع فى جبينه، فيغلب على سائر نوره، ثم رفعه الله على سرير مملكته وحمله على أكتاف ملائكته وأمرهم فطافوا به فى السماوات ليرى عجائب ملكوته.

_ (1) هو: الصحابى الجليل، لقيط بن عامر بن صبرة بن المنتفق، وكان وافد قومه. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3109) فى التفسير، باب: ومن سورة هود، والترمذى (182) فى المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، وأحمد فى «مسنده» (4/ 11 و 12) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (3) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة، أبو محمد القرشى، وهو السدى الكبير، كان يقعد فى سدة باب الجامع فسمى السدى، عرف بالتفسير، وهو صدوق إلا أنه يهم، مات سنة (127 هـ) ، وهناك سدى آخر، وهو محمد بن مروان، ويعرف بالسدى الأصغر، صاحب السائب الكلبى، صاحب التفسير، إلا أنه متهم بالكذب. (4) قلت: لا يوجد حديث بهذا اللفظ، إلا أن معناه صحيح، حديث ورد فى «صحيح البخارى» من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كان الله ولم يكن شىء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض» ، الحديث (7418) فى التوحيد، باب: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، وقال الحافظ فى «الفتح» (6/ 289) : معناه: أنه خلق الماء سابقا، ثم خلق العرش على الماء، وقد وقع فى قصة نافع بن زيد الحميرى بلفظ: «كان عرشه على الماء ثم خلق القلم، فقال: اكتب ما هو كائن، ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن، فصرح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش» . (5) انظر «كشف الخفاء» للعجلونى (827 و 2007) .

قال جعفر بن محمد: مكثت الروح فى رأس آدم مائة عام، وفى صدره مائة عام وفى ساقيه وقدميه مائة عام، ثم علمه الله تعالى أسماء جميع المخلوقات، ثم أمر الملائكة بالسجود فسجدوا إلا إبليس، فطرده الله تعالى وخزاه. وكان السجود لآدم سجود تعظيم وتحية، لا سجود عبادة، كسجود أخوة يوسف له، فالمسجود له فى الحقيقة هو الله تعالى، وآدم كالقبلة. وروى عن جعفر الصادق أنه قال: كان أول من سجد لآدم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون. وعن أبى الحسن النقاش: أول من سجد إسرافيل، قال ولذا جوزى بتولية اللوح المحفوظ «1» . وعن ابن عباس: كان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر. ثم خلق الله تعالى له حواء زوجته من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو نائم، وسميت حواء لأنها خلقت من حى، فلما استيقظ ورآها سكن إليها، فقالت الملائكة مه يا آدم، قال: ولم وقد خلقها الله لى؟ فقالوا: حتى تؤدى مهرها، قال: وما مهرها؟ قالوا: تصلى على محمد- صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات «2» . وذكر ابن الجوزى فى كتابه «سلوة الأحزان» : أنه لما رام القرب منها طلبت منه المهر، فقال: يا رب، وماذا أعطيها، فقال: يا آدم صل على حبيبى محمد بن عبد الله عشرين مرة، ففعل «3» . ثم إن الله تعالى أباح لهما نعيم الجنة، ونهاهما عن شجرة الحنطة، وقيل: شجرة العنب، وقيل: شجرة التين «4» ، فحسدهما إبليس، فهو أول

_ (1) قلت: لم يرد فى ذلك خبر صحيح، والأولى الوقوف عما ذكر، وترك ما ترك. (2) لا أصل له. (3) لا أصل له. (4) لا يوجد دليل صحيح على تعيين لك الشجرة.

من حسد وتكبر، فأتى إلى باب الجنة فاحتال حتى دخل الجنة «1» ، وأتى إلى آدم وحواء، فوقف وناح نياحة أحزنتهما، فهو أول من ناح، فقالا: ما يبكيك؟ قال: عليكما، تموتان وتفقدان النعيم، ألا أدلكما على شجرة الخلد، فكلا منها، وحلف لهما أنه ناصح، فهو أول من حلف كاذبا، وأول من غش. فأكلت حواء منها، ثم زينت لآدم حتى أكل «2» ، وظنا أن أحدا لا يتجاسر أن يحلف بالله كاذبا، فقال الله تعالى: يا آدم، ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟! قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ظننت أن أحدا لا يحلف بك كاذبا، قال الله تعالى: وعزتى وجلالى، لأهبطنك إلى الأرض، لا تنال العيش إلا كدّا، فأهبط من الجنة. وعن ابن عباس: قال الله تعالى: يا آدم، ما حملك على ما صنعت؟ قال: زينته لى حواء، قال: فإنى أعقبها ألاتحمل إلا كرها، ولا تضع إلا كرها، ولأدمينها فى الشهر مرتين «3» . وقال وهب بن منبه «4» : لما أهبط آدم إلى الأرض مكث يبكى ثلاثمائة سنة لا يرقأ له دمع. وقال المسعودى «5» : لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حين أخرجه الله من الجنة.

_ (1) قلت: لا أعلم كيف احتال حتى دخل الجنة، والله قد حرمها عليه، وعلى من احتال. (2) قلت: ذكر الله أنهما أكلا منها بصيغة التثنية، وكذلك فوسوس لهما، بصيغة التثنية أى هما الفاعلان معا، والموسوس لهما الشيطان، وليست حواء، كما يزعم البعض. (3) لم أجده، ولا أظنه بحديث صحيح. (4) هو: وهب بن منبه، عالم أهل اليمن، ولد بصنعاء سنة (34 هـ) ، من خيار التابعين، ولذلك فحديثه مرسل. (5) لعله يقصد صاحب كتاب: «مروج الذهب» وغيره من التواريخ، أبو الحسن، على بن الحسين بن على من ذرية ابن مسعود، كان إخباريّا، مات سنة (345 هـ) .

وقال مجاهد «1» : بكى آدم مائة عام لا يرفع رأسه إلى السماء، وأنبت الله من دموعه العود الرطب والزنجبيل والصندل وأنواع الطيب، وبكت حواء حتى أنبت الله من دموعها القرنفل والأفاوى. يا بنى آدم، انظروا كيف بكى أبوكم آدم على فعلة واحدة ثلاثمائة سنة، فكيف بكم يا أرباب الكبائر العظيمة؟ فاعتبروا يا أولى الأبصار، كان كلما رأى الملائكة تصعد وتهبط ازداد شوقا إلى الأوطان، وتذكر العهد والجيران، يا أصحاب الذنوب احذروا زلة يقول فيها الحبيب: هذا فراق بينى وبينك، فيا ذا العقل السليم، انظر كيف جلس أبوك آدم على سرير المملكة، فمد يده إلى لقمة نهى عنها فأخرج من الجنة، فاحذروا يا بنيه عواقب المعاصى فإنها من نزلت به نزلت به وحطته عن مرتبته. فإن قلت: هذه الفعلة التى أهبط بها آدم من الجنة، إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت صغيرة فلم جرى عليه ما جرى بسببها، من نزع اللباس والإخراج من الجنة وغير ذلك؟ أجاب الزمخشرى «2» : بأنها ما كانت إلا صغيرة، مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التى هى أجل الطاعات، وأعظم الأعمال، وإنما جرى عليه ما جرى تعظيما للخطيئة، وتفظيعا لشأنها وتهويلا، ليكون ذلك لطفا له ولذريته فى اجتناب الخطايا، واتقاء الماثم. يا هذا، انظر كم لله من لطف وحكمة فى إهباط آدم من الجنة إلى الأرض، لولا نزوله لما ظهر جهاد المجاهدين، واجتهاد العابدين المجتهدين، ولا صعدت زفرات أنفاس التائبين، ولا نزلت قطرات دموع المذنبين، يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب فإنى قريب، أجيب دعوة الداع، إن كان

_ (1) هو: مجاهد بن جبير، شيخ القراء والمفسرين، روى عن ابن عباس، وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه، مات وهو ساجد سنة (102 هـ) . (2) هو: كبير المعتزلة، أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد الزمخشرى النحوى، صاحب «الكشاف» و «المفضل» ، كان رأسا فى البلاغة والعربية والمعانى والبيان، كما كان داعيا إلى الاعتزال، مات سنة (538 هـ) .

حصل لك بالإخراج من الجنة كسر فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى، وإن كان فاتك فى السماء زجل المسبحين فقد تعوضت فى الأرض أنين المذنبين، أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيحهم، زجل المسبحين ربما يشوبه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار، «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم» «1» . سبحان من إذا لطف بعبده فى المحن قلبها منحا، وإذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده وكان عليه وبالا، لقن الله آدم حجته، وألقى عليه ما تقبل به توبته، وطرد إبليس اللعين بعد طول خدمته، فصار عمله هباء منثورا قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ «2» إذا وضع عدله على عبد لم يبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبد لم يبق له سيئة. انظر لما ظهرت فضائل آدم- عليه الصلاة والسلام- على الخلائق بالعلم، وكان العلم لا يكمل إلا بالعمل بمقتضاه، والجنة ليست دار عمل ومجاهدة، إنما هى دار نعيم ومشاهدة، قيل له: يا آدم اهبط إلى أرض الجهاد، وصابر جنود الهوى بالجد والاجتهاد، وكأنك بالعيش الماضى وقد عاد على أكمل من ذلك المعتاد. ولما أظهر إبليس- عليه اللعنة- الحسد، سعى فى الأذى، حتى كان سببا فى إخراج السيد آدم من الجنة، وما فهم الأبله أن آدم إذا خرج من الجنة كملت فضائله، ثم عاد إلى الجنة على أكمل من الحال الأول. قالوا: وفيه إشارة، كأنه تعالى يقول: لو غفرت فى الجنة لما تبين كرمى، بأنى أغفر لنفس واحدة، بل أخرجه إلى الدنيا، وآتى بألوف من العصاة حتى أغفر له ولهم ليتبين جودى وكرمى. وأيضا: علم الله تعالى أن

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2749) فى التوبة، باب: سقوط الذنوب بالاستغفار، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) سورة الحجر: 34، 35.

فى صلبه الأولاد، والجنة ليست دار توالد، وأيضا: ليخرج من ظهره فى الدنيا من لا نصيب له فى الجنة. يا هذا، الجنة إن شاء الله إقطاعنا. وقد وصل منشور الإقطاع مع جبريل عليه الصلاة والسلام- إلى نبينا- صلى الله عليه وسلم- وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «1» ، إنما يخرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة، نسأل الله التوفيق. وقد اختلف فى الجنة التى سكنها آدم. فقيل: هى جنة الخلد. وقيل غيرها، جعلها الله دار ابتلاء، لأن جنة الخلد إنما يدخل إليها يوم القيامة، ولأنها دار جزاء وثواب لا دار تكليف وأمر ونهى، ودار سلامة لا دار ابتلاء، وامتحان، ودار قرار لا دار انتقال. واحتج القائلون بأنها جنة الخلد، بأن الدخول العارض قد يقع قبل يوم القيامة، وقد دخلها نبينا- عليه الصلاة والسلام- ليلة الإسراء، وبأن ما ذكروه من أن الجنة لا يوجد فيها ما وجده آدم من الحزن والنصب فإنما هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، كما يدل عليه سياق الآيات كلها، فإن نفى ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها، والله أعلم، انتهى. وروى أنه لما خرج آدم من الجنة رأى مكتوبا على ساق العرش وعلى كل موضع فى الجنة اسم محمد- صلى الله عليه وسلم- مقرونا باسم الله تعالى، فقال يا رب هذا محمد من هو؟ فقال الله: هذا ولدك الذى لولاه ما خلقتك. فقال: يا رب بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد، فنودى: يا آدم، لو تشفعت إلينا بمحمد فى أهل السماوات والأرض لشفعناك «2» . وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لما اقترف آدم

_ (1) سورة البقرة: 25. (2) ضعيف: لا أصل له.

الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لى، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: لأنك يا رب لما خلقتنى بيدك، ونفخت فىّ من روحك، رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلىّ، وإذ سألتنى بحقه قد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك» «1» . رواه البيهقى فى دلائله من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال تفرد به عبد الرحمن ورواه الحاكم وصححه، وذكره الطبرانى وزاد فيه: وهو آخر الأنبياء من ذريتك. وفى حديث سلمان عند ابن عساكر قال: «هبط جبريل على النبى صلى الله عليه وسلم- فقال: إن ربك يقول: إن كنت اتخذت إبراهيم خليلا، فقد اتخذتك حبيبا، وما خلقت خلقا أكرم على منك، ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندى، ولو لاك ما خلقت الدنيا» «2» . ولله در سيدى على وفا «3» حيث قال فى قصيدته التى أولها: سكن الفؤاد فعش هنيئا يا جسد ... هذا النعيم هو المقيم إلى الأبد روح الوجود حياة من هو واجد ... لولاه ما تم الوجود لمن وجد عيسى وآدم والصدور جميعهم ... هم أعين هو نورها لما ورد لو أبصر الشيطان طلعة نوره ... فى وجه آدم كان أول من سجد أو لو رأى النمروذ نور جماله ... عبد الجليل مع الخليل ولا عند «4» لكن جمال الله جل فلا يرى ... إلا بتخصيص من الله الصمد

_ (1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 489) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 672) بسند ضعيف. (2) ضعيف: وانظر «تهذيب تاريخ دمشق» لابن عساكر (1/ 323) . (3) هو: على بن محمد بن محمد بن وفا، أبو الحسن القرشى الأنصارى الشاذلى، أحد المتصوفة، مات سنة (87 هـ) . (4) قلت: صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حينما قال: «فإن لو تفتح عمل الشيطان» صحيح: أخرجه مسلم (2664) فى القدر، وأراه قد عمل فعلته مع هذا القائل.

طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم

طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم ولما خلق الله تعالى حواء لتسكن إلى آدم ويسكن إليها، فحين صار لديها فاضت بركاته عليها، فولدت له فى تلك الأعوام الحسناء أربعين ولدا فى عشرين بطنا، ووضعت شيئا وحده، كرامة لمن أطلع الله تعالى بالنبوة سعده. ولما توفى آدم، كان شيث- عليه الصلاة والسلام- وصيّا على ولده، ثم أوصى شيث ولده بوصية آدم: ألايضع هذا النور إلا فى المطهرات من النساء، ولم تزل هذه الوصية جارية، تنقل من قرن إلى قرن، إلى أن أدى الله النور إلى عبد المطلب وولده عبد الله، وطهر الله سبحانه هذا النسب الشريف من سفاح الجاهلية، كما ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- فى الأحاديث المرضية. قال ابن عباس- فيما رواه البيهقى فى سننه- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما ولدنى من سفاح الجاهلية شيء، ما ولدنى إلا نكاح الإسلام» «1» . والسفاح- بكسر السين المهملة-: الزنا، والمراد به هاهنا: أن المرأة تسافح رجلا مدة، ثم يتزوجها بعد ذلك. وروى ابن سعد وابن عساكر عن هشام بن محمد بن السائب الكلبى، عن أبيه «2» . قال: كتبت للنبى- صلى الله عليه وسلم- خمسمائة أم، فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان فى أمر الجاهلية. وعن على بن أبى طالب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «خرجت من نكاح،

_ (1) حسن: أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (7/ 190) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3223) . (2) قلت: هو محمد بن السائب الكلبى، الكوفى، مفسر، إلا أنه متهم بالكذب، مطروح الحديث.

ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدنى أبى وأمى، لم يصبنى من نكاح أهل الجاهلية شىء» «1» . رواه الطبرانى فى الأوسط، وأبو نعيم وابن عساكر. وروى أبو نعيم، عن ابن عباس، مرفوعا: «لم يلتق أبواى قط على سفاح، لم يزل الله ينقلنى من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت فى خيرهما» «2» . وعنه فى قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «3» . قال: من نبى إلى نبى حتى أخرجتك نبيّا «4» . رواه البزار. وعنه أيضا فى الآية قال: ما زال النبى- صلى الله عليه وسلم- يتقلب فى أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه. رواه أبو نعيم. وعن جعفر بن محمد عن أبيه، فى قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «5» قال: لم يصبه شىء من ولادة الجاهلية، قال: وقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «خرجت من نكاح غير سفاح» «6» . وعن أنس قال: قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ- بفتح الفاء- وقال: أنا أنفسكم نسبا وطهرا وحسبا، ليس فى آبائى من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح «7» . رواه ابن مردويه.

_ (1) حسن: أخرجه العدنى، وابن عدى، والطبرانى فى «الأوسط» ، كما فى «صحيح الجامع» (3225) . (2) أخرجه بنحوه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 118) عن أنس، وأورده ابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 255) وقال: هذا حديث غريب جدّا من حديث مالك تفرد به ا. هـ. وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1320) : ضعيف جدّا. (3) سورة الشعراء: 219. (4) أخرجه أبو عمر العدنى فى مسنده والبزار وابن أبى حاتم والطبرانى وابن بردويه وأبو نعيم فى «دلائل النبوة» عن ابن عباس، كما فى «فتح القدير» (4/ 122) . (5) سورة التوبة: 128. (6) حسن: وقد تقدم قريبا. (7) أخرجه ابن مردويه، كما فى «فتح القدير» (2/ 420) .

وفى الدلائل لأبى نعيم، عن عائشة عنه- صلى الله عليه وسلم- عن جبريل قال: «قلبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أر رجلا أفضل من محمد، ولم أر بنى أب أفضل من بنى هاشم» «1» كذا أخرجه الطبرانى فى الأوسط. قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن. وفى البخارى عن أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-: «بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذى كنت منه» «2» . وفى مسلم عن واثلة بن الأسقع قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم» «3» . رواه الترمذى. وعن العباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله خلق الخلق، فجعلنى فى خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلنى فى خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلنى فى خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» «4» رواه الترمذى هكذا منفردا به وقال: حديث حسن. أى خيرهم روحا وذاتا، وخيرهم بيتا أى أصلا. وفى حديث رواه الطبرانى عن ابن عمر قال: «إن الله اختار خلقه فاختار منهم بنى آدم، ثم اختار بنى آدم فاختار منهم العرب، ثم اختارنى من العرب، فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحب العرب فبحبى أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضى أبغضهم» «5» .

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 217) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه موسى بن عبيدة الربذى، وهو ضعيف. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3557) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- تنام عينه ولا ينام قلبه. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2276) فى الفضائل، باب: فضل نسب النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (3605 و 3606) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-. (4) ضعيف: أخرجه الترمذى (3607) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (5) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (7/ 134) عن محمد بن على مرسلا، وعزاه-

ثم اعلم أنه- عليه الصلاة والسلام- لم يشركه فى ولادته من أبويه أخ ولا أخت، لانتهاء صفوتهما إليه، وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصّا بنسب جعله الله تعالى للنبوة غاية، ولتمام الشرف نهاية، وأنت إذا اختبرت حال نسبه، وعلمت طهارة مولده تيقنت أنه سلالة آباء كرام. فهو- صلى الله عليه وسلم- النبى العربى الأمى الأبطحى الحرمى الهاشمى القرشى، نخبة بنى هاشم، المختار المنتخب من خير بطون العرب وأعرقها فى النسب، وأشرفها فى الحسب، وأنضرها عودا، وأطولها عمودا، وأطيبها أرومة «1» ، وأعزها جرثومة «2» ، وأفصحها لسانا، وأوضحها بيانا، وأرجحها ميزانا، وأصحها إيمانا، وأعزها نفرا، وأكرمها معشرا، من قبل أبيه وأمه، ومن أكرم بلاد الله على الله وعلى عباده. * فهو محمد بن عبد الله، الذبيح. * ابن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، فى قول ابن إسحاق، وهو الصحيح، وقيل سمى به لأنه ولد وفى رأسه شيبة. وقيل: اسمه عامر، وهو قول ابن قتيبة، وتابعه عليه المجد الشيرازى «3» ، وكنيته أبو الحارث، بابن له أكبر ولده. قيل: وإنما قيل له عبد المطلب، لأن أباه هاشما قال لأخيه المطلب، وهو بمكة، حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك بيثرب، فمن ثم سمى عبد المطلب، وقيل: إن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه- وهو بهيئة بزة- فكان يسأل عنه فيقول: هو عبدى، حياء أن يقول: هو ابن أخى، فلما أدخله وأحسن من حاله، أظهر أنه ابن أخيه، فلذلك قيل له: عبد المطلب.

_ صاحب «الجمع الصغير» للحاكم عن ابن عمرو وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1534) : ضعيف. (1) الأرومة: الأصل. (2) جرثومة الشىء: أصله، أو هى التراب المجتمع فى أصول الشجر، والذى تسفيه الريح. (3) هو: الفيروز أبادى، صاحب «القاموس المحيط» ، محمد بن يعقوب بن محمد، أبو طاهر مجد الدين، توفى سنة (817 هـ) .

وهو أول من خضب بالسواد من العرب، وعاش مائة وأربعين سنة. * ابن هاشم، واسمه عمرو، وإنما قيل له هاشم لأنه كان يهشم الثريد لقومه فى الجدب. * ابن عبد مناف، واسمه المغيرة. * ابن قصى- بفتح الصاد- تصغير قصى، أى بعيد، لأنه بعد عن عشيرته فى بلاد قضاعة، حين احتملته أمه فاطمة، واسمه مجمع، قال الشاعر: أبوكم قصى كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر وقيل زيد، وقال الشافعى، كما حكاه عنه الحاكم أبو أحمد: يزيد. * ابن كلاب، وهو إما منقول من المصدر الذى فى معنى المكالبة، نحو: كالبت العدو مكالبة، وإما من الكلاب: جمع كلب، لأنهم يريدون الكثرة، كما تسموا بسباع. وسئل أعرابى: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء، نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء، نحو: مرزوق ورباح؟ فقال: إنما نسمى أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا. يريدون أن الأبناء عدة للأعداء، وسهام فى نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء. واسم كلاب: حكيم، وقيل: عروة. * ابن مرة. * ابن كعب، وهو أول من جمع يوم العروبة، وكانت تجتمع إليه قريش فى هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبى- صلى الله عليه وسلم- ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به، وينشد فى ذلك أبياتا منها: يا ليتنى شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغى الحق خذلانا * ابن لؤى تصغير اللّاى بوزن العصا، وهو الثور.

* ابن غالب. * ابن فهر، واسمه قريش، وإليه تنسب قريش، فما كان فوقه فكنانى لا قرشى على الصحيح. * ابن مالك. * ابن النضر، واسمه قيس. * ابن كنانة. * ابن خزيمة، تصغير خزمة. * ابن مدرة. * ابن إلياس، بكسر الهمزة فى قول ابن الأنبارى، وبفتحها فى قول قاسم بن ثابت، ضد الرجاء، واللام فيه للتعريف والهمزة للوصل، قال السهيلى: وهذا أصح. وهو أول من أهدى البدن إلى البيت الحرام، ويذكر أنه كان يسمع فى صلبه تلبية النبى- صلى الله عليه وسلم- بالحج؟! * ابن مضر، وهو أول من سن الحداء للإبل، وكان من أحسن الناس صوتا. * ابن نزار- بكسر النون- من النزر، وهو القليل، قيل لأنه لما ولد، ونظر أبوه إلى نور محمد- صلى الله عليه وسلم- بين عينيه فرح فرحا شديدا، وأطعم وقال: إن هذا كله نزر، أى قليل لحق هذا المولود، فسمى نزارا لذلك. * ابن معد. * ابن عدنان. قال ابن دحية «1» : أجمع العلماء- والإجماع حجة- على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنما انتسب إلى عدنان ولم يتجاوزه. انتهى.

_ (1) هو: مجد الدين، أبو الخطاب، عمر بن حسن بن على الكلبى، كان يذكر أنه من ولد دحية- رضى الله عنه-، كان له معرفة حسنة بالنحو واللغة، وله فراسة بالحديث، فقيها على مذهب مالك، تكلم فيه، توفى سنة (663 هـ) .

ولله در القائل: ونسبة عز هاشم من أصولها ... ومحتدها المرضى أكرم محتد سمت رتبة علياء أعظم بقدرها ... ولم تسم إلا بالنبى محمد ويرحم الله القائل: وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان وعن ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان، ثم يمسك ويقول: «كذب النسابون- مرتين أو ثلاثا-» «1» رواه فى مسند الفردوس. لكن قال السهيلى: الأصح فى هذا الحديث أنه من قول ابن مسعود. وقال غيره: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ «2» قال: كذب النسابون، يعنى أنهم يدعون علم الأنساب ونفى الله علمها عن العباد. وروى عن عمر أنه قال: إنما ينتسب إلى عدنان وما فوق ذلك لا ندرى ما هو. وعن ابن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وعن عروة بن الزبير: ما وجدنا أحدا يعرف بعد معد بن عدنان. وسئل مالك- رحمه الله- عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك، وقال من أخبره بذلك؟ وكذا روى عنه فى رفع نسب الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. فالذى ينبغى لنا: الإعراض عما فوق عدنان، لما فيه من التخليط والتغيير للألفاظ، وعواصة تلك الأسماء، مع قلة الفائدة.

_ (1) موضوع: أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» عن ابن عباس، كما فى «ضعيف الجامع» (4351) . (2) سورة إبراهيم: 9.

وقد ذكر الحافظ أبو سعد النيسايورى عن أبى بكر بن أبى مريم عن سعيد بن عمرو الأنصارى عن أبيه عن كعب الأحبار: أن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما صار إلى عبد المطلب وأدرك، نام يوما فى الحجر فانتبه مكحولا مدهونا، قد كسى حلة البهاء والجمال، فبقى متحيرا لا يدرى من فعل به ذلك، فأخذه أبوه بيده ثم انطلق به إلى كهنة قريش فأخبرهم بذلك، فقالوا له: اعلم أن إله السماوات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه قيلة فولدت له الحارث ثم ماتت، فزوجه بعدها هند بنت عمرو، وكان عبد المطلب يفوح منه رائحة المسك الإذفر، ونور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يضىء فى غرته، وكانت قريش إذا أصابها قحط تأخذ بيد عبد المطلب فتخرج به إلى جبل ثبير «1» فيتقربون به إلى الله تعالى، ويسألونه أن يسقيهم الغيث، فكان يغيثهم ويسقيهم ببركة نور محمد- صلى الله عليه وسلم- غيثا عظيما. ولما قدم أبرهة ملك اليمن- من قبل أصحمة النجاشى- لهدم بيت الله الحرام، وبلغ عبد المطلب ذلك، قال: يا معشر قريش، لا يصل إلى هدم البيت، لأن لهذا البيت ربّا يحميه ويحفظه. ثم جاء أبرهة فاستاق إبل قريش حتى طلع جبل ثبير، فاستدارت دائرة غرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جبينه كالهلال واشتد شعاعها على البيت الحرام مثل السراج، فلما نظر عبد المطلب إلى ذلك قال: يا معشر قريش: ارجعوا فقد كفيتم هذا الأمر، فو الله ما استدار هذا النور منى إلا أن يكون الظفر لنا، فرجعوا متفرقين. ثم إن أبرهة أرسل رجلا من قومه ليهزم الجيش، فلما دخل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيّا عليه، فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خر ساجدا لعبد المطلب، وقال: أشهد أنك سيد قريش حقّا. وروى: أنه لما حضر عبد المطلب عند أبرهة أمر سايس فيله الأبيض

_ (1) ثبير: اسم جبل بمنى.

العظيم الذى كان لا يسجد للملك أبرهة كما تسجد سائر الفيلة أن يحضره بين يديه، فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب، برك كما يبرك البعير، وخر ساجدا، وأنطق الله تعالى الفيل، فقال: السلام على النور الذى فى ظهرك يا عبد المطلب، كذا فى النطق المفهوم. ولما دخل جيش أبرهة ومعهم الفيل لهدم الكعبة الشريفة برك الفيل، فضربوه فى رأسه ضربا شديدا ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام. ثم أرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر فى منقاره وحجران فى رجليه كأمثال العدس، لا تصيب أحدا منهم إلا أهلكته، فخرجوا هاربين يتساقطون بكل طريق. وأصيب أبرهة فى جسده بداء، فتساقطت أنامله أنملة أنملة، وسال منه الصديد والقيح والدم، وما مات حتى انصدع قلبه. وإلى هذه القصة أشار سبحانه وتعالى بقوله لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ «1» السورة إلى آخرها. فإن قلت: لم قال الله تعالى له- عليه الصلاة والسلام-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ.. «2» مع أن هذه القصة كانت قبل البعث بزمان طويل؟ فالجواب أن المراد من الرؤية هنا: العلم والتذكرة، وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر، فكأن العلم الحاصل به ضرورى مساو فى القوة للرؤية. وقد كانت هذه القصة دالة على شرف سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- وتأسيسا لنبوته وإرهاصا لها، وإعزازا لقومه بما ظهر عليهم من الاعتناء حتى دانت لهم العرب، واعتقدت شرفهم وفضلهم على سائر الناس، بحماية الله عز وجل لهم، ودفعه عنهم مكر أبرهة، الذى لم يكن لسائر العرب بقتاله قدرة، وكان ذلك كله إرهاصا لنبوته- عليه الصلاة والسلام-.

_ (1) سورة الفيل: 1- 5. (2) سورة الفيل: 1.

قال الرازى «1» : ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيسا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله- عليه الصلاة والسلام-، يعنى قبل بعثته. وخالفه العلامة السيد «2» فى شرح المواقف- تبعا لغيره- فاشترط فى المعجز ألايتقدم على الدعوى، بل يكون مقارنا لها. كما سيأتى إن شاء الله فى المقصد الرابع. فإن قلت: إن الحجاج «3» خرب الكعبة ولم يحدث شىء من ذلك!! فالجواب: أن ذلك إرهاصا لأمر نبينا- صلى الله عليه وسلم-، والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه، فلما ظهر- عليه الصلاة والسلام-، وتأكدت نبوته بالدلائل القطعية فلا حاجة إلى شىء من ذلك، والله أعلم. ولما فرج الله عن عبد المطلب، ورجع أبرهة خائبا، فبينما هو يوما نائم فى الحجر، إذ رأى مناما عظيما، فانتبه فزعا مرعوبا، وأتى كهنة قريش، وقص عليهم رؤياه، فقالت له الكهنة: إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات والأرض وليكونن فى الناس علما مبينا. فتزوج فاطمة. وحملت فى ذلك الوقت بعبد الله الذبيح، وقصته فى ذبحه مشهورة مخرجة عند الرواة مسطورة «4» . وكان سببها حفر أبيه عبد المطلب زمزم، لأن الجرهمى عمرو بن الحارث لما أحدث قومه بحرم الله الحوادث، وقيض الله لهم من أخرجهم من مكة، فعمد عمرو بن الحارث إلى نفائس فجعلها فى زمزم وبالغ فى طمها، وفر

_ (1) هو: الإمام كبير المتكلمين، فخر الدين، محمد بن عمر بن الحسين القرشى البكرى الطبرستانى الأصولى المفسر، فى تواليفه بلايا وعظائم وانحرافات عن السنة، إلا أنه توفى على طريقة حميدة، مات بهراة، سنة (606 هـ) . (2) هو: أبو الحسن، على بن محمد بن على بن السيد الزين، الحسينى، المعروف بالجرجانى، ويعرف بالسيد الشريف، من علماء اللغة العربية، توفى بشيراز سنة (816 هـ) . (3) هو: حجاج بن يوسف الثقفى، أمير العراق، الوالى الظالم الغشوم، توفى سنة (95 هـ) . (4) انظر ما فى «البداية والنهاية» (1/ 147) .

إلى اليمن بقومه، فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة إلى أن رفعت عنها الحجب برؤيا منام رآها عبد المطلب، دلته على حفرها بأمارات عليها. فمنعته قريش من ذلك، ثم آذاه من السفهاء من آذاه، فاشتد بذلك بلواه، ومعه ولده الحارث ولم يكن له ولد سواه فنذر لئن جاءه عشرة بنين وصاروا له أعوانا ليذبحن أحدهم لله قربانا. ثم احتفر عبد المطلب زمزم فكانت له فخرا وعزّا. فلما تكامل بنوه عشرة وهم: الحارث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد الله، وقر الله عينه بهم، نام ليلة عند الكعبة المطهرة فرأى فى المنام قائلا يقول: يا عبد المطلب: أوف بنذرك لرب هذا البيت، فاستيقظ فزعا مرعوبا، وأمر بذبح كبش وأطعمه للفقراء والمساكين. ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فاستيقظ من نومه وقرب ثورا، ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فانتبه وقرب جملا، وأطعمه للمساكين، ثم نام: فنودى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فقال: ما أكبر من ذلك فقال: قرب أحد أولادك الذى نذرته. فاغتم غمّا شديدا، وجمع أولاده، وأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء، فقالوا: إنا نطيعك، فمن تذبح منا؟ فقال: ليأخذ كل واحد منكم قدحا- والقدح: سهم بغير نصل- ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوا به، ففعلوا، وأخذوا أقداحهم ودخلوا على هبل «1» . وكان فى جوف الكعبة، وكانوا يعظمونه، ويضربون بالقداح عنده، فيستقسمون بها، أى يرتضون بما يقسم لهم، ثم يضرب بها القيم الذى لها- قال: فدفع عبد المطلب إلى ذلك القيم القداح وقام يدعو الله تعالى، فخرج على عبد الله، وكان أحب ولده إليه. فقبض عبد المطلب على يد ولده عبد الله، وأخذ الشفرة ثم أقبل إلى إساف ونائلة- صنمين عند الكعبة ينحر ويذبح عندهما النسائك- فقام إليه

_ (1) اسم صنم من أصنامهم.

سادة قريش فقالوا: ما تريد أن تصنع؟ فقال: أوفى بنذرى، فقالوا: لا ندعك أن تذبحه حتى تعذر فيه إلى ربك، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه فيذبحه وتكون سنة. وقالوا له: انطلق إلى فلانة الكاهنة- قلت: قيل اسمها: قطبة، كما ذكره الحافظ عبد الغنى فى كتاب المبهمات، وذكر ابن إسحاق أن اسمها: سجاح- فلعلها أن تأمرك بأمر فيه فرج لك. فانطلقوا حتى أتوها بخيبر «1» ، فقص عليها عبد المطلب القصة، فقالت: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، فقالت: ارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم ثم قربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا فى الإبل ثم اضربوا أيضا، هكذا حتى يرضى ربكم. فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضى ربكم وتخلص صاحبكم. فرجع القوم إلى مكة، وقربوا عبد الله، وقربوا عشرة من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو، فخرجت القداح على ولده، ولم يزل يزيد عشرا عشرا حتى بلغت مائة فخرجت القداح على الإبل. فنحرت الإبل وتركت، لا يصد عنها إنسان ولا طائر ولا سبع. ولهذا روى- كما عند الزمخشرى فى الكشاف- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا ابن الذبيحين» «2» . وعند الحاكم فى المستدرك، عن معاوية بن أبى سفيان: كنا عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأتاه أعرابى، فقال: يا رسول الله، خلقت البلاد يابسة، والماء يابسا، هلك المال وضاع العيال، فعد علىّ مما أفاء الله عليك يابن الذبيحين.

_ (1) اسم حصن مشهور لليهود قرب المدينة. (2) لا يوجد بهذا اللفظ، إلا أنه عند الحاكم فى «مستدركه» (2/ 604) من حديث معاوية رضى الله عنه- أن أعرابيّا قام يشكو جدب أرضه يا رسول الله خلقت البلاد يابسة، والماء يابسا، هلك المال وضاع العيال، فعد على بما أفاد الله عليك يابن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ولم ينكر عليه. إلا أن إسناده واه.

قال: فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر عليه. الحديث «1» ، وتأتى تتمته قريبا إن شاء الله تعالى-. ويعنى بالذبيحين: عبد الله وإسماعيل بن إبراهيم. وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أن الذبيح إسحاق. فإن صح هذا، فالعرب تجعل العم أبا، قال الله تعالى إخبارا عن بنى يعقوب- عليه السّلام-: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ «2» . وفى حديث معاوية- الموعود بتتمته قريبا- قال معاوية: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم فأسهم بينهم فخرج السهم لعبد الله، فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بنى مخزوم، وقالوا أرض ربك، وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، فهو الذبيح الأول وإسماعيل الذبيح الثانى. قال ابن القيم: «ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل، أنه لا ريب أن الذبح كان بمكة، ولذلك جعل القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعى بين الصفا والمروة ورمى الجمرات تذكيرا بشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه» . ثم قال: «ولو كان الذبح بالشام- كما يزعم أهل الكتاب، ومن تلقى عنهم- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة» . «وأيضا فإن الله سمى الذبيح حليما، لأنه لا أحلم ممن سلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه: عليما» . «وأيضا: فإن الله أجرى العادة البشرية: أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم لما سأل ربه الولد، ووهبه له تعلقت شعبة من

_ (1) إسناده واه، وقد تقدم فيما قبله. (2) سورة البقرة: 133.

قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذ إبراهيم خليلا، والخلة منصب يقتضى توحيد المحبوب بالمحبة، وألايشارك فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنزعها من قلب الخليل، فأمر بذبح المحبوب، فلما قدم على ذبحه، كانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق فى الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هى فى العزم وتوطين النفس، وقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفدى الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا» . انتهى. وقد أنشد بعضهم فقال: إن الذبيح- هديت- إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل شرف به خص الإله نبينا ... وأبانه التفسير والتأويل وروى مما ذكره المعافى بن زكريا، أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا أسلم من علماء اليهود: أى ابنى إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين، إن اليهود ليعلمون أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون أباكم، للفضل الذى ذكره الله عنه، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم. انتهى. فانظر أيها الخليل ما فى هذه القصة من السر الجليل، وهو أن الله تعالى يرى عباده الجبر بعد الكسر، واللطف بعد الشدة، فإنه كان عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم لذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم الدين، وهذه سنة الله تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه بعد استضعافه وذله وانكساره وصبره، وتلقيه القضاء بالرضا فضلا منه، قال الله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ «1» ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «2» .

_ (1) سورة القصص: 5، 6. (2) سورة الجمعة: 4.

وقد استشكل بعض الناس: أن عبد المطلب نذر نحر أحد بنيه إذا بلغوا عشرة، وقد كان تزويجه بهالة أم ابنه حمزة بعد وفائه بنذره، فحمزة والعباس ولدا عبد المطلب إنما ولدا بعد الوفاء بنذره، وإنما كان أولاده عشرة بهما. قال السهيلى: ولا إشكال فى هذا، فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه عليه السلام اثنى عشر، فإن صح هذا، فلا إشكال فى الخبر، وإن صح قول من قال: كانوا عشرة لا يزيدون، فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقة لا مجازا، فكان عبد المطلب قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين وفى بنذره. ويقع فى بعض السير أن عبد الله كان أصغر بنى أبيه عبد المطلب. وهو غير معروف. ولعل الرواية أصغر بنى أمه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس أصغر من حمزة. وروى عن العباس أنه قال: أذكر مولد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجىء به حتى نظرت إليه، وجعل النسوة يقلن لى: قبّل أخاك، فقبلته. فكيف يصح أن يكون عبد الله هو الأصغر؟! ولكن رواه البكائى» ، ولروايته وجه: وهو أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم ولد بعد ذلك حمزة والعباس.

_ (1) هو: الشيخ الحافظ المحدث، أبو محمد، زياد بن عبد الله بن الطفيل العامرى، البكائى الكوفى، راوى السيرة النبوية عن ابن إسحاق، توفى سنة (183 هـ) .

[آيات حمله صلى الله عليه وسلم]

[آيات حمله صلى الله عليه وسلم] ولما انصرف عبد الله مع أبيه من نحر الإبل، مرّ على أمرأة من بنى أسد ابن عبد العزى، وهى عند الكعبة، واسمها قتيلة- بضم القاف وفتح المثناة الفوقية- ويقال رقية بنت نوفل، فقالت له حين نظرت إلى وجهه، وكان أحسن رجل رؤى فى قريش: لك مثل الإبل التى نحرت عنك وقع على الآن، لما رأت فى وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبى الكريم صلى الله عليه وسلم-، فقال لها: أنا مع أبى، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه «1» ، وقيل: أجابها بقوله: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذى تبغينه ... يحمى الكريم عرضه ودينه وعند أبى نعيم والخرائطى وابن عساكر، من طريق عطاء عن ابن عباس: لما خرج عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه، مر به على كاهنة من تبالة «2» متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة فى وجه عبد الله فقالت له ... وذكر نحوه. ثم خرج به عبد المطلب، حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة وهو يومئذ سيد بنى زهرة نسبا وشرفا- فزوجه ابنته آمنة، وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا. فزعموا: أنه دخل عليها حين ملكها مكانه، فوقع عليها يوم الاثنين أيام منى، فى شعب أبى طالب عند الجمرة، فحملت برسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ثم خرج من عندها فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا

_ (1) انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/ 164) . (2) تبالة: بفتح التاء وتخفيف الباء، اسم بلد باليمن معروف.

تعرضين على اليوم ما عرضت بالأمس، فقالت: فارقك النور الذى كان معك بالأمس، فليس لى بك اليوم حاجة، إنما أردت أن يكون النور فى فأبى الله، إلا أن يجعله حيث شاء. ولما حملت آمنه برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ظهر لحمله عجائب، ووجد لإيجاده غرائب. فذكروا أنه لما استقرت نطفته الزكية، ودرته المحمدية فى صدفة آمنة القرشية نودى فى الملكوت ومعالم الجبروت، أن عطروا جوامع القدس الأسنى، وبخروا جهات الشرف الأعلى، وافرشوا سجادات العبادات فى صفف الصفا لصوفية الملائكة المقربين، أهل الصدق والوفا، فقد انتقل النور المكنون إلى بطن آمنة ذات العقل الباهر، والفخر المصون، قد خصها الله تعالى القريب المجيب بهذا السيد المصطفى الحبيب، لأنها أفضل قومها حسبا وأنجب، وأزكاهم أصلا وفرعا وأطيب. وقال سهل بن عبد الله التسترى فيما رواه الخطيب البغدادى الحافظ: لما أراد الله تعالى خلق محمد- صلى الله عليه وسلم- فى بطن أمه آمنة، ليلة رجب، وكانت ليلة جمعة، أمر الله تعالى فى تلك الليلة رضوان خازن الجنان، أن يفتح الفردوس، وينادى مناد فى السماوات والأرض: ألا إن النور المخزون المكنون الذى يكون منه النبى الهادى، فى هذه الليلة يستقر فى بطن أمه الذى فيه يتم خلقه ويخرج إلى الناس بشيرا ونذيرا. وفى رواية كعب الأحبار: أنه نودى تلك الليلة فى السماء وصفاحها، والأرض وبقاعها، أن النور المكنون الذى منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستقر الليلة فى بطن آمنة، فيا طوبى لها ثم يا طوبى، وأصبحت يومئذ أصنام الدنيا منكوسة، وكانت قريش فى جدب شديد، وضيق عظيم، فاخضرت الأرض وحملت الأشجار، وأتاهم الرفد من كل جانب، فسميت تلك السنة التى حمل فيها برسول الله- صلى الله عليه وسلم- سنة الفتح والابتهاج. وطوبى: الطيب والحسنى والخير والخيرة. قاله فى القاموس. وقال

غيره: فرح وقرة عين. وقال الضحاك: عطية. وقال عكرمة: نعم. وفى الحديث: «طوبى للشام فإن الملائكة باسطة أجنحتها عليها» «1» فالمراد بها هنا: «فعلى» من الطيب وغيره مما ذكر، لا الجنة ولا الشجرة. وفى حديث ابن إسحاق: أن آمنة كانت تحدث: أنها أتيت حين حملت به- صلى الله عليه وسلم- فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، وقالت: ما شعرت بأنى حملت به، ولا وجدت له ثقلا، ولا وحما، كما تجد النساء إلا أنى أنكرت رفع حيضتى، وأتانى آت وأنا بين النائمة واليقظانة فقال: هل شعرت بأنك حملت بسيد الأنام، ثم أمهلنى حتى إذا دنت ولادتى أتانى فقال لى: قولى: أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد ثم سميه محمدا «2» . وفى رواية غير ابن إسحاق: وعلقى عليه هذه التميمة، قالت فانتبهت وعند رأسى صحيفة من ذهب مكتوب فيها هذه الأبيات: أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد وكل خلق رائد ... من قائم وقاعد عن السبيل حائد ... على الفساد جاهد من نافث أو عاقد ... وكل خلق مارد يأخذ بالمراصد ... فى طرق الموارد قال الحافظ عبد الرحيم العراقى. هكذا ذكر هذه الأبيات بعض أهل السير، وجعلها من حديث ابن عباس ولا أصل لها. انتهى. وعن شداد بن أوس أن رجلا من بنى عامر سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما حقيقة أمرك، قال: «بدو شأنى أنى دعوة أبى إبراهيم، وبشرى أخى عيسى،

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3954) فى المناقب، باب: فى فضل الشام واليمن، وأحمد فى «مسنده» (5/ 184) ، وابن حبان فى «صحيحه» (114 و 7304) ، من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3920) . (2) أخرجه ابن إسحاق فى «السيرة» (1/ 166) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 82) .

وأنى كنت بكر أبى وأمى، وأنها حملت بى كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشتكى إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إن أمى رأت فى منامها أن الذى فى بطنها نور» «1» . الحديث. ففيه: أن أمه- عليه السّلام- وجدت الثقل فى حمله، وفى سائر الأحاديث أنها لم تجد ثقلا؟! وجمع أبو نعيم الحافظ بينهما: بأن الثقل كان فى ابتداء علوقها به، والخفة عند استمرار الحمل به، فيكون على الحالين خارجا عن المعتاد المعروف، انتهى. وخرج أبو نعيم عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: كان من دلالة حمل آمنة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة، وقالت: حمل برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورب الكعبة، وهو إمام الدنيا وسراج أهلها، لم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا، وفرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضا، وله فى كل شهر من كل شهور حمله نداء فى الأرض ونداء فى السماء: أن أبشروا فقد آن أن يظهر أبو القاسم- صلى الله عليه وسلم- ميمونا مباركا.. الحديث. وهو شديد الضعف. وعن غيره: لم يبق فى تلك الليلة دار إلا أشرقت ولا مكان إلا دخله النور، ولا دابة إلا نطقت. وعن أبى زكريا يحيى بن عائذ «2» : بقى- صلى الله عليه وسلم- فى بطن أمه تسعة أشهر كملا، لا تشكو وجعا ولا مغصا ولا ريحا ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء، وكانت تقول: والله ما رأيت من حمل هو أخف منه ولا أعظم بركة منه.

_ (1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 127 و 128) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6404) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 453 و 656) ، من حديث العرباض بن سارية رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2091) . (2) هو: يحيى بن مالك بن عائذ، الإمام المجود، الحافظ المحقق، أبو زكريا الأندلسى، سمع من ابن عبد ربه صاحب «العقد الفريد» ، مات بالأندلس سنة (376 هـ) .

ولما تم لها من حملها شهران توفى عبد الله، وقيل: توفى وهو فى المهد، قاله الدولابى «1» . وعن ابن أبى خيثمة: وهو ابن شهرين. وقيل: وهو ابن سبعة. وقيل: وهو ابن ثمانية وعشرين شهرا. والراجح المشهور: الأول. وكان عبد الله قد رجع ضعيفا مع قريش لما رجعوا من تجارتهم، ومروا بالمدينة يثرب، فتخلف عند أخواله بنى عدى بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا، فلما قدم أصحابه مكة سألهم عبد المطلب عنه فقالوا: خلفناه مريضا، فبعث إليه أخاه الحارث فوجده قد توفى، ودفن فى دار التابعة، وقيل دفن بالأبواء. وقالت آمنة زوجته ترثيه: عفا جانب البطحاء من آل هاشم ... وجاور لحدا خارجا فى الغمائم دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت فى الناس مثل ابن هاشم عشية راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه فى التزاحم فإن تك غالته المنايا وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم ويذكر عن ابن عباس، أنه لما توفى عبد الله قالت الملائكة إلهنا وسيدنا، بقى نبيك يتيما، فقال الله تعالى: أنا له حافظ ونصير. وقيل لجعفر الصادق «2» : لم يتم النبى- صلى الله عليه وسلم- من أبويه؟ قال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق. نقله عنه أبو حيان فى البحر.

_ (1) هو: الإمام الحافظ البارع، أبو بشر، محمد بن حماد بن سعيد، الأنصارى الدولابى الرازى، ودولاب قرية من قرى الرّى، مات سنة (310 هـ) . (2) هو: جعفر بن محمد بن على، من نسل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، وأمه من أحفاد أبى بكر الصديق، كان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبى بكر ظاهرا وباطنا، وكان يقول: برئ الله ممن تبرأ من أبى بكر وعمر، مات سنة (148 هـ) .

آيات ولادته صلى الله عليه وسلم

آيات ولادته صلى الله عليه وسلم وروى أبو نعيم عن عمرو بن قتيبة قال: سمعت أبى- وكان من أوعية العلم- قال: لما حضرت ولادة آمنة قال الله تعالى لملائكته: افتحوا أبواب السماء كلها، وأبواب الجنان، وألبست الشمس يومئذ نورا عظيما، وكان قد أذن الله تعالى تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة لمحمد- صلى الله عليه وسلم-.. الحديث وهو مطعون فيه. وذكر أبو سعيد عبد الملك النيسابورى فى كتابه الكبير كما نقله عنه صاحب كتاب السعادة والبشرى عن كعب فى حديثه الطويل، ورواه أبو نعيم من حديث ابن عباس قال: كانت آمنة تحدث وتقول: أتانى آتانى أت حين مربى من حملى ستة أشهر فى المنام وقال لى يا آمنة إنك حملت بخير العالمين فإذا ولدتيه فسميه محمدا واكتمى شأنك قالت ثم لما أخذنى ما يأخذ النساء ولم يعلم بى أحد لا ذكر ولا أنثى، وإنى لوحيدة فى المنزل وعبد المطلب فى طوافه، فسمعت وجبة عظيمة وأمرا عظيما هالنى، ثم رأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادى فذهب عنى الرعب وكل وجع أجده، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء فتناولتها فأصابنى نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طولا كأنهن من بنات عبد مناف، يحدقن بى فبينا أنا أتعجب وأنا أقول واغوثاه من أين علمن بى. قال فى غير هذه الرواية فقلن لى نحن آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وهؤلاء من الحور العين واشتد بى الأمر وأنا أسمع الوجبة فى كل ساعة أعظم وأهول مما تقدم فبينا أنا كذلك إذا بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض، وإذا قائل يقول خذاه عن أعين الناس، قالت ورأيت رجالا قد وقفوا فى الهواء بأيديهم أباريق من فضة، ثم نظرت فإذا أنا بقطعة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتى، مناقيرها من الزمرد وأجنحتها من الياقوت فكشف الله عن بصرى فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاثة

أعلام مضروبات، علما بالمشرق وعلما بالمغرب وعلما على ظهر الكعبة فأخذنى المخاض فوضعت محمدا- صلى الله عليه وسلم- فنظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيبته عنى، فسمعت مناديا ينادى طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلمون أنه سمى فيها الماحى، لا يبقى شىء من الشرك إلا محى فى زمنه، ثم انجلت عنه فى أسرع وقت.. الحديث. وهو مما تكلم فيه. وروى الخطيب البغدادى بسنده كما ذكره صاحب السعادة والبشرى أيضا أن آمنة قالت لما وضعته- عليه السّلام- رأيت سحابة عظيمة لها نور أسمع فيها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة وكلام الرجال، حتى غشيته وغيب عنى فسمعت مناديا ينادى طوفوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- جميع الأرض وأعرضوه على كل روحانى من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش وأعطوه خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق، وفصاحة صالح، وحكمة لوط، وبشرى يعقوب، وشدة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، وصوت داود وحب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى وزهد عيسى، واغمسوه فى أخلاق النبيين قالت: ثم انجلت عنى فإذا به قد قبض على حريرة بيضاء خضراء مطوية طيّا شديدا ينبع من تلك الحريرة ماء وإذا قائل يقول بخ بخ قبض محمد- صلى الله عليه وسلم- على الدنيا كلها لم يبق خلق من أهلها إلا دخل طائعا فى قبضته، قالت ثم نظرت إليه فإذا به كالقمر ليلة البدر وريحه يسطع كالمسك الإذفر، وإذا بثلاثة نفر فى يد أحدهم إبريق من فضة، وفى يد الثانى طست من زمرد أخضر وفى يد الثالث حريرة بيضاء فنشرها فأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين دونه فغسله من ذلك الإبريق سبع مرات ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ولفه فى الحريرة ثم احتمله فأدخله بين أجنحته ساعة ثم رده إلى ورواه أبو نعيم عن ابن عباس وفيه نكارة.

وروى الحافظ أبو بكر بن عائذ فى كتابة المولد- كما نقله عنه الشيخ بدر الدين الزركشى فى شرح بردة المديح- عن ابن عباس: لما ولد- صلى الله عليه وسلم- قال فى أذنه رضوان خازن الجنان: أبشر يا محمد فما بقى لنبى علم إلا وقد أعطيته، فأنت أكثرهم علما، وأشجعهم قلبا. وروى محمد بن سعد من حديث جماعة منهم عطاء وابن عباس: أن آمنة بنت وهب قالت: لما فصل منى- تعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء «1» . وروى الطبرانى: أنه لما وقع إلى الأرض وقع مقبوضة أصابع يده مشيرا بالسبابة كالمسبح بها. وروى عن عثمان بن أبى العاصى عن أمه أم عثمان الثقفية- واسمها فاطمة بنت عبد الله- قالت: لما حضرت ولادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأيت البيت حين وقع قد امتلأ نورا، ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع على «2» . رواه البيهقى. وأخرج أحمد والبزار والطبرانى والحاكم والبيهقى عن العرباض بن سارية. أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنى عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل فى طينته، وسأخبركم عن ذلك، إنى دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمى التى رأت، وكذلك أمهات الأنبياء يرين، وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم- رأت حين وضعته نورا أضاء له قصور الشام» «3» قال الحافظ ابن حجر: صححه ابن حبان والحاكم. وأخرج أبو نعيم عن عطاء بن يسار عن أم سلمة عن آمنة: قالت: لقد رأيت ليلة وضعته نورا أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها. وأخرج أيضا،

_ (1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 101) . (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 111) باختلاف يسير. (3) ضعيف: وقد تقدم قريبا.

عن بريدة عن مرضعته فى بنى سعد أن آمنة قالت: رأيت كأنه خرج من فرجى شهاب أضاءت له الأرض حتى رأيت قصور الشام. وعن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله أن أم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: لما ولدته خرج من فرجى نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا ما به قذر «1» ، رواه ابن سعد وإلى هذا أشار العباس بن عبد المطلب فى شعره، حيث قال: وأنت لما ولدت أشرقت ال ... أرض وضاءت بنورك الأفق فنحن فى ذاك الضياء وفى النو ... ر وسبل الرشاد نخترق قال فى اللطائف: «وخروج هذا النور عند وضعه، وإشارة إلى ما يجىء به من النور الذى اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك. قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ «2» الآية، وأما إضاءة قصور بصرى بالنور الذى خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته، فإنها دار ملكه- كما ذكر كعب: أن فى الكتب السالفة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- مولده بمكة ومهاجره بيثرب وملكه بالشام- فمن مكة بدت نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام-، وإلى الشام انتهى ملكه، ولهذا أسرى به- صلى الله عليه وسلم- إلى الشام، إلى بيت المقدس، كما هاجر قبله إبراهيم- عليه السّلام- إلى الشام، وبها ينزل عيسى ابن مريم- عليه السّلام-، وهى أرض المحشر والمنشر. وخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم فى صحيحيهما عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «عليكم بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبى إليها خيرته من عباده» «3» ، انتهى ملخصا.

_ (1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 101) باختلاف يسير. (2) سورة المائدة: 15، 16. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (2483) فى الجهاد، باب: فى سكنى الشام، وأحمد فى «مسنده» (4/ 110، 5/ 33 و 288) وابن حبان فى «صحيحه» (7306) ، والحاكم فى «مستدركه» (4/ 555) ، من حديث عبد الله بن حوالة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

وأخرج أبو نعيم عن عبد الرحمن بن عوف عن أمه الشفاء قالت: لما ولدت آمنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقع على يدى فاستهل، فسمعت قائلا يقول: رحمك الله، قالت الشفاء: وأضاء لى ما بين المشرق والمغرب، حتى نظرت إلى بعض قصور الروم، قالت: ثم ألبنته وأضجعته، فسمعت قائلا يقول: أى ذهبت به؟ قال: إلى المشرق، قالت: فلم يزل الحديث منى على بال حتى بعثه الله فكنت فى أول الناس إسلاما. ومن عجائب ولادته- عليه السّلام- ما خرجه البيهقى وأبو نعيم عن حسان ابن ثابت قال: إنى لغلام ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت، إذا يهودى يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه، وأنا أسمع، قالوا: ويلك مالك؟ قال: طلع نجم أحمد الذى ولد به هذه الليلة «1» . وعن عائشة قالت: كان يهودى قد سكن مكة، فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: يا معشر قريش: هل ولد فيكم الليلة مولود، قالوا: لا نعلم، قال: انظروا، فإنه ولد فى هذه الليلة نبى هذه الأمة. بين كتفيه علامة. فانصرفوا فسألوا، فقيل لهم قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام، فذهب اليهودى معهم إلى أمه، فأخرجته لهم، فلما رأى اليهودى العلامة خر مغشيّا عليه، وقال: ذهبت النبوة من بنى إسرائيل، يا معشر قريش: أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب «2» . رواه يعقوب بن سفيان بإسناد حسن كما قاله فى فتح البارى. ومن عجائب ولادته أيضا: ما روى من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته، وغيض بحيرة طبرية، وخمود نار فارس. وكان لها ألف عام لم تخمد «3» ، كما رواه البيهقى وأبو نعيم والخرائطى فى «الهواتف» وابن عساكر.

_ (1) أخرجه ابن هشام فى «السيرة» (1/ 171) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 486) ، والبيهقى فى «الدلائل» (1/ 110) . (2) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (2/ 601- 602) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 108، 109) . (3) ذكره البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 18، 19، 49) .

وفى سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلى أنه يملك منهم ملوك وملكات بعدد الشرفات، وقد ملك منهم فى أربع سنين عشرة، ذكره ابن ظفر وزاد ابن سيد الناس: وملك الباقون إلى خلافة عثمان- رضى الله عنه-. ومن ذلك أيضا: ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب، وقطع رصد الشياطين، ومنعهم من استراق السمع. ولقد أحسن الشقراطيسى حيث قال: ضاءت لمولده الآفاق واتصلت ... بشرى الهواتف فى الإشراق والطفل وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقض منكسر الأرجاء ذا ميل ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل خرت لمبعثه الأوثان وانبعثت ... ثواقب الشهب ترمى الجن بالشعل وولد- صلى الله عليه وسلم- معذورا أى مختونا مسرورا- أى مقطوع السرة- كما روى من حديث أبى هريرة عند ابن عساكر. وروى الطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم والخطيب وابن عساكر من طرق، عن أنس: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «من كرامتى على ربى أنى ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتى» «1» وصحّحه الضياء فى المختارة. وعن ابن عمر قال: ولد النبى- صلى الله عليه وسلم- مسرورا مختونا. رواه ابن عساكر. قال الحاكم فى المستدرك: تواترت الأخبار أنه- عليه السّلام- ولد مختونا «2» . انتهى. وتعقبه الحافظ الذهبى فقال: ما أعلم صحة ذلك؟! فكيف يكون متواترا؟ وأجيب: باحتمال أن يكون أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها فى السير، لا من طريق السند المصطلح عليه عند أئمة الحديث.

_ (1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الأوسط، كما فى «ضعيف الجامع» (5310) . (2) قاله الحاكم فى «مستدركه» (2/ 601، 602) .

وقد حكى الحافظ زين الدين العراقى، أن الكمال بن العديم ضعف أحاديث كونه ولد مختونا، وقال: إنه لا يثبت فى هذا شىء من ذلك. وأقره عليه، وبه صرح ابن القيم ثم قال: ليس هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم-، فإن كثيرا من الناس ولد مختونا. وحكى الحافظ ابن حجر: أن العرب تزعم أن الغلام إذا ولد فى القمر فسخت قلفته- أى اتسعت- فيصير كالمختون «1» . وفى «الوشاح» لابن دريد: قال ابن الكلبى: بلغنى أن آدم خلق مختونا واثنى عشر نبيّا من بعده خلقوا مختونين آخرهم محمد- صلى الله عليه وسلم-: شيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وسليمان وشعيب ويحيى وهود وصالح- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. وفى هذه العبارة تجوز، لأن الختان هو القطع، وهو غير ظاهر، لأن الله تعالى يوجد ذلك على هذه الهيئة من غير قطع، فيحمل الكلام باعتبار أنه على صفة المقطوع. وقد حصل من الاختلاف فى ختانه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ولد مختونا كما تقدم. الثانى: أنه ختنه جده عبد المطلب يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدا. رواه الوليد بن مسلم «2» بسنده إلى ابن عباس وحكاه ابن عبد البر فى التمهيد «3» . والثالث: أنه ختن عند حليمة، كما ذكره ابن القيم والدمياطى ومغلطاى وقالوا: إن جبريل- عليه السّلام- ختنه حين طهر قلبه. وكذا أخرجه الطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم من حديث أبى بكرة. قال الذهبى: وهذا منكر. واعلم أن الختان: هو قطع القلفة التى تغطى الحشفة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التى فى أعلى الفرج من المرأة، ويسمى ختان الرجل:

_ (1) قاله فى «فتح البارى» (10/ 340) . (2) قلت: هو مدلس، وأكثر أخباره ضعيفة. (3) قلت: انظر «فتح البارى» (10/ 570) .

إعذارا- بالعين المهملة والذال المعجمة والراء- وختان المرأة خفاضا- بالخاء المعجمة والفاء والضاد المعجمة أيضا-. واختلف العلماء: هل هو واجب؟. * فذهب أكثرهم إلى أنه سنّة وليس بواجب، وهو قول مالك وأبى حنيفة وبعض أصحاب الشافعى. * وذهب الشافعى إلى وجوبه، وهو مقتضى قول سحنون من المالكية. * وذهب بعض أصحاب الشافعى إلى أنه واجب فى حق الرجال، سنة فى حق النساء. واحتج من قال إنه سنة، بحديث أبى المليح بن أسامة عن أبيه: أن النبى صلى الله عليه وسلم- قال: «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء» «1» رواه أحمد فى مسنده والبيهقى. وأجاب من أوجبه بأنه ليس المراد بالسنة هنا خلاف الواجب، بل المراد الطريقة، واحتجوا على وجوبه بقوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «2» ، وثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «اختتن إبراهيم النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم» «3» وبما روى أبو داود من قوله- صلى الله عليه وسلم- للرجل الذى أسلم: «ألق عنك شعر الكفر واختتن» «4» .

_ (1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (5/ 75) ، والبيهقى فى «الكبرى» (8/ 325) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2938) . (2) سورة النحل: 123. (3) صحيح: أخرجه البخارى (2356) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، ومسلم (2370) فى الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم-. (4) حسن: أخرجه أبو داود (356) فى الطهارة، باب: فى الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، وأحمد فى «مسنده» (3/ 415) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 659) ، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 172) ، (8/ 323) ، والطبرانى فى «الكبير» (22/ 395) ، من حديث عثيم ابن كليب عن أبيه عن جده- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1251) .

واحتج القفال لوجوبه: بأن بقاء القلفة يحبس النجاسة، ويمنع صحة الصلاة، فيجب إزالتها. وقال الفخر الرازى: «الحكمة من الختان، أن الحشفة قوية الحس، فما دامت مستورة تقوى اللذة عند المباشرة، فإذا قطعت القلفة تصلبت الحشفة فضعفت اللذة، وهو اللائق بشريعتنا تقليلا للذة لا قطعا لها، كما تفعل المانوية، فذلك إفراط وإبقاء القلفة تفريط، فالعدل الختان» . انتهى. وإذا قلنا بوجوب الختان، فمحل الوجوب بعد البلوغ على الصحيح من مذهبنا، لما روى البخارى فى صحيحه عن ابن عباس أنه سئل: مثل من أنت حين قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «وأنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك» «1» . وقال بعض أصحابنا: يجب على الوالى أن يختن الصبى قبل البلوغ، والله أعلم. وقد اختلف فى عام ولادته- صلى الله عليه وسلم-: فالأكثرون على أنه عام الفيل، وبه قال ابن عباس، ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه، وقال: كل قول يخالفه وهم. والمشهور: أنه ولد بعد الفيل بخمسين يوما، وإليه ذهب السهيلى فى جماعة. وقيل: بعده بخمسة وخمسين يوما، وحكاه الدمياطى فى آخرين وقيل: بشهر، وقيل بأربعين يوما. وقيل: بعد الفيل بعشر سنين وقيل: قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وقيل: غير ذلك. والمشهور أنه بعد الفيل، لأن قصة الفيل كانت توطئة لنبوته، وتقدمة لظهوره وبعثته، وإلا فأصحاب الفيل- كما قاله ابن القيم- كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك، لأنهم كانوا عباد أوثان، فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب نصرا لا صنع للبشر فيه، إرهاصا وتقدمة للنبى الذى خرج من مكة، وتعظيما للبلد الحرام.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6299) فى الاستئذان، باب: الختان بعد الكبر ونتف الإبط.

واختلف أيضا فى الشهر الذى ولد فيه. والمشهور: أنه ولد فى شهر ربيع الأول، وهو قول جمهور العلماء. ونقل ابن الجوزى الاتفاق عليه. وفيه نظر: فقد قيل فى صفر، وقيل فى ربيع الآخر. وقيل فى رجب، ولا يصح. وقيل: فى رمضان، وروى عن ابن عمر بإسناد لا يصح، وهو موافق لمن قال: إن أمه حملت به فى أيام التشريق. وأغرب من قال: ولد فى عاشوراء. وكذا اختلف أيضا فى أى يوم من الشهر: فقيل إنه غير معين، إنما ولد يوم الاثنين من ربيع الأول من غير تعيين، والجمهور على أنه يوم معين منه. فقيل: لليلتين خلتا منه. وقيل: لثمان خلت منه، قال الشيخ قطب الدين القسطلانى: وهو اختيار أكثر أهل الحديث، ونقل عن ابن عباس وجبير بن مطعم، وهو اختيار أكثر من له معرفة بهذا الشأن، واختاره الحميدى، وشيخه ابن حزم، وحكى القضاعى فى «عيون المعارف» إجماع أهل الزيج عليه، ورواه الزهرى عن محمد بن جبير بن مطعم، وكان عارفا بالنسب وأيام العرب، أخذ ذلك عن أبيه جبير. وقيل لعشر، وقيل لاثنى عشر، وعليه عمل أهل مكة فى زيارتهم موضع مولده فى هذا الوقت، وقيل لسبع عشرة وقيل لثمان عشرة، وقيل لثمان بقين منه. وقيل: إن هذين القولين غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية. والمشهور: أنه ولد [يوم الاثنين] ثانى عشر شهر ربيع الأول، وهو قول ابن إسحاق وغيره.

وإنما كان فى شهر ربيع على الصحيح ولم يكن فى المحرم، ولا فى رجب، ولا فى رمضان، ولا فى غيرها من الأشهر ذوات الشرف، لأنه عليه السّلام- لا يتشرف بالزمان، وإنما الزمان يتشرف به كالأماكن، فلو ولد فى شهر من الشهور المذكورة، لتوهم أنه تشرف بها، فجعل الله تعالى مولده صلى الله عليه وسلم- فى غيرها ليظهر عنايته به وكرامته عليه. وإذا كان يوم الجمعة الذى خلق فيه آدم- عليه السّلام- خص بساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه، فما بالك بالساعة التى ولد فيها سيد المرسلين. ولم يجعل الله تعالى في يوم الاثنين- يوم مولده- صلى الله عليه وسلم- من التكليف بالعبادات ما جعل فى يوم الجمعة- المخلوق فيه آدم- من الجمعة والخطبة وغير ذلك، إكراما لنبيه- صلى الله عليه وسلم- بالتخفيف عن أمته، بسبب عناية وجوده قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» ، ومن جملة ذلك: عدم التكليف. واختلف أيضا فى الوقت الذى ولد فيه. والمشهور أنه يوم الاثنين. فعن. أبى قتادة الأنصارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- سئل عن صيام يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، وأنزلت على فيه النبوة» «2» رواه مسلم، وهذا يدل على أنه- صلى الله عليه وسلم- ولد نهارا. وفى المسند، عن ابن عباس قال: ولد- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، واستنبىء يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين،. ورفع الحجر يوم الاثنين «3» . انتهى. وكذا فتح مكة ونزول سورة المائدة يوم الاثنين.

_ (1) سورة الأنبياء: 107. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1162) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. (3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 277) ، والطبرانى فى «الكبير» (11/ 85) مختصرا.

وقد روى أنه ولد [يوم الاثنين] عند طلوع الفجر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاصى قال: كان بمر الظهران راهب يسمى عيصى، من أهل الشام، وكان يقول: يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه، فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه، فلما كان صبيحة اليوم الذى ولد فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج عبد المطلب حتى أتى عيصى فناداه، فأشرف عليه، فقال له عيصى: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الذى كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين. قال: ولد لى الليلة مع الصبح مولود، قال: فما سميته؟ قال: محمدا، قال: والله لقد كنت أشتهى أن يكون هذا المولود فيكم أهل هذا البيت، بثلاث خصال تعرّفه: فقد أتى عليهن منها: أنه طلع نجمه البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد. رواه أبو جعفر بن أبى شيبة، وخرجه أبو نعيم فى الدلائل بسند فيه ضعف. وقيل: كان مولده- صلى الله عليه وسلم- عند طلوع الغفر، وهو ثلاثة أنجم صغار ينزلها القمر، وهو مولد النبيين، ووافق ذلك من الشهور الشمسية نيسان «1» ، وهو برج الحمل، وكان لعشرين مضت منه. وقيل ولد ليلا فعن عائشة قالت: كان بمكة يهودى يتجر فيها، فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا لا نعلم قال ولد الليلة نبى هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فخرجوا باليهودى حتى أدخلوه على أمه فقالوا: أخرجى لنا ابنك فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودى مغشيّا عليه فلما أفاق قالوا مالك ويلك قال: ذهبت والله النبوة من بنى إسرائيل» ، رواه الحاكم. قال الشيخ بدر الدين الزركشى: «والصحيح أن ولادته- صلى الله عليه وسلم- كانت

_ (1) وهو ما يعرف فى بعض الدول الآن بأبريل. (2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 601، 602) ، وقد تقدم.

نهارا، قال: وأما ما روى من تدلى النجوم فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلا. قال: وهذا لا يصلح أن يكون تعليلا، فإن زمان النبوة صالح للخوارق، ويجوز أن تسقط النجوم نهارا» انتهى. فإن قلت: إذا قلنا بأنه- عليه الصلاة والسلام- ولد ليلا، فأيما أفضل: ليلة القدر أو ليلة مولده- صلى الله عليه وسلم-؟ أجيب: بأن ليلة مولده أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة: أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره- صلى الله عليه وسلم-، وليلة القدر معطاة له، وما شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه، ولا نزاع فى ذلك، فكانت ليلة المولد- بهذا الاعتبار- أفضل. الثانى: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهوره- صلى الله عليه وسلم- فيها. ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر، على الأصح المرتضى، فتكون ليلة المولد أفضل. الثالث: أن ليلة القدر وقع التفضل فيها على أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-، وليلة المولد الشريف وقع التفضل فيها على سائر الموجودات، فهو الذى بعثه الله عز وجل- رحمة للعالمين، فعمت به النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعا، فكانت أفضل. فيا شهرا ما أشرفه وأوفر حرمة لياليه، كأنها لآلىء فى العقود ويا وجها ما أشرفه من مولود، فسبحان من جعل مولده للقلوب ربيعا وحسنه بديعا. يقول لنا لسان الحال منه ... وقول الحق يعذب للسميع فوجهى والزمان وشهر وضعى ... ربيع فى ربيع فى ربيع واختلف أيضا فى مدة الحمل به، فقيل: تسعة أشهر، وقيل ثمانية وقيل سبعة وقيل ستة. وولد- عليه السّلام- فى الدار التى كانت لمحمد بن يوسف أخى الحجاج ويقال بالشعب، ويقال بالردم ويقال بعسفان.

[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم]

[ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم] وأرضعته- صلى الله عليه وسلم- ثويبة، عتيقة أبى لهب، أعتقها حين بشرته بولادته عليه السّلام-. وقد رؤى أبو لهب بعد موته فى النوم فقيل له ما حالك؟ فقال: فى النار، إلا أنه خفف عنى كل ليلة اثنين، وأمص من بين أصبعى هاتين ماء، وأشار برأس أصبعيه وأن ذلك بإعتاقى لثويبة عندما بشرتنى بولادة النبى صلى الله عليه وسلم- وبإرضاعها له «1» . قال ابن الجزرى: فإذا كان هذا أبو لهب الكافر، الذى نزل القرآن بذمه جوزى فى النار بفرحه ليلة مولد النبى- صلى الله عليه وسلم- به، فما حال المسلم الموحد من أمته- عليه السّلام- الذى يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته فى محبته صلى الله عليه وسلم-، لعمرى إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم. ولا زال أهل السلام يحتفلون بشهر مولده- عليه السّلام-، ويعملون الولائم، ويتصدقون فى لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون فى المبرات. ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. ومما جرب من خواصه أنه أمان فى ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل

_ (1) جاء فى البخارى (9/ 124) فى النكاح، باب: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ قال عروة: وثويبة مولاة أبى لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبه (أى حالة) ، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم راحة غير أنى سقيت فى هذه (وأشار إلى النقرة التى بين الإبهام والمسبحة) بعتاقتى ثويبة.

البغية والمرام، فرحم الله امرآ اتخذ ليالى شهر مولده المبارك أعيادا، ليكون أشد علة على من فى قلبه مرض وأعيا داء «1» . ولقد أطنب ابن الحاج «2» فى «المدخل» فى الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف، فالله يثيبه على قصده الجليل، ويسلك بنا سبيل السنة، فإنه حسبنا ونعم الوكيل. وقد ذكروا أنه لما ولد- صلى الله عليه وسلم-، قيل: من يكفل هذه الدرة اليتيمة، التى لا يوجد لمثلها قيمة؟ قالت الطيور: نحن نكفله ونغنم خدمته العظيمة، قالت الوحوش: نحن أولى بذلك ننال شرفه وتعظيمه، فنادى لسان القدرة: أن يا جميع المخلوقات: إن الله تعالى قد كتب فى سابق حكمته القديمة أن نبيه الكريم يكون رضيعا لحليمة الحليمة. قالت حليمة: فيما رواه ابن إسحاق وابن راهواه وأبو يعلى والطبرانى والبيهقى وأبو نعيم: قدمت مكة فى نسوة من بنى سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء «3» فى سنة شهباء «4» ، فقدمت على أتان «5» لى ومعى صبى لنا وشارف لنا «6» ، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، لا يجد فى ثديى ما يغنيه، ولا فى شارفنا ما يغذيه. فقدمنا مكة، فو الله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله

_ (1) قلت: لو كان هذا خيرا كما يقول لسبقنا إليه خير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ومن اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين كانوا يسارعون فى الخيرات، ثم إن إثبات هذا الفعل يكون بدليل ولا يوجد، وعامة انظر ما كتبه ابن الحاج فى «المدخل» (2/ 3- 33) الذى أشار إليه المصنف بعد قليل. (2) هو: الإمام العالم العامل، أبو عبد الله، محمد بن محمد بن محمد العبدرى الفاسى المالكى الشهير بابن الحاج، فقيه، له تاليف نافعة من أجلها كتابه المعروف «بالمدخل» توفى بالقاهرة سنة (737 هـ) . (3) الرضعاء: جمع رضيع، وهو الطفل فى سن الرضاعة. (4) سنة شهباء: يعنى سنة القحط والجدب، لأن الأرض تكون فيها بيضاء. (5) الأتان: الأنثى من الحمير. (6) الشارف: الناقة المسنة.

- صلى الله عليه وسلم- فتأباه، إذا قيل لها يتيم «1» ، فو الله ما بقى من صواحبى امرأة إلا أخذت رضيعا غيرى، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجى: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ليس معى رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فذهبت فإذا به مدرج فى ثوب أبيض من اللبن، يفوح منه المسك، وتحته حريرة خضراء، راقدا على قفاه، يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدا فوضعت يدى على صدره فتبسم ضاحكا، وفتح عينيه لينظر إلىّ، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه، وأعطيته ثديى الأيمن، فأقبل عليه بما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر فأبى، وكانت تلك حاله بعد- قال أهل العلم: أعلمه الله تعالى أن له شريكا فألهمه العدل- قالت: فروى وروى أخوه. ثم أخذته، فما هو إلا أن جئت به رحلى، فأقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى [وشرب أخوه حتى روى] ، فقام صاحبى- تعنى زوجها- إلى شارفنا «2» تلك، فإذا إنها لحافل «3» ، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، وبتنا بخير ليلة، فقال صاحبى: يا حليمة، والله إنى لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم ترى ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه، فلم يزل الله يزيدنا خيرا. قال فى رواية ذكرها ابن طغر بك فى «النطق المفهوم» : فلما نظر صاحبى إلى هذا قال لى: اسكتى واكتمى أمرك، فمن ليلة ولد هذا الغلام أصبحت الأحبار قواما على أقدامها، لا يهنؤها عيش النهار ولا نوم الليل. قالت حليمة: فودعت النساء بعضهن بعضا وودعت أنا أم النبى صلى الله عليه وسلم-، ثم ركبت أتانى وأخذت محمدا بين يدى، قالت: فنظرت إلى الأتان وقد سجدت نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت حتى سبقت دواب الناس الذين كانوا معى، وصار الناس يتعجبون منى

_ (1) المقصد من قولها (يتيم) أنها لن تأخذ طبيبا ممن سوف يكفله ليتمه ووفاة والده. (2) تقدم أن الشارف هى الناقة المسنة. (3) الحافل: الممتلئة الضرع من اللبن، حيث إن الحفل، هو اجتماع اللبن فى الضرع.

ويقلن النساء لى وهن ورائى: يا بنت أبى ذؤيب أهذه أتانك التى كنت عليها وأنت جائية معنا تخفضك طورا وترفعك أخرى؟ فأقول: تالله إنها هى فيتعجبن منها ويقلن إن لها لشأنا عظيما. قالت: فكنت أسمع أتانى تنطق وتقول والله إن لى لشأنا ثم شأنا بعثنى الله بعد موتى ورد لى سمنى بعد هزالى، ويحكن يا نساء بنى سعد إنكن لفى غفلة وهل تدرين من على ظهرى، على ظهرى خيار النبيين وسيد المرسلين وخير الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين. قالت حليمة- فيما ذكره ابن إسحاق وغيره-: ثم قدمنا منازل بنى سعد، ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب- بالدال المهملة- منها، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها فى ضرع، حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعاتهم: اسرحوا حيث يسرح راعى غنم بنت أبى ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح أغنامى شباعا لبنا «1» . فلله درها من بركة كثرت بها مواشى حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت ولم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة وتفوز منه بالحسنى وزيادة. لقد بلغت بالها شمى حليمة ... مقاما علا فى ذروة العز والمجد وزادت مواشيها وأخصب ربعها ... وقد عم هذا السعد كل بنى سعد قال ابن الطراح رأيت فى كتاب الترقيص لأبى عبد الله محمد بن المعلى الأزدى أن من شعر حليمة ما كانت ترقص به النبى- صلى الله عليه وسلم-: يا رب إذ أعطيته فأبقه ... وأعله إلى العلا وأرقه وأدحض أباطيل العدا بحقه وعند غيره كانت الشيماء أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه وتقول: هذا أخ لم تلده أمى ... وليس من نسل أبى وعمى فديته من مخول معمى ... فأنمه اللهم فيما تنمى

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 133- 134) .

وأخرج البيهقى والصابونى «1» فى المائتين والخطيب وابن عساكر فى تاريخهما وابن طغربك السياف فى النطق المفهوم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله دعانى للدخول فى دينك أمارة لنبوتك رأيتك فى المهد تناغى القمر وتشير إليه بأصبعك فحيث أشرت إليه مال قال: «إنى كنت أحدثه ويحدثنى ويلهينى عن البكاء وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش» «2» قال البيهقى تفرد به أحمد بن إبراهيم الجيلى وهو مجهول وقال الصابونى: هذا حديث غريب الإسناد والمتن وهو فى المعجزات حسن. والمناغاة: المحادثة، وقد ناغت الأم صبيها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة. وفى فتح البارى عن سيرة الواقدى «3» : أنه- صلى الله عليه وسلم- تكلم فى أوائل ما ولد «4» . وذكر ابن سبع فى الخصائص: أن مهده كان يتحرك بتحريك الملائكة. وأخرج البيهقى وابن عساكر عن ابن عباس قال كانت حليمة تحدث أنها أول ما فطمت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تكلم فقال: «الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا» ، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فبجتنبهم «5» . الحديث. وقد روى ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر، عن ابن عباس قال: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانا بعيدا، فغافلت عنه، فخرج مع أخته الشيماء فى

_ (1) هو: الإمام العلامة، أبو عثمان، إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل النيسابورى الصابونى، كان من حفاظ الحديث، كما كان يحفظ التفسير من كتب كثيرة، توفى سنة (449 هـ) . (2) ذكره المتقى الهندى فى «كنز العمال» (31828) وعزاه لمن ذكرهم المصنف. (3) هو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمى، صاحب التصانيف والمغازى، كان ممن جمع فأوعى، إلا أنه خلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فضعف لذلك، إلا أنه مع هذا فلا يستغنى عنه فى المغازى وأيام الصحابة وأخبارهم، أما فى الفرائض فلا، مات سنة (207 هـ) . (4) قاله الحافظ ابن حجر فى «فتح البارى» (6/ 480) . (5) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 140) فى أثناء حديث طويل.

الظهيرة إلى البهم، فخرجت حليمة تطلبه، حتى تجده مع أخته فقالت: فى هذا الحر؟ قالت أخته: يا أمه ما وجد أخى حرّا، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع الحديث. وكان- صلى الله عليه وسلم- يشب شبابا لا يشبه الغلمان. قالت حليمة: فلما فصلته قدمنا به على أمه، ونحن أحرص شىء على مكثه فينا، لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا: لو تركتيه عندنا حتى يغلظ، فإنا نخشى عليه وباء مكة، ولم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به. فو الله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة، لفى بهم لنا خلف بيوتنا، جاء أخوه يشتد، فقال: ذاك أخى القرشى، قد جاء رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائما منتقعا لونه، فاعتنقه أبوه وقال: أى بنى، ما شأنك، فقال: جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى فشقا بطنى، ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه، ثم رداه كما كان. فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابنى قد أصيب، فانطلقى بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف، قالت حليمة فاحتملناه حتى قدمنا به مكة إلى أمه، فقالت: ما ردكما به فقد كنتما حريصين عليه؟ قلنا نخشى عليه الإتلاف والأحداث، فقالت: ما ذاك بكما، فأصدقانى شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، قالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما لشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لابنى هذا شأن عظيم فدعاه عنكما. وفى حديث شداد بن أوس عن رجل من بنى عامر، عند أبى يعلى وأبى نعيم وابن عساكر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كنت مسترضعا فى بنى سعد بن بكر، فبينا أنا ذات يوم فى بطن واد، مع أتراب لى من الصبيان، إذا أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب، ملىء ثلجا، فأخذونى من بين أصحابى، وانطلق الصبيان هرابا مسرعين إلى الحى، فعمد أحدهم فأضجعنى على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شق ما بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى وأنا

أنظر إليه، لم أجد لذلك مسّا، ثم أخرج أحشاء بطنى ثم غسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها، ثم قال الثانى فقال لصاحبه تنح، ثم أدخل يده فى جوفى فأخرج قلبى وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها ثم قال بيده يمنة ويسرة كأنه يتناول شيئا فإذا بخاتم فى يده من نور يحار الناظر دونه فختم به قلبى فامتلأ وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم فى قلبى دهرا، ثم قال الثالث لصاحبه تنح، فأمرّ يده بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدى فأنهضنى من مكانى إنهاضا لطيفا ثم قال للأول: زنه بعشرة من أمته فوزنونى بهم فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فرجحتهم ثم قال زنه بألف فرجحتهم فقال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضمونى إلى صدورهم وقبلوا رأسى وما بين عينى ثم قالوا: يا حبيب لم ترع إنك لو تدرى ما يراد بك من الخير لقرت عيناك» الحديث «1» . وفى رواية ابن عباس، عند البيهقى، قالت حليمة: إذا أنا بابنى ضمرة يعدو فزعا، وجبينه يرشح باكيا ينادى: يا أبت، يا أماه، ألحقا محمدا فما تلحقاه إلا ميتا. أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا، وعلا به ذروة الجبل، حتى شق صدره إلى عانته، وفيه: أنه- عليه السّلام- قال: «أتانى رهط ثلاثة، بيد أحدهم إبريق من فضة، وفى يد الثانى طست من زمردة خضراء» الحديث «2» . فإن قلت: هل غسل قلبه الشريف فى الطست خاص به، أو فعل بغيره من الأنبياء- عليهم السلام-؟ أجيب: بأنه ورد فى خبر التابوت والسكينة: أنه كان فيه الطست الذى غسلت فيه قلوب الأنبياء، ذكره الطبرى، وعزاه العماد ابن كثير فى تفسيره لرواية السدى عن أبى مالك عن ابن عباس. فإن قلت: ما الحكمة فى ختم قلبه المقدس؟

_ (1) ذكره المتقى الهندى فى «كنز العمال» (35559) وعزاه لمن ذكرهم المصنف، إلا أنه زاد قائلا: ومكحول لم يدرك شداد. (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 140- 141) ضمن حديث طويل.

أجيب: بأنه إشارة إلى ختم الرسالة به، وهذا مسلم، إن كان الختم خاصّا به، أما إذا ورد أنه ليس خاصّا به بل بكل نبى- وسيأتى إن شاء الله تعالى قريبا ما فى الخاتم الشريف من المباحث- فتكون الحكمة أنه علامة يمتاز بها عن غيره ممن ليس بنبى. والمراد بالوزن: فى قوله «زنه بعشرة إلخ» الوزن الاعتبارى، فيكون المراد الرجحان فى الفضل، وهو كذلك. وفائدة فعل الملكين، ذلك، ليعلم الرسول ذلك، حتى يخبر به غيره ويعتقده، إذ هو من الأمور الاعتقادية. وقد وقع شق صدره الشريف [واستخراج قلبه] مرة أخرى عند مجىء جبريل له بالوحى فى غار حراء. ومرة أخرى عند الإسراء به، وسيأتى كل فى موضعه- إن شاء الله تعالى-. وروى الشق أيضا، وهو ابن عشر أو نحوها، مع قصة له مع عبد المطلب، أبو نعيم فى الدلائل. وروى خامسة، ولا تثبت. والحكمة فى شق صدره الشريف فى حال صباه، واستخراج العلقة منه، تطهيره عن حالات الصبا حتى يتصف فى سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ- عليه السّلام- على أكمل الأحوال من العصمة. وقد روى أنه ختم بخاتم النبوة بين كتفيه، وكان ينم مسكا، وأنه مثل زر الحجلة «1» ، ذكره البخارى. وفى مسلم: جمع عليه خيلان، كأنها الثاليل السود عند نغض كتفه «2» ، ويروى: غضروف كتفه اليسرى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (190) فى الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس، ومسلم (2345) فى الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله، والترمذى (3643) فى المناقب، باب: ما جاء فى خاتم النبوة، من حديث السائب بن يزيد رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2346) فى الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة، وصفته، من حديث عبد الله بن سرجس- رضى الله عنه-.

وفى كتاب أبى نعيم: الأيمن. وفى مسلم أيضا: كبيضة الحمام «1» . وفى صحيح الحاكم: شعر مجتمع «2» . وفى البيهقى: مثل السلعة. وفى الشمائل: بضعة ناشزة. وفى حديث عمرو بن أخطب: كشىء يختم به. وفى تاريخ ابن عساكر: مثل البندقة. وفى الترمذى ودلائل البيهقى: كالتفاحة «3» . وفى الروض: كأثر المحجمة القابضة على اللحم. وفى تاريخ ابن أبى خيثمة: شامة خضراء محتفرة فى اللحم. وفيه أيضا: شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكمات كأنها عرف الفرس. وفى تاريخ القضاعى: ثلاث شعرات مجتمعات. وفى كتاب الترمذى الحكيم «4» : كبيضة حمام، مكتوب فى باطنها: الله وحده لا شريك له، وفى ظاهرها: توجه حيث كنت فإنك المنصور.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2344) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى الله عليه وسلم-، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (5/ 341) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6300) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 663) ، من حديث أبى زيد- رضى الله عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (3620) فى المناقب، باب: ما جاء فى بدء نبوة النبى صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 672) ، من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى. (4) هو: أبو عبد الله، محمد بن على بن الحسن بن بشر، الحكيم الترمذى، وهو غير الترمذى، صاحب السنن، كان ذا رحلة ومعرفة، وله مصنفات وفضائل، لولا هفوة بدت منه، مات سنة (285 هـ) على اختلاف فى ذلك.

وفى كتاب المولد لابن عائذ: كان نورا يتلألأ. وفى سيرة ابن أبى عاصم: عذرة كعذرة الحمام، قال أبو أيوب: يعنى قرطمة الحمامة. وفى تاريخ نيسابور: مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم: محمد رسول الله. وعن عائشة: كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة، وكان مما يلى الفقار قالت: فلمسته حين توفى فوجدته قد رفع. حكى هذا كله الحافظ مغلطاى لكن قال فى فتح البارى: ما ورد من أن الخاتم كان كأثر المحجم، أو كالشامة السوداء أو الخضراء، مكتوب عليها: محمد رسول الله، أو: سر فإنك المنصور. لم يثبت منها شىء «1» . قال: ولا يغتر بما وقع فى صحيح ابن حبان، فإنه غفل حيث صحح ذلك. وقال الهيثمى فى «موارد الظمان» بعد أن أورد الحديث ولفظه: مثل البندقة من اللحم مكتوب عليه: محمد رسول الله «2» . اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذى كان يختم به. وبخط الحافظ ابن حجر على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق بن إبراهيم قاضى سمرقند وهو ضعيف. وقوله: زر الحجلة- بالزاى والراء- والحجلة- بالحاء المهملة والجيم- قال النووى: هى واحدة الحجال، وهى بيت كالقبة، لها أزرار كبار وعرى، هذا هو الصواب. وقال بعضهم: المراد بالحجلة: الطائر المعروف. وزرها: بيضها، وأشار إليه الترمذى وأنكره عليه العلماء. وقوله: جمع- بضم الجيم وإسكان الميم- أى كجمع الكف، وصورته: أن تجمع الأصابع وتضمها.

_ (1) قاله الحافظ فى «الفتح» (6/ 563) . (2) ضعيف: والحديث عند ابن حبان فى «صحيحه» (6302) من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- بسند ضعيف.

وقوله: خيلان: - بكسر الخاء المعجمة وإسكان التحتية- جمع خال، وهو الشامة على الجسد. وقوله: نغض: - بالنون والغين والضاد، المعجمتين- قال النووى: النغض والنّغض والناغض: أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الذى على طرفه، وقيل: ما يظهر منه عند التحرك، سمى ناغضا لتحركه. وقوله: بضعة ناشزة- بالمعجمة والزاى- أى قطعة لحم مرتفعة على جسده. وبيضة الحمامة: معروفة. انتهى. والثاليل: - بالمثلاثة- جمع ثؤلول: وهو حب يعلو ظاهر الجسد، واحدته كالحمصة فما دونها. وفى القاموس: وقرطمتا الحمام- أى بكسر القاف- نقطتان على أصل منقاره. وقال بعض العلماء: اختلف أقوال الرواة فى خاتم النبوة، وليس ذلك باختلاف، بل كل شبه بما سنح له، وكلها ألفاظ مؤداها واحد، وهو: قطعة لحم، ومن قال: شعر فلأن الشعر حوله متراكم عليه، كما فى الرواية الآخرى. وقال القرطبى: الأحاديث الثابتة دالة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلل، قدر ببيضة الحمامة، وإذا كبر: جمع اليد. وقال القاضى عياض: وهذه الروايات متقاربة متفرقة، متفقة على أنه شاخص فى جسده، قدر بيضة الحمامة، وزر الحجلة. وأما رواية جمع الكف فظاهرها المخالفة، فتتأول على وفق الروايات الكثيرة، ويكون معناه: على هيئة جمع الكف، لكنه أصغر منه فى قدر بيضة الحمامة. قال: وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه. قال النووى: هذا الذى قال ضعيف، بل باطل، لأن شق الملكين إنما كان فى صدره وبطنه. انتهى.

ويشهد له قول أنس فى حديث عند مسلم- يأتى فى ذكر قلبه الشريف، من المقصد الثالث، إن شاء الله تعالى-: فلقد كنت أرى أثر المخيط فى صدره «1» . لكن أجيب: بأن فى حديث عتبة بن عبد السلمى «2» - عند أحمد والطبرانى- أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما للآخر: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فلما ثبت أن خاتم النبوة بين كتفيه حمل القاضى عياض ذلك على أن الشق لما وقع فى صدره، ثم خيط حتى التأم كما كان، ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر الختم. وفهم النووى وغيره منه: أن قوله بين كتفيه متعلق بالشق وليس كذلك، بل هو متعلق بأثر الختم، وحينئذ فليس ما قاله القاضى عياض بباطل، انتهى «3» . وقال السهيلى: والصحيح أنه- يعنى خاتم النبوة- كان عند نغض كتفه الأيسر. واختلف هل ولد به؟ أو وضع بعد ولادته؟ على قولين. وقد وقع التصريح بوقت وضع الخاتم، وكيف وضع، ومن وضعه، فى حديث أبى ذر عند البزار وغيره قال: قلت يا رسول الله: كيف علمت أنك نبى، وبم علمت أنك نبى حتى استيقنت؟ قال: «أتانى آتيان، وفى رواية ملكان، وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو، قال: فزنه برجل» الحديث «4» . وفيه: ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطنى فأخرج

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (161) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات. (2) هو: الصحابى الجليل، عتبة بن عبد، السّلمى، أبو الوليد، صاحب النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان اسمه عتلة، فسماه النبى- صلى الله عليه وسلم- عتبة، مات سنة (87 هـ) ، وحديثه فى المسند والطبرانى لم أقف عليه. (3) انظر «فتح البارى» (6/ 561) حيث إن الكلام منقول منه. (4) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 255- 256) وقال: رواه البزار، وفيه جعفر بن عبد الله عثمان بن كبير، وثقه أبو حاتم الرازى وابن حبان، وتكلم فيه العقيلى، وبقية رجاله رجال الصحيح.

قلبى فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطنى وجعل الخاتم بين كتفى كما هو الآن، ووليا عنى، وكأنى أرى الأمر معاينة «1» . وعند أبى نعيم فى الدلائل: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما ولد، ذكرت أمه أن الملك غمسه فى الماء الذى أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج سرقة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة، تضىء كالزهرة. وقيل: ولد به، فالله أعلم. وأخرج الحاكم فى المستدرك عن وهب بن منبه قال: لم يبعث الله نبيّا إلا وقد كان عليه شامات النبوة فى يده اليمنى، إلا أن يكون نبينا- صلى الله عليه وسلم- فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه» . وعلى هذا: فيكون وضع الخاتم بين كتفيه بإزاء قلبه مما اختص به عن سائر الأنبياء والله أعلم. ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- أربع سنين- وقيل خمسا، وقيل ستّا، وقيل سبعا، وقيل تسعا، وقيل اثنتى عشرة سنة وشهرا وعشرة أيام- ماتت أمه بالأبواء «3» وقيل بشعب أبى ذئب بالحجون «4» . وفى القاموس: ودار رائعة بمكة فيها مدفن آمنة أم النبى- صلى الله عليه وسلم-. وأخرج ابن سعد عن ابن عباس وعن الزهرى، وعن عاصم بن عمرو ابن قتادة دخل حديث بعضهم فى حديث بعض قالوا: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم- ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بنى عدى بن النجار بالمدينة،

_ (1) انظر ما قبله. (2) مرسل: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 631) عن وهب بن منبه مرسلا. (3) الأبواء: بفتح الهمزة وسكون الباء، جبل بين مكة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه. (4) الحجون: الجبل المشرف مما يلى شعب الجزارين بمكة، وقيل: هو موضع بمكة فيه اعوجاج، والمشهور الأول.

تزورهم، ومعه أم أيمن، فنزلت به دار التابعة. فأقامت به عندهم شهرا، فكان صلى الله عليه وسلم- يذكر أمورا كانت فى مقامه ذلك، ونظرا إلى الدار فقال: هاهنا نزلت بى أمى، وأحسنت العوم فى بئر بنى عدى بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إلى. قالت أم أيمن فسمعت أحدهم يقول: هو نبى هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت «1» . وروى أبو نعيم من طريق الزهرى عن أسماء بنت رهم عن أمها قالت: شهدت آمنة أم النبى- صلى الله عليه وسلم- فى علتها التى ماتت بها، ومحمد- عليه السّلام- غلام يفع له خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه ثم قالت: بارك الله فيك من غلام ... يابن الذى من حومة الحمام نجا بعون الملك المنعام ... فودى غداة الضرب بالسهام بمائة من إبل سوام ... إن صح ما أبصرت فى المنام فأنت مبعوث إلى الأنام ... من عند ذى الجلال والإكرام تبعث فى الحل وفى الحرام ... تبعث فى التحقيق والإسلام دين أبيك البر إبراهام ... فالله أنهاك عن الأصنام ألاتواليها مع الأقوام ثم قالت: كل حى ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى وأنا ميتة وذكرى باق، وقد تركت خيرا، وولدت طهرا، ثم ماتت. فكنا نسمع نوح الجن عليها فحفظنا من ذلك هذه الأبيات: نبكى الفتاة البرة الأمينة ... ذات الجمال العفة الرزينة زوجة عبد الله والقرينة ... أم نبى الله ذى السكينة وصاحب المنبر بالمدينة ... صارت لدى حفرتها رهينة وقد روى أن آمنة آمنت به- صلى الله عليه وسلم- بعد موتها.

_ (1) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (1/ 115) .

فروى الطبرى بسنده عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نزل الحجون كئيبا حزينا، فأقام به ما شاء الله عز وجل، ثم رجع مسرورا، قال: «سألت ربى فأحيا لى أمى، فامنت بى ثم ردها» «1» . ورواه أبو حفص بن شاهين فى كتاب: «الناسخ والمنسوخ» له، بلفظ، قالت عائشة: حج بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، فمر بى على عقبة الحجون، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم إنه نزل فقال: «يا حميراء استمسكى» فاستندت إلى جنب البعير، فمكثت مليّا، ثم عاد إلى وهو فرح متبسم فقال: «ذهبت لقبر أمى فسألت ربى أن يحييها، فأحياها فامنت بى» «2» . وكذا روى من حديث عائشة أيضا إحياء أبويه- صلى الله عليه وسلم- حتى آمنا به. أورده السهيلى، وكذا الخطيب فى السابق واللاحق. وقال السهيلى: إن فى إسناده مجاهيل. وقال ابن كثير: إنه حديث منكر جدّا، وسنده مجهول. وقال ابن دحية: هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع. انتهى. وقد جزم بعض العلماء: أن أبويه- صلى الله عليه وسلم- ناجيان، وليسا فى النار، متمسكا بهذا الحديث وغيره. وتعقبه عالم آخر: بأنه لم ير أحدا صرح بأن الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإن ادعى أحد الخصوصية فعليه الدليل. انتهى. وقد سبقه لذلك، أبو الخطاب بن دحية، وعبارته: من مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك، فكيف بعد الإعادة. انتهى. وتعقبه القرطبى فى «التذكرة» : بأن فضائله- صلى الله عليه وسلم- وخصائصه لم تزل

_ (1) قال الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» إنه منكر جدّا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى، ولكن ثبت فى الصحيح ما يعارضه. انظر «كشف الخفاء» (150) . (2) منكر: ذكره السيوطى فى «اللآلئ المصنوعة» (1/ 138) .

تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله به وأكرمه، قال: وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا ولا شرعا، فقد ورد فى الكتاب العزيز إحياء قتيل بنى إسرائيل، وإخباره بقاتله، وكان عيسى- عليه السّلام- يحيى الموتى، وكذلك نبينا- صلى الله عليه وسلم- أحيا الله على يده جماعة من الموتى، وإذا ثبت هذا فلا يمتنع إيمانهما بعد إحيائهما، ويكون ذلك زيادة فى كرامته وفضيلته. ثم قال: وقوله: من مات كافرا إلى آخر كلامه، مردود بما روى فى الخبر أن الله تعالى رد الشمس على نبيه- صلى الله عليه وسلم- بعد مغيبها. ذكره الطحاوى وقال: إنه حديث ثابت، فلو لم يكن رجوع الشمس نافعا، وأنه لا يتجدد به الوقت لما ردها عليه، فكذلك يكون إحياء أبوى النبى- صلى الله عليه وسلم- نافعا لإيمانهما وتصديقهما بالنبى- صلى الله عليه وسلم- انتهى «1» . وقد طعن بعضهم فى حديث رد الشمس. كما سيأتى- إن شاء الله- فى مقصد المعجزات. وقد تمسك القائل بنجاتهما أيضا بأنهما ماتا قبل البعثة، فى زمن الفترة، ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «2» قال: وقد أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا «3» . قال: وقال الإمام فخر الدين الرازى فى كتابه «أسرار التنزيل» ما نصه: «قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم، بل كان عمه، واحتجوا عليه بوجوه، منها: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارا، ويدل عليه وجوه منها: قوله تعالى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «4» قيل معناه: أنه كان ينتقل نوره من ساجد إلى ساجد، ففيه دلالة على أن جميع آباء محمد كانوا مسلمين» .

_ (1) قلت: هذا متوقف على صحة الأحاديث المثبتة لذلك، ولا مانع منها، إلا أنها لم تصح. (2) سورة الإسراء: 15. (3) قلت: بل يختبرون فى عرصات يوم القيامة، فمن أطاع فله الجنة، ومن عصى فله النار، ولكن لا يدخلون النار ابتداء، وسيأتى تفضيل المسألة بعد قليل. (4) سورة الشعراء: 218، 219.

ثم قال: ومما يدل على أن آباء محمد- صلى الله عليه وسلم- ما كانوا مشركين. قوله عليه السّلام-: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» «1» وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «2» فوجب ألايكون أحد من أجداده مشركا» . كذا قال. وهو متعقب: * بأنه لا دلالة فى قوله: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «3» . على ما ادعاه، فقد ذكر البيضاوى- فى تفسيره- وغيره، أن معنى الآية: وترددك فى تصفح أحوال المتهجدين، كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف- عليه السّلام- تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، حرصا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى. * وقد ورد النص بأن أبا إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- مات على الكفر، كما صرح به البيضاوى وغيره، قال تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «4» . وأما قوله إنه كان عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل. انتهى. ونقل الإمام أبو حيان فى «البحر» عند تفسير قوله: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «5» . أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبى- صلى الله عليه وسلم- كانوا مؤمنين، مستدلين بقوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «6» . وبقوله- عليه السّلام-: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين» الحديث «7» . انتهى. * وروى ابن جرير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه:

_ (1) تقدم. (2) سورة التوبة: 28. (3) سورة الشعراء: 219. (4) سورة التوبة: 114. (5) سورة الشعراء: 219. (6) سورة الشعراء: 219. (7) تقدم.

أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما قدم مكة أتى رسم قبر، فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت، قال: «إنى استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى فأذن لى، واستأذننه فى الاستغفار لها فلم يأذن لى» . فما رؤى باكيا أكثر من يومئذ «1» . * وروى ابن أبى حاتم فى تفسيره عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أومأ إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، فدعاه ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك، فقال: إن القبر الذى جلست عنده قبر آمنة، وإنى استأذنت ربى فى زيارتها فأذن لى، وإنى استأذنته فى الدعاء لها فلم يأذن لى، وأنزل الله على: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى «2» فأخذنى ما يأخذ الولد للوالد «3» . ورواه الطبرانى من حديث ابن عباس. * وفى مسلم: «استأذنت ربى أن أستغفر لأمى فلم يأذن لى، واستأذنته فى أن أزور قبرها فأذن لى فزوروا القبور، فإنها تذكر الآخرة» «4» . قال القاضى عياض: بكاؤه- عليه السّلام- على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به. * وفى مسلم أيضا: «أن رجلا قال: يا رسول الله: أين أبى، قال: «فى النار» فلما قفا دعاه، قال: «إن أبى وأباك فى النار» «5» . قال النووى: فيه أن من مات على الكفر فهو فى النار، ولا ينفعه قرابة المقربين.

_ (1) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (11/ 42) . (2) سورة التوبة: 113. (3) ذكره ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 394) ، وعزاه لابن أبى حاتم. (4) صحيح: أخرجه مسلم (976) فى الجنائز، باب: استئذان النبى- صلى الله عليه وسلم- ربه عز وجل فى زيارة قبر أمه، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (5) صحيح: أخرجه مسلم (203) فى الإيمان، باب: بيان أن من مات على الكفر فهو فى النار، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

وفيه: أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو فى النار، وليس فى هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء. وقال الإمام فخر الدين: من مات مشركا فهو فى النار، وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، ولم يزل معلوما من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، قبح الشرك والوعيد عليه فى النار، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين، فى كل وقت وحين، ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبيته، وأنه يستحيل فى كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد فى الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك مستحق للعذاب فى النار لمخالفته دعوة الرسل، وهو مخلد فيها دائما كخلود أهل الجنة فى الجنة. انتهى. وقد تعقب العلامة أبو عبد الله الأبى من المالكية فيما وضعه على صحيح مسلم قول النووى الماضى وفيه «أن من مات فى الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فى النار، إلى آخره» بما معناه: تأمل ما فى كلامه من التنافى، فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة، لأن أهل الفترة هم: الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثانى، كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبى- صلى الله عليه وسلم-. والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين، كالفترة بين نوح وهود، لكن الفقهاء إذا تكلموا فى الفترة فإنهم يعنون التى بين عيسى ونبينا- عليهما الصلاة والسلام-. وذكر البخارى عن سلمان أنها كانت ستمائة سنة.

ولما دلت القواطع على ألاتعذيب حتى تقوم الحجة أى قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» ، علمنا أنهم غير معذبين، فإن قلت قد صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة، كحديث «رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه فى النار» «2» و «رأيت صاحب المحجن فى النار، وهو الذى يسرق الحاج بمحجنه، فإذا بصر به، قال: إنما تعلق بمحجنى» «3» . أجيب بأجوبة: * أحدها: أنها أخبار آحاد فلا تعارض القطع. * الثانى: قصر التعذيب على هؤلاء، والله أعلم بالسبب. * الثالث: قصر التعذيب المذكور فى هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة، بما لا يعذر به من الضلال كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع. فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام: * الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته، ثم من هؤلاء من لم يدخل فى شريعة، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل. ومنهم من دخل فى شريعة حق قائمة الرسم، كتبع «4» وقومه من حمير وأهل نجران، وورقة بن نوفل، وعمه عثمان بن الحويرث. * القسم الثانى من أهل الفترة: وهم من بدل وغير، فأشرك ولم يوحد، وشرع لنفسه فحلل وحرم، وهم الأكثر، كعمرو بن لحى، أول من سن للعرب عبادة الأصنام وشرع الأحكام، فبحر البحيرة، وسيب السائبة،

_ (1) سورة الإسراء: 15. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3521) فى المناقب، باب: قصة خزاعة، ومسلم (2856) فى الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، من حديث أبى هريرة رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (904) فى الكسوف، باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (4) هو: تبع بن حسان بن تبان، قيل: اسمه مرثد، وهو أحد ملوك حمير فى اليمن.

ووصل الوصيلة وحمى الحام «1» ، وتبعته العرب فى ذلك وغيره مما يطول ذكره. * القسم الثالث من أهل الفترة: وهم من لم يشرك ولم يوحد، ولا دخل فى شريعة نبى، ولا ابتكر لنفسه شريعة، ولا اخترع دينا، بل بقى عمره على حين غفلة من هذا كله. وفى الجاهلية من كان على ذلك.

_ (1) البحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة، وفى الصحيح عن سعيد بن المسيب: البحيرة هى التى يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس، وأما السائبة: فهى التى كانوا يسيبونها لآلهتهم، وقيل: البحيرة لغة: هى الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة، أى شققتها شقّا واسعا، وكان البحر علامة التخلية. قال ابن سيده: يقال البحيرة: هى التى خليت بلا راع، وقال ابن إسحاق: البحيرة، هى ابنة السائبة، والسائبة هى الناقة إذا تابعت بين عشر إناث وليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخلى سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهى البحيرة ابنة السائبة. وقال الشافعى: إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت. وقال ابن عزيز: البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أى شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها، وقاله عكرمة، فإذا ماتت حلت للنساء. والسائبة: البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تحبس عن رعى ولا ماء، ولا يركبها أحد، وقيل السائبة، هى المحلاة التى لا قيد عليها، ولا راعى لها، فاعل بمعنى مفعول. وأما الوصيلة والحام. قال مالك: كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها، فأما الحام فمن الإبل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه، وأما الوصيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها. وقال ابن عزيز: الوصيلة فى الغنم، قال: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت فى الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منها شىء فيأكله الرجال والنساء، والحامى: الفحل إذا ركب ولد ولده، ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء. وقال ابن إسحاق: الوصيلة الشاة إذا أتمت عشر إناث متتابعات فى خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شىء منها فيشترك فى أكله ذكورهم وإناثهم.

وإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة أقسام، فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثانى لكفرهم بما تعدوا به من الخبائث، والله سبحانه وتعالى قد سمى جميع هذا القسم كفارا ومشركين، فإنا نجد القرآن كلما حكى حال أحد سجل عليهم بالكفر والشرك، كقوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ ثم قال: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية «1» . والقسم الثالث هم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين. وأما أهل القسم الأول: كقس وزيد بن عمرو، فقد قال- عليه السّلام- فى كل منهما «أنه يبعث أمة وحده» «2» . وأما عثمان بن الحويرث، وتبّع وقومه وأهل نجران، فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه، ما لم يلحق أحد منهم الإسلام الناسخ لكل دين. انتهى ملخصا وسيأتى ما قيل فى ورقة فى حديث المبعث- إن شاء الله تعالى-. فهذا ما تيسر فى مسألة والديه- صلى الله عليه وسلم-، وقد كان الأولى ترك ذلك، وإنما جرّنا إليه ما وقع من المباحثة فيه بين علماء العصر. ولقد أحسن الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقى حيث قال: حبا الله النبى مزيد فضل ... على فضل وكان به رؤوفا فأحيا أمه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا لطيفا فسلم فالقديم «3» بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا «4»

_ (1) سورة المائدة: 103. (2) قلت: ورد فى زيد بن عمرو أحاديث منها ما أخرجه النسائى فى «الكبرى» (8187) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 82) ، من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما. (3) من الأخطاء الشائعة إطلاق اسم القديم على الله عز وجل، والأولى إطلاق اسم (الأول) كما ورد فى الكتاب والسنة، والله عز وجل أعلم بنفسه من غيره، فهو الذى سمى نفسه الأول وأوحى إلى رسوله بذلك، ولكن من الذى سماه بالقديم؟! وأيهما أولى بالاعتبار. (4) قلت: لو ثبت ذلك لكان على العين والرأس، ولكن الأحاديث بذلك ضعيفة، كما صرح هو بنفسه، فما بالك والأحاديث الصحيحة بخلاف ذلك، ولكن على العموم أدبا مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا نذكر حكمهما إلا عند الضرورة، من باب بيان الحق لا غير، لا شماتة والعياذ بالله.

فالحذر الحذر، من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذى النبى صلى الله عليه وسلم-، فإن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه، أو وصف بوصف به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة. وقد قال- عليه السّلام-: «لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات» «1» رواه الطبرانى فى الصغير، ولا ريب أن أذاه- عليه السّلام- كفر يقتل فاعله- إن لم يتب- عندنا. وستأتى مباحث ذلك- إن شاء الله تعالى- فى الخصائص من مقصد المعجزات. وقد أطنب بعض العلماء فى الاستدلال لإيمانهما، فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل. قال الحافظ ابن حجر فى بعض كتبه: والظن باله- يعنى الذين ماتوا قبل البعثة- أنهم يطيعون عند الامتحان إكراما له- صلى الله عليه وسلم- لتقر عينه. وقال فى الأحكام: ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب الجنة فى جملة من يدخلها طائعا فينجو، إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (1982) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى الشتم، وأحمد فى «مسنده» (4/ 252) ، وابن حبان فى «صحيحه» (3022) ، من حديث المغيرة بن شعبة رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (7312) .

[ذكر حضانته صلى الله عليه وسلم]

[ذكر حضانته صلى الله عليه وسلم] وقد كانت أم أيمن، بركة، دايته وحاضنته بعد موت أمه، وكان عليه السّلام- يقول لها: أنت أمى بعد أمى. ومات جده عبد المطلب كافله، وله ثمان سنين- وقيل ثمان سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل تسع، وقيل عشر، وقيل ست، وقيل ثلاث وفيه نظر- وله عشر ومائة سنة، وقيل مائة وأربعون سنة. وكفله أبو طالب، واسمه عبد مناف، وكان عبد المطلب قد أوصاه بذلك لكونه شقيق عبد الله. وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وهم فى قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادى وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب، ومعه غلام كأنه شمس دجن» ، تجلت عنه سحابة قتماء «2» ، حوله أغيلمة فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه، وما فى السماء قزعة «3» ، فأقبل السحاب من هاهنا وها هنا، وأغدق واغدودق، وانفجر الوادى، وأخصب النادى والبادى. وفى ذلك يقول أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفواضل والثمال- بكسر المثلاثة-: الملجأ والغياث، وقيل: المطعم فى الشدة.

_ (1) شمس دجن: يقصد شمس يوم دجن، والدجن: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء، أى يقصد شمس غير شديدة الحرارة لحجب السماء لحرارتها. (2) القتماء: أى غبراء، والقتمة، لون فيه غبرة وحمرة، والأقتم: الذى تعلوه القتمة. (3) القزعة: أى قطعة سحاب.

وعصمة للأرامل: أى يمنعهم من الضياع والحاجة. والأرامل: المساكين من رجال ونساء، ويقال لكل واحد من الفريقين على انفراده: أرامل، وهو بالنساء أخص، وأكثر استعمالا، والواحد أرمل وأرملة. وهذا البيت من أبيات فى قصيدة لأبى طالب، ذكرها ابن إسحاق بطولها، وهى أكثر من ثمانين بيتا. قالها لما تمالأت قريش على النبى صلى الله عليه وسلم-، ونفروا عنه من يريد الإسلام، وأولها: لما رأيت القوم لا ود عندهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل أعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا فى أمركم كل واغل فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق لبر فى حراء ونازل وبالبيت حق البيت فى بطن مكة ... وتالله إن الله ليس بغافل كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ومعنى نناضل: نجادل ونخاصم وندافع. ونبزى: - بضم النون وسكون الموحدة آخره زاى- أى نقهر ونغلب عليه. قال ابن التين: إن فى شعر أبى طالب هذا دليلا على أنه كان يعرف نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث، لما أخبره به بحيرى وغيره من شأنه. وتعقبه الحافظ أبو الفضل بن حجر: بأن ابن إسحاق ذكر أن إنشاء أبى طالب لهذا الشعر كان بعد البعثة، ومعرفة أبى طالب بنبوته- عليه السّلام- جاءت فى كثير من الأخبار وتمسك بها الشيعة فى أنه كان مسلما.

قال: ورأيت لعلى بن حمزة البصرى جزآ جمع فى شعر أبى طالب، وزعم أنه كان مسلما، وأنه مات على الإسلام، وأن الحشوية «1» تزعم أنه مات كافرا، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه. انتهى «2» . ولما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اثنتى عشرة سنة خرج مع عمه أبى طالب إلى الشام، حتى بلغ بصرى، فرآه بحيرى الراهب، واسمه جرجيس، فعرفه بصفته فقال، وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه رحمة للعالمين. فقيل له: وما علمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم به من العقبة، لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجد إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة، فى أسفل من غضروف كتفه، مثل التفاحة، وإنا نجده فى كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده خوفا عليه من اليهود. والحديث رواه ابن أبى شيبة، وفيه: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقبل وعليه غمامة تظله. و «بحيرى» - بفتح الموحدة وكسر المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة- قال الذهبى- فى تجريد الصحابة-: رأى رسول- صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وآمن به، وذكره ابن منده، وأبو نعيم فى الصحابة. وهذا ينبنى على تعريفهم الصحابى: بمن رآه- صلى الله عليه وسلم-، هل المراد حال النبوة، أو أعم من ذلك حتى يدخل من رآه قبل النبوة ومات قبلها على دين الحنيفية. وهو محل نظر، وسيأتى البحث فيه- إن شاء الله- فى المقصد السابع. وخرج الترمذى وحسنه، - والحاكم وصححه- أن فى هذه السفرة أقبل

_ (1) الحشوية: هو المتبعون لظاهر النصوص، وقيل: سموا بذلك لقول الحسن البصرى لما رأى سقوط كلامهم وكانوا يجلسون فى حلقته، ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة، أى جانبها، إلا أنها غالبا ما تطلق عند أهل البدع على أهل السنة والجماعة، نظرا لأنهم لا يصرفون الأدلة عن ظاهرها لتأويلات ضعيفة غير سائغة، فلما رأى مخالفوهم تمسكهم بالسنة وعدم إعراضهم عنها إلى أهوائهم أطلقوا عليهم هذا الاسم. (2) قلت: الثابت فى الصحيح أنه مات على ملة عبد المطلب، حيث إنه قد أخذته الحمية لقومه أن يتبع دين محمد- صلى الله عليه وسلم-، فيعير بذلك!.

سبعة من الروم يقصدون قتله- عليه السّلام-، فاستقبلهم بحيرى، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: إن هذا النبى خارج فى هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليها بأناس، فقال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا قال: فبايعوه وأقاموا معه، ورده أبو طالب. وبعث معه أبو بكر بلالا «1» . قال البيهقى: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازى. انتهى. وضعف الذهبى الحديث لقوله فى آخره: «وبعث معه أبو بكر بلالا» فإن أبا بكر إذ ذاك لم يكن متأهلا، ولا اشترى بلالا. قال الحافظ ابن حجر فى الإصابة: الحديث رجاله ثقات، وليس فيه منكر سوى هذه اللفظة، فتحمل على أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر وهما من أحد رواته. وفى حديث عند البيهقى وأبى نعيم: أن بحيرى رآه- وهو فى صومعته- فى الركب حين أقبلوا، وغمامة بيضاء تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى استظل تحتها الحديث. وفيه: أن بحيرى قام فاحتضنه وأنه جعل يسأله عن أشياء حاله: من نومه وهيئته وأموره. ويخبره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ورأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده. وتقدم أن أخته الشيماء بنت حليمة رأته فى الظهيرة، وغمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، رواه أبو نعيم وابن عساكر. ولله در القائل: إن قال يوما ظللته غمامة ... هى فى الحقيقة تحت ظل القائل ونقل الشيخ بدر الدين الزركشى عن بعض أهل المعرفة: أنه- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح لكن ذكر بلال فيه منكر: أخرجه الترمذى (3620) فى المناقب، باب: ما جاء فى بدء نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 672) ، من حديث أبى موسى رضى الله عنه-، وقد تقدم.

كان معتدل الحرارة والبرودة، فلا يحس بالحر ولا بالبرد، وأنه كان فى ظل غمامة من اعتداله. كذا نقل رحمه الله. وأخرج ابن منده، بسند ضعيف عن ابن عباس: أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه- صحب النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمان عشرة، والنبى- صلى الله عليه وسلم- ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام فى تجارة، حتى نزل منزلا فيه سدرة، فقعد فى ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرى، يسأله عن شىء، فقال له: من الرجل الذى فى ظل الشجرة، فقال له: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبى، ما استظل تحتها بعد عيسى- عليه السّلام- إلا محمد. ووقع فى قلب أبى بكر التصديق، فلما بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- اتبعه. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر فى الإصابة: إن صحت هذه القصة فهى سفرة أخرى بعد سفرة أبى طالب. انتهى. ثم خرج- صلى الله عليه وسلم- أيضا ومعه ميسرة غلام خديجة ابنة خويلد بن أسد، فى تجارة لها حتى بلغ سوق بصرى، وقيل سوق حباشة بتهامة، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، لأربع عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، فنزل تحت ظل شجرة، فقال نسطورا الراهب: ما نزل تحت ظل هذه الشجرة إلا نبى، وفى رواية بعد عيسى. وكان ميسرة يرى فى الهاجرة ملكين يظلانه من الشمس، ولما رجعوا إلى مكة فى ساعة الظهيرة، وخديجة فى علية لها، فرأت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو على بعيره وملكان يظلان عليه. رواه أبو نعيم. وتزوج- صلى الله عليه وسلم- خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما وقيل: كان سنه إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثين- وكانت تدعى فى الجاهلية بالطاهرة، وكانت تحت أبى هالة بن زرارة التميمى فولدت له هندا وهالة، وهما ذكران، ثم تزوجها عتيق بن عابد المخزومى فولدت له هندا. وكان لها- حين تزويجها بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من العمر أربعون سنة وبعض أخرى. وكانت عرضت نفسها عليه، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه.

فتزوجها- عليه السّلام-، وأصدقها عشرين بكرة «1» ، وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخى هذا، محمد بن عبد الله، لا يوزن برجل إلا رجح به، فإن كان فى المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد ممن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالى كذا، وهو- والله- بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل، فزوجها. والضئضىء: الأصل. وحضنة بيته: أى الكافلين له والقائمين بخدمته. وسواس حرمه: أى: متولى أمره. قال: ابن إسحاق: وزوجه إياها خويلد. وقد ذكر الدولابى وغيره: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أصدق خديجة اثنتى عشرة أوقية ذهبا ونشا. قالوا: وكل أوقية أربعون درهما. والنش: نصف أوقية. ولما بلغ خمسا وثلاثين سنة، خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول، فأمروا باقوم- بموحدة فألف فقاف مضمومة فواو ساكنة فميم- النجار النبطى مولى سعيد بن العاصى، وصانع المنبر الشريف، بأن يا بنى الكعبة المعظمة. وحضر- صلى الله عليه وسلم- وكان ينقل معهم الحجارة، وكانوا يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل ذلك- صلى الله عليه وسلم- فلبط به- بالموحدة، كعنى أى سقط من قيامه كما فى القاموس- ونودى: عورتك، فكان ذلك أول ما نودى. فقال له أبو طالب أو العباس: يابن أخى اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابنى إلا من التعرى.

_ (1) انظر القصة فى «السيرة» لابن هشام (1/ 201) ، والبكرة: الفتية من الإبل.

[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم]

[دقائق حقائق بعثته صلى الله عليه وسلم] ولما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربعين سنة وقيل: وأربعين يوما، وقيل: وعشرة أيام وقيل: وشهرين، يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وقيل: لسبع، وقيل: لأربع وعشرين ليلة-. وقال ابن عبد البر: يوم الاثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من الفيل. وقيل: فى أول ربيع: بعثه الله رحمة للعالمين، ورسولا إلى كافة الثقلين أجمعين. ويشهد لبعثه يوم الاثنين ما رواه مسلم عن أبى قتادة أنه- صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم الاثنين فقال: «فيه ولدت وفيه أنزل على» «1» . وقال ابن القيم فى «الهدى النبوى» : واحتج القائلون بأنه كان فى رمضان بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» قالوا: أول ما أكرمه الله بنبوته أنزل عليه القرآن. وقال الآخرون: إنما نزل القرآن جملة واحدة فى ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم نزل نجوما بحسب الوقائع فى ثلاث وعشرين سنة. وقيل: كان ابتداء المبعث فى رجب. وروى البخارى فى «التعبير» من حديث عائشة: «أول ما بدىء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح «3» وكان يأتى حراء «4» فيتحنث «5» فيه- وهو

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) سورة البقرة: 185. (3) فلق الصبح: أى ضياؤه، وإنما يقال هذا فى الشىء الواضح البين. (4) حراء: اسم جبل به غار، بينه وبين مكة ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى. (5) التحنث: فسره بالتعبد، وهو تفسير صحيح، وأصل الحنث: الإثم، فمعنى يتحنث، أى يجتنب الحنث، فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث وهو الإثم، أى يتجنب الحرج والإثم.

التعبد- الليالى ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجأه الحق وهو فى غار حراء. فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، «فقلت ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد «1» ، ثم أرسلنى «2» » ، فقال: اقرأ، «فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى» ، فقال: اقرأ، «فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى» فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى- بلغ- ما لَمْ يَعْلَمْ «3» «4» . فرجع بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده «5» ، حتى دخل على خديجة، فقال: «زملونى زملونى» «6» فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: «يا خديجة، ما لى؟» وأخبرها الخبر، ثم قال: «قد خشيت على نفسى» . فقالت له: كلا أبشر، فو الله لا يخزيك «7» الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل «8» ، وتقرى الضيف «9» ، وتعين على نوائب الحق «10» .

_ (1) غطنى: أى ضمنى وعصرنى، أما الجهد: فيجوز فيها فتح الجيم وضمها، وهو الغاية والمشقة، ويجوز نصب الدال ورفعها، فعلى النصب: بلغ جبريل منى الجهد، وعلى الرفع: بلغ الجهد منى مبلغه وغايته. (2) أرسلنى: أى أطلقنى. (3) سورة العلق: 1- 5. (4) قلت: فى هذا الحديث دلالة صريحة على أن أول ما نزل من القرآن: اقرأ، خلافا لمن يقول بغير ذلك كسورة الفاتحة مثلا. (5) يرجف فؤاده: أى يرتعد ويضطرب. (6) زملونى: أى غطونى بالثياب ولفونى بها. (7) الخزى: هو الفضيحة والهوان. (8) الكلّ: أصل الكل الثقل، ومنه قوله تعالى: وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، ويدخل فى حمل الكل، الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال، وغير ذلك، وهو من الكلال، وهو الإعياء. (9) تقرى الضيف: أى تطعم الضيف، حيث يقال للطعام الذى يضيف به قرى، ويقال لفاعله: قار. (10) النوائب: جمع نائبة، وهى الحادثة، وإنما قالت: نوائب الحق، لأن النائبة قد تكون فى الخير، وقد تكون فى الشر.

ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى، وهو ابن عم خديجة أخى أبيها- وكان امرأ تنصر «1» فى الجاهلية «2» ، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب- وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: أى ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى؟ فأخبره النبى- صلى الله عليه وسلم- ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس «3» الذى أنزل على موسى، يا ليتنى فيها جذعا «4» ، ليتنى أكون حيّا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أو مخرجى هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب «5» ورقة أن توفى، وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رؤس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقّا، فيسكن لذلك جأشه «6» ، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك» «7» . * وقد تكلم العلماء فى معنى قوله- صلى الله عليه وسلم- لخديجة: «قد خشيت

_ (1) تنصر: أى صار نصرانيّا. (2) الجاهلية: معناها هنا: الفترة الزمنية التى كانت قبل بعثته- صلى الله عليه وسلم-. (3) الناموس: هو جبريل- عليه السّلام-، وقال أهل اللغة وغريب الحديث: الناموس فى اللغة: صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب الشر، ويقال: نمست السر، إذا كتمته. (4) أى: شابّا قويّا، حتى أبالغ فى نصرك، وأصل الجذع فى الدواب. (5) أى: لم يلبث بعده فترة طويلة، بل فترة قليلة. (6) جأشه: أى قلبه. (7) صحيح: أخرجه البخارى (6982) فى التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصالحة، ومسلم (160) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-.

على نفسى» فذهب الإسماعيلى «1» إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضرورى بأن الذى جاءه ملك من عند الله. وكان أشق شىء عليه أن يقال عليه مجنون. وقيل: إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه، ولا غرو، فإنه بشر يخشى من القتل والأذية، كما يخشى البشر. * وقوله: «ما أنا بقارئ» أى: أنا أمى فلا أقرأ الكتب. * وقال القاضى عياض: إنما بيتدئ- صلى الله عليه وسلم- بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قوى البشر، فبدىء بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة. انتهى. فإن قلت: فلم كرر قوله «ما أنا بقارئ» ثلاثا؟ أجاب أبو شامة «2» كما فى فتح البارى: بأن يحمل قوله أولا «ما أنا بقارئ» على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفى المحض، وثالثا: على الاستفهام. * والحكمة من الغط ثلاثا، شغله عن الالتفات لشىء آخر، وإظهارا للشدة والجد فى الأمر، تنبيها على ثقل القول الذى سيلقى عليه. وقيل: إبعادا لظن التخيل والوسوسة، لأنهما ليسا من صفات الجسم، فلما وقع ذلك بجسمه علم أنه من أمر الله. * فإن قلت: من أين عرف- صلى الله عليه وسلم- أن جبريل ملك من عند الله، وليس من الجن؟ فالجواب من وجهين:

_ (1) هو: الحافظ الحجة، أبو بكر، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجرجانى الشافعى، صاحب «المستخرج على صحة البخارى» ، كما أن له تصانيف تشهد له بالإمامة فى الفقه والحديث، توفى سنة (371 هـ) . (2) هو: أبو القاسم، شهاب الدين، عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسى الدمشقى، أحد الأعلام، مؤرخ باحث محدث، توفى سنة (665 هـ) .

أحدهما: أن الله تعالى أظهر على يدى جبريل- عليه السّلام- معجزات عرفه بها. كما أظهر الله تعالى على يد محمد- صلى الله عليه وسلم- معجزات عرفناه بها. وثانيهما: أن الله تعالى خلق فى محمد- صلى الله عليه وسلم- علما ضروريّا بأن جبريل من عند الله ملك لا جنى ولا شيطان، كما أن الله تعالى خلق فى جبريل علما ضروريّا بأن المتكلم معه هو الله تعالى، وأن المرسل له ربه تعالى لا غير. * وقول ورقة: يا ليتنى فيها جذعا. الضمير للنبوة، أى: ليتنى كنت شابّا عند ظهورها حتى أبالغ فى نصرتها وحمايتها. وأصل الجذع: من أسنان الدواب، وهو ما كان منها شابّا فتيّا. وأخرج البيهقى من طريق العلاء بن جارية الثقفى عن بعض أهل العلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة. وهى تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول الله الحديث «1» . وعن جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جوارى هبطت، فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا، ونظرت خلفى فلم أر شيئا، فرفعت رأسى فرأيت شيئا فلم أثبت له، فأتيت خديجة فقلت: دثرونى دثرونى» وصبوا على ماء باردا فنزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ «3» الآية، وذلك قبل أن تفرض الصلاة» «4» رواه البخارى ومسلم والترمذى. ولم يكن جواره- صلى الله عليه وسلم- لطلب النبوة، لأنها أجل من أن تنال بالطلب

_ (1) سيأتى بتمامه فى موضعه. (2) الدثار: الثوب فوق غيره من الثوب. (3) سورة المدثر: 1- 3. (4) صحيح: أخرجه البخارى (4922) فى التفسير، باب: سورة المدثر، ومسلم (161) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

أو الاكتساب، وإنما هى موهبة من الله، وخصوصية يخص بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولم تكن الرجفة المذكورة خوفا من جبريل- عليه السّلام-، فإنه- صلى الله عليه وسلم- أجل من ذلك، وأثبت جنانا، وإنما رجف غبطة بحاله وإقباله على الله عز وجل، فخشى أن يشغل بغير الله عن الله. وقيل: خاف من ثقل أعباء النبوة. وفى رواية البيهقى فى الدلائل: أن خديجة قالت لأبى بكر: يا عتيق اذهب به إلى ورقة بن نوفل، فأخذه أبو بكر، فقص عليه ما رأى، فقال صلى الله عليه وسلم-: «إذا خلوت وحدى سمعت نداء: يا محمد، يا محمد، فأنطلق هاربا» .. فقال: لا تفعل إذا قال، فاثبت حتى تسمع، ثم ائتنى فأخبرنى، فلما خلا ناداه يا محمد فثبت فقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. إلى آخرها. ثم قال: قل لا إله إلا الله «1» . الحديث. واحتج به من قال بأولية نزول الفاتحة. والصحيح أن أول ما نزل عليه- صلى الله عليه وسلم- من القرآن «اقرأ» كما صح ذلك عن عائشة، وروى ذلك عن أبى موسى الأشعرى وعبيد بن عمير. قال النووى: وهو الصواب الذى عليه الجماهير من السلف والخلف. وأما ما روى عن جابر وغيره: أن أول ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «2» . فقال النووى: ضعيف، بل باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحى. وأما حديث البيهقى أنه الفاتحة- كقول بعض المفسرين- فقال البيهقى: هذا منقطع، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «3» ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «4» . وقال النووى- بعد ذكر هذا القول- بطلانه أظهر من أن يذكر. انتهى.

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 158) . (2) سورة المدثر: 1. (3) سورة العلق: 1. (4) سورة المدثر: 1.

وقد روى أن جبريل- عليه السّلام- أول ما نزل بالقرآن على النبى- صلى الله عليه وسلم- أمره بالاستعاذه، كما رواه الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال: «أول ما نزل جبريل على محمد- صلى الله عليه وسلم- قال: يا محمد، استعذ، قال: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: اقرأ باسم ربك الذى خلق. قال عبد الله: وهى أول سورة أنزلها الله على محمد- صلى الله عليه وسلم-» «1» . قال الحافظ عماد الدين بن كثير، بعد أن ذكره: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن فى إسناده ضعفا وانقطاعا، والله أعلم «2» . وقد أورد ابن أبى جمرة سؤالا، وهو أنه: لم اختص- صلى الله عليه وسلم- بغار حراء، فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من المواضع. وأجاب: بأن هذا الغار له فضل زائد على غيره: من جهة أنه منزو ومجموع لتحنثه وهو يبصر بيت ربه، والنظر إلى البيت عبادة، فكان له فيه اجتماع ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى البيت. وغيره ليس فيه هذه الثلاث. ولله در المرجانى حيث قال فى فضائل حراء وما اختص به: تأمل حراء فى جمال محياه ... فكم من أناس من حلا حسنه تاهوا فمما حوى من جا لعلياه زائرا ... يفرج عنه الهم فى حال مرقاه به خلوة الهادى الشفيع محمد ... وفيه له غار له كان يرقاه وقبلته للقدس كانت بغاره ... وفيه أتاه الوحى فى حال مبداه وفيه تجلى الروح بالموقف الذى ... به الله فى وقت البداءة سواه وتحت تخوم الأرض فى السبع أصله ... ومن بعد هذا اهتز بالسفل أعلاه ولما تجلى الله قدس ذكره ... لطور تشظى فهو إحدى شظاياه ومنها ثبير ثم ثور بمكة ... كذا قد أتى فى نقل تاريخ مبداه وفى طيبة أيضا ثلاث فعدها ... فعيرا وورقانا وأحدا رويناه

_ (1) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (1/ 51) . (2) قاله ابن كثير فى «تفسيره» (1/ 51) .

ويقبل فى ساعة الظهر من دعا ... به ينادى من دعانا أجبناه وفى أحد الأقوال فى عقبة حرا ... أتى ثم قابيل لهابيل غشاه ومما حوى سرّا حوته صخوره ... من التبر إكسيرا يقام سمعناه سمعت به تسبيحها غير مرة ... وأسمعته جمعا فقالوا سمعناه به مركز النور الإلهى مثبتا ... فلله ما أحلى مقاما بأعلاه وروى أبو نعيم أن جبريل وميكائيل شقا صدره وغسلاه ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «1» . الآيات، الحديث، وفيه: فقال ورقة: أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل «2» . وكذا روى شق صدره الشريف هنا أيضا الطيالسى والحارث فى مسنديهما. والحكمة فيه: ليتلقى النبى- صلى الله عليه وسلم- ما يوحى إليه بقلب قوى، فى أكمل الأحوال من التطهير. قال ابن القيم وغيره: وكمل الله تعالى له- عليه السّلام- من الوحى مراتب عديدة: * أحدها: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. * الثانية: ما كان يلقيه الملك فى روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن روح القدس نفث فى روعى، لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب» «3» الحديث رواه ابن أبى الدنيا فى القناعة، وصححه الحاكم. والروع- بضم الراء- أى نفسى، وروح القدس: جبريل- عليه السّلام-.

_ (1) سورة العلق: 1- 5. (2) أشار إلى ذلك الحافظ فى «الفتح» (6/ 562) وعزاه لأبى داود الطيالسى فى مسنده والحارث بن أبى أسامة والدلائل لأبى نعيم من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه أبو نعيم فى الحلية عن أبى أمامة، كما فى «صحيح الجامع» (2085) .

* الثالثة: كان يتمثل له الملك رجلا، فيخاطبه حتى يعى عنه ما يقول له، فقد كان يأتيه فى صورة دحية الكلبى «1» . رواه النسائى بسند صحيح من حديث ابن عمر. قلت: وكان دحية جميلا وسيما، إذا قدم لتجارة خرجت الظعن لتراه. فإن قلت: إذا لقى جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صورة دحية، فأين تكون روحه؟ فإن كانت فى الجسد الذى له ستمائة جناح، فالذى أتى لا روح جبريل ولا جسده، وإن كانت فى هذا الذى هو فى صورة دحية فهل يموت الجسد العظيم أم يبقى خاليا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية. أجيب- كما ذكره العينى «2» - بأنه لا يبعد ألايكون انتقالها موجب موته، فيبقى الجسد حيّا، لا ينقص من معارفه شىء ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثانى كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر، وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى فى بنى آدم، فلا تلزم فى غيرهم. انتهى. * الرابعة: كأن يأتيه فى مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد، حتى إن راحلته لتبرك به فى

_ (1) قلت: أخرجه بنحوه البخارى (2) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2333) فى الفضائل، باب: عرق النبى- صلى الله عليه وسلم- فى البرد وحين يأتيه الوحى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وبخصوص تشبيهه بصورة دحية الكلبى فقد ورد ذلك أثناء حديث أخرجه مسلم (167) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث جابر، ولم أقف على لفظ المصنف من النسائى كما ذكر. (2) هو: أبو محمد، محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد، بدر الدين العينى، فقيه حافظ مؤرخ، توفى بالقاهرة سنة (855 هـ) ، وكان من أقران الحافظ ابن حجر العالم المشهور، إلا أنه كان حنفى المذهب.

الأرض، ولقد جاءه الوحى مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها «1» . قلت: وروى الطبرانى عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقا شديدا مثل الجمان، ثم سرى عنه. وكنت أكتب وهو يملى على، فما أفرغ حتى تكاد رجلى تكسر من ثقل الوحى، حتى أقول: لا أمشى على رجلى أبدا «2» . ولما نزلت عليه سورة المائدة، كادت أن تنكسر عضد ناقته من ثقل السورة «3» ، ورواه أحمد والبيهقى فى الشعب. * الخامسة: أن يرى الملك فى صورته التى خلق عليها له ستمائة جناح، فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما فى سورة النجم. * السادسة: ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها. * السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله موسى. قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهى تكليم الله له كفاحا من غير حجاب. انتهى. قال شيخ الإسلام الولى ابن العراقى: وكان ابن القيم أخذ ذلك من

_ (1) قلت: طرفه الأول هو حديث لفظ عائشة المتقدم قبل حديث، أما قصة نزوله وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فبرواية أخرى أخرجها النسائى (6/ 9) فى الجهاد، باب: فضل المجاهدين على القاعدين، بسند صحيح. (2) أخرجه الطبرانى فى «الأوسط» (1934) ، وفى «الكبير» (5/ 142) . (3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 455 و 458) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 178) ، من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية، وفى إسناده شهر بن حوشب، وهو ضعيف سيئ الحفظ.

روض السهيلى لكنه لم يذكر نزول إسرافيل إليه بكلمات من الوحى قبل جبريل. فقد ثبت فى الطرق الصحاح عن عامر الشعبى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحى، والشىء، ثم وكل به جبريل فجاء بالقرآن «1» . وأما قوله- أعنى ابن القيم-: السادسة، ما أوحاه الله إليه فوق السماوات، يعنى ليلة المعراج، السابعة كلام الله بلا واسطة. فإن أراد ما أوحاه إليه جبريل فهو داخل فيما تقدم، لأنه إما أن يكون جبريل فى تلك الحالة على صورته الأصلية، أو على صورة الآدمى، وكلاهما قد تقدم ذكره، وإن أراد وحى الله بلا واسطة- وهو الظاهر- فهى الصورة التى بعدها. وأما قوله: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة: وهى تكليم الله له كفاحا من غير حجاب، فهذا على مذهب من يقول إنه- صلى الله عليه وسلم- رأى ربه تعالى، وهى مسألة خلاف يأتى الكلام عليها إن شاء الله تعالى. ويحتمل أن ابن القيم- رحمه الله تعالى- أراد بالمرتبة السادسة وحى جبريل، وغاير بينه وبين ما قبله باعتبار محل الإيحاء، أى كونه فوق السماوات، بخلاف ما تقدم، فإنه كان فى الأرض، ولا يقال، يلزم عليه أن تتعدد أقسام الوحى باعتبار البقعة التى جاء فيها جبريل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو غير ممكن، لأنا نقول: الوحى الحاصل فى السماء باعتبار ما فى تلك المشاهد من الغيب نوع غير نوع الأرض على اختلاف بقاعها. انتهى. قلت: ويزاد أيضا: * كلامه تعالى له فى المنام، كما فى حديث الزهرى «أتانى ربى فى أحسن صورة فقال: يا محمد أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى..» «2» الحديث.

_ (1) قلت: عامر بن شراحيل الشعبى، من خيار التابعين، إلا أن حديثه مرسل. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (3233 و 3234) فى التفسير، باب: ومن سورة ص، وأحمد فى «مسنده» (1/ 368) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (2608) ، من حديث ابن عباس رضى الله عنهما-، وليس للزهرى فيه ذكر.

* ثم مرتبة أخرى، وهى العلم الذى يلقيه الله تعالى فى قلبه، وعلى لسانه عند الاجتهاد فى الأحكام، لأنه اتفق على أنه- صلى الله عليه وسلم- إذا اجتهد أصاب قطعا، وكان معصوما من الخطأ، وهذا خرق للعادة فى حقه دون سائر الأمة، وهو يفارق النفث فى الروع من حيث حصوله بالاجتهاد، والنفث بدونه. * ومرتبة أخرى: وهى مجىء جبريل فى صورة رجل غير دحية، لأن دحية كان معروفا عندهم، ذكره ابن المنير، وإن كانت داخلة فى المرتبة الثالثة التى ذكرها ابن القيم. وذكر الحليمى أن الوحى كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا، فذكرها، وغالبها- كما قال فى فتح البارى- من صفات حامل الوحى، ومجموعها يدخل فيما ذكر والله أعلم. وذكر ابن المنير أن الحال كان يختلف فى الوحى باختلاف مقتضاه، فإن نزل بوعد وبشارة نزل الملك بصورة الآدمى، وخاطبه من غير كدّ، وإن نزل بوعيد ونذارة كان حينئذ كصلصلة الجرس. انتهى. وقد ذكر ابن عادل، فى تفسيره: أن جبريل- عليه السّلام- نزل على النبى صلى الله عليه وسلم- أربعة وعشرين ألف مرة، ونزل على آدم اثنتى عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات. كذا قال- رحمه الله-. وقد روى: أن جبريل تبدى له- صلى الله عليه وسلم- فى أحسن صورة وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أنت رسولى إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلى وأمره أن يصلى معه فعلمه الوضوء والصلاة ثم عرج إلى السماء ورجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يمر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله، حتى أتى خديجة فأخبرها فغشى عليها من الفرح ثم أمرها فتوضأت وصلى بها

كما صلى به جبريل فكان ذلك أول فرضها ركعتين ثم إن الله أقرها فى السفر كذلك وأتمها فى الحضر «1» . وقال مقاتل: كانت الصلاة أول فرضها ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى، لقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ «2» . قال فى فتح البارى: كان- صلى الله عليه وسلم- قبل الإسراء يصلى قطعا، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف: هل افترض قبل الخمس شىء من الصلاة أم لا؟ فقيل: إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها «3» . انتهى «4» . قال النووى: أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض الله من قيام الليل ما ذكره فى أول سورة المزمل، ثم نسخه بما فى آخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة، وأما ما ذكره فى هذه الرواية من أن جبريل علمه الوضوء وأمره به فيدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء. ثم فتر الوحى فترة شق عليه وأحزنه. وفترة الوحى: عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب عنه ما كان يجده- عليه السّلام- من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود. وكانت مدة فترة الوحى ثلاث سنين، كما جزم به ابن إسحاق. وفى تاريخ الإمام أحمد، ويعقوب بن سفيان عن الشعبى: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشىء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة، وكذا رواه ابن سعد والبيهقى.

_ (1) طرفه الأخير صحيح أخرجه مسلم (985) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) . (2) سورة غافر: 55. (3) سورة طه: 130. (4) قاله الحافظ فى «الفتح» (8/ 671) .

فقد تبين أن نبوته- صلى الله عليه وسلم- كانت متقدمة على إرساله، كما قال أبو عمر وغيره، وكما حكاه أبو أمامة بن النقاش. فكان فى نزول سورة «اقرأ» نبوته، وفى نزول سورة المدثر إرساله بالنذارة والبشارة والتشريع، وهذا قطعا متأخر عن الأول، لأنه لما كانت سورة «اقرأ» متضمنة لذكر أطوار الآدمى: من الخلق والتعليم والإفهام، ناسب أن تكون أول سورة أنزلت، وهذا هو الترتيب الطبيعى، وهو أن يذكر سبحانه وتعالى ما أسداه إلى نبيه- عليه السّلام- من العلم والفهم والحكمة والنبوة، ويمن عليه بذلك فى معرض تعريف عباده بما أسداه إليهم من نعمة البيان الفهمى والنطقى والخطى، ثم يأمره سبحانه وتعالى بأن يقوم فينذر عباده. وكان أول من آمن بالله وصدق صديقة النساء خديجة، فقامت بأعباء الصديقية. قال لها- صلى الله عليه وسلم-: خشيت على نفسى، فقالت: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا، ثم استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبدا. وكان أول ذكر آمن من بعدها صديق الأمة، وأسبقها إلى الإسلام أبو بكر، فازره فى الله. وعن ابن عباس أنه أول الناس إسلاما، واستشهد له بقول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوى من أخى ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبى وأوفاها بما حملا والثانى التالى المحمود مشهده ... وأول الناس قدما صدق الرسلا رواه أبو عمر. وممن وافق ابن عباس وحسانا على أن الصديق أول الناس إسلاما، أسماء بنت أبى بكر، والنخعى وابن الماجشون ومحمد بن المنكدر والأخنس. وقيل: إن على بن أبى طالب أسلم بعد خديجة، وكان فى حجر النبى

- صلى الله عليه وسلم-. فعلى هذا يكون أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ويكون على أول صبى أسلم، لأنه كان صبيّا لم يدرك، ولذا قال: سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمى وكان سن على إذ ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبرى. وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليّا أول من أسلم من الرجال: سلمان وأبو ذر والمقداد وخباب وجابر وأبو سعيد الخدرى، وزيد بن الأرقم، وهو قول ابن شهاب وقتادة وغيرهم. قال: واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقا. وقيل: أول رجل أسلم، ورقة بن نوفل. ومن يمنع، يدعى أنه أدرك نبوته- عليه السّلام- لا رسالته. لكن جاء فى السير، وهو فى رواية أبى نعيم المتقدمة أنه قال: أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد، وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك. فهذا صريح بتصديقه برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم-. قال البلقينى: بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال. وبه قال العراقى فى نكته على ابن الصلاح وذكره ابن منده فى الصحابة. وحكى العراقى: كون على أول من أسلم عن أكثر العلماء، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه. وادعى الثعلبى اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فى أول من أسلم بعدها. قال ابن الصلاح: والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر. ومن الصبيان أو الأحداث على. ومن النساء خديجة. ومن الموالى زيد. ومن العبيد بلال. والله أعلم، انتهى.

وقال الطبرى: الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها فيقال: أول من أسلم مطلقا خديجة. وأول من أسلم على بن أبى طالب، وهو صبى لم يبلغ، وكان مستخفيا بإسلامه وأول رجل عربى بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبى قحافة. وأول من أسلم من الموالى زيد. قال: وهذا متفق عليه لا خلاف فيه، وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، أى الرجال البالغين الأحرار، ويؤيد هذا ما روى عن الحسن أن على بن أبى طالب قال: إن أبا بكر سبقنى إلى أربع لم أوتهن: سبقنى إلى إفشاء الإسلام، وقدم الهجرة، ومصاحبته فى الغار، وإقام الصلاة، وأنا يومئذ بالشعب يظهر إسلامه وأخفيه. الحديث، خرجه صاحب فضائل أبى بكر وخيثمة بمعناه. وأما ما روى: من صحبة الصديق للنبى- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمانى عشرة سنة، وهم يريدون الشام فى تجارة، وحديث بحيرى، وأنه وقع فى قلب أبى بكر اليقين، وقول ميمون بن مهران: والله لقد آمن أبو بكر بالنبى- صلى الله عليه وسلم- زمن بحيرى، فالمراد بهذا الإيمان اليقين بصدقه، وهو ما وقر فى قلبه، وإلا فالنبى- صلى الله عليه وسلم- تزوج خديجة وسافر إلى الشام قبل المبعث. ثم أسلم بعد زيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، بدعاء أبى بكر الصديق، فجاء بهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا. ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بعد تسعة أنفس. والأرقم بن أبى الأرقم المخزومى، وعثمان بن مظعون الجمحى. وأخواه: قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وامرأته فاطمة بنت الخطاب.

[فصل فى ترتيب الدعوة النبوية]

وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبى بكر، وعائشة أختها. كذا قاله ابن إسحاق وغيره. وهو وهم، لأن عائشة لم تكن ولدت بعد فكيف أسلمت. وكان مولدها سنة أربع من النبوة، قاله مغلطاى وغيره. ودخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء. [فصل فى ترتيب الدعوة النبوية] ثم إن الله تعالى أمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- بأن يصدع بما جاء به، أى يواجه المشركين به. وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن فى الصلاة. وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ما زال النبى- صلى الله عليه وسلم- مستخفيا حتى نزلت فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «1» . فجهر هو وأصحابه. وقال البيضاوى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «2» من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو فرق به بين الحق والباطل. وأصله: الإبانة والتمييز. و «ما» مصدرية أو موصولة، و «الراجع» محذوف، أى بما تؤمر به من الشرائع انتهى. قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة، وهى المدة التى أخفى فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمره إلى الله تعالى بإظهاره. فبادى قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله تعالى. ولم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، وكان ذلك سنة أربع كما قاله العتقى. فأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام. وحدب عليه «3» عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه.

_ (1) سورة الحجر: 94. (2) سورة الحجر: 94. (3) حدب عليه: أى تعطف عليه، وأصل الحدب: خروج الظهر ودخول الظهر والبطن.

فاشتد الأمر، وتضارب القوم، وأظهر بعضهم لبعض العداوة، وتذامرت قريش على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم. ومنع رسول الله بعمه أبى طالب وبنى هاشم- غير أبى لهب- وبنى المطلب. وقال مقاتل: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند أبى طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبى طالب يريدون بالنبى- صلى الله عليه وسلم- سوآ، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم. وقال: والله لن يصلوا إليك يجمعهم ... حتى أوسد فى التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتنى وزعمت أنك ناصحى ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا لا محالة إنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذارى سبة ... لوجدتنى سمحا بذاك مبينا وقد كفى الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- المستهزئين. كما قال تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «1» أى لا تلتفت إلى ما يقولون: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «2» . يعنى بقمعهم وإهلاكهم. وقد قيل: إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش: الوليد بن المغيرة. والعاصى بن وائل. والحارث بن قيس. والأسود بن عبد يغوث. والأسود بن المطلب.

_ (1) سورة الحجر: 94. (2) سورة الحجر: 95.

وكانوا يبالغون فى إذائه- صلى الله عليه وسلم- والاستهزاء به. فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم-: أمرت أن أكفيكهم. فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظيما لأخذه، فأصاب عرقا فى عقبه فمات، وأومأ إلى أخمص العاصى فدخلت فيها شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى فمات، وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد فى أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، وإلى عينى الأسود بن عبد المطلب فعمى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يطوف على الناس فى منازلهم يقول: «يا أيها الناس، إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا» ، وأبو لهب وراءه يقول: يا أيها الناس: إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم «1» . ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر، وتبعه قومه على ذلك. وآذته قريش ورموه بالشعر والكهانة والجنون. ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه، ويجعل الدم على بابه. ووطىء عقبه بن أبى معيط على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان. وخنقوه خنقا شديدا، فقام أبو بكر دونه، فجذبوا رأسه ولحيته- صلى الله عليه وسلم- حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله. وقال ابن عمرو- كما فى البخارى-: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلف ثوبه فى عنقه فخنقه خنقا شديدا، فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وفى رواية ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ «2» «3» .

_ (1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 492، 4/ 341) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 61) ، والطبرانى فى «الأوسط» (1510) ، وفى «الكبير» (5/ 61 و 62) ، من حديث عباد الديلى رضى الله عنه-. (2) سورة غافر: 28. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3856) فى المناقب، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من المشركين بمكة.

وقد ذكر العلماء، أن أبا بكر- رضى الله عنه- أفضل من مؤمن آل فرعون، لأن ذاك اقتصر حيث انتصر على اللسان، وأما أبو بكر فأتبع اللسان يدا، ونصر بالقول والفعل محمدا- صلى الله عليه وسلم-. وأخرج مسلم من حديث أبى هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر «1» محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلى ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص» على عقبيه، ويتقى بيديه، فقيل له: ما لك؟ قال: إن بينى وبينه خندقا من نار، وهولا وأجنحة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، وأنزل الله إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى «3» إلى آخر السورة «4» . ولما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «5» جاءت امرأة أبى لهب، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو تنحيت عنها فإنها امرأة بذية، قال: «سيحال بينى وبينها» فقالت: يا أبا بكر، هجانا صاحبك، قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله، فاندفعت راجعة، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما رأتك، قال: «كان بينى وبينها ملك سترنى بجناحه حتى ذهبت» . رواه ابن أبى شيبة وأبو نعيم. وفى رواية البيهقى فقال- صلى الله عليه وسلم-: «قل لها: ترين عندى أحدا؟ فإنها لن ترانى» . وفى رواية أيضا: «كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى عند الكعبة، وجمع من قريش فى مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائى، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجىء به ثم يمهله حتى

_ (1) أى: يسجد ويلصق وجهه بالتراب. (2) أى: يرجع ماشيا إلى الوراء. (3) سورة العلق: 6- 19. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2797) فى صفة القيامة، باب: قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى. (5) سورة المسد: 1.

إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم، فلما سجد- صلى الله عليه وسلم- وضعه بين كتفيه، وثبت النبى- صلى الله عليه وسلم- ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهى جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبى- صلى الله عليه وسلم- ساجدا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال: «اللهم عليك بقريش ثم سمى فقال: اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية ابن خلف، وعقبة بن أبى معيط، وعمارة بن الوليد» . قال عبد الله: فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «وأتبع أصحاب القليب لعنة» «1» . واستدل بهذا الحديث: على أن من عرض له فى صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها فى الحال، ولا أثر لها صحت صلاته اتفاقا. واستدل به أيضا: على طهارة فرث ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض، وهو ضعيف. وأجاب النووى: بأنه- عليه السّلام- لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر فى سجوده، استصحابا لأصل الطهارة. وتعقب: بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة فى مثل هذه الصورة. وأجيب عنه: بأن الإعادة إنما تجب فى الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة فالوقت موسع فلعله أعاد. وتعقب: بأنه لو أعاد لنقل، ولم ينقل، وبأن الله لا يقره على صلاة فاسدة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (520) فى الصلاة، باب: المرأة تطرح عن المصلى شيئا من الأذى، ومسلم (1794) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين.

وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد فى المذكورين، لأنه لم يقتل فى بدر، بل ذكر أصحاب المغازى: أنه مات بأرض الحبشة، وله قصة مع النجاشى، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشى ساحرا فنفخ فى إحليل عمارة من سحره فتوحش، وصار مع البهائم إلى أن مات فى خلافة عمر. وأجيب: بأن كلام ابن مسعود- أنه رآهم صرعى فى القليب- محمول على الأكثر، ويدل عليه: أن عقبة بن أبى معيط لم يطرح فى القليب، وإنما قتل صبرا بعد أن رحلوا عن بدر بمرحلة. وأمية بن خلف لم يطرح فى القليب، كما سيأتى إن شاء الله تعالى. وقوله: ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «وأتبع أصحاب القليب لعنة» يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضى، فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة ويحتمل أن يكون قاله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن ألقوا فى القليب. ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان أعز فتى فى قريش، وأشده شكيمة، وكان إسلامه- فيما قاله العتقى- سنة ست، فعزّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وكفت عنه قريش قليلا، وقال حمزة حين أسلم: حمدت الله حين هدى فؤادى ... إلى الإسلام والدين الحنيف لدين جاء من رب عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف إذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذى اللب الحصيف رسائل جاء أحمد من هداها ... بايات مبينة الحروف وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف فلا والله نسلمه لقوم ... ولما نقض فيهم بالسيوف وعند مغلطاى: وسألوه- يعنى: النبى- صلى الله عليه وسلم- إن كنت تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا قد غلب عليك بذلنا أموالنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه فيك. فقال لهم- عليه السّلام-: «ما بى ما تقولون، لكن الله بعثنى رسولا، وأنزل

على كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربى، ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بينى وبينكم» «1» . والرئى- بفتح الراء، وقد تكسر، ثم همزة، فياء مشددة- جنى يرى فيحب، أو المكسورة للمحبوب منها، قاله فى القاموس. ثم إن النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط ذهبا إلى أحبار اليهود، فسألاهم عنه- صلى الله عليه وسلم- فقالوا لهما: سلاه عن ثلاثة، فإن أخبركما بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فهو متقول. سلاه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول، وعن رجل طواف، وعن الروح ما هو؟ فقال لهم- عليه السّلام-: «أخبركم غدا» ، ولم يقل إن شاء الله تعالى، فلبث الوحى أياما، ثم نزل قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» وأنزل الله تعالى ذكر الفتية الذين ذهبوا، وهم أصحاب الكهف، وذكر الرجل الطواف. وهو ذو القرنين. وقال فيما سألوه عن الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «3» الآية. وفى البخارى من حديث عبد الله بن مسعود قال: «بينا أنا مع النبى صلى الله عليه وسلم- فى حرث، وهو متكىء على عسيب، إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، قالوا: ما رابكم إليه، وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشىء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبى- صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامى فلما نزل الوحى قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «4» «5» .

_ (1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 313) . (2) سورة الكهف: 23، 24. (3) سورة الإسراء: 85. (4) سورة الإسراء: 85. (5) صحيح: أخرجه البخارى (125) فى العلم، باب: قول الله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، ومسلم (2794) فى صفة القيامة، باب: سؤال اليهود النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الروح.

قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضى- فيما يظهر من بادىء الرأى- أن هذه الآية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سألت اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة [الإسراء] كلها مكية. وقد يجاب عن هذا: بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. ومما يدل على نزولها بمكة ما رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت الحديث «1» . انتهى. وهذا الحديث رواه الترمذى أيضا بإسناد رجاله رجال مسلم. فيحمل على تعدد النزول كما أشار إليه ابن كثير، ويحمل سكوته فى المرة الثانية على توقع مزيد بيان فى ذلك. وقد اختلف فى المراد بالروح المسئول عنه فى هذا الخبر: فقيل: روح الإنسان. وقيل: جبريل. وقيل: عيسى. وقيل: ملك يقوم وحده صفّا يوم القيامة. وقيل: غير ذلك. وقال القرطبى: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح. وقال الإمام فخر الدين: المختار أنهم سألوه عن الروح الذى هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هى متحيزة أم لا؟ وهل هى حالة فى متحيز أم لا؟

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3140) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل (الإسراء) ، وأحمد فى «مسنده» (1/ 255) ، وابن حبان فى «صحيحه» (99) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 579) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وهل هى قديمة أو حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها، وغير ذلك من متعلقاتها. قال: وليس فى السؤال ما يخصص أحد هذه المعانى، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية. وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شىء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهى جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: «كن» ، فكأنه قال: هى موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه ولها تأثير فى إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه. قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر فى قوله تعالى: مِنْ أَمْرِ رَبِّي «1» الفعل، كقوله تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ «2» . أى فعله. فيكون الجواب: أنها حادثة. ثم قال: وقد سكت السلف عن البحث فى هذه الأشياء والتعمق فيها. انتهى. وقال فى فتح البارى: وقد تنطع قوم فتباينت أقوالهم: فقيل: هى النفس الداخل الخارج. وقيل: جسم لطيف، يحل فى جميع البدن. وقيل: هى الدم. وقيل: إن الأقوال فيها بلغت المائة. ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين: أن لكل نبى خمسة أرواح، ولكل مؤمن ثلاثة، ولكل حى واحدة. وقال ابن العربى: اختلفوا فى الروح والنفس، فقيل متغايران، وهو الحق، وقيل هما شىء واحد، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس «3» .

_ (1) سورة الإسراء: 85. (2) سورة هود: 97. (3) قاله الحافظ فى «الفتح» (8/ 403) .

وقال ابن بطال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه بدليل هذا الخبر. قال: والحكمة فى إبهامه: اختبار الخلق، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه. وقال القرطبى: الحكمة فى ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى. وقال بعضهم: ليس فى الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه- صلى الله عليه وسلم- على حقيقة الروح بل يحتمل أن يكون أطلعه الله ولم يأمره أن يطلعهم. وقد قالوا فى علم الساعة نحو هذا والله أعلم. انتهى. ولما كثر المسلمون، وظهر الإيمان، أقبل كفار قريش على من آمن يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم. حتى إنه مر عدو الله، أبو جهل، بسمية أم عمار بن ياسر، وهى تعذب فطعنها بحربة فى فرجها فقتلها. وكان أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشتراه منهم وأعتقه، منهم بلال وعامر بن فهيرة. وعن أبى ذر: كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمنعه الله بعمه أبى طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم فى الشمس، وإن بلالا هانت عليه نفسه فى الله عز وجل، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به فى شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد «1» . رواه أحمد فى مسنده.

_ (1) حسن: أخرجه ابن ماجه (150) فى المقدمة، باب: فضل سلمان وأبى ذر والمقداد، وأحمد فى «مسنده» (1/ 404) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7083) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 320) ، من حديث ابن سعد- رضى الله عنه-، وليس أبو ذر كما ذكر المصنف، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

وعن مجاهد مثله، وزاد فى قصة بلال: وجعلوا فى عنقه حبلا ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به حتى أثر الحبل فى عنقه. فانظر كيف فعل ببلال ما فعل من الإكراه على الكفر، وهو يقول أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وهذا كما وقع له أيضا عند موته، كانت امرأته تقول: واحزناه وهو يقول: واطرباه. غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء. ولله در أبى محمد الشقراطسى حيث قال: لاقى بلال بلاء من أمية قد ... أحله الصبر فيه أكرم النزل إذ أجهدوه بضنك الأسر وهو على ... شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل ألقوه بطحا برمضاء البطاح وقد ... عالوا عليه صخور جمة الثقل فوحد الله إخلاصا وقد ظهرت ... بظهره كندوب الطل فى الطلل إن قدّ ظهر ولى الله من دبر ... قد قدّ قلب عدو الله من قبل يعنى إن كان ظهر ولى الله بلال قد ظهر فيه التعذيب بقده، فقد جوزى عدو الله أمية وقد قلبه ببدر، لأنه قتل يومئذ، وكان عبد الرحمن بن عوف قد أسره يومئذ وأراد استبقاءه لأخوة كانت بينهما فى الجاهلية، فرآه بلال معه فصاح بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا فنهشوه بأسيافهم حتى قتلوه. وأخرج البيهقى عن عروة أن أبا بكر أعتق ممن كان يعذب فى الله سبعة منهم، الزنيرة، فذهب بصرها، وكانت ممن تعذب فى الله، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كلا والله ما هو كذلك فرد الله عليها بصرها. والزنيرة: بكسر الزاى وتشديد النون المكسورة. كسكينة: كذا فى القاموس.

[هجرته صلى الله عليه وسلم]

[هجرته صلى الله عليه وسلم] ثم أذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه فى الهجرة إلى الحبشة، وذلك فى رجب سنة خمس من النبوة. فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا- وقيل اثنى عشر رجلا- وأربع نسوة- وقيل: وخمس نسوة، وقيل وامرأتين-. وأميرهم عثمان بن مظعون، وأنكر ذلك الزهرى وقال: لم يكن لهم أمير. وخرجوا مشاة إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار. وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خبرهما، فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. فلما رأت قريش استقرارهم فى الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصى، وعبد الله بن أبى ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشى واسمه أصحمة- وكان معهما عمارة بن الوليد، ليردهم إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما خائبين بهديتهما. وأسلم عمر بن الخطاب بعد حمزة بثلاثة أيام فيما قاله أبو نعيم بدعوته صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أعز الإسلام بأبى جهل أو بعمر بن الخطاب» «1» وكان المسلمون إذ ذاك بضعة وأربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3681) فى المناقب، باب: فى مناقب عمر بن الخطاب رضى الله عنه-، وأحمد فى «مسنده» (2/ 95) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6881) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 89) ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وكان سبب إسلامه- فيما ذكره أسامة بن زيد عن أبيه عن جده عن عمر- أنه قال: بلغنى إسلام أختى فدخلت عليها، فقلت يا عدوة نفسها، قد بلغنى عنك أنك صبوت «1» ، ثم ضربتها، فسال الدم فلما رأت الدم بكت وقالت: يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت. قال: فدخلت وأنا مغضب فإذا كتاب فى ناحية البيت، فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالصحيفة من يدى، قال: ثم رجعت إليها فإذا فيها سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتى بلغت آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ «2» فقلت: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا منى، فجئت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيت فى أسفل الصفا، فدخلت وأخذ رجلان بعضدى حتى دنوت من النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أرسلوه» فأرسلونى فجلست بين يديه، فأخذ بمجمع ثيابى فجذبنى إليه ثم قال: «أسلم يابن الخطاب، اللهم اهد قلبه» فقلت: أشهد ألاإله إلا الله وأنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة «3» . وكان الرجل إذا أسلم استخفى ثم خرجت إلى رجل لم يكن يكتم السر، فقلت له إنى صبوت، قال فرفع صوته بأعلاه: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، فما زال الناس يضربونى وأضربهم، فقال خالى: ما هذا؟ قالوا: ابن الخطاب، فقام على الحجر وأشار بكمه فقال: ألا إنى قد أجرت ابن اختى، فانكشف الناس عنى، قال: فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام.

_ (1) أى: خرجتى عن دينك إلى دين آخر. (2) سورة الحديد: 1- 7. (3) انظر «سيرة ابن هشام» (1/ 366) .

قال ابن عباس: لما أسلم عمر قال جبريل للنبى- صلى الله عليه وسلم-: يا محمد، لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر «1» . رواه ابن ماجه. ولما رأت قريش عزة النبى- صلى الله عليه وسلم- بمن معه، وإسلام عمر، وعزة أصحابه بالحبشة، وفشو الإسلام فى القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم-، فبلغ أبا طالب، فجمع بنى هاشم وبنى المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم- شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية. فلما رأت قريش ذلك اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب: ألاينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا حتى يسلموا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للقتل. وكتبوه فى صحيفة بخط منصور بن عكرمة- وقيل بغيض بن عامر- فشلت يده، وعلقوا الصحيفة فى جوف الكعبة، هلال المحرم سنة سبع من النبوة. فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فدخلوا معه فى شعبه، إلا أبا لهب فكان مع قريش. فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، وقال ابن سعد: سنتين حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شىء إلا سرّا. وقدم نفر من مهاجرة الحبشة، حين قرأ- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّجْمِ إِذا هَوى حتى بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «2» ألقى الشيطان فى أمنيته أى فى تلاوته: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فلما

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1030) فى المقدمة، باب فضل عمر- رضى الله عنه-، والحاكم فى مستدركه (3/ 90) ، والطبرانى فى الكبير (11/ 80) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4765) . (2) سورة النجم: 1- 20.

ختم السورة «سجد- صلى الله عليه وسلم- وسجد معه المشركون» «1» لتوهمهم أنه ذكر آلهتهم بخير، وفشا ذلك فى الناس، وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه. وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا معه- صلى الله عليه وسلم-، وقد أمن المسلمون بمكة، فأقبلوا سراعا من الحبشة. والغرانيق فى الأصل: الذكور من طير الماء واحدها: غرنوق وغرنيق، سمى به لبياضه. وقيل: هو الكركى. والغرنوق أيضا: الشاب الأبيض الناعم. وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله، وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التى تعلوا فى السماء وترتفع. ولما تبين للمشركين عدم ذلك، رجعوا إلى أشد ما كانوا عليه. وقد تكلم القاضى عياض- رحمه الله- فى «الشفاء» على هذه القصة وتوهين أصلها بما يشفى ويكفى، لكن تعقب فى بعضه كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. وقال الإمام فخر الدين الرازى- مما لخصته من تفسيره- هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها. قال الله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2» . وقال الله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «3» . وقال البيهقى: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعونون.

_ (1) ضعيف جدّا: وقد قال الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (3/ 230) : طرقه كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم، ا. هـ. وكذا انظر كلام الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (8/ 439) ، وقد ذكره المصنف بعد قليل على طوله. (2) سورة النجم: 3، 4. (3) سورة الأعلى: 6.

وأيضا: فقد روى البخارى فى صحيحه أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة النجم وسجد، وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق، بل روى هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق. ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان فى نفى الأوثان، ولو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا فى كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك. ويبطل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «1» . فإنه لا فرق فى الفعل بين النقصان فى الوحى وبين الزيادة فيه. فبهذه الوجوه، عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. وقد قيل: إن هذه القصة من وضع الزنادقة لا أصل لها. انتهى. وليس كذلك. بل لها أصل. فقد خرجها: ابن أبى حاتم، والطبرى، وابن المنذر، من طرق عن شعبة، عن ابن بشر، عن سعيد بن جبير. وكذا ابن مردويه، والبزار، وابن إسحاق فى السيرة، وموسى بن عقبة فى المغازى، وأبو معشر فى السيرة. كما نبه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره، لكن قال: إن طرقها كلها مرسلة وأنه لم يرها مسندة من وجه صحيح «2» . وهذا متعقب بما سيأتى: وكذا نبه على ثبوت أصلها شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل العسقلانى فقال: أخرج ابن أبى حاتم والطبرى وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبى

_ (1) سورة المائدة: 67. (2) قاله فى «تفسيره» (3/ 230) .

بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، بمكة والنجم، فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «2» الآية. وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال: فى إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فيما أحسب، ثم ساق الحديث. وقال البزار: لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد. وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور «3» . قال، وإنما يروى هذا من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس. انتهى، والكلبى متروك لا يعتمد عليه. وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدى. وذكرها ابن إسحاق فى السيرة مطولا، وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك عن موسى بن عقبة فى المغازى عن ابن شهاب الزهرى. وكذا أبو معشر فى السيرة له عن محمد بن كعب القرظى ومحمد بن قيس وأورده من طريق الطبرى. وأورده ابن أبى حاتم من طريق أسباط عن السدى. ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب عن يحيى بن كثير عن الكلبى عن أبى صالح، وعن أبى بكر الهذلى، وأيوب عن عكرمة، وعن سليمان التيمى عمن حدثه، ثلاثتهم عن ابن عباس. وأوردها الطبرى أيضا من طريق العوفى عن ابن عباس. ومعناهم كلهم فى ذلك واحد.

_ (1) سورة النجم: 19، 20. (2) سورة الحج: 52. (3) انظر «مجمع الزوائد» للهيثمى (7/ 71، 115) .

وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع. لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا. مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح. أحدهما: ما أخرجه الطبرى من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب: حدثنى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه. والثانى: ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة كلاهما عن داود بن أبى هند، عن أبى العالية. قال الحافظ ابن حجر: وقد تجرأ ابن العربى- كعادته- فقال: ذكر الطبرى فى ذلك روايات كثيرة لا أصل لها. وهو إطلاق مردود عليه. وكذا قول القاضى عياض: «هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته وانقطاع إسناده» . وكذا قوله: «ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فى ذلك ضعيفة واهية» . قال: «وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره، إلا طريق أبى بشر عن سعيد بن جبير، مع الشك الذى وقع فى وصله وأما الكلبى فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه» . «ثم رده من طريق النظر: بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم. قال: ولم ينقل ذلك» . انتهى. وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد: فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا. وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهى مراسيل

يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض. وإذا تقرر ذلك: تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره، لأنه يستحيل عليه- صلى الله عليه وسلم- أن يزيد فى القرآن عمدا ما ليس فيه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته. وقد سلك العلماء فى ذلك مسالك: فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة، وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم الله آياته، وهذا أخرجه الطبرى عن قتادة. ورده القاضى: عياض: بأنه لا يصح، لكونه لا يجوز على النبى صلى الله عليه وسلم- ذلك، ولا ولاية للشيطان عليه فى النوم. وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره. ورده ابن العربى بقوله تعالى، حكاية عن الشيطان: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «1» الآية، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقى لأحد قوة على طاعة. وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك، فعلق بحفظه صلى الله عليه وسلم- فجرى ذلك على لسانه لما ذكرهم سهوا. وقد رد ذلك القاضى عياض فأجاد. وقيل: لعله قال ذلك توبيخا للكفار. قال القاضى عياض: وهذا جائز إذا كانت قرينة تدل على المراد، ولا سيما وقد كان الكلام فى ذلك الوقت جائزا فى الصلاة. وإلى هذا نحا الباقلانى.

_ (1) سورة إبراهيم: 22.

وقيل: إنه لما وصل إلى قوله: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» . خشى المشركون أن يأتى بعدها بشىء يذم آلهتهم به فبادروا إلى ذلك الكلام، فخلطوه فى تلاوة النبى- صلى الله عليه وسلم- على عادتهم فى قوله: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) ونسب ذلك إلى الشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك. أو المراد بالشيطان شيطان الإنس. وقيل المراد بالغرانيق العلى، الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله، ويعبدونها، فنسق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى «2» فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: إنه عظم آلهتنا ورضوا بذلك، فنسخ الله تينك الكلمتين وأحكم آياته. وقيل: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يرتل القرآن، فارتصده الشيطان فى سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمة النبى- صلى الله عليه وسلم- بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله، وأشاعها. قال: وهذا أحسن الوجوه، ويؤيد ما ورد عن ابن عباس فى تفسير «تمنى» ب «تلا» . وكذا استحسن ابن العربى هذا التأويل وقال: معنى قوله: فى أمنيته، أى فى تلاوته، فأخبر الله تعالى فى هذه الآية أن سنة الله فى رسله، إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نص فى أن الشيطان زاد فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-، لا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قاله. وقد سبق إلى ذلك الطبرى، مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده فى النظر، فصوب هذا المعنى. انتهى» . ثم هاجر المسلمون الثانية إلى أرض الحبشة. وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم، وثمانى عشرة امرأة.

_ (1) سورة النجم: 20. (2) سورة النجم: 21. (3) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (8/ 439- 440) .

وكان معهم عبيد الله بن جحش مع امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان، فتنصر هناك ثم توفى على دين النصرانية. وتزوج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة بنت أبى سفيان سنة سبع من الهجرة إلى المدينة، وهى بالحبشة كما سيأتى إن شاء الله تعالى فى المقصد الثانى عند ذكر أزواجه- صلى الله عليه وسلم-. وخرج أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- مهاجرا إلى الحبشة حتى بلغ برك الغماد «1» ورجع فى جوار سيد القارة، مالك بن الدغنة- بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة، وتخفيف النون. وبضم الدال والغين وتشديد النون- يعبد ربه فى داره، وابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه. وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فقالوا لابن الدغنة: إنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربّه فى داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك. فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإنى أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله «2» . الحديث رواه البخارى. ثم قام رجال فى نقض الصحيفة، فأطلع الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- على أن الأرضة «3» أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا اسم الله تعالى فقط، فلما أنزلت لتمزق وجدت كما قال- صلى الله عليه وسلم- وذلك فى السنة العاشرة.

_ (1) موضع بين مكة وزبيد، وقيل غير ذلك. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2298) فى الكفالة، باب: جوار أبى بكر فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم- وعقده، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) الأرضة: دودة بيضاء شبه النمل تأكل الخشب خاصة، ومنها نوع مثل كبار النمل ذوات أجنحة، تأكل الخشب وغيره، غير أنها لا تعرض للرطب، وهى ذات قوائم.

ولما أتت عليه- صلى الله عليه وسلم- تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، مات عمه أبو طالب، وله سبع وثمانون سنة. وقيل فى النصف من شوال من السنة العاشرة. وقال ابن الجزار: قبل هجرته- عليه الصلاة والسلام- بثلاث سنين. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول له عند موته: يا عم قل لا إله إلا الله. كلمة أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة. فلما رأى أبو طالب حرص الرسول- صلى الله عليه وسلم- قال له: والله يابن أخى، لولا مخافة قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها. فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه فقال: يابن أخى، والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بها فقال صلى الله عليه وسلم-: لم أسمعه. كذا رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت. ورواه البيهقى فى الدلائل من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثنا العباس عن عبد الله بن معبد بن عباس عن بعض أهله عن ابن عباس فذكره «1» ، وقال البيهقى: إنه منقطع. وأجيب عنه: بأن شهادة العباس لأبى طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ولم ترد بقوله- صلى الله عليه وسلم- لم أسمع، لأن الشاهد العدل إذا قال سمعت وقال من هو أعدل منه: لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع. ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم. مع أن الصحيح من الحديث قد أثبت لأبى طالب الوفاة على الكفر والشرك، كما روينا فى صحيح البخارى من حديث سعيد بن المسيب. حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا

_ (1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 346) بسند ضعيف للجهالة فيه.

أُولِي قُرْبى «1» . وأنزل الله فى أبى طالب، فقال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «2» . وأجيب أيضا بأن أبا طالب لو قال كلمة التوحيد، ما نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم- عن الاستغفار له. وفى الصحيح عن العباس أنه قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح «3» . وفى رواية الصحيح أيضا أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه «4» . وفى رواية يونس عن ابن إسحاق زيادة فقال: يغلى منه دماغه حتى يسيل على قدميه. قال السهيلى: من باب النظر فى حكمة الله، ومشاكلة الجزاء للعمل، أن أبا طالب كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بجملته متحزبا له، إلا أنه كان متثبتا بقدميه على ملة عبد المطلب، حتى قال عند الموت: أنا على ملة عبد المطلب، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه. ثبتنا الله على الصراط المستقيم. وفى شرح التنقيح للقرافى: الكفار أربعة أقسام، فذكر منها من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما حكى عن أبى طالب أنه كان

_ (1) سورة التوبة: 113. (2) سورة القصص: 56. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3883) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (209) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى- صلى الله عليه وسلم- لأبى طالب والتخفيف عنه بسببه. (4) صحيح: أخرجه البخارى (3885) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (21) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى- صلى الله عليه وسلم- لأبى طالب، والتخفيف عنه بسببه، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.

يقول: إنى لأعلم أن ما يقوله ابن أخى لحق، ولولا أنى أخاف أن تعيرنى نساء قريش لاتبعته. وفى شعره يقول: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... يقينا ولا يعزى لقول الأباطل فإن هذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن. انتهى. وحكى عن هشام بن السائب الكلبى، أو أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جمع إليه وجوه قريش، فأوصاهم فقال: يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه. إلى أن قال: وإنى أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين فى قريش، والصديق فى العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنان «1» ، وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر والأطراف، والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصغت له فؤادها، وأعطته قيادها، يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسى مدة ولأجلى تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهى. ثم هلك. ثم بعد ذلك بثلاثة أيام- وقيل: بخمسة- فى رمضان بعد البعثة بعشر سنين، على الصحيح، ماتت خديجة- رضى الله عنها-. وكان- صلى الله عليه وسلم- يسمى ذلك العام عام الحزن، فيما ذكر صاعد وكانت مدة إقامتها معه- صلى الله عليه وسلم- خمسا وعشرين سنة على الصحيح. ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج- عليه السّلام- سودة بنت زمعة. ثم خرج- عليه السّلام- إلى الطائف بعد موت خديجة بثلاثة أشهر، فى ليال

_ (1) الشنان: البغض.

بقين من شوال، سنة عشر من النبوة. لما ناله من قريش بعد موت أبى طالب. وكان معه زيد بن حارثة. فأقام به شهرا، يدعو ثقيف إلى الله تعالى فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه. قال موسى بن عقبة: ورجموا عراقيبه «1» بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء، زاد غيره: وكان إذا أزلفته الحجارة قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج فى رأسه شجاجا. وفى البخارى ومسلم من حديث عائشة أنها قالت للنبى- صلى الله عليه وسلم-، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، قال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت- وأنا مهموم على وجهى، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى، فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل- عليه السّلام-، فنادانى» . فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فنادانى ملك الجبال، فسلم علىّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين «2» قال- صلى الله عليه وسلم-: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» «3» . وعبد ياليل- بالتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم

_ (1) العرقوب: ما فويق العقب من قدم الإنسان. (2) الأخشبان: الجبلان المحيطان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل شرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ الحجارة. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3231) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (1795) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين.

لام- ابن عبد كلال- بضم الكاف وتخفيف اللام آخره لام- وكان ابن عبد ياليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف. وقرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل. وأفاد ابن سعد: أن مدة إقامته- صلى الله عليه وسلم- بالطائف كانت عشرة أيام. ولما انصرف- صلى الله عليه وسلم- عن أهل الطائف، مر فى طريقه بعتبة وشيبة ابنى ربيعة وهما فى حائط لهما، فلما رأيا ما لقى تحركت له رحمهما، فبعثا له مع عداس النصرانى- غلامهما- قطف عنب، فلما وضع- صلى الله عليه وسلم- يده فى القطف قال: بسم الله، ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أى البلاد أنت. وما دينك؟» قال نصرانى من نينوى. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» قال: وما يدريك؟ قال: «ذاك أخى، وهو نبى مثلى» . فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلها وأسلم. ولما نزل نخلة- وهو موضع على ليلة من مكة- صرف الله إليه سبعة من جن نصيبين- مدينة بالشام- وكان- صلى الله عليه وسلم- قد قام فى جوف الليل يصلى فاستمعوا له وهو يقرأ سورة الجن. وفى الصحيح أن الذى آذنه- صلى الله عليه وسلم- بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما، وكل بعر علف لدوابكم «1» . وفى هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب. وذكر صاحب الروض من أسماء السبعة الذين أتوه- صلى الله عليه وسلم-، عن ابن دريد: منشى وناشى وشاصر وماضر والأحقب. لم يزد تسمية على هؤلاء. قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر ابن إسحاق خروجه- عليه السّلام- إلى أهل

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (450) فى الصلاة، باب: الجهر بالقراءة فى الصبح، والقراءة على الجن، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.

الطائف ودعاءه إياهم، وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن من أهل نصيبين. قال: وهذا صحيح، لكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم فى ابتداء الإيحاء، ويدل له حديث ابن عباس عند أحمد قال: كان الجن يستمعون الوحى فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوه حقّا وما زادوه باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أحدهم لا يأتى مقعده إلا رمى بشهاب يحرق ما أصاب منه، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبعث جنوده فإذا النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى بين جبلى نخلة فأخبروه فقال: «هذا الحدث الذى حدث فى الأرض» «1» . ورواه النسائى وصححه الترمذى. قال: وخروجه- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف كان بعد موت عمه. وروى ابن أبى شيبة عن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، فأنزل الله عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «2» . فهذا مع رواية ابن عباس تقتضى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يشعر بحضورهم فى هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا، قوما وفوجا بعد فوج. انتهى. وفى طريقه- عليه السّلام- هذه، دعا بالدعاء المشهور: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، إلى من

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3324) فى التفسير، من سورة الجن وأحمد فى «مسنده» (1/ 274) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 46) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) سورة الأحقاف: 29.

تكلنى إلى عدو بعيد يتجهمنى أم إلى صديق قريب ملكته أمرى، إن لم تكن غضبان على فلا أبالى، غير أن عافيتك أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بى غضبك، أو يحل بى سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» «1» . أورده ابن إسحاق، ورواه الطبرانى فى كتاب الدعاء عن عبد الله بن جعفر قال: لما توفى أبو طالب، خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- ماشيا إلى الطائف، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إليك أشكو. فذكره. وقوله: يتجهمنى- بتقديم الجيم على الهاء- أى يلقانى بالغلظة والوجه الكريه. ثم دخل- صلى الله عليه وسلم- مكة فى جوار المطعم بن عدى. ولما كان فى شهر ربيع الأول أسرى بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات، ورأى ربه بعينى رأسه «2» ، وأوحى الله إليه ما أوحى، وفرض عليه الصلوات الخمس، ثم انصرف فى ليلته إلى مكة. فأخبر بذلك، فصدقه الصديق، وكل من آمن بالله. وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس، فمثله الله له، فجعل ينظر إليه ويصفه «3» .

_ (1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» ، وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات، كما فى «المجمع» (6/ 35) . (2) قلت: جمهور السلف، على أن رؤية الله عز وجل مستحيلة فى الحياة الدنيا، لقوله عز وجل لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ الآية، ولحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى رواه مسلم (291) عن أبى ذر: قلت هل رأيت ربك يا رسول الله؟ قال: نور أنى أراه؟ وهو تصريح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينفى إمكانية الرؤية فى الحياة الدنيا، ولكن إشكال هذا الأمر هو ما ورد عن ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- رأى ربه، فالراجح من قوله أنه لعله يقصد رؤية القلب، لا رؤية العين، وهذا جائز عندنا. (3) انظر «السيرة» لابن هشام (2/ 36) .

قال الزهرى: وكان ذلك بعد المبعث بخمس سنين. حكاه عنه القاضى عياض، ورجحه القرطبى والنووى. واحتج: بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء. وتعقب: بأن موت خديجة بعد البعثة بعشر سنين على الصحيح فى رمضان، وذلك قبل أن تفرض الصلاة. ويؤيده إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما التردد فى سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين قاله الحافظ ابن حجر. وقيل: قبل الهجرة بسنة. قاله ابن حزم، وادعى فيه الإجماع. وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السدى وأخرجه من طريقه الطبرى والبيهقى، فعلى هذا كان فى شوال. وقيل: كان فى رجب. حكاه ابن عبد البر، وقبله ابن قتيبة، وبه جزم النووى فى الروضة. وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، فعلى هذا يكون فى ذى الحجة، وبه جزم ابن فارس. وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكره ابن الأثير. وقال الحربى: إنه كان فى سابع عشرى ربيع الآخر، وكذا قال النووى فى فتاويه، لكن قال فى شرح مسلم: فى ربيع الأول. وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب، واختاره الحافظ عبد الغنى ابن سرور المقدسى. وأما اليوم الذى يسفر عن ليلتها، فقيل الجمعة، وقيل السبت وعن ابن دحية: يكون إن شاء الله يوم الاثنين، ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات: وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة.

وسيأتى- إن شاء الله تعالى- فى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث والله الموفق والمعين. ولما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج صلى الله عليه وسلم- فى الموسم الذى لقى فيه الأنصار- الأوس والخزرج-. فعرض نفسه- صلى الله عليه وسلم- على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة، لقى رهطا من الخزرج، أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: «من أنتم» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أفلا تجلسون أكلمكم» قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن «1» . وكان من صنع الله، أن اليهود كانوا معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا: إن نبيّا سيبعث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه. فلما كلمهم النبى صلى الله عليه وسلم- عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا اليهود إليه. فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، فأسلم منهم ستة نفر وكلهم من الخزرج وهم: أبو أمامة، أسعد بن زرارة. وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء. ورافع بن مالك بن العجلان. وقطبة بن عامر بن حديدة. وعقبة بن عامر بن نابى. وجابر بن عبد الله بن رئاب، وليس بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام.

_ (1) انظر «السيرة» لابن هشام (2/ 63) .

ومن أهل العلم بالسير، من يجعل فيهم عبادة بن الصامت ويسقط جابر ابن رئاب. فقال لهم النبى- صلى الله عليه وسلم-: «تمنعون ظهرى حتى أبلغ رسالة ربى» . فقالوا: يا رسول الله، إنما كانت بعاث عام الأول، يوم من أيامنا، اقتتلنا به، فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع، فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا، لعل الله أن يصلح ذات بيننا، وندعوهم إلى ما دعوتنا، فعسى الله أن يجمعهم عليك، فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك، وموعدك الموسم العام القابل. وانصرفوا إلى المدينة. ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا- وفى الإكليل: أحد عشر- وهى العقبة الثانية، فيهم خمسة من الستة المذكورين، وهم: أبو أمامة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابى، ولم يكن فيهم جابر بن عبد الله بن رئاب لم يحضرها. والسبعة تتمة الاثنى عشر هم: معاذ بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور. وذكوان بن عبد قيس الزرقى، وقيل إنه رحل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجرى أنصارى قتل يوم أحد. وعبادة بن الصامت بن قيس. وأبو عبد الرحمن، ويزيد بن ثعلبة البلوى. والعباس بن عبادة بن نضلة. وهؤلاء من الخزرج، ومن الأوس رجلان: أبو الهيثم بن التيهان، من بنى عبد الأشهل. وعويم بن ساعدة.

فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، أى وفق بيعتهم التى نزلت بعد ذلك عند فتح مكة وهى: ألانشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا ولا نأتى ببهتان نفترينه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف، والسمع والطاعة فى العسر واليسر، والمنشط والمكره وأثره علينا، وألاننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا لا نخاف فى الله لومة لائم. قال صلى الله عليه وسلم-: «فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشى من ذلك شيئا كان أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه» «1» ولم يفرض يومئذ القتال. ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام. وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم. وكتبت الأوس والخزرج إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-: ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير. وروى الدار قطنى عن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير أن يجمع بهم.. الحديث، وكانوا أربعين رجلا. فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصار، وأسلم فى جماعتهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وأسلم بإسلامهما جميع بنى عبد الأشهل فى يوم واحد، الرجال والنساء، ولم يبق منهم أحد إلا أسلم، حاشا الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخر بإسلامه إلى يوم أحد، فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة واحدة، وأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة. ولم يكن فى بنى عبد الأشهل منافق ولا منافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين- رضى الله عنهم-. ثم قدم على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى العقبة الثالثة فى العام المقبل فى ذى الحجة، أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا- وقال ابن سعد: يزيدون رجلا أو رجلين- وامرأتان.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى بنحوه (18) فى الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار، ومسلم (1709) فى الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها، من حديث عبادة بن الصامت- رضى الله عنه-.

وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون وامرأتان. وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا. فكان أول من ضرب على يده الشريفة- عليه السّلام- البراء بن معرور. ويقال: أبو الهيثم، ويقال أسعد بن زرارة، على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وعلى حرب الأحمر والأسود. وكانت أول آية نزلت فى الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ «1» الآية، وفى الإكليل إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» الآية. ونقب عليهم اثنى عشر نقيبا. وفى حديث جابر عند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان: مكث- صلى الله عليه وسلم- عشر سنين يتتبع الناس فى منازلهم فى المواسم بمنى وغيرها، يقول: من يؤوينى؟ من ينصرنى حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة؟ حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فذكر الحديث. وفيه: وعلى أن تنصرونى إذا قدمت عليكم بيثرب، فتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة «3» الحديث. وحضر العباس العقبة تلك الليلة متوثقا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومؤكدا على أهل يثرب، وكان يومئذ على دين قومه. قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة، وكانت سرّا عن كفار قريش، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من كان معه بالهجرة إلى المدينة. فخرجوا أرسالا، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له فى الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد، قبل بيعة العقبة بسنة،

_ (1) سورة الحج: 39. (2) سورة التوبة: 111. (3) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 322) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7012) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 681) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال.

قدم من الحبشة لمكة، فاذاه أهلها، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار فخرج إليهم. ثم عامر بن ربيعة وامرأته ليلى، ثم عبد الله بن جحش. ثم المسلمون أرسالا، ثم عمر بن الخطاب وأخوه زيد وعياش بن أبى ربيعة فى عشرين راكبا، فقدموا المدينة فنزلوا فى العوالى. ثم خرج عثمان بن عفان، حتى لم يبق معه- صلى الله عليه وسلم- إلا على بن أبى طالب وأبو بكر. كذا قاله ابن إسحاق، قال مغلطاى وفيه نظر لما يأتى بعده. وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الهجرة فيقول: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكون هو. ثم اجتمعت قريش ومعهم إبليس، فى صورة شيخ نجدى فى دار الندوة، دار قصى بن كلاب، وكانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون فى أمره- عليه الصلاة والسلام-، فاجتمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك. فإن قيل: لم تمثل الشيطان فى صورة نجدى؟ فالجواب: لأنهم قالوا- كما ذكره بعض أهل السير- لا يدخلن معكم فى المشاورة أحد من أهل تهامة، لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل فى صورة نجدى. انتهى. ثم أتى جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر- صلى الله عليه وسلم- عليّا فنام مكانه، وغطى ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه فى الله ووقى بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفى ذلك يقول على: وقيت بنفسى خير من وطىء الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر

ثم خرج- صلى الله عليه وسلم-، وقد أخذ الله على أبصارهم، فلم يره أحد منهم، ونثر على رؤسهم كلهم ترابا كان فى يده، وهو يتلو قوله تعالى: يس إلى قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» . ثم انصرف- عليه السّلام- حيث أراد. فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدا، قال: قد خيبكم الله، قد والله خرج محمد عليكم، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب. وفى رواية أبى حاتم، مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا. وفى هذه نزل قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ «2» الآية. ثم أذن الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم- فى الهجرة. قال ابن عباس: بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً «3» «4» . أخرجه الترمذى وصححه الحاكم. فإن قلت ما الحكمة فى هجرته- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل؟ أجيب: بأن حكمة الله تعالى قد اقتضت أنه- عليه السّلام- تتشرف به الأشياء، لا أنه يتشرف بها، فلو بقى- عليه السّلام- فى مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بمكة، إذ أن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل،

_ (1) سورة يس: 1- 9. (2) سورة الأنفال: 30. (3) سورة الإسراء: 80. (4) أخرجه الترمذى (2139) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وأحمد فى «مسنده» (1/ 223) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 4) ، وصححه الحاكم والترمذى.

فأراد الله تعالى أن يظهر شرفه- عليه السّلام- فأمره بالهجرة إلى المدينة، فلما هاجر إليها تشرفت به، حتى وقع الإجماع على أن أفضل البقاع الموضع الذى ضم أعضاءه الكريمة- صلوات الله وسلامه عليه-. وذكر الحاكم أن خروجه- عليه السّلام- كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها. وجزم ابن إسحاق: بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول. فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم الأموى- فى المغازى- عن ابن إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال. قال: وخرج لهلال ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. قال فى فتح البارى: وعلى هذا خرج يوم الخميس. وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمى قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. ويجمع بينهما: بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، لأنه أقام فيه ثلاث ليال: ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين. وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة، ويدل عليه قول صرمة: ثوى فى قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وقيل غير ذلك. وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر. وأخبر- عليه السّلام- عليّا بمخرجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدى عنه الودائع التى كانت عنده للناس. قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن جلوس يوما فى بيت أبى بكر فى نحر الظهيرة قال قائل لأبى بكر: هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

متقنعا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداء له أبى وأمى، والله ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له فدخل، فقال- صلى الله عليه وسلم- لأبى بكر: «أخرج من عندك» ، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبى وأمى يا رسول الله. قال السهيلى: وذلك أن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه- صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنه قد أذن لى فى الخروج» . فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت وأمى يا رسول الله. قال- صلى الله عليه وسلم-: «نعم» . فقال أبو بكر: فخذ بأبى أنت وأمى يا رسول الله إحدى راحلتى هاتين. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: بل بالثمن «1» . فإن قلت: لم لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقبل؟ أجيب: بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السّلام- فى استكمال فضل الهجرة إلى الله، وأن يكون على أتم الأحوال. انتهى. قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة من جراب فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت بها على فم الجراب فبذلك سميت بذات النطاقين. قالت: ثم لحق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار ثور- جبل بأسفل مكة-.

_ (1) أخرجه بنحوه البخارى (2138) فى البيوع، باب: إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض.

وكان من قوله- صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة، لما وقف على الحزورة، ونظر إلى البيت فقال: «والله إنك لأحب أرض الله إلى، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» «1» . وهذا من أصح ما يحتج به فى تفضيل مكة على المدينة. ولم يعلم بخروجه- عليه السّلام- إلا على وآل أبى بكر. وروى أنهما خرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته ليلا إلى الغار. ولما فقدت قريش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طلبوه بمكة، أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة أثره فى كل وجه، فوجد الذى ذهب قبل ثور أثره هنا لك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى إلى ثور. وشق على قريش خروجه وجزعوا لذلك، وجعلوا مائة ناقة لمن رده. ولله در الشيخ شرف الدين البوصيرى حيث قال: ويح قوم جفوا نبيّا بأرض ... ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه ... وقلوه ووده الغرباء أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء وكفته بنسجها عنكبوت ... ما كفته الحمامة الحصداء يقال شجرة حصداء: أى كثيرة الورق، فكأنه استعاره للحمامة لكثرة ريشها. وفى حديث مروى فى الهجرة أنه- عليه السّلام- ناداه ثبير: اهبط عنى، فإنى أخاف أن تقتل على ظهرى فأعذب، فناداه حراء: إلىّ يا رسول الله. وذكر قاسم بن ثابت فى الدلائل أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما دخل الغار

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3925) فى المناقب، باب: فى فضل مكة، وابن ماجه (3108) فى المناسك، باب: فضل مكة، وأحمد فى «مسنده» (4/ 305) ، وابن حبان فى «صحيحه» (3708) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 8 و 315) ، من حديث عدى بن حمراء الزهرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وأبو بكر معه، أنبت الله على بابه الراءة. قال قاسم: وهى شجرة معروفة، وهى أم غيلان. وعن أبى حنيفة «1» : تكون مثل قامة الإنسان لها خيطان وزهر أبيض تحشى به المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه، لأنه كالقطن، فحجبت عن الغار أعين الكفار. وفى مسند البزار: أن الله عز وجل أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وأن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين «2» . ثم أقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، فجعل بعضهم ينظر فى الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه فقالوا له: مالك؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد. وقال آخر: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: ما أربكم إلى الغار، إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد» . وقد روى أن الحمامتين باضتا فى أسفل النقب ونسج العنكبوت، فقالوا: لو دخلا لتكسر البيض وتفسخ نسج العنكبوت. وهذا أبلغ فى الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود. فتأمل كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت الطالب، وجاءت العنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان فحاكت ثوب نسجها، فحاكت سترا حتى عمى على القائف الطلب ولله در القائل: والعنكبوت أجادت حوك حلتها ... فما تخال خلال النسج من خلل

_ (1) هو: أحمد بن داود الدينورى النحوى، تلميذ ابن السكيت، ألف فى اللغة والنحو والهندسة، مات سنة (282 هـ) وهو غير الإمام أبى حنيفة صاحب المذهب المشهور. (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 231) بنحوه وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، ومصعب المكى، والذى روى عنه، وهو عوين بن عمرو القيسى لم أجد من ترجمهما، وبقية رجاله ثقات. (3) انظر ما قبله.

ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك، وما أحسن قول ابن النقيب: ودود القز إن نسجت حريرا ... يجمل لبسه فى كل شى فإن العنكبوت أجل منها ... بما نسجت على رأس النبى وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم أعم أبصارهم» «1» ، فعميت عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار. وهذا يشير إليه قول صاحب البردة: أقسمت بالقمر المنشق «2» إن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عم فالصدق فى الغار والصديق لم ير ما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم أى عموا عما فى الغار مع خلق الله ذلك فيهم، لأنهم ظنوا أن الحمام لا يحوم حوله- صلى الله عليه وسلم- وأن العنكبوت لا تنسج عليه لما جرت العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا، فمهما أحسا بالإنسان فرا منه، وما علموا أن الله تعالى يسخر ما شاء من خلقه لمن شاء من عباده، وأن وقاية عبده بما شاء تغنى عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع، وعن التحصن بالعالى من الأطم، وهى الحصون، فلله در الأبوصيرى شاعرا، وما أحسن قوله فى قصيدته اللامية حيث قال: واغيرتا حين أضحى الغار وهو به ... كمثل قلبى معمور ومأهول كأنما المصطفى فيه وصاحبه ال ... صديق ليثان قد آواهما غيل وجلل الغار نسج العنكبوت على ... وهن فيا حبذا نسج وتجليل

_ (1) أخرجه ابن حجر فى «تخريج أحاديث الكشاف» (ص 76) . (2) الذى يقسم بالمخلوقات، هو الله عز وجل، أما نحن فلا يجوز لنا أن نقسم إلا به سبحانه، أو بأحد أسمائه أو صفاته، لحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تحلف إلا بالله» الحديث.

عناية ضل كيد المشركين بها ... وما مكائدهم إلا الأضاليل إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما ... كأن أبصارهم من زيغها حول وفى الصحيح عن أنس قال أبو بكر: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» «1» . وروى أن أبا بكر قال: نظرت إلى قدمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الغار وقد تفترتا دما فاستبكيت وعلمت أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن تعود الحفا والجفوة. وروى أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليقيه بنفسه، وأنه رأى جحرا فيه، فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعلت الحيات والأفاعى تضربنه وتلسعنه، فجعلت دموعه تتحدر. وفى رواية: فدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ووضع رأسه فى حجر أبى بكر فنام، فلدغ أبو بكر فى رجله من الجحر ولم يتحرك فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال: مالك يا أبا بكر؟ فقال لدغت فداك أبى وأمى، فتفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذهب ما يجده. رواه رزين. وروى أيضا: أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «2» . يعنى بالمعونة والنصر، فأنزل الله سكينته- وهى أمنة تسكن عندها القلوب- على أبى بكر لأنه كان منزعجا، وأيده- يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- بجنود لم تروها من الملائكة ليحرسوه فى الغار، أو ليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته «3» . انظر، لما رأى الرسول حزن الصديق قد اشتد لكن لا على نفسه، قوى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3653) فى المناقب، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر عبد الله بن أبى قحافة التيمى- رضى الله عنه-، ومسلم (2381) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-. (2) سورة التوبة: 40. (3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 2) بنحوه، من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-.

قلبه ببشارة لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «1» وكانت تحفة «ثانى اثنين» مدخرة له دون الجميع، فهو الثانى فى الإسلام والثانى فى بذل النفس والعمر وسبب الموت لما وقى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بماله ونفسه وجوزى بمواراته معه فى رمسه، وقام مؤذن التشريف ينادى على منائر الأمصار «ثانى اثنين إذ هما فى الغار» ولقد أحسن حسان حيث قال: وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صاعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا ... من الخلائق لم يعدل له بدلا وتأمل قول موسى- عليه السّلام- لبنى إسرائيل: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «2» . وقول نبينا- صلى الله عليه وسلم- للصديق: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «3» فموسى خص بشهود المعية ولم يتعد منه إلى أتباعه، ونبينا تعدى منه إلى الصديق، ولم يقل «معى» لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة على أبى بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلى والشهود، وأين معية الربوبية فى قصة موسى- عليه السّلام- من معية الإلهية فى قصة نبينا صلى الله عليه وسلم-. قاله العارف شمس الدين بن اللبان. وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين، مرة على داود حين كان طالوت يطلبه، ومرة على النبى صلى الله عليه وسلم- فى الغار «4» . وكذا نسجت على الغار الذى دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه- صلى الله عليه وسلم- لقتل خالد بن نبيح الهذلى بعرنة، فقتله ثم حمل رأسه ودخل فى غار فنسجت عليه العنكبوت، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين. وفى تاريخ ابن عساكر: أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن

_ (1) سورة التوبة: 40. (2) سورة الشعراء: 62. (3) سورة التوبة: 40. (4) أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (5/ 197) .

على بن الحسين بن على بن أبى طالب لما صلب عريانا فى سنة إحدى وعشرين ومائة. وكان مكثه- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر فى الغار ثلاث ليال، وقيل بضعة عشر يوما. والأول هو المشهور. وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر، وهو غلام شاب ثقف- أى ثابت المعرفة بما يحتاج إليه لقن- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت معهم، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام. ويرعى عليهما عامر بن فهيرة- مولى أبى بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان فى رسل، وهو لبن منحتهما، يفعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث. واستأجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، عبد الله بن الأريقط دليلا- وهو على دين كفار قريش، ولم يعرف له إسلام- فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال. فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم على طريق السواحل، فمروا بقديد على أم معبد- عاتكة بنت خالد الخزاعية- وكانت برزة جلدة، تحتبى بفناء القبة، ثم تسقى وتطعم. وكان القوم مرملين مسنتين «1» ، فطلبوا لبنا ولحما يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا، فنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى شاة فى كسر الخيمة، خلفها الجهد عن الغنم، فسألها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هل بها من لبن» فقالت: لهى أجهد من ذلك، فقال: «أتأذنين لى أن أحلبها» فقالت: نعم بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها، وسمى الله، فتفاجت ودرت، ودعا بإناء يربض الرهط- أى يشبع الجماعة حتى يربضوا-

_ (1) شرح المصنف معانى هذه الكلمات بعد سرده للحديث، فانظرها هناك.

فحلب فيه ثجا وسقى القوم حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى علا بعد نهل، ثم غادره عندها وذهبوا. فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد- قال السهيلى: لا يعرف اسمه، وقال العسكرى: أكثم بن أبى الجون، ويقال: ابن الجون- يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزالا، مخهن قليل. فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاء عازب حيال، ولا حلوب فى البيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مربنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. فقال: صفيه يا أم معبد. فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة. مليح الوجه حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف، وفى صوته صحل، أحور أكحل، أزج أقرن، شديد سواد الشعر، فى عنقه سطع، وفى لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند. فقال: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لا تبعته «1» . قالت أسماء بنت أبى بكر: ولما خفى علينا أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم، فقال: أين أبوك؟ فقلت: والله لا أدرى أين أبى، قالت: فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدى لطمة خرج منها قرطى، قالت: ثم انصرفوا. ولما لم ندر أين توجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أتى رجل من الجن يسمعون صوته ولا يرونه، وهو ينشد هذه الأبيات:

_ (1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 178) .

جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتى أم معبد هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصى ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها فى مصدر ثم مورد «1» فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه- صلى الله عليه وسلم-. وقوله: مرملين: أى نفدت أزوادهم. ومسنتين: أى مجدبين، ويروى: مشتين: دخلوا الشتاء. وكسر الخيمة: - بكسر الكاف وفتحها، وسكون السين- جانبها. وتفاجت: بتشديد الجيم- فتحت ما بين رجليها. ويربض الرهط: - بضم المثناة التحتية، وكسر الموحدة- أى يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. من أربض فى المكان يربض: إذا لصق به وأقام. والثج: السيلان. وفى رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال- بضم المثلاثة- الرغوة واحدة: ثمالة. والبهاء أى بهاء اللبن: وهو وبيص رغوته. وتساوكن هزالا: أى تمايلن، ويروى: تشاركن من المشاركة، أى تساوين فى الهزال. وغادره: بالغين المعجمة- أبقاه والشاء عازب، أى بعيدة المرعى. والأبلج: - بالجيم- المشرق الوجه المضيئة. والحيال: - بكسر الحاء المهملة- جمع حائل، وهى التى ليس بها حمل. والوضاءة: الحسن. والثجلة: - بفتح الثاء المثلاثة، وسكون الجيم- عظم البطن، ويروى بالنون والحاء: أى نحول ودقة. والصعلة: - بفتح الصاد- صغر الرأس، وهى أيضا

_ (1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 179) .

الدقة والنحول فى البدن. والوسيم: الحسن، وكذلك: القسيم. وفى عينيه دعج: أى سواد. والوطف: قال فى القاموس: محركة، كثرة شعر الحاجبين والعينين. وفى صوته صحل: - بالتحريك- وهو كالبحة- بضم الموحدة- أن لا يكون حاد الصوت. وأحور: قال فى القاموس: الحور- بالتحريك- أن يشتد بياض بياض العين، وسواد سوادها. والكحل: - بفتحتين- سواد فى أجفان العين خلقه، والرجل: أكحل وكحيل. والأزج: الدقيق طرف الحاجبين وفى القاموس: والزجج- محركة- دقة الحاجبين فى طول. والأقرن: المقرون الحاجبين. وفى عنقه سطع: - بفتحتين- أى ارتفاع وطول. وفى لحيته كثاثة: الكثاثة فى اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة، وفيها كثاثة، يقال: رجل كث اللحية- بالفتح- وقوم كث- بالضم-. وإذا تكلم سما وعلاه البهاء: أى ارتفع وعلا على جلسائه. وفصل- بالصاد المهملة- ولا نزر- بسكون المعجمة- ولا هذر- بفتحها-: أى بيّن ظاهر، يفصل بين الحق والباطل. ولا تشنؤه من طول: كذا جاء فى رواية، أى لا يبغض لفرط طوله، ويروى: ولا يشنى من طول: أبدل من الهمزة ياء، يقال: شنيته أشنؤه شنأ وشنانا، قاله ابن الأثير. ولا تقتحمه عين من قصر: أى لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا، وكل شىء ازدريته فقد اقتحمته. ومحفود: أى مخدوم. والمحشود: الذى عنده حشد وهم الجماعة. ولا عابس: من عبوس الوجه. والمفتد: الذى يكثر اللوم وهو التفنيد. والضرة: لحمة الضرع. وغادرها: أى خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر، انتهى. وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدى: حدثنى حزام بن هشام عن أبيه عن أم معبد قالت: بقيت الشاة التى لمس- عليه السّلام- ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمان عمر بن الخطاب، وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا وما فى الأرض قليل ولا كثير. ثم تعرض لهما بقديد سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله أتينا، قال: «كلا» ودعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-،

بدعوات، فساخت قوائم فرسه، وطلب الأمان، فقال: أعلم أن قد دعوتما على، فادعوا لى ولكما أن أراد الناس عنكما ولا أضركما. قال: فوقفا لى، فركبت فرسى حتى جئتهما، قال: ووقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأخبرتهما أخبار ما يريد بهما الناس، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآنى «1» . واجتاز- صلى الله عليه وسلم- فى وجهه ذلك بعبد يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقى بسنده عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبى صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر مستخفيين، مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال: ما عندى شاة تحلب، غير أن هاهنا عناقا حملت عام أول، فما بقى بها لبن، فقال: ادع بها، فاعتقلها- صلى الله عليه وسلم- ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعى، ثم حلب فشرب، فقال الراعى: بالله من أنت، فو الله ما رأيت مثلك. فقال: أو تراك تكتم على حتى أخبرك؟ قال نعم، قال: فإنى رسول الله، فقال أنت الذى تزعم قريش أنك صابىء؟ قال: إنهم ليقولون ذلك، قال: فأشهد أنك نبى، وأن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبى، وأنا متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أنى قد ظهرت فائتنا. قال الحافظ مغلطاى- بعد ذكره لقصة أم معبد-: وفى الإكليل قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد. قال الحاكم: فلا أدرى أهى هى، أم غيرها. ولما سمع المسلمون بالمدينة خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودى نفسه فنادى بأعلى صوته يا بنى قيلة هذا

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3906) فى المناقب، باب: هجرة النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

جدكم- أى حظكم ومطلوبكم- قد أقبل، فخرج إليه بنو قيلة- وهم الأوس والخزرج- سراعا بسلاحهم فتلقوه، فنزل بقباء على بنى عمرو بن عوف.. الحديث رواه البخارى «1» . وفيه: أن أبا بكر قام للناس، وجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند ذلك. وظاهر هذا أنه- عليه السّلام- كانت الشمس تصيبه، وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثته، كما هو صريح فى موضعه. قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه- عليه السّلام- لهلال ربيع الأول، أى أول يوم منه. وفى رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عند أبى معشر، لكن قال: ليلة الاثنين. وعن ابن سعد: قدمها لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. وفى «شرف المصطفى» من طريق أبى بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول. وهذا يجمع بينه وبين الذى قبله بالحمل على الاختلاف فى رؤية الهلال. وقيل: كان حين اشتد الضحاء يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة منه وبه جزم النووى فى كتاب السير من الروضة. وقال ابن الكلبى: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتى عشرة منه، وقيل لليلتين منه.

_ (1) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.

وعند البيهقى: لثنتين وعشرين ليلة. وقال ابن حزم: خرجا من مكة وقد بقى من صفر ثلاث ليال. وأقام على بمكة بعد مخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام، ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع- وقيل: ثامن- عشر ربيع، وكانت مدة مقامه مع النبى- صلى الله عليه وسلم- ليلة أو ليلتين. وأمر- صلى الله عليه وسلم- بالتاريخ فكتب من حين الهجرة. وقيل: إن عمر أول من أرخ وجعله من المحرم «1» . وأقام- صلى الله عليه وسلم- بقباء فى بنى عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة. وفى صحيح مسلم: أقام فيهم أربع عشرة ليلة «2» . ويقال: إنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء الذى أسس على التقوى «3» ، على الصحيح، وهو أول مسجد بنى فى الإسلام وأول مسجد صلى فيه- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بنى لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذى بناه. ثم خرج- صلى الله عليه وسلم- من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار، فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف فصلاها بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، فى بطن وادى رانوناء- براء مهملة ونونين ممدودا، كعاشوراء وتاسوعاء- واسم المسجد «الغبيب» - بضم الغين المعجمة، تصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة، والوادى: ذى صلب- ولذا سمى مسجد الجمعة، وهو مسجد

_ (1) قاله ابن الجوزى فى «المنتظم» (4/ 226) . (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (428) فى الصلاة، باب: هل تنبش قبور مشركى الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، ومسلم (524) فى المساجد، باب: ابتناء مسجد النبى صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) قلت: الذى فى صحيح مسلم (1398) أن المسجد الذى أسس على التقوى هو مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وليس مسجد قباء، وإن كان فيه خير كثير.

صغير مبنى بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء. وركب- صلى الله عليه وسلم- على راحلته بعد الجمعة متوجها إلى المدينة. وروى أنس بن مالك أنه- صلى الله عليه وسلم- أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبى- صلى الله عليه وسلم- شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذى بين يديك، قال: فيقول: هذا الرجل يهديناى السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعنى الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير «1» ، الحديث رواه البخارى. وقد روى ابن سعد أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لأبى بكر: أله عنى الناس، فكان إذا سئل من أنت قال: باغى حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هذا يهديناى السبيل. وفى حديث الطبرانى: من رواية أسماء: فكان أبو بكر رجلا معروفا فى الناس، فإذا لقيه لاق يقول لأبى بكر: من هذا معك؟ فيقول: هذا يهدينا [السبيل] يريد الهداية فى الدين، ويحسبه الآخر دليلا «2» . وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه كان يمر عليهم فى سفره للتجارة، وكان- صلى الله عليه وسلم- لم يشب، وكان- صلى الله عليه وسلم- أسن من أبى بكر. وفى حديث أنس: لم يكن فى الذين هاجروا أشمط غير أبى بكر «3» . وكان- صلى الله عليه وسلم- كلما مرّ على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم: يا رسول الله، هلم إلى القوة والمنعة، فيقول: «خلوا سبيلها- يعنى ناقته- فإنها مأمورة» «4» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3911) فى المناقب، باب: هجرة النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (24/ 106) . (3) صحيح: وهو عند البخارى (3911) المتقدم قبل حديث. (4) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 183) .

وقد أرخى زمامها، وما يحركها، وهى تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار مالك بن النجار، بركت على باب المسجد، وهو يومئذ مربد لسهل وسهيل ابنى رافع بن عمرو، وهما يتيمان فى حجر معاذ بن عفراء- ويقال أسعد بن زرارة وهو المرجح- ثم ثارت، وهو- صلى الله عليه وسلم- عليها حتى بركت على باب أبى أيوب الأنصارى، ثم ثارت منه وبركت فى مبركها الأول، وألقت جرانها بالأرض- يعنى باطن عنقها أو مقدمه من المذبح- وأزرمت- يعنى صوتت من غير أن تفتح فاها- ونزل عنها- صلى الله عليه وسلم- وقال: «هذا المنزل إن شاء الله» . واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله فى بيته، ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بنى النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب، جده- عليه السّلام-. وفى حديث أبى أيوب الأنصارى، عند أبى يوسف يعقوب فى كتاب الذكر والدعاء له قال: نزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة فكنت فى العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب قلت لها: رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحى، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب، فلما أصبحت، قلت: يا رسول الله، ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب، قال: «لم يا أبا أيوب» قلت: كنت أحق بالعلو منا تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحى، لا والذى بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا. الحديث. ورواه الحاكم أيضا. وقد ذكر أن هذا البيت الذى لأبى أيوب، بناه له- عليه السّلام- تبع الأول لما مر بالمدينة وترك فيها أربعمائة عالم، وكتب كتابا للنبى- صلى الله عليه وسلم- ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبى أيوب، وهو من ولد ذلك العالم. قال: وأهل المدينة الذين نصروه صلى الله عليه وسلم- من ولد أولئك العلماء. فعلى هذا: إنما نزل فى منزل نفسه، لا فى منزل غيره. كذا حكاه فى تحقيق النصرة. وفرح أهل المدينة بقدومه- صلى الله عليه وسلم-، وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول

الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شىء، وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير عند قدومه يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشّكر علينا ... ما دعا لله داع «1» قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه- صلى الله عليه وسلم- المدينة رواه البيهقى فى الدلائل «2» ، وأبو الحسن بن المقرى فى كتاب الشمائل له عن ابن عائشة، وذكره الطبرى فى الرياض عن أبى الفضل بن الجمحى قال: سمعت ابن عائشة يقول- أراه عن أبيه- فذكره. وقال خرجه الحلوانى على شرط الشيخين. انتهى. وسميت ثنية الوداع لأنه- صلى الله عليه وسلم- ودعه بها بعض المقيمين بالمدينة فى بعض أسفاره. وقيل: لأنه- عليه السّلام- شيع إليها بعض سراياه، فودعه عندها. وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما. وصحح القاضى عياض هذا الأخير، واستدل بقول نساء الأنصار حين مقدمه- صلى الله عليه وسلم-: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع فدل على أنه اسم قديم. وقال ابن بطال: إنما سميت ثنية الوداع لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقى. انتهى. قال شيخ الإسلام الولى العراقى: وهذا كله مردود، ففى صحيح البخارى وسنن أبى داود والترمذى عن السائب بن يزيد قال: لما قدم رسول

_ (1) زاد رزين: أيّها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 507) .

الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع «1» . قال: وهذا صريح فى أنها من جهة الشام، ولهذا لما نقل والدى- رحمه الله- فى شرح الترمذى كلام ابن بطال قال: إنه وهم، قال: وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة. انتهى. وسبقه إلى ذلك ابن القيم فى الهدى النبوى فقال: هذا وهم من بعض الرواة، لأن ثنية الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك. انتهى. لكن قال ابن العراقى أيضا: ويحتمل أن تكون الثنية التى من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها ثنية الوداع. انتهى. وفى «شرف المصطفى» وأخرجه البيهقى عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبى أيوب خرج جوار من بنى النجار بالدفوف يقلن: نحن جوار من بنى النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أتحببننى» ، قلن: نعم يا رسول الله. وفى رواية الطبرانى فى الصغير فقال- صلى الله عليه وسلم-: «الله يعلم قلبى يحبكم» «2» . وقال الطبرى: وتفرق الغلمان والخدم فى الطرق ينادون جاء محمد، جاء رسول الله. ووعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرىء مصبح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولى إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لى شامة وطفيل

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3083) فى الجهاد والسير، باب: استقبال الغزاة، وأبو داود (2779) فى الجهاد، باب: فى التلقى، والترمذى (1718) فى الجهاد، باب: ما جاء فى تلقى الغائب إذا قدم. (2) أخرجه الطبرانى فى «الصغير» (780) وقال: لم يروه عن عوف إلا عيسى بن يونس، تفرد به مصعب بن سعيد.

اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا فى صاعنا ومدنا، وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة» . قالت- يعنى عائشة-: وقدمنا المدينة وهى أوبأ أرض الله، فكان بطحان يجرى نجلا. تعنى: ماء آجنا «1» . وقال عمر: اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك واجعل موتى فى بلد رسولك «2» . رواه البخارى. وقوله: يرفع عقيرته: أي صوته، لأن العقيرة الساق، كأن الذى قطعت رجله رفعها وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك، حكاه الجوهرى. وشامة وطفيل: عينان بقرب مكة، والمراد بالوادى وادى مكة. وجليل: نبت ضعيف. وأقام- صلى الله عليه وسلم- عند أبى أيوب سبعة أشهر. وقيل: إلى صفر من السنة الثانية وقال الدولابى: شهرا. وكان يصلى حيث أدركته الصلاة، ولما أراد- صلى الله عليه وسلم- بناء المسجد الشريف، قال: «يا بنى النجار ثامنونى بحائطكم» قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله «3» ، فأبى ذلك- صلى الله عليه وسلم- وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبى بكر رضى الله عنه-، وكان قد خرج من مكة بماله كله.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1889) فى الحج، باب: رقم (12) ، ومسلم (1376) فى الحج، باب: الترغيب فى سكنى المدينة، والصبر على لأوائها، من حديث عائشة رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1890) فيما تقدم. (3) صحيح: أخرجه البخارى (428) فى المساجد، باب: هل تنبش قبور مشركى الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، ومسلم (524) فى المساجد، باب: ابتناء مسجد النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

قال أنس: وكان فى موضع المسجد نخل وخرب ومقابر مشركين، فأمر بالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل فقطعت، ثم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ، وبنى المسجد وسقف بالجريد، وجعلت عمده خشب النخل، وعمل فيه المسلمون، وكان عمار بن ياسر ينقل لبنتين لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبى صلى الله عليه وسلم- فقال له- عليه الصلاة والسلام-: «للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن، وتقتلك الفئة الباغية» «1» . وروينا أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ينقل معهم اللبن ويقول وهو ينقل [اللبن] : هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أنه- صلى الله عليه وسلم- تمثل ببيت شعر تام غير هذا. انتهى. وقد قيل: إن الممتنع عليه- صلى الله عليه وسلم- إنشاء الشعر لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا. وقوله: هذا الحمال: - بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم- أى المحمول من اللبن أبر عند الله من حمال خيبر، أى: التى تحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك. وفى رواية المستملى بالجيم. انتهى. وفى كتاب «تحقيق النصرة» قيل: ووضع- عليه السّلام- رداءه فوضع الناس أرديتهم وهم يقولون: لئن قعدنا والنبى يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلل وآخرون يقولون: لا يستوى من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن التراب حائدا

_ (1) تقدم.

وجعلت قبلة المسجد للقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب فى مؤخره، وباب يقال له: باب الرحمة، والباب الذى يدخل منه. وجعل طوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفى الجانبين مثل ذلك أو دونه. وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع، وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى لعائشة فى البيت الذى يليه شارعا إلى المسجد، وجعل سودة بنت زمعة فى البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلى آل عثمان. ثم تحول- عليه السّلام- من دار أبى أيوب إلى مساكنه التى بناها. وكان قد أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه إلى مكة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة وأسامة بن زيد وأم أيمن، وخرج عبد الله بن أبى بكر معهم بعيال أبيه. وكان فى المسجد موضع مظلل، تأوى إليه المساكين، يسمى الصفة، وكان أهله يسمون: أهل الصفة، وكان- صلى الله عليه وسلم- يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه- عليه السّلام-. وفى البخارى من حديث أبى هريرة: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا فى أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساق، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته «1» . وهذا يشعر بأنهن كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم فى غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا، لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبى هريرة. وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابى والسلمى. والحاكم وأبو

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (442) فى المساجد، باب: نوم الرجل فى المسجد.

نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفيما ذكروه اعتراض ومناقشة، قاله فى فتح البارى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة إلى جذع فى المسجد قائما، فقال: إن القيام قد شق علىّ، فصنع له المنبر. وكان عمله وحنين الجذع فى السنة الثامنة- بالميم- من الهجرة، وبه جزم ابن النجار وعورض: بما فى حديث الإفك فى الصحيحين، قالت عائشة: فثار الحيان- الأوس والخزرج- حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم- على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا «1» . وجزم ابن سعد بأن عمل المنبر كان فى السنة السابعة. وعورض: بذكر العباس وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح فى آخر سنة ثمان، وقدوم سنة تسع. وعن بعض أهل السير: أنه- عليه السّلام- كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذى من خشب. وعورض: بأن الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب. وستأتى قصة حنين الجذع- إن شاء الله تعالى- فى مقصد المعجزات. ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر، آخى- عليه السّلام- بين المهاجرين والأنصار» وكانوا تسعين رجلا، من كل طائفة خمسة وأربعون، على الحق والمواساة والتوارث. وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «3» الآية. وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر. وقيل ثمانية، وقيل ثمانية عشر شهرا فى شوال.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4141) فى المغازى، باب: حديث الإفك، ومسلم (2770) فى التوبة، باب: فى حديث الإفك. (2) انظر «السيرة» لابن هشام (2/ 150) . (3) سورة الأنفال: 75.

[رؤيا الأذان]

[رؤيا الأذان] وكان الناس- كما فى السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين مواقيتها، من غير دعوة. وأخرج ابن سعد فى الطبقات، من مراسيل سعيد بن المسيب: أن بلالا كان ينادى للصلاة بقوله: الصلاة جامعة الحديث. وشاور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة- وكان ذلك فيما قيل فى السنة الثانية- فقال بعضهم: ناقوس كناقوس النصارى، وقال آخرون: بوق كبوق اليهود «1» ، وقال بعضهم: بل نوقد نارا ونرفعها فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة. فرأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه فى منامه رجلا فعلمه الأذان والإقامة، فلما أصبح أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما رأى، وفى رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد قال: يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم- ولو قلت إنى لم أكن نائما لصدقت- رأيت: شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، الله أكبر، مثنى مثنى، حتى فرغ من الأذان. الحديث، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك» . قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه ويؤذن. قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- وهو فى بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذى بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (604) فى الأذان، باب: بدء الأذان، ومسلم (377) فى الصلاة، باب: بدء الأذان، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (499) فى الصلاة، باب: كيف الأذان، وأحمد فى «مسنده» (4/ 42 و 43) ، وابن حبان فى «صحيحه» (1679) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (371) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ووقع فى الأوسط للطبرانى: أن أبا بكر أيضا رأى الأذان. وفى الوسيط للغزالى: أنه رآه بضعة عشر رجلا. وعبارة الجيلى فى شرح التنبيه: أربعة عشر. وأنكره ابن الصلاح ثم النووى، وفى سيرة مغلطاى: أنه رآه سبعة من الأنصار. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر- رحمه الله-: ولا يثبت شىء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت فى بعض الطرق: انتهى. قال السهيلى: فإن قلت: ما الحكمة التى خصت الأذان بأن يراه رجل من المسلمين فى نومه. ولم يكن عن وحى من الله لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية، وفى قوله- صلى الله عليه وسلم- له: «إنها لرؤيا حق» . ثم بنى حكم الأذان عليها، وهل كان ذلك عن وحى من الله له أم لا؟ وأجاب: بأنه- صلى الله عليه وسلم- قد أريه ليلة الإسراء. فروى البزار عن على قال: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان جاء جبريل- عليه السّلام- بدابة يقال لها البراق فركبها حتى أتى بها الحجاب الذى يلى عرش الرحمن، فبينما هو كذلك خرج ملك من الحجاب، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: والذى بعثك بالحق، إنى لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه. فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدى، أنا أكبر، أنا أكبر.. وذكر بقية الأذان. قال السهيلى: وهذا أقوى من الوحى، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحى حتى رأى عبد الله الرؤيا فوافقت ما رأى- صلى الله عليه وسلم- فلذلك قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، وعلم حينئذ أن مراد الله بما رآه فى السماء أن يكون سنة فى الأرض وقوى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصارى. انتهى.

وتعقب: بأن حديث البزار فى إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك «1» . وقال فى فتح البارى: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله ابن زيد، فإن رؤيا غير الأنبياء لا يا بنى عليها حكم شرعى: وأجيب: باحتمال مقارنة الوحى لذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وأبو داود فى المراسيل، من طريق عبيد بن عمير الليثى- أحد كبار التابعين- أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فوجد الوحى قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «سبقك بذلك الوحى» «2» . وهذا أصح مما حكى الداودى عن ابن إسحاق: أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم- بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام. وقد عرفت رؤيا عبد الله بن زيد برواية ابن إسحاق وغيره: وذلك أنه قال: «طاف بى- وأنا نائم- رجل يحمل ناقوسا فى يده، فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت [له] «3» بلى، قال: تقول الله أكبر، الله أكبر وذكر بقية كلمات الأذان. قال: ثم استأخر عنى غير بعيد ثم قال [ثم تقول] إذا أقمت ... الصلاة فقل: الله أكبر، الله أكبر، إلى آخر كلمات الإقامة» «4» . ورواه أبو داود بإسناد صحيح.

_ (1) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (2/ 78) . (2) أخرجه أبو داود فى «مراسيله» (21) . (3) زيادة من سنن أبى داود. (4) صحيح: وقد تقدم قريبا.

ولم تعرف كيفية رؤيا عمر حين رأى النداء، وقد قال: رأيت مثل الذى رأى. وفى مسند الحارث: أول من أذن بالصلاة جبريل، أذن فى سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بها، فقال- عليه السّلام- لبلال «سبقك بها عمر» «1» وظاهره: أن عمر وبلالا سمعا ذلك فى اليقظة. وقد وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة. منها للطبرانى من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم- أوحى الله إليه الأذان فنزل به وعلمه بلالا. وفى إسناده طلحة بن زيد وهو متروك. ومنها: للدار قطنى فى «الأفراد» من حديث أنس أن جبريل أمر النبى صلى الله عليه وسلم- بالأذان حين فرضت الصلاة. وإسناده ضعيف. ومنها: حديث البزار عن على، المتقدم. قال فى فتح البارى: والحق أنه لا يصح شىء من هذه الأحاديث وقد جزم ابن المنذر بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، إلى أن وقع التشاور فى ذلك «2» . والله سبحانه أعلم. فإن قلت: هل أذن- صلى الله عليه وسلم- بنفسه قط؟ أجاب السهيلى: بأنه قد روى الترمذى من طريق يدور على عمر بن الرماح، قاضى بلخ يرفعه إلى أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- أذن فى سفر وصلى وهم على رواحلهم «3» . الحديث. قال: فنزع بعض الناس بهذا الحديث إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- أذن بنفسه. انتهى.

_ (1) ذكره الحافظ فى «الفتح» (2/ 78) وعزاه للحارث بن أبى أسامة فى «مسنده» بسند واه. (2) انظر «الفتح» (2/ 79) . (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (411) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة على الدابة فى الطين والمطر، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

وليس هذا الحديث من حديث أبى هريرة، إنما هو من حديث يعلى بن مرة. وكذا جزم النووى بأنه- عليه الصلاة والسلام- أذن مرة فى السفر، وعزاه للترمذى وقواه. ولكن روى الحديث الدار قطنى وقال فيه: أمر بالأذان، ولم يقل: أذن. قال السهيلى: والمفصل يقضى على المجمل المحتمل. وفى مسند أحمد من الوجه الذى أخرج منه الترمذى هذا الحديث: فأمر بلالا فأذن «1» ، قال فى فتح البارى فعرف أن فى رواية الترمذى اختصارا، وأن قوله أذن: أمر، كما يقال: أعطى الخليفة فلانا ألفا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر «2» . انتهى. فإن قلت هل صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- خلف أحد من أصحابه؟ قلت: نعم، ثبت فى صحيح مسلم وغيره أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، ولفظه: عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- تبوك، فتبرز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل الغائط، فحمل معه إداوة قبل صلاة الفجر ... الحديث إلى أن قال: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأدرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبى- صلى الله عليه وسلم- صلاته أقبل عليهم ثم قال، أحسنتم، أو قال: أصبتم يغبطهم أن صلوا لوقتها «3» .

_ (1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 173) ، وانظر ما قبله. (2) قاله الحافظ فى «الفتح» (2/ 79) . (3) صحيح: أخرجه مسلم (274) (81) فى الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة، و (274) (105) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، وأبو داود (149 و 152) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.

ورواه أبو داود فى السنن بنحوه ولفظه: ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى صلاته «1» الحديث. قال النووى: فيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز اقتداء النبى صلى الله عليه وسلم- خلف بعض أمته. قال: وأما بقاء عبد الرحمن فى صلاته وتأخر أبى بكر- رضى الله عنه- ليتقدم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فالفرق بينهما أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبى صلى الله عليه وسلم- التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، بخلاف صلاة أبى بكر. نعم فى السيرة الهشامية: أن أبا بكر كان الإمام وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يأتم به. لكنه- كما قال السهيلى- حديث مرسل فى السيرة، والمعروف فى الصحاح أن أبا بكر كان يصلى بصلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والناس يصلون بصلاة أبى بكر «2» . لكن قد روى عن أنس من طريق متصل: أن أبا بكر كان الإمام يومئذ، واختلف فيه خبر عائشة- رضى الله عنها-. انتهى. وفى الترمذى مصححا من حديث جابر: أن آخر صلاة صلاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ثوب واحد متوشحا به خلف أبى بكر «3» . قال ابن الملقن: وقد نصر هذا القول غير واحد من الحفاظ: منهم الضياء، وابن ناصر، وقال: صح وثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى خلف أبى بكر

_ (1) صحيح: وقد تقدم فيما قبله. (2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (683) فى الأذان، باب: من قام إلى جنب الإمام لعلة، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) إسناده صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (363) فى الصلاة، باب: منه، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : إسناده صحيح.

مقتديا به فى مرضه الذى مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له بالرواية. وقيل: إنه كان مرتين، جمعا بين الأحاديث، وبه جزم ابن حبان. وروى الدار قطنى من طريق المغيرة بن شعبة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مات نبى حتى يؤمه رجل من أمته» «1» . ولما كان بعد شهر من مقدمه- عليه الصلاة والسلام- لاثنتى عشرة خلت من ربيع الآخر- قال الدولابى يوم الثلاثاء، وقال السهيلى بعد الهجرة بعام أو نحوه- زيد فى صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر. وفى البخارى عن عائشة (فرضت الصلاة ركعتين [ركعتين] ) ثم هاجر النبى- صلى الله عليه وسلم-[إلى المدينة] ففرضت أربعا. وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر) «2» . وفى البخارى عن عائشة فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبى ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى «3» . وقيل إنما فرضت أربعا، ثم خفف عن المسافر. ويدل له حديث: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة) «4» .

_ (1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 13) ، من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، والحاكم فى «مستدركه» (1/ 370) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 282) ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1803 و 4764) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (3935) فى المناقب، باب: التاريخ من أين أرخوا التاريخ، ومسلم (685) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) ، وهو ليس فيها بهذا اللفظ، بل بلفظ الحديث الآتى. (3) صحيح: وانظر ما قبله. (4) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (2408) فى الصوم، باب: اختيار الفطر، والترمذى (715) فى الصوم، باب: ما جاء فى الرخصة فى الإفطار للحبلى والمرضع، وأحمد فى «مسنده» (5/ 29) ، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

وقيل: إنما فرضت فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين، وهو قول ابن عباس، قال- رضى الله عنه-: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم- صلى الله عليه وسلم- فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين) «1» رواه مسلم وغيره. وسيأتى مزيد لذلك إن شاء الله تعالى فى أول الصلاة من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام-. قال ابن إسحاق وغيره: ونصبت أحبار يهود العداوة للنبى- صلى الله عليه وسلم- بغيا وحسدا، وسحره لبيد بن الأعصم، وهو من يهود بنى زريق، فكان يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو لا يفعله، وجعل سحره فى مشط ومشاطة، ودفنه فى بئر ذى أروان- وأكثر أهل الحديث يقول: ذروان- تحت راعوفة البئر «2» ، كما ثبت فى الصحيح. وليس هذا بقادح فى النبوة، فإن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- يبتلون فى أبدانهم بالجراحات والسموم والقتل وغير ذلك مما جوّزه العلماء عليهم. وانضاف إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج، منافقون، على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أنهم قهروا بظهور الإسلام، فأظهروه واتخذوه جنة من القتل، ونافقوا فى السر، منهم عبد الله بن أبى ابن سلول، وكان رأس المنافقين، وهو الذى قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «3» . كما سيأتى- إن شاء الله- فى غزوة بنى المصطلق.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) . (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5763) فى الطب، باب: السحر، ومسلم (2189) فى السلام، باب: السحر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) سورة المنافقون: 8.

مغازيه وسراياه وبعوثه صلى الله عليه وسلم

مغازيه وسراياه وبعوثه «1» صلى الله عليه وسلم وأذن الله تعالى لرسوله- صلى الله عليه وسلم- بالقتال. قال الزهرى: أول آية نزلت فى الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «2» . أخرجه النسائى بإسناد صحيح «3» . قال فى البحر: والمأذون فيه- أى فى الآية- محذوف، أى: فى القتال، لدلالة «يقاتلون» عليه، وعلل الإذن: بأنهم ظلموا، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم- من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: اصبروا، فإنى لم أومر بالقتال، حتى هاجر فأذن له بالقتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية. انتهى. وقال غيره: وإنما شرع الله تعالى الجهاد فى الوقت اللائق به، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم قليلون- بقتال الباغين لشق عليهم، فلما بغى المشركون، وأخرجوه- صلى الله عليه وسلم- من بين أظهرهم وهموا بقتله، واستقر- عليه الصلاة والسلام- بالمدينة واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة لهم دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه، شرع الله تعالى جهاد الأعداء، فبعث- صلى الله عليه وسلم- البعوث والسرايا وغزا وقاتل هو وأصحابه حتى دخل الناس فى دين الله أفواجا أفواجا. وكان عدد مغازيه- صلى الله عليه وسلم- التى خرج فيها بنفسه، سبعا وعشرين. قاتل فى تسع منها بنفسه الشريفة- صلى الله عليه وسلم-: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق،

_ (1) جرى أهل السير والمغازى على تسمية كل حرب حضرها النبى- صلى الله عليه وسلم- بغزوة، وما لم يحضرها بسرية أو بعثا. (2) سورة الحج: 39. (3) قلت: هو عند النسائى (6/ 2) فى الجهاد، باب: وجوب الجهاد، من قول ابن عباس رضى الله عنهما-.

وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وهذا على قول من قال: فتحت مكة عنوة. وكانت سراياه التى بعث فيها سبعا وأربعين سرية. وقيل: إنه قاتل فى بنى النضير. وأفاد فى فتح البارى: أن السرية- بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية- هى التى تخرج بالليل- والسارية: التى تخرج بالنهار. قال: وقيل سميت بذلك- يعنى السرية- لأنه يحفى ذهابها. وهذا يقتضى أنها أخذت من السر، ولا يصح، لاختلاف المادة. وهى قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهى من مائة إلى خمسمائة، فما زاد على خمسمائة يقال له منسر- بالنون ثم المهملة- فإن زاد على الثمانمائة سمى جيشا، [وما بينهما يسمى هبطة] «1» ، فإن زاد على أربعة آلاف سمى جحفلا، والخميس: الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثا، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، انتهى ملخصا. وكان أول بعوثه- صلى الله عليه وسلم- على رأس سبعة أشهر، فى رمضان، وقيل فى ربيع الأول سنة اثنتين. بعث عمه حمزة، وأمره على ثلاثين رجلا من المهاجرين. وقيل من الأنصار، وفيه نظر، لأنه لم يبعث أحدا من الأنصار حتى غزا بهم بدرا، لأنهم شرطوا له أن يمنعوه فى دارهم. فخرجوا يعترضون عيرا لقريش، فيها أبو جهل اللعين، فلقيه فى ثلاثمائة راكب فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فلما تصافوا حجز بينهم مجدى بن عمرو الجهنى، وكان- عليه السّلام- قد عقد له لواء أبيض. «واللواء هو العلم الذى يحمل فى الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم المعسكر» . وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، لكن روى

_ (1) ليست فى الأصل، وهى زياة من «الفتح» (8/ 70) للحافظ ابن حجر.

أحمد والترمذى عن ابن عباس: كانت راية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سوداء، ولواؤه أبيض «1» ، ومثله عند الطبرانى عن بريدة، وعند ابن عدى عن أبى هريرة وزاد: مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهو ظاهر فى التغاير، لعل التفرقة بينهما عرفية. وذكر ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة: أن أول ما حدثت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية. انتهى. ثم سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ، فى شوال، على رأس ثمانية أشهر، فى ستين رجلا، وعقد له لواء أبيض، حمله مسطح بن أثاثة، يلقى أبا سفيان بن حرب. وكان على المشركين- وقيل مكرز بن حفص، وقيل عكرمة بن أبى جهل- فى مائتين، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبى وقاص رمى بسهم، فكان أول سهم رمى فى الإسلام «2» . وقال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة- فيما بلغنا- أول راية عقدت فى الإسلام، وبعض الناس يقول: راية حمزة. قال: وإنما أشكل أمرهما لأنه عليه الصلاة والسلام- بعثهما معا، فاشتبه ذلك على الناس. انتهى. وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم- عقد رايتيهما معا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية، لأمر اقتضاه، والله أعلم. ثم سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار- بخاء معجمة وراءين مهملتين، وهو واد بالحجاز يصب فى الجحفة- وكان ذلك فى ذى القعدة، على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو، فى

_ (1) حسن: أخرجه الترمذى (1681) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الرايات، وابن ماجه (2818) فى الجهاد، باب: الرايات والألوية، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 595 و 596) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 7) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 338 و 339) .

عشرين رجلا، يعترض عيرا لقريش، فخرجوا على أقدامهم، فصبحوها صبح خامسة فوجدوا العير قد مرت بالأمس «1» . ثم غزوة ودان، وهى الأبواء «2» ، وهى أول مغازيه، كما ذكره ابن إسحاق وغيره. وفى البخارى: أن أولها الأبواء. خرج- صلى الله عليه وسلم- فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة، يريد قريشا، فى ستين رجلا، وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب. فكانت الموادعة- أى المصالحة- على أن بنى ضمرة لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوّا. واستعمل على المدينة سعد بن عبادة» . وليس بين ما وقع فى سيرة ابن إسحاق وبين ما نقله عنه البخارى اختلاف، لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية. ثم غزوة بواط- بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره مهملة- وهى الثانية، غزاها- صلى الله عليه وسلم- فى شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة، حتى بلغها من ناحية رضوى- بفتح الراء وسكون المعجمة، مقصور- فى مائتين من أصحابه، يعترض عيرا لقريش فيهم أمية بن خلف الجمحى واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون. فرجع ولم يلق كيدا، أى حربا، قال ابن الأثير: والكيد الاحتيال والاجتهاد، وبه سميت الحرب كيدا «4» .

_ (1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 600) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 7) ، والخرار: من أودية المدينة، وقيل: إنه آبار عن يسار المحجة قريب من خم. (2) الأبواء: قرية من عمل القرح، بينها وبين الجحفة ثلاثة وعشرون ميلا. (3) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 591) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 8) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 259) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 352) . (4) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 598) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 8 و 9) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 260 و 261) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 361) .

ثم غزوة العشيرة- بالشين المعجمة، والتصغير، آخره هاء. لم يختلف أهل المغازى فى ذلك، وفى البخارى: العشيراء، أو: العسيرة، والأولى بالمعجمة بلا هاء، والثانية: بالمهملة وبالهاء- وأما غزوة العسرة- بالمهملة بغير تصغير- فهى غزوة تبوك، وستأتى إن شاء الله تعالى. ونسبت هذه إلى المكان الذى وصلوا إليه، وهو موضع لبنى مدلج بينبع «1» . وخرج إليها- صلى الله عليه وسلم- فى جمادى الأولى- وقيل: الآخرة- على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة، فى خمسين ومائة رجل- وقيل فى مائتى رجل- ومعهم ثلاثون بعيرا يتعقبونها، وحمل اللواء- وكان أبيض- حمزة، يريد عير قريش التى صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة. فخرج إليها ليغنمها فوجدها قد مضت. ووداع بنى مدلج من كنانة «2» . وكانت نسخة الموادعة فيما ذكره غير ابن إسحاق. بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لبنى ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم أن لا يحاربوا فى دين الله ما بل بحر صوفة، وأن النبى إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد. ثم غزوة بدر الأولى. قال ابن إسحاق: ولما رجع- عليه الصلاة والسلام- أى: من غزوة العشيرة- لم يقم إلا ليالى، وقال ابن حزم: بعد العشيرة بعشرة أيام، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى على سرح المدينة،

_ (1) ينبع: قرية كبيرة بها حصن على بعد سبع مراحل من المدينة. (2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 598 و 600) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 9 و 10) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 260 و 261) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 361) .

فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- فى طلبه حتى بلغ سفوان- بفتح المهملة والفاء- موضع من ناحية بدر، ففاته كرز بن جابر. وتسمى بدرا الأولى «1» . قال ابن هشام: واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء على ابن أبى طالب- رضى الله تعالى عنه-. ثم سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش فى رجب على رأس سبعة عشر شهرا، وكان معه ثمانية- وقيل اثنا عشر- من المهاجرين، إلى نخلة على ليلة من مكة، فى رجب يترصد قريشا، فمرت بهم عيرهم تحمل زبيبا وأدما من الطائف، فيها عمرو بن الحضرمى، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن فى آخر يوم من رجب، فإن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر، وإن تركناهم الليلة دخلوا حرمة مكة، فأجمعوا على قتلهم فقتلوا عمرا واستأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب من هرب، واستاقوا العير، وكانت أول غنيمة فى الإسلام، فقسمها ابن جحش، وعزل الخمس من ذلك قبل أن يفرض، ويقال: بل قدموا بالغنيمة كلها. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام» فأخر الأسيرين والغنيمة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائمها. وتكلمات قريش: إن محمدا سفك الدماء، وأخذ المال فى الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.. «2» الآية. وفى ذلك يقول عبد الله بن جحش: تعدون قتلا فى الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى ذاك راشد صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد سقينا من ابن الحضرمى رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد وبعثت قريش إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى فداء الأسيرين، وهما: عثمان

_ (1) انظر ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 9) . (2) سورة البقرة 217.

ابن عبد الله والحكم بن كيسان، ففاداهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا «1» . ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى إلى بيت المقدس بالمدينة ستة عشر شهرا «2» . وقيل سبعة عشر، وقيل ثمانية عشر شهرا. وقال الحربى: قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة فى ربيع الأول، فصلى إلى بيت المقدس تمام السنة وصلى من سنة اثنين ستة أشهر. ثم حولت القبلة. وقيل: كان تحويلها فى جمادى، وقيل: كان يوم الثلاثاء فى نصف شعبان، وقيل يوم الإثنين نصف رجب. وظاهر حديث البراء فى البخارى: أنها كانت صلاة العصر «3» . ووقع عند النسائى من رواية سعيد بن المعلى: أنها الظهر. وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثانى، كما فى الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة «4» .

_ (1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 601 و 604) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 10 و 11) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 364 و 371) . (2) صحيح: وانظر الخبر فى صحيح البخارى (41) فى الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، ومسلم (525) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، من حديث البراء ابن عازب- رضى الله عنه-. (3) صحيح: انظر ما قبله. (4) صحيح: أخرجه البخارى (403) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القبلة ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، ومسلم (526) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.

وفى هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم. وروى الطبرى عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: لما هاجر- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان- صلى الله عليه وسلم- يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية «1» . قال فى فتح البارى وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة. لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه «2» ، قال: والجمع بينهما ممكن: بأن يكون أمر لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس. وأخرج الطبرى أيضا من طريق ابن جريج قال: صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر، فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة «3» . وقوله فى حديث ابن عباس الأول: «أمره الله تعالى» يرد قول من قال: إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد. وعن أبى العالية: أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب. وهذا لا ينفى أن يكون بتوقيف. واختلفوا فى المسجد الذى كان يصلى فيه: فعند ابن سعد فى الطبقات: أنه صلى ركعتين من الظهر فى مسجده

_ (1) أخرجه ابن جرير الطبرى فى «تفسيره» (1/ 502) ، (2/ 5 و 20) . (2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 325) . (3) مرسل: أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (2/ 5) عن ابن جريج مرسلا.

بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون. ويقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- زار أم بشر بن البراء بن معرور فى بنى سلمة، فصنعت له طعاما، وكانت الظهر، فصلى- عليه الصلاة والسلام- بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستدار، إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمى مسجد القبلتين. قال ابن سعد قال الواقدى: هذا عندنا أثبت «1» . ولما حول الله تعالى القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار واليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وشك، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، أى: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا، فأنزل الله جوابهم فى قوله قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ «2» . أى الحكم والتصرف، والأمر كله لله، فحيثما توجهنا فالطاعة فى امتثال أمره، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وفى تصريفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا. ولله تعالى بنبينا- عليه السّلام- وبأمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة خليله، قال- عليه السّلام- فيما رواه أحمد من حديث عائشة- رضى الله عنها-: إن اليهود لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التى هدانا الله إليها وضلوا عنها. وعلى القبلة التى هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين «3» . وقال بعض المؤمنين: فكيف صلاتنا التى صليناها نحو بيت المقدس؟ وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «4» .

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 186) . (2) سورة البقرة: 142. (3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 134) . (4) سورة البقرة: 143.

وقيل قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضى قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى الذى ننتظر أن يأتى. فأنزل الله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ «1» . يعنى أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله سيوجهك إليها بما فى كتبهم عن أنبيائهم. ثم فرض صيام شهر رمضان، بعد ما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر، فى شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه- صلى الله عليه وسلم-. وزكاة الفطر قبل العيد بيومين: أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من زبيب، أو صاع من شعير أو صاع من بر، وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال. وقيل إن زكاة الأموال فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة والله أعلم. ثم غزوة بدر الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية، وبدر القتال. وهى قرية مشهورة، نسبت إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، كان نزلها، وقيل: بدر بن الحارث، حافر بئرها، وقيل بدر اسم البئر التى بها سميت لاستدارتها، أو لصفائها ورؤية البدر فيها. وقال ابن كثير: وهو يوم الفرقان، والذى أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله، وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد، والعدة الكاملة، والخيول المسومة، والخيلاء الزائدة، فأعز الله تعالى رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبى صلى الله عليه وسلم- وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنّا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ «2» . أى قليل عددكم، لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد. انتهى.

_ (1) سورة البقرة: 144. (2) سورة آل عمران: 123.

فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام، إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الآفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار، وأعز من حضرها من المسلمين، فهو عنده من الأبرار. وكان خروجهم يوم السبت لثنتى عشرة خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، ويقال: لثمان خلون منه. قاله ابن هشام. واستخلف أبا لبابة الأنصارى. وخرج معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عدة من خرج معه ثلاثمائة وخمسة، وثمانية لم يحضروها، إنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم فكانوا كمن حضرها. وكان معهم ثلاثة أفراس: «بعزجة» فرس المقداد، و «العيسوب» فرس الزبير وفرس لمرثد الغنوى، لم يكن لهم خيل يومئذ غير هذه، وكان معهم سبعون بعيرا. وكان المشركون ألفا ويقال: تسعمائة وخمسون رجلا، معهم مائة فرس، وسبعمائة بعير. وكان قتالهم يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وقيل يوم الإثنين وقيل غير ذلك. وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال الله تعالى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «1» . وإنما قصد- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون التعرض لعير قريش. وذلك أن أبا سفيان كان بالشام فى ثلاثين راكبا منهم عمرو بن العاصى، فأقبلوا فى قافلة عظيمة، فيها أموال قريش، حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو، وقال: «هذه عير لقريش فيها أموال فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها» .

_ (1) سورة الأنفال: 42.

فلما سمع أبو سفيان بسيره- عليه السّلام-، استأجر ضمضم بن عمرو الغفارى أن يأتى قريشا بمكة، فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم فى أصحابه. فنهضوا فى قريب من ألف ولم يتخلف أحد من أشراف قريش إلا أبا لهب، وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة. وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أصحابه، حتى بلغ الروحاء، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبى- صلى الله عليه وسلم- الناس فى طلب العير، أو حرب النفير، وقال: «إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش» وكانت العير أحب إليهم. فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إناها هنا قاعدون «1» . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا برك الغماد- يعنى مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «خيرا» ودعا له بخير. ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس أشيروا على» وإنما يريد الأنصار. لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. وكان- صلى الله عليه وسلم- يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك- صلى الله عليه وسلم-: قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: «أجل» .

_ (1) إشارة إلى الآية (24) ، من سورة المائدة.

قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى. فسر- صلى الله عليه وسلم- بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر الآن إلى مصارع القوم» قال ثابت عن أنس- رضى الله عنه- قال- صلى الله عليه وسلم-: «هذا مصرع فلان» ويضع يده على الأرض، هاهنا وهاهنا. قال فما ماط أحدهم- أى ما تنحى- عن موضع يده- عليه الصلاة والسلام- «1» . تنبيه: قال ابن سيد الناس فى «عيون الأثر» : روينا من طريق مسلم أن

_ (1) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 289- 290) ، وفى «البداية والنهاية» (2/ 395) من طريق ابن إسحاق وأخرج البخارى (3952) منه من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه- عنه يقول: شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به، أتى النبى صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم- أشرق وجهه وسره يعنى قوله. وأخرجه مسلم (1779) منه من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان، قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذى نفسى بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا ... إلى آخر الحديث، إلا أن هناك إشكالا فى قول المتكلم سعد بن عبادة، وهو ممن لم يشهد بدرا وإن كان ممن ضرب له بسهم فيهم، وهنا يقول الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (7/ 288) : ويمكن الجمع بأن النبى- صلى الله عليه وسلم- استشارهم فى غزوة بدر مرتين، الأولى وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبى سفيان وذلك بين فى رواية مسلم، ولفظه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان والثانية: كانت بعد أن فرج كما فى حديث الباب، ووقع عند الطبرانى أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب.

الذى قال ذلك: سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإنما يعرف ذلك عن سعد بن معاذ، كذا رواه ابن إسحاق وغيره. واختلف فى شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق فى البدريين، وذكره الواقدى والمدائنى وابن الكلبى منهم. انتهى. ثم ارتحل- صلى الله عليه وسلم- قريبا من بدر، ونزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادى، ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر فأحرزوه، وحفروا القلب لأنفسهم. وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب، وأصابهم الظمأ، وهم لا يصلون إلى الماء، ووسوس الشيطان لبعضهم وقال: تزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبى الله. وأنكم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم عطاش، وتصلون محدثين مجنبين، وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم ويذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤا. فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادى، فشرب المسلمون واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام. وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم، فذلك قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» . أى من الأحداث والجنابة وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ «2» أى وسوسته وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ «3» . بالصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ «4» . حتى لا تسوخ فى الرمل، بتلبيد الأرض. وبنى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- عريش فكان فيه. ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعا إلى المبارزة، فخرج فتية من الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث

_ (1) سورة الأنفال: 11. (2) سورة الأنفال: 11. (3) سورة الأنفال: 11. (4) سورة الأنفال: 11.

- وأمهما عفراء- وعبد الله بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، فقالوا ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج لنا أكفاءنا من قومنا. فقال- صلى الله عليه وسلم- قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا على. فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم؟ فتسموا لهم، فقالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة- وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز على الوليد بن عتبة. فقتل على الوليد. هكذا ذكره ابن إسحاق. وعند موسى بن عقبة- كما نقله فى فتح البارى- برز حمزة لعتبة، وعبيدة لشيبة وعلى للوليد. ثم اتفقا: فقتل على الوليد، وقتل حمزة الذى بارزه، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة فى ركبة عبيدة ومال على وحمزة على الذى بارزه عبيدة فأعاناه على قتله. وعند الحاكم، من طريق عبد خير عن على: مثل قول موسى بن عقبة. وعند أبى الأسود عن عروة مثله. وأورد ابن سعد من طريق عبيدة السلمانى: أن شيبة لحمزة، وعبيدة لعتبة، وعليّا للوليد، ثم قال: الثابت أن عتبة لحمزة، وشيبة لعبيدة. وأخرج أبو داود عن على قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارز فانتدب له شبان من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بنى عمنا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قم يا حمزة، قم يا على، قم يا عبيدة» فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة «1» .

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2665) فى الجهاد، وباب: فى المبارزة، والبيهقى فى «الكبرى» (3/ 376) (9/ 131) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات، لكن الذى فى السير من أن الذى بارزه على هو الوليد هو المشهور وهو اللائق بالمقام، لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف على والوليد فكانا شابين. وقد روى الطبرانى بإسناد حسن عن على قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة ابن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبى- صلى الله عليه وسلم- علينا ذلك. وهذا موافق لرواية أبى داود. والله أعلم. انتهى. قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض. ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى العريش ومعه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، وهو- صلى الله عليه وسلم- يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد فى الأرض أبدا» . وأبو بكر يقول: يا رسول الله، خل بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك «1» . وعند سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال- عليه السّلام- وهو فى صلاته: «اللهم لا تخذلنى، اللهم أنشدك ما وعدتنى» «2» . وروى النسائى والحاكم عن على قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول فى سجوده: «يا حى، يا قيوم» فرجعت وقاتلت ثم جئت فوجدته كذلك «3» . وفى الصحيح: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما كان يوم بدر فى العريش مع الصديق، أخذت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سنة من النوم ثم استيقظ متبسما، فقال:

_ (1) صحيح: والحديث: أخرجه مسلم (1763) فى الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر، والترمذى (3081) فى التفسير، باب: ومن سورة الأنفال، وأحمد فى «مسنده» (1/ 30 و 32) ، من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-. (2) ذكره الحافظ فى «الفتح» (7/ 288، 289) وعزاه لسعيد بن منصور. (3) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10447) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 344) .

«أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» ثم خرج من باب العريش وهو يتلو سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» «2» . فإن قلت: كيف جعل أبو بكر يأمره- عليه الصلاة والسلام- بالكف عن الاجتهاد فى الدعاء ويقوى رجاءه ويثبته، ومقام الرسول- صلى الله عليه وسلم- هو المقام الأحمد، ويقينه فوق يقين كل أحد؟ أجاب السهيلى نقلا عن شيخه: بأن الصديق فى تلك الساعة كان فى مقام الرجاء، والنبى- صلى الله عليه وسلم- فى مقام الخوف، لأن لله تعالى أن يفعل ما يشاء، فخاف ألايعبد الله فى الأرض، فخوفه ذلك عبادة. انتهى. وقال الخطابى: لا يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبى صلى الله عليه وسلم- فى تلك الحالة، بل الحامل للنبى- صلى الله عليه وسلم- على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، فبالغ فى التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر فى نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقبه بقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» . وقال غيره: وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- فى تلك الحالة فى مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده ألايقع النصر يومئذ، لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. هذا هو الذى يظهر من بادىء الرأى. وإنما قال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد اليوم» «4» لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ، لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان.

_ (1) سورة القمر: 45. (2) صحيح: وهو عند البخارى (2915) فى الجهاد والسير، باب: ما قيل فى درع النبى صلى الله عليه وسلم-، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، إلا أنه فيه بلفظ غريب من ذلك (3) سورة القمر: 45. (4) صحيح: وقد تقدم قريبا.

وأما شدة اجتهاده- عليه الصلاة والسلام- ونصبه فى الدعاء، فإنه رأى الملائكة تنصب فى القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون غمرات الموت. والجهاد على ضربين جهاد بالسيف وجهاد بالدعاء، ومن سنة الإمام أن يكون وراء الجند لا يقاتل معه، فكان الكل فى جهاد واجتهاد، ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين والجهادين وأنصار الله وملائكته يجتهدون، ولا ليؤثر الدعة وحزب الله مع أعدائه يجتلدون. انتهى. وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال عمر بن الخطاب: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا دخل العريش، فاستقبل القبلة ثم مد يديه، وجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لى ما وعدتنى» ... فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبى الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ «1» . مرسل إليكم مدادا لكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ «2» «3» . أى متتابعين بعضهم فى إثر بعض. وعلى قراءة فتح الدال معناه: أردف الله المسلمين وجاءهم بهم مدادا. وفى الآية الآخرى بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ «4» . فقيل معناه: إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف. فكان الأكثر مدادا للأقل، وكان الألف مردفين بمن وراءهم. والألف هم الذين قاتلوا مع المؤمنين، وهم الذين قال لهم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا «5» . وكانوا فى صور الرجال، ويقولون للمؤمنين: اثبتوا فإن عدوكم قليل وإن الله معكم. وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف.

_ (1) سورة الأنفال: 9. (2) سورة الأنفال: 9. (3) صحيح: والخبر عند مسلم (1763) وقد تقدم قريبا. (4) سورة آل عمران: 124. (5) سورة الأنفال: 12.

وقال سعيد بن أبى عروبة عن قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف. وعن عامر الشعبى: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين فشق عليهم، فأنزل الله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ إلى قوله: مُسَوِّمِينَ «1» ، قال: فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين، ولم تمد المسلمون بالخمسة. وعن ابن عباس- رضى الله عنهما-: جاء إبليس يوم بدر فى جند من الشياطين، معه رايته، فى صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم، فلما أقبل جبريل والملائكة كانت يده فى يد رجل من المشركين فانتزع يده ثم نكص على عقبيه، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك جار؟ فقال إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب «2» . وروى أن جبريل نزل فى خمسمائة وميكائيل فى خمسمائة فى صورة الرجال على خيل بلق، عليهم ثياب بيض، وعلى رؤسهم عمائم بيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم. وقال ابن عباس: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين: عمائم خضر «3» . وعن على: كانت سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكانت سيماهم أيضا فى نواصى خيلهم «4» . رواه ابن أبى حاتم. وروى ابن مردويه عن ابن عباس رفعه، فى قوله تعالى:

_ (1) سورة آل عمران: 124، 125. (2) ذكر هذه القصة أيضا الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 318) . (3) انظر: المصدر السابق (1/ 403) . (4) انظر المصدر السابق (1/ 402) .

مُسَوِّمِينَ «1» . قال: معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم خضر «2» . وروى ابن أبى حاتم عن الزبير: أن الملائكة نزلت وعليهم عمائم صفر. قيل: ولم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا، وبذلك صرح العماد بن كثير فى تفسيره فقال: المعروف من قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، ثم روى عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر «3» . وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل فى غيرها بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال عند بعضهم. وفى نهاية البيان فى تفسير القرآن عند تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ «4» . وهل قاتلت الملائكة يومئذ أم لا؟ فيه قولان: أحدهما- وهو قول الجمهور- أنها لم تقاتل، انتهى. وهذا يرده حديث مسلم فى صحيحه عن سعد بن أبى وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد- يعنى جبريل وميكائيل- عليهما الصلاة والسلام- يقاتلان كأشد القتال «5» . قال النووى: فيه بيان إكرامه- صلى الله عليه وسلم- بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر. قال: وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم

_ (1) سورة آل عمران: 125. (2) انظر المصدر السابق (1/ 402) . (3) انظر المصدر السابق (1/ 403) . (4) سورة التوبة: 25. (5) صحيح: أخرجه البخارى (5826) فى اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (2306) فى الفضائل، باب: فى قتال جبريل وميكائيل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، واللفظ لمسلم.

اختصاصه، فهذا صريح فى الرد عليه. وفيه أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بل يراهم الصحابة والأولياء. انتهى. قال ابن الأنبارى: وكانت الملائكة لا تعلم كيف تقتل الآدميون، فعلمهم الله تعالى بقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ «1» . أى الرؤس وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «2» . قال ابن عطية: كل مفصل. قال السهيلى: جاء فى التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا فى رأس أو مفصل، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم باثار سود فى الأعناق والبنان. وعن ابن عباس قال: حدثنى رجل من بنى غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لى حتى صعدنا على جبل يشرف على بدر- ونحن مشركان- ننظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننهب مع من ينهب، فبينما نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمى فانكشف قناع قلبه فمات مكانه فى الحال. وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت. رواه البيهقى وأبو نعيم. والدبرة: - بسكون الموحدة- الهزيمة فى القتال. وحيزوم: اسم فرس جبريل. قاله فى القاموس. وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف «3» .. رواه الحاكم وصححه والبيهقى وأبو نعيم. قال الشيخ تقى الدين السبكى: سئلت عن الحكمة فى قتال الملائكة مع النبى- صلى الله عليه وسلم- مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.

_ (1) سورة الأنفال: 12. (2) سورة الأنفال: 12. (3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 463) ، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش، رعاية لصور الأسباب وسنتها التى أجراها الله تعالى فى عباده، والله فاعل الجميع انتهى. ولما التقى الجمعان، تناول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفّا من الحصباء، فرمى به فى وجوههم وقال: «شاهت الوجوه» . فلم يبق مشرك إلا دخل فى عينيه ومنخريه منها شىء فانهزموا وقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فى قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» . قال: هذا يوم بدر، أخذ- صلى الله عليه وسلم- ثلاث حصيات، فرمى بحصاة فى ميمنة القوم وبحصاة فى ميسرة القوم، وبحصاة بين أظهرهم، وقال: «شاهدت الوجوه» فانهزموا «2» . وقد روى عن غير واحد: أن هذه الآية نزلت فى رميه- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، وإن كان فعل ذلك يوم حنين أيضا كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. وقد اعتقد جماعة: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى: وجعلوا ذلك أصلا فى الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده. وهذا غلط منهم فى فهم القرآن، ولو صح ذلك لوجب طرده، فيقال: ما صليت إذ صليت، ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت ولكن الله فعل ذلك، فإن طردوا ذلك لزمهم فى أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق، وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو برميه وحده ناقضوا. فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.

_ (1) سورة الأنفال: 17. (2) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 296) وقال: وقد روى فى هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت فى رمية النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، وإن كان قد دخل ذلك يوم حنين أيضا.

ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه- صلى الله عليه وسلم- مبدأ الرمى، وهو الحذف، ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمى الحذف الذى هو مبدؤه ونفى عنه رمى الإيصال الذى هو نهايته. ونظير هذا فى الآية نفسها قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ «1» . ثم قال: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «2» . فأخبر أنه تعالى وحده هو الذى انفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم-، ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتال والنصر مضافا إليه وبه خير الناصرين. قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن الأسدى يوم بدر بسيفه حتى انقطع فى يده، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعطاه جذلا من حطب فقال له قاتل به، فهزه فعاد فى يده سيفا طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قتل وهو عنده «3» . وجاءه- عليه الصلاة والسلام- يومئذ- فيما ذكره القاضى عياض عن ابن وهب- معاذ بن عمرو يحمل يده، ضربه عكرمة عليها فتعلقت بجلدة، فبصق- صلى الله عليه وسلم- عليها فلصقت. قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان. وعن عروة بن الزبير، عن عائشة: لما أمر- صلى الله عليه وسلم- بالقتلى أن يطرحوا فى القليب، فطرحوا فيه. إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ فى درعه فملأها، فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة. وإنما ألقوا فى القليب ولم يدفنوا، لأنه- عليه الصلاة والسلام- كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم.

_ (1) سورة الأنفال: 17. (2) سورة الأنفال: 17. (3) ذكره ابن هشام فى «سيرته» (1/ 637) عن ابن إسحاق بغير إسناد.

وفى الطبرانى عن أنس بن مالك قال: أنشأ عمر بن الخطاب يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس من بدر، يقول: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله» قال عمر: فو الذى بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التى حدها- صلى الله عليه وسلم-، حتى انتهى إليهم فقال: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقّا؟! فإنى وجدت ما وعدنى الله حقّا «1» . وفى رواية فنادى: يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام..، وفى بعضه نظر، لأن أمية بن خلف لم يكن فى القليب لأنه كان- كما تقدم- ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه. لكن يجمع بينهما بأنه كان قريبا من القليب فنودى فيمن نودى لكونه كان من جملة رؤسائهم. وقال ابن إسحاق: حدثنى بعض أهل العلم أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أهل القليب، بئس العشيرة كنتم، كذبتمونى وصدقنى الناس» «2» . فقال عمر- رضى الله عنه-: يا رسول الله، كيف تكلم أجسادا لا روح فيها، فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا» «3» . وتأولت عائشة ذلك فقالت: إنما أراد النبى- صلى الله عليه وسلم-: إنهم الآن ليعلمون

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2681) فى الجهاد، باب: فى الأسير ينال منه ويضرب، والنسائى (4/ 108) فى الجنائز، باب: أرواح المؤمنين، وأحمد فى «مسنده» (1/ 26) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6498) ، والطبرانى فى «الصغير» (1085) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) أخرجه ابن هشام فى «السيرة» له (1/ 639) عن ابن إسحاق، قال: حدثنى بعض أهل العلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكره، وهو مفصل، وأخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 170) من حديث عائشة بنحوه، إلا أن فيه انقطاعا. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2874) فى الجنة، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.

أن الذى أقول لهم حق. ثم قرأت إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «1» الآية، فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، لقولها: إنهم الآن ليعلمون. وقال قتادة: أحياهم الله تعالى توبيخا وتصغيرا، ونقمة وحسرة. وفيه رد على من أنكر أنهم يسمعون، كما روى عن عائشة- رضى الله عنها-. ومن الغريب، أن فى المغازى- لابن إسحاق- من رواية يونس بن بكير، بإسناد جيد عن عائشة حديثا وفيه: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» . وأخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن. فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة. وقال الإسماعيلى: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذى أنكرته وأثبته غيرها ممكن، لأن قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «2» . لا ينافى قوله- عليه السّلام-: «إنهم الآن ليسمعون» لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع فى أذن السامع، فالله تعالى هو الذى أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبى- صلى الله عليه وسلم- بذلك. وأما جوابها بأنه إنما قال: إنهم ليعلمون، فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافى رواية يسمعون بل يؤيدها. وقال السهيلى ما محصله: إن فى نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك لنبيه- صلى الله عليه وسلم- لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا؟! فأجابهم بما أجابهم. قال: وإذا جاز أن يكونوا فى تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما باذان رؤسهم إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد، أو إلى بعضه عند المسألة، وهو قول أكثر أهل السنة، وإما باذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد أو إلى بعضه.

_ (1) سورة النمل: 80. (2) سورة النمل: 80.

قال: وقد روى عن عائشة أنها احتجت بقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ «1» . وهذه الآية كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ «2» . أى إن الله هو الذى يهدى ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت. وجعل الكفار أمواتا وصمّا على جهة التشبيه بالأموات وبالصم، فالله هو الذى يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيه ولا أحد، فإذا لا تعلق بالآية من وجهين: أحدهما: أنها إنما نزلت فى دعاء الكفار إلى الإيمان. الثانى: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو، يفعل ما يشاء وهو على كل شىء قدير. انتهى ولقد أحسن العلامة ابن جابر حيث قال: بدا يوم بدر وهو كالبدر حوله ... كواكب فى أفق الكواكب تنجلى وجبريل فى جند الملائك دونه ... فلم تغن أعداد العدو المخذل رمى بالحصى فى أوجه القوم رمية ... فشردهم مثل النعام المجفل وجاد لهم بالمشرفى فسلموا ... فجاد له بالنفس كل مجندل عبيدة سل عنهم وحمزة واستمع ... حديثهم فى ذلك اليوم من على فهم عتبوا بالسيف عتبة إذ غدا ... فذاق الوليد الموت ليس له ولى وشيبة لما شاب خوفا تبادرت ... إليه العوالى بالخضاب المعجل وجال أبو جهل فحقق جهله ... غداة تردى بالردى عن تذلل فأضحى قليبا فى القليب وقومه ... يؤمونه فيها إلى شر منهل وجاء لهم خير الأنام موبخا ... ففتح من أسماعهم كل مقفل وأخبر ما أنتم بأسمع منهم ... ولكنهم لا يهتدون لمقول سلا عنهم يوم السلا إذ تضاحكوا ... فعاد بكاء عاجلا لم يؤجل ألم يعلموا علم اليقين بصدقه ... ولكنهم لا يرجعون لمعقل

_ (1) سورة فاطر: 22، 23. (2) سورة الزخرف: 40.

فيا خير خلق الله جاهك ملجئى ... وحبك ذخرى فى الحساب وموئلى عليك صلاة يشمل الآل عرفها ... وأصحابك الأخيار أهل التفضل وحكى العلامة ابن مرزوق: أن ابن عمر- رضى الله عنهما- مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فلما اجتاز به ناداه: يا عبد الله، قال ابن عمر، - رضى الله عنهما-: فلا أدرى أعرف اسمى أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد الله، فالتفت إليه، فقال: اسقنى، فأردت أن أفعل، فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ببدر «1» . ورواه الطبرانى فى الأوسط. قال: ومن آيات بدر الباقية، ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون كهيئة طبل ملوك الوقت، ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك، وربما تأولته بأن الموضع لعله صلب فتستجيب فيه حوافر الدواب، فكان يقال لى: إنه دهس رمل غير صلب، وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفافها لا تصوت فى الأرض الصلبة، فكيف بالرمال؟ قال ثم لما منّ الله عليه بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف، نزلت عن الراحلة أمشى وبيدى عود طويل من شجر السعدان المسمى بأم غيلان، وقد نسيت ذلك الخبر الذى كنت أسمع، فما راعنى وأنا أسير فى الهاجرة إلا وواحد من عبيد الأعراب الجمالين يقول: أتسمعون الطبل، فأخذتنى- لما سمعت كلامه- قشعريرة بينة وتذكرت ما كنت أخبرت به، وكان فى الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل، وأنا دهش مما أصابنى من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به، فشككت، وقلت: لعل الريح سكنت فى هذا العود الذى فى يدى وحدث مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه الآية العظيمة، فألقيت العود من يدى، وجلست على الأرض، أو ثبت قائما، أو فعلت جميع ذلك، فسمعت صوت الطبل سماعا محققا،

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 57) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عبد الله بن محمد بن المغيرة وهو ضعيف.

أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل، وذلك من ناحية اليمين ونحن سائرون إلى مكة المشرفة، ثم نزلنا إلى بدر، فظللت أسمع ذلك الصوت يومى أجمع المرة بعد المرة. قال: لقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس اه. وروى الطبرانى من حديث أبى اليسر» ، أنه أسر العباس، وقيل للعباس- وكان جسيما- كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم، ولو شئت لجعلته فى كفك، فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر فى عينى كالخندمة- وهى بالخاء المعجمة- جبل من جبال مكة، قاله فى القاموس. ولما ولى عمر بن الخطاب وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه النبى صلى الله عليه وسلم- وهو يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار، فأطلقوا العباس، فكأن الأنصار فهموا رضا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بفك وثاقه، وسألوه أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم. وفى حديث أنس عند الإمام أحمد: استشار- صلى الله عليه وسلم- الناس فى الأسرى يوم بدر فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم» . فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، أضرب أعناقهم، فأعرض عنه- عليه السّلام-، ثم عاد- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم» . فقال عمر: يا رسول الله، أضرب أعناقهم، فأعرض عنه- عليه السّلام-، فعل ذلك ثلاثا، فقام أبو بكر فقال يا رسول الله، أرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فذهب من وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما كان فيه من الغم، فعفا وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل الله لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «2» «3» الآية. ويأتى

_ (1) صحابى جليل، شهد بدرا والشاهد، مشهور بكنيته، كان قصيرا دحداحا عظيم البطن، مات بالمدينة سنة (55 هـ) . (2) سورة الأنفال: 68، 69. (3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 243) .

الكلام عليها فى النوع العاشر فى إزالة الشبهات من الآيات المشكلات من المقصد السادس- إن شاء الله تعالى-. وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا عباس، افد نفسك وابنى أخيك، عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو» . قال إنى كنت مسلما ولكن القوم استكرهونى. قال: «الله تعالى أعلم بما تقول، إن يكن ما تقول حقّا فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا» «1» . وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهبا. وعند أبى نعيم فى الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس أنه جعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ «2» . فقال العباس: وددت لو أخذ منى أضعافها لقوله تعالى يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ «3» . وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس «4» . تنبيه: لا يقدح فى وعد الله أن استشهد هؤلاء الصحابة- رضى الله عنهم-، وإنما هذا الوعد كقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ «5» . فقد نجز الموعود وغلبوا كما وعدوا، فكان وعد الله مفعولا ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد لله.

_ (1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 353) ، وفى أوله قصة أبى اليسر المذكورة قبل قليل، إلا أنها فيه بلفظ آخر. (2) سورة الأنفال: 70. (3) سورة الأنفال: 70. (4) انظر غزوة بدر فى «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 606 و 715) و (2/ 43) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 11 و 27) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 265) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 380 و 515) . (5) سورة التوبة: 29.

وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون، وكان من أفضلهم العباس ابن عبد المطلب، وعقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكل أسلم. وكان العباس- رضى الله عنه- فيما قاله أهل العلم بالتاريخ- قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من لقى العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها، ففادى نفسه ورجع إلى مكة» . وقيل إنه أسلم يوم بدر، فاستقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح بالأبواء، وكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة. وقيل أسلم يوم فتح خيبر. وقيل كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة، وكان إسلامه قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وكان يحب القدوم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فكتب إليه- عليه الصلاة والسلام-: «إن مقامك بمكة خير لك» . وقيل إن سبب إسلامه، أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين، فأخذت منه فى الحرب، فكلم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: «أما شىء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك» ، فقال العباس تركتنى أتكفف قريشا، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «فأين الذهب الذى دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة» فقال العباس: وما يدريك؟ فقال: «أخبرنى ربى» فقال: أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه أحد إلا الله، وأنا أشهد ألاإله إلا الله وأنك عبده ورسوله «1» . ولما فرغ- صلى الله عليه وسلم- من بدر فى آخر رمضان وأول يوم من شوال، بعث زيد بن حارثة بشيرا فوصل المدينة ضحى، وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو الصحيح فى وفاة رقية.

_ (1) ذكره البغوى فى «تفسيره» (2/ 221) .

وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- شهد دفن بنته رقية، فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال «أيكم لم يقارف الليلة» فقال أبو طلحة أنا، فأمره أن ينزلها قبرها «1» . وأنكر البخارى هذه الرواية، وخرج الحديث فى الصحيح فقال فيه: عن أنس. شهدنا دفن بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث ولم يسم رقية ولا غيرها. وذكر الطبرانى أنها أم كلثوم فحصل فى حديث الطبرانى التبيين. ومن قال: كانت رقية فقد وهم. وكان عثمان قد تخلف لأجل رقية وزوجته فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم- بسهمه وأجره. وأمر- صلى الله عليه وسلم- عند انصرافه عاصم بن ثابت- وهو جد عاصم بن عمر ابن الخطاب- بقتل عقبة بن أبى معيط، فقتله صبرا. ثم أقبل- عليه السّلام- قافلا إلى المدينة ومعه الأسرى من المشركين، واحتمل النفل الذى أصيب منهم، وجعل عليه عبد الله بن كعب من بنى مازن. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين على السواء. وأمر عليّا بالصفراء بقتل النضر بن الحارث. ثم مضى- صلى الله عليه وسلم- حتى قدم المدينة قبل الأسرى بيوم. فلما قدموا فرقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بهم خيرا. وقد استقر الحكم فى الأسرى عند الجمهور من العلماء: أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل كما فعل- صلى الله عليه وسلم- ببنى قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الشافعى وطائفة من العلماء، وفى المسألة خلاف مقرر فى كتب الفقه والله أعلم.

_ (1) قلت: الخبر عند البخارى (1285) فى الجنائز، باب: وما يرخص من البكاء من غير نوح، من حديث أنس- رضى الله عنه-، ولم يسم فيه رقية ولا غيرها، إلا أن شراح الحديث ذهبوا إلى أنها أم كلثوم زوجة عثمان بن عفان- رضى الله عنهما-.

ولما قدم أبو سفيان بن الحارث من بدر لمكة، سأله أبو لهب عن خبر قريش. فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا، ويأسروننا كيف شاؤا، وايم الله- مع ذلك- ما لمت الناس. لقينا رجال بيض على خيل بلق «1» بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شىء. قال أبو رافع- مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان غلاما للعباس بن عبد المطلب قال: وكان الإسلام قد دخلنا- فقلت: والله تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربنى فى وجهى ضربة، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به فى رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده. قال: فو الله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة، وهى قرحة كانت العرب تتشاءم بها. وقيل إنها تعدى أشد العدوى، فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله، وبقى بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه. فلما خافوا السبة فى تركه حفروا له ثم دفعوه بعود فى حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. وقال ابن عقبة: أقام النوح على قتلى قريش شهرا. ثم سرية عمير بن عدى الخطمى، وكانت لخمس ليال بقين من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة، إلى عصماء بنت مروان- زوج يزيد ابن زيد الخطمى- وكانت تعيب الإسلام، وتؤذى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فجاءها ليلا، وكان أعمى، فدخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه، فجسها بيده، ونحى الصبى عنها، ووضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها. ثم صلى الصبح معه- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وأخبره بذلك، فقال: «لا ينتطح فيها عنزان» «2» أى لا يعارض فيها معارض ولا يسأل عنها فإنها هدر.

_ (1) البلق: سواد وبياض، وارتفاع التحجيل إلى الفخذين. (2) أخرج القصة ابن عساكر بنحوه، كما فى «كنز العمال» (25491) .

[غزوة قرقرة الكدر]

قالوا: وهذا من الكلام المفرد الموجز البليغ، الذى لم يسبق إليه صلى الله عليه وسلم-، وسيأتى لذلك نظائر- إن شاء الله تعالى-. [غزوة قرقرة الكدر] وفى أول شوال صلى صلاة الفطر. وفى أول شوال أيضا- وقيل بعد بدر بسبعة أيام، وقيل فى نصف المحرم سنة ثلاث- خرح النبى- صلى الله عليه وسلم- يريد بنى سليم، فبلغ ماء يقال له الكدر، وتعرف بغزوة قرقرة، وهى أرض ملساء. والكدر: طير فى ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع. فأقام بها- عليه السّلام- ثلاثا، وقيل عشرا، فلم يلق أحدا. وكانت غيبته صلى الله عليه وسلم- خمس عشرة ليلة، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، وقيل ابن أم مكتوم، وحمل اللواء على بن أبى طالب. وذكرها ابن سعد بعد غزوة السويق. ثم سرية سالم بن عمير إلى أبى عفك اليهودى- وكان شيخا كبيرا، قد بلغ عشرين ومائة سنة- وكان يحرض على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ويقول فيه الشعر، فأقبل إليه سالم ووضع سيفه على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش فى الفراش، فصاح عدو الله أبو عفك. فثار إليه أناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله فقتل. وكانت هذه السرية فى شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. ثم غزوة بنى قينقاع- بتثليث النون، والضم أشهر- بطن من يهود المدينة، لهم شجاعة وصبر. وكانت يوم السبت نصف شوال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة. وقد كانت الكفار بعد الهجرة مع النبى- صلى الله عليه وسلم- على ثلاثة أقسام:

* قسم وادعهم- صلى الله عليه وسلم- على ألايحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وبنو قينقاع. * وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش. * وقسم تركوه، وانتظروا ما يئول إليه أمره، كطوائف من العرب. فمنهم من كان يحب ظهوره فى الباطن كخزاعة. وبالعكس كبنى بكر. ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، وهم المنافقون. وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم- صلى الله عليه وسلم- فى شوال بعد وقعة بدر. قال الواقدى بشهر. وأغرب الحاكم، فزعم أن إجلاء بنى قينقاع وإجلاء بنى النضير كان فى زمن واحد، ولم يوافق على ذلك، لأن إجلاء بنى النضير كان بعد بدر بستة أشهر، على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق. وكان من أمر بنى قينقاع، أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ يهودى، فراودها على كشف وجهها، فأبت فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، ووقع الشر بين المسلمين وبين بنى قينقاع. فسار إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد أن استخلف أبا لبابة بن عبد المنذر. فحاصرهم أشد الحصار، خمس عشرة ليلة إلى هلال ذى العقدة، وكان اللواء بيد حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، على أن لهم أموالهم، وأن لهم النساء والذرية. فأمر- عليه الصلاة والسلام- المنذر بن قدامة بتكتيفهم. وكلم عبد الله بن أبى ابن سلول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيهم، وألح عليه من أجلهم. فأمر- صلى الله عليه وسلم- أن يجلوا، وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا من

المدينة، فلحقوا بأذرعات. فما كان أقل بقاءهم فيها. وأخذ من حصنهم سلاحا وآلة كثيرة. وكانت بنو قينقاع حلفاء لعبد الله بن أبى، وعبادة بن الصامت، فتبرأ عبادة من حلفهم، فقال: يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفى عبد الله أنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. إلى قوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «1» «2» . ثم غزوة السويق «3» فى ذى الحجة، يوم الأحد لخمس خلون منها، على رأس اثنين وعشرين شهرا من الهجرة، وقال ابن إسحاق فى صفر. وسميت: غزوة السويق، لأنه كان أكثر زاد المشركين، وغنمه المسلمون. واستخلف أبا لبابة. وكان سبب هذه الغزوة أن أبا سفيان حين رجع بالعير من بدر إلى مكة نذر لا يمس النساء والدهن حتى يغزو محمدا- عليه السّلام- فخرج فى مائتى راكب من قريش ليبر يمينه، حتى أتوا العريض- ناحية من المدينة على ثلاثة أميال- فحرقوا نخلا وقتلوا رجلا من الأنصار، فرأى أبو سفيان أن قد انحلت يمينه، فانصرف بقومه راجعين. وخرج- صلى الله عليه وسلم- فى طلبهم، فى مائتين من المهاجرين والأنصار، وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق- وهى عامة أزوادهم- يتخففون للهرب، فيأخذها المسلمون، ولم يلحقهم- عليه الصلاة والسلام-، فرجع إلى المدينة.

_ (1) سورة المائدة: 51- 56. (2) انظر غزوة بنى قينقاع فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 17) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 28) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 5) . (3) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 44 و 45) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 30) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 520) إلا أن بعض المؤرخين جعلها قبل غزوة بنى النضير.

وكانت غيبته خمسة أيام. وفى ذى الحجة صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة العيد وأمر بالأضحية. وفيه مات عثمان بن مظعون. وفى شوال ولد عبد الله بن الزبير. وفى هذه السنة تزوج علىّ فاطمة- رضى الله عنهما-، كما قاله الحافظ مغلطاى. وقال الطبرى فى كتابه «ذخائر العقبى فى مناقب ذوى القربى» : تزوجها فى صفر فى السنة الثانية، وبنى بها فى ذى الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من التاريخ. وقال أبو عمر بعد وقعة أحد. وقال غيره: بعد بنائه- صلى الله عليه وسلم- بعائشة- رضى الله عنها- بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف. وتزوجها وهى ابنة خمس عشرة سنة وخمسة أشهر- أو ستة ونصف- وسنه يومئذ إحدى وعشرون سنه وخمسة أشهر. ولم يتزوج عليها حتى ماتت. وعن أنس قال: جاء أبو بكر ثم عمر يخطبان فاطمة إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فسكت ولم يرجع إليهما شيئا، فانطلقا إلى على يأمرانه بطلب ذلك. قال على: فنبهانى لأمر، فقمت أجر ردائى حتى أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم-. فقلت: تزوجنى فاطمة؟ قال: «وعندك شىء» قلت: فرسى وبدنى «1» ، فقال: «أما فرسك فلا بد لك منها وأما بدنك فبعها» ، فبعتها بأربعمائة درهم وثمانين، فجئته بها، فوضعها فى حجره، فقبض منها قبضة وقال: «أى بلال: ابتع لنا بها طيبا» . وأمرهم أن يجهزوها، فجعل لها سرير مشرّط، ووسادة من أدم حشوها ليف. وقال لعلى: «إذا أتتك فلا تحدث شيئا حتى آتيك» .

_ (1) أى: ناقتى.

فجاءت أم أيمن حتى قعدت فى جانب البيت وأنا فى جانب، وجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هاهنا أخى» ، قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك؟ قال: «نعم» . ودخل- صلى الله عليه وسلم- فقال لفاطمة: «ائتنى بماء» ، فقامت إلى قعب فى البيت فأتت فيه بماء فأخذه ومج فيه ثم قال لها: «تقدمى» فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال: «اللهم إنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» . ثم قال لها: «أدبرى» فأدبرت فصب بين كتفيها. ثم فعل مثل ذلك بعلى. ثم قال: «ادخل بأهلك بسم الله والبركة» «1» . أخرجه أبو حاتم، وأحمد فى المناقب بنحوه. وفى حديث أنس عند أبى الخير القزوينى الحاكمى: خطبها على بعد أن خطبها أبو بكر ثم عمر فقال- صلى الله عليه وسلم-: «قد أمرنى ربى بذلك» . قال أنس: ثم دعانى- عليه السّلام- بعد أيام فقال لى يا أنس: «ادع لى أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن وعدة من الأنصار» ، فلما اجتمعوا وأخذوا مجالسهم وكان على غائبا فقال- صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره فى سمائه وأرضه، الذى خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم-. إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سببا لا حقا، وأمرا مفترضا، أوشج به الأرحام، وألزم به الأنام، فقال عز من قائل وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً «2» . فأمر الله تعالى يجرى إلى قضائه، وقضاؤه يجرى إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. ثم إن الله عزّ وجل أمرنى أن أزواج فاطمة من على بن أبى طالب، فاشهدوا أنى قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضى بذلك على» .

_ (1) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 205) وقال: رواه الطبرانى، وفيه يحيى ابن يعلى الأسلمى، وهو ضعيف. (2) سورة الفرقان: 54.

ثم دعا- صلى الله عليه وسلم- بطبق من بسر ثم قال: انتهبوا فانتهبنا. ودخل على فتبسم النبى- صلى الله عليه وسلم- فى وجهه ثم قال: «إن الله عزّ وجل أمرنى أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت بذلك؟» ، فقال قد رضيت بذلك يا رسول الله، فقال- عليه السّلام-: «جمع الله شملكما وأعز جدكما، وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيبا» . قال أنس: فو الله لقد أخرج الله منهما الكثير الطيب. والعقد لعلى وهو غائب محمول على أنه كان له وكيل حاضر، أو على أنه لم يرد به العقد، بل إظهار ذلك، ثم عقد معه لما حضر، أو على تخصيصه بذلك، جمعا بينه وبين ما ورد، مما يدل على شرط القبول على الفور. وأخرج الدولابى، عن أسماء قالت: لقد أولم على على فاطمة، فما كان وليمة فى ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودى بشطر شعير، وكانت وليمته آصعا من شعير وتمر وحيس. والحيس: التمر والأقط. وأخرج أحمد فى المناقب عن على: كان جهاز فاطمة خميلة وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف. ثم سرية محمد بن مسلمة وأربعة معه إلى كعب بن الأشرف اليهودى، لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. روى أبو داود والترمذى من طريق الزهرى عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن كعب بن مالك عن أبيه: أن كعب بن الأشرف كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحرض عليه كفار قريش. وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة وأهلها أخلاط، فأراد استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالصبر.

فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذاه، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه «1» . وفى رواية قال- صلى الله عليه وسلم-: «من لنا بابن الأشرف؟» - وفى أخرى: «من لكعب بن الأشرف» أى من ينتدب لقتله- «فقد استعلن بعداوتنا وهجانا، وقد خرج إلى قريش فجمعهم إلى قتالنا. وقد أخبرنى الله بذلك» . ثم قرأ على المسلمين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ «2» . وفى الإكليل: فقد آذانا بشعره، وقوى المشركين. وفى رواية ابن إسحاق: فقال محمد بن مسلمة، أخو بنى عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: «فافعل إن قدرت على ذلك» . قال: يا رسول الله إنه لابد لنا أن نقول، قال: «قولوا ما بدا لكم فأنتم فى حل من ذلك» . فاجتمع فى قتله محمد بن مسلمة وأبو نائلة- بنون وبعد الألف تحتانية- سلكان بن سلامة- وكان أخا كعب من الرضاعة- وعبادة بن بشر، والحارث ابن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وهؤلاء الخمسة من الأوس. وفى رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام عليه السّلام- تلك الليلة يصلى، فلما سمع تكبيرهم كبر وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فقال: «أفلحت الوجوه» . قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3000) فى الخراج والإمارة والفىء، باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» ، وانظر أيضا صحيح البخارى (2510 و 3031 و 3033 و 4037) ، ومسلم (1801) ، وأبو داود (2768) . (2) سورة النساء: 51، 52. (3) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 198) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وهو ضعيف.

وفى كتاب «شرف المصطفى» أن الذين قتلوا كعبا حملوا رأسه فى مخلاة إلى المدينة، فقيل إنه أول رأس حمل فى الإسلام. وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس فجرح ونزف الدم فتفل عليه على جرحه فلم يؤذه بعد. غزوة غطفان: وهى غزوة ذى أمر- بفتح الهمزة والميم- وسماها الحاكم غزوة أنمار. وهى بناحية نجد. وكانت لثنتى عشرة مضت من ربيع الأول على رأس خمس وعشرين شهرا من الهجرة. وسببها: أن جمعا من بنى ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور بن الحارث المحاربى- وسماه الخطيب: غورث، وغيره: غورك- وكان شجاعا. فندب- صلى الله عليه وسلم- المسلمين وخرج فى أربعمائة وخمسين فارسا، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. فلما سمعوا بمهبطه- صلى الله عليه وسلم- عليهم هربوا فى رؤس الجبال، فأصابوا رجلا منهم يقال له: حبان من بنى ثعلبة، فأدخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدعاه إلى الإسلام فأسلم، وضمه إلى بلال. وأصاب النبى- صلى الله عليه وسلم- مطر فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع تحتها، وهم ينظرون، فقالوا لدعثور: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف حتى قام على رأسه- صلى الله عليه وسلم- فقال: من يمنعك منى اليوم؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: «الله» فدفع جبريل فى صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «من يمنعك منى؟» فقال: لا أحد، وأنا أشهد ألاإله إلا الله وأنك رسول الله. ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام. وأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ «1» الآية «2» .

_ (1) سورة المائدة: 11. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2910) فى الجهاد والسير، باب: من علق سيفه بالشجر عند القائلة، ومسلم (843) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، وفى الفضائل، باب: -

ويقال كان ذلك فى ذات الرقاع «1» . ثم رجع- صلى الله عليه وسلم- ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة. غزوة بحران: «2» وتسمى غزوة بنى سليم، من ناحية الفرع- بفتح الفاء والراء- كما قيده السهيلى، وقال فى القاموس: وبحران موضع بناحية الفرع، كذا رأيته بخطه بضم الفاء لا غير. وسببها: أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن بها جمعا كبيرا من بنى سليم، فخرج فى ثلاثمائة رجل من أصحابه، فوجدهم قد تفرقوا فى مياههم، فرجع ولم يلق كيدا. وكان قد استعمل على المدينة ابن أم مكتوم، كما قاله ابن هشام، وكانت غيبته عشر ليال. سرية زيد بن حارثة إلى القردة: - بالقاف المفتوحة وسكون الراء، وقيل بالفاء وكسر الراء، كما ضبطه ابن الفرات- اسم ماء من مياه نجد. وسببها: - كما قال ابن إسحاق- أن قريشا خافوا من طرقهم التى يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعهم فضة كثيرة. وعند ابن سعد: بعثه- صلى الله عليه وسلم- لهلال جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، فى مائة راكب يعترض عيرا لقريش فيها صفوان ابن أميه وحويطب بن عبد العزى، ومعهم مال كثير وآنية فضة. فأصابوها وقدموا بالعير على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وخمسها فبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم.

_ - توكله على الله تعالى، وعصمة الله تعالى له من الناس، وأحمد فى «مسنده» (3/ 311) من حديث جابر- رضى الله عنه-، ولكن بدون ذكر اسم الرجل. (1) قلت: وهو الصحيح، حديث ذكره البخارى فى أحداث تلك الغزوة. (2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 43 و 46) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 34 و 36) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 5539) (3/ 4، 5) .

ثم غزوة أحد

وعند مغلطاى: خمسة وعشرين ألف درهم. وذكرها ابن إسحاق قبل قتل ابن الأشرف. ثم غزوة أحد وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها. وسمى بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هناك، ويقال له: ذو عينين، قال فى القاموس: بكسر العين وبفتحها مثنى، جبل بأحد. انتهى. وهو الذى قال فيه- صلى الله عليه وسلم-: «أحد جبل يحبنا ونحبه» «1» . وقيل: وفيه قبر هارون، أخى موسى، - عليهما السلام-. وكانت عنده الوقعة المشهورة، فى شوال سنة ثلاث بالاتفاق، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه- وقيل لسبع ليال خلون منه، وقيل فى نصفه. وعن مالك: بعد بدر بسنة، وعنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة. وكان سببها: كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة وابن سعد، قالوا- أو من قال منهم- ما حاصله. إن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره، قال عبد الله بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل، فى جماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه- يعنون عير أبى سفيان، ومن كانت له فى تلك العير تجارة- لعلنا أن ندرك به ثأرنا. فأجابوا لذلك، فباعوها وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1482) فى الزكاة، باب: خرص التمر، ومسلم (1392) فى الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه، وفى الفضائل، باب: فى معجزات النبى صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى الله عنه-، وهو فى الصحيحين أيضا من حديث أنس- رضى الله عنه-.

وفيهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- أنزل الله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ «1» . واجتمعت قريش لحرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وكتب العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادى من قبل أحد مقابل المدينة. وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر. وأرى- صلى الله عليه وسلم- ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: «إنى والله قد رأيت خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة، فأما البقر فناس من أصحابى يقتلون، وأما الثلم الذى رأيت فى سيفى فهو رجل من أهل بيتى يقتل» «2» . وقال ابن عقبة، ويقول رجال: كان الذى بسيفه ما قد أصاب وجهه، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف- صلى الله عليه وسلم- يومئذ، وكسروا رباعيته، وجرحوا شفته. وفى رواية قال- عليه الصلاة والسلام-: «وأولت الدرع الحصينة بالمدينة فامكثوا فإن دخل القوم الأزفة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت» «3» . فقال أولئك القوم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم، أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم. فصلى- صلى الله عليه وسلم- بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك.

_ (1) سورة الأنفال: 36. (2) أخرجه ابن هشام فى «سيرته» (2/ 63 و 66) عن ابن إسحاق عن الزهرى وغيره مرسلا، وبنحوه أخرجه أحمد (3/ 351) ، والدارمى فى «سننه» (2159) من حديث جابر رضى الله عنه-. (3) انظر ما قبله.

ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ثم دخل صلى الله عليه وسلم- بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما-، فعمماه وألبساه. وصف الناس ينتظرون خروجه- عليه السّلام-، فقال سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الخروج، فردوا الأمر إليه، فخرج صلى الله عليه وسلم- وقد لبس لأمته- وهى بالهمزة وقد يترك تخفيفا: الدرع- وتقلد سيفه، فندموا جميعا على ما صنعوا، فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت. فقال: «ما ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه» «1» . وفى حديث ابن عباس عند أحمد والنسائى والطبرانى، وصححه الحاكم: نحو حديث ابن إسحاق، وفيه إشارة النبى- صلى الله عليه وسلم- إليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج لطلب الشهادة، ولبسه للأمته، وندامتهم على ذلك وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» وفيه: «إنى رأيت أنى فى درع حصينة» الحديث «2» . وعقد- عليه السّلام- ثلاثة ألوية: لواء بيد أسيد بن حضير. ولواء للمهاجرين بيد على بن أبى طالب وقيل بيد مصعب بن عمير. ولواء للخزرج بيد الحباب بن المنذر وقيل بيد سعد بن عبادة. وفى المسلمين مائة دارع. وخرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، دارعين «3» . واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة.

_ (1) هو قطعة من حديث جابر المتقدم. (2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 271) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 141) ، والبيهقى فى «الكبرى» (7/ 41) ، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى. (3) أى: مرتدين دروعهم.

وأدلج- عليه السّلام- فى السحر، وكان قد رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم: أسامة، وابن عمر، وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدرى. والنعمان بن بشير. قال مغلطاى: وفيه نظر. وكان المسلمون ألف رجل، ويقال: تسعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة. ونزل- عليه السّلام- بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبى فى ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق. ويقال: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالانصراف لكفرهم بمكان يقال له الشوط، وقيل بأحد. ثم صف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة. قال ابن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبى جهل. وجعل- صلى الله عليه وسلم- على الرماة- وهم خمسون رجلا- عبد الله بن جبير، وقال: «إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» «1» . كذا فى البخارى من حديث البراء. وفى حديث ابن عباس عند أحمد والطبرانى والحاكم: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقامه فى موضع ثم قال: «احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا» «2» . قال ابن إسحاق: وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من يأخذ هذا السيف بحقه» . فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك، فقال: وما حقه يا رسول الله؟

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3039) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى الحرب. (2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 287) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 324) ، والطبرانى فى «الكبير» (10/ 301) .

قال: «أن تضرب به فى وجه العدو حتى ينحنى» ، قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه- صلى الله عليه وسلم- يتبختر قال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن» . قال الزبير بن العوام- فيما قاله ابن هشام- فقلت والله لأنظرن ما يصنع أبو دجانة. فاتبعته فأخذ عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت فخرج وهو يقول: أنا الذى عاهدنى خليلى ... ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدهر فى الكيّول ... أضرب بسيف الله والرسول فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله «1» . وقوله: فى الكيول- بفتح الكاف وتشديد المثناة التحتية- مؤخر الصفوف. وهو: فيعول من كال الزند يكيل كيلا إذا كبا ولم يخرج نارا، فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل. قال أبو عبيدة: ولم يسمع إلا فى هذا الحديث. وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف. والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان فضربه شداد بن أوس فقتله فقال صلى الله عليه وسلم-: «إن حنظلة لتغسله الملائكة» ، فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله ابن أبى فقالت: خرج وهو جنب فقال- عليه السّلام-: «لذلك غسلته الملائكة» «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2470) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى دجانة سماك ابن خرشة- رضى الله عنه-، وأحمد فى «مسنده» (3/ 123) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 255) ، من حديث أنس- رضى الله عنه- مختصرا، وهو عند الحاكم (3/ 256) مطولا من حديث الزبير بن العوام- رضى الله عنه-. (2) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (3/ 225) ، والبيهقى فى «الكبرى» (4/ 15) ، وفى «الدلائل» (3/ 246) من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنه-.

وبذلك تمسك من قال من العلماء: إن الشهيد يغسل إذا كان جنبا. وقتل على طلحة بن أبى طلحة، صاحب لواء المشركين، ثم حمل لواءهم عثمان بن أبى طلحة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه. ثم أنزل الله نصره على المسلمين فحسوا الكفار بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة، فولى الكفار لا يلوون على شىء، ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم. ووقعوا ينهبون العسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم. وفى البخارى: قال البراء: فقال أصحاب عبد الله بن جبير: أى قوم، الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون، فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين «1» . وفى حديث عائشة عند البخارى أيضا: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أى عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أخراهم «2» . وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس: أنهم لما رجعوا اختلطوا بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا، فوقع القتل فى المسلمين بعضهم فى بعض «3» . وفى رواية غيرهما: ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبى جهل فحملوا على من بقى من النفر الرماة فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير. وفى البخارى: أنهم لما اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من

_ (1) هو الذى عند البخارى برقم (3039) وقد تقدم قريبا. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3290) فى بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده. (3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 287) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 324) ، وقد تقدم قريبا.

مبارز، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فشد عليه فكان كأمس الدابر، وكان وحشى كامنا تحت صخرة، فلما دنا منه رماه بحربته حتى خرجت من بين وركيه فكان آخر العهد به «1» . انتهى. وكان مصعب بن عمير قاتل دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قتل، وكان الذى قتله ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصاح ابن قمئة إن محمدا قتل. ويقال كان ذلك إزب العقبة، ويقال: بل هو إبليس- لعنه الله- تصور فى صورة جعال. وقال قائل: أى عباد الله أخراكم، أى: احترزوا من جهة أخراكم فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل. قال موسى بن عقبة: ولما فقد- عليه السّلام-، قال رجل منهم: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلوا البيوت. وقال رجال منهم: إن كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتل أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء. منهم أنس بن مالك بن النضر شهد له بها عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ. قال فى «عيون الأثر» : كذا وقع فى هذا الخبر: أنس بن مالك، وإنما هو أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر. انتهى. وثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى انكشفوا عنه، وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق، وسبعة من الأنصار. وفى البخارى: لم يبق معه- عليه الصلاة والسلام- إلا اثنا عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين، وكان- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4072) فى المغازى، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه-.

فقال أبو سفيان: أفى القوم محمد، ثلاث مرات، فنهاهم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يجيبوه، ثم قال: أفى القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفى القوم ابن الخطاب ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وبقى لك ما يسوؤك، قال: يوم بيوم، والحرب سجال «1» . وتوجه- صلى الله عليه وسلم- يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته «2» ، والذى جرح وجهه عبد الله بن قمئة، وعتبة بن أبى وقاص أخو سعد هو الذى كسر رباعيته، ومن ثم لم يولد من نسله ولد يبلغ الحنث إلا وهو أبخر أو أهتم- أى مكسور الثنايا من أصلها- يعرف ذلك فى عقبة. وقال ابن هشام، فى حديث أبى سعيد الخدرى: إن عتبة بن أبى وقاص رمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن هشام الزهرى شجه فى جبهته وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر فى وجنته، ووقع- صلى الله عليه وسلم- فى حفرة من الحفر التى كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين. وفى رواية: وهشموا البيضة على رأسه «3» - أي كسروا الخوذة- ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه فى حفرة من الحفر التى حفرها أبو عامر، فأخذ على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ونشبت حلقتان من المغفر فى وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما فى وجهه. وامتص مالك بن سنان- والد أبى سعيد الخدرى- الدم من وجنته ثم

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3039) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى الحرب، من حديث البراء بن عازب- رضى الله عنه-. (2) الرباعية: هى السن التى بين مقدم الأسنان والناب، والحديث أخرجه مسلم (1790) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-. (3) انظر الحديث السابق.

ازدرده، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: من مس دمى دمه لم تصبه النار، وسيأتى- إن شاء الله تعالى- حكم دمه- عليه السّلام-. وفى الطبرانى من حديث أبى أمامة قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فشج وجهه وكسر رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قميئة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يمسح الدم عن وجهه: «أقمأك الله» فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة «1» . وروى ابن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسحه ويقول «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم» فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» «3» . ورواه أحمد والترمذى والنسائى من طريق حميد به. وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعى: بلغنا أنه لما خرج- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، أخذ شيئا فجعل ينشف دمه وقال: لو وقع منه شىء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء، ثم قال: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» «4» . وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى قال: ضرب وجه النبى صلى الله عليه وسلم- يومئذ بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها. قال فى فتح البارى: وهذا مرسل قوى، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة، انتهى. وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد- فيما قاله ابن

_ (1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (8/ 130) ، وفى «مسند الشاميين» (453) وانظر «الفتح» للحافظ ابن حجر (7/ 366- 367) . (2) سورة آل عمران: 128. (3) صحيح: وهو عند البخارى (7/ 422) تعليقا فى المغازى، باب: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ..، ووصله مسلم (1791) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد. (4) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 120) ، من حديث سهل بن سعد الساعدى.

هشام- فخرجت أول النهار حتى انتهت إلى رسول الله قالت: فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس حتى خلصت الجراحة إلى، أصابنى ابن قمئة- أقمأه الله تعالى- لما ولى الناس عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أقبل يقول: دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا، قالت فاعترضت له، فضربنى هذه الضربة، ولكن ضربته ضربات على ذلك، ولكن عدو الله عليه درعان. قالت أم سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور. وتترس دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما قاله ابن إسحاق- أبو دجانة بنفسه، يقع النبل فى ظهره وهو منحن عليه حتى كثر عليه النبل وهو لا يتحرك. ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: ارم فداك أبى وأمى، حتى إنه ليناولنى السهم ماله نصل فيقول: ارم به. وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذها رسول الله بيده وردها إلى موضعها وقال: «اللهم اكسه جمالا» فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا «1» . ورواه الدارقطنى بنحوه، ويأتى لفظه- إن شاء الله تعالى- فى مقصد المعجزات. ورمى أبو رهم كلثوم بن الحصين بسهم فوقع فى نحره فبصق عليه صلى الله عليه وسلم- فبرىء. وانقطع سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه- صلى الله عليه وسلم- عرجونا فعاد فى يده سيفا، فقاتل به وكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل يتوارث حتى بيع من بغا التركى من أمراء المعتصم بالله فى بغداد بمائتى دينار. وهذا نحو حديث عكاشة السابق فى غزوة بدر إلا أن سيف عكاشة كان يسمى العون، وهذا يسمى العرجون.

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (3/ 252) .

واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأشراف أصحابه. وكان أول من عرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كعب بن مالك، قال عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما عرفوه نهضوا ونهض معهم نحو الشعب، معه أبو بكر وعمر وعلى ورهط من المسلمين، فلما أسند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله، يعطف عليه رجل منا؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: دعوه، فلما دنا تناول- صلى الله عليه وسلم- الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه- عليه السّلام- انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله عليه الصلاة والسلام-، فطعنه طعنة وقع بها عن فرسه ولم يخرج له دم فكسر ضلعا من أضلاعه. فلما رجع إلى قريش قال: قتلنى والله محمد، أليس قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك، فو الله لو بصق على لقتلنى. فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة «1» . رواه البيهقى وأبو نعيم ولم يذكر: فكسر ضلعا من أضلاعه. قال الواقدى: وكان ابن عمر يقول: مات أبى بن خلف ببطن رابغ، فإنى لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا نار تأجج لى لهبها فهبتها، وإذا رجل يخرج منها فى سلسلة يجتذبها يصيح العطش، وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، هذا أبى بن خلف، ورواه البيهقى. ولما انتهى- صلى الله عليه وسلم- إلى فم الشعب ملأ على بن أبى طالب درقته من

_ (1) أخرجه البيهقى فى «الدلائل» (3/ 258) .

المهراس- وهو صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء، وقيل هو اسم ماء بأحد فجاء به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من رمى وجه نبيه «1» . وصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- الظهر يومئذ قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا. قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجد عن الأذان والأنف، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل «2» . وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد، كتب على سهم نعم، وعلى آخر: لا، وأجالها عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج إلى أحد، فلما قال: أعل هبل، أى زد علوّا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعمر أجبه فقل: «الله أعلى وأجل» «3» . فقال أبو سفيان: أنعمت فعال، أى اترك ذكرها فقد صدقت فى فتواها وأنعمت، أى أجابت بنعم. فقال عمر: لا سواء، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار. فقال: إن لنا عزى ولا عزى لكم.

_ (1) صحيح: أخرجه بنحوه البخارى (4073) فى المغازى، باب: ما أصاب النبى- صلى الله عليه وسلم- من الجراح يوم أحد، ومسلم (1793) فى الجهاد والسير، باب: اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4043) فى المغازى، باب: غزوة أحد، من حديث البراء رضى الله عنه-. (3) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.

فقال- صلى الله عليه وسلم-: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» «3» . ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال- صلى الله عليه وسلم- لرجل من أصحابه: «قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد» «1» . وذكر الطبرانى: أنه لما انصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنهم فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما لقيت النبى- صلى الله عليه وسلم- اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير أحرقته بالنار وكمدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم «2» . ثم أرسل- عليه الصلاة والسلام- محمد بن مسلمة- كما ذكره الواقدى- فنادى فى القتلى: يا سعد بن الربيع، مرة بعد أخرى، فلم يجبه، حتى قال إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أرسلنى إليك، فأجابه بصوت ضعيف، فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق فقال: أبلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنى السلام، وقل له: يقول لك، جزاك الله عنا خير ما جزى به نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك عنى السلام وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم (عين) تطرف، ثم مات «3» . وقتل أبو جابر، فما عرف إلا ببنانه «4» - أى أصابعه، وقيل أطرافها، واحدتها. بنانه. وخرج- صلى الله عليه وسلم- يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادى، قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فنظر- عليه السّلام- إلى شىء لم ينظر إلى شىء أوجع لقلبه منه فقال: «رحمة الله عليك، لقد كنت فعولا للخير، وصولا للرحم، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك» قال: فنزلت عليه خواتيم سورة

_ (1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (3/ 100) . (2) قلت: هو عند مسلم (1790) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-. (3) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (3/ 221) ، من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه- وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (4) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (4048) فى المغازى، باب: غزوة أحد، ومسلم (1903) فى الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، من حديث أنس- رضى الله عنه-، إلا أن المقتول عمه أنس بن النضر- رضى الله عنه-، ولم أقف على رواية أبى جابر.

النحل وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «1» الآية، فصبر وكفر عن يمينه وأمسك عما أراد «2» . وممن مثل به كما مثل بحمزة عبد الله بن جحش، ابن أخت حمزة، ولذا يعرف بالمجدع فى الله، وكان حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة فى قبر واحد. ولما أشرف- صلى الله عليه وسلم- على القتلى قال: «أنا شهيد على هؤلاء وما من جريح يجرح فى الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم والريح ريح المسك» «3» . وفى رواية عبد الله بن ثعلبة قال- صلى الله عليه وسلم- لقتلى أحد: «زملوهم بجراحهم» . وروى أبو بكر بن مردويه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا جابر ألا أخبرك: ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا، فقال سلنى أعطك، فقال أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه سبق منى أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قال: أى رب فأبلغ من ورائى، فأنزل الله وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً «4» » «5» الآية.

_ (1) سورة النحل: 126. (2) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 119) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- وقال: رواه البزار والطبرانى وفيه صالح بن بشير المزنى، وهو ضعيف، ا. هـ. قلت: وكذا ضعفه الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (7/ 371) . (3) صحيح بنحوه: أخرجه البخارى (237) فى الوضوء، باب: ما يقع من النجاسات فى السمن والماء، ومسلم (1876) فى الإمارة باب: فضل الجهاد والخروج فى سبيل الله، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بنحوه، وهو عند البيهقى فى «الدلائل» (3/ 290) بهذا اللفظ، ولكن من طريق آخر. (4) سورة آل عمران: 169. (5) حسن: أخرجه الترمذى (3010) فى التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وابن ماجه (190) فى المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، و (2800) فى الجهاد، باب: فضل الشهادة فى سبيل الله، وأحمد فى «مسنده» (3/ 361) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وعن ابن عباس قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا فى الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل هذه الآيات وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا «1» » «2» . قال بعض من تكلم على هذا الحديث: قوله: ثم تأوى إلى قناديل، يصدقه قوله تعالى وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ «3» وإنما تأوى إلى تلك القناديل ليلا وتسرح نهارا، وبعد دخول الجنة فى الآخرة لا تأوى إلى تلك القناديل، وإنما ذلك فى البرزخ. وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها. وقد رد هذا القول، ويشهد له ما وقع فى مسند ابن أبى شيبة وغيره: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق عند باب الجنة، فى قباب خضر يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيّا» «4» . قال الحافظ عماد الدين بن كثير: كأن الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم فى الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح. قال: وقد روينا فى مسند الإمام أحمد حديثا فيه بشرى لكل مؤمن بأن

_ (1) سورة آل عمران: 169. (2) حسن: أخرجه أبو داود (2520) فى الجهاد، باب: فى فضل الشهادة، وأحمد فى «مسنده» (1/ 265) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) سورة الحديد: 19. (4) حسن: أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 266) ، وابن حبان فى «صحيحه» (4658) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 84) ، والطبرانى فى «الأوسط» (123) ، وفى «الكبير» (10/ 333) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بسند حسن.

روحه تكون فى الجنة أيضا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة. قال: وهو إسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعى عن مالك بن أنس عن الزهرى عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه يرفعه: «نسمة المؤمن طائر يعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» «1» . وقوله يعلق، أى يأكل، وفى هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر فى الجنة، وأما أرواح الشهداء ففى حواصل طير خضر، فهى كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها. فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان. وقد استشهد يوم أحد من المسلمين سبعون- فيما قاله مغلطاى. وغيره- وقيل خمسة وستون وأربعة من المهاجرين. وروى ابن منده من حديث أبى بن كعب قال: استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون ومن المهاجرين ستة وصححه ابن حبان من هذا الوجه. وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلا، وقتل- صلى الله عليه وسلم- بيده أبى بن خلف. وحضرت الملائكة يومئذ، ففى حديث سعد بن أبى وقاص عند مسلم فى صحيحه: «أنه رأى عن يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعنى جبريل وميكائيل يقاتلان كأشد القتال» «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 455) ، وهو عند النسائى (4/ 108) فى الجنائز، باب: أرواح المؤمنين، وابن ماجة (4271) فى الزهد، باب: ذكر القبر والبلى، ومالك فى «موطئه» (1/ 240) ، وأحمد فى «مسنده» (3/ 455 و 456 و 460) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (4054) فى المغازى، باب: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما..، ومسلم (2306) فى الفضائل، باب: فى قتال جبريل وميكائيل عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، واللفظ له.

وفيه- كما قدمناه فى غزوة بدر- أن قتال الملائكة معه- صلى الله عليه وسلم- لا يختص بيوم بدر، خلافا لمن زعمه، كما نص عليه النووى فى شرح مسلم كما قدمته والله أعلم. ولما بكى المسلمون على قتلاهم سر بذلك المنافقون وظهر غش اليهود. ذكر القاضى عياض فى الشفاء عن القاضى أبى عبد الله بن المرابط من المالكية أنه قال: من قال إن النبى- صلى الله عليه وسلم- هزم يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لأنه تنقص، إذ لا يجوز ذلك عليه فى خاصته، إذ هو على بصيرة من أمره ويقين من عصمته. انتهى. وهذا موافق لمذهبنا. لكن قال العلامة البساطى من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة، أعنى حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل انتهى. وقد كان فى قصة أحد، وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة. منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهى، لما وقع من ترك الرماة موقعهم الذى أمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألايبرحوا منه. ومنها: أن عادة الرسل أن تبتلى ثم تكون لهم العافية، والحكمة فى ذلك أن لو انتصروا دائما لدخل المسلمين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميز الصادق من الكاذب. وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيّا عن المسلمين فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول حتى عاد التلويح تصريحا، وعرف المسلمون أن لهم عدوّا فى دارهم، واستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها: أن فى تأخير النصر فى بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها فلما ابتلى المسلمون صبروا وجزع المنافقون.

غزوة حمراء الأسد:

ومنها: أن الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها. ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التى يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم فى إيذاء أوليائه، فمحص ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين. غزوة حمراء الأسد «1» : وهى على ثمانية أميال من المدينة على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة. وكانت صبيحة يوم الأحد لست عشرة، أو لثمان خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة لطلب عدوهم بالأمس، ونادى مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألايخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، أى من شهد أحدا. وإنا خرج- عليه الصلاة والسلام- مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج فى طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذى أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. وأقام- صلى الله عليه وسلم- بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة وقد غاب خمسا. وظفر- صلى الله عليه وسلم- فى مخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن أبى العاص فأمر بضرب عنقه صبرا. قال الحافظ مغلطاى: وحرمت الخمر فى شوال، ويقال فى سنة أربع. انتهى.

_ (1) حمراء الأسد: اسم موضع على ثمانية أميال من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة، وانظر أخبار الغزوة فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 121) ، وابن كثير فى «تفسيره» (1/ 428 و 429) ، وفى «البداية والنهاية» (3/ 97) .

قال أبو هريرة فيما رواه أحمد: حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم- عنهما فأنزل الله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «1» إلى آخر الآية. فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: فيهما إثم كبير. وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه فى المغرب خلط فى قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «2» . وكان الناس يشربون ثم نزلت آية أغلظ منها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «3» قال: انتهينا ربنا «4» . والميسر: القمار وقيل غيره. وولد الحسن بن على فى هذه السنة. ثم سرية عبد الله بن عبد الأسد، هلال المحرم على رأس خمس وثلاثين شهرا من الهجرة، إلى قطن- جبل بناحية فيد- ومعه مائة وخمسون رجلا من الأنصار والمهاجرين، لطلب طليحة وسلمة ابنى خويلد، فلم يجدهما، ووجد إبلا وشاء فأغار عليهما ولم يلق كيدا. ثم سرية عبد الله بن أنيس وحده، يوم الإثنين لخمس خلون من المحرم، على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة، إلى سفيان بن خالد الهذلى بعرنة- وادى عرفة- لأنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أنه جمع الجموع لحربه. فلما وصل إليه قال له ممن الرجل؟ قال: من بنى خزاعة، سمعت

_ (1) سورة البقرة: 219. (2) سورة النساء: 43. (3) سورة المائدة: 90. (4) أخرجه أحمد فى «مسنده» (2/ 351) .

بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك، قال: أجل. فمشى معه ساعة، ثم اغتره وقتله، وأخذ رأسه، فكان يسير الليل ويتوارى النهار، حتى قدم المدينة، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أفلح الوجه» قال: أفلح وجهك يا رسول الله، ووضع رأسه بين يديه «1» . وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من محرم. ثم سرية عاصم بن ثابت، فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة إلى الرجيع- بفتح الراء وكسر الجيم، اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان- بناحية الحجاز، وكانت الوقعة بالقرب منه فسميت به. وحديث عضل والقارة- بفتح الضاد المعجمة بعدها لام- بطن من بنى الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش. وأما القارة، فبالقاف وتخفيف الراء، بطن من الهون ينسبون إلى الديش المذكور، قال ابن دريد: القارة: أكمة سوداء فيها حجارة، كأنهم نزلوا عندها فسموا بها. وقصة عضل القارة كانت فى بعث الرجيع، لا فى سرية بئر معونة، وقد فصل بينهما ابن إسحاق، فذكر بعث الرجيع فى أواخر سنة ثلاث، وبئر معونة أوائل سنة أربع. وذكر الواقدى أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاآ إلى النبى صلى الله عليه وسلم- فى ليلة واحدة. وسياق ترجمة البخارى يوهم أن بعث الرجيع وبئر معونة شىء واحد، وليس كذلك، لأن بعث الرجيع كان سرية عاصم وخبيب وأصحابهما، وهى مع عضل والقارة.

_ (1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 496) ، وانظر «سنن أبى داود (1249) فى الصلاة، باب: صلاة الطالب.

وبئر معونة كانت سرية القراء، وهى مع رعل وذكوان، وكأن البخارى أدمجها معها لقربها منها. ويدل على قربها منها ما فى حديث أنس من تشريك النبى- صلى الله عليه وسلم- بين بنى لحيان وبين عصية وغيرهم فى الدعاء. ولم يرد البخارى- رحمه الله- أنهما قصة واحدة، ولم يقع ذكر عضل والقارة عنده صريحا. وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق. فإنه بعد أن استوفى قصة أحد قال: ذكر يوم الرجيع: حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستة من أصحابه وأمر- صلى الله عليه وسلم- على القوم مرثد بن أبى مرثد الغنوى. كذا فى السيرة له- وفى الصحيح: وأمر عليهم عاصم بن ثابت، كما سيأتى، وهو أصح- فخرجوا مع القوم حتى أتوا على الرجيع- ماء لهذيل- غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم، وهم فى رحالهم، إلا الرجال بأيديهم السيوف، وقد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألانقتلكم، فأبوا، فأما مرثد وخالد وعاصم، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا وقاتلوا حتى قتلوا. وفى البخارى: وأمر عليهم عاصم بن ثابت، حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة- ذكروا لحى من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم فى مائتى رجل. وعند بعضهم فتبعوهم بقريب من مائة رام «1» . والجمع بينهما واضح، بأن تكون المائة الآخرى غير رماة.

_ (1) انظر القصة فى «صحيح البخارى» (3045) فى الجهاد والسير، باب: هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

وفى رواية أبى مشعر فى مغازيه: فنزلوا بالرجيع سحرا، فأكلوا تمر عجوة، فسقط نواه بالأرض، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون بالنهار، فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنما، فرأت النواآت وأنكرت صغرهن، وقالت هذا تمر يثرب فصاحت فى قومها قد أتيتم، فجاؤا فى طلبهم، فوجدوهم قد كمنوا فى الجبل، وتبعوا آثارهم حتى لحقوهم. وفى رواية ابن سعد: فلم يرع القوم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم. فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد- بفاءين مفتوحتين، ومهملتين، الأولى ساكنة- وهى الرابية المشرفة، فأحاط بهم القوم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألانقتل منكم رجلا، فقال عاصم بن ثابت أيها القوم: أما أنا فلا أنزل فى ذمة كافر، ثم قال اللهم أخبر عنا رسولك، فاستجاب الله لعاصم فأخبر رسول الله خبرهم يوم أصيبوا. فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصما، ونزل إليهم على العهد والميثاق: خبيب ابن عدى وزيد بن الدثنة- بفتح الدال المهملة، وكسر المثلاثة، والنون المفتوحة المشددة- وعبد الله بن طارق. فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة، فابتاع بنو الحارث ابن عامر خبيبا، فلبث خبيب عندهم أسيرا، حتى إذا أجمعوا على قتله استعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها- يعنى يحلق عانته- فغافلت عن ابن لها صغير فأقبل إليه الصبى فأجلسه عنده فخشيت المرأة أن يقتله، ففزعت، فقال خبيب: ما كنت لأغدر. قال قالت: والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يأكل قطفا من عنب مثل رأس الرجل، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وما كان إلا رزقا رزقه الله «1» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4086) فى المغازى باب غزوة الرجيع.

وهذه كرامة جعلها الله تعالى لخبيب، آية على الكفار، وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته. والكرامة للأولياء ثابتة مطلقا عند أهل السنة. لكن استثنى بعض المحققين منهم كالعلامة الربانى أبى القاسم القشيرى ما وقع به التحدى لبعض الأنبياء فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك. وهذا أعدل المذاهب فى ذلك. وإن إجابة الدعوة فى الحال، وتكثير الطعام والمكاشفة بما يغيب عن العين والإخبار بما سيأتى ونحو ذلك قد كثر جدّا، حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة. فانحصر الخارق الآن فى نحو ما قاله القشيرى، وتعين تقييد من أطلق، بأن كل معجزة لنبى يجوز أن تقع كرامة لولى. ووراء ذلك: أن الذى استقر عند العامة، أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك يكون من أولياء الله، وهو غلط. فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله إلى فارق، وأولى ما ذكروه: أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهى، كان علامة على ولايته، ومن لا فلا. والله أعلم انتهى ملخصا من الفتح «1» . ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال: دعونى أصلى ركعتين- وعند موسى بن عقبة: أنه صلاهما فى موضع مسجد التنعيم- وقال: اللهم أحصهم عددا، ولا تبق منهم أحدا، واقتلهم بددا- يعنى متفرقين- فلم يحل الحول ومنهم أحد حى. وفى رواية بريدة بن سفيان، فقال خبيب: اللهم إنى لا أجد من يبلغ رسولك منى السلام فبلغه. وفى رواية أبى الأسود عن عروة، جاء جبريل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك.. الحديث.

_ (1) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (7/ 383 و 10/ 223) .

ثم أنشأ يقول: فلست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى شق كان لله مصرعى وذلك فى ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع «1» والأوصال جمع: وصل، وهو العضو. والشلو- بكسر المعجمة- الجسد ويطلق على العضو. لكن المراد به هنا الجسد. والممزع- بالزاى، ثم المهملة- القطع ومعنى الكلام: أعضاء جسد مقطع. وعند أبى الأسود عن عروة زيادة فى هذا الشعر: لقد أجمع الأحزاب فى وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وفيه أيضا: إلى الله أشكو غربتى بعد كربتى ... وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى وساق ابن إسحاق هذه الأبيات ثلاثة عشر بيتا، قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها لخبيب. وكان خبيب أول من سن الركعتين عند القتل لكل مسلم قتل صبرا، كذا قال ابن إسحاق، وقوله هذا يدل على أنها سنة جارية. وإنما صار فعل خبيب سنة- والسنة إنما هى أقوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريره- لأنه فعله فى حياته- صلى الله عليه وسلم-، فاستحسن ذلك من فعله واستحسنها المسلمون. والصلاة خير ما ختم به عمل العبد. وقد صلى هاتين الركعتين زيد بن حارثة، مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وذلك فى حياته- عليه الصلاة والسلام-، كما رويناه من طريق السهيلى بسنده إلى الليث بن سعد قال: بلغنى أن زيد بن حارثة اكترى بغلا من رجل بالطائف، فاشترط عليه المكرى أن ينزله حيث شاء. قال: فمال به إلى خربة، فقال له انزل فنزل، فإذا فى الخربة قتلى كثيرة، قال فلما أراد أن يقتله قال له

_ (1) صحيح: وهو عند البخارى (3045) فيما تقدم.

دعنى أصلى ركعتين، قال: صلّ فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا، فلما صليت أتانى ليقتلنى فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتا: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج يطلبه فلم ير شيئا، فرجع إلى، فناديت: يا أرحم الراحمين فعل ذلك ثلاثا، فإذا بفارس على فرس فى يده حربة حديد فى رأسها شعلة نار، فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتا. ثم قال: لما دعوت المرة الأولى: يا أرحم الراحمين كنت فى السماء السابعة، فلما دعوت المرة الثانية يا أرحم الراحمين كنت فى سماء الدنيا، فلما دعوت الثالثة أتيتك. انتهى. ووقع فى رواية أبى الأسود عن عروة: فلما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب- يعنى خبيبا- نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يفدينى بشوكة فى قدمه «1» . ويقال: إن الذى قال ذلك زيد بن الدثنة، وأن أبا سفيان قال له: يا زيد، أنشدك الله أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنك فى أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإنى لجالس فى أهلى. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب كحب أصحاب محمد محمدا. ثم قتله نسطاس- بكسر النون-. وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشىء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظامائهم يوم بدر، ولعل العظيم المذكور: عقبة بن أبى معيط، فإن عاصما قتله صبرا بأمر النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد أن انصرفوا من بدر. ووقع عند ابن إسحاق وكذا فى رواية بريدة بن سفيان: أن عاصما لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وهى أم مسافح وجلاس ابنى طلحة

_ (1) ذكره ابن الجوزى فى «المنتظم» (3/ 201) .

العبدرى، وكان عاصم قتلهما يوم أحد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر فى قحفه- بكسر القاف، وهو ما انفلق من الجمجمة فبان-. قال الطبرى: وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة. فمنعهم منه الدبر- بفتح المهملة وسكون الموحدة: الزنابير- فلم يقدروا منه على شىء «1» . وكان عاصم بن ثابت قد أعطى الله عهدا ألايمسه مشرك ولا يمس مشركا. فكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته، كما حفظه فى حياته. وإنما استجاب الله تعالى له فى حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه. سرية المنذر بن عمرو- بفتح العين المهملة- إلى بئر معونة- بفتح الميم وضم المهملة وسكون الواو بعدها نون- موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان. فى صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد. بعث معه المطلب السلمى ليدلهم على الطريق. وكانت مع رعل- بكسر الراء وسكون العين المهملة- بطن من بنى سليم، ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك. وذكوان بطن من بنى سليم أيضا ينسون إلى ذكوان بن ثعلبة. فنسبت الغزوة إليها. وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكان من أمرها- كما قاله ابن إسحاق- أنه قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة

_ (1) انظر حديث البخارى (3045 و 4086) .

على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام. وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى أخشى أهل نجد عليهم» قال أبو براء: أنا لهم جار فابعثهم. فبعث- عليه الصلاة والسلام- المنذر بن عمرو، ومعه القراء وهم سبعون- وقيل أربعون وقيل: ثلاثون-. وقد بين قتادة فى روايته أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، وفى رواية ثابت: يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن بالليل. فساروا حتى نزلوا بئر معونة، بعثوا حرام بن ملحان بكتابه- صلى الله عليه وسلم- إلى عدو الله عامر بن الطفيل العامرى، ومات كافرا- وليس هو عامر بن الطفيل الأسلمى الصحابى- فلما أتاه لم ينظر فى كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بنى عامر فلم يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: عصية ورعلا فأجابوه إلى ذلك، ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم فى رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم، إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا «1» . وأسر عمرو بن أمية الضمرى، فلما أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فلما بلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- خبرهم، قال «هذا عمل أبى براء قد كنت لهذا كارها متخوفا» ، فبلغ ذلك أبا براء فمات أسفا على ما صنع عامر بن الطفيل «2» . وقتل عامر بن فهيرة يومئذ فلم يوجد جسده، دفنته الملائكة.

_ (1) انظر القصة فى «دلائل النبوة» للبيقهى (3/ 338- 340) . (2) انظر المصدر السابق (3/ 341) .

[غزوة بنى النضير] :

قال ابن سعد عن أنس بن مالك: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة. وفى صحيح مسلم عن أنس أيضا: (دعا- صلى الله عليه وسلم- على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا، يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله، قال أنس: أنزل الله فى الذين قتلوا يوم بئر معونة قرآنا ثم نسخ بعد أى نسخت تلاوته- أن بلغوا قومنا أنا قد لقينا بنا، فرضى عنا ورضينا عنه «1» . كذا وقع فى هذه الرواية، وهو يوهم أن بنى لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة، وليس كذلك. وإنما أصاب رعل وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم، وأما بنو لحيان فهم الذين أصابوا بعث الرجيع. وإنما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم- عنهم كلهم فى وقت واحد، فدعا على الذين أصابوا أصحابه فى الموضعين دعاء واحدا والله أعلم. [غزوة بنى النضير] «2» : ثم غزوة بنى النضير- بفتح النون وكسر الضاد المعجمة- قبيلة كبيرة من اليهود، فى ربيع الأول سنة أربع. وذكرها ابن إسحاق هنا. قال السهيلى: وكان ينبغى أن يذكرها بعد بدر، لما روى عقيل بن خالد وغيره عن الزهرى قال: كانت غزوة بنى النضير على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد. ورجح الداودى ما قاله ابن إسحاق من أن غزوة بنى النضير بعد بئر

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4089) فى المغازى، باب: غزوة الرجيع، ومسلم (677) فى المساجد، باب: استحباب القنوت فى جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة. (2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 190- 195) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 57) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 145- 154) ، و «دلائل النبوة» (3/ 176) .

معونة، مستدلا بقوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ «1» . قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهو استدلال واه، فإن الآية نزلت فى شأن بنى قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب، وأما بنو النضير فلم يكن لهم فى الأحزاب ذكر، بل كان من أعظم الأسباب فى جمع الأحزاب ما وقع من إجلائهم، فإنه كان من رؤسهم حيى بن أخطب، وهو الذى حسن لبنى قريظة الغدر، وموافقة الأحزاب حتى كان من هلاكهم ما كان فكيف يصير السابق لاحقا. انتهى. وقد تقدم قريبا أن عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة عن أمه، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف رجلين من بنى عامر معهما عقد وعهد من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بنى عامر، فتركهما حتى ناما فقتلهما عمرو، وظن أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: «لقد قتلت قتيلين لأدينهما» «2» . قال ابن إسحاق وغيره: ثم خرج- صلى الله عليه وسلم- إلى بنى النضير ليستعين بهم فى دية ذينك القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، للجوار الذى كان- صلى الله عليه وسلم- عقده لهما، وكان بين بنى النضير وبين بنى عامر عقد وحلف. فلما أتاهم- صلى الله عليه وسلم- يستعينهم فى ديتهما قالوا: يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال. وكان- صلى الله عليه وسلم- إلى جنب جدار من بيوتهم. وقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت فيلقى هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقى عليه الصخرة ورسول الله فى نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلى- رضى الله عنهم-.

_ (1) سورة الأحزاب: 26. (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 129) وقال: رواه الطبرانى ورجاله ثقات.

قال ابن سعد: فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم، وإنه لنقض للعهد الذى بيننا وبينه. قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام- صلى الله عليه وسلم- مظهرا أنه يقضى حاجته، وترك أصحابه فى مجلسهم، ورجع مسرعا إلى المدينة. واستبطأ النبى- صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فقاموا فى طلبه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما أرادت يهود من الغدر به. قال ابن عقبة: ونزل فى ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ «1» الآية. قال ابن إسحاق: فأمر- صلى الله عليه وسلم- بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. ثم سار بالناس حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال. قال ابن إسحاق: فتحصنوا منه فى الحصون فقطع النخل وحرقها وخرب. فنادوه: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها. قال السهيلى: قال أهل التأويل: وقع فى نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شىء حتى أنزل الله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ إلى قوله: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ «2» واللينة: ألوان التمر ما عدا العجوة والبرنى. ففى هذه الآية أنه صلى الله عليه وسلم- لم يحرق من نخلهم إلا ما ليس بقوت الناس، وكانوا يقتاتون العجوة، وفى الحديث «العجوة من الجنة وتمرها يغذو أحسن غذاء» «3» ، والبرنى أيضا كذلك. ففى قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ «4» . ولم يقل

_ (1) سورة المائدة: 11. (2) سورة الحشر: 5. (3) صحيح: أخرجه البخارى (2066) فى الطب، باب: ما جاء فى الكمأة والعجوة، وابن ماجه (3455) فى الطب، باب: الكمأة والعجوة، وأحمد فى «مسنده» (2/ 301 و 325 و 356 و 488 و 490) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) سورة الحشر: 5.

من نخلة على العموم، تنبيه على كراهة قطع ما يقتات ويغذو من شجر العدو إذا رجى أن يصل إلى المسلمين. قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من بنى عوف بن الخزرج منهم عبد الله ابن أبى ابن سلول بعثوا إلى بنى النضير: أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. فتربصوا، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، فلم ينصروهم فسألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجليهم عن أرضهم ويكف عن دمائهم. وعند ابن سعد: أنهم حين هموا بغدره- صلى الله عليه وسلم- وأعلمه الله بذلك، بعث إليهم محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدى فلا تساكنونى بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا، فمن رؤى منكم بعد ذلك ضربت عنقه. فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون، وتكاروا من أناس من أشجع إبلا، فأرسل إليهم عبد الله بن أبى: لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا فى حصونكم فإن معى ألفين من قومى من العرب يدخلون حصونكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حيى فيما قاله ابن أبى، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-، إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فأظهر- صلى الله عليه وسلم- التكبير، وكبر المسلمون بتكبيره، وسار إليهم- صلى الله عليه وسلم- فى أصحابه، فصلى العصر بفناء بنى النضير، وعلى يحمل رايته، فلما رأوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قاموا على حصونهم، ومعهم النبل والحجارة، واعتزلهم ابن أبى ولم يمنعهم، وكذا حلفاؤهم من غطفان، فيئسوا من نصرهم، فحاصرهم- صلى الله عليه وسلم- وقطع نخلهم، وقال لهم- عليه الصلاة والسلام-: «اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة» - وهى بإسكان اللام قال فى القاموس، الدرع- فنزلت يهود على ذلك فحاصرهم خمسة عشر يوما، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم «1» .

_ (1) انظر الطبقات الكبرى، لابن سعد (2/ 57) .

[غزوة ذات الرقاع] :

ثم أجلاهم عن المدينة وولى إخراجهم محمد بن مسلمة. وحملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير فلحقوا بخيبر. وحزن عليهم المنافقون حزنا شديدا. وقبض- صلى الله عليه وسلم- الأموال، ووجد من الحلقة خمسين درعا وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا. وكانت بنو النضير صفيّا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حبسا لنوائبه، ولم يسهم منه لأحد، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنما قذف فى قلوبهم الرعب، وأجلوا عن منازلهم إلى خيبر، ولم يكن ذلك عن قتال من المسلمين لهم، فقسمها- صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار، إذ كانوا قد قاسموهم فى الأموال والديار، غير أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف لحاجتهما. وفى الإكليل: وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبى الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم. [غزوة ذات الرقاع] «1» : واختلف فيها متى كانت: فعند ابن إسحاق: بعد بنى النضير سنة أربع، فى شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى. وعند ابن سعد وابن حبان: فى المحرم سنة خمس. وجزم أبو معشر: بأنها بعد بنى قريظة فى ذى القعدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع فى آخر السنة الخامسة وأول التى تليها.

_ (1) انظر هذه الغزوة فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 203- 209) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 61- 62) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (3/ 369) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 160- 168) ، أما عن سبب تسميتها بذات الرقاع فسيعلله المصنف بعد قليل.

قال فى فتح البارى: قد جنح البخارى إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر، فلا أدرى: هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازى أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين كما أشار إليها البيهقى. على أن أصحاب المغازى مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون فى زمانها. انتهى. والذى جزم به ابن عقبة تقدمها، لكن تردد فى وقتها: لا ندرى كانت قبل بدر أو بعدها؟ أو قبل أحد أو بعدها؟ قال الحافظ ابن حجر: وهذا التردد لا حاصل له، بل الذى ينبغى الجزم به أنها بعد غزوة بنى قريظة، لأن صلاة الخوف فى غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف فى غزوة ذات الرقاع. فدل على تأخرها بعد الخندق. ثم قال عند قول البخارى: «وهى بعد خيبر» لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، وإذا كان كذلك وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع لزم أنها كانت بعد خيبر. قال: وعجبت من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخارى حديث أبى موسى هذا حجة فى أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر. قال: وليس فى خبر أبى موسى ما يدل على شىء من ذلك، انتهى كلام ابن سيد الناس. قال: وهذا النفى مردود، والدلالة على ذلك واضحة كما قررته. قال: وأما الدمياطى: فادعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه. وقد تقدم أنهم مختلفون فى زمانها. فالأولى الاعتماد على ما ثبت فى الصحيح. وأما قول الغزالى: إنها آخر الغزوات. فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح فى إنكاره.

وقال بعض من انتصر للغزالى: لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف. وهو انتصار مردود، بما أخرجه أبو داود والنسائى وصححه ابن حبان من حديث أبى بكرة: أنه صلى مع النبى- صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف «1» . وإنما أسلم أبو بكرة بعد غزوة الطائف بالاتفاق. انتهى. وأما تسميتها بذات الرقاع: فلأنهم رقعوا فيها راياتهم، قاله ابن هشام. وقيل: لشجرة فى ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع. وقيل: الأرض التى نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض، كأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت ذات الرقاع لذلك. وقيل: إن خيلهم كان بها سواد وبياض. قاله ابن حبان. وقال الواقدى: سميت بجبل هناك فيه بقع. قال الحافظ ابن حجر: وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف عليه بخيل. قال: وأغرب الداودى فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها. انتهى. قال السهيلى: وأصح من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخارى عن أبى موسى الأشعرى قال: (خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماى، وسقطت أظفارى، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا) «2» . وكان من خبر هذه الغزوة، كما قاله ابن إسحاق: أنه- صلى الله عليه وسلم- غزا نجدا

_ (1) قلت: حديث أبى بكرة فى صلاة الخوف عند أبى داود (1248) فى الصلاة، باب: من قال يصلى بكل طائفة ركعتين، والنسائى (3/ 178) فى صلاة الخوف، باب: رقم (1) ، بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (4128) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع.

يريد بنى محارب وبنى ثعلبة- بالمثلاثة- من غطفان- بفتح الغين المعجمة والمهملة- لأنه- صلى الله عليه وسلم- بلغه أنهم جمعوا الجموع: فخرج فى أربعمائة من أصحابه- وقيل: سبعمائة- واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، وقيل أبا ذر. حتى نزل نخلا- بالخاء المعجمة- موضعا من نجد من أراضى غطفان. قال ابن سعد: فلم يجد فى محالهم إلا نسوة فأخذهن. وقال ابن إسحاق: فلقى جمعا منهم فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس. قال ابن سعد: وكان ذلك أول ما صلاها. وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة وسيأتى إن شاء الله تعالى الكلام على ما تيسر منها فى مقصد عباداته- صلى الله عليه وسلم-. وكانت غيبته- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الغزوة خمس عشرة ليلة. وفى البخارى عن جابر قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فجاء رجل من المشركين وسيف النبى- صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة فاخترطه- يعنى سلة من غمده- فقال تخافنى قال: لا، قال: فمن يمنعك منى؟ قال: «الله» «1» . وعند أبى عوانة: فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «من يمنعك منى؟» قال: كن خير آخذ. قال: «تشهد ألاإله إلا الله وأنى رسول الله؟» ، قال الأعرابى: أعاهدك أنى لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلى سبيله. فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. وفى رواية عند البخارى: ولم يعاقبه «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4136 و 4137) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (843) فى الفضائل، باب: توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس. (2) قلت: هو عند البخارى برقم (2913 و 4135 و 4137 و 4139) .

وإنما لم يؤاخذه- صلى الله عليه وسلم- بما صنع، وعفا عنه، لشدة رغبته- عليه الصلاة والسلام- فى استئلاف الكفار ليدخلوا فى الإسلام. وفى رواية أبى اليمان عند البخارى- فى الجهاد- قال: من يمنعك منى ثلاث مرات «1» . وهو استفهام إنكارى، أى لا يمنعك منى أحد. وقد كان الأعرابى قائما على رأسه والسيف فى يده والنبى- صلى الله عليه وسلم- جالس لا سيف معه. ويؤخذ من مراجعة الأعرابى له فى الكلام أن الله سبحانه منع نبيه، وإلا فما الذى أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الخطوة عند قومه بقتله. وفى قوله- صلى الله عليه وسلم- فى جوابه: الله، أى يمنعنى منك، إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعادها الأعرابى فلم يزده على ذلك الجواب، وفى ذلك غاية التهكم وعدم المبالاة به. وذكر الواقدى فى نحو هذه القصة أنه أسلم، ورجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير. وقال فيه: إنه رمى بالزلخة حين هم بقتله- صلى الله عليه وسلم-، فندر السيف من يده وسقط إلى الأرض. والزلخة- بضم الزاى وتشديد اللام- وجع يأخذ فى الصلب. وقال البخارى: قال مسدد عن أبى عوانة عن أبى بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث، أى على وزن جعفر. وحكى الخطابى فيه: غويرث، بالتصغير. وقد تقدم فى غزوة غطفان وهى غزوة ذى أمر بناحية نجد مثل هذه القصة لرجل اسمه دعثور، وأنه قام على رأسه- صلى الله عليه وسلم-، بالسيف فقال: من يمنعك منى؟ فقال: - صلى الله عليه وسلم-: الله، ودفع جبريل فى صدره فوقع السيف من يده وأنه أسلم. قال فى عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحد.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2910) فى الجهاد والسير، باب: من علق سيفه بالشجر فى السفر عند القائلة.

[غزوة بدر] :

وقال غيره من المحققين: الصواب أنهما قصتان فى غزوتين. وفى هذه القصة: فرط شجاعته، وقوة يقينه وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال- صلى الله عليه وسلم-. وفى انصرافه- صلى الله عليه وسلم- من هذه الغزوة، أبطأ جمل جابر بن عبد الله فنخسه- صلى الله عليه وسلم- فانطلق متقدما بين يدى الركاب، ثم قال: «أتبيعينيه؟» فابتاعه منه وقال: لك ظهره إلى المدينة، فلما وصلها أعطاه الثمن وأرجح، ووهب له الجمل «1» . والحديث أصله فى البخارى. ولا حجة فيه لجواز بيع وشرط، لما وقع فيه من الاضطراب. وقيل غير ذلك مما يطول ذكره والله أعلم. [غزوة بدر] «2» : وهى الصغرى، وتسمى: بدر الموعد. وكانت فى شعبان، بعد ذات الرقاع. قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم خرج فى شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان. ويقال: كانت فى هلال ذى القعدة. وميعاد أبى سفيان: هو ما سبق أن أبا سفيان قال يوم أحد: الموعد بيننا وبينكم بدر العام القابل، فقال- صلى الله عليه وسلم- لرجل من أصحابه: قل: «نعم هو بيننا وبينكم موعد» . فخرج- صلى الله عليه وسلم- ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه، وعشرة أفراس،

_ (1) انظر الحديث فى «صحيح البخارى» (2097) فى البيوع، باب: شراء الدواب والحمر، ومسلم (715) فى الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر. (2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 209- 213) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 59 و 60) ، والطبرانى فى «تاريخه» (3/ 41) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 169- 172) .

غزوة دومة الجندل:

واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان. وخرج أبو سفيان حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران، ويقال: عسفان، ثم بدا له الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا، فرجع الناس. فسماهم أهل مكة: جيش السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق. وأقام- صلى الله عليه وسلم- ببدر ثمانية أيام، وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمين. وأنزل الله فى المؤمنين: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. إلى قوله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «1» الآية. والصحيح أن هذه الآية نزلت فى شأن حمراء الأسد، كما نص عليه العماد بن كثير. غزوة دومة الجندل «2» : وهى بضم الدال من «دومة» هى مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. قال أبو عبيد البكرى: سميت بدومى بن إسماعيل، كان نزلها. وكانت فى شهر ربيع الأول، على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة، وكان سببها أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم،

_ (1) سورة آل عمران: 172- 174. (2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 213) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 62 و 63) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 43) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 177 و 178) .

غزوة بنى المصطلق:

فخرج- عليه الصلاة والسلام- لخمس ليال بقين من شهر ربيع، فى ألف من أصحابه، فكان يسير الليل ويكمن النهار واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة. فلما دنا منهم، لم يجد إلا النعم والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب، وهرب من هرب فى كل وجه. وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا، ونزل- صلى الله عليه وسلم- بساحتهم فلم يلق بها أحدا، فأقام بها أياما، وبث السرايا وفرقها، فرجعوا، ولم يصب منهم أحد. ودخل المدينة فى العشرين من ربيع الآخر. غزوة بنى المصطلق «1» : غزوة المريسيع: - بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتيتين بينهما مهملة مكسورة وآخره عين مهملة- وهو ماء لبنى خزاعة، بينه وبين الفرع يومان. وتسمى غزوة بنى المصطلق- بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء المهملة، وكسر اللام بعدها قاف- وهو لقب واسمه: جذيمة بن سعد بن عمرو، بطن من خزاعة. وكانت لليلتين خلتا من شعبان، سنة خمس، وفى البخارى، قال ابن إسحاق سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع انتهى. قالوا: وكأنه سبق قلم، أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع، والذى فى مغازى موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابورى والبيهقى فى الدلائل وغيرهم سنة خمس. وسببها أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن رئيسهم الحارث بن أبى ضرار سار فى قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأجابوه، وتهيئوا للمسير معه إليه.

_ (1) هو: لقب لجذيمة بن سعد بن عمرو بطن من بنى خزاعة، وتسمى أيضا غزوة المريسيع، كما ذكر المصنف، وهو ماء لبنى خزاعة بينه وبين الفرع (موضع من ناحية المدينة) مسيرة يوم أو يومين.

فبعث- صلى الله عليه وسلم- بريدة بن الحصيب الأسلمى يعلم علم ذلك، فأتاهم ولقى الحارث بن أبى ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وخرج- صلى الله عليه وسلم- مسرعا فى بشر كثير من المنافقين، لم يخرجوا فى غزاة قط مثلها. واستخلف على المدينة زيد بن حارثة. وقادوا الخيل، وكانت ثلاثين فرسا وخرجت عائشة وأم سلمة. وبلغ الحارث ومن معه مسيره- عليه السّلام- فسىء بذلك هو ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب. وبلغ- عليه السّلام- المريسيع، وصف أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبى بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر- عليه السّلام- أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، وقتلوا عشرة وأسروا سائرهم، وسبوا النساء والرجال والذرية والنعم والشاء. ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، كذا ذكره ابن إسحاق. والذى فى صحيح البخارى من حديث ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم فأوقع بهم ولفظه: «أغار على بنى المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تستقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وهم على الماء» «1» . فيحتمل أن يكون حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلا، فلما كثر فيهم القتل انهزموا بأن يكونوا لما دهمهم وهم على الماء وتصافوا وقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم. قيل وفى هذه الغزوة نزلت آية التيمم. وفى الصحيحين من حديث

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2541) فى العتق، باب: من ملك من العرب رقيقا، ومسلم (1730) فى الجهاد والسير، باب: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة.

عائشة: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بعض أسفاره، فذكر حديث التيمم «1» . قال فى فتح البارى: «قوله فى بعض أسفاره» قال ابن عبد البر فى التمهيد: يقال إنه كان فى غزوة بنى المصطلق. وجزم بذلك فى الاستذكار. وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان، وغزوة بنى المصطلق هى غزوة المريسيع. وفيها كانت قصة الإفك لعائشة «2» ، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا. فإن كان ما جزموا به ثابتا، حمل على أنه سقط منها فى تلك السفرة مرتين، لاختلاف القصتين، كما هو بين من سياقهما «3» . قال: واستبعد بعض شيوخنا ذلك، لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها فى الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، وهما بين مكة وخيبر كما جزم به النووى. قال: وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التين فإنه قال البيداء هى ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش وراء ذى الحليفة. وقال أبو عبيد البكرى فى معجمه: البيداء أدنى إلى مكة من ذى الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا، ثم قال: وذات الجيش من المدينة على بريد. قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال. والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين. وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد، ومنهم محمد بن حبيب الأخبارى فقال: سقط عقد عائشة فى غزوة ذات الرقاع وفى غزوة بنى المصطلق.

_ (1) قلت: الحديث أخرجه البخارى (334) فى التيمم، باب: وقول الله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، ومسلم (367) فى الحيض، باب: التيمم. (2) حديث قصة الإفك تقدم. (3) قاله الحافظ فى «الفتح» (1/ 432) وكذلك ما بعده.

وقد اختلف أهل المغازى فى أى هاتين الغزوتين كانت أولا. وقال الداودى: كانت قصة التيمم فى غزوة الفتح ثم تردد فى ذلك. وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع. فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بنى المصطلق، لأن إسلام أبى هريرة كان فى السنة السابعة، وهى بعدها بلا خلاف. وكان البخارى يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبى موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبى هريرة. ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك ما رواه الطبرانى من طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدى ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- فى غزوة أخرى، فسقط أيضا عقدى حتى حبس الناس على التماسه، فقال أبو بكر: يا بنية فى كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله الرخصة فى التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة «1» . وفى إسناده محمد بن حميد الرازى. وفيه مقال. وفى سياقه من الفوائد: بيان عتاب أبى بكر الذى أبهم فى حديث الصحيح، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين فى غزوتين. انتهى. وفى هذه الغزوة قال ابن أبى: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم، ذو الأذن الواعية، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم- بذلك فأرسل إلى ابن أبى وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فأنزل الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ «2» فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله قد صدقك يا زيد» «3» . رواه البخارى.

_ (1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (23/ 121) بسند فيه محمد بن حميد الرازى، وفيه مقال. (2) سورة المنافقون: 1. (3) صحيح: والحديث آخرجه البخارى (4900) فى التفسير، باب: قوله: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ إلى لَكاذِبُونَ، من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-.

غزوة الخندق:

وكانت غيبته- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوما. غزوة الخندق: وهى الأحزاب: جمع حزب، أى طائفة. فأما تسميتها بالخندق: فلأجل الخندق الذى حفر حول المدينة بأمره صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس. وكان الذى أشار بذلك سلمان، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبى- صلى الله عليه وسلم- بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين. وأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم: قريش وغطفان واليهود ومن معهم. وقد أنزل الله تعالى فى هذه القصة صدرا من سورة الأحزاب. واختلف فى تاريخها: فقال موسى بن عقبة: كانت فى شوال سنة أربع. وقال ابن إسحاق: كانت فى شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازى. ومال البخارى إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه «1» . فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث، فتكون الخندق سنة أربع. ولا حجة فيه إذا ثبت لنا أنها كانت سنة خمس، لاحتمال أن يكون ابن عمر. فى أحد كان أول ما طعن فى الرابعة عشر، وكان فى الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقى.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2664) فى الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، ومسلم (1868) فى الإمارة، باب: بيان سن البلوغ.

وقال الشيخ ولى الدين بن العراقى: والمشهور أنها فى السنة الرابعة. وكان من حديث هذه الغزوة: أن نفرا من يهود قدموا على قريش بمكة وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له. ثم خرج أولئك اليهود حتى جاؤا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه- عليه الصلاة والسلام-، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك واجتمعوا معهم. فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن فى فزارة، والحارث بن عوف المرى فى مرة. وكان عدتهم- فيما ذكره ابن إسحاق- عشرة آلاف. والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك. وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا. ولما سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأحزاب، وبما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه- صلى الله عليه وسلم- ترغيبا للمسلمين فى الأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا. وأبطأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى المسلمين فى عملهم ذاك ناس من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل. وفى البخارى: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الخندق، وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار» «1» . والأكتاد: - بالمثناة الفوقية- جمع كتد- بفتح أوله وكسر المثناة- وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفى بعض نسخ البخارى: أكبادنا بالموحدة، وهو موجه على أن يكون المراد به مما يلى الكبد من الجنب.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3797) فى المناقب، باب: دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم- أصلح الأنصار والمهاجرة، ومسلم (1804) فى الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهى غزوة الخندق.

وفى البخارى أيضا: عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون فى غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا «1» قال ابن بطال: وقوله اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، هو من قول ابن رواحة تمثل به- صلى الله عليه وسلم-. وعند الحارث بن أبى أسامة من مرسل طاووس زيادة فى آخر الرجز: والعن عضلا والقارة ... هم كلفونا نقل الحجارة وفى البخارى من حديث البراء قال: (لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنى الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا قال: يمد بها صوته..) وفى رواية له أيضا: إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا «2»

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2834) فى الجهاد والسير، باب: التحريض على القتال، ومسلم (1805) فى الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهى غزوة الخندق. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3034) فى الجهاد والسير، باب: الرجز فى الحرب، ومسلم (1803) فى الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهى غزوة الخندق.

وفى حديث سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى أنه- صلى الله عليه وسلم- حين ضرب فى الخندق قال: بسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا فحبذا ربا وحب دينا قال فى النهاية: يقال بديت بالشىء- بكسر الدال- أى بدأت به، فلما خفف الهمزة كسر الدال، فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء. انتهى. وقد وقع فى حفر الخندق آيات من أعلام نبوته- صلى الله عليه وسلم-. منها ما فى الصحيح عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة- وهى بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتانية، وهى القطعة الصلبة- فجاؤا النبى- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذه كدية عرضت فى الخندق، فقام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبى- صلى الله عليه وسلم- المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم «1» . كذا بالشك من الراوى، وفى رواية الإسماعيلى باللام من غير شك، والمعنى: أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك. وأهيم: بمعنى أهيل. وقد قيل فى قوله تعالى: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ «2» . المراد: الرمال التى لا يرويها الماء. وقد وقع عند أحمد والنسائى فى هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء قال: لما كان حين أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، عرضت لنا فى بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فجاء وأخذ المعول فقال: «بسم الله» ، ثم ضرب ضربة فنشر ثلثها، وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنى لأبصار قصورها

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4101) فى المغازى، باب: غزوة الخندق وهى الأحزاب. (2) سورة الواقعة: 55.

الحمر الساعة» ، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، وإنى والله لأبصار قصر المدائن الأبيض الآن» ، ثم ضرب الثالثة فقال: «بسم الله» فقطع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصار أبواب صنعاء من مكانى الساعة» «1» . ومن أعلام نبوته ما ثبت فى الصحيح من حديث جابر من تكثير الطعام القليل يوم حفر الخندق «2» ، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى- مستوفى فى مقصد المعجزات مع غيره. وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا فى عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة. وعند الواقدى: أربعا وعشرين. وفى الروضة للنووى: خمسة عشر يوما. وفى الهدى النبوى لابن القيم: أقاموا شهرا. ولما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول فى عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بنى كنانة وتهامة. ونزل عيينة بن حصن فى غطفان ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد. وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين حتى جعلوا أظهرهم إلى سلع، وكانوا ثلاثة آلاف رجل. فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم. وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد ابن عبادة. وكان- صلى الله عليه وسلم- يبعث الحرس إلى المدينة خوفا على الذرارى من بنى قريظة.

_ (1) حسن: أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 303) ، بسند فيه ميمون، أبو عبد الله، لم يوثقه غير ابن حبان، وقد روى له الترمذى والنسائى وابن ماجه. (2) قلت: هو تتمة حديث البخارى (4101) المتقدم قبل حديث.

قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيى بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظى صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم- على قومه وعاقده، فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال ويحك يا حيى، إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، فإنى لم أر منه إلا وفاء وصدقا. فقال: ويلك افتح، ولم يزل به حتى فتح له، فقال: ويلك يا كعب، جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونه غطفان وقد عاهدونى على ألايبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، ولم يزل به حتى نقض عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمرو بن أبى سلمة مع النساء فى أطم حسان، فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بنى قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت يا أبت رأيتك تختلف، قال: رأيتنى يا بنى؟ قلت: نعم. قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من يأت بنى قريظة فيأتينى بخبرهم» فانطلقت، فلما رجعت جمع لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبويه فقال: فداك أبى وأمى «1» . أخرجه الشيخان والترمذى وقال: حديث حسن. وفى رواية أصحاب المغازى: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما ابن رواحة وخوات بن جبير ليعرفوا الخبر، فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم- وتبرؤا من عقده وعهده، ثم أقبل السعدان ومن معهما على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقالوا: عضل والقارة، أى كغدرهما بأصحاب الرجيع. فعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3720) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام رضى الله عنه-، ومسلم (2416) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير رضى الله عنهما-.

ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأنزل الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «1» الآيات. وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال أوس ابن قيظى: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا، فإنها خارج المدينة. وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومى على فرس له ليوثبه الخندق فوقع فى الخندق فقتله الله. وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنا نعطيك الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبى صلى الله عليه وسلم-: «إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب لنا فى ديته» «2» . قال ابن إسحاق: وأقام- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل، لكن كان عمرو بن عبد ود العامرى اقتحم هو ونفر معه خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، حتى صاروا بالسبخة، فبارزه على فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة فقتله الزبير وقيل قتله على، ورجعت بقية الخيول منهزمة. ورمى سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل- وهو بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة- عرق فى وسط الذراع، قال الخليل: هو عرق الحياة يقال إن كل عضو منه شعبة فهو فى اليد الأكحل وفى الظهر الأبهر وفى الفخذ النسا، إذا قطع لم يرفأ الدم. وكان الذى رمى سعدا، ابن عرقة، أحد بنى عامر بن لؤى، قال: خذها منى وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك فى النار. ثم قال

_ (1) سورة الأحزاب: 12. (2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 248) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بذكر ذكر اسم الرجل، وذكره التقى الهندى فى «كنز العمال» (30102) عن عكرمة- رضى الله عنه- وعزاه لابن أبى شيبة.

سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها، فإنه لا قوم أحب إلىّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه. وأقام- عليه الصلاة والسلام- وأصحابه بضع عشرة ليلة. فمشى نعيم ابن مسعود الأشجعى- وهو مخف إسلامه- فثبط قومه عن قوم وأوقع بينهم شرّا لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «الحرب خدعة» «1» فاختلفت كلمتهم. وروى الحاكم عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب وأبو سفيان ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون بيوتنا عورة، فمر بي النبى- صلى الله عليه وسلم- وأنا جاث على ركبتى، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة فقال: اذهب فائتنى بخبر القوم، ودعا لى، فأذهب الله عنى القر والفزع، فدخلت عسكرهم فإذا الريح فيه لا تجاوز شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس فى طريقى فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم. وفى رواية: أن حذيفة لما أرسله- صلى الله عليه وسلم- ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الخف والكراع، واختلفنا وبنو قريظة، ولقينا من هذا الريح ما ترون فارتحلوا فإنى مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم. ووقع فى البخارى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب: «من يأتينا بخبر القوم» فقال الزبير: أنا، فقال: «من يأتينا بخبر القوم» ، فقال الزبير: أنا، فقال: «من يأتينا بخبر القوم؟» قالها ثلاثا «2» . وقد استشكل ذكر الزبير فى هذه.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3030) فى الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، ومسلم (1739) فى الجهاد والسير، باب: جواز الخداع فى الحرب، من حديث جابر- رضى الله عنه-، وفى الباب من حديث أبى هريرة فى الصحيحين أيضا. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2846) فى الجهاد والسير، باب: فضل الطليعة، ومسلم (2415) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير- رضى الله عنهما-، من حديث جابر- رضى الله عنه-.

فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذى ذهب والمشهور أنه حذيفة ابن اليمان. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التى ذهب لكشفها غير القصة التى ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف خبر بنى قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الآخرى، وأرسل الله عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة، فانتدب عليه السّلام- من يأتيه بخبر قريش فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك، وقصته فى ذلك مشهورة لما دخل بين قريش فى الليل وعرف قصتهم «1» . وفى البخارى من حديث عبد الله بن أبى أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» «2» . وروى أحمد عن أبى سعيد قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شىء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال: نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح «3» . وفى «ينبوع الحياة» لابن ظفر: قيل إنه- صلى الله عليه وسلم- دعا فقال: يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همى وغمى وكربى فإنك ترى ما نزل بى وبأصحابى. فأتاه جبريل فبشره بأن الله سبحانه يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه ورفع يديه قائلا: شكرا شكرا، وهبت ريح الصبا

_ (1) قاله الحافظ فى «الفتح» (7/ 407) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (2933) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم (1742) فى الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو. (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 3) .

ليلا فقلعت الأوتاد وألقت عليهم الأبنية وكفأت القدور وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصي، وسمعوا فى أرجاء معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح فارتحلوا هرابا فى ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم. قال: فذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها «1» . وفى البخارى عن على أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال يوم الخندق: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» «2» ومقتضى هذا أنه استمر اشتغاله بقتال المشركين حتى غابت الشمس. ويعارضه ما فى صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: حبس المشركون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «شغلونا عن الصلاة الوسطى» «3» الحديث. ومقتضى هذا أنه لم يخرج الوقت بالكلية. قال الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أى الحمرة أو الصفرة، ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب انتهى. وفى البخارى عن عمر بن الخطاب: أنه جاء يوم الخندق وجعل يسب كفار قريش قال: يا رسول الله، ما كدت أصلى حتى كادت الشمس أن تغرب فقال- صلى الله عليه وسلم-: «والله ما صليتها» ، فنزلنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب «4» .

_ (1) سورة الأحزاب: 9. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2931) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم (627) فى المساجد، باب: التغليظ فى تفويت صلاة العصر. (3) صحيح: أخرجه مسلم (628) فى المساجد، باب: التغليظ فى تفويت صلاة العصر. (4) صحيح: أخرجه البخارى (596) فى المواقيت، باب: من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، ومسلم (631) فى المساجد، باب: التغليظ فى تفويت صلاة العصر، من حديث جابر- رضى الله عنه-.

وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها، ومقتضى هذه الرواية المشهورة أنه لم يفت غير العصر. وفى الموطأ: الظهر والعصر. وفى الترمذى عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن أربع صلوات يوم الخندق «1» . وقال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله، فمال ابن العربى إلى الترجيح وقال: الصحيح أن التى اشتغل عنها- صلى الله عليه وسلم- واحدة وهى العصر. وقال النووى: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا فى بعض الأيام وهذا فى بعضها. قال: وأما تأخيره- صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر حتى غربت الشمس فكان قبل نزول صلاة الخوف. قال العلماء: يحتمل أن يكون أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب فى النسيان الاشتغال بأمر العدو، ويحتمل أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل يصلى صلاة الخوف على حسب الحال. وقد اختلف فى المراد بالصلاة الوسطى. وجمع الحافظ الدمياطى فى ذلك مؤلفا مفردا سماه: كشف المغطى عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا، وهى: الصبح أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو جميع الصلاة وهو يتناول الفرائض والنوافل واختاره ابن عبد البر، أو الجمعة وصححه القاضى حسين فى صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر فى الأيام والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء لأنها بين صلاتين لا تقصران، أو الصبح والعشاء، أو الصبح والعصر لقوة الأدلة. فظاهر القرآن الصبح، ونص السنة العصر، أو صلاة الجماعة أو الوتر أو صلاة الخوف أو صلاة عيد الأضحى أو الفطر أو صلاة

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (179) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الرجل تفوته الصلاة بأيتهن يبدأ، والنسائى (2/ 17) فى الآذان، باب: الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد والإقامة لكل منهما، وأحمد فى «مسنده» (1/ 375) بسند منقطع.

[غزوة بنى قريظة] :

الضحى، أو واحدة من الخمس غير معينة، أو الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول السابق أو التوقف انتهى. وانصرف- صلى الله عليه وسلم- من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذى القعدة، وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوما، وقيل أربعة وعشرين يوما. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا» «1» . وفى ذلك علم من أعلام النبوة. فإنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمر فى السنة التى صدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة فوقع الأمر كما قال- عليه الصلاة والسلام-. وسيأتى ذلك إن شاء الله تعالى-. وقد أخرج البراز من حديث جابر بإسناد حسن شاهدا لهذا ولفظه: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: «لا يغزونكم بعدها أبدا، ولكن أنتم تغزونهم» «2» . [غزوة بنى قريظة] : ولما دخل- صلى الله عليه وسلم- المدينة يوم الأربعاء هو وأصحابه ووضعوا السلاح جاء جبريل- عليه السّلام- معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج. وفى رواية البخارى من حديث عائشة أنه لما رجع- صلى الله عليه وسلم- ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال له: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه. فاخرج إليهم.. وأشار إلى بنى قريظة «3» .

_ (1) أخرجه البيهقى فى «الدلائل» (3/ 458) ، وابن هشام فى «السيرة» (3/ 206) ، وهو عند البخارى (4109 و 4110) فى المغازى، باب: غزوة الخندق وهى الأحزاب بلفظ: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» . (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 139) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. (3) صحيح: أخرجه البخارى (2813) فى الجهاد والسير، باب: الغسل بعد الحرب والغبار، ومسلم (1769) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد.

وعند ابن إسحاق: إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مؤذنا فأذن فى الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببنى قريظة. وعند ابن عائذ: قم فشد عليك سلاحك، فو الله لأدقنهم دق البيض على الصفا، وبعث يومئذ مناديا ينادى يا خيل الله اركبى «1» . وعند الحاكم والبيهقى: وبعث عليّا على المقدمة، وخرج- صلى الله عليه وسلم- فى أثره. وعند ابن سعد: ثم سار إليهم فى المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذى القعدة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قاله ابن هشام. ونزل- صلى الله عليه وسلم- على بئر من آبار بنى قريظة وتلاحق به الناس. فأتى رجال منهم بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة» «2» فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك فى كتابه ولا عنفهم به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وفى البخارى عن ابن عمر: فأدرك بعضهم العصر فى الطريق، فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلى، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبى- صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدا منهم «3» . كذا وقع فى جميع النسخ من البخارى: أنها العصر. واتفق عليه جميع أهل المغازى.

_ (1) ذكره العجلونى فى «كشف الخفاء» (3170) وعزاه لابن عائذ فى المغازى عن قتادة مرسلا. (2) صحيح: أخرجه البخارى (946) فى الجمعة، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء، ومسلم (1770) فى الجهاد والسير، باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.

ووقع فى مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخارى ومسلم على روايته عن شيخ واحد وبإسناد واحد. ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون. وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم- قبل الأمر- كان يصلي الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التى بعدها العصر، والله أعلم. قال ابن إسحاق: وحاصرهم- صلى الله عليه وسلم- خمسا وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار. وعند ابن سعد: خمس عشرة. وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة. وقذف الله فى قلوبهم الرعب. فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا فقال لهم: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنى أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هى: قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تبين أنه لنبي مرسل، وأنه الذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا. فقال: إذا أبيتم علىّ هذه، فهلم نقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه. فقالوا: أى عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا. فقال: إن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.

وأرسلوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن ابعث إلينا أبا لبابة- وهو رفاعة بن عبد المنذر- نستشيره فى أمرنا. فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرقّ لهم، وقالوا يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح. قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه فلم يأت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكانى هذا حتى يتوب الله على مما صنعت وعاهد الله ألايطأ بنى قريظة أبدا، ولا أرى فى بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا. فلما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خبره، وكان قد استبطأه قال: «أما لو جاءنى لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه» «1» . قال: وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته فى وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم تعود فتربطه بالجذع. وقال أبو عمر: روى وهب عن مالك عن عبد الله بن أبى بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه، فما كاد يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ أعادته. وعن يزيد بن عبد الله بن قسيط: أن توبة أبى لبابة نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو فى بيت أم سلمة. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله

_ (1) انظر القصة فى «دلائل النبوة» للبيهقى (4/ 16) ، وابن هشام فى «سيرته» (3/ 188- 190) .

- صلى الله عليه وسلم- من السحر وهو يضحك، فقالت: قلت مم تضحك، أضحك الله سنك. قال: «تيب على أبى لبابة» . قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله، قال: «بلى إن شئت» . قال: فقامت على باب حجرتها- وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب- فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذى يطلقنى بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه «1» . وروى البيهقى فى دلائله بسنده عن مجاهد فى قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ «2» . قال: هو أبو لبابة إذ قال لبنى قريظة ما قال وأشار إلى حلقه إن محمدا يذبحكم إن نزلتم على حكمه. قال البيهقى وترجم محمد بن إسحاق بن يسار أن ارتباطه كان حينئذ. وقد روينا عن ابن عباس ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد كان لتخلفه عن غزوة تبوك، كما قال ابن المسيب قال: وفى ذلك نزلت هذه الآية. ولما اشتد الحصار ببنى قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله فى خيمة فى المسجد الشريف لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة وكانت تداوى الجرحى، فلما حكمه أتاه قومه فحملوه على حمار وقد وطئوا له بوسادة من أدم- وكان رجلا جسيما- ثم أقبلوا معه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فلما انتهى سعد إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، قال- عليه الصلاة والسلام-: «قوموا إلى سيدكم» . فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم- المسلمين. فقالوا: إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (4/ 17) ، وابن هشام فى «سيرته» (3/ 191) . (2) سورة التوبة: 102.

فقال سعد: فإنى أحكم فيهم، أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذرارى والنساء. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» والرقيع: السماء سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم. ووقع فى البخارى: قال: قضيت فيهم بحكم الله، وربما قال: «بحكم الملك» - بكسر اللام-. وفى رواية محمد بن صالح: «لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذى حكم به من فوق سبع سموات» «1» . وفى حديث جابر- عند ابن عائذ- فقال: «احكم فيهم يا سعد» ، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال: «قد أمرك الله أن تحكم فيهم» «2» . وفى هذه القصة: جواز الاجتهاد فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- وهى مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه. والمختار: الجواز، سواء كان فى حضرته- صلى الله عليه وسلم- أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك لأنه بالتقرير يصير قطعيّا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته- صلى الله عليه وسلم- كما فى هذه القصة وغيرها. انتهى. وانصرف- صلى الله عليه وسلم- يوم الخميس لسبع ليال- كما قال الدمياطى، أو لخمس كما قاله مغلطاى- خلون من ذى الحجة. وأمر- صلى الله عليه وسلم- ببنى قريظة فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود فى السوق، وجلس- صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه، وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وقال السهيلى: المكثر يقول إنهم ما بين

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3043) فى الجهاد والسير، باب: إذا نزل العدو على حكم رجل، ومسلم (1768) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (2) ذكره الحافظ فى «الفتح» (7/ 412) وعزاه لابن عائذ.

الثمانمائة إلى التسعمائة، وفى حديث جابر عند الترمذى والنسائى وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل «1» . فيحتمل فى طريق الجمع أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعا. واصطفى- صلى الله عليه وسلم- لنفسه الكريمة ريحانة فتزوجها.، وقيل كان يطؤها بملك اليمين، وأمر بالغنائم فجمعت، وأخرج الخمس من المتاع والسبى ثم أمر بالباقى فبيع فيمن يريد وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاث آلاف واثنتين وسبعين سهما، للفرس سهمان ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدى، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعتق منه ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرثة- وهو السقط من المتاع-. وانفجر جرح سعد بن معاذ، فمات شهيدا. وفى البخارى أنه دعا: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلىّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك [وأخرجوه] ، اللهم إنى أظن أنك قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتى فيها، فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفى المسجد خيمة لامرأة من بنى غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذى يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها «2» . وقد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه فى هذه القصة مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (1582) فى السير، باب: ما جاء فى النزول على الحكم، والنسائى فى «الكبرى» (8679) ، وأحمد فى «مسنده» (3/ 350) ، وابن حبان فى «صحيحه» (4784) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (4122) فى المغازى، باب: مرجع النبى- صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة ومحاصرته إياهم، ومسلم (1769) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

فيه من المشركين، فإنه- صلى الله عليه وسلم- تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكادت الحرب أن تقع بينهم فلم تقع كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ «1» . ثم وقعت الهدنة واعتمر- عليه السّلام- من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة، فعلى هذا: فالمراد بقوله: أظن أنك قد وضعت الحرب، أى: أن يقصدونا محاربين. وهو كقوله- صلى الله عليه وسلم- «نغزوهم ولا يغزونا» كما تقدم-. وقد بين سبب انفجار جرح سعد فى مرسل حميد بن هلال- عند ابن سعد- ولفظه: أنه مرت به عنز، وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر فانفجرت حتى مات. وحضر جنازته سبعون ألف ملك، واهتز لموته عرش الرحمن «2» رواه الشيخان. قال النووى: اختلف العلماء فى تأويله: فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحركه فرحا بقدوم سعد، وجعل الله تعالى فى العرش تمييزا حصل به هذا، ولا مانع منه، كما قال تعالى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «3» . وهذا القول هو ظاهر الحديث. وهو المختار. قال المازرى: قال بعضهم: هو على حقيقته، وأن العرش تحرك لموته، وهذا لا ينكر من جهة العقل، لأن العرش جسم من الأجسام، يقبل الحركة والسكون. قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك إلا أن يقال: إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته. وقال آخرون: المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول. ومنه قول العرب:

_ (1) سورة الفتح: 24. (2) حديث اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ أخرجه البخارى (3803) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، ومسلم (2466) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (3) سورة البقرة: 74.

فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها. وقال الحربى: هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشىء المعظم إلى أعظم الأشياء، فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة. وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة. وهو النعش. وهذا القول باطل يرده صريح الروايات التى ذكرها مسلم «اهتز لموته عرش الرحمن» وإنما قال هؤلاء هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم الروايات التى ذكرها مسلم والله أعلم. انتهى. وقيل المراد باهتزاز العرش حملة العرش، وصحح الترمذى من حديث أنس قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أخف جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أخف جنازته، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن الملائكة كانت تحمله» «1» . وعن البراء قال: أهديت للنبى- صلى الله عليه وسلم- حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها وألين» «2» هذا لفظ رواية أبى نعيم فى مستخرجه على مسلم. والمناديل: جمع منديل- بكسر الميم فى المفرد- وهو معروف. قال العلماء: وهذا إشارة إلى أعظم منزلة سعد فى الجنة، وأن أدنى

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3849) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 228) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (3034) ، والطبرانى فى «الكبير» (6/ 12) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (3802) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، ومسلم (2468) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ- رضى الله عنه-.

ثيابه فيها خير من هذه، لأن المنديل أدنى الثياب، لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل. انتهى. وأخرج ابن سعد وأبو نعيم، من طريق محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال: قبض إنسان يومئذ بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هى مسك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «سبحان الله، سبحان الله» ، حتى عرف ذلك فى وجهه، فقال: «الحمد لله، لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد، ضم ضمة ثم فرج الله عنه» «1» . وأخرج ابن سعد عن أبى سعيد الخدرى قال: كنت ممن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرناه «2» . قال الحافظ مغلطاى وغيره: وفى هذه السنة فرض الحج. وقيل: سنة ست وصححه غير واحد، وهو قول الجمهور. وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان ورجحه جماعة من العلماء. وسيأتى البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى ذكر وفد عبد القيس فى المقصد الثانى، وفى ذكر حجه- عليه الصلاة والسلام- من مقصد عباداته. ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، بطن من بنى بكر بن كلاب وهم ينزلون بناحية ضربة بالبكرات، وبين ضربة والمدينة سبع ليال. لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة. بعثه فى ثلاثين راكبا، فلما أغار عليهم هرب سائرهم. وعند الدمياطى: فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم. واستاق نعما وشاء، وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعه ثمامة بن أثال الحنفى أسيرا.

_ (1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (3/ 428) ، وهو عند أحمد (6/ 55، 98) من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (3/ 128) .

غزوة بنى لحيان:

فربط بأمره- صلى الله عليه وسلم- بسارية من سوارى المسجد، ثم انطلق بأمره صلى الله عليه وسلم-، فاغتسل وأسلم وقال: يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، والله ما كان من دين أبغض إلى من دينك فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلى، والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلى. وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبى- صلى الله عليه وسلم- «1» . ذكر قصته البخارى. غزوة بنى لحيان «2» : ثم غزوة بنى لحيان- بكسر اللام وفتحها، لغتان- فى ربيع الأول سنة ست من الهجرة. وذكرها ابن إسحاق فى جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من قريظة. قال ابن حزم: الصحيح أنها فى الخامسة. قالوا: وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عاصم بن ثابت وأصحابه وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد الشام، وعسكر فى مائتى رجل ومعهم عشرون فرسا. واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم. ثم أسرع السير حتى انتهى إلى غران- واد بين أمج وعسفان، وبينها وبين عسفان خمسة أميال- حيث كان مصاب أصحابه أهل الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة، فترحم عليهم ودعا لهم.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4372) فى المغازى، باب: وفد بنى حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، ومسلم (1764) فى الجهاد والسير، باب: ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) انظر هذه الغزوة فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 281 و 289) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 80- 84) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 286- 296) .

غزوة الغابة:

فسمعت به بنو لحيان فهربوا فى رؤس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين يبعث السرايا فى كل ناحية. ثم خرج حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر فى عشرة فوارس لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا كراع الغميم، ثم رجعوا ولم يلقوا أحدا. وانصرف- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ولم يلق كيدا وهو يقول: «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون» «1» وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة. غزوة الغابة «2» : وتعرف بذى قرد- بفتح القاف والراء وبالدال المهملة- وهو ماء على بريد من المدينة. فى ربيع الأول سنة ست، قبل الحديبية. وعند البخارى أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفى مسلم نحوه. قال مغلطاى: وفى ذلك نظر لإجماع أهل السير على خلافهما. انتهى. قال القرطبى شارح مسلم: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذى قرد كانت قبل الحديبية. وقال الحافظ ابن حجر: ما فى الصحيح من التاريخ لغزوة ذى قرد أصح مما ذكر أهل السير «3» . انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3085 و 3086) فى الجهاد والسير، باب: ما يقول إذا رجع من الغزو، ومسلم (1345) فى الحج، باب: ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) موضع قرب المدينة من ناحية الشام، فيه أموال لهم. (3) قاله الحافظ فى «الفتح» (7/ 406) وتتمة قوله: ويحتمل فى طريق الجمع أن تكون إغارة عينية بن حصن على اللقاح وقعت مرتين الأولى التى ذكرها ابن إسحاق وهى قبل الحديبية، والثانية بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة كما فى سياق سلمة عند مسلم ويؤيده أن الحاكم ذكر فى «الإكليل» أن الخروج إلى ذى قرد تكرر، ففى الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفى الثانية خرج إليها النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ربيع الآخر سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها. انتهى، فإذا ثبت هذا قوى هذا الجمع الذى ذكرته، والله أعلم.

وسببها: أنه كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- عشرون لقحة- وهى ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة- ترعى بالغابة، وكان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة ابن حصن الفزارى ليلة الأربعاء، فى أربعين فارسا فاستاقوها، وقتلوا ابن أبى ذر. وقال ابن إسحاق: وكان فيها رجل من بنى غفار وامرأة، فقتلوا الرجل وسبوا المرأة، فركبت ناقة للنبى- صلى الله عليه وسلم- ليلا حين غفلتهم ونذرت لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبى- صلى الله عليه وسلم- أخبرته بذلك فقال: «لا نذر فى معصية، ولا لأحد فيما لا يملك» «1» . ونودى: يا خيل الله اركبى، وكان أول ما نودى بها. وركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى خمسمائة وقيل: سبعمائة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة فى ثلاثمائة يحرسون المدينة. وكان قد عقد للمقداد بن عمرو لواء فى رمحه وقال له امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك. فأدرك أخريات العدو. وقتل أبو قتادة مسعدة فأعطاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فرسه وسلاحه. وقتل عكاشة بن محصن أبان بن عمرو. وقتل من المسلمين محرز بن نضلة قتله مسعدة. وأدرك سلمة بن الأكوع القوم، وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل ويقول: خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع يعنى هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع، أى راضع اللؤم فى بطن أمه، وقيل معناه: اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها، ويعرف غيره.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1641) فى النذر، باب: لا وفاء لنذر فى معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.

ولحق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس والخيول عشاء، قال سلمة: فقلت يا رسول الله إن القوم عطاش، فلو بعثتنى فى مائة رجل استنقذت ما فى أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ملكت فأسجح» - وهى بهمزة قطع ثم سين مهملة ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة- أى فارفق وأحسن، والسجاحة: السهولة، أى لا تأخذ بالشدة بل ارفق. فقد حصلت النكاية فى العدو ولله الحمد. ثم قال: «إنهم ليقرون فى غطفان» «1» . وذهب الصريخ إلى بنى عمرو بن عوف فجاءت الأمداد فلم تزل الخيل تأتى والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذى قرد فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقى وهى عشر. وصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذى قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة ورجع. وقد غاب خمس ليال، وقسم فى كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها. سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى غمر مرزوق- بالغين المعجمة المفتوحة- وهو ماء لبنى أسد على ليلتين من فيد، فى شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، فى أربعين رجلا، فخرج سريعا، فنذر به القوم- بكسر الذال المعجمة كفرح- فهربوا فنزلوا علياء بلادهم. فاستاقوا مائتى بعير وقدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يلقوا كيدا. ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذى القصة «2» - بالقاف والصاد المهملة المشددة المفتوحتين- موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، فى شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة. ومعه عشرة إلى بنى ثعلبة. فورد عليهم ليلا فأحدق به القوم، وهم مائة رجل فتراموا ساعة من

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3041) فى الجهاد والسير، باب: من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: يا صبحاه، حتى يسمع الناس، ومسلم (1806) فى الجهاد والسير، باب: غزوة ذى قرد وغيرها، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-. (2) انظر ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 85- 86) ، و «شرح المواهب» ، للزرقانى (2/ 154) .

الليل ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم إلا محمد بن مسلمة فوقع جريحا، وجردوهم من ثيابهم. فمر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة فحمله حتى ورد به المدينة. فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا عبيدة بن الجراح فى ربيع الآخر فى أربعين رجلا إلى مصارعهم، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا فى الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم وتركه، وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه، ورثة من متاعهم وقدم به المدينة فخمسه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقسم ما بقى عليهم. قال فى القاموس: الرث: السقط من متاع البيت، كالرثة بالكسر. ثم سرية زيد بن حارثة «1» إلى بنى سليم بالجموم- ويقال: الجموح- ناحية ببطن نخل من المدينة على أربعة أميال. فى شهر ربيع الآخر سنة ست، فأصابوا امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بنى سليم، فأصابوا نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلما قفل زيد بما أصاب، وهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للمزينة نفسها وزوجها. ثم سرية زيد بن حارثة «2» أيضا إلى العيص، موضع على أربع ليال من المدينة، فى جمادى الأولى سنة ست، ومعه سبعون راكبا، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام يتعرض لها، فأخذها وما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسر منهم ناسا، منهم أبو العاصى بن الربيع، وقدم بهم إلى المدينة، فأجارته زوجته زينب ابنة النبى- صلى الله عليه وسلم- ونادت فى الناس- حين صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الفجر- إنى قد أجرت أبا العاصى. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما علمت بشىء من هذا، وقد أجرنا من أجرت» «3» ورد عليه ما أخذ منه.

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 86) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 155) . (2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 87) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 155- 158) . (3) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 87) .

وذكر ابن عقبة: أن أسره كان على يد أبى بصير بعد الحديبية. وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبى- صلى الله عليه وسلم- بالنكاح الأول، قيل بعد سنتين وقيل بعد ست سنين، وقيل قبل انقضاء العدة. وفى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «ردها له بنكاح جديد سنة سبع» «1» . ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى الطرف، وهو ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، فى جمادى الآخرة سنة ست. فخرج إلى بنى ثعلبة فى خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبح زيد بالنعم المدينة، وهى عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال. ثم سرية زيد إلى حسمى «2» - بكسر المهملة- وهى وراء وادى القرى، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ست. وسببها: أنه أقبل دحية بن خليفة الكلبى من عند قيصر، وقد أجازه وكساه، فلقيه الهنيد فى ناس من جذام بحسمى فقطعوا عليه الطريق، فسمع بذلك نفر من بنى الضبيب فنفروا إليهم فاستنقذوا لدحية متاعه. وقدم دحية على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك فبعث زيد بن حارثة وخمسمائة رجل، ورد معه دحية. فكان زيد يسير الليل ويكمن النهار، فأقبل بهم حتى هجموا مع الصبح على القوم فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم. فأخذوا من النعم ألف شاة، ومائة من النساء والصبيان. فرحل زيد بن رفاعة الجذامى فى نفر من قومه، فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- كتابه الذى كان كتب له ولقومه ليالى قدم عليه فأسلم.

_ (1) انظر المصدر السابق (2/ 87) . (2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 89، 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 162، 163) .

وبعث- صلى الله عليه وسلم- عليّا إلى زيد بن حارثة يأمره أن يخلى بينهم وبين حرمهم وأموالهم، فرد عليهم. ثم سرية زيد أيضا إلى وادى القرى أيضا، فى رجب سنة ست، فقتل من المسلمين قتلى، وارتث زيد، أى حمل من المعركة رثيثا، أى جريحا وبه رمق- وهو مبنى للمجهول، قاله فى القاموس. ثم سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل «1» ، فى شعبان سنة ست. قالوا: دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن عوف، فأقعده بين يديه، وعممه بيده، وقال: «اغز، باسم الله، وفى سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا» ، وبعثه إلى كلب بدومة الجندل، وقال: «إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم» «2» . فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبى، وكان نصرانيّا، وكان رئيسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية. وتزوج عبد الرحمن تماضر- بضم المثناة الفوقية، وكسر الضاد المعجمة- بنت الأصبغ، وقدم بها المدينة فولدت له أبا سلمة. ثم سرية على بن أبى طالب «3» فى شعبان سنة ست من الهجرة، ومعه مائة رجل إلى بنى سعد بن بكر، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر. فأغاروا عليهم بالغمج بين فدك وخيبر، فأخذوا خمسمائة بعير وألفى شاة، وهربت بنو سعد، وقدم علىّ ومن معه المدينة ولم يلقوا كيدا.

_ (1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 89) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 160 162) . (2) أخرجه ابن سعد فى الموضع السابق. (3) انظر هذه السرية فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 89 و 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 162 و 163) .

ثم سرية زيد بن حارثة «1» إلى أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر الفزارية، بناحية وادى القرى، على سبع ليال من المدينة فى رمضان سنة ست من الهجرة. وكان سببها: أن زيد بن حارثة خرج فى تجارة إلى الشام. ومعه بضائع لأصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- فلما كان بوادى القرى لقيه ناس من فزارة من بنى بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم. وقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فبعثه- عليه السّلام- إليهم، فكمن هو وأصحابه بالنهار وساروا بالليل، ثم صبحهم زيد وأصحابه، فكبروا وأحاطوا بالحاضر، وأخذوا أم قرفة- وكانت ملكة رئيسة- وأخذوا ابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر. وعمد قيس بن المحسر إلى أم قرفة- وهى عجوز كبيرة- فقتلها قتلا عنيفا، وربط بين رجليها حبلا ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما فذهبا فقطعاها. وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقام إليه عريانا يجر ثوبه، حتى اعتنقه وقبله وسأله فأخبره بما أظفره الله به. ثم سرية عبد الله بن عتيك «2» لقتل أبى رافع، عبد الله- ويقال سلام- ابن أبى الحقيق اليهودى، وهو الذى حزب الأحزاب يوم الخندق. وكانت هذه السرية فى شهر رمضان سنة ست، كذا ذكره ابن سعد هاهنا وذكر فى ترجمة عبد الله بن عتيك: أنه بعثه فى ذى الحجة إلى أبى رافع سنة خمس بعد وقعة بنى قريظة. وقيل فى جمادى الآخرة سنة ثلاث. وفى البخارى: قال الزهرى: بعد قتل كعب بن الأشرف.

_ (1) انظر هذه السرية فى «الطبقات الكبرى» (2/ 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 163) . (2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 91) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 164) .

وأرسل معه أربعة: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبا قتادة والأسود بن خزاعى، ومسعود بن سنان، وأمرهم بقتله. فذهبوا إلى خيبر، فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصبح فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه، فعلوه بأسيافهم. وفى البخارى: وكان أبو رافع يؤذى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويعين عليه، وكان فى حصن له.. فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإنى منطلق ومتلطف للبواب لعلى أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضى حاجة، وقد دخل الناس، فهتف البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنى أريد أن أغلق الباب، فدخلت، فكمنت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد، قال: فقمت إلى الأغاليق فأخذتها ففتحت الباب. وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان فى علالى له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت على من داخل، فانتهيت إليه فإذا هو فى بيت مظلم وسط عياله، لا أدرى أين هو من البيت، فقلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنيت شيئا، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلا فى البيت ضربنى قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف فى بطنه، حتى أخذ فى ظهره، فعرفت أنى قتلته. وفى رواية له: ثم جئت كأنى أغيثه فقلت: مالك يا أبا رافع؟ - وغيرت الصوت- فقال: لأمك الويل، دخل على رجل فضربنى، قال: فعمدت له

[سرية ابن رواحة إلى ابن رزام] :

أيضا فأضربه أخرى، فلم تغن شيئا، فصاح وقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتى، كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف فى بطنه، ثم أنكفىء عليه، فسمعت صوت العظم. فجعلت أفتح الأبواب حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلى وأنا أرى أنى قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت فى ليلة مقمرة فانكسرت ساقى، فعصبتها بعمامة، فلما صاح الديك قام الناعى على السور، فانطلقت إلى أصحابى فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فحدثته فقال: «ابسط رجلك» ، فمسحها النبى- صلى الله عليه وسلم-، فكأنما لم أشتكها قط «1» . هذا لفظ رواية البخارى. وفى رواية محمد بن سعد: أن الذى قتله عبد الله بن أنيس. والصواب: أن الذى دخل عليه وقتله عبد الله بن عتيك وحده، كما فى البخارى. [سرية ابن رواحة إلى ابن رزام] «2» : وكان سببها أنه لما قتل أبو رافع سلام بن أبى الحقيق، أمرت يهود عليها أسيرا، فسار فى غطفان وغيرهم يجمعهم لحربه- صلى الله عليه وسلم-. وبلغه ذلك فوجه عبد الله بن رواحة فى ثلاثة نفر، فى شهر رمضان سرّا، فسأل عن خبره وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره. فندب- عليه السّلام- الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد الله ابن رواحة، فقدموا عليه وقالوا: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعثنا إليك لتخرج إليه، يستعملك على خيبر ويحسن إليك، فطمع فى ذلك فخرج وخرج معه

_ (1) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (4039 و 4040) فى المغازى، باب: قتل أبى رافع، من حديث البراء بن عازب- رضى الله عنه-. (2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 170) .

ثلاثون رجلا من اليهود، مع كل رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة ضربه عبد الله بن أنيس- وكان فى السرية- بالسيف فسقط عن بعيره ومالوا على أصحابه فقتلوهم غير رجل، ولم يصب من المسلمين أحد، ثم قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «قد نجاكم الله من القوم الظالمين» «1» . سرية كرز «2» - بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاى- ابن جابر الفهرى، إلى العرنيين- بضم العين وفتح الراء المهملتين- حى من قضاعة، وحى من بجيلة، والمراد هذا الثانى، كذا ذكره ابن عقبة فى المغازى. وذكر ابن إسحاق: أن قدومهم كان بعد غزوة ذى قرد، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ست. وذكرها البخارى بعد الحديبية، وكانت فى ذى القعدة منها. وعند الواقدى: فى شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان. وفى البخارى- فى كتاب المغازى- عن أنس أن ناسا من عكل- يعنى بضم العين وسكون الكاف- وعرينة قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتكلموا بالإسلام، فقالوا يا نبى الله، إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة، كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعى النبى- صلى الله عليه وسلم- واستاقوا الذود. فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- فبعث الطلب فى آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم، وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم «3» .

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 91) . (2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 93) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 171 و 177) . (3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (233) فى الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، وأطرافه (1501 و 3018، 4192 و 4193 و 4610 و 5685 و 5689 و 5727 و 6802 و 6803 و 6804 و 6805 و 6899) ، ومسلم (1671) فى القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

وفى لفظ: وسمر أعينهم، ثم نبذوا فى الشمس حتى ماتوا. وفى لفظ: ولم يحسمهم، أى لم يكو مواضع القطع فينحسم الدم. وقال أنس: إنما سمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة. رواه مسلم فيكون ما فعل بهم قصاصا. وفى رواية أنهم كانوا ثمانية. وعند البخارى أيضا- فى المحاربين- أنهم كانوا فى الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل. وفى رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه حتى مات «1» . وعند الدمياطى- كابن سعد- أن اللقاح كانت خمسة عشر لقحة- بكسر اللام وسكون القاف- ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر. وفى صحيح مسلم: أن السرية كانت قريبا من عشرين فارسا من الأنصار «2» . وروى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- مولى يقال له: يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه فى لقاح له بالحرة، فكان بها. قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاؤا- وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم- وعدوا على يسار فذبحوه وجعلوا الشوك فى عينيه، ثم طردوا الإبل، فبعث النبى- صلى الله عليه وسلم- فى آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهرى، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال ابن كثير: غريب جدّا «3» .

_ (1) صحيح: وهى رواية البخارى (5685) فى الطب، باب: الدواء بألبان الإبل، وأبو داود (4367) فى الحدود، باب: ما جاء فى المحاربة، والترمذى (72) فى الطهارة، باب: ما جاء فى بول ما يؤكل لحمه. (2) تقدم فيما قبله. (3) قاله الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 51) .

وروى ابن جرير عن محمد بن إبراهيم عن جرير بن عبد الله البجلى قال: قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قوم من عرينة الحديث.. وفيه قال جرير: فبعثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونفرا من المسلمين حتى أدركناهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «النار» ، حتى هلكوا. قال: وكره الله عز وجل سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» . إلى آخر الآية «2» . وهو حديث غريب ضعيف. وفيه أن أمير السرية جرير بن عبد الله البجلى. قال مغلطاى: وفيه نظر، لأن إسلام جرير كان بعد هذه بنحو أربع سنين. وفى مغازى ابن عقبة: أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا عنده بزيادة ياء- وعند غيره: أنه سعد- بسكون العين- ابن زيد الأشهلى، وهذا أنصارى، فيحتمل أنه كان رأس الأنصار، وكان كرز أمير الجماعة. وأما قوله: فكره الله سمل الأعين فأنزل الله هذه الآية، فإنه منكر. فقد تقدم أن فى صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاة، فكان ما فعل بهم قصاصا والله أعلم. تنبيه: قال فى فتح البارى: وزعم ابن التين تبعا للداودى أن عرينة هم عكل وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايرتان، عكل من عدنان، وعرينة من قحطان «3» . ثم سرية عمرو بن أمية الضمرى «4» إلى أبى سفيان بن حرب بمكة، لأنه أرسل للنبى- صلى الله عليه وسلم- من يقتله غدرا، فأقبل الرجل ومعه خنجر ليغتاله، فلما رآه النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن هذا يريد غدرا» . فجذبه أسيد بن حضير بداخلة

_ (1) سورة المائدة: 33. (2) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (6/ 207) . (3) قاله الحافظ فى «الفتح» (1/ 337) . (4) انظرها فى «دلائل النبوة» للبيهقى (3/ 333- 337) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 542- 545) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (4/ 69- 71) .

صلح الحديبية:

إزاره فإذا بالخنجر، فسقط فى يده. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أصدقنى ما أنت؟» قال: وأنا آمن؟ قال: «نعم» ، فأخبره بخبره فخلى عنه- صلى الله عليه وسلم-. وبعث عمرو بن أمية الضمرى ومعه سلمة بن أسلم، ويقال: جبار بن صخر إلى أبى سفيان وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه. ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبى سفيان، فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه وطلبوه، وكان فاتكا فى الجاهلية، فحشد له أهل مكة وتجمعوا له. فهرب عمرو وسلمة، فلقى عمرو عبيد الله بن مالك التيمى فقتله، وقتل آخر، ولقى رسولين لقريش بعثتهما يتحسسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، فقدم به المدينة. فجعل عمرو يخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خبره، وهو- عليه السّلام- يضحك. صلح الحديبية «1» : ثم الحديبية- بتخفيف الياء وتشديدها- وهى بئر سمى المكان بها، وقيل شجرة وقال المحب الطبرى قريبة من مكة أكثرها فى الحرم، وهى على تسعة أميال من مكة. خرج- صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين هلال ذى القعدة سنة ست من الهجرة للعمرة، وأخرج معه زوجته أم سلمة، فى ألف وأربعمائة. ويقال ألف وخمسمائة وقيل ألف وثلاثمائة. واجمع بين هذا الاختلاف: أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: ألف وأربعمائة ألغاه، ويؤيده رواية البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر.

_ (1) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 308- 323) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 95- 105) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 71) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 312- 337) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 286- 316) ، والزرقانى فى «شرح المواهب» (2/ 179- 217) .

واعتمد على هذا الجمع النووى. وأما رواية ألف وثلاثمائة فيمكن حملها على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة مائتين لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة. وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة، فلم يوافقه أحد عليه، لأنه قاله استنباطا من قول جابر: نحرنا البدنة عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا. وجزم موسى بن عقبة: بأنهم كانوا ألفا وستمائة. وعند ابن أبى شيبة من حديث سلمة بن الأكوع: ألف وسبعمائة. وحكى ابن سعد: ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يخرج معه بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف فى القرب. وفى البخارى- فى المغازى- عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية فى بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذى الحليفة قلد الهدى، وأشعر وأحرم منها- وفى رواية: أحرم منها بعمرة- وبعث عينا له من خزاعة. وسار النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك. فقال: «أشيروا علىّ أيها الناس، أترون أن أميل إلى عيالهم وذرارى هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت..» . وفيه: قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: «امضوا على اسم الله» «1» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4178 و 4179) فى المغازى، باب: غزوة الحديبية.

وزاد أحمد: كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . وفى رواية للبخارى: (حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن خالد بن الوليد بالغميم فى خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين» ، فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش) «2» . (وسار النبى- صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا كان بالثنية التى يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل فألحت- يعنى تمادت على عدم القيام- فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» «3» . أى حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذلك أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة، وصدتهم قريش لوقع بينهم القتال المفضى إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل، لكن سبق فى علم الله أنه سيدخل فى الإسلام منهم خلق، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون. انتهى. ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «والذى نفسى بيده، لا يسألونى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» . (ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء- يعنى حفرة فيها ماء قليل- يتبرضه الناس تبرضا- أى يأخذونه قليلا قليلا- فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالرى حتى صدروا عنه) .

_ (1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 328) ضمن حديث طويل. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2731 و 2734) فى الشروط، باب: الشروط فى الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب. (3) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق الذى فى البخارى.

(فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعى فى نفر من قومه من خزاعة- وكانوا عيبة نصح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أهل تهامة- فقال: إنى تركت كعب بن لؤى وعامر بن لؤى نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت) . والعوذ: بالذال المعجمة: جمع عائذ- وهى الناقة ذات اللبن. والمطافيل: الأمهات اللاتى معها أطفالها. يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال. والمراد، أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام ليكون أدعى إلى عدم الفرار. (فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤا ماددتهم مدة ويخلوا بينى وبين الناس إن شاؤا، فإن أظهر فإن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا» . يعنى استراحوا- «وإن هم أبوا، فو الذى نفسى بيده لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى» - أى صفحة العنق، كنى بذلك عن القتل- «ولينفذن الله أمره» «1» ) . (فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه شىء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبى- صلى الله عليه وسلم-) . (فقام عروة بن مسعود، فقال: أى قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونى؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أنى استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا على- وهو بالحاء المهملة،

_ (1) صحيح: انظر ما قبله.

أى تمنعوا عن الإجابة- جئتكم بأهلى وولدى ومن أطاعنى؟ قالوا بلى قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد- أى خصلة خير وصلاح- اقبلوها، ودعونى آته، قالوا ائته) . (فأتاه، فجعل يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أى محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الآخرى، فإنى والله لا أرى وجوها، وإنى لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك) . (فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟) . قال العلماء: وهذا مبالغة من أبى بكر فى سب عروة، فإنه أقام معبود عروة، وهو صنمه مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبته إلى الفرار. والبظر: - بالباء الموحدة المفتوحة والظاء المعجمة الساكنة- قطعة تبقى بعد الختان فى فرج المرأة. واللات: اسم صنم. والعرب تطلق هذا اللفظ فى معرض الذم. انتهى. (فقال- أى عروة-: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، فقال: أما والذى نفسى بيده لولا يد كانت لك عندى لم أجزك بها لأجبتك) . (قال: وجعل يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة ابن شعبة قائم على رأس النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبى- صلى الله عليه وسلم- ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله- صلى الله عليه وسلم-) . قال العلماء: وقد كانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، لا سيما عند الملاطفة، وفى الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كان صلى الله عليه وسلم- يغضى لعروة استمالة له وتأليفا. والمغيرة يمنعه إجلالا للنبى- صلى الله عليه وسلم- وتعظيما. انتهى. قال (فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال:

أي غدر، ألست أسعى فى غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما فى الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه فى شىء» . (ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- بعينيه، قال: فو الله ما تنخم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له) . قال فى فتح البارى: فيه إشارة إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، فكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحبه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن أنه يفر عنه ويسلمه لعدوه، بل هم أشد اغتباطا به وبدينه ونصره من هذه القبائل التى تراعى بعضها بمجرد الرحم والله أعلم. انتهى. قال: (فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم. والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشى، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) . فقال رجل من بنى كنانة: دعونى آته، فقالوا ائته، فلما أشرف على النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له» ، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغى لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. (فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال دعونى آته.. فلما

أشرف عليهم قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: هذا مكرز، وهو رجل فاجر. فجعل يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم-) . فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، قال معمر فأخبر أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «قد سهل لكم من أمركم» . وفى رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: قد أرادت قريش الصلح حيث بعثت هذا، فلما انتهى إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين وأن يأمن بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا. (وقال معمر قال الزهرى فى حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا النبى- صلى الله عليه وسلم- الكاتب. فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم- اكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» . فقال سهيل: أما الرحمن الرحيم فو الله ما أدرى ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اكتب باسمك اللهم» . ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله- وفى حديث عبد الله بن مغافل عند الحاكم: هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة. الحديث- فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك. ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «والله إنى لرسول الله وإن كذبتمونى» «1» . وفى رواية له- يعنى البخارى- ولمسلم: فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- لعلى: «امحه» ، فقال ما أنا بالذى أمحاه «2» ، وهى لغة فى أمحوه. قال العلماء: وهذا الذى فعله على من باب الأدب المستحب، لأنه لم

_ (1) صحيح: انظر ما قبله، وهو حديث طويل فانظره فى المصدر السابق. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2698 و 2699) فى الصلح، باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان وإن لم ينسبه إلى قبيلته، ومسلم (1783) فى الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية، من حديث البراء بن عازب- رضى الله عنه-.

يفهم من النبى- صلى الله عليه وسلم- تحتم محو علىّ نفسه، ولهذا لم ينكر عليه، ولو حتم محوه لنفسه لم يجز لعلى تركه انتهى. ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «أرنى مكانها» فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله. وفى رواية البخارى- فى المغازى- فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكتاب وليس يحسن يكتب- فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله «1» . وكذا أخرجه النسائى وأحمد ولفظه: فأخذ الكتاب- وليس يحسن أن يكتب- فكتب مكان رسول الله: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. قال فى فتح البارى: وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجى. فادعى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب. فشنع عليه علماء الأندلس فى زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذى قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم: برئت ممن شرى دنيا باخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا فجمعهم الأمير فاستظهر الباجى عليهم بما لديه من المعرفة وقال الأمير: فهذا لا ينافى القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد النفى بما قبل ورود القرآن، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «2» وبعد أن تحققت أميته وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب فى ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم، فيكون معجزة أخرى. وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجى على ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهروى وأبو الفتح النيسابورى وآخرون من علماء إفريقية. واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبى شيبة وعمر بن شبة من طريق

_ (1) صحيح: وهى رواية البخارى (2699) فيما تقدم. (2) سورة العنكبوت: 48.

مجالد عن عون بن عبد الله قال: ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى كتب وقرأ. قال مجالد: فذكرته للشعبى فقال صدق، قد سمعت من يذكر ذلك. وقال القاضى عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها، كقوله لكاتبه: ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك، وقوله لمعاوية: ألق الدواة وحرف القلم وفرق السين ولا تعور الميم إلى غير ذلك. قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، إنه أوتى علم كل شىء. وأجاب الجمهور. بضعف هذه الأحاديث. وعن قصة الحديبية: بأن القصة واحدة، والكتاب فيها على بن أبى طالب، وقد صرح فى حديث المسور بن مخرمة بأن عليّا هو الذى كتب فيحمل على أن النكتة فى قوله «فأخذ الكتاب، وليس يحسن يكتب» لبيان أن قوله «أرنى إياها» أنه إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التى امتنع على من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة. وعلى أن قوله بعد ذلك «فكتب» فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلى فكتب: أو أطلق «كتب» بمعنى: أمر بالكتابة، وهو كثير، كقوله: كتب إلى كسرى وقيصر. وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف فى ذلك اليوم- وهو لا يحسن الكتابة- أن يصير عالما بالكتابة، ويخرج عن كونه أميّا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف صور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميّا ككثير من الملوك. ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها، فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى فى ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميّا. وبهذا أجاب أبو جعفر السمنانى أحد أئمة الأصول من الأشاعرة وتبعه ابن الجوزى.

وتعقب ذلك السهيلى وغيره: بأن هذا وإن كان ممكنا، ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميّا لا يكتب، وهى الآية التى قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة، وقال المعاند: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتم ذلك. قال السهيلى: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا، والحق: أن معنى قوله «فكتب» أمر عليّا أن يكتب انتهى. قال: وفى دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمى نظر كبير، والله أعلم، انتهى «1» . وأما قول: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم وقوله: أما الرحمن فو الله ما أدرى ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم. إلخ. فقال العلماء: وافقهم- صلى الله عليه وسلم- فى ترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم وكتب: باسمك اللهم، وكذا وافقهم فى محمد بن عبد الله، وترك كتابة رسول الله للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح. مع أنه لا مفسدة فى هذه الأمور: أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله: محمد بن عبد الله، هو أيضا رسوله، وليس فى ترك وصف الله تعالى فى هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفى ذلك، ولا فى ترك وصفه- صلى الله عليه وسلم- عنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك. انتهى. (قال فى رواية البخارى: فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به» .

_ (1) قاله الحافظ فى «الفتح» (7/ 503- 504) .

فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة. ولكن ذلك فى العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟) «1» . والضغطة: بالضم، قال فى القاموس: الضيق والإكراه والشدة. انتهى. فإن قلت: ما الحكمة فى كونه- صلى الله عليه وسلم- وافق سهيلا على أنه لا يأتيه منهم رجل وإن كان على دين الإسلام إلا ويرده إلى المشركين. فالجواب: أن المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التى كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم، ودخول الناس فى دين الله أفواجا. وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبى- صلى الله عليه وسلم- كما هى، ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاؤا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام، قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام. فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل. وكانت العرب من غير قريش فى البوادى ينتظرون بإسلامهم إسلام

_ (1) صحيح: وهى عند البخارى برقم (2371) وقد تقدم.

قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب فى البوادى. قال الله تعالى إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً «1» . فالله ورسوله أعلم. انتهى. قال فى رواية البخارى: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل ابن عمرو يرسف فى قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلىّ. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنا لم نقض الكتاب بعد» . قال: فو الله إذا لا أصالحك على شىء أبدا. قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «فأجزه لى» ، قال ما أنا بمجيز ذلك. قال: «بلى فافعل» . قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أى معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب فى الله عذابا شديدا) «2» . زاد ابن إسحاق: فقال- صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا» . ووثب عمر يمشى إلى جنبه ويقول: اصبر إنما هم المشركون، وإن دم أحدهم كدم كلب. قال الخطابى: تأول العلماء ما وقع فى قصة أبى جندل على وجهين: أحدهما: أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم يمكنه التوراة، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبى جندل إلى الهلاك، مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية.

_ (1) سورة النصر: 1، 2. (2) انظر المصدر السابق.

والوجه الثانى: إنما رده لأبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك. وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله تعالى يبتلى به صبر عبادة المؤمنين. واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم، أم لا؟. فقيل: نعم، على ما دلت عليه قصة أبى جندل وأبى بصير. وقيل: لا، وإن الذى وقع فى القصة منسوخ. وإن ناسخه حديث «أنا برىء من مسلم بين مشركين» «1» وهو قول الحنفية. وعند الشافعية: تفصيل بين العاقل والمجنون والصبى، فلا يردان. وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. والله أعلم. قاله فى فتح البارى. قال فى رواية البخارى: (فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقلت: ألست نبى الله حقّا؟ قال: «بلى» ، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى» ، قلت: فلم نعطى الدنية فى ديننا إذا؟ قال: «إنى رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصرى» . قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: «بلى» ، «أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به» . قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبى الله حقّا؟ قال:

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2645) فى الجهاد، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، والترمذى (1604) فى السير، باب: ما جاء فى كراهية المقام بين أظهر المشركين، من حديث جرير بن عبد الله- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطى الدنية فى ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصى ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به) «1» . قال العلماء: لم يكن سؤال عمر- رضى الله عنه- وكلامه المذكور شكّا، بل طلبا لكشف ما خفى عليه، وحثّا على إذلال الكفار، وظهور الإسلام، كما عرف فى خلقه وقوته فى نصرة الدين، وإذلال المبطلين. وأما جواب أبى بكر لعمر- رضى الله عنهما- بمثل جواب النبى- صلى الله عليه وسلم- فهو من الدلائل الظاهرة على عظم فضله وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، وزيادته فى ذلك على غيره. وكان الصلح بينهم عشر سنين، كما فى السير، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر. ولأبى نعيم فى مسند عبيد الله بن دينار كانت أربع سنين. وكذا أخرجه الحاكم فى البيوع من المستدرك. والأول أشهر. وكان الصلح على وضع الحرب، بحيث يأمن الناس فيها، ويكف بعضهم عن بعض، وألايدخل البيت إلا العام القابل ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، وهو القراب بما فيه. والجلبان- بضم الجيم وسكون اللام- شبه الجراب من الأدم، يوضع فيه السيف مغمودا. ورواه القتيبى: بضم الجيم واللام وتشديد الباء، وقال: هو أوعية السلاح بما فيها. وفى بعض الروايات: لا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف والقوس. وإنما اشترطوا ذلك ليكون علما وأمارة للسلم، إذ كان دخولهم صلحا. وقال مكى بن أبى طالب القيروانى فى تفسيره:

_ (1) قلت: هو طرف من حديث البخارى المتقدم قبل قليل.

وبعث- عليه الصلاة والسلام- بالكتاب إليهم مع عثمان بن عفان. وأمسك سهيل بن عمرو عنده، فأمسك المشركون عثمان فغضب المسلمون. وقال مغلطاى فاحتبسته قريش عندها. فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- أن عثمان قد قتل، فدعا الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت، وقيل على أن لا يفروا، انتهى. ووضع النبى- صلى الله عليه وسلم- شماله فى يمينه وقال: هذه عن عثمان. وفى البخارى: فقال- صلى الله عليه وسلم- بيده اليمنى: «هذه بيعة عثمان، فضرب بها على يده اليسرى» «1» . ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين. وفى هذه البيعة نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «2» . وحلق الناس مع النبى- صلى الله عليه وسلم-، ونحروا هداياهم بالحديبية، قال مغلطاى: وأرسل الله ريحا حملت شعورهم فألقتها فى الحرم. وأقام- صلى الله عليه وسلم- بالحديبية بضعة عشر يوما، وقيل عشرين يوما، ثم قفل وفى نفوس بعضهم شىء، فأنزل الله سورة الفتح يسليهم بها ويذكرهم نعمه، فقال تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «3» . قال ابن عباس وأنس والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية، ووقوع الصلح بعد أن كان المنافقون يظنون أن لم ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، أى حسبوا أنهم لا يرجعون بل يقتلون كلهم.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3698) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان بن عفان أبو عمرو القرشى- رضى الله عنه-، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) سورة الفتح: 10. (3) سورة الفتح: 1.

وأما قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً «1» . فالمراد فتح خيبر على الصحيح، لأنها وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين. وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية قال: (شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا وجدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقفا عند كراع الغميم، وقد جمع الناس فقرأ عليهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «2» . فقال رجل: يا رسول الله، أو فتح هو؟ فقال: «إى والذى نفسى بيده إنه لفتح» «3» . وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الحديبية، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بنصر الله. وأما قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «4» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح) «5» فالمراد فتح مكة باتفاق. قال الحافظ ابن حجر: فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال والله أعلم. ثم رجع- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. وفى هذه السنة كسفت الشمس. وظاهر أوس بن الصامت من امرأته خولة.

_ (1) سورة الفتح: 18. (2) سورة الفتح: 1. (3) أخرجه أبو داود (2736) فى الجهاد، فيمن أسهم له سهما، وأحمد فى «مسنده» (3/ 420) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 143 و 498) بسند فيه يعقوب بن مجمع، لم يعرف إلا بهذا الحديث. (4) سورة النصر: 1. (5) صحيح: أخرجه البخارى (2783) فى الجهاد والسير، باب: فضل الجهاد والسير، ومسلم (1353) فى الحج، باب: تحريم مكة، وفى الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

وفى هذه السنة أيضا استسقى فى رمضان ومطر الناس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «أصبح الناس مؤمنا بالله وكافرا بالكواكب» «1» . قال مغلطاى: وجزم الدمياطى فى سيرته: بأن تحريم الخمر كان فى سنة الحديبية. وذكر ابن إسحاق: أنه كان فى وقعة بنى النضير، وهى بعد أحد، وذلك سنة أربع على الراجح. وفيه نظر: لأن أنسا كان الساقى يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادى بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك. وأخرج النسائى والبيهقى بسند صحيح عن ابن عباس: إنما نزل تحريم الخمر فى قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى فى وجهه ورأسه الأثر فيقول: صنع هذا أخى فلان- وكانوا أخوة ليس فى قلوبهم ضغائن- فيقول: والله لو كان بى رحيما ما صنع بى هذا حتى وقعت فى قلوبهم الضغائن، فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «2» إلى مُنْتَهُونَ فقال ناس من المتكلفين: هى رجس، وهى فى بطن فلان وفلان وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى الْمُحْسِنِينَ «3» «4» . وآية تحريم الخمر نزلت فى عام الفتح قبل الفتح.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1038) في الجمعة، باب: قول الله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، ومسلم (71) في الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، من حديث زيد بن خالد الجهنى- رضى الله عنه-. (2) سورة المائدة: 90، 91. (3) سورة المائدة: 93. (4) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (11151) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 158) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (8/ 285) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 56) .

والخمر فى الأصل مصدر خمره: إذا ستره، سمى به عصير العنب إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل، كما يسمى مسكرا لأنه يسكره، أى يحجره. وهى حرام مطلقا، وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر انتهى. وأما الحشيشة وتسمى القنب الهندى والحيدرية والقلندرية فلم يتكلم فيها الأئمة الأربعة ولا غيرهم من علماء السلف، لأنها لم تكن فى زمنهم، وإنما ظهرت فى أواخر المائة السادسة وأول السابعة. واختلف هل هى مسكرة فيجب فيها الحد، أو مفسدة للعقل فيجب التعزير، والذى أجمع عليه الأطباء أنها مسكرة، وبه جزم الفقهاء وصرح به الشيخ أبو إسحاق الشيرازى فى كتاب التذكرة فى الخلاف، والنووى فى شرح المهذب، ولا نعرف فيه خلافا عندنا. ونقل عن ابن تيمية أنه قال: الصحيح أنها مسكرة كالشراب، فإن أكلتها ينشون عنها ولذلك يتناولونها بخلاف البنج وغيره فإنه لا ينشى ولا يشتهى. قال الزركشى: ولم أر من خالف فى هذا إلا القرافى فى قواعده فقال: نص العلماء بالنبات فى كتبهم أنها مسكرة، والذى يظهر لى أنها مفسدة. فى كلام تعقبه الزركشى يطول ذكره. وقد تضافرت الأدلة على حرمتها: ففى صحيح مسلم «كل مسكر حرام» «1» وقد قال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «2» . وأى خبيث أعظم مما يفسد العقول التى اتفقت الملل والشرائع على إيجاب حفظها. ولا ريب أن متناول الحشيشة يظهر به أثر التغير فى انتظام الفعل والقول المستمد كماله من

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6124) فى الأدب، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يسروا ولا تعسروا» ، ومسلم (1733) فى الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-. (2) سورة الأعراف: 157.

نور العقل. وقد روى أبو داود- بإسناد حسن- عن ديلم الحميرى قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: فهل يسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم) «1» . وهذا منه- صلى الله عليه وسلم- تنبيه على العلة التى لأجلها حرم المزر. فوجب أن كل شىء عمل عمله يجب تحريمه، ولا شك أن الحشيشة تعمل ذلك وفوقه. وروى أحمد فى مسنده وأبو داود فى سننه عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن كل مسكر ومفتر) «2» . قال العلماء: المفتر كل ما يورق الفتور والخدر فى الأطراف. وهذا الحديث أدل دليل على تحريم الحشيشة وغيرها من المخدرات، فإنها إن لم تكن، مسكرة كانت مفترة، ولذلك يكثر النوم من متعاطيها، وتثقل رؤسهم بواسطة تبخيرها فى الدماغ. وقد نقل الإجماع على تحريمها غير واحد، منهم القرافى وابن تيمية وقال: إن من استحلها فقد كفر. وتعقبه الزركشى: بأن تحريمها ليس معلوما من الدين بالضرورة، سلمنا ذلك، لكن لا بد أن يكون دليل الإجماع قطعيّا على أحد الوجهين، وقد ذكر أصحابنا أن المسكر من غير عصير العنب، كعصير العنب فى وجوب الحد، لكن لا يكفر مستحله لاختلاف العلماء فيه.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3683) فى الأشربة، باب: النهى عن المسكر، وأحمد فى «مسنده» (4/ 231 و 232) ، والبيهقى فى الكبرى (8/ 292) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3686) فى الأشربة، باب: النهى عن المسكر، وأحمد فى «مسنده» (6/ 309) ، والبيهقى فى «الكبرى» (8/ 296) ، بسند فيه شهر بن حوشب، وهو مختلف فيه.

واختلف: هل يحرم تعاطى اليسير الذى لا يسكر؟ فقال النووى فى شرح المهذب إنه لا يحرم أكل القليل الذى لا يسكر من الحشيش، بخلاف الخمر، حيث حرم قليلها الذى لا يسكر. والفرق أن الحشيش طاهر والخمر نجس فلا يجوز شرب قليله للنجاسة. وتعقبه الزركشى بأنه صح فى الحديث: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» «1» ، قال: والمتجه أنه لا يجوز من الحشيش لا قليل ولا كثير. وأما قول النووى: إنها طاهرة وليست بنجسه، فقطع به ابن دقيق العيد وحكى الإجماع عليه. قال: والأفيون وهو لبن الخشخاش، أقوى فعلا من الحشيش، لأن القليل منه يسكر جدّا، وكذلك السيكران وجوز الطيب مع أنه طاهر بالإجماع. انتهى. وقد جمع بعضهم فى الحشيشة مائة وعشرين مضرة دينية وبدنية، حتى قال بعضهم كل ما فى الخمر من المذمومات موجود فى الحشيش وزيادة. فإن أكثر ضرر الخمر فى الدين لا فى البدن. وضررها فيهما. فمن ذلك: فساد العقل، وعدم المروءة، وكشف العورة، وترك الصلوات، والوقوع فى المحرمات، وقطع النسل، والبرص والجذام والأسقام والرعشة والأبنة، ونتن الفم وسقوط شعر الأجفان، وحفر الأسنان وتسويدها، وتضييق النفس وتصفير الألوان، وتنقيب الكبد، وتجعل الأسد كالجعل، وتورث الكسل والفشل، وتعيد العزيز ذليلا، والصحيح عليلا، والفصيح أبكما، والصحيح أبلما، وتذهب السعادة وتنسى الشهادة، فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة، موعود من الله باللعنة إلا أن يقرع من الندم سنه ويحسن بالله ظنه. ولقد أحسن القائل:

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3681) فى الأشربة، باب: النهى عن المسكر، والترمذى (1865) فى الأشربة، باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام، وابن ماجه (3393) فى الأشربة، باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام، وأحمد فى «مسنده» (3/ 343) ، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

[غزوة خيبر] :

قل لمن يأكل الحشيشة جهلا ... يا خسيسا قد عشت شر معيشة دية العقل بدرة فلماذا ... ياسفيها قد بعتها بحشيشة [غزوة خيبر] : وهى مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على ثمانية برد «1» من المدينة إلى جهة الشام. قال ابن إسحاق: خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- فى بقية شهر المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها. وقيل: كانت فى آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم. قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناء على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقى وهو ربيع الأول «2» . وأغرب ابن سعد وابن أبى شيبة فرويا من حديث أبى سعيد الخدرى: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن، لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت. وتوجيهه: بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج فيها- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان جزما. قال: وذكر الشيخ أبو حامد فى التعليقة: أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، ولعلها انتقال من الخندق إلى خيبر. وكان معه- صلى الله عليه وسلم- ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته.

_ (1) البرد: جمع بريد، وهى وحدة قياسية معروفة عندهم كانت تطلق على ما بين كل منزلين، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع تقريبا. (2) وذلك على اعتبار أن الهجرة، كانت في ربيع الأول على الراجح، وليست فى محرم أول الأشهر العربية كما يظن كثير من الناس.

وفى البخارى من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبى إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا وبالصباح عولوا علينا وفى رواية إياس بن سلمة عن أبيه عند أحمد فى هذا الرجز من الزيادة: إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما فى رواية البخارى- «من هذا السائق؟» قالوا: عامر بن الأكوع، قال: «يرحمه الله» . قال رجل من القوم: وجبت يا نبى الله، لولا أمتعتنا به «1» . الحديث. وفى رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل فى السير ينزل بعضهم فيسوقها، ويحدو فى تلك الحال. وقوله: «اللهم لولا أنت ما اهتدينا» كذا الرواية، قالوا: وصوابه فى الوزن: لا هم، أو: تالله، كما فى الحديث الآخر. وقوله: «فداء لك» قال المازرى «2» : هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4196) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802) فى الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر. (2) هو: العلامة الشيخ، أبو عبد الله، محمد بن على بن عمر التميمى المازرى المالكى، مصنف كتاب «العلم بفوائد شرح مسلم» ، كما أن له تواليف فى الأدب، وله شرح كتاب «التلقين» لعبد الوهاب المالكى، وهو من أنفس الكتب، وكان بصيرا بعلم الحديث، ولد بمدينة المهدية من إفريقية، وبها مات سنة (530 هـ) ومازر: بليدة من جزيرة صقلية بفتح الزاى وقد تكسر.

للبارى سبحانه: فديتك، لأن ذلك إنما يستعمل فى مكروه يتوقع حلوله بالشخص، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه. قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاتله الله، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله- عليه السّلام-: تربت يداك، وتربت يمينك، وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن المفادى مبالغ فى طلب رضا المفدى حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر: أى أبذل نفسى فى رضاك. وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه. قال: وقد يكون المراد بقوله: «فداء لك» رجلا يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى الأول فقال: ما اتقينا. وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا اضطرنا إليه تصحيح الكلام. انتهى. وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبى- صلى الله عليه وسلم-. والمعنى: لا تؤاخذنا بتقصيرنا فى حقك ونصرك. وعلى هذا فقوله: «اللهم» لم يقصد بها الدعاء وإنما افتتح بها الكلام. والمخاطب بقول الشاعر: «لولا أنت» ، النبى، لكن يعكر عليه بعد ذلك: فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا فإنه دعاء لله تعالى. ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت والله أعلم. وقوله: «إذا صيح بنا أتينا» أى إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره أتينا ولم نتأخر عنه. وفى رواية أيضا بالموحدة بدل المثناة، أى أبينا الفرار. وقوله: «وبالصياح عولوا علينا» أى استعانوا بنا واستفزعونا للقتال. قيل: هو من التعويل على الشىء وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت.

وقوله: «من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم وجبت» : أى ثبتت له الشهادة وستقع قريبا، وكان معلوما عندهم أن من دعا له النبى- صلى الله عليه وسلم- هذا الدعاء فى هذا الموطن استشهد، فقالوا: هلا أمتعتنا به؟ أى: وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة. وفى البخارى من حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- أتى خيبر ليلا- وكان إذا أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «1» . وفى رواية: فرفع يديه وقال الله أكبر خربت خيبر. والخميس: الجيش: سمى به لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب. ومحمد: خبر مبتدأ، أى هذا محمد. قال السهيلى: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لما رأى آلة الهدم عرف أن مدينتهم ستخرب، انتهى. ويحتمل- كما قاله فى فتح البارى- أن يكون قال: «خربت خيبر» بطريق الوحى، ويؤيده قوله بعد ذلك: «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» . وفى رواية: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. وقال مغلطاى وغيره: وفرق- صلى الله عليه وسلم- الرايات، ولم تكن الرايات إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (371) فى الصلاة، باب: ما يذكر فى الفخذ، وأطرافه (610 و 947 و 3647 و 3944 و 3945 و 4197 و 4198 و 4200) ، ومسلم (1365) فى النكاح، باب: فضيلة إعتاق الأمة ثم يتزوجها، وفى الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر.

وقال الدمياطى: وكانت راية النبى- صلى الله عليه وسلم- السوداء من برد لعائشة. وفى البخارى: وكان على بن أبى طالب تخلف عن النبى- صلى الله عليه وسلم- وكان رمدا.. فلحق فلما بتنا الليلة التى فتحت قال: لأعطين الراية غدا- أو ليأخذن الراية غدا- رجل يحبه الله ورسوله يفتح الله عليه. فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين على بن أبى طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتى به، فبصق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عينيه ودعا له فبرىء، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية. فقال على: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حمر النعم. الحديث «1» . ولما تصاف القوم، كان سيف عامر قصيرا، فتناول ساق يهودى ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه. فلما قفلوا، قال سلمة: قلت يا رسول الله، فداك أبى وأمى، زعموا أن عامرا حبط عمله، قال النبى صلى الله عليه وسلم- «كذب من قال، وإن له أجرين» ، وجمع بين إصبعيه، «إنه لجاهد مجاهد» «2» . رواه البخارى أيضا. وعن يزيد بن أبى عبيد قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر ... فأتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة «3» . أخرجه البخارى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2942) فى الجهاد والسير، باب: دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الإسلام والنبوة، ومسلم (2406) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-. (2) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (4196) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (4206) فى المغازى، باب: غزوة خيبر.

وعنده أيضا عن أبى هريرة: شهدنا خيبر فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لرجل ممن معه يدعى الإسلام: «هذا من أهل النار» ، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهما فنحر نفسه، فاشتد رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: «قم يا فلان فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» «1» . وفى رواية: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة- فيما يبدو للناس- وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار- فيما يبدو للناس- وهو من أهل الجنة» . الحديث. وقاتل النبى- صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر، وقاتلوه أشد القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون. وفتحها الله حصنا حصنا، وهى: النطاة، وحصن الصعب، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن أبى، وحصن البرىء، والقموس والوطيح والسلالم، وهو حصن بنى أبى الحقيق. وأخذ كنز آل أبى الحقيق الذى كان فى مسك الحمار،، وكانوا قد غيبوه فى خربة، فدل الله ورسوله عليه فاستخرجه. وقلع علىّ باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد. وفى رواية ابن إسحاق: سبعة، وأخرجه من طريق البيهقى فى الدلائل، ورواه الحاكم، وعنه البيهقى من جهة ليث بن أبى سليم عن أبى جعفر محمد بن على بن حسين عن جابر: أن عليّا حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا. وليث ضعيف.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3062) فى الجهاد والسير، باب: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر، ومسلم (111) فى الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشىء عذب به فى النار.

وفى رواية البيهقى: أن عليّا لما انتهى إلى الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب مكانه. قال شيخنا: وكلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء. انتهى. وفى البخارى: وتزوج- صلى الله عليه وسلم- بصفية بنت حيى بن أخطب، وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وكانت عروسا، فذكر له جمالها، فاصطفاها لنفسه فخرج بها حتى بلغت سد الصهباء حلت له- يعنى طهرت من الحيض- فبنى بها- صلى الله عليه وسلم- فصنع حيسا فى نطع صغير، ثم قال لأنس: «آذن من حولك» ، فكانت تلك وليمته على صفية. قال: خرجنا إلى المدينة فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يحوى لها وراءه بعباءة. ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب «1» . وفى رواية له: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ قالوا إن حجبها فهى إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهى مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها ومد الحجاب «2» . وفى رواية أنه- صلى الله عليه وسلم- قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكان فى السبى صفية فصارت إلى دحية الكلبى ثم صارت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فجعل عتقها صداقها «3» . وفى رواية: فأعتقها وتزوجها. وفى رواية: قال- صلى الله عليه وسلم- لدحية: «خذ جارية من السبى غيرها» «4» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2235) فى البيوع، باب: هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها. (2) صحيح: وهى عند البخارى برقم (4213) فى المغازى، باب: غزوة خيبر. (3) صحيح: وهى عند البخارى برقم (947) فى الجمعة، باب: التكبير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب. (4) صحيح: وهى عند البخارى (371) فى الصلاة، باب: ما يذكر فى الفخذ.

وفى رواية لمسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- اشترى صفية منه بسبعة أرؤس «1» . وإطلاق الشراء على ذلك، على سبيل المجاز، وليس فى قوله سبعة أرؤس ما ينافى قوله فى رواية البخارى: خذ جارية من السبى غيرها، إذ ليس هنا دلالة على نفى الزيادة والله أعلم. وإنما أخذ- صلى الله عليه وسلم- صفية لأنها بنت ملك من ملوكهم، وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان من الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان فى السبى مثل صفية فى نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه- صلى الله عليه وسلم- بها، فإن فى ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع فى الهبة فى شىء. انتهى. قال مغلطاى وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط فى حجرها، فتؤول بذلك. قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية. وفى هذه الغزوة حرم- صلى الله عليه وسلم- لحوم الحمر الأهلية. كما فى البخارى ولفظه: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذى فتحت عليهم- يعنى خيبر- أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما هذه النيران، على أى شىء توقدون؟» قالوا: على لحم، قال: «على أى لحم؟» قالوا: لحم الحمر الإنسية، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أهريقوها واكسروها» . فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها، قال: «أو ذاك» «2» . والمشهور فى الإنسية: كسر الهمزة، منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم. وحكى: ضم الهمزة، ضد الوحشية، ويجوز فتحها والنون أيضا، مصدر أنست به، آنس أنسا وأنسة.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1365) فى النكاح، باب: فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4196) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1802) فى الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، وفى الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-.

وفى رواية: نهى يوم خيبر عن أكل الثوم، وعن لحوم الحمر الأهلية «1» . وفى رواية: نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص فى الخيل «2» . قال ابن أبى أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة. قال العلماء: وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة، وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها، وقيل: لأخذها قبل القسمة، وهذان التأويلان للقائلين بإباحة لحومها، والصواب ما قدمناه. وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اكسروها» فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها قال: «أو ذاك» . فهذا محمول على أنه- صلى الله عليه وسلم- اجتهد فى ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده، أو أوحى إليه بغسلها. وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء فى إباحتها: فمذهب الشافعى والجمهور من السلف والخلف: أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأسماء بنت أبى بكر. وفى صحيح مسلم عنها قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكلناه ونحن بالمدينة «3» ، وفى رواية الدارقطنى: فأكلناه نحن وأهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم-. قال فى فتح البارى: ويستفاد من قولها: «ونحن بالمدينة» أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4215) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (561) فى المساجد، باب: نهى من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا ونحوها، وفى الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه المغازى (4219) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1941) فى الصيد والذبائح، باب: فى أكل لحم الخيل، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5510- 5512) فى الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح، ومسلم (1942) فى الصيد والذبائح، باب: فى أكل لحوم الخيل، من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما-.

وفى قولها: «وأهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم-» الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بال أبى بكر أنهم يقدمون على فعل شىء فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- إلا وعندهم العلم بجوازه لشدة اختلاطهم به- صلى الله عليه وسلم- وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله- عليه السّلام- عن الأحكام. ومن ثم كان الراجح أن الصحابى إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده صلى الله عليه وسلم- كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه- صلى الله عليه وسلم- على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك فى مطلق الصحابة فكيف بال أبى بكر. وقال الطحاوى: ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما. واحتجوا بالأخبار المتواترة فى حلها. انتهى. وقد نقل بعض التابعين: الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبى شيبة بسند صحيح- على شرط الشيخين- عن عطاء قال: لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريح: قلت له أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: نعم. وأما ما نقل فى ذلك عن ابن عباس من كراهتها: فأخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين «1» . وقال أبو حنيفة فى الجامع الصغير: أكره لحوم الخيل، فحمله أبو بكر الرازى على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلى، وصحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه التحريم، وهو قول أكثرهم. وقال القرطبى فى شرح مسلم: مذهب مالك الكراهة، وقال الفاكهانى: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم.

_ (1) ذكر هذه الروايات الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (9/ 650) .

وقال ابن أبى جمرة: الدليل على الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا فى الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله، ولو كثر استعماله لأفضى إلى فنائها، فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذى وقع الأمر به فى قوله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ «1» . فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج، وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضى أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. انتهى. وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلالا لجازت الأضحية بها. فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به. وأما حديث خالد ابن الوليد عند أبى داود والنسائى: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن لحوم الخيل والبغال والحمير «2» ، فضعيف، ولو سلم ثبوته، لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء. وقد ضعف حديث خالد ابن الوليد أحمد والبخارى والدار قطنى والخطابى وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون. وزعم بعضهم: أن حديث جابر دال على التحريم لقوله «رخص» لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة التى أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق. وأجيب: بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، كما رواه مسلم، وفى رواية له: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الحمار الأهلى وعند الدار قطنى من حديث ابن عباس: نهانا- صلى الله عليه وسلم- عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل «3» فدل على أن المراد بقوله: «رخص» أذن.

_ (1) سورة الأنفال: 60. (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3790) فى الأطعمة، باب: فى أكل لحوم الخيل، والنسائى (7/ 202) فى الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الخيل، وابن ماجه (3198) فى الذبائح، باب: لحوم البغال، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (3) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (4/ 290) .

ونوقض أيضا بالإذن فى أكل الخيل، ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن فى أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة. وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم: أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً «1» . وقرروا ذلك بأوجه: أحدها: أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر. فإباحة أكلها تقتضى خلاف ظاهر الآية. ثانيها: عطف البغال والحمير، فدل على اشتراكها معهما فى حكم التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليها إلى دليل. ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها فى الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل فى المذكورات قبلها. رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة. وأجيب: بأن آية النحل [8] مكية اتفاقا، والإذن فى أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبى- صلى الله عليه وسلم- من الآية المنع لما أذن فى الأكل. وأيضا: فاية النحل [8] ليست نصّا فى منع الأكل والحديث صريح فى جوازه. وأيضا: فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر فى الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل فى غيرهما، وفى غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل. ونظيره حديث البقرة

_ (1) سورة النحل: 8.

المذكورة فى الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث «1» ، فإنه مع كونه أصرح فى الحصر، ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهى تؤكد وينتفع بها فى أشياء غير الحرث اتفاقا. وقال البيضاوى: واستدل بها أى باية النحل [8]- على حرمة لحومها، ولا دليل فيها، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا ألايقصد منه غيره أصلا. انتهى. وأيضا: فلو سلم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به. وأما عطف البغال والحمير، فدلالة العطف إنما هى دلالة اقتران وهى ضعيفة. وأما أنها سيقت مساق الامتنان إنما قصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتهم فى بلادهم، بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها أكثر لحمل الأثقال والأكل، فاقتصر فى كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر فى هذا الشق لأضر. وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها إلخ. فأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن فى أكلها أن تفنى، للزم مثله فى البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به. وإنما أطلت فى ذلك لأمر اقتضاه، والله أعلم. وفى هذه الغزوة أيضا نهى- صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذى ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وألاتوطأ جارية حتى تستبرأ. وفى هذه الغزوة أيضا سمت النبى- صلى الله عليه وسلم- زينب بنت الحارث، امرأة

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2324) فى المزارعة، باب: استعمال البقرة للحراثة، ومسلم (2388) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

سلام بن مشكم، كما فى البخارى من حديث أبى هريرة ولفظه: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاة فيها سم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اجمعوا لى من كان هاهنا من اليهود» ، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إنى سائلكم عن شىء، فهل أنتم صادقونى عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أبوكم؟» قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كذبتم، بل أبوكم فلان» ، فقالوا: صدقت وبررت، فقال: «هل أنتم صادقونى عن شىء إن سألتكم عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته فى أبينا. فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أهل النار؟» فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اخسئوا فيها. والله لا نخلفكم فيها أبدا» ، ثم قال لهم: «هل أنتم صادقونى عن شىء إن سألتكم عنه؟» قالوا: نعم. فقال: «هل جعلتم فى هذه الشاة سمّا؟» فقالوا: نعم، فقال: «ما حملكم على ذلك؟» فقالوا: أردنا إن كنت كذابا أن نستريح منك، وإن كنت نبيّا لم يضرك «1» . وفى حديث جابر عند أبى داود: أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ارفعوا أيديكم» ، وأرسل إلى اليهود فقال: «سممت هذه الشاة؟» فقالت: من أخبرك؟ قال: «أخبرتنى هذه فى يدى» ، للذراع. قالت: نعم، قلت: إن كان نبيّا فلن يضره، وإن لم يكن نبيّا استرحنا منه. فعفا عنها- صلى الله عليه وسلم- ولم يعاقبها، وتوفى أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على كاهله من أجل الذى أكل من الشاة «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3169) فى الجزية والموادعة، باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) مرسل: أخرجه أبو داود (4510) فى الديات، باب: فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟ عن ابن شهاب عن جابر مرسلا، كما فى «جامع التحصيل فى أحكام المراسيل» (2695) .

وفى رواية غيره: جعلت زينب بنت الحارث امرأة ابن مشكم تسأل أى الشاة أحب إلى محمد فيقولون الذراع فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يبطىء- يعنى لا يلبث أن يقتل من ساعته- وقد شاورت يهود فى سموم فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت فى الذراعين والكتف، فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء، وتناول- صلى الله عليه وسلم- الذراع فانتهس منها، وتناول بشر بن البراء عظاما آخر، فلما ازدرد- صلى الله عليه وسلم- لقمته، ازدرد بشر بن البراء ما فى يده وأكل القوم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرنى أنها مسمومة» . وفيه: أن بشر بن البراء مات، وفيه أنه دفعها- صلى الله عليه وسلم- إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها. رواه الدمياطى. وقد اختلف هل عاقبها- صلى الله عليه وسلم-؟: فعند البيهقى من حديث أبى هريرة: فأعرض عنها، ومن طريق أبى نضرة عن جابر نحوه قال: فلم يعاقبها. وقال الزهرى: أسلمت فتركها «1» . قال البيهقى: يحتمل أن يكون تركها أولا ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها. وبذلك أجاب السهيلى وزاد: أنه تركها لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر قصاصا. ويحتمل أن يكون تركها لكونها أسلمت. وإنما أخر قتلها حتى مات بشر، لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه. وفى مغازى سليمان التيمى: أنها قالت: إن كنت كذابا أرحت الناس منك. وقد استبان لى الآن أنك صادق وأنا أشهدك ومن حضر أنى على دينك وألاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت. وفيه: موافقة الزهرى على إسلامها، فالله أعلم. وفى هذه الغزوة أيضا: نام- صلى الله عليه وسلم- عن صلاة الفجر، لما وكل به بلالا

_ (1) قلت: فى الصحيحين أنه قيل له: ألا نقتلها؟ قال: لا. أخرجه البخارى (2617) فى الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم (2190) فى السلام، باب: السم، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

كما فى حديث أبى هريرة عند مسلم (أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلته حتى أدركه الكرى عرس، وقال لبلال: «اكلأ لنا الليل» ، فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحته، فلم يستيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أولهم استيقاظا، فقال: «أى بلال!» فقال بلال: أخذ بنفسى الذى أخذ- بأبى أنت وأمى يا رسول الله- بنفسك. قال: «اقتادوا» فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة، قال: «من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: أقم الصلاة لذكرى» «1» . وفيها قدم جعفر ومن معه من الحبشة. واختلف فى فتح خيبر هل كان عنوة أو صلحا؟ وفى حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس التصريح بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال فتحت صلحا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لتحقن دماؤهما، وهو ضرب من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى. ثم فتح وادى القرى، فى جمادى الآخرة بعد ما أقام أربعا يحاصرهم، ويقال: أكثر من ذلك. وأصاب «مدعما» مولاه سهم فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الشملة التى غلها من خيبر لتشتعل عليه نارا» «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (680) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6707) فى الأيمان والنذور، باب: هل تدخل فى الأيمان والنذور الأرض والغنم والزروع والأمتعة؟ ومسلم (115) فى الأيمان، باب: غلظ تحريم الغلول.

وصالحه أهل تيماء على الجزية، قاله الحافظ مغلطاى. ثم سرية عمر بن الخطاب «1» - رضى الله عنه- إلى تربة فى شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا فخرج معه دليل من بنى هلال، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر إلى هوازن فهربوا وجاء عمر بن الخطاب، إلى محالهم فلم يلق منهم أحدا، فانصرف راجعا إلى المدينة. ثم سرية أبى بكر الصديق، - رضى الله عنه- إلى بنى كلاب بنجد ناحية ضربة، سنة سبع، ويقال إلى فزارة، فسبى منهم جماعة وقتل آخرين «2» . وفى صحيح مسلم: فزارة وهو الصواب. ثم سرية بشير بن سعد الأنصارى إلى بنى مرة بفدك، فى شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا، فقتلوا، وقاتل بشير حتى ارتث وضرب كعبه، وقيل قد مات. وقدم علبة بن زيد الحارثى بخبرهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قدم بعده بشير بن سعد. ثم سرية غالب بن عبد الله الليثى إلى الميفعة بناحية نجد من المدينة، على ثمانية برد، فى شهر رمضان سنة سبع من الهجرة، فى مائتين وثلاثين رجلا، فهجموا عليهم فى وسط محالهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء إلى المدينة. قالوا: وفى هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيك بن مرداس بعد أن قال: لا إله إلا الله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ألا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟» فقال أسامة: لا أقاتل أحدا يشهد ألاإله إلا الله «3» .

_ (1) انظر شرح المواهب، للزرقانى (2/ 249) . (2) انظر ما فى «صحيح مسلم» (1755) فى الجهاد والسير، باب: التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى. (3) صحيح: أخرجه البخارى (4269) فى المغازى، باب: بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد إلى الحرقات، ومسلم (96) فى الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-، إلا أنه ليس فيها ذكر اسم المقتول.

عمرة القضاء:

وفى الإكليل: فعل ذلك أسامة فى سرية كان هو أميرا عليها سنة ثمان. وفى البخارى: (عن أبى ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصارى عنه، وطعنته برمحى حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟» قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) «1» . ثم سرية بشير بن سعد الأنصارى أيضا إلى يمن وجبار- بفتح الجيم- وهى أرض لغطفان، ويقال لفزارة وعذرة، فى شوال سنة سبع من الهجرة، وبعث معه ثلاثمائة رجل لجمع تجمعوا للإغارة على المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا. وأصاب لهم نعما كثيرة فغنمها، وأسر رجلين وقدم بهما إلى المدينة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلما. عمرة القضاء: ثم عمرة القضية، وتسمى عمرة القضاء، لأنه قاضى فيها قريشا، لا لأنها قضاء عن العمرة التى صد عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عمر النبى- صلى الله عليه وسلم- أربعا، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى. وعدوا عمرة الحديبية فى العمر لثبوت الأجر فيها، لا لأنها كملت. وهذا الخلاف مبنى على الاختلاف فى وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت.

_ (1) صحيح: وهو لفظ الحديث السابق تخريجه.

فقال الجمهور: يجب عليه الهدى ولا قضاء عليه. وعند أبى حنيفة: عكسه. وعن أحمد رواية أنه لا يلزمه هدى ولا قضاء. وأخرى: يلزمه القضاء والهدى. فحجة الجمهور: قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ «1» . وحجة أبى حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء. وحجة من أوجبها: ما وقع للصحابة، فإنهم نحروا الهدى حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدى. وحجة من لم يوجبها: أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدى، بل أمر من معه هدى أن ينحر، ومن ليس معه هدى أن يحلق. قال الحاكم فى الإكليل: تواترت الأخبار أنه- صلى الله عليه وسلم- لما هلّ ذو القعدة يعنى سنة سبع- أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التى صدهم المشركون عنها بالحديبية، وألايتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا. وخرج معه- صلى الله عليه وسلم- من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفارى، وساق- صلى الله عليه وسلم- ستين بدنة، وحمل السلاح والبيض والدرع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذى الحليفة قدم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد. وأحرم- صلى الله عليه وسلم- ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة فى الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه فقال: هذا

_ (1) سورة البقرة: 196.

رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصبح هذا المنزل غدا- إن شاء الله تعالى-. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا. ونزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج كيسمع وينصر ويضرب- موضع بمكة، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصارى فى مائتى رجل. وخرجت قريش من مكة إلى رؤس الجبال. وقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الهدى أمامه، فحبس بذى طوى، وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على راحلته القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف محدقون برسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبون، فدخل من الثنية التى تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته. وفى رواية الترمذى فى الشمائل، من حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة فى عمرة القضاء وابن رواحة يمشى بين يديه وهو يقول: خلوا بنى الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال له عمر: يا بن رواحة بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تقول شعرا؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: «خل عنه يا عمر، فلهى أسرع فيهم من نضح النبل» «1» . ورواه عبد الرزاق من حديث أنس أيضا من وجهين بلفظ خلوا بنى الكفار عن سبيله ... قد أنزل الرحمن فى تنزيله بأن خير القتل فى سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله كما قتلناكم على تنزيله

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (2847) فى الأدب، باب: ما جاء فى إنشاد الشعر، والنسائى (5/ 202) فى المناسك، باب: إنشاد الشعر فى الحرم، وابن حبان فى «صحيحه» (5788) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (2680) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

وأخرجه الطبرانى والبيهقى فى الدلائل وفيه: اليوم نضربكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله ... يا رب إنى مؤمن بقيله «1» وعن ابن عقبة فى المغازى بعد قوله: قد أنزل الرحمن فى تنزيله ... فى صحف تتلى على رسوله لكنه لم يذكر أنسا، وزاد ابن إسحاق بعد قوله: يا رب إنى مؤمن بقيله ... إنى رأيت الحق فى قبوله وقال ابن هشام: إن قوله: نحن ضربناكم على تأويله إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله يوم صفين. قالوا: ولم يزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبى حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم. وفى البخارى، عن ابن عباس ( ... قال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب. فأمرهم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) «2» . وفى رواية: (قال: ارملوا ليرى المشركون قوتكم) «3» (والمشركون من قبل قعيقعان) «4» .

_ (1) أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (10/ 228) ، وفى «الدلائل» (4/ 315) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1602) فى الحج، باب: كيف كان بدء الرمل، ومسلم (1266) فى الحج، باب: استحباب الرمل فى الطواف والعمرة وفى الطواف الأول من الحج. (3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 373) بسند صحيح. (4) صحيح: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (3811) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وانظر ما قبله.

ومعنى قوله: «إلا الإبقاء عليهم» أى لم يمنعه من أمرهم بالرمل فى جميع الطوفات إلا الرفق بهم، والإشفاق عليهم. ثم طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه- وقد وقف الهدى عند المروة- قال: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر «1» . فنحر عند المروة. وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون. وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا. وأقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة ثلاثا. وفى البخارى من حديث البراء (.. فلما دخلها- يعنى مكة- ومضى الأجل، أتوا عليّا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل) «2» . (فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- فتبعته ابنة حمزة تنادى: يا عم يا عم، فتناولها على فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك، فحملتها، فاختصم فيها على وزيد وجعفر، قال على: أنا أخذتها وهى بنت عمى. وقال جعفر: ابنة عمى وخالتها تحتى، وقال زيد ابنة أخى فقضى بها النبى- صلى الله عليه وسلم- لخالتها وقال: «الخالة بمنزلة الأم» «3» الحديث. وإنما أقرهم النبى- صلى الله عليه وسلم- على أخذها مع اشتراط المشركين ألايخرج بأحد من أهلها أراد الخروج، لأنهم لم يطلبوها.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1937) فى المناسك، باب: الصلاة بجمع، وابن ماجه (3048) فى المناسك، باب: الذبح، من حديث جابر- رضى الله عنه-، وأخرجه أبو داود (2324) فى الصيام، باب: إذا أخطأ القوم الهلال من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: والحديث عند البخارى (2700) فى الصلح، باب: كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان، ومسلم (1783) فى الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية فى الحديبية. (3) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.

وقوله: «الخالة بمنزلة الأم» أى فى هذا الحكم الخاص، لأنها تقرب منها فى الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد. ويؤخذ منه أن الخالة فى الحضانة مقدمة على العمة، لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء، فهى مقدمة على غيرها. ويؤخذ منها تقديم أقارب الأم على أقارب الأب انتهى. قال ابن عباس: وتزوج- صلى الله عليه وسلم- ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال «1» . وقد استدرك ذلك على ابن عباس وعد من وهمه، قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها- صلى الله عليه وسلم- إلا بعد ما حل «2» . ذكره البخارى. و «وهم» بكسر الهاء أى غلط. وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة: تزوجنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن حلالان بسرف «3» . رواه مسلم. وسيأتى فى الخصائص من مقصد معجزاته- إن شاء الله تعالى-: أن له- صلى الله عليه وسلم- النكاح فى حال الإحرام على أصح الوجهين عند الشافعية. ثم سرية ابن أبى العوجاء السلمى «4» إلى بنى سليم، فى ذى الحجة سنة سبع، فى خمسين رجلا، فأحدق بهم الكفار من كل ناحية، وقاتل القوم قتالا شديدا، حتى قتل عامتهم وأصيب ابن أبى العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أول صفر سنة ثمان.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4259) فى المغازى، باب: عمرة القضاء، ومسلم (1410) فى النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم. (2) قلت: أثر سعيد بن المسيب ليس عند البخارى، بل عند أبى داود (1845) فى المناسك، باب: المحرم يتزوج، بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) صحيح: أخرجه مسلم (1411) فى النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم، وأبو داود (1843) فى المناسك، باب: المحرم يتزوج، واللفظ له. (4) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 94) ، والمنتظم لابن الجوزى (3/ 306) .

ثم سرية غالب بن عبد الله الليثى «1» إلى بنى الملوح- بالحاء المهملة- بالكديد- بفتح الكاف- قال فى القاموس: الكديد بفتح الكاف ماء بين الحرمين شرفهما الله تعالى. والبطن الواسع من الأرض الغليظة، كالكدة بالكسر، ويوم الكديد معروف. فى صفر سنة ثمان من مهاجره، فغنم. وفى هذا الشهر قدم خالد بن الوليد وعثمان بن أبى طلحة وعمرو بن العاصى المدينة فأسلموا. وقال ابن أبى خيثمة: كان ذلك سنة خمس، وقال الحاكم: سنة سبع. ثم سرية غالب «2» أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك فى صفر سنة ثمان، ومعه مائتا رجل، فأغاروا عليهم مع الصبح وقتلوا منهم قتلى وأصابوا نعما. ثم سرية شجاع بن وهب الأسدى «3» إلى بنى عامر، بالسىء، ماء من ذات عرق إلى وجرة على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة، وخمس مراحل من المدينة. فى شهر ربيع الأول سنة ثمان، ومعه أربعة وعشرون رجلا إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم، فأصابوا نعما وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة، واقتسموا الغنيمة وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا وعدلوا البعير بعشر من الغنم. ثم سرية كعب بن عمير الغفارى «4» إلى ذات أطلاح، وراء ذات

_ (1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 94) ، والمنتظم لابن الجوزى (3/ 314) . (2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 96) ، و «المنتظم» لابن الجوزى (3/ 315) . (3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 96) ، و «المنتظم» لابن الجوزى (3/ 316) . (4) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 97) ، و «المنتظم» لابن الجوزى (3/ 316) .

غزوة مؤتة

القرى، فى ربيع الأول سنة ثمان، فى خمسة عشر رجلا، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، فوجدوا جمعا كثيرا فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا، وأفلت منهم رجل جريح فى القتلى. قال مغلطاى: قيل هو الأمير. فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر، فشق ذلك عليه، وهم بالبعث إليه فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم. غزوة مؤتة «1» ثم سرية مؤتة- بضم الميم وسكون الواو- بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، وجزم ثعلب والجوهرى وابن فارس بالهمز، وحكى غيرهم الوجهين. وهى من عمل البلقاء بالشام، دون دمشق. فى جمادى الأولى سنة ثمان. وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أرسل الحارث بن عمير الأزدى بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى فقتله، ولم يقتل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسول غيره. فأمر- صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف وقال: إن قتل فجعفر بن أبى طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم «2» .

_ (1) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 373- 389) ، وابن سعد فى «الطبقات الكبرى» (2/ 128) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 107) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 455- 493) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 381- 385) . (2) انظر صحيح البخارى (4261) فى المغازى، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام، من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-.

وفى حديث عبد الله بن جعفر عند أحمد والنسائى. بإسناد صحيح «إن قتل زيد فأميركم جعفر» «1» الحديث. قالوا: وعقد لهم- صلى الله عليه وسلم- لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعينوا عليهم بالله وقاتلوهم. وخرج مشيعا لهم، حتى إذا بلغ ثنية الوداع فوقف وودعهم، فلما ساروا نادى المسلمون: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين، فقال ابن رواحة. لكننى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه. وقد نزل المسلمون معان- بفتح الميم- موضع من أرض الشام، وبلغ الناس كثرة العدو وتجمعهم، وأن هرقل نزل بأرض البلقاء فى مائة ألف من المشركين. فأقاموا ليلتين لينظروا فى أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فنخبره الخبر، فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضى، فمضوا إلى مؤتة. ووافاهم المشركون فجاء منهم ما لا قبل لأحد به من العدد والعدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب. والتقى المسلمون والمشركون. فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى قتل طعنا بالرماح.

_ (1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 204) ، من حديث عبد الله بن جعفر- رضى الله عنهما-، وهو عند النسائى فى «الكبرى» (8249) ، وأحمد فى «مسنده» (5/ 300- 301) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7048) من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-.

ثم أخذ اللواء جعفر بن أبى طالب، فنزل عن فرس له شقراء وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد فى أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح. قال فى رواية البخارى: ووجدنا ما فى جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية «1» . وفى رواية: أن ابن عمر وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل قال: فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شىء فى دبره «2» . وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبى داود من طريقه عن رجل من مرة قال: والله لكأنى أنظر إلى جعفر بن أبى طالب، حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل «3» . قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل. فأخذ اللواء ابن أقرم العجلانى، إلى أن اصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين. وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة. وقال ابن سعد: إنما انهزم بالمسلمين. وقال ابن إسحاق: انحازت كل طائفة من غير هزيمة «4» . ورفعت الأرض لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نظر إلى معترك القوم.

_ (1) هى عند البخارى (4261) وقد تقدم قبل حديث. (2) هى عند البخارى (4260) فيما سبق. (3) حسن: أخرجه أبو داود (2573) فى الجهاد، باب: فى الدابة تعرقب فى الحرب والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 373- 389) .

وعن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنى أبى الذى أرضعنى- وكان أحد بنى مرة قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبى طالب وأصحابه، فرأيت جعفرا حين التحم القتال اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل، خرجه البغوى فى معجمه. وقطعت فى تلك الوقعة يداه جميعا ثم قتل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما فى الجنة حيث شاء» «1» ، أخرجه أبو عمر. وفى البخارى عن عائشة- رضى الله عنها-: لما جاء قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر بن أبى طالب جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرف فيه الحزن «2» . وأخرج الطبرانى بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر قال: قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة فى السماء» «3» . وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة» «4» ، أخرجه الترمذى والحاكم وفى إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث على عند ابن سعد. وعن أبى هريرة أيضا عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «مر بى جعفر الليلة فى ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم» «5» ، أخرجه الترمذى والحاكم بإسناد على شرط مسلم. وأخرج أيضا هو والطبرانى عن ابن عباس مرفوعا: دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة «6» .

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 273) وقال: رواه الطبرانى بإسنادين أحدهما حسن. (2) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (4263) فى المغازى، باب: غزوة مؤتة. (3) إسناده حسن: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 273) وقال: رواه الطبرانى وإسناده حسن. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (3763) فى المناقب، باب: مناقب جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه-، وابن حبان فى «صحيحه» (7047) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 231) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال. (5) صحيح: انظر ما قبله. (6) حسن: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 217 و 231) ، والطبرانى فى «الكبير» (2/ 107 و 3/ 146) بسند حسن.

وفى طريق أخرى عنه: إن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان، عوضه الله من يديه «1» . وإسناد هذا جيد. فقد عوضه الله تعالى عن قطع يديه فى هذه الوقعة، حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت ثم أخذه بشماله فقطعت ثم احتضنه فقتل. قال السهيلى: له جناحان، ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحى الطائر وريشه، لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، فالمراد بالجناحين صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر. وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا فى قوله تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ «2» . وقال العلماء فى أجنحة الملائكة إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر فى بيان كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذى جزم به فى مقام المنع، والذى حكاه عن العلماء ليس صريحا فى الدلالة لما ادعاه. ولا مانع من الحمل على الظاهر، إلا من جهة ما ذكره من المعهود، وهو قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف. وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره، لأن الصورة باقية. وقد روى البيهقى فى الدلائل من مرسل عاصم ابن عمر بن قتادة: أن جناحى جعفر من ياقوت. وجاء فى جناحى جبريل أنهما من لؤلؤ. أخرجه ابن منده فى ترجمة ورقة. وذكر موسى بن عقبة فى المغازى، أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك» قال: أخبرنى، فأخبره خبرهم فقال: والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره.

_ (1) انظر ما قبله. (2) سورة طه: 22.

وعند الطبرانى من حديث أبى اليسر الأنصارى: أن أبا عامر الأشعرى هو الذى أخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- بمصابهم «1» . ثم سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل «2» . وسميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. وقيل لأن بها ماء يقال له السلسل، وراء ذات القرى، من المدينة على عشرة أيام. وكانت فى جمادى الآخرة سنة ثمان، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبى خالد فى كتاب صحيح التاريخ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة. إلا أن ابن إسحاق قال قبلها. وسببها: أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا للإغارة، فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه فى ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار. ومعهم ثلاثون فرسا. فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب منهم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث- بفتح الميم- الجهنى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواء، وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر- رضى الله عنهم-، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا. فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت على مددا، وأنا الأمير فأطاع له بذلك أبو عبيدة، فكان عمرو يصلى بالناس. وسار حتى وصل إلى العدو: بلى وعذرة، فحمل عليهم المسلمون، فهربوا فى البلاد وتفرقوا. ثم سرية أبى عبيدة بن الجراح. وسماها البخارى: غزوة سيف البحر، وتعرف بسرية الخبط.

_ (1) قاله الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (7/ 513) . (2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 131) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 386 387) .

وبعث معه- صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة، كما فى الصحيحين وغيرهما «1» وهو المشهور، لكن فى رواية النسائى: وبضع عشرة، فإن صحت هذه الرواية فلعله اقتصر فى الرواية المشهورة على الثلاثمائة استسهالا لأمر الكسر، والأخذ بالزيادة مع صحتها واجب. وكان فيهم عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-. يتلقى عيرا لقريش. رواه مسلم، وعنده أيضا: إلى أرض جهينة. ولا منافاة بينهما: فالجهة أرض جهينة، والقصد تلقى عير قريش- وهى الإبل المحملة للطعام وغيره-. لكن فى كتب السير: أن البعث إلى حى من جهينة بالقبلية- بفتح القاف والموحدة- مما يلى ساحل البحر، وبينها وبين المدينة خمس ليال. ولعل البعث لمقصدين: رصد عير قريش، ومحاربة حى من جهينة. وقال ابن سعد: وكانت فى رجب سنة ثمان. وفيه نظر: فإن تلقى عير قريش ما يتصور أن يكون فى هذه المدة، لأنهم حينئذ كانوا فى الهدنة، فالصحيح أن تكون هذه السرية سنة ست أو قبلها، قبل هدنة الحديبية. نعم يحتمل أن يكون تلقيهم العير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع فى شىء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا. بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر فى مكان واحد. فالله أعلم. قاله الحافظ ابن حجر. لكن قال شيخ الإسلام ابن العراقى فى شرح التقريب، قالوا: وكانت هذه السرية فى شهر رجب سنة ثمان من الهجرة وذلك بعد نكث قريش العهد وقبل الفتح، فإنه كان فى رمضان من السنة المذكورة انتهى.

_ (1) انظر القصة فى صحيح البخارى (4360- 4362) فى المغازى، باب: غزوة سيف البحر، ومسلم (1935) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر، والنسائى (7/ 207) فى الصيد والذبائح، باب: ميتة البحر من حديث جابر- رضى الله عنه-.

قالوا وزودهم- صلى الله عليه وسلم- جرابا من التمر، فلما فنى أكلوا الخبط- وهو بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة- ورق السلم. وفى رواية أبى الزبير: وكنا نضرب بعصينا الخبط ونبله بالماء فنأكله، وهذا يدل على أنه كان يابسا، خلافا لمن زعم أنه كان أخضر رطبا. وقد كان معهم تمر غير الجراب النبوى، ويدل عليه حديث البخارى فى الجهاد- خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا حتى فنى زادنا، حتى كان الرجل منا يأكل تمرة تمرة «1» . وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم «2» . وأخرج الله لهم من البحر دابة تسمى العنبر فأكلوا منها وتزودوا ورجعوا ولم يلقوا كيدا. وفى رواية جابر عند الأئمة الستة: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، فأقمنا على الساحل حتى فنى زادنا، حتى أكلنا الخبط ثم إن البحر ألقى لنا دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، حتى صلحت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعها فنصبه ونظر إلى أطول بعير فجاز تحته «3» الحديث. زاد الشيخان فى رواية: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكرنا ذلك له فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شىء من لحمه فتطعمونا؟» قال: فأرسلنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منه فأكل «4» . ثم سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى خضرة وهى أرض محارب

_ (1) صحيح: وقد تقدم فيما قبله. (2) صحيح: وقد تقدم فيما قبله. (3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5493 و 5494) فى الذبائح والصيد، باب: قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ، ومسلم (1935) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر. (4) صحيح: أخرجه البخارى (4362) فى المغازى، باب: غزوة سيف البحر، ومسلم (1935) فيما تقدم.

بنجد، فى شعبان سنة ثمان، وبعث معه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، فقتل من أشرف منهم، وسبى سبيا كثيرا، واستاق النعم، وكانت الإبل مائتى بعير، والغنم ألفى شاة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة. ثم سرية أبى قتادة أيضا إلى بطن أضم- فيما بين ذى خشب وذى المروة- على ثلاثة برد من المدينة، فى أول شهر رمضان سنة ثمان. وذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- لما هم أن يغزو أهل مكة، بعث أبا قتادة فى ثمانية نفر، سرية إلى بطن أضم، ليظن ظان أنه- صلى الله عليه وسلم- توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار. فلقوا عامر بن الأضبط، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقتله محلم بن جثامة، فأنزل الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً «1» إلى آخر الآية «2» رواه أحمد، وهو عند ابن جرير من حديث ابن عمر بنحوه وزاد: فجاء محلم بن جثامة فى بردين فجلس بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليستغفر له، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لا غفر الله لك، فقام يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة حتى مات فلفظته الأرض. وعند غيره: ثم عادوا به فلفظته الأرض، فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه. وفى رواية ابن جرير: فذكروا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله يريد أن يعظكم «3» . ونسب ابن إسحاق هذه السرية لابن أبى حدرد ومعه رجلان إلى الغابة، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن رفاعة بن قيس يجمع لحربه، فقتلوا رفاعة وهزموا عسكره، وغنموا غنيمة عظيمة، حكاه مغلطاى والله أعلم.

_ (1) سورة النساء: 94. (2) انظر القصة بنحوها فى «صحيح البخارى» (4591) فى التفسير، باب: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، ومسلم (3025) فى التفسير، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (3) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (5/ 222) ، كما ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (1/ 540) .

ثم فتح مكة زادها الله شرفا. وهو كما قال فى زاد المعاد: «الفتح الأعظم، الذى أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذى جعله هدى للعاملين من أيدى الكفار والمشركين، وهو الفتح الذى استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا» «1» . خرج له- صلى الله عليه وسلم- بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذى وقع بالحديبية. فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل فى عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة فى عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعهده. وكان بين بنى بكر وخزاعة حروب وقتلى فى الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلى من بنى بكر فى بنى الديل حتى بيت خزاعة وهم على ماء لهم يقال له الوتير، فأصاب منهم رجلا يقال له منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال. وأمدت قريش بنى بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلا فى خفية. وخرج عمرو بن سالم الخزاعى فى أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخبرونه بالذى أصابهم ويستنصرونه. فقام وهو يجر رداءه وهو يقول: «لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر منه نفسى» «2» . وفى المعجم الصغير للطبرانى، من حديث ميمونة أنها سمعته- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) قاله ابن القيم فى «الهدى» (3/ 394) . (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 161- 162) بنحوه عن عائشة وقال: رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عنها، وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.

يقول فى متوضئه ليلا: «لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا» ، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول فى متوضئك: لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا، كأنك تكلم إنسانا، فهل كان معك أحد؟ فقال: - صلى الله عليه وسلم-: «هذا راجز بنى كعب يستصرخنى ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بنى بكر» . ثم خرج- عليه السّلام- فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: والله ما أدرى، فقال: والله ما هذا زمان غزو بنى الأصفر، فأين يريد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: والله لا علم لى. قالت فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح بالناس فسمعت الراجز ينشده: يا رب إنى ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا أن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعو أحدا ... فانصر هداك الله نصرا أبدا وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفا وجهه تربدا قال فى القاموس: وتربد- يعنى بالراء- تغير. انتهى. وزاد ابن إسحاق: هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نصرت يا عمرو بن سالم» «1» . فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبى هريرة بعض الأبيات المذكورة. وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد فى المدة. فأبى عليه، فانصرف إلى مكة.

_ (1) أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 234) وفى «الدلائل» (5/ 5- 7) .

فتجهز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غير إعلام أحد بذلك. فكتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك. فأطلع الله نبيه على ذلك. فقال- عليه السّلام- لعلى بن أبى طالب والزبير والمقداد: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها» . قال فانطلقنا.. حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجى الكتاب، قالت: ما معى كتاب. قلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فقال: «يا حاطب، ما هذا؟» . قال: يا رسول الله لا تعجل على، إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش- يقول: كنت حليفا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى، ولم أفعله ارتدادا عن ذنبى ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنه قد صدقكم» . فقال عمر: يا رسول الله، دعنى أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «1» «2» . رواه البخارى. قال فى فتح البارى: وإنما قال عمر- رضى الله عنه-: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة فى الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما

_ (1) سورة الممتحنة: 1. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3007) فى الجهاد والسير، باب: الجاسوس، ومسلم (2494) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر- رضى الله عنهم- وقصة حاطب بن أبى بلتعة- رضى الله عنه-.

أمر به النبى- صلى الله عليه وسلم- استحق القتل. لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن فى قتله. وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر. وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا ألاضرر فيه. وعند الطبرى أيضا: عن عروة: فإنى غافر لكم. وهذا يدل على أن المراد: ب «غفرت» أغفر، على طريق التعبير عن الآتى بالواقع مبالغة فى تحققه. قال: والذى يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة. وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله فى كل من أخبر عنه بشىء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شىء من أحدهم لبادر إلى التوبة ولازم الطريقة المثلى، يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم قاله القرطبى. وذكر بعض أهل المغازى- وهو فى تفسير يحيى بن سلام- أن لفظ الكتاب الذى كتبه حاطب: أما بعد: يا معشر قريش، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فو الله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له، فانظروا لأنفسكم والسلام. هكذا حكاه السهيلى. وروى الواقدى بسند له مرسل: أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أذن فى الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لى عندكم يد. انتهى. وبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق. فكان المسلمون فى غزوة الفتح: عشرة آلاف. وفى «الإكليل» و «شرف المصطفى» اثنى عشر ألفا.

ويجمع بينهما أن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به الألفان. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وقيل أبا رهم الغفارى. وخرج- صلى الله عليه وسلم- يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان، قاله الواقدى. وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبى سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان «1» . فما قاله الواقدى ليس بقوى لمخالفته ما هو أصح منه. وفى تعيين هذا التاريخ أقوال أخر منها عند مسلم: لست عشرة «2» ، ولأحمد: ثمانى عشرة «3» ، وفى أخرى: لثنتى عشرة «4» ، والذى فى المغازى: لتسع عشرة مضت. وهو محمول على الاختلاف فى أول الشهر، وفى أخرى: تسع عشرة أو سبع عشرة «5» على الشك. ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- الكديد- بفتح الكاف- الماء الذى بين قديد وعسفان أفطر فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر «6» . رواه البخارى، وفى أخرى: أفطر وأفطروا، الحديث. وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا، فلقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنه راض.

_ (1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 87) ، وأصله فى الصحيح. (2) هى عند مسلم (1116) فى الصيام، باب: جواز الصوم والفطر فى شهر رمضان للمسافر فى غير معصية. (3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 92) . (4) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 45) . (5) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 71) . (6) صحيح: أخرجه البخارى (4275 و 4276) فى المغازى، باب: غزوة الفتح فى رمضان، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

وكان ممن لقيه فى الطريق أبو سفيان بن الحارث، ابن عمه، وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبى سفيان. وكان أبو سفيان يألف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما بعث عاداه وهجاه. وكان لقاؤهما له- عليه السّلام- بالأبواء وأسلما قبل دخول مكة. وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبى أمية، ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض- صلى الله عليه وسلم- عنهما لما كان يلقى منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال على لأبى سفيان- فيما حكاه أبو عمر وصاحب ذخائر العقبى-: ائت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ «1» فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى الله عليه وسلم-: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «2» «3» . ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ أسلم حياء منه. قالوا: ثم سار- صلى الله عليه وسلم- فلما كان بقديد عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل. ثم نزل مر الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان ابن حرب وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم. وفى البخارى: (فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما

_ (1) سورة يوسف: 91. (2) سورة يوسف: 92. (3) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (3/ 46- 48) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بسند جيد.

هذه؟ لكأنها نيران عرفة، فقال له بديل بن ورقاء: نيران بنى عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلم أبو سفيان. فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبى- صلى الله عليه وسلم-: تمر كتيبة كتيبة على أبى سفيان. فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار؟ قال: مالى ولغفار؟ ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار) «1» . بالمعجمة المكسورة: الهلاك. قال الخطابى: تمنى أبو سفيان أن تكون له يد فيحمى قومه ويدفع عنهم. وقيل: هذا الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظى وحمايتى من أن ينالنى مكروه. وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله، ما آمن أن يكون لسعد فى قريش صولة. فقال لعلى: «أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها» . وقد روى الأموى فى المغازى: أن أبا سفيان قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟ قال: «لا» ، فذكر له ما قال سعد بن عبادة ثم ناشده الله والرحم، فقال: «يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشا» ، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4280) فى المغازى، باب: أين ركز النبى- صلى الله عليه وسلم- الراية يوم الفتح.

وعند ابن عساكر من طريق أبى الزبير عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة من قريش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا نبى الهدى إليك لجا ... حى قريش ولات حين لجائى حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء إن سعدا يريد قاصمة الظه ... ر بأهل الحجون والبطحاء فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة. فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس. وعند أبى يعلى من حديث الزبير أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دفعها إليه فدخل مكة بلواءين، وإسناده ضعيف جدّا. لكن جزم موسى بن عقبة فى المغازى عن الزهرى أنه دفعها إلى الزبير بن العوام. فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التى نزعت من سعد. والذى يظهر فى الجمع أن عليّا أرسل لينزعها ويدخل بها، ثم خشى تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشى أن يقع من ابنه شىء يكرهه النبى- صلى الله عليه وسلم- فسأل النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير. قال فى رواية البخارى (.. ثم جاءت كتيبة فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وراية النبى- صلى الله عليه وسلم- مع الزبير، فلما مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأبى سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: قال كذا وكذا فقال: كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة. قال وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تركز رايته بالحجون. قال: وقال عروة أخبرنى نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ها هنا أمرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تركز الراية؟ قال: نعم.

وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء- أى بالفتح والمد- ودخل النبى- صلى الله عليه وسلم- من كدى- أى بالضم والقصر- فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: جيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهرى) «1» . قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية فى البخارى أيضا أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبى- صلى الله عليه وسلم- من أعلاها. يعنى حديث ابن عمر: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد «2» ، وحديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل عام الفتح من كداء التى بأعلى مكة وغيرهما «3» . قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال: وبعث- صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه. وبعث خالد بن الوليد فى قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت. وبعث سعد بن عبادة فى كتيبة الأنصار فى مقدمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم. واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف، وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا فقاتلهم فانهزموا، وقتل من بنى بكر نحو من عشرين رجلا، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا الدور، فارتفعت طائفة منهم على الجبال.

_ (1) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2988) فى الجهاد والسير، باب: الردف على الحمار. (3) صحيح: أخرجه البخارى (4290) فى المغازى، باب: دخول النبى- صلى الله عليه وسلم- من أعلى مكة.

وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن. قال: ونظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى البارقة فقال: «ما هذا؟ وقد نهيت عن القتال» . فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتلهم. قال: وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن اطمأن- لخالد بن الوليد: «لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟» فقال هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدى ما استطعت، قال: «قضاء الله خير» . وعند ابن إسحاق: فلما نزل- صلى الله عليه وسلم- مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلا راكبا بغلة النبى- صلى الله عليه وسلم- لكى يجد أحدا فيعلم أهل مكة بمجىء النبى- صلى الله عليه وسلم- ليستأمنوه، فسمع صوت أبى سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، فأردف أبا سفيان خلفه وأتى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم- فأسلم وانصرف الآخران ليعلما أهل مكة. ويمكن الجمع: بأن الحرس لما أخذوه استنقذه العباس. وروى أن عمر- رضى الله عنه- لما رأى أبا سفيان رديف العباس دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان، دعنى أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله إنى قد أجرته. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اذهب يا عباس به إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به» ، فذهب فلما أصبح غدا به على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما رآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألاإله إلا الله؟» فقال: بأبى أنت وأمى، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عنى شيئا. ثم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله؟» قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففى النفس منها شىء. فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق. فقال العباس:

يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: «نعم» . وأمر- صلى الله عليه وسلم- فنادى مناديه: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن إلا المستثنين «1» . وهم كما قال مغلطاى: عبد الله بن سعد بن أبى سرح. أسلم. وابن خطل: قتله أبو برزة. وقينتاه وهما: فرتنى- بالفاء المفتوحة، والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون- وقريبة- بالقاف والراء والموحدة مصغرا- أسلمت إحداهما وقتلت الآخرى. وذكر غير ابن إسحاق أن التى أسلمت فرتنى وأن قريبة قتلت. وسارة: مولاة لبنى المطلب، أسلمت، ويقال كانت مولاة عمرو بن صيفى بن هشام. وأرنب- علم امرأة- وقريبة: قتلت وعكرمة بن أبى جهل: أسلم. والحويرث ابن نقيد قتله على. ومقيس بن صبابة- بمهملة وموحدتين الأولى خفيفة- قتله نميلة الليثى. وهبار بن الأسود: أسلم وهو الذى عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين هاجرت فنخس بها بعيرها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها. وكعب بن زهير: أسلم. وهند بنت عتبة: أسلمت. ووحشى بن حرب: أسلم انتهى. وابن خطل: بفتح الخاء والطاء المهملة. وابن نقيد: بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا. ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة التحتية آخره مهملة. وقد جمع الواقدى عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس، ستة رجال، وأربع نسوة. وروى أحمد ومسلم والنسائى عن أبى هريرة قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد بعث على أحد المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الآخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر. بضم المهملة وتشديد السين المهملة، أى الذين بغير سلاح- فقال لى يا أبا هريرة، اهتف لى بالأنصار، فهتف بهم فجاؤا فأطافوا به، فقال لهم: أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (3021) فى الخراج والفىء، باب: ما جاء فى خبر مكة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث له شواهد عند مسلم (1780) وسيأتى فى الحديث الآتى.

بإحدى يديه على الآخرى: احصدوهم حصدا، حتى توافونى بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا، فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله: أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم-: «من أغلق بابه فهو آمن» «1» . قال فى فتح البارى: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر. وعن الشافعى، وهو رواية عن أحمد: أنها فتحت صلحا، لما وقع من هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها. وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها. وحجة الأولين: ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه- صلى الله عليه وسلم- بأنها أحلت له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسى به فى ذلك. وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها، ويترك لهم دورهم. وأما قول النووى: واحتج الشافعى بالأحاديث المشهورة بأن النبى صلى الله عليه وسلم- صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر، لأن الذى أشار إليه، إن كان مراده ما وقع من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن» كما تقدم وكذا من دخل المسجد- كما عند ابن إسحاق- فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذى ورد فى الأحاديث الصحيحة ظاهر فى أن قريشا لم يلتزموا بذلك لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل، ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته. انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1780) فى الجهاد والسير، باب: فتح مكة، والنسائى فى «الكبرى» (11298) ، وأحمد فى «مسنده» (2/ 538) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة فى كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء بين أبى بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا عظيما، فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملك ولكنها نبوة، قال: «نعم» «1» . وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- وضع رأسه تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده ولم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده. وفى البخارى من حديث أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر- وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وفى المحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة- فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتله «2» . وفى حديث سعيد بن يربوع عند الدار قطنى والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: «أربعة لا أؤمنهم فى حل ولا حرم: الحويرث وهلال بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبى سرح. قال: فأما هلال بن خطل فقتله الزبير» «3» . الحديث. وفى حديث سعد بن أبى وقاص عند البزار والحاكم والبيهقى فى الدلائل نحوه، لكن قال: أربعة نفر وامرأتان وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فذكره. لكن قال: عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين. وقال: فأما عبد الله بن خطل فأدرك

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 164) عن ميمونة بنت الحارث زوج النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والكبير وفيه يحيى بن سليمان بن فضلة وهو ضعيف. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4286) فى المغازى، باب: أين ركز النبى- صلى الله عليه وسلم- الراية يوم الفتح. (3) لم أقف عليه، وانظر ما بعده.

وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله «1» . الحديث. وروى ابن أبى شيبة من طريق أبى عثمان النهدى: أن أبا برزة الأسلمى قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله. ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد فى تعيين قاتله، وبه جرم البلاذرى وغيره من أهل الأخبار. وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام فى السيرة: بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمى اشتركا فى قتله. وإنما أمر بقتل ابن خطل، لأنه كان مسلما فبعثه- صلى الله عليه وسلم- مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه- وكان مسلما- ونزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويضع له طعاما ونام، قاستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدى عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه، فإنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمى عبد الله. وأما من قال: هلال، فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال. وفى رواية أبى داود من حديث مصعب: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس إلا أربعة نفر فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبى سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان- رضى الله عنه- فلما دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبى الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآنى كففت

_ (1) صحيح: أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (2/ 62) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (757) ، والدار قطنى فى «سننه» (3/ 59 و 4/ 167) بسند صحيح.

يدى عن بيعته فيقتله؟» فقالوا: يا رسول الله ما ندرى ما فى نفسك، ألا أومأت إلينا؟ فقال: «إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين» «1» . الحديث. قال مالك- كما فى رواية البخارى-: ولم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما نرى يومئذ محرما «2» . انتهى. وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدى عن مالك جازما به. أخرجه الدار قطنى فى الغرائب. ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر: دخل- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح مكة عليه عمامة سوداء بغير إحرام «3» . وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال: لم يدخل النبى- صلى الله عليه وسلم- مكة إلا محرما إلا يوم الفتح. وقد اختلف العلماء: هل يجب على من دخل مكة الإحرام أم لا؟ فالمشهور من مذهب الشافعى عدم الوجوب مطلقا. وفى قول: يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب، وهو أولى بعدم الوجوب. والمشهور عن الأئمة الثلاثة: وفى رواية عن كل منهم: لا يجب، وجزم الحنابلة باستثناء ذوى الحاجات المتكررة، واستثنى الحنيفة من كان داخل الميقات والله أعلم. وقد زعم الحاكم فى الإكليل: أن بين حديث أنس فى المغفر وبين حديث جابر فى العمامة السوداء معارضة. وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2683) فى الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، والنسائى (7/ 105) فى تحريم الدم، باب: الحكم فى المرتد، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) ذكره البخارى عقب الحديث (4286) وقد تقدم تقريبا. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1358) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.

ويؤيده: أن فى حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء «1» . أخرجه مسلم أيضا. وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول. وهذا الجمع للقاضى عياض. وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم. وفى البخارى: عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين تنزل غدا، قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «وهل ترك لنا عقيل من منزل؟» وفى رواية: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» . وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا على شيئا لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين. فكان عمر بن الخطاب يقول: لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر «2» . وفى رواية أخرى له قال- صلى الله عليه وسلم- منزلنا إن شاء الله- إذا فتح الله- الخيف، حيث تقاسموا على الكفر. يعنى به المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بنى هاشم وبنى عبد المطلب: ألايناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم- «3» ، كما تقدم. وفى رواية أخرى له: أنه يوم فتح مكة اغتسل فى بيت أم هانىء، ثم صلى الضحى ثمانى ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود «4» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1359) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1588) فى الحج، باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها. (3) صحيح: أخرجه البخارى برقم (3058) فى الجهاد والسير، باب: إذا أسلم قوم فى دار الحرب ولهم مال وأرضون فهى لهم. (4) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (1104) فى الجمعة، باب: من تطوع فى السفر، ومسلم (336) فى الصلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، من حديث أم هانىء- رضى الله عنها-.

وأجارت أم هانىء حموين لها، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» «1» ، والرجلان: الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة، كما قاله ابن هشام، وقد كان أخوها على بن أبى طالب أراد أن يقتلهما فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-. ولما كان الغد من يوم الفتح قام- صلى الله عليه وسلم- خطيبا فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال: «أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهى حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» «2» . ثم قال: «يا معشر قريش ما ترون أنى فاعل بكم؟» . قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، أى: الذين أطلقوا، فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق: الأسير إذا أطلق. والمراد بالساعة التى أحلت له- عليه السّلام- ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، كذا قاله فى فتح البارى. ولقد أجاد العلامة أبو محمد الشقراطسى حيث يقول فى قصيدته المشهورة: ويوم مكة إذ أشرفت فى أمم ... تضيق عنها فجاج الوعث والسهل خوافق ضاق ذرع الخافقين بها ... فى قاتم من عجاج الخيل والإبل وجحفل قذف الأرجاء ذى لجب ... عرمرم كزهاء الليل منسحل

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (357) فى الصلاة، باب: الصلاة فى الثوب الواحد ملتحفا به، ومسلم (336) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، من حديث أم هانىء- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (104) فى العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ومسلم (1354) فى الحج، باب: تحريم مكة، من حديث أبى شريح- رضى الله عنه-.

وأنت صلى عليك الله تقدمهم ... فى بهو إشراق نور منك مكتمل ينير فوق أغر الوجه منتجب ... متوج بعزيز النصر مقتبل يسمو أمام جنود الله مرتديا ... ثوب الوقار لأمر الله ممتثل خشعت تحت بهاء العز حين سمت ... بك المهابة فعل الخاضع الوجل وقد تباشر أملاك السماء بما ... ملكت إذ نلت منه غاية الأمل والأرض ترجف من زهو ومن فرق ... والجو يزهر إشراقا من الجذل والخيل تختال زهوا فى أعنتها ... والعيس تنثال رهوا فى ثنى الجدل لولا الذى خطت الأقلام من قدر ... وسابق من قضاء غير ذى حول أهل ثهلان بالتهليل من طرب ... وذاب يذبل تهليلا من الذبل الملك لله هذا عز من عقدت ... له النبوة فوق العرش فى الأزل شعبت صدع قريش بعد ما قذفت ... بهم شعوب شعاب السهل والقلل قالوا محمد قد زادت كتائبه ... كالأسد تزأر فى أنيابها العصل فويل مكة من آثار وطأته ... وويل أم قريش من جوى الهبل فجدت عفوا بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللوم والعذل أضربت بالصفح صفحا عن غوائلهم ... طولا أطال مقيل النوم فى المقل رحمت واشج أرحام أتيح لها ... تحت الوشيج نشيج الروع والوجل عاذوا بظل كريم العفو ذى لطف ... مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل أزكى الخليقة أخلاقا وأطهرها ... وأكرم الناس صفحا عن ذوى الزلل وطفت بالبيت محبورا وطاف به ... من كان عنه قبيل الفتح فى شغل والجحفل: الجيش العظيم. وقذف الأرجاء: أى متباعدها. واللجب: بالجيم المفتوحة: الضجة من كثرة الأصوات. والعرمرم: الضخم الكثير العدد. وقوله: كزهاء الليل: شبهه بالليل فى سده الأفق، واسوداده بالسلاح. والمنسحل: - بالحاء المهملة- الماضى فى سيره يتبع بعضه بعضا. وقوله: فى بهو إشراق: شبه النور الذى يغشاه- عليه السّلام- ببهو أحاط به. والبهو: البناء العالى كالإيوان ونحوه. والمنتجب: المتخير أصل نجيب، أى كريم، والمقتبل: المستقبل الخير. وترتجف: تهتز. والزهور: الخفة من الطرب، يعنى: أن

الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش، وفرقا من صولته، أى كادت تهتز، قال تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «1» . والجدل: جمع جديل، وهو الزمام المصفور. وثنى الجدل: ما انثنى على أعناق الإبل، أى انعطف. وثهلان: اسم جبل معروف. وأهل: رفع صوته. ويذبل: اسم جبل أيضا. والذبل: الرماح الذوابل وهى التى لم تقطع من منابتها حتى ذبلت أي جفت ويبست. وتهليلا: أى صياحا، جبنا وفزعا. يعنى: لولا ما سبق من تقدير الله أن الجبال لا تنطق لرفع ثهلان صوته وهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق. وقوله: شعبت أي جمعت وأصلحت وقذفت بهم: أي فرقت بهم مخافة شعوب. وشعوب: اسم للمنية لأنها تفرق الجماعات، من شعبت أى فرقت، وهو من الأضداد. والشعاب: الطرق فى الجبال. والسهل: خلاف الجبل. والقلل: رؤس الجبال. يعنى أنه- صلى الله عليه وسلم- عفا عنهم بعد ما تصدعوا، أى تفرقوا وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل. وقوله: كالأسد تزأر فى أنيابها العصل: أى المعوجة. والله أعلم. ولما فتح الله مكة على رسوله- صلى الله عليه وسلم- قال الأنصار فيما بينهم: أترون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ وكان- صلى الله عليه وسلم- يدعو على الصفا رافعا يديه، فلما فرغ من دعائه قال: «ماذا قلتم؟» قالوا: لا شىء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم-: «معاذ الله، المحيا محياكم والممات مماتكم» «2» . وهم فضالة بن عمير أن يقتل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أفضالة» ، قال: نعم يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: لا شىء، كنت أذكر الله، فضحك صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «استغفر الله» ، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه،

_ (1) سورة الأحزاب: 10. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1780) فى الجهاد والسير، باب: فتح مكة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

وكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدرى حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه «1» . وطاف- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان. وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيب وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان زهوقا» ، فيقع الصنم لوجهه. رواه البيهقى «2» . وفى رواية أبى نعيم: قد ألزقها الشياطين بالرصاص والنحاس. وفى تفسير العلامة ابن النقيب المقدسى «3» : إن الله تعالى لما أعلمه صلى الله عليه وسلم- بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتح مكة وإعلاء كلمة دينه، أمره إذ دخل مكة أن يقول: وقل جاء الحق وزهق الباطل، فصار صلى الله عليه وسلم- يطعن الأصنام التى حول الكعبة بمحجنة ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، فيخر الصنم ساقطا، مع أنها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة. قال: وفى معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال: قال قتادة: جاء القرآن وذهب الشيطان. وقال ابن جريح: جاء الجهاد وذهب الشرك، وقال مقاتل: جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان. وقال ابن عباس: وجد- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، كانت لقبائل العرب يحجون إليها، ويخرون لها، فشكا البيت إلى الله تعالى فقال: «أى رب، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولى دونك» فأوحى الله

_ (1) انظره فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 417) . (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 72) وذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 176) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفيه عاصم بن عمر العمرى، وهو متروك، ووثقه ابن حبان، وقال: يخطىء ويخالف، وبقية رجاله ثقات. (3) هو: أبو عبد الله، جمال الدين، محمد بن سليمان بن الحسن البلخى المقدسى، المعروف بابن النقيب المقدسى، مفسر من فقهاء الحنفية، توفى سنة 698 هـ.

تعالى إليه إنى سأحدث لك نوبة جديدة، يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية. قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح قال جبريل- عليه الصلاة والسلام- لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتى صنما صنما ويطعن فى عينه أو بطنه بمخصرته ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل» ، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا. وبقى صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر «1» . فقال يا على: ارم به، فحمله- عليه السّلام- حتى صعد ورمى به وكسره. فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى. وعن ابن عباس قال: لما قدم- صلى الله عليه وسلم- أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل فى أيديهما الأزلام، يعنى: القداح التى كانوا يستقسمون بها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط» . فدخل البيت وكبر فى نواحيه ولم يصل فيه «2» . رواه الترمذى. وعن ابن عمر قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح على ناقته القصواء، وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: «ائتنى بالمفتاح» ، فذهب إلى أمة فأبت أن تعطيه فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبى، فأعطته إياه، فجاء به النبى- صلى الله عليه وسلم- فدفعه إليه، ففتح الباب «3» رواه مسلم. وروى الفاكهى من طريق ضعيفة، عن ابن عمر أيضا قال: كان بنو أبى طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله المفتاح ففتحها بيده.

_ (1) الصفر: هنا هو الذهب. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1601) فى الحج، باب: من كبر فى نواحى الكعبة، وأبو داود (2027) فى المناسك، باب: الصلاة فى الكعبة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (4400) فى المغازى، باب: حجة الوداع، ومسلم (1329) فى الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، إلا أنه فيها بلفظ قريب من لفظ المصنف.

وعثمان المذكور: هو عثمان بن طلحة بن أبى طلحة بن عبد العزى، ويقال له: الحجبى، بفتح المهملة والجيم، ويعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبى طلحة وهو ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة ورواية. واسم أم عثمان: سلافة- بضم السين المهملة والتخفيف والفاء-. وفى الطبقات لابن سعد عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الإثنين والخميس. فأقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له ونلت منه، فحلم عنى ثم قال: «يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت» ، فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، قال: «بل عمرت وعزت يومئذ» ، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته منى موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال. فلما كان يوم الفتح قال: «يا عثمان ائتنى بالمفتاح» فأتيته به فأخذه منى، ثم دفعه إلى وقال: «خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف» . قال: فلما وليت نادانى، فرجعت إليه فقال: «ألم يكن الذى قلت لك؟!» قال: فذكرت قوله لى بمكة قبل الهجرة: «لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى حيث شئت» . قلت: بلى أشهد أنك رسول الله «1» . وفى التفسير: أن هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «2» نزلت فى عثمان بن طلحة الحجبى. أمره- صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه بمفتاح الكعبة فأبى عليه، وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى على يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل صلى الله عليه وسلم- البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله هذه الآية. وأمر- صلى الله عليه وسلم- عليّا أن يرد المفتاح إلى

_ (1) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (2/ 137) . (2) سورة النساء: 58.

عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك على، فقال: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟! فقال على: لقد أنزل الله فى شأنك قرآنا. وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن محمدا رسول الله. فجاء جبريل- عليه السّلام- فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة فى أولاد عثمان. فكان المفتاح معه، فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة فى أولاده! إلى يوم القيامة «1» . قال ابن ظفر فى «ينبوع الحياة» : قوله: «لو اعلم أنه رسول الله لم أمنعه» هذا وهم، لأنه كان ممن أسلم. فلو قال هذا كان مرتدا. وعن الكلبى: لما طلب- صلى الله عليه وسلم- المفتاح من عثمان مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال: هاكه بالأمانة، فأعطاه إياه ونزلت الآية. قال ابن ظفر: وهذا أولى بالقول. وفى رواية لمسلم: دخل- صلى الله عليه وسلم- هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان ابن طلحة الحجبى فأغلقوا عليهم الباب. قال ابن عمر فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانين، وذهب عنى أسأله: كم صلى «2» . وفى إحدى روايات البخارى: جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه «3» . وليس بين الروايتين مخالفة، لكن قوله فى الرواية الآخرى: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان

_ (1) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (1/ 517) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (468) فى الصلاة، باب: الأبواب والغلق للكعبة والمساجد، ومسلم (1329) فى الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره. (3) هذه الرواية عند البخارى برقم (505) فى الصلاة، باب: الصلاة بين السوارى فى غير جماعة.

اثنين، ولهذا عقبه البخارى برواية إسماعيل بن أبى أويس التى قال فيها: عمودين عن يمينه «1» . ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه: حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويرشد إلى قوله: وكان البيت يومئذ. لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى. ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث على غير سمتهما، ولفظ «المتقدمين» فى إحدى روايات البخارى مشعر به. وفى رواية لمسلم جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه، عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعى، وبشر بن عمر فى إحدى الروايتين عنهما. وقد جمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث. وجزم البيهقى بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه عليها ابن القاسم والقعنبى وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة وكذلك الشافعى وابن مهدى وفى إحدى الروايتين عنهما. انتهى ملخصا من فتح البارى «2» . وقد بين موسى بن عقبة فى روايته عن نافع أن بين موقفه- صلى الله عليه وسلم- وبين الجدار الذى استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه الدار قطنى فى الغرائب. ولفظه: وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع. وفى كتاب مكة للأزرقى، والفاكهى: أن معاوية سأل ابن عمر: أين

_ (1) هى تتمة الرواية السابقة. (2) انظر «فتح البارى» (1/ 579) .

صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغى لمن أراد الاتباع فى ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه فى مكان قدميه- صلى الله عليه وسلم- إن كانت ثلاثة سواء، أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كان أقل من من ثلاثة أذرع والله أعلم. وفى رواية عن ابن عباس قال: أخبرنى أسامة أنه- صلى الله عليه وسلم- لما دخل البيت دعا فى نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع فى قبل البيت ركعتين وقال: «هذه القبلة» «1» رواه مسلم. والجمع بينه وبين حديث ابن عمر، أن أسامة أخبره أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى فى الكعبة كما رواه أحمد والطبرانى: بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد فى ذلك على غيره وحيث نفاها أراد ما فى علمه لكونه لم يره حين صلى، ويكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسوال ثم أراد زيادة الاستثبات فى مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا. قال النووى: وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. قال: وأما نفى أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبى- صلى الله عليه وسلم- يدعو ثم اشتغل أسامة فى ناحية من نواحى البيت والنبى- صلى الله عليه وسلم- فى ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، وكانت صلاته- عليه السّلام- خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى. وتعقبوه بما يطول ذكره. وأقرب ما قيل فى الجمع: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة لأمر ندبه إليه، وهو أن يأتى بماء يمحو به الصور التى كانت فى الكعبة، فأثبت الصلاة بلال لرؤيته لها ونفاها

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (398) فى الصلاة، باب: قول الله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، ومسلم (1330) فى الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره.

أسامة لعدم رؤيته، ويؤيده ما رواه أبو داود الطيالسى عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الكعبة، ورأى صورا فدعا بدلو من ماء، فأتيته به فجعل- صلى الله عليه وسلم- يمحوها ويقول: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» «1» ورجاله ثقات. وأفاد الأزرقى- فى تاريخ مكة- أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه- صلى الله عليه وسلم- الناس. وفى البخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام خمس عشرة ليلة، وفى رواية: تسع عشرة «2» . وفى رواية أبى داود: سبع عشرة «3» . وعند الترمذى: ثمانى عشرة «4» . وفى الإكليل: أصحها بضع عشرة يقصر الصلاة. وقال الفاسى فى تاريخ مكة: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان. ثم سرية خالد بن الوليد «5» عقب فتح مكة إلى العزى بنخلة، وكانت لقريش وجميع بنى كنانة، وكانت أعظم أصنامهم. لخمس ليال بقين من رمضان، وسنة ثمان، ومعه ثلاثون ليهدمها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 173) عن أسامة بن زيد وقال: رواه الطبرانى، وفيه خالد ابن زيد العمرى، ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات، ا. هـ. وانظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (8/ 17) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (4298) فى المغازى، باب: مقام النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة زمن الفتح، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، أما رواية خمسة عشر فهى عند النسائى (3/ 121) فى تقصير الصلاة، باب: المقام الذى يقصر بمثله الصلاة. (3) أخرجه أبو داود (1230) فى الصلاة، باب: متى يتم المسافر. (4) قلت الذى فى الترمذى (549) رواه تسعة عشر كرواية الصحيح، إلا أنه فى الحديث الذى يليه (550) عن البراء بن عازب قال: «صحبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر شهرا فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر، فلعله سبق قلم أن أفضل رواية ثمانية عشر تلك عن التى قبلها. (5) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 145- 146) .

فأخبره. فقال: «هل رأيت شيئا» قال: لا، قال «فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها» ، فرجع فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ثائرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها اثنتين، ورجع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره فقال: «نعم، تلك العزى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا» «1» . ثم سرية عمرو بن العاصى «2» إلى سواع صنم هذيل على ثلاثة أميال من مكة. فى شهر رمضان سنة ثمان- حين فتح مكة-. قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت أمرنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك. قلت: لم؟ قال: تمنع، فقلت: ويحك، وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته ثم قلت للسادن كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. ثم سرية سعد بن زيد الأشهلى «3» إلى مناة، صنم للأوس والخزرج بالمشلل، فى شهر رمضان، حين فتح مكة، فخرج فى عشرين فارسا حتى انتهى إليها، قال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك. فأقبل سعد يمشى إليها، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فضربها سعد بن زيد فقتلها، وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدموه وانصرف راجعا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك لست بقين من رمضان. ثم سرية خالد بن الوليد «4» إلى بنى جذيمة، قبيلة من عبد القيس، أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم، فى شوال سنة ثمان. وهو يوم الغميصاء.

_ (1) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى، (5/ 77) . (2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 111) . (3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 111) . (4) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 428 و 431) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 147- 148) .

بعثه- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من هدم العزى، وهو- صلى الله عليه وسلم- مقيم بمكة، وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا، داعيا إلى الإسلام لا مقاتلا، فلما انتهى إليهم قال: ما أنتم قالوا: مسلمين قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد فى ساحاتنا. وفى البخارى: لم يحسنوا أن يقولوا ذلك فقالوا صبأنا فقال لهم: استأسروا فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعضا، وفرقهم فى أصحابه، فلما كان السحر، نادى منادى خالد: من كان معه أسير فليقتله، فقتلت بنو سليم من كان بأيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم. فبلغ ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم إنى أبرأ إليك من فعل خالد» «1» . وبعث عليّا فودى قتلاهم. قال الخطابى: يحتمل أن يكون نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام، لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولا، وأنكر- صلى الله عليه وسلم- العجلة وترك التثبت فى أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا. ثم غزا- صلى الله عليه وسلم- حنينا «2» - بالتصغير- وهو واد قرب ذى المجاز، وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال، قرب الطائف، وتسمى غزوة هوازن. وذلك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصرى «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4229) فى المغازى، باب: بعث النبى- رضى الله عنه- خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة، من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-. (2) انظر هذه الغزوة فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 437- 500) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 149- 158) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 125) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 610- 651) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 465- 476) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (3/ 5- 28) . (3) بالصاد المهملة، نسبة إلى جده الأعلى نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، أما مالك نفسه فقد أسلم، وكان من المؤلفة، وصحب ثم شهد القادسية وفتح دمشق.

فخرج إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة يوم السبت لست ليال خلون من شوال، فى اثنى عشر ألفا من المسلمين. عشرة آلاف من أهل المدينة وألفان ممن أسلم من أهل مكة. وهم الطلقاء، يعنى: الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، وأحدهم طليق- فعيل بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله. واستعمل- صلى الله عليه وسلم- على مكة عتاب بن أسيد. وخرج معه- صلى الله عليه وسلم- ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان- صلى الله عليه وسلم- استعار منه مائة درع بأداتها، فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال. فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب. ووجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى، فدخل عسكرهم، فطاف به وجاء بخبرهم. وفى حديث سهل بن الحنظلية- عند أبى داود بإسناد حسن- أنهم ساروا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال: إنى انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم، بظعنهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم النبى- صلى الله عليه وسلم- وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدا، إن شاء الله تعالى» .. «1» . وقوله عن بكرة أبيهم: كلمة للعرب، يريدون بها الكثرة وتوفر العدد، وليس هناك بكرة فى الحقيقة، وهى التى يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا. وقوله: بظعنهم: أى نسائهم، واحدتها ظعينة، وأصل الظعينة الراحلة التى يرحل ويظعن عليها، أى يسار، وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن مع

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2501) فى الجهاد، باب: فى فضل الحرس فى سبيل الله تعالى، والنسائى فى «الكبرى» (8870) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 93) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 149) ، وفى «الدلائل» (5/ 125- 126) ، والطبرانى فى «الكبير» (6/ 96) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت. وقيل الظعينة: المرأة فى الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة ظعينة. انتهى. وروى يونس بن بكير، فى زيادة المغازى عن الربيع قال: قال رجل يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبى- صلى الله عليه وسلم-. ثم ركب- صلى الله عليه وسلم- بغلته البيضاء «دلدل» ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك فى غبش الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادى، فحملوا حملة واحدة فانكشفت خيل بنى سليم مولية وتبعهم أهل مكة والناس. ولم يثبت معه- صلى الله عليه وسلم- يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر وعمر وأسامة بن زيد، فى أناس من أهل بيته وأصحابه. قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يتقدم فى نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، وجعل- عليه السّلام- يقول للعباس: «ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة» يعنى شجرة بيعة الرضوان- التى بايعوه تحتها، ألايفروا عنه. فجعل ينادى تارة يا أصحاب السمرة، وتارة: يا أصحاب سورة البقرة وكان العباس رجلا صيتا- فلما سمع المسلمون نداء العباس أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها. وفى رواية لمسلم: قال العباس: فو الله لكأن عطفتهم- حين سمعوا صوتى- عطفة البقر على أولادها. يقولون: يا لبيك، يا لبيك. فتراجعوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فأمرهم- صلى الله عليه وسلم- أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فأشرف رسول

الله- صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى قتالهم فقال: الآن حمى الوطيس، وهو التنور يخبز فيه، يضرب مثلا لشدة الحرب الذى يشبه حرها حره. وهذه من فصيح الكلام الذى لم يسمع من أحد قبل النبى- صلى الله عليه وسلم-. وتناول- صلى الله عليه وسلم- حصيات من الأرض ثم قال: «شاهت الوجوه» - أى قبحت- ورمى بها فى وجوه المشركين، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه من تلك القبضة «1» . وفى رواية لمسلم: قبضة من تراب الأرض «2» . فيحتمل أنه رمى بذا مرة وبذا مرة أخرى. ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب. ولأحمد وأبى داود والدارمى، من حديث أبى عبد الرحمن الفهرى فى قصة حنين قال: فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «أنا عبد الله ورسوله» ، ثم اقتحم عن فرسه، فأخذ كفّا من تراب. قال: فأخبرنى الذى كان أدنى إليه منى أنه ضرب وجوههم وقال: «شاهدت الوجوه فهزمهم الله» . قال يعلى بن عطاء راوية عن أبى همام عن أبى عبد الرحمن الفهرى فحدثنى أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد «3» - بالجيم-. قال فى النهاية: وصف الطست وهى مؤنثة بالجديد وهو مذكر، إما لأن تأنيثها غير حقيقى فأوله على الإناء والظرف، أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث كما يوصف به المذكر، نحو امرأة قتيل. انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1775) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين، وأحمد فى «مسنده» (1/ 207) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7049) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (1777) فى الجهاد، باب: فى غزوة حنين، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-. (3) حسن: أخرجه أبو داود (5233) فى الأدب، باب: فى الرجل ينادى الرجل فيقول لبيك، والدارمى فى «سننه» (2452) ، وأحمد فى «مسنده» (5/ 286) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود: فحادت به- صلى الله عليه وسلم- بغلته، فمال السرج فقلت ارتفع رفعك الله، فقال: «ناولنى كفّا من تراب» ، فضرب وجوههم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بإيمانهم كأنها الشهب فولى المشركون الأدبار «1» . وروى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عبد الرحمن بن مولى عن رجل كان فى المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم فى آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا. قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا «2» . وفى سيرة الدمياطى: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين أكتافهم. وفى حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوى من السماء. والبجاد: بالموحدة والجيم آخره دال مهملة: الكساء، وجمعه: بجد، أراد الملائكة الذين أيدهم الله بهم، قاله ابن الأثير. وفى البخارى: عن البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو يقول: «أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» «3» .

_ (1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 453) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 128) ، والطبرانى فى «الكبير» (10/ 169) . (2) أخرجه ابن جرير الطبرى فى «تفسيره» (10/ 103) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (2864) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (1776) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين.

وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبى، والنبى لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذى وعدنى الله به من النصر حق، فلا يجوز علىّ الفرار. وأما ما فى مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله: «فأرجع منهزما» إلى قوله: «مررت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهزما» فقال: «لقد رأى ابن الأكوع فزعا» «1» فقال العلماء: قوله منهزما حال من ابن الأكوع- لا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما صرح أولا بانهزامه، ولم يرد أن النبى- صلى الله عليه وسلم- انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم: إنه- عليه السّلام- ما انهزم ولم ينقل أحد قط أنه انهزم فى موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه- صلى الله عليه وسلم-، ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو. وقد تقدم فى غزوة أحد ما نسب لابن المرابط، من المالكية، مما حكاه القاضى عياض فى الشفاء: أن من قال إن النبى- صلى الله عليه وسلم- هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأن العلامة البساطى تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف فى أصل المسألة يعنى: حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل. انتهى. قال بعضهم: وقد كان ركوبه- صلى الله عليه وسلم- البغلة فى هذا المحل الذى هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا لنبوته، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام النبوة، وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا يصلح لمواطن الحرب فى العادة إلا الخيل فبين- صلى الله عليه وسلم- أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب وشجاعة نفس وثقة وتوكلا على الله تعالى، وقد ركبت الملائكة فى الحرب معه- صلى الله عليه وسلم- على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك عرفا دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم فى الحرب إلا للخيل، والسر فى ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف البغال والإبل. انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1777) فى «الجهاد والسير» ، باب: فى غزوة حنين.

وعند ابن أبى شيبة، من مرسل الحكم بن عتيبة: لم يبق- عليه الصلاة والسلام- إلا أربعة نفر، ثلاثة من بنى هاشم ورجل من غيرهم: على العباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل. وفى الترمذى بإسناد حسن من حديث ابن عمر: لقد رأينا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مائة رجل «1» . وفى شرح مسلم للنووى: أنه ثبت معه- صلى الله عليه وسلم- اثنا عشر رجلا وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق. ووقع فى شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك لقوله: نصرنا رسول الله فى الحرب تسعة ... وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه ... لما مسّه فى الله لا يتوج وقد قال الطبرى: الانهزام المنهى عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة، انتهى. وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» فقد قال العلماء: إنه ليس بشعر، لأن الشاعر إنما سمى شاعرا لوجوه، منها: أنه شعر القول وقصده واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا. والنبى- صلى الله عليه وسلم- لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده، فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا. وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل: ابن عبد الله، فأجيب: بأن شهرته بجده كانت أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفى فى حياة

_ (1) صحيح الإسناد: أخرجه الترمذى (1689) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الثبات عند القتال، والحديث صحح إسناده الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

أبيه عبد المطلب قبل مولده- صلى الله عليه وسلم-، وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد قريش وكان كثير من الناس يدعو النبى- صلى الله عليه وسلم- ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة فى قوله: أيكم ابن عبد المطلب «1» . وقيل غير ذلك. وأمر- صلى الله عليه وسلم- أن يقتل من قدر عليه، وأفضى المسلمون فى القتل إلى الذرية، فنهاهم- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. وقال: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه. واستلب أبو طلحة وحده ذلك اليوم عشرين رجلا. وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: كان الله تعالى وعد رسوله أنه إذا فتح مكة دخل الناس فى دين الله أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألبوا لحربه- صلى الله عليه وسلم-، ليظهر أمره تعالى، وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التى لم يلق المسلمون قبلها مثلها، ولا يقاومهم بعد أحد من العرب، فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح ولم يدخل بلده وحرمه كما دخل- عليه الصلاة والسلام- واضعا رأسه منحنيا على مركوبه تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده، وليبين سبحانه لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عنده تعالى، وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له، وأنه سبحانه هو الذى تولى نصر رسوله ودينه، لاكثرتكم التى أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر مع بريد: أنزل الله سكينته

_ (1) صحيح: وحديث ضمام أخرجه البخارى (63) فى العلم، باب: ما جاء فى العلم من حديث أنس- رضى الله عنه-.

على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها. وقد اقتضت حكمته تعالى: أن خلع النصر وجوائزه إنما تفاض على أهل الانكسار، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض. قال: وبهاتين الغزوتين- أعنى حنينا وبدرا- قاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين، ورمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجوه المشركين بالحصباء فيهما. وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. انتهى «1» . وأمر- صلى الله عليه وسلم- بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، وقوم منهم إلى أوطاس. واستشهد من المسلمين أربعة: منهم أيمن ابن أم أيمن. وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا. ثم سرية أبى عامر الأشعر، وهو عم أبى موسى الأشعرى، وقال ابن إسحاق: ابن عمه والأول أشهد. بعثه- صلى الله عليه وسلم- حين فرغ من حنين، فى طلب الفارين من هوازن يوم حنين إلى أوطاس- وهو واد فى ديار هوازن- وكان معه سلمة بن الأكوع، فانتهى إليهم، فإذا هم ممتنعون فقتل منهم أبو عامر تسعة أخوة مبارزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، ثم برز له العاشر فدعاه إلى الإسلام وقال اللهم اشهد عليه، فقال اللهم لا تشهد على فكف عنه أبو عامر فأفلت. ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا رآه قال: هذا شريد أبى عامر. ورمى أبا عامر ابنا الحارث- العلاء وأوفى- فقتلاه، فخلفه أبو موسى الأشعرى فقاتلهم حتى فتح الله عليه. وكان فى السبى الشيماء- أخته- عليه الصلاة والسلام- من الرضاعة-. وقتل قاتل أبى عامر. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر لأبى عامر واجعله من أعلى أمتى فى الجنة» .

_ (1) انظره فى «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 477- 478) .

غزوة الطائف:

وفى رواية البخارى قال- يعنى أبا عامر لأبى موسى الأشعرى، لما رمى بالسهم-: يا ابن أخى: أقرىء النبى- صلى الله عليه وسلم- السلام، وقل له: يستغفر لى ثم مات. فرجعت فدخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بخبرنا وخبر أبى عامر، وقال قل له: استغفر لى، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه وقال: «اللهم اغفر لعبيدك أبى عامر» - ورأيت بياض إبطيه- ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك» ... فقلت: ولى ... فقال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» . قال أبو بردة: إحداهما لأبى عامر والآخرى لأبى موسى «1» . ثم سرية الطفيل بن عمرو الدوسى «2» إلى ذى الكفين، صنم من خشب، كان لعمرو بن حممة، فى شوال- لما أراد- صلى الله عليه وسلم- السير إلى الطائف- ليهدمه ويوافيه بالطائف. فخرج سريعا فهدمه وجعل يحش النار فى وجهه ويحرقه ويقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا إنى حشوت النار فى فؤادكا وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا النبى- صلى الله عليه وسلم- بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام. وعند مغلطاى: وقدم معه أربعة مسلمون. غزوة الطائف «3» : ثم غزوة الطائف، وهى بلد كبير، على ثلاث مراحل أو اثنين من مكة، من جهة المشرق، كثيرة الأعناب والفواكه. وقيل: إن أصلها أن جبريل- عليه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4323) فى المغازى، باب: غزوة أوطاس، ومسلم (2498) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى موسى وأبى عامر الأشعريين. (2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 119) . (3) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 537- 543) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 140) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 652- 666) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 495- 502) .

الصلاة والسلام- اقتلع الجنة التى كانت لأصحاب الصريم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث الطائف، فسمى الموضع بها. وكانت أولا بنواحى صنعاء. واسم الأرض: وج، بتشديد الجيم المضمومة. وسار إليها النبى- صلى الله عليه وسلم- فى شوال سنة ثمان، حين خرج من حنين وحبس الغنائم بالجعرانة. وقدم خالد بن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم بالطائف، وأغلقوه عليهم بعد أن دخلوا فيه ما يصلحهم لسنة. وتهيئوا للقتال. وسار- صلى الله عليه وسلم- فمر بطريقة بقبر أبى رغال، وهو أبو ثقيف- فيما يقال- فاستخرج منه غصنا من ذهب «1» . ونزل قريبا من الحصن وعسكر هناك. فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا، كأنه رجل جراد «2» ، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا منهم: عبد الله بن أبى أمية. ورمى عبد الله بن أبى بكر الصديق يومئذ بجرح فاندمل ثم نقض بعد ذلك فمات منه فى خلافة أبيه. وارتفع- صلى الله عليه وسلم- إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين. وكان يصلى بين القبتين حصار الطائف كله. فحاصرهم ثمانية عشر يوما، ويقال خمسة عشر يوما. ونصب عليهم المنجنيق وهو أول منجنيق رمى به فى الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسى معه لما رجع من سرية ذى الكفين، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتل منهم رجال، فأمر- صلى الله عليه وسلم- بقطع أعنابهم وتحريقها. فقطع المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لله وللرحم» «3» .

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (3088) فى الخراج والإمارة والفىء، باب: نبش القبور العادية يكون فيها المال، من حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) الرّجل: بالكسر، الجراد الكثير. (3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 120) .

ثم نادى مناديه- صلى الله عليه وسلم-: أيما عبد نزل من الحصين وخرج إلينا فهو حر. قال الدمياطى: فخرج منهم بضعة عشر رجلا فيهم أبو بكرة، وعند مغلطاى: ثلاثة وعشرون عبدا. وفى البخارى عن أبى عثمان النهدى قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ... قال عاصم: «لقد شهد عندك رجلان ... أما أحدهما فأول من رمى بسهم فى سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف» «1» الحديث. وأعتق- صلى الله عليه وسلم- من نزل منهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة. ولم يؤذن له- صلى الله عليه وسلم- فى فتح الطائف. وأمر عمر بن الخطاب فأذن فى الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: فاغدوا على القتال، فغدوا فأصاب المسلمين جراحات، فقال- صلى الله عليه وسلم-: إنا قافلون إن شاء الله تعالى فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يضحك. قال النووى: قصد- صلى الله عليه وسلم- الشفقة عليهم والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنه- صلى الله عليه وسلم- علم أولا، أو رجا أنه سيفتحه بعد ذلك بلا مشقة. فلما حرص الصحابة على المقام والجهاد أقام، وجد فيه القتال حتى أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولا من الرفق بهم ففرحوا بذلك لما رأوا ممن المشقة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك- صلى الله عليه وسلم- تعجبا من تغير رأيهم. وفقئت عين أبى سفيان صخر بن حرب يومئذ، فذكر ابن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم- قال له وهى فى يده: «أيما أحب إليك عين فى الجنة أو أدعو الله أن يردها عليك» قال: بل عين فى الجنة ورمى بها.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4327) فى المغازى، باب: غزوة الطائف.

وشهد اليرموك فقاتل وفقئت عينه الآخرى يومئذ. ذكره الحافظ زين الدين العراقى فى شرح التقريب. وقال- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: قولوا: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» . فلما ارتحلوا قال: «آيبون، تائبون عابدون، لربنا حامدون» «1» . فانظر كيف كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع أصحابه واتخاذ الخيل والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الجهاد والسفر، ثم إذا رجع يتعرى من ذلك ويرد الأمر كله لمولاه عز وجل لا لغيره بقوله: «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» «2» . وانظر إلى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وهزم الأحزاب وحده» فنفى- صلى الله عليه وسلم- ما تقدم ذكره، وهذا هو معنى الحقيقة، لأن الإنسان وفعله خلق لربه عز وجل، فهو لله سبحانه وتعالى الذى خلق ودبر، وأعان وأجرى الأمور على يد من شاء، ومن اختار من خلقه، فكل منه وإليه، ولو شاء أن يبيد أهل الكفر من غير قتال لفعل، قال تعالى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ «3» فيثبت سبحانه وتعالى الصابرين ويجزل الثواب للشاكرين، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ «4» . فعلى المكلف الامتثال فى الحالتين، أى: امتثال تعاطى الأسباب،

_ (1) أخرجه بنحوه البخارى (1797) فى العمرة، باب: ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو، ومسلم (1344) فى الحج، باب: ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: انظر ما قبله. (3) سورة محمد: 4. (4) سورة محمد: 31.

والرجوع إلى المولى والسكون إليه بساحة كرمه، كما كان- صلى الله عليه وسلم- يأتى الأسباب أولا تأدبا مع الربوبية وتشريعا لأمته، ثم يظهر الله تعالى على يديه ما يشاء من قدرته الغامضة التى ادخرها له- عليه الصلاة والسلام-. قال ابن الحاج فى المدخل: ولما قيل له: يا رسول الله، ادع على ثقيف. فقال: «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أمر أن يجمع السبى والغنائم مما أفاء الله على رسوله يوم حنين فجمع ذلك كله إلى الجعرانة، فكان بها إلى أن انصرف- عليه السّلام- من الطائف. وكان السبى ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة. واستأنى- صلى الله عليه وسلم-- أى انتظر وتربص- بهوازن أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة. ثم بدأ يقسم الأموال، فقسمها. وفى البخارى: وطفق- صلى الله عليه وسلم- يعطى رجالا المائة من الإبل. فقال ناس من الأنصار يغفر الله لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعطى قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟! قال أنس: فحدث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم فى قبة من آدم، ثم قال لهم: «أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبى إلى رحالكم؟! فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» ، قالوا: يا رسول الله قد رضينا «2» . وعن جبير بن مطعم قال: بينما أنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعه الناس مقفله

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3942) فى المناقب، باب: فى ثقيف وبنى حنيفة من حديث أبى الزبير عن جابر- رضى الله عنه-، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (3147) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (1059) فى الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه.

من حنين، علقت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- الأعراب حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أعطونى ردائى، فلو كان لى عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدونى بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا» «1» . ورواه مسلم. وذكر محمد بن سعد كاتب الواقدى عن ابن عباس أنه قال: لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم ثم اعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال. قال ابن سيد الناس وهذا ضعيف، والمعروف عند أهل السير أن النبى صلى الله عليه وسلم- انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس ليال خلون من ذى القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة ليلا، فأحرم بعمرة ودخل مكة. وفى تاريخ الأزرفى أنه- صلى الله عليه وسلم- أحرم من وراء الوادى، حيث الحجارة المنصوبة. وعند الواقدى: من المسجد الأقصى الذى تحت الوادى بالعدوة القصوى من الجعرانة. وكانت صلاته- عليه الصلاة والسلام- إذ كان الجعرانة به. والجعرانة موضع بينه وبين مكة بريد، كما قاله الفاكهى. وقال الباجى: ثمانية عشر ميلا، وسمى بامرأة تلقب بالجعرانة، كما ذكره السهيلى. قالوا: وقدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يوما. وبعث- صلى الله عليه وسلم- قيس بن سعد بن عبادة «2» إلى ناحية اليمن فى أربعمائة فارس، وأمره أن يقاتل قبيلة صداء، حين مروره عليهم فى الطرق. فقدم زياد بن الحارث الصدائى، فسأل عن ذلك البعث فأخبر، فقال:

_ (1) قلت: بل هو عند البخارى برقم (3148) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه. (2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 247) .

يا رسول الله أنا ولفدهم، فاردد الجيش، وأنا لك بقومى، فردهم النبى صلى الله عليه وسلم- من قناة. وقدم الصدائيون بعد خمسة عشر يوما فأسلموا. وتأتى قصة وفدهم فى الفصل العاشر من المقصد الثانى- إن شاء الله تعالى-. وبعث عيينة بن حصن الفزارى «1» إلى بنى تميم بالسقيا- وهى أرض بنى تميم- فى المحرم سنة تسع فى خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجرى ولا أنصارى. فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم فى صحراء، فدخلوا وسرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع ولّوا، فأخذوا منهم أحد عشر رجلا، ووجدوا فى المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا. فقدم منهم عشرة من رؤسائهم، منهم: عطارد والزبرقان، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، فجاؤا إلى باب النبى- صلى الله عليه وسلم- فنادوا: يا محمد اخرج إلينا فخرج- صلى الله عليه وسلم- وأقام بلال الصلاة، وتعلقوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكلمونه، فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر. ثم جلس فى صحن المسجد. فقدموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب. فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم. ونزل فيهم إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ «2» . ورد عليهم صلى الله عليه وسلم- الأسرى والسبى «3» . وفى البخارى: عن عبد الله بن الزبير: أنه قدم ركب من بنى تميم على النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافى. قال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل فى ذلك: يا أَيُّهَا

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 121) . (2) سورة الحجرات: 4. (3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 313- 314) .

الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.... «1» حتى انقضت «2» . أى لا تقدموا القضاء فى أمر قبل أن يحكم الله ورسوله فيه. ولما نزل لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ «3» أقسم أبو بكر لا يتكلم بين يدى رسول الله إلا كمن يسارر صاحبه، فنزل فيه وفى أمثاله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ «4» الآية. ثم بعث الوليد بن عقبة بن أبى معيط إلى بنى المصطلق من خزاعة يصدقهم، وكان بينه وبينهم عداوة فى الجاهلية. وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنو الوليد خرج منهم عشرون رجلا يتلقونه بالجزر والغنم، فرحا به وتعظيما لله ولرسوله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله. فرجع من الطريق قبل أن يصلوا إليه، وأخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- أنهم لقوة بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة. فهمّ- صلى الله عليه وسلم- أن يبعث إليهم من يغزوهم. وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد، فأخبروا النبى- صلى الله عليه وسلم- الخبر على وجهه، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ... «5» . إلى آخر الآية، فقرأ عليهم- صلى الله عليه وسلم- القرآن. وبعث معهم عباد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم ويعلمهم شرائع الإسلام ويقرئهم القرآن. وفى «شرف المصطفى» للنيسابورى، مما ذكره مغلطاى أنه- عليه الصلاة والسلام- بعث عبد الله بن عوسجة إلى بنى عمرو بن حارثة، وقيل حارثة بن عمر- قال: وهو الأصح- فى مستهل صفر يدعوهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا بالصحيفة فدعا عليهم- صلى الله عليه وسلم- بذهاب العقل، فهم إلى أهل رعدة وعجلة وكلام مختلط.

_ (1) سورة الحجرات: 1. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4367) فى المغازى، باب: رقم (68) . (3) سورة الحجرات: 2. (4) سورة الحجرات: 3. (5) سورة الحجرات: 6.

ثم سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم «1» ، من تربة- بفتح الراء- من أعمال مكة سنة تسع، وبعث معه عشرين رجلا، وأمره أن يشن الغارة عليهم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى فى الفريقين جميعا، وقتل قطبة من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة. وكانت سهمانهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم بعد أن أخرج الخمس. ثم سرية الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب «2» ، فى ربيع الأول سنة تسع، إلى القرطاء، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم وغنموهم. ثم سرية علقمة بن مجرز المدلجى إلى طائفة من الحبشة «3» فى ربيع الآخر، وقال الحاكم فى صفر سنة تسع. وذكر ابن سعد أن سبب ذلك: أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدة، فبعث إليهم بن مجزز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر، فلما خاض البحر إليهم هربوا. فلما رجع، بعض القوم ألى أهليهم، فأمر عبد الله بن حداقة على من تعجل، وكانت فيه دعابة، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال عزمت عليكم إلا تواثبتم فى هذه النار، فلما همّ بعضهم بذلك قال: اجلسوا، إنما كنت أمزح. فذكروا ذلك للنبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه. ورواه الحاكم وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبى سعيد الخدرى. وبوب عليه البخارى فقال: سرية عبد الله بن حذافة السهمى وعلقمة بن مجزز المدلجى، ويقال: إنها سرية الأنصارى. ثم روى حديثا عن على قال:

_ (1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 122) . (2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 123) . (3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 123) .

بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- سرية، فاستعمل رجلا من الأنصار. وأمرهم أن يطيعوه، فغضب فقال: أليس قد أمركم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن تطيعونى؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوا، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا يقولون: فررنا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها» «1» . قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: فى قوله: «ويقال إنها سرية الأنصارى» إشارة إلى احتمال تعدد القصة، وهو الظاهر لاختلاف سياقهما واسم أميرهما. ويحتمل الجمع بينها بضرب من التأويل، ويبعده وصف عبد الله بن حذافة السهمى القريشى المهاجرى بكونه أنصاريّا. ويحتمل أن يكون الحمل على المعنى الأعم، أى أنه نصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الجملة. وإلى التعدد جنح ابن القيم، وأما ابن الجوزى فقال: قوله «من الأنصار» وهم من بعض الرواة، وإنما هو سهمى. قال فى فتح البارى: ويؤيد حديث ابن عباس عند أحمد، فى قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «2» . نزلت فى عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى، بعثه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سرية. انتهى. وقال النووى: وهذا الذى فعله هذا الأمير، قيل: أراد امتحانهم، وقيل: كان مازحا، وقيل: إن هذا الرجل عبد الله بن حذافة السهمى، قال: وهذا ضعيف: لأنه قال فى الرواية التى بعدها إنه رجل من الأنصار، فدل على أنه غيره. انتهى. ثم سرية على بن أبى طالب إلى الفلس «3» - بضم الفاء وسكون اللام-

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4340) فى المغازى، باب: سرية عبد الله بن حذافة السهمى وعلقمة بن مجزر المدلجى، ومسلم (1840) فى الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء فى غير معصية وتحريمها فى المعصية. (2) سورة النساء: 59. (3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 124) .

وهو صنم طيىء ليهدمه، فى ربيع الآخر سنة تسع، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا- وعند ابن سعد: مائتى رجل- فهدمه وغنم سبيا ونعما وشاء. وكان فى السبى سفانة بنت حاتم، أخت عدى بن حاتم، فأطلقها النبى صلى الله عليه وسلم-، فكان ذلك سبب إسلام عدى. وعند ابن سعد أيضا: أن الذى كان سباها خالد بن الوليد- رضى الله عنه-. ثم سرية عكاشة بن محصن إلى الجباب «1» - موضع بالحجاز- أرض عذرة وبلى، وقيل أرض فزارة وكلب ولعذرة فيها شركة. قصة كعب بن زهير مع النبى- صلى الله عليه وسلم- «2» ، وكانت فيما بين رجوعه صلى الله عليه وسلم- من الطائف وغزوة تبوك. وكان من خبر كعب وأخيه بجير ما ذكره ابن إسحاق وعبد الملك بن هشام وأبو بكر محمد بن القاسم بن يسار بن الأنبارى، دخل حديث بعضهم فى حديث البعض: أن بجيرا قال لكعب: اثبت حتى آتى هذا الرجل- يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأسمع كلامه وأعرف ما عنده، فأقام كعب ومضى بجيرا، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسمع كلامه فامن به.. وذلك أن زهيرا فيما زعموا كان يجالس أهل الكتاب فسمع منهم أنه قد آن مبعثه- صلى الله عليه وسلم-، ورأى زهير فى منامه أنه قد مد سبب من السماء، وأنه قد مد يده ليتناوله، ففاته فأوله بالنبى الذى يبعث فى آخر الزمان، وأنه لا يدركه، وأخبر بنيه بذلك، وأوصاهم إن أدركوه أن يسلموا. قال ابن إسحاق: ولما قدم- صلى الله عليه وسلم- من الطائف، كتب بجيرا بن زهير إلى أخيه كعب: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه، وإن من بقى من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل

_ (1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 124) . (2) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 501- 515) .

وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن كنت لم تفعل فانج إلى نجائك. وكان كعب قد قال: ألا بلغا عنى بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أى شىء غير ذلك دلكا على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولا تلقى عليه أخا لكا فإن أنت لم تفعل فلست باسف ... ولا قائل إما عثرت لعا لكا سقاك بها المأمون كأسا رويّة ... فأنهلك المأمون منها وعلّكا «1» قال السهيلى: «لعا» كلمة تقال للعاثر دعاء له. انتهى. قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنشده إياها. فقال- صلى الله عليه وسلم-: سقاك بها المأمون. صدق وإنه لكذوب، وأنا المأمون.. ولما سمع: على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه، قال: أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه. ثم قال- عليه الصلاة والسلام-: من لقى منكم بن زهير فليقتله.. فكتب إليه أخوه بهذه الأبيات: من مبلغ كعبا فهل لك فى التى ... تلوم عليها باطلا وهى أحزم إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شىء دينه ... ودين أبى سلمى على محرم فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان فى حاضره من عدوه فقال: هو مقتول. فلما لم يجد من شىء بدا، قال قصيدته التى يمدح بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه.

_ (1) كأسا روية: أى مروية، والنّهل: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثانى، والمأمون: يقصد النبى- صلى الله عليه وسلم- لما كانت تسميه به قريش الصادق الأمين.

ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: هذا رسول الله فقم إليه واستأمنه، فقام حتى جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوضع يده فى يده- وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يعرفه- فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (نعم) قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة: أنه وثب عليه رجل من الأنصار وقال: يا رسول الله دعنى وعدو الله أضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم-: «دعه عنك فقد جاء تائبا نازعا» «1» . قال: فغضب كعب على هذا الحى من الأنصار لما صنع صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير. ثم قال قصيدته اللامية التى أولها: بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول ومنها: أنبئت أن رسول الله أوعدنى ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال ... قرآن ولو كثرت فى الأقاويل إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل وفى رواية أبى بكر بن الأنبارى أنه لما وصل إلى قوله: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول رمى- عليه الصلاة والسلام- إليه بردة كانت عليه. وأن معاوية بذل

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 674) ، والطبرانى فى «الكبير» (19/ 176) ، وهو منقول هذا الكلام بتمامه من «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 520- 526) .

غزوة تبوك:

فيها عشرة آلاف فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحدا، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم. قال: وهى البردة التى عند السلاطين إلى اليوم. قال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب: «إذا عرد السود التنابيل» وإنما عنى معشر الأنصار، لما كان صاحبهم صنع به، وخص المهاجرين بمدحته فغضب عليه الأنصار، فقال بعد أن أسلم- يمدح الأنصار- قصيدته التى يقول فيها: من سره كرم الحياة فلا يزل ... فى مقنب من صالحى الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيارهم بنو الأخيار المكرهين السمهرى بأدرع ... كسوالف الهندى غير قصار والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الأبصار والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقارى وقد كان كعب بن زهير من فحول الشعراء، وأبوه وابنه عقبة وابن ابنه العوام بن عقبة. غزوة تبوك «1» : مكان معروف، وهى نصف طريق المدينة إلى دمشق. وهى غزوة العسرة، وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها. وكانت يوم الخميس فى رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وذكر البخارى لها بعد حجّة الوداع لعله خطأ من النساخ. وكان حرّا شديدا، وجدبا كثيرا، فلذلك لم يور عنها كعادته فى سائر الغزوات.

_ (1) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 515- 537) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 165- 168) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 142) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (4/ 3- 68) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 526- 537) .

وفى تفسير عبد الرزاق، عن معمر عن ابن عقيل قال: خرجوا فى قلة من الظهر وفى حر شديد، حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما فى كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة فى الماء وفى الظهر وفى النفقة، فسميت غزوة العسرة. وسببها أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل. فندب- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الخروج وأعلمهم بالمكان الذى يريد، ليتأهبوا لذلك. وروى الطبرانى من حديث عمران بن الحصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذى خرج يدعى النبوة هلك، وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم. فبعث رجلا من عظامائهم وجهز معه أربعين ألفا. فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم- ولم يكن للناس قوة. وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية- يعنى من ذهب- قال: فسمعته يقول: «لا يضر عثمان ما عمل بعدها» «1» . وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان فى جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا. وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار فى كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها فى حجره- صلى الله عليه وسلم-، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقلبها فى حجره ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» «2» خرجه الترمذى وقال: حسن غريب.

_ (1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (18/ 231- 232) من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 191) وقال: رواه الطبرانى، وفيه العباس بن الفضل الأنصارى وهو ضعيف. (2) حسن: أخرجه الترمذى (3701) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان رضى الله عنه-، وأحمد فى «مسنده» (5/ 63) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 110) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وعند الفضائلى والملاء فى سيرته، كما ذكره الطبرى فى الرياض النضرة من حديث حذيفة: بعث عثمان- يعنى فى جيش العسرة- بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصبت بين يديه، فجعل- صلى الله عليه وسلم- يقول بيديه ويقلبها ظهرا لبطن يقول: «غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالى ما عمل بعدها» «1» . ولما تأهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للخروج، قال قوم المنافقين: لا تنفروا فى الحر، فنزل قوله تعالى: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ «2» . وأرسل- عليه السّلام- إلى مكة وقبائل العرب يستنفرهم. وجاء البكاؤن يستحملونه، فقال- عليه السّلام-: لا أجد ما أحملكم عليه. وهم: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازنى، والعرباض بن سارية، وهرم بن عبد الله، وعمرو بن عنمة، وعبد الله بن مغافل، وعبد الله بن عمرو المزنى، وعمرو بن الحمام، ومعقل المزنى، وحرمى بن مازن، والنعمان وسويد ومعقل وعقيل وسنان وعبد الرحمن وهند بنو مقرن. وهم الذين قال الله فيهم: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ «3» قاله مغلطاى. وفى البخارى عن أبى موسى قال: أرسلنى أصحابى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-، أسأله الحملان لهم، يا نبى الله، إن أصحابى أرسلونى إليك لتحملهم، فقال «والله لا أحملكم على شىء» فرجعت حزينا من منع النبى

_ (1) أخرجه أبو نعيم عن حسان بن عطية عن أبى موسى الأشعرى كما فى «كنز العمال» (32847) ، وابن عدى فى الكامل والدار قطنى، وأبو نعيم فى «فضائل الصحابة» ، وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان كما فى «كنز العمال» (36189) ، وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو نعيم فى «فضائل الصحابة» وابن عساكر عن حسان بن عطية كما فى «المصدر السابق» (36245) . (2) سورة التوبة: 81. (3) سورة التوبة: 92.

- صلى الله عليه وسلم-، ومن مخافة أن يكون النبى- صلى الله عليه وسلم- وجد فى نفسه على فرجعت إلى أصحابى فأخبرتهم الذى قال النبى- صلى الله عليه وسلم-. فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادى: أين عبد الله بن قيس، فأجبته، فقال: أجب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعوك. فلما أتيته قال: «خذ هاتين القرينتين وهاتين القرينتين لستة أبعرة ابتاعهم حينئذ من سعد، فانطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله، أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن» «1» الحديث. وقام علبة بن زيد، فصلى من الليل وبكى وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل فى يد رسولك ما يحملنى عليه، وإنى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابنى فيها، مال أو جسد أو عرض. ثم أصبح مع الناس. فقال النبى: «أين المتصدق بهذه الليلة» فلم يقم أحد، ثم قال: «أين المتصدق بهذه الليلة؟» فلم يقم أحد، ثم قال: أين المتصدق فليقم، فقام إليه فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم-: «أبشر فو الذى نفس محمد بيده لقد كتبت فى الزكاة المقبلة» «2» رواه يونس والبيهقى فى الدلائل، كما ذكره السهيلى فى الروض له. وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فى التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان وثمانون رجلا. وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة جرأة على الله ورسوله وهو قوله تعالى: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ «3» . واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة. قال الدمياطى: وهو عندنا أثبت ممن قال استخلق غيره. انتهى. وقال الحافظ زين الدين العراقى، فى ترجمة على بن أبى طالب من

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4415) فى المغازى، باب: غزوة تبوك وهى غزوة العسرة، ومسلم (1649) فى الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتى الذى هو خير ويكفر عن يمينه. (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 218، 219) . (3) سورة التوبة: 91.

شرح التقريب: لم يتخلف عن المشاهد إلا تبوك، فإن النبى- صلى الله عليه وسلم- خلفه على المدينة، وعلى عياله، وقال له يومئذ: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» «1» وهو فى الصحيحين من حديث سعد بن أبى وقاص. انتهى. ورجحه ابن عبد البر. وقيل: استخلف سباع بن عرفطة. وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب، منهم، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وفيهم نزل وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «2» . وأبو ذر، وأبو خثيمة، ثم لحقاه بعد ذلك. ولما رأى- صلى الله عليه وسلم- أبا ذر الغفارى- وكان- صلى الله عليه وسلم- نزل فى بعض الطريق- فقال: «يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده» «3» . فكان كذلك. وأمر- صلى الله عليه وسلم- لكل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية. وكان معه- صلى الله عليه وسلم- ثلاثون ألفا. وعند أبى زرعة سبعون ألفا، وفى رواية عنه أيضا أربعون ألفا. وكانت الخيل عشرة آلاف فرس. ولما مر- صلى الله عليه وسلم- بالحجر- بكسر الحاء وسكون الجيم- بديار ثمود قال: «لا تشربوا من مائها شيئا، ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له» ففعل الناس، إلا أن رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر فى طلب بعيره، فأما الذى خرج لحاجته فخنق على مذهبه وأما الذى خرج فى طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلى طيىء. فأخبر بذلك رسول

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4416) فى المغازى، باب: غزوة تبوك، ومسلم (2404) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-. (2) سورة التوبة: 118. (3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 52) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبى قائلا: إنه مرسل، وذلك لأن الراوى عن ابن مسعود، محمد بن كعب القرظى، لم تثبت له رواية عنه بلا واسطة.

الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ألم أنهكم» ثم دعا للذى خنق على مذهبه فشفى، وأما الآخر فأهدته طيىء لرسول الله حين قدم المدينة «1» . وفى صحيح مسلم من حديث أبى حميد: انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله» فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلى طيىء «2» . وروى الزهرى: لما مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون، خوفا أن يصيبكم ما أصابهم» «3» رواه الشيخان. ولما كان- صلى الله عليه وسلم- ببعض الطريق ضلت ناقته.. فقال زيد بن اللصيت وكان منافقا-: أليس محمد يزعم أنه نبى ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدرى أين ناقته؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن رجلا يقول» ... وذكر مقالته، «وإنى لا أعلم إلا ما علمنى الله، وقد دلنى عليها، وهى فى الوادى فى شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها. فانطلقوا حتى تأتونى بها» «4» فانطلقوا فجاؤا بها. رواه البيهقى وأبو نعيم. وفى مسلم من حديث معاذ بن جبل: أنهم وردوا عين تبوك، وهى تبض بشىء من ماء، وأنهم غرفوا منها قليلا قليلا حتى اجتمع فى شن ثم

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 240) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1482) فى الزكاة، باب: خرص التمر، ومسلم (1392) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (4419 و 4420) فى المغازى، باب: نزول النبى- صلى الله عليه وسلم- الحجر، ومسلم (2980) فى الزهد والرقائق، باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-. (4) أخرجه ابن هشام فى «السيرة النبوية» (2/ 523) عن محمود بن لبيد عن رجال من بنى عبد الأشهل بسند رجاله ثقات.

غسل- صلى الله عليه وسلم- به وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت بماء كثير، فاستقى الناس «1» . الحديث. ويأتى- إن شاء الله- فى مقصد المعجزات. ولما انتهى- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك أتاه صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية. وأتاه أهل جرباء- بالجيم- واذرح- بالذال المعجمة والراء والحاء المهملتين- بلدين بالشام بينهما ثلاثة أميال، فأعطوه الجزية، وكتب لهم- صلى الله عليه وسلم- كتابا. ووجد هرقل بحمص، فأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك النصرانى، وكان ملكا عظيما بدومة الجندل، فى أربعمائه وعشرين فارسا فى رجب سرية، وقال له- عليه الصلاة والسلام-: «إنك ستجده ليلا يصيد البقر» ، فانتهى إليه خالد، وقد خرج من حصنه فى ليلة مقمرة، إلى بقر يطاردها، هو وأخوة حسان، وهرب من كان معهما فدخل الحصن، ثم أجار خالد أكيدر من القتل، حتى يأتى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل وصالحه على ألفى بعير وثمانمائة فرس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح «2» . وفى هذه الغزوة كتب- صلى الله عليه وسلم- كتابا فى تبوك إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب. رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث أنس. وفى مسند أحمد أن هرقل كتب من تبوك إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-: أنى مسلم فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «كذب هو على نصرانيته» «3» . وفى كتاب الأموال لأبى عبيد، بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله نحوه ولفظه: فقال: «كذب عدو الله ليس بمسلم» . ثم انصرف- صلى الله عليه وسلم- من تبوك، بعد أن أقام بها بضع عشرة ليلة. وقال

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (706) (10) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-. (2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 526) ، و «البداية والنهاية» لابن كثير (4/ 30 و 31) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 538) . (3) لم أجده فى المسند.

الدمياطى- ومن قبله ابن سعد- عشرين ليلة، يصلى ركعتين، ولم يلق كيدا، وبنى فى طريقه مساجد. وأقبل- صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بذى أوان- بفتح الهمزة بلفظ الأوان: الحين- وبينهما وبين المدينة ساعة جاءه خبر مسجد الضرار من السماء. فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدى العجلانى فقال: انطلقا إلى مسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه. فخرجا فحرقاه وهدماه. وذلك بعد أن أنزل الله فيه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً «1» . قال الواحدى: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: الذين اتخذوا مسجد الضرار كانوا اثنى عشر رجلا، يضارون به مسجد قباء، وذلك أنهم قالوا فى طائفة من المنافقين: نبنى مسجدا فنقيل فيه فلا نحضر خلف محمد. قال المفسرون: ولما بنوا ذلك لأغراضهم الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة تبوك، ونحن نحب أن تصلى فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال عليه الصلاة والسلام-: «إنى على جناح سفر، وإذا قدمن إن شاء الله تعالى صلينا فيه» «2» . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت هذه الآية. ولما دنا- صلى الله عليه وسلم- من المدينة خرج الناس لتلقيه. وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع

_ (1) سورة التوبة: 107. (2) الخبر أورده ابن هشام فى «السيرة النبوية» (2/ 529- 530) ، والبيهقى فى «الدلائل» (5/ 259- 260) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 549) .

وقد وهم بعض الرواة- كما قدمته- وقال: إنما كان هذا عند مقدمه المدينة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام- كما قدمت ذلك-. وفى البخارى: لما رجع- صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك فدنا من المدينة، قال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر» «1» وهذا يؤيد معنى ما ورد: نية المؤمن خير من عمله «2» ، فإن نية هؤلاء أبلغ من أعمالهم، فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهم على فرشهم فى بيوتهم. والمسابقة إلى الله تعالى وإلى درجات العلا بالنيات والهمم لا بمجرد الأعمال. ولما أشرف- صلى الله عليه وسلم- على المدينة قال: «هذه طابة وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه» «3» . ولما دخل قال العباس يا رسول الله، ائذن لى أمتدحك قال: قل لا يفضض الله فاك، فقال: من قبلها طبت فى الظلال وفى ... مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق وردت نار الخليل مكتتما ... فى صلبه أنت كيف يحترق

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2839) فى الجهاد والسير، باب: من حبسه العذر عن الغزو، وابن ماجه (2764) فى الجهاد، باب: من حبسه العذر عن الجهاد، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (2) انظره فى «كشف الخفاء» للعجلونى (2836) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (4422) فى المغازى، باب: رقم (81) ، ومسلم (1392) فى الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه، وفى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى الله عنه-.

حتى احتوى بيتك المهمين من ... خندف علياء تحتها النطق وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق فنحن فى ذلك الضياء وفى ال ... نور وسبل الرشاد نخترق وقوله: من قبلها طبت إلخ: أى ظلال الجنة، أى إنك كنت طيبا فى صلب آدم حيث كان فى الجنة. وقوله: من قبلها: أى قبل نزولك إلى الأرض فكنى عنها ولم يتقدم لها ذكر لبيان المعنى. وقوله: ثم هبطت البلاد لا بشر، أى لما أهبط الله آدم إلى الدنيا، كنت فى صلبه غير بالغ هذه الأشياء. وقوله: وقد ألج نسرا وأهله الغرق، يريد الصنم الذى كان يعبده قوم نوح وهو المذكور فى قوله تعالى: وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً «1» . وقوله: حتى احتوى بيتك المهمين إلخ. النطق: جمع نطاق. وهى أعراض من جبال بعضها فوق بعض أى: نواح وأوساط منها شبهت بالنطق التى تشد بها أوساط الناس. ضربه مثلا فى ارتفاعه وتوسطه فى عشيرته وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال وأراد ببيته: شرفه، والمهمين: نعته، أى احتوى شرفه الشاهد إلى فضلك أعلى مكان من نسب خندف- وهو بكسر الخاء المعجمة والدال المهملة- انتهى. وجاءه- صلى الله عليه وسلم- من كان تخلف عنه، فحلفوا له فعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب وصاحبيه حتى نزلت توبتهم فى قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «2» .

_ (1) سورة نوح: 23. (2) سورة التوبة: 117، 118.

والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وعند البيهقى فى الدلائل، من مرسل سعيد بن المسيب: أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما أشار لبنى قريظة بيده إلى حلقه: إنه الذبح وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أحسبت أن الله قد غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك» ، فلبث حينا ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاتب عليه، ثم غزا تبوكا فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم- منها جاءه أبو لبابة يسلم عليه فأعرض عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ففزع أبو لبابة، فارتبط بسارية التوبة سبعا وقال: لا يزال هذا مكانى حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله على «1» . الحديث. وعنده أيضا من حديث ابن عباس فى قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً «2» . قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبى صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك، فلما رجع- صلى الله عليه وسلم- أوثق سبعة منهم أنفسهم بسوارى المسجد وكان ممر النبى- صلى الله عليه وسلم- إذ رجع فى المسجد عليهم، فقال: «من هؤلاء؟» قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله، حتى تطلقهم وتعذرهم، فقال: «أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذى يطلقهم، رغبوا عنى وتخلفوا عن الغزو» فأنزل الله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ «3» . فلما نزلت أرسل النبى- صلى الله عليه وسلم- فأطلقهم وعذرهم «4» . الحديث. قالوا: ولما قدم- صلى الله عليه وسلم- من تبوك وجد عويمر العجلانى امرأته حبلى، فلاعن- عليه السّلام- بينهما.

_ (1) انظره فى «دلائل النبوة» للبيهقى، (5/ 270) . (2) سورة التوبة: 102. (3) سورة التوبة: 102. (4) انظره فى المصدر السابق (5/ 271- 272) .

حجة أبى بكر:

حجة أبى بكر «1» : ثم حجة أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- بالناس، سنة تسع فى ذى القعدة، كما ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد، ووافقه عكرمة بن خالد، فيما أخرجه الحاكم فى الإكليل. وقال قوم فى ذى الحجة، وبه قال الداودى والثعلبى والماوردى. ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبى- صلى الله عليه وسلم- أقام بعد ما رجع من تبوك رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، فهو ظاهر فى أن بعث أبى بكر كان بعد انسلاخ ذى القعدة، فيكون حجه فى ذى الحجة على هذا والله أعلم. وكان مع أبى بكر ثلاثمائة رجل من المدينة، وعشرون بدنة. وفى البخارى ومسلم، عن أبى هريرة: أن أبا بكر بعثه فى الحجة التى أمره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل حجة الوداع فى رهط يؤذن فى الناس يوم النحر: ألايحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان «2» . ثم أردف النبى- صلى الله عليه وسلم- بعلى بن أبى طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة، فأذن معلنا فى أهل منى ببراءة، وألايحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال: فنبذ أبو بكر إلى الناس فى ذلك العام فلم يحج فى العام القابل الذى حج فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع مشرك. فأنزل الله فى العام

_ (1) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 543- 548) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 168- 169) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (4/ 68- 75) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 593- 595) ، والزرقانى فى «شرح المواهب» (3/ 89- 94) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1622) فى الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك، ومسلم (1347) فى الحج، باب: لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

الذى نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «1» الآية. وقد دلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما فى الصحيح «المؤمن لا ينجس» وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وهذا ضعيف، لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا ستوى فى النهى عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد. فالمراد: الأخباث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر وخبث الباطن بالعداوة قاله مقاتل. وروى النسائى عن جابر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب للصبح فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره فوقف عن التكبير فقال: هذه رغوة ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الجدعاء، لقد بدا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الحج، فلعله أن يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنصلى معه، فإذا على عليها، فقال له أبو بكر أمير أم رسول، قال: لا بل رسول، أرسلنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ببراءة أقرؤها على الناس فى مواقف الحج، فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم كان يوم النحر، فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها «2» .

_ (1) سورة التوبة: 28. (2) ضعيف: أخرجه النسائى (5/ 247) فى المناسك، باب: الخطبة قبل يوم التروية، وفى «الكبرى» (3984) ، والدارمى فى «سننه» (1915) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6645) ، والحديث ضعف إسناده الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .

وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد، أما أبو بكر- رضى الله عنه- فإنما كان سنة تسع. واستدل بهذه القصة على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع، والأحاديث فى ذلك كثيرة شهيرة. وذهب جماعة إلى أن حج أبى بكر هذا لم يسقط عنه الفرض بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه. وفى هذه السنة أيضا مات عبد الله بن أبى ابن سلول، فجاء ابنه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، فأعطاه. ثم سأله أن يصلى عليه، فقام ليصلى عليه، فقام عمر- رضى الله عنه- فأخذ بثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله تصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنما خيرنى الله عز وجل» قال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «1» . وسأزيد على السبعين قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله- عز وجل-: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ «2» «3» . رواه الشيخان والنسائى. وفى هذه السنة أيضا آلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من نسائه شهرا. وجحش شقه- أى خدش- وجلس فى مشربة له درجها من جذوع، فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع.

_ (1) سورة التوبة: 80. (2) سورة التوبة: 84. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1269) فى الجنائز، باب: الكفن فى القميص، ومسلم (2400) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-.

ونزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول الله إنك آليت شهرا، فقال: «إن الشهر يكون تسعا وعشرين» «1» . ثم بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قبل حجة الوداع. كل واحد منهما على مخلاف. قالوا: واليمن مخلافان، ثم قالوا: «يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا» «2» . وقال لمعاذ: «إنك ستأتى قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» «3» . رواه البخارى. والمخلاف: - بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء- بلغة أهل اليمن الكورة والإقليم والرستاق. وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكان من عمله الجند- بفتح الجيم والنون- وله بها مسجد مشهور. وكانت جهة أبى موسى السفلى. ثم أرسل خالد بن الوليد «4» قبل حجة الوداع أيضا، فى ربيع الأول سنة

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1911) فى الصوم، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم الهلال فصوموا» ، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وهو عند مسلم (1083) فى الصيام، باب: الشهر يكون تسعا وعشرين من حديث عائشة- رضى الله عنهما-، و (1084) من حديث جابر- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3038) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى الحرب، ومسلم (1733) فى الجهاد والسير، باب: فى الأمر بالتيسير وترك التنفير، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1496) فى الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد فى الفقراء حيث كانوا، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (4) انظر: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 128) .

عشر- وفى الإكليل: فى ربيع الآخر، وقيل: فى جمادى الأولى- إلى بنى عبد المدن بنجران فأسلموا. ثم أرسل على بن أبى طالب إلى اليمن «1» فى شهر رمضان سنة عشر من الهجرة، وعقد له لواء وعممه بيده. وأخرج أبو داود وأحمد والترمذى من حديث على قال: بعثنى النبى صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فقلت: يا رسول الله تبعثنى إلى قوم أسن منى وأنا حديث السن لا أبصر القضاء. قال: فوضع يده فى صدرى وقال: «اللهم ثبت لسانه واهد قلبه» ، وقال: «يا على إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر» «2» . الحديث. فخرج فى ثلاثمائة، ففرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك. ثم لقى جمعهم فدعاهم إلى السلام فأبوا. ورموا بالنبل، ثم حمل عليهم على بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا فتفرقوا وانهزموا فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله. ثم قفل فوافى النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة قد قدمها للحج سنة عشر. ثم حج- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع «3» ، وتسمى حجة الإسلام، وحجة البلاغ، وكره ابن عباس أن يقال: حجة الوداع. وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أقام بالمدينة يضحى كل عام ويغزو المغازى، فلما كان

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 128) . (2) حسن: أخرجه أبو داود (3582) فى الأقضية، باب: كيف القضاء، والترمذى (1331) فى الأحكام، باب: ما جاء فى القاضى لا يقضى بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، وابن ماجه (2310) فى الأحكام، باب: التغليظ فى الحيف والرشوة، وأحمد فى «مسنده» (1/ 83 و 88 و 111 و 149) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 130) .

فى ذى القعدة سنة عشر من الهجرة أجمع على الخروج إلى الحج فتجهز وأمر الناس بالجهاز له. قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن توفاه الله تعالى. وفى البخارى عن زيد بن أرقم أن النبى- صلى الله عليه وسلم- غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، حجة الوداع «1» . قال: وقال ابن إسحاق: وبمكة أخرى، وقيل: حج حجتين. هذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه إلا الله. فخرج- صلى الله عليه وسلم- من المدينة يوم السبت لخمس بقين من ذى القعدة وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر. لأن أول ذى الحجة كان يوم الخميس قطعا، لما ثبت وتواتر وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر كان يوم الخميس، فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل هو ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة. لكن ثبت فى الصحيحين عن أنس: صلينا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذى الحليفة ركعتين «2» . فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة ويحمل قول من قال: لخمس بقين، أى إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذى الحجة بعد مضى أربع ليال لا خمس، وبها تتفق الأخبار. هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير بين الروايات، وقوى هذا الجمع بقول جابر: إنه خرج لخمس بقين من ذى القعدة أو أربع. وصرح الواقدى بأن خروجه- صلى الله عليه وسلم- كان يوم السبت لخمس ليال بقين من ذى القعدة. وكان خروجه من المدينة بين الظهر والعصر. وكان دخول مكة صبح

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4404) فى المغازى، باب: حجة الوداع، ومسلم (1254) فى الحج، باب: بيان عدد عمر النبى- صلى الله عليه وسلم- وزمانهن. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1089) فى الجمعة، باب: يقصر إذا خرج من موضعه، ومسلم (690) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.

رابعة، كما ثبت فى حديث عائشة وذلك يوم الأحد. وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون مكثه فى الطريق ثمانى ليال، وهى المسافة الوسطى. وخرج معه- عليه السّلام- تسعون ألفا، ويقال مائة ألف وأربعة عشر ألفا، ويقال أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقى. ويأتى الكلام على حجة الوداع وما فيها من المباحث فى مقصد العبادات إن شاء الله تعالى. ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة «1» إلى أهل أبنى بالشراة ناحية بالبلقاء، وكانت يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر، سنة إحدى عشرة. وهى آخر سرية جهزها النبى- صلى الله عليه وسلم- وأول شىء جهزه أبو بكر الصديق رضى الله عنه-، لغزو الروم مكان قتل أبيه زيد. فلما كان يوم الأربعاء بدىء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه، فحمّ وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة الأسلمى، وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا انتدب، فيهم أبو بكر وعمر. فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين؟ فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد عصب رأسه وعليه قطيفة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، أيها الناس، ما مقالة بلغتنى عن بعضكم فى تأميرى أسامة، ولئن طعنتم فى إمارتى أسامة فقد طعنتم فى إمارتى أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليقا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلى، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم» «2» . ثم نزل عن المنبر فدخل بيته. وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى عشرة.

_ (1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 145) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (3730) فى المناقب، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبى صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2426) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد- رضى الله عنهما-، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- بنحوه.

وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويخرجون إلى معسكر بالجرف. فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه، فدخل أسامة من معسكره والنبى- صلى الله عليه وسلم- مغمور، وهو اليوم الذى لدوه فيه، فطأطأ أسامة فقبله، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة. قال أسامة: فعرفت أنه يدعو لى، ورجع أسامة إلى معسكره. ثم دخل يوم الاثنين وأصبح- صلى الله عليه وسلم- مفيقا، فودعه أسامة وخرج إلى المعسكر، فأمر الناس بالرحيل. فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاء يقول: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يموت. فأقبل هو وعمر وأبو عبيدة. فتوفى- صلى الله عليه وسلم- حين زاغت الشمس لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول. واستشكله السهيلى ومن تبعه، وذلك: أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس، فمهما فرضت الشهور الثلاثة: توامّ أو نواقص، أو بعضها، لم يصح. قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر لمن تأمله. وأجاب البارزى ثم ابن كثير: باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكان أهل مكه والمدينة اختلفوا فى رؤية هلال ذى الحجة، فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها. وكان أول ذى الحجة الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد وآخره الاثنين وأول صفر الثلاثاء وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأول الخميس، فيكون ثانى عشر الاثنين. قال: وهذا الجواب بعيد، من حيث إنه يلزم منه توالى أربعة أشهر كوامل، وقد جزم سليمان التيمى أحد الثقات: بأن ابتداء مرضه كان يوم السبت الثانى والعشرين من صفر، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع

الأول. فعلى هذا يكون صفر ناقصا ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين. فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية. قال: والمعتمد ما قاله أبو مخنف: أنه توفى فى ثانى ربيع الأول. وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا: مات فى ثانى شهر ربيع الأول، فغيرت فصار: ثانى عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل. انتهى. ثم إن وفاته- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين من ربيع الأول بلا خلاف. بل كاد يكون إجماعا لكن فى حديث ابن مسعود: فى حادى عشر رمضان رواه البزار. والمعتمد ما تقدم. والله أعلم. انتهى. وسيأتى- إن شاء الله تعالى- حديث الوفاة الشريفة فى المقصد الأخير. ولما توفى- صلى الله عليه وسلم- دخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فغرزه عند بابه. فلما بويع أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضى لوجهه، فمضى به إلى معسكرهم الأول، وخرج أسامة هلال ربيع الآخر سنة إحدى عشرة إلى أهل أبنى، فشن عليهم الغارة، فقتل من أشرف له، وسبى من قدر عليه، وحرق منازلهم ونخلهم، وقتل قاتل أبيه فى الغارة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يصب أحد من المسلمين. وخرج أبو بكر فى المهاجرين وأهل المدينة يتلقونه سرورا، والله أعلم. فجميع سراياه وبعوثه نحو ستين ومغازيه نحو سبع وعشرين.

المقصد الثانى

المقصد الثانى وفيه عشرة فصول: * فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة. * وذكر أولاده الكرام الطاهرين. * وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين. * وأعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته. * وخدمه ومواليه وحرسه. * وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام بالشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام. * ومؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه. * وآلات حروبه. * ودوابه. * والوافدين إليه صلى الله عليه وسلم.

الفصل الأول فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة

الفصل الأول فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة اعلم أن الأسماء جمع اسم، وهو كلمة وضعتها العرب بإزاء مسمى، متى أطلقت فهم منها ذلك المسمى، فعلى هذا لابد من مراعاة أربعة أشياء: الاسم والمسمى- بفتح الميم- المسمى- بكسرها- والتسمية. فالاسم: هو اللفظ الموضوع على الذات لتعريفها أو تخصيصها عن غيرها كلفظ: زيد. والمسمّى: هو الذات المقصود تمييزها بالاسم، كشخص زيد. والمسمّى: هو الواضع لذلك اللفظ. والتسمية: هى اختصاص ذلك اللفظ بتلك الذات. والوضع: تخصيص لفظ بمعنى إذا أطلق أو أحسّ فهم ذلك المعنى. واختلفوا، هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ وهى مسألة طويلة تكلم الناس فيها قديما وحديثا. فذهب قوم إلى أن الاسم عين المسمى. واستدلوا عليه بقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» والتسبيح إنما هو للرب جل وعلا، فدل على أن اسمه هو هو. وأجيب، بأنه أشرب معنى سبح «اذكر» فكأنه قال: اذكر اسم ربك الأعلى، كقوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «2» وقد أشرب معنى اذكر «سبح» ، عكس الأول. قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ «3» أى سبح ربك. والإشراب جار فى لغتهم، يشربون معنى فعل فعلا. واستشكل على معنى كونه هو المسمى إضافته إليه، فإنه يلزم منه إضافة الشىء إلى نفسه. وأجيب: بأن الاسم هنا بمعنى التسمية، والتسمية غير الاسم، لأن التسمية هى اللفظ بالاسم، والاسم هو اللازم للمسمى فتغايرا.

_ (1) سورة الأعلى: 1. (2) سورة الإنسان: 25. (3) سورة آل عمران: 41.

واحتج من قال بأن الاسم عين المسمى أيضا بقوله تعالى: بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى «1» ثم قال: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ «2» فنادى الاسم فدل على أنه المسمى. وجوابه: أن المعنى: يا أيها الغلام الذى اسمه يحيى، ولو كان الاسم عين المسمى لكان من قال: النار، احترق لسانه، ومن قال: العسل، ذاق حلاوته. وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، وقد سمى الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم- بأسماء كثيرة فى القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية، وعلى ألسنة أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام-. ثم إن أشهر أسمائه- صلى الله عليه وسلم-: محمد، وبه سماه جده عبد المطلب وذلك أنه لما قيل له: ما سميت ولدك؟ فقال: محمدا، فقيل له: كيف سميته باسم ليس لأحد من آبائك وقومك؟ فقال: لأنى أرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم. وذلك لرؤيا كان رآها عبد المطلب- كما ذكر حديثها على القيروانى العابر فى كتابه «البستان» - قال: كان عبد المطلب قد رأى فى المنام كأن سلسلة من فضة قد خرجت من ظهره، لها طرف فى السماء، وطرف فى الأرض، وطرف فى المشرق وطرف فى المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها. فقصها، فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق وأهل المغرب، ويحمده أهل السماء وأهل الأرض، فلذلك سماه محمدا، مع ما حدثته به أمه آمنة حين قال لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه محمدا. وعن ابن عباس- رضى الله عنهما-: لما ولد النبى- صلى الله عليه وسلم- عق عنه عبد المطلب وسماه محمدا فقيل له: يا أبا الحارث، ما حملك على أن سميته محمدا،

_ (1) سورة مريم: 7. (2) سورة مريم: 12.

ولم تسمه باسم آبائه؟ قال: أردت أن يحمده الله فى السماء، ويحمده الناس فى الأرض. وعن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن لى أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر، وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى، وأنا العاقب» «1» رواه الشيخان. وقد روى: (على قدمى) بتخفيف الياء وبالإفراد، وبالتشديد على التثنية. قال النووى فى شرح مسلم: معنى الروايتين: يحشرون على أثرى وزمانى ورسالتى. وفى رواية نافع بن جبير عند البخارى فى تاريخه الصغير والأوسط، والحاكم فى مستدركه وصححه، وأبى نعيم فى الدلائل وابن سعد: أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال: أتحصى أسماء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى كان جبير بن مطعم يعدها؟ قال: نعم، هى ستة، فذكر الخمسة التى ذكرها محمد ابن جبير، وزاد: الخاتم «2» . وفى حديث حذيفة (أحمد، ومحمد، والحاشر، والمقفى، ونبى الرحمة) «3» . ولفظ رواية أبى نعيم (هى ستة: محمد، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماح، فأما الحاشر، فبعث مع الساعة نذيرا لكم بين يدى عذاب شديد، وأما العاقب: فإنه أعقب الأنبياء، وأما ماح: فإن الله عز وجل محا به سيئات من اتبعه) . وذكر بعضهم: أن العدد ليس من قول النبى- صلى الله عليه وسلم-، وإنما ذكره الراوى بالمعنى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2532) فى المناقب، باب: ما جاء فى أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2354) فى الفضائل، باب: فى أسمائه- صلى الله عليه وسلم-. (2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 81 و 83) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 660) ، والطبرانى فى «الكبير» (2/ 120) . (3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (5/ 405) .

وفيه نظر: لتصريحه فى الحديث: «إن لى خمسة أسماء» «1» . والذى يظهر أنه أراد إن لى خمسة أسماء أختص بها لم يتسم بها أحد قبلى، أو مشهورة فى الأمم الماضية لا أنه أراد الحصر فيها، وبهذا يجاب عن الاستشكال الوارد، وهو أن المقرر فى علم المعانى أن تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، ولكن ورود الروايات بما هو أكثر يدل على أنه ليس حصرا مطلقا، فالطريق فى ذلك أن يحمل على حصر مقيد كما ذكر والله أعلم. وروى النقاش «2» عنه- عليه الصلاة والسلام-: لى فى القرآن سبعة أسماء: محمد، وأحمد، ويّس، وطّه، والمزمل، والمدثر، وعبد الله «3» . وقد جاءت من ألقابه- صلى الله عليه وسلم- وسماته فى القرآن عدة كثيرة، و [قد] تعرض جماعة لتعدادها وبلغوا بها عددا مخصوصا. فمنهم من بلغ تسعة وتسعين، موافقة لعدد أسماء الله الحسنى الواردة فى الحديث. قال القاضى عياض: وقد خصه الله تعالى بأن سماه من أسمائه الحسنى بنحو من ثلاثين اسما. وقال ابن دحية «4» فى كتابه «المستوفى» : إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن والحديث وفّى الثلاثمائة، انتهى.

_ (1) هو لفظ حديث البخارى (3532) المتقدم قبل حديثين. (2) هو: شيخ القراء، أبو بكر، محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلى ثم البغدادى النقاش، كان واسع الرحلة، له مصنفات، إلا أنه يكذب فى الحديث، والغالب عليه القصص، ولذا قال عنه الخطيب، فى حديثه مناكير بأسانيد مشهورة، مات سنة (351 هـ) . (3) قلت: النقاش ضعيف فى الحديث، وعلى ذلك فلا حجة فى قوله، وبخاصة أنه انفرد ببعض الأسماء كيس وطه والمزمل والمدثر، وإن كان الأخيران صفتين له. (4) هو: أبو الخطاب، عمر بن الحسن بن على بن محمد، ابن دحية الكلبى، أديب مؤرخ حافظ للحديث من أهل بلنسية بالأندلس، إلا أنه رحل إلى مراكش والشام والعراق وخراسان واستقر بمصر، إلا أنه كان كثير الوقيعة فى العلماء والأئمة فأعرض عنه معاصروه من كلامه، كما كذبوه فى انتسابه إلى دحية، وقالوا: إن دحية الكلبى لم يعقب، توفى بالقاهرة سنة (633 هـ) .

ورأيت فى كتاب «أحكام القرآن» للقاضى أبى بكر بن العربى: قال بعض الصوفية: لله تعالى ألف اسم وللنبى- صلى الله عليه وسلم- ألف اسم «1» ، انتهى. والمراد الأوصاف: فكل الأسماء التى وردت أوصاف مدح، وإذا كان كذلك، فله- صلى الله عليه وسلم- من كل وصف اسم، ثم إن منها ما هو مختص به أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك، وكل ذلك بيّن بين بالمشاهدة لا يخفى، وإذا جعلنا له من كل وصف من أوصافه اسما بلغت أوصافه ما ذكر، بل أكثر، والذى رأيته فى كلام شيخنا فى «القول البديع» ، والقاضى عياض فى «الشفا» وابن العربى فى «القبس» ، والأحكام له، وابن سيد الناس، وغيرهم يزيد على الأربعمائة، وقد سردتها مرتبة على حروف المعجم، وهى: الأبر بالله، الأبطحى، أتقى الناس، الأجود، أجود الناس، الأحد، الأحسن وأحسن الناس، أحمد، أحيد- بضم أوله وكسر المهملة ثم ياء تحتانية-. الآخذ بالحجزات، آخذ الصدقات، الآخر، الأخشى لله، أذن خير، أرجح الناس عقلا، أرحم الناس بالعباد، الأزهر: وهو النير المشرق الوجه، أشجع الناس، الأصدق فى الله، أطيب الناس ريحا، الأعز الأعلى، الأعلم بالله، أكثر الناس تبعا، الأكرم، أكرم الناس، أكرم ولد آدم، المص، إمام الخير، إمام الرسل، إمام المتقين، إمام النبيين، الإمام، الآمر والناهى، الآمن أمنة أصحابه، الأمين، الأمى، أنعم الله، الأول، أول شافع، أول المسلمين، أول المؤمنين، أول من تنشق عنه الأرض. البر، البارقليط، الباطن، البرهان، بشر، بشرى عيسى، البشير، البصير، البليغ، بالغ البيان، البينة. التالى، التذكرة، التقى، التنزيل، التهامى. ثانى اثنين. الجبار، الجد، الجواد، جامع.

_ (1) قلت: ولا أعلم مستندا للقائلين بذلك، ولو كان فى ذلك مزية لأخبرنا بها خير الناس.

حاتم، حزب الله، الحاشر، الحافظ، الحاكم بما أراه الله، الحامد، حامل لواء الحمد، الحائد لأمته عن النار، الحبيب، حبيب الرحمن، حبيب الله، الحجازى، الحجة البالغة، حجة الله على الخلائق، حرز الأميين، الحرمى، الحريص على الإيمان، الحسيب الحفيظ، الحق، الحكيم، الحليم، حماد، حمطايا أو قال حمياطا، حمعسق، حفى، الحمد، الحنيف، الحى. الخبير، خاتم النبيين خاتم المرسلين، الخاتم، الخازن لمال الله، الخاشع، الخاضع، الخالص، خطيب الأنبياء، خطيب الأمم، خطيب الوافدين على الله، الخليل، خليل الرحمن، خليل الله، الخليفة، خير الأنبياء، خير البرية، خير خلق الله، خير العالمين طرّا، خير الناس، خير هذه الأمة، خيرة الله. دار الحكمة، الداعى إلى الله، دعوة إبراهيم، دعوة النبيين، دليل الخيرات. الذاكر، الذكر، ذكر الله، ذو الحوض المورود، ذو الخلق العظيم، ذو الصراط المستقيم، ذو القوة، ذو مكانة، ذو عزة، ذو فضل، ذو المعجزات، ذو المقام المحمود، ذو الوسيلة. الراضع، الراضى، الراغب، الرافع، راكب البراق، راكب البعير، راكب الجمل، راكب الناقة، راكب النجيب، الرحمة، رحمة الأمة، رحمة العالمين، رحمة مهداة، الرحيم، الرسول، رسول الراحة، رسول الرحمة، رسول الله، رسول الملاحم، الرشيد. الرفيع الذكر، رافع الرتب، رفيع الدرجات، الرقيب، روح الحق، روح القدس، الرؤف، ركن المتواضعين. الزاهد، زعيم الأنبياء، الزكى، الزمزمى، زين من وافى القيامة. السابق، السابق بالخيرات، سابق العرب، الساجد، سبيل الله، السراج المنير، السراط المستقيم، السعيد، سعد الله، سعد الخلائق، السميع، السلام، السيد، سيد ولد آدم، سيد المرسلين، سيد الناس، سيد الكونين، سيد الثقلين، سيف الله المسلول.

الشارع، الشافع، الشاكر، الشاهد، الشكور، الشكار، الشمس، الشهيد. الصابر، الصاحب، صاحب الآيات، صاحب المعجزات، صاحب البراهين، صاحب البيان، صاحب التاج، صاحب الجهاد، صاحب الحجة، صاحب الحطيم، صاحب الحوض المورود، صاحب الخاتم، صاحب الخير، صاحب الدرجة العالية الرفيعة، صاحب الرداء، صاحب الأزواج الطاهرات، صاحب السجود للرب المحمود، صاحب السرايا، صاحب السلطان، صاحب السيف، صاحب الشرع، صاحب الشفاعة الكبرى، صاحب العطايا، صاحب العلامات الباهرات، صاحب العلو والدرجات، صاحب الفضيلة، صاحب الفرج، صاحب القضيب، صاحب القضيب الأصغر، صاحب قول لا إله إلا الله، صاحب القدم، صاحب الكوثر، صاحب اللواء، صاحب المحشر، صاحب المدينة، صاحب المغفر، صاحب المغنم، صاحب المعراج، صاحب المظهر المشهود، صاحب المقام المحمود، صاحب المنبر، صاحب المئزر، صاحب النعلين، صاحب الهراوة، صاحب الوسيلة، الصادع بما أمر، الصادق، الصبور، الصدق، صراط الله، صراط الذين أنعمت عليهم، الصراط المستقيم، الصفوح، الصفوح عن الزلات، الصفوة، الصفى، الصالح. الضارب بالحسام المثلوم، الضحاك، الضحوك. طاب طاب، الطاهر، الطبيب، طسم، طس، طه، الطيب. الظاهر، الظفور، من الظفر وهو الفوز. العابد، العادل، العظيم، العافى، العاقب، العالم، علم الإيمان، علم اليقين، العالم بالحق، العامل، عبد الله، العبد، العدل، العربى، العروة الوثقى، العزيز، العفو، العطوف، العليم، العلى، العلامة، عين العز، عبد الكريم، عبد الجبار، عبد الحميد، عبد المجيد، عبد الوهاب،

عبد القهار، عبد الرحيم، عبد الخالق، عبد القادر، عبد المهيمن، عبد القدوس، عبد الغياث، عبد الرزاق، عبد السلام، عبد المؤمن، عبد الغفار. الغالب، الغفور، الغنى، الغنى بالله، الغوث، الغيث، الغياث. الفاتح، الفارقليط- وقيل بالباء، وتقدم-، الفارق، فاروق، الفتاح. الفجر، الفرط، الفصيح، فضل الله، فواتح النور. القاسم، القاضى، القانت، قائد الخير، قائد الغر المحجلين، القائل، القائم، القتال، القتول، قثم، القثوم، قدم صدق، القرشى، القريب، القمر، القيم، ومعناه: الجامع الكامل، وصوابه بالمثلاثة بدل الياء، القوى. كافة الناس، الكفيل، الكامل فى جميع أموره، الكريم، كهيعص. اللسان. الماجد، ماذماذ، المؤمل، الماحى، المأمون، المانع، الماء العين، المبارك، المبتهل، المبرأ، المبشر، مبشر اليائسين، المبعوث بالحق، المبعوث، المبلغ، المبيح، المبين، المتين، المتبتل، المتبسم، المتربص، المتضرع، المتقى، المتلو عليه، المتهجد، المتوسط، المتوكل، المتثبت، مجاب، مجيب، المجتبى، المجبر، المحرض، المحرم، المحفوظ، المحلل، محمد، المحمود، المخبر، المختار، المخصوص بالشرف، المخصوص بالعز، المخصوص بالمجد، المخلص، المدثر، المدنى، مدينة العلم، المذكر، المذكور، المرتضى، المرتل، المرسل، المرتجى، المرحوم، المرتفع الدرجات، المرء- وهو الرجل الكامل المروءة-، المزكى، المزمل، المسبح، المستغفر، المستغنى، المستقيم، المسرى به، المسعود، المسلّم، المسلّم المشاور، المشفع، المشفوع، المشفع، المشهود، المشير، المصباح، المصارع، المصافح، مصحح الحسنات، المصدوق، المصطفى، المصلح، المصلى عليه، المطاع، المطهر، المظهر، المطلع، المطيع، المظفر، المعزز، المعصوم، المعقب، المعلّم، معلم أمته، المعلّم، المعلن، المعلى، المفضال، المفضل، المفتاح، مفتاح الجنة، المقتصد، المقتفى: يعنى قفا النبيين، المقدّس، المقرى، المقسط، المقسم، المقصوص عليه، المقفى، وقيل بزيادة تاء

بعد القاف كما تقدم، مقيل العثرات، مقيم السنة بعد الفترة، المكرم، المكتفى، المكين، المكى، الملاحمى، ملقى القرآن، الممنوح، المنادى، المنتظر، المنجى، المنذر، المنزل عليه، المنحمنا، المصنف، المنصور، المنيب، المنير، المهاجر، المهتدى، المهدى، المهداة، المهيمن، المؤتى جوامع الكلم، الموحى إليه، الموصل، الموقر، المولى، المؤمن المؤيّد، الميسّر. النابذ، الناجز، الناس لقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ «1» . المفسر به- عليه السّلام-، الناسخ، الناشر، الناصح، الناضر، الناطق بالحق، الناهى، نبى الأحمر، نبى الأسود، نبى التوبة، نبى الحرمين، نبى الراحة، نبى الرحمة، النبى الصالح، نبى الله نبى المرحمة، نبى الملحمة، نبى الملاحم، النبى، النجم، النجم الثاقب، نجى الله، النذير، النسيب، نصيح، ناصح، النعمة، نعمة الله، النقيب، النقى، النور، نور الأمم أى الهادى لها الذى أوصلها نور الله الذى لا يطفأ. الهادى، هدى، هدية الله، الهاشمى. الوجيه، الواسط، الواسع، الواصل الواضح، الواعد، الواعظ، الورع، الوسيلة، الوفى، الوافى، ولى الفضل، الولى. اليثربى، بس. وكنيته المشهورة أبو القاسم، كما جاء فى عدة أحاديث صحيحة. ويكنى بأبى إبراهيم، كما جاء فى حديث أنس فى مجىء جبريل إليه- عليهما الصلاة والسلام-، وقوله السلام عليك يا أبا إبراهيم «2» . وبأبى الأرامل، فيما ذكره ابن دحية. وبأبى المؤمنين، فيما ذكره غيره. واعلم أنه لا سبيل لنا أن نستوعب شرح جميع هذه الأسماء الشريفة،

_ (1) سورة النساء: 54. (2) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (2/ 604) ، وأبو نعيم فى «دلائل النبوة» (1/ 164) .

إذ فى ذلك تطويل يفضى بنا إلى العدول عن عرض الاختصار، فلنذكر من ذلك ما يفتح الله تعالى به مما يدل على سواه. وبالله تعالى أستعين. فأول ذلك ما له- عليه الصلاة والسلام- من معنى الحمد الذى هو اسمه المنبىء عن ذاته، الذى سائر أسماء أوصافه راجعة إليه، وهو فى المعنى واحد، وله فى الاشتقاق صيغتان: الاسم المبنى صيغته على صيغة «أفعل» المنبئة عن الانتهاء إلى غاية ليس وراءها منتهى، وهو اسمه «أحمد» . والاسم المبنى على صيغة «التفعل» المنبئة عن التضعيف والتكثير إلى عدد لا ينتهى له الإحصاء وهو اسمه «محمد» . قال السهيلى: «محمد» منقول من الصفة، فالحمد فى اللغة هو الذى يحمد حمدا بعد حمد، ولا يكون «مفعّل» مثل: مضرب، وممدح، إلا لمن تكرر منه الفعل مرة بعد أخرى. وأما «أحمد» وهو اسمه- عليه الصلاة والسلام- الذى سمى به على لسان عيسى وموسى، فإنه منقول أيضا من الصفة التى معناها التفضيل، فمعنى «أحمد» أحمد الحامدين لربه، وكذلك هو فى المعنى، لأنه يفتح عليه فى المقام المحمود بمحامد لم تفتح على أحد قبله، فيحمد ربه بها، ولذلك يعقد له لواء الحمد. قال: وأما «محمد» فمنقول من صفة أيضا، وهو فى معنى «محمود» . ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، فالمحمد هو الذى حمد مرة بعد مرة، كما أن المكرّم من أكرم مرة بعد أخرى، وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم «محمد» مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه به قبل أن يسمى به، علم من أعلام نبوته- عليه الصلاة والسلام-، إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وسلم- محمود فى الدنيا بما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة. وهو محمود فى الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضيه اللفظ.

ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذى هو محمد، فذكره عيسى فقال اسْمُهُ أَحْمَدُ «1» وذكره موسى حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلنى من أمة أحمد. فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدا أيضا بالفعل. وكذلك فى الشفاعة، يحمد ربه بالمحامد التى يفتحها عليه، فيكون أحمد الحامدين لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته. فانظر كيف ترتب هذا الاسم قبل الاسم الآخر فى الذكر والوجود، وفى الدنيا والآخرة، تلح لك الحكمة الإلهية فى تخصيصه بهذين الاسمين. انتهى. وقال القاضى عياض: كان- عليه الصلاة والسلام- أحمد قبل أن يكون محمدا، كما وقع فى الوجود، لأن تسميته أحمد وقعت فى الكتب السالفة، وتسميته محمدا وقعت فى القرآن، وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس. انتهى. وهذا موافق لما قال السهيلى، وذكره فى فتح البارى وأقره عليه، وهو يقتضى سبقية اسمه أحمد، خلافا لما ادعاه ابن القيم «2» . وذكر ابن القيم فى اسمه «أحمد» أنه قيل فيه إنه بمعنى «مفعول» ويكون التقدير: أحمد الناس، أى أحق الناس وأولاهم أن يحمد، فيكون محمدا فى المعنى، لكن الفرق بينهما: أن محمدا هو الكثير الخصال التى يحمد عليها، وأحمد: هو الذى يحمد أفضل مما يحمد غيره، فمحمد فى الكثرة والكمية، وأحمد فى الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر مما يستحق غيره، أى أفضل حمد حمده البشر، فالاسمان واقعان على المفعول. قال: وهذا أبلغ فى مدحه وأكمل معنى، فلو أريد معنى الفاعل لسمى

_ (1) سورة الصف: 6. (2) قاله فى «زاد المعاد» (1/ 89) .

«الحماد» أى الكثير الحمد، فإنه- صلى الله عليه وسلم- كان أكثر الناس حمدا لربه، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه لكان الأولى به الحماد، كما سميت بذلك أمته. وأيضا فإن هذين الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائله المحمودة التى لأجلها استحق أن يسمى محمدا وأحمد. وقال القاضى عياض- فى باب تشريفه تعالى له- عليه الصلاة والسلام- بما سماه به من أسمائه الحسنى-: أحمد بمعنى أكبر، من حمد، وأجل: من حمد. ثم إن فى اسمه «محمد» خصائص: منها: كونه على أربعة أحرف ليوافق اسم الله تعالى اسم محمد، فإن عدد الجلالة على أربعة أحرف كمحمد. ومنها: أنه قيل: إن مما أكرم الله به الآدمى أن كانت صورته على شكل كتب هذا اللفظ، فالميم الأول رأسه، والحاء جناحاه، والميم سرته والدال رجلاه. قيل: ولا يدخل النار من يستحق دخولها- أعاذنا الله منها- إلا ممسوخ الصورة إكراما لصورة اللفظ. حكاهما ابن مرزوق، والأول: ابن العماد فى كتاب كشف الأسرار. ومنها: أنه تعالى اشتقه من اسمه «المحمود» كما قال حسان بن ثابت: أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبى إلى اسمه ... إذا قال فى الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وأخرج البخارى فى تاريخه الصغير من طريق على بن زيد قال: كان أبو طالب يقول: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفى ألف عام، كما ورد من حديث أنس بن مالك، من طريق أبى نعيم فى مناجاة موسى.

وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار قال: إن الله أنزل على آدم عصيّا بعدد الأنبياء والمرسلين. ثم أقبل على ابنه شيث فقال: أى بنى، أنت خليفتى من بعدى، فخذها بعمارة التقوى، والعروة الوثقى، وكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإنى رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش، وأنا بين الروح والطين، ثم إنى طفت السماوات فلم أر فى السماوات موضعا إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، وإن ربى أسكننى الجنة فلم أر فى الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوبا عليه، ولقد رأيت اسم محمد مكتوبا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، فأكثر ذكره فإن الملائكة تذكره فى كل ساعاتها. بدا مجده من قبل نشأة آدم ... فأسماؤه فى العرش من قبل تكتب وروينا فى جزء الحسن بن عرفة من حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم- قال: لما عرج بى إلى السماء ما مررت بسماء إلا وجدت- أى علمت- اسمى فيها مكتوبا: محمد رسول الله، وأبو بكر خلفى. ووجد على الحجارة القديمة مكتوب: محمد تقى مصلح أمين. ذكره فى الشفاء. وعلى الحجر بالخط العبرانى: باسمك اللهم، جاء الحق من ربك بلسان عربى مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكتبه موسى بن عمران. وذكره ابن ظفر فى «البشر» عن معمر عن الزهرى. وشوهد- كما ذكره فى الشفاء- فى بعض بلاد خراسان مولود ولد على أحد جنبيه مكتوب: لا إله إلا الله، وعلى الآخر: محمد رسول الله. وببلاد الهند ورد أحمر مكتوب عليه بالأبيض: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وذكر العلامة ابن مرزوق عن عبد الله بن صوحان: عصفت بنا ريح،

ونحن فى لجج بحر الهند، فأرسينا فى جزيرة، فرأينا فيها وردا أحمر زكى الرائحة طيب الشم وفيه مكتوب بالأبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ووردا أبيض مكتوب عليه بالأصفر: براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات نعيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفى تاريخ ابن العديم عن على بن عبد الله الهاشمى الرقى: أنه وجد ببعض قرى الهند وردة كبيرة طيبة الرائحة سوداء، عليها مكتوب بخط أبيض: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق. قال فشككت فى ذلك وقلت: إنه معمول، فعمدت إلى وردة لم تفتح فكان فيها مثل ذلك، وفى البلد منه شىء كثير وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، لا يعرفون الله تعالى. وقال عبد الله بن مالك: دخلت بلاد الهند، فسرت إلى مدينة يقال لها: نميلة- أو ثميلة. فرأيت شجرة كبيرة تحمل ثمرا كاللوز، له قشر. فإذا كسرت ثمرته خرج منها ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأهل الهند يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا الغيث. حكاه القاضى أبو البقاء بن الضياء فى منسكه. وفى كتاب روض الرياحين لليافعى عن بعضهم أنه وجد ببلاد الهند شجرة تحمل ثمرا كاللوز، له قشر إذا كسر خرجت منه ورقة خضراء طرية مكتوب فيها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله. كتابة جلية وهم يتبركون بها. قال: فحدثت بذلك أبا يعقوب الصباء فقال: ما استعظم هذا، كنت صيادا على نهر الأبلة فاصطدت سمكة، على جنبها الأيمن: لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر: محمد رسول الله، فلما رأيتها قذفتها فى الماء احتراما لها. وعن بعضهم- مما ذكره ابن مرزوق فى شرحه لبردة الأبوصيرى- أنه أتى بسمكة فرأى فى إحدى شحمتى أذنها لا إله إلا الله، وفى الآخرى: محمد رسول الله.

وعن جماعة: أنهم وجدوا بطيخة صفراء فيها خطوط شتى بالأبيض خلقة، ومن جملة الخطوط كتب بالعربى فى أحد جنبيها: الله، وفى الآخر: عز أحمد، بخط بين لا يشك فيه عالم بالخط. وأنه وجد سنة تسع أو قال: سنة سبع- بالموحدة- وثمانمائة حبة عنب مكتوب فيها بخط بارع بلون أسود: محمد. وفى كتاب «النطق المفهوم» لابن طغربك السياف، عن بعضهم أنه رأى فى جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة، مكتوب فيه بالحمرة والبياض فى الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله بقدرته، فى الورقة ثلاثة أسطر، الأول: لا إله إلا الله، والثانى: محمد رسول الله، والثالث: إن الدين عند الله الإسلام. قال ابن قتيبة: ومن أعلام نبوته- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يسم قبله أحد باسمه «محمد» صيانة من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بيحيى، إذ لم يجعل له من قبل سميا، وذلك أنه تعالى سماه به فى الكتب المتقدمة، وبشر به الأنبياء، فلو جعل اسمه مشتركا فيه لوقعت الشبهة، إلا أنه لما قرب زمنه وبشر أهل الكتاب بقربه سمى قوم أولادهم بذلك رجاء أن يكون هو هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته: ما كل من زار الحمى سمع الندا ... من أهله أهلا بذاك الزائر ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقد عدهم القاضى عياض: ستة، ثم قال: لا سابع لهم. وذكر أبو عبيد الله بن خالويه فى كتاب «ليس» ، والسهيلى فى «الروض» : أنه لا يعرف فى العرب من تسمى محمدا قبل النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا ثلاثة. قال الحافظ ابن حجر: وهو حصر مردود، والعجب أن السهيلى متأخر الطبقة عن عياض، ولعله لم يقف على كلامه.

قال: وقد جمعت أسماء من تسمى بذلك فى جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين، مع تكرير فى بعضهم، ووهم فى بعض، فيتلخص منهم خمسة عشر نفسا: وأشهرهم: محمد بن عدى بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمى السعدى. ومنهم: محمد بن أحيحة- بضم الهمزة وفتح المهملة- ابن الجلاح- بضم الجيم وتخفيف اللام آخره مهملة- الأوسى. ومحمد بن أسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر. ومحمد بن البراء- وقيل: البر- بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة البكرى العتوارى. ومحمد بن الحارث بن حديج بن حويص. ومحمد بن حرماز بن مالك اليعمرى. ومحمد بن حمران بن أبى حمران، ربيعة بن مالك الجعفى المعروف بالشويعر. ومحمد بن خزاعى بن علقمة بن حرابة السلمى، من بنى ذكوان. ومحمد بن خولى الهمدانى. ومحمد بن سفيان بن مجاشع. ومحمد بن اليحمد الأزدى. ومحمد بن يزيد بن عمرو بن ربيعة. ومحمد بن الأسيدى. ومحمد الفقيمى. ولم يدركوا الإسلام إلا الأول ففى سياق خبره ما يشعر بذلك، وإلا الرابع فهو صحابى جزما «1» .

_ (1) الرابع فى ترتيبه هو: محمد بن البراء الكنانى، حيث ذكره الحافظ ابن حجر فى «الإصابة» (6/ 329) .

وفيمن ذكره عياض: محمد بن مسلمة الأنصارى. وليس ذكره بجيد، فإنه ولد بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- بأزيد من عشرين سنة، لكنه قد ذكر تلو كلامه المتقدم: محمد بن محمد- الماضى- فصار من عنده ستة لا سابع لهم. انتهى. وأما اسمه- عليه الصلاة والسلام- «محمود» فاعلم أن من أسماء الله تعالى الحميد، ومعناه: المحمود، لأنه تعالى حمد نفسه، وحمده عباده، وقد سمى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بمحمود، وكذا وقع اسمه فى زبور داود. وأما «الماحى» ففسر فى الحديث بمحو الكفر، ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محى بالنبى- صلى الله عليه وسلم-، فإنه بعث وأهل الأرض كلهم كفار، ما بين عابد أوثان ويهود ونصارى ضالين وصابئة ودهرية لا يعرفون ربا ولا معادا، وبين عباد الكواكب وعباد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرون بها، فمحاها برسوله، حتى أظهر دينه على كل دين، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار، وسارت دعوته مسير الشمس فى الأقطار، ولما كانت البحار هى الماحية للأدران كان اسمه- عليه الصلاة والسلام- فيها الماحى. وأما «الحاشر» ففسر أيضا فى الحديث بأنه الذى يحشر الناس على قدمه، أى يقدمهم وهم خلفه، وقيل على سابقته، وقيل: قدامه وحوله، أى يجتمعون إليه فى القيامة. وقد كان حشره لأهل الكتاب: إخراجه لهم من حصونهم وبلادهم. من دار هجرته إلى حيث أذاقهم الله من شدة الحشر ما شاء فى دار الدنيا إلى ما اتصل لهم بذلك فى برزخهم. وهو أول من تنشق عنه الأرض فيحشر الناس على أثره، وإليه يلجئون فى محشرهم، وقيل: على سببه. وأما «العاقب» فهو الذى جاء عقب الأنبياء، فليس بعده نبى، لأن العاقب هو الآخر، أى: عقب الأنبياء، وقيل: وهو اسمه- عليه الصلاة والسلام- فى النار، فإذا جاء- لحرمة شفاعته- خمدت النار وسكنت، كما روى أن قوما من حملة القرآن يدخلونها فينسيهم الله تعالى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم- حتى يذكرهم جبريل، فيذكرونه فتخمد النار وتنزوى عنهم.

وأما «المقفى» فكذلك، أى: قفا آثار من سبقه من الرسل، وهى لفظة مشتقة من «القفو» يقال: قفاه يقفوه إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس، وقافية البيت، فالمقفى المقفى: الذى قفا من قبله من الرسل فكان خاتمهم وآخرهم. وأما «الأول» فلأنه أول النبيين خلقا- كما مر- وكما أنه أول فى البدء فهو أول فى العود، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة، وهو أول شافع وأول مشفع، كما كان فى أوليات البدء فى عالم الذر أول مجيب، إذ هو أول من قال: بلى، إذ أخذ ربه الميثاق على الذرية الآدمية، فأشهدهم على أنفسهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «1» فهو- صلى الله عليه وسلم- الأول فى ذلك كله على الإطلاق. وأما «الآخر» فلأنه آخر الأنبياء فى البعث كما فى الحديث. وأما «الظاهر» فلأنه ظهر على جميع الظاهرات ظهوره، وظهر على الأديان دينه، فهو الظاهر فى وجوه الظهور كلها. وأما «الباطن» فهو المطلع على بواطن الأمور بواسطة ما يوحيه الله تعالى إليه. وأما «الفاتح الخاتم» ففى حديث الإسراء عن أبى هريرة من طريق الربيع ابن أنس قوله تعالى له: «وجعلتك فاتحا وخاتما» . وفى حديث أبى هريرة رضى الله عنه- أيضا وفى الإسراء، قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وجعلنى فاتحا وخاتما» «2» . فهو الذى فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجّا، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا، وفتح أمصار الكفر، وفتح به أبواب الجنة، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح، والدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار والإبصار.

_ (1) سورة الأعراف: 172. (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 69) ضمن حديث طويل جدّا وقال رواه البزار ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبى العالية أو غيره فتابعيه مجهول.

وقد يكون المراد: المبدأ المقدم فى الأنبياء، والخاتم لهم، كما قال- عليه الصلاة والسلام-: «كنت أول النبيين فى الخلق وآخرهم فى البعث» «1» . وأما «الرؤف الرحيم» ففى القرآن لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «2» وهو فعول من الرأفة، وهى أرق من الرحمة، قاله أبو عبيدة، والرحيم فعيل من الرحمة، وقيل رؤف بالمطيعين رحيم بالمذنبين. وأما «الحق المبين» فقال تعالى: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ «3» . وقال تعالى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ «4» . وقال تعالى: قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ «5» . وقال تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ «6» . قيل [المراد] : محمد- عليه السّلام-، وقيل القرآن، ومعناه هنا ضد الباطل، والمتحقق صدقه وأمره، والمبين البين أمره ورسالته، أو المبين عن الله ما بعثه به، كما قال تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «7» . وأما «المؤمن» فقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «8» . أى يصدق، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أمنة لأصحابى» «9» فهذا بمعنى المؤمن. وأما «المهيمن» فقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ

_ (1) لم أجده. (2) سورة التوبة: 128. (3) سورة الزخرف: 29. (4) سورة الحجر: 89. (5) سورة يونس: 108. (6) سورة الأنعام: 5. (7) سورة النحل: 44. (8) سورة التوبة: 61. (9) صحيح: أخرجه مسلم (2531) فى فضائل الصحابة، باب: بيان أن بقاء النبى- صلى الله عليه وسلم- أمان لأصحابه، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-.

يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «1» . قال ابن الجوزى فى زاد المسير- إن ابن نجيح روى عن مجاهد (ومهيمنا عليه) قال: محمد مؤتمن على القرآن، قال: فعلى قوله فى الكلام تقدير محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه، وسماه العباس بن عبد المطلب فى شعره مهيمنا فى قوله: حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق وروى: ثم اغتدى بيتك المهيمن، قيل أراد: يا أيها المهيمن، القتبى والإمام أبو القاسم القشيرى. وأما «العزيز» فمعناه: جلالة القدر، أو الذى لا نظير له، أو المعز لغيره، وقد استدل القاضى عياض لهذا الاسم بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ «2» . أى فجائز أن يوصف النبى- صلى الله عليه وسلم- بالعزيز والمعز، لحصول العز له. ولقائل أن يقول: هذا اللفظ أيضا للمؤمنين لشمول العطف إياهم، فلا اختصاص للنبى- صلى الله عليه وسلم-، والغرض اختصاصه، قال اليمنى: وعجبت من القاضى كيف خفى عليه مثل هذا: ويجاب: باختصاصه- عليه الصلاة والسلام- برتبة من العزة ليست لغيره والله أعلم. وأما «العالم» و «العليم» و «العلم» و «معلم أمته» فقد قال تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ «3» . وقال: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ «4» . وأما «الخبير» فمعناه: المطلع على كنه الشىء، العالم بحقيقته، وقيل: المخبر، قال الله تعالى: الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «5» . قال القاضى بكر بن العلاء فيما ذكره فى الشفاء-: المأمور بالسؤال غير النبى- صلى الله عليه وسلم-، والمسئول

_ (1) سورة المائدة: 48. (2) سورة المنافقون: 8. (3) سورة النساء: 113. (4) سورة البقرة: 151. (5) سورة الفرقان: 59.

الخبير هو النبى- صلى الله عليه وسلم-. وقال غيره: بل السائل النبى- صلى الله عليه وسلم- والمسئول الله عز وجل، فالنبى- صلى الله عليه وسلم- خبير بالوجهين المذكورين، قيل لأنه- عليه الصلاة والسلام- عالم على غاية من العلم بما أعلمه الله من مكنون علمه، وعظيم معرفته، مخبر لأمته بما أذن فى إعلامهم به. انتهى. وأما «العظيم» فقال الله تعالى فى شأنه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» . ووقع فى أول سفر من التوراة عن إسماعيل: وسيلد عظيما لأمة عظيمة. فهو صلى الله عليه وسلم- عظيم وعلى خلق عظيم. وأما «الشاكر» و «الشكور» فقد وصف- صلى الله عليه وسلم- نفسه بذلك فقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» أى: أأترك تهجدى فلا أكون عبدا شكورا؟! والمعنى: أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا، فكيف أتركه؟ وعلى هذا فتكون «الفاء» للسببية. وقال القاضى عياض: شكورا أى: معترفا بنعم ربى، عالما بقدر ذلك، مثنيا عليه، مجهدا نفسى فى الزيادة من ذلك، لقوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «2» . وأما «الشكار» فهو أبلغ من شاكر، وفى حديث ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم- كان من دعائه: «رب اجعلنى لك شكارا» «3» . وأما «الكريم» و «الأكرام» و «أكرم ولد آدم» فسماه الله تعالى به فى قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ «4» . أي محمد- صلى الله عليه وسلم-، وليس المراد به جبريل، لأنه تعالى لما قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذكر بعده أنه ليس بقول

_ (1) سورة القلم: 4. (2) سورة إبراهيم: 7. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (3551) فى الدعوات، باب: فى دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى فى «الكبرى» (10443) ، وابن ماجه (3830) فى الدعاء، باب: دعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وابن حبان فى «صحيحه» (948) ، والحاكم فى «مستدركه» (1/ 170) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) سورة الحاقة: 40.

شاعر ولا كاهن، والمشركون لم يكونوا يصفوا جبريل بذلك، فتعين أن يكون المراد بالرسول الكريم هنا محمدا- صلى الله عليه وسلم-، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى- بيانه فى مقصد آى التنزيل. وقال- عليه السّلام-: «أنا أكرم ولد آدم» «1» . وأما «الولى» و «المولى» فقال- عليه الصلاة والسلام-: «أنا ولى كل مؤمن» «2» . وأما «الأمين» فقد كان- عليه الصلاة والسلام- يعرف به، وشهر به قبل النبوة وبعدها، وهو أحق العالمين بهذا الاسم، فهو أمين على وحيه ودينه، وهو أمين من فى السماء والأرض. وأما «الصادق» و «المصدوق» فقد ورد فى الحديث تسميته بهما، ومعناهما غير خفى، وكذلك «الأصدق» . وروى أنه- عليه الصلاة والسلام- لما كذبه قومه حزن فقال له جبريل: إنهم يعلمون أنك صادق. وأما «الطيب» و «ماذ ماذ» - بميم ثم ألف ثم ذال معجمة منونة، ثم ميم ثم ألف ثم ذال معجمة- كذا رأيته لبعض العلماء، ونقل العلامة الحجازى فى حاشيته على الشفاء عن السهيلى: ضم الميم وإشمام الهمزة ضمة بين الواو والألف ممدود، وقال: نقلته عن رجل أسلم من علماء بنى إسرائيل، وقال معناه: طيب طيب، ولا ريب أنه- صلى الله عليه وسلم- أطيب الطيبين، وحسبك أنه كان يؤخذ من عرقه ليتطيب به، فهو- صلى الله عليه وسلم- طيب الله الذى نفحه فى الوجود، فتعطرت به الكائنات وسمت، واغتذت به القلوب فطابت، وتنسمت به الأرواح فنمت. وأما «الطاهر» و «المطهر» و «المقدس» أى المطهر من الذنوب، كما قال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «3» . أو الذى يتطهر به من

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3610) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-، إلا أن إسناده ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (5/ 166) من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-. (3) سورة الفتح: 2.

الذنوب، ويتنزه بأتباعه عنها، كما قال الله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ «1» وقال: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «2» أو يكون مقدسا بمعنى مطهرا من الأخلاق الذميمة والأوصاف الدنية. وأما «العفو» و «الصفوح» فمعناهما واحد، وقد وصفه الله تعالى بهما فى القرآن والتوراة والإنجيل، كما فى حديث عبد الله بن عمرو بن العاصى عند البخارى (ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح) وأمره تعالى بالعفو فقال: خُذِ الْعَفْوَ «3» وقال: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ «4» . وأما «العطوف» فهو الشفوق، وسمى به- عليه الصلاة والسلام- لكثرة شفقته على أمته، ورأفته بهم. وأما «النور» فقال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ «5» قيل: محمد صلى الله عليه وسلم- وقيل القرآن، فهو نور الله الذى لا يطفأ. وأما «السراج» فسماه الله تعالى به فى قوله: وَسِراجاً مُنِيراً «6» . لوضوح أمره، وبيان نبوته، وتنوير قلوب المؤمنين والعارفين بما جاء به، فهو نيّر فى ذاته منير لغيره، فهو السراج الكامل فى الإضاءة، ولم يوصف بالوهاج كالشمس، لأن المنير الذى ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج. وأما «الهادى» فبمعنى الدلالة والدعاء، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «7» وقال تعالى فيه: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ «8» .

_ (1) سورة البقرة: 129. (2) سورة المائدة: 16. (3) سورة الأعراف: 199. (4) سورة المائدة: 13. (5) سورة المائدة: 15. (6) سورة الأحزاب: 46. (7) سورة الشورى: 52. (8) سورة الأحزاب: 46.

وأما «البرهان» فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ «1» قيل: هو محمد- صلى الله عليه وسلم-، وقيل معجزاته وقيل القرآن. وأما «النقيب» فروى أنه- صلى الله عليه وسلم- لما مات نقيب بنى النجار أبو أمامة أسعد بن زرارة وجد عليه- صلى الله عليه وسلم- ولم يجعل عليهم نقيبا بعده، وقال: أنا نقيبكم فكانت من مفاخرهم، والنقيب هو شاهد القوم وناظرهم وضمينهم. وأما «الجبار» فسمى به فى مزامير داود، فى قوله فى مزمور أربعة وأربعين. تقلد أيها الجبار سيفك، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، لأنه الجبار الذى جبر الخلق بالسيف على الحق، وصرفهم عن الكفر جبرا، قال القاضى عياض: وقد نفى الله تعالى عنه جبرية التكبر التى لا تليق به فقال: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ «2» . وأما «الشاهد» و «الشهيد» فسماه الله بهما فى قوله: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً «3» أى على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم، ونجاتهم وضلالهم. وقوله: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «4» روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالبهم الله ببينة التبليغ- وهو أعلم بهم- إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتى بأمة محمد- صلى الله عليه وسلم- فيشهدون، فتقول الأمم: من أين عرفتهم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله فى كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد- صلى الله عليه وسلم- فيسأل عن حال أمته، فيشهد بعدالتهم، وهذه الشهادة وإن كانت لهم لما كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمته عدى ب «على» وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم. قاله البيضاوى.

_ (1) سورة النساء: 174. (2) سورة ق: 45. (3) سورة الأحزاب: 45. (4) سورة البقرة: 143.

وأما «الناشر» فسمى به لأنه نشر الإسلام وأظهر شرائع الأحكام. وأما «المزمل» فأصله المتزمل، فأدغمت التاء فى الزاى وسمى به، لما روى أنه- عليه الصلاة والسلام- كان يفرق من جبريل ويتزمل بالثياب أول ما جاءه، وقيل: أتاه وهو فى قطيفة، وقال السدى معناه، يا أيها النائم، قال: وكان متلفقا فى ثياب نومه، وعن ابن عباس: يعنى المتزمل بالقرآن، وعن عكرمة بالنبوة. وقيل من الزمل، بمعنى الحمل، ومنه الزاملة، أى: المتحمل بأعباء النبوة، وعلى هذا يكون التزمل مجازا. وقال السهيلى: ليس «المزمل» باسم من أسمائه يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التى كان التبس بها حالة الخطاب، والعرب إذا قصدت الملاطفة، بالمخاطب بترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التى هو عليها، كقول النبى- صلى الله عليه وسلم- لعلى- رضى الله عنه- وقد نام ولصق جنبه بالتراب- قم أبا تراب إشعارا بأنه ملاطف له، فقوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «1» فيه تأنيس وملاطفة. وأما ما روى عن عائشة أنها قالت: كان متزملا مرطا طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه على وأنا نائمة ونصفه عليه، فكذب صراح، لأن نزول يا أيها المزمل بمكة فى أول مبعثه، ودخوله بعائشة كان بالمدينة. وأما «المدثر» فأصله: المتدثر، فأدغمت التاء فى الدال. روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يمينى وشمالى. فلم أر شيئا فنظرت فوقى فإذا هو على عرش بين السماء والأرض» - يعنى الملك الذى ناداه- «فرعبت فرجعت إلى خديجة فقلت دثرونى دثرونى» ، فنزل جبريل وقال: يا أيها المدثر «2» . وعن عكرمة: يا أيها المدثر بالنبوة وأثقالها قد تدثرت هذا الأمر فقم به.

_ (1) سورة المزمل: 1. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4922) فى التفسير، باب: سورة المدثر، ومسلم (161) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث جابر- رضى الله عنه-.

وقيل: ناداه بالمزمل والمدثر فى أول أمره، فلما شرع خاطبه الله تعالى بالنبوة والرسالة. وأما «طّه» فروى النقاش «1» عنه- عليه الصلاة والسلام-: لى فى القرآن سبعة أسماء فذكر منها طّه. وقيل: هو اسم الله، وقيل معناه: يا رجل، وقيل: يا إنسان. وقيل: يا طاهر يا هادى يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو مروى عن الواسطى، وقيل معناه: يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادى الخلق إلى الملة، وقيل: الطاء فى الحساب بتسعة والهاء بخمسة وذلك أربعة عشر فكأنه قال: يا بدر، وهذه من محاسن التأويل، لكن المعتمد أنهما من أسماء الحروف. وأما «يس» فحكى أبو محمد مكى أنه روى عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لى عند ربى عشرة أسماء ذكر منها «يس» . وقد قيل معناه: يا إنسان بلغة طىء، وقيل بالحبشية، وقيل بالسريانية، وأصله كما قاله البيضاوى وابن الخطيب وغيرهما: يا أنيسين: فاقتصر على شطره لكثرة النداء به وقيل ياسين. لكن تعقب بأنه لا يعلم أن العرب قالوا فى تصغيره أنيسين، وأن الذى نقل عنهم فى تصغيره أنيسيان، بياء بعدها ألف، وبأن التصغير من التحقير الممتنع فى حق النبوة لنصهم على أن التصغير لا يدخل فى الأسماء المعظمة شرعا. ويأتى مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى فى الفصل الرابع من النوع الخامس من أنواع المقصد السادس. وعن ابن الحنفية: معناه يا محمد، وعن أبى العالية: يا رجل، وعن أبى بكر الوراق: يا سيد البشر، وعن جعفر الصادق: يا سيد مخاطبة له- عليه الصلاة والسلام-، وفيه من تعظيمه على تفسير أنه يا سيد ما فيه. وأما «الفجر» فقال ابن عطاء فى قوله تعالى: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ «2» الفجر محمد- صلى الله عليه وسلم-، لأن منه تفجر الإيمان.

_ (1) تقدم القول فيه، أنه ضعيف الحديث، وإن كان إماما فى القراآت. (2) سورة الفجر: 1، 2.

وهو تأويل غريب لم ير لغيره، والصواب أنه الفجر المفسر بالصبح فى قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ «1» . وأما «القوى» فقال الله تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «2» قيل محمد، وقيل جبريل- عليهما الصلاة والسلام-، وسيأتى فى المقصد السادس ما فى ذلك. وأما ما قاله ابن عطاء فى قوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «3» أقسم بقوة قلب حبيبه محمد- صلى الله عليه وسلم- حيث حمل الخطاب والمشاهدة ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله، فلا يخفى ما فيه. وأما «النجم» فعن جعفر بن محمد بن الحسين فى تفسير قوله تعالى: وَالنَّجْمِ «4» أنه محمد- صلى الله عليه وسلم- إِذا هَوى إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وحكى السلمى فى قوله: تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ «5» أن النجم هنا أيضا محمد- صلى الله عليه وسلم-. والصحيح: أن المراد به النجم على ظاهره، وسمى به- عليه السّلام- لأنه يهتدى به فى طرق الهدى كما يهتدى بالنجم. وأما «الشمس» فسمى بها- صلى الله عليه وسلم- لكثرة نفعه، وعلو رفعته، وظهور شريعته، وجلالة قدره وعظم منزلته، لأنه لا يحاط بكماله، حتى لا يسع الرائى له أن ينظر إليه ملء عينيه إجلالا له، كما أن الشمس فى الرتبة أرفع من غالب الكواكب لأنها فى السماء السادسة والانتفاع بها أكثر من غيرها، كما لا يخفى، ولا يدركها البصر لكبر جرمها، وأيضا فلما كان سائر

_ (1) سورة التكوير: 18. (2) سورة التكوير: 20. (3) سورة ق: 1. (4) سورة النجم: 1. (5) سورة الطارق: 1- 3.

الكواكب تستمد من نورها ناسب تسميته- عليه الصلاة والسلام- بها، لأن نور الأنبياء مستمد من نوره «1» . وأما «النبى» و «الرسول» فمن خصائصه- عليه الصلاة والسلام- أنه خاطبه تعالى بهما فى القرآن دون سائر أنبيائه. ثم إن النبوءة بالهمز مأخوذة من النبأ، وهو الخبر، وقد لا يهمز تسهيلا. أى أن الله أطلعه على غيبه وأعلمه أنه نبيه، فيكون نبيّا منبأ، أو يكون مخبرا عما بعثه الله به ومنبئا بما أطلعه الله عليه. وبغير الهمزة يكون مشتقّا من النبوة وهو ما ارتفع من الأرض، أى أن له رتبة شريفة ومكانة عند الله منيفة. قال الشيخ بدر الدين الزركشى فى شرح البردة. وكان نافع يقرأ: النبىء- بالهمز- فى جميع القرآن. والاختيار تركه. وهو لغة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقد جاء فى الحديث أن رجلا قال: يا نبىء الله- يعنى بالهمز- فقال له: «لست نبىء الله، ولكنى نبى الله» «2» فأنكر الهمز لأنه لم يكن من لغته- عليه الصلاة والسلام-. وقال الجوهرى والصاغانى: إنما أنكر لأن الأعرابى أراد: يا من خرج من مكة إلى المدينة، يقال: نبأت من أرض إلى أرض إذا خرجت منها إلى أخرى. وتكلم جماعة من القراء فى هذا الحديث: وقد رواه الحاكم فى المستدرك عن أبى الأسود عن أبى ذر، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وفيما قاله نظر فإن فيه حسينا الجعفى، كذا قاله بعضهم وليس من شرطهما. ورواه أبو عبيد: حدثنا محمد بن سعد عن حمزة الزيات عن حمران بن أعين أن رجلا ... الحديث، وهذا منقطع. انتهى. والرسول: إنسان بعثه الله إلى الخلق بشريعة مجددة يدعو الناس إليها.

_ (1) قلت: فى هذا الكلام نظر، وبخاصة أن هذا الاسم لم يثبت أصلا. (2) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 251) ، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-، وصححه، إلا أن الحافظ الذهبى تعقبه قائلا: بل منكر لم يصح.

واختلف هل هما بمعنى أو بمعنيين؟ فقال بالأول قوم مستدلين بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ «1» فأثبت لهما معا الإرسال. وعلى هذا فلا يكون النبى إلا رسولا، ولا الرسول إلا نبيّا. وقال آخرون بالثانى: وأنهما يجتمعان فى النبوة التى هى الاطلاع على الغيب والإعلام بخواص النبوة أو الرفعة بمعرفة ذلك وحوز درجتها، وافترقا فى زيادة الإرسال. وحجتهم من الآية نفسها: التفريق بين الاسمين، إذ لو كانا شيئا واحدا لما حسن تكرارهما فى الكلام البليغ، ويكون المعنى: وما أرسلنا من نبى إلى أمة، أو نبى ليس بمرسل إلى أحد. وذهب آخرون: إلى أن الرسول: من جاء بشرع مبتدأ، ومن لم يأت به نبى غير رسول وإن أمر بالإبلاغ والإنذار. والصحيح: أن كل رسول نبى، وليس كل نبى رسولا. نعم نوزع فى هذا بأنه كلام يطلقه من لا تحقيق عنده، فإن جبريل عليه الصلاة والسلام- رسول، وغيره من الملائكة المكرمين بالرسالة رسل لا أنبياء. فالانفصال عنه: بأن يقيد الفرق بين الرسول والنبى، بالرسول البشرى. ثم إن النبوة والرسالة ليستا ذاتا للنبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا وصف ذات بل تخصيص الله إياه بذلك خلافا للكرامية. وقال القرافى، كما نقله عنه ابن مرزوق: يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحى، وهو باطل، لحصوله لمن ليس بنبى كمريم وليست نبية على الصحيح، مع أنه تعالى يقول: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا «2» الآية، وأَنَّ اللَّهَ

_ (1) سورة الحج: 52. (2) سورة مريم: 17.

يُبَشِّرُكَ «1» وفى مسلم: بعث الله تعالى ملكا لرجل على مدرجته وكان خرج فى زيارة أخ له فى الله تعالى، وقال له: إن الله يعلمك أنه يحبك لحبك لأخيك فى الله «2» وليس بنبوة، لأنها عند المحققين: إيحاء الله لبعض بحكم إنسانى يختص به كقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «3» فهذا تكليف يختص به فى الوقت، فهذه نبوة لا رسالة، فلما نزل قُمْ فَأَنْذِرْ «4» كانت رسالة لتعلق هذا التكليف بغيره أيضا، فالنبى كلف بما يخص به، والرسول بذلك، وتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقا، انتهى. وهل نبينا- صلى الله عليه وسلم- رسول الآن؟ قال أبو الحسن الأشعرى «5» : هو صلى الله عليه وسلم- فى حكم الرسالة، وحكم الشىء يقوم مقام أصل الشىء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح، ويأتى لذلك مزيد بيان- إن شاء الله تعالى-. وأما «المذكر» فقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ «6» . وأما «البشير» و «المبشر» و «النذير» و «المنذر» فقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً «7» أى مبشرا لأهل طاعته بالثواب، وقيل بالمغفرة، ونذيرا لأهل معصيته بالعذاب، وقيل: محذرا من الضلالات.

_ (1) سورة آل عمران: 45. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2567) فى البر والصلة، باب: فى فضائل الحب فى الله، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) سورة العلق: 1. (4) سورة المدثر: 2. (5) هو: إمام المتكلمين، أبو الحسن، على بن إسماعيل بن أبى بشر الأشعرى اليمانى البصرى، كان معتزليّا، فلما برع فيه، كرهه وتبرأ منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة ويهتك عوراتهم، فعرف بمذهبه، ثم كان فى آخر حياته على عقيدة أهل السنة والجماعة حتى مات عليها سنة (324 هـ) . (6) سورة الغاشية: 21. (7) سورة الأحزاب: 45.

وأما «المبلغ» فقال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «1» . وأما «الحنيف» فقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً «2» كذا قاله بعضهم. وأما «نبى التوبة» فلأن الأمم رجعت لهدايته- عليه السّلام- بعد ما تفرقت بها الطرق إلى الصراط المستقيم. وأما «رسول الرحمة» و «نبى الرحمة» و «نبى المرحمة» فقال الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «3» وقال تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «4» . فبعثه تعالى رحمة لأمته، ورحمة للعالمين وروى البيهقى مرفوعا «إنما أنا رحمة مهداة» «5» فرحم الله تعالى به الخلق مؤمنهم وكافرهم، وهذا الاسم من أخص أسمائه. وقد كان حظ آدم من رحمته سجود الملائكة له تعظيما إذ كان فى صلبه، ونوح: خروجه من السفينة سالما، وإبراهيم: كانت النار عليه بردا وسلاما إذ كان فى صلبه، فرحمته- عليه الصلاة والسلام- فى البدء والختام والدوام لما أبقى الله له من دعوة الشفاعة، ولما كانت نبوته رحمة دائمة مكرّرة مضاعفة اشتق له من الرحمة اسم الرحمة. وأما «نبى الملحمة والملاحم» وهى الحروب، فإشارة إلى ما بعث به من القتال والسيف، ولم يجاهد نبى وأمته قط ما جاهد- صلى الله عليه وسلم- وأمته، والملاحم التى وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يعهد مثلها قبله، فإن أمته يقاتلون الكفار فى الأقطار على تعاقب الأعصار حتى يقاتلون الأعور الدجال.

_ (1) سورة المائدة: 67. (2) سورة الروم: 30. (3) سورة الأنبياء: 107. (4) سورة التوبة: 128. (5) صحيح: أخرجه ابن سعد، والحكيم عن أبى صالح مرسلا، والحاكم فى المستدرك عنه [أى عن أبى صالح] عن أبى هريرة كما فى «صحيح الجامع» (2345) .

وأما «صاحب القضيب» فهو السيف، كما وقع مفسرا به فى الإنجيل فال: معه قضيب من حديد يقاتل به، وأمته كذلك. وقد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذى كان يمسكه. وأما «صاحب الهراوة» فهى فى اللغة: العصا، وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يمسك فى يده القضيب كثيرا، وكان يمشى بين يديه بالعصا، وتغرز له فى الأرض فيصلى إليها، قال القاضى عياض: وأراها العصا المذكورة فى حديث الحوض: أذود الناس عنه بعصاى لأهل اليمن «1» . أى لأجلهم ليتقدموا، فلما كان- صلى الله عليه وسلم- راعيا للخلق سائقا لجميعهم إلى مواردهم كان صاحب الهراوة يرعى بها أهل الطواعية، وصاحب السيف يقد به من لا تزيده الحياة إلا شرّا. وأما «الضحاك» - بالمعجمة- فهو الذى يسيل دماء العدو فى الحروب لشجاعته «2» . وأما «صاحب التاج» فالمراد به العمامة، ولم تكن حينئذ إلا للعرب، والعمائم تيجانها. وأما «صاحب المغفر» فهو- بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء- زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، كان- صلى الله عليه وسلم- يلبسه فى حروبه. وأما «قدم صدق» فقال قتادة والحسن وزيد بن أسلم فى قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ «3» هو محمد- صلى الله عليه وسلم- يشفع لهم، وعن أبى سعيد الخدرى: هى شفاعة نبيهم محمد- صلى الله عليه وسلم- هو شفيع صدق عند ربهم، وعن سهل بن عبد الله: هى سابقة رحمة أودعها فى محمد- صلى الله عليه وسلم-.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2301) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا- صلى الله عليه وسلم- وصفاته، من حديث ثوبان- رضى الله عنه-. (2) قلت: وهو معنى بعيد، ولماذا لا يكون بمعنى الضحك فى وجوه المؤمنين، غير عابس لهم، ولا مقطب ولا غضوب، ولا فظ، كما قال ذلك ابن القيم فى «زاد المعاد» (1/ 96) . (3) سورة يونس: 2.

وأما «نعمة الله» فقال سهل فى قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» قال: نعمته بمحمد- صلى الله عليه وسلم-، وقال: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها «2» . يعنى يعرفون أن محمدا نبى ثم يكذبونه، وهذا مروى عن مجاهد والسدى وقال به الزجاج «3» . وأما «الصراط المستقيم» فقال أبو العالية والحسن البصرى فى تفسير سورة الفاتحة: هو رسول الله وخيار أهل بيته وأصحابه. حكى الماوردى ذلك فى تفسير صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «4» عن عبد الرحمن بن زيد. وأما «العروة الوثقى» فحكى أبو عبد الرحمن السلمى عن بعضهم فى تفسير قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى «5» الآية، أنه محمد- صلى الله عليه وسلم-. وأما «ركن المتواضعين» فلأنه عمادهم، وقد ظهر عليه- صلى الله عليه وسلم- من التواضع ما لم يظهر على غيره، فكان يرقع القميص، ويخصف النعل، ويقم البيت. ووقع فيما ترجموه من كتاب شعياء مما يدل صريحا فى البشارة برسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ولا يميل إلى الهوى، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة بل يقوى الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذى لا يطفأ. وأما «قثم» و «قثوم» - بالقاف والمثلاثة- ففسره القاضى عياض بالجامع للخير، وقال ابن الجوزى مشتق من القثم، وهو الإعطاء يقال: قثم له من العطاء يقثم، إذا أعطاه، وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق ندى وأسخاهم يدا.

_ (1) سورة النحل: 18. (2) سورة النحل: 83. (3) هو: نحوى زمانه، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن السّرى الزجاج البغدادى، له «معانى القرآن» وغير ذلك، مات سنة (311 هـ) . (4) سورة الفاتحة: 6. (5) سورة البقرة: 256.

وأما «البارقليط» و «الفارقليط» - بالموحدة. وبالفاء بدلها، وفتح الراء والقاف. وبسكون الراء مع فتح القاف. وفتح الراء مع سكون القاف. وبكسر الراء وسكون القاف غير منصرف للعجمة والعلمية- فوقع فى إنجيل يوحنا، ومعناه: روح الحق. وقال ثعلب «1» الذى يفرق بين الحق والباطل، وفى نهاية ابن الأثير، فى صفته- عليه السّلام-، أن اسمه فى الكتب السالفة «فارق ليطا» أى يفرق بين الحق والباطل، قال: ومنه الحديث: محمد فرق بين الناس، أى يفرق بين المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه. وأما «حمطايا» - فبفتح الحاء المهملة وسكون الميم- قال الهروى: أى حامى الحرم، وقال ابن الأثير فى حديث كعب أنه قال فى أسماء النبى صلى الله عليه وسلم- فى الكتب السالفة: محمد وأحمد وحمياطا- يعنى بالحاء المهملة ثم ميم ساكنة فمثناة تحتية فألف فطاء مهملة فألف-. قال أبو عمرو: سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال: معناه يحمى الحرم من الحرام، ويوطئ الحلال. وأما «أحيد» - وهو بهمزة مضمومة ثم حاء مهملة مكسورة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم دال مهملة. كذا وجدته فى بعض نسخ الشفاء المعتمدة. والمشهور ضبطه بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وبفتح المثناة التحتية، وفى نسخة بفتحها وكسر الحاء وسكون المثناة- فقال النووى فى كتابه تهذيب الأسماء واللغات: عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اسمى فى القرآن محمد، وفى الإنجيل أحمد، وفى التوراة أحيد، وإنما سميت أحيد لأنى أحيد عن أمتى نار جهنم» «2» . وأما «المنحمنا» وهو بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء المهملة وكسر الميم وتشديد النون الثانية المفتوحة، مقصور، وضبطه بعضهم بفتح الميمين، فمعناه بالسريانية محمد.

_ (1) هو: إمام النحو، أبو العباس، أحمد بن يحيى بن يزيد الشيبانى، مولاهم البغدادى، صاحب «الفصيح والتصانيف» ، مات سنة (291 هـ) . (2) موضوع: انظر «تذكرة الموضوعات» للفتنى (86) و «الفوائد المجموعة» للشوكانى (359) .

وأما «المشفح» - وهو بضم الميم وبالشين المعجمة وبالفاء المشددة المفتوحتين ثم حاء مهملة، وروى بالقاف بدل الفاء- ففى كتاب شعيا فى البشارة به- عليه السّلام-: يفتح العيون العور، والآذان الصم ويحيى القلوب، وما أعطيه لا أعطيه أحدا، مشفع يحمد الله حمدا جديدا، وهو بلغتهم السريانية الحمد. وأما «مقيم السنة» ففى كتاب الشفاء: قال داود- عليه الصلاة والسلام-: اللهم ابعث لنا محمدا يقيم السنة بعد الفترة. وأما «المبارك» فمبدأ الكون ونماؤه كائن من بركته المستمدة من بركة الله، ومن كمال بركته نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل ببركته حتى أشبع الجيش الكثير، وغير ذلك مما لمسه أو باشره، كما سيأتى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد معجزاته. وأما «المكين» فهو- صلى الله عليه وسلم- المكين بعلو مكانته عند ربه تعالى، ومن ذلك أن قرن سبحانه ذكره بذكره فما أذن باسم أحد سواه، ولا قرن اسم أحد مع اسمه إلا إياه، فأعلن له فى السابقة على ساق العرش وأذن به فى اللاحقة على منار الإيمان. وأما «الأمى» فهو من أخص أسمائه، وقال تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «1» ، فهو تعالى يقرئه ما كتبه بيده، وما خطته أقلامه العلمية فى ألواح قدسه الأقدسية، فيغنيه بذلك عن أن يقرأ ما تكتب الخلق. وأما «المكى» فقد كان بداية ظهوره- عليه الصلاة والسلام- فى الأرض فى مكة، التى هى حرم الله، وهى مدد البركة ومنشأ الهدى، فهو- صلى الله عليه وسلم- مكى الإقامة ومبدأ النبوة، ومكى الإعادة، وكان من آية ذلك توجيه لها حيثما توجه، فهو- صلى الله عليه وسلم- المكى الذى لم يبرح وجودا وقصدا، والمرء

_ (1) سورة الشورى: 52.

حيث قصده لا حيث جسمه، حتى كان من شرعه أن يوجه الميت للكعبة. ومن أومأ لشىء فهو لما أومأ إليه، ولذلك صحت الصلاة إيماء. وأما «المدنى» فلأن المدينة دار هجرته وإقامته لا رحلة له عنها، وخصت تربتها بأن ضمت أعضاءه المقدسة. وأما «عبد الكريم» فذكر الحسين بن محمد الدامغانى فى كتابه «شوق العروس وأنس النفوس» نقلا عن كعب الأحبار أنه قال: اسم النبى- صلى الله عليه وسلم- عند أهل الجنة عبد الكريم، وعند أهل النار عبد الجبار، وعند أهل العرش عبد الحميد، وعند سائر الملائكة عبد المجيد، وعند الأنبياء عبد الوهاب، وعند الشياطين عبد القهار، وعند الجن عبد الرحيم، وفى الجبال عبد الخالق، وفى البر عبد القادر وفى البحر عبد المهيمن، وعند الحيتان عبد القدوس، وعند الهوام عبد الغياث، وعند الوحوش عبد الرزاق، وعند السباع عبد السلام، وعند البهائم عبد المؤمن، وعند الطيور عبد الغفار، وفى التوراة موذ موذ، وفى الإنجيل طاب طاب، وفى الصحف عاقب، وفى الزبور فاروق، وعند الله طه ويس، وعند المؤمنين محمد- صلى الله عليه وسلم-، وكنيته أبو القاسم لأنه يقسم الجنة بين أهلها «1» . وأما «عبد الله» فسماه الله تعالى به فى أشرف مقاماته فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «2» . وقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «3» . وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «4» . فذكره بالعبودية فى مقام إنزال الكتاب عليه والتحدى بأن يأتوا بمثله. وقال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ «5» فذكره فى مقام

_ (1) لا أصل له. (2) سورة البقرة: 23. (3) سورة الفرقان: 1. (4) سورة الكهف: 1. (5) سورة الجن: 19.

الدعوة إليه، وقال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «1» ، وقال: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ «2» ولو كان له اسم أشرف منه لسماه به فى تلك الحالات العلية. ولما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، ورقاه إلى أعلى المعالى العلوية، ألزمه- تشريفا له- اسم العبودية، وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يجلس للأكل جلوس العبد، وكان يتخلى عن وجوه الترفعات كلها فى ملبسه ومأكله ومبيته ومسكنه إظهارا لظاهر العبودية فيما يناله العيان، صدقا عما فى باطنه من تحقيق العبودية لربه تحقيقا لمعنى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ «3» . ولما خير بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا، اختار أن يكون نبيّا عبدا، فاختار ما هو الأتم، وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول كما فى الصحيح: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى، ولكن قولوا عبد الله ورسوله» «4» فاستثبت ما هو ثابت له، وأسلم لله ما هو له لا لسواه، وليس للعبد إلا اسم العبد، ولذا كان «عبد الله» أحب الأسماء إلى الله تعالى.

_ (1) سورة الإسراء: 1. (2) سورة النجم: 10. (3) سورة الزمر: 33. (4) صحيح: أخرجه البخارى (3445) فى أحاديث الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، من حديث عمر- رضى الله عنه-.

الفصل الثانى فى ذكر أولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام

الفصل الثانى فى ذكر أولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام اعلم أن جملة ما اتفق عليه منهم ستة: القاسم وإبراهيم، وأربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وكلهن أدركن الإسلام وهاجرن معه. واختلف فيما سوى هؤلاء: فعند ابن إسحاق: الطاهر والطيب أيضا فتكون على هذا ثمانية، أربعة ذكور وأربع إناث. وقال الزبير بن بكار «1» : كان له- صلى الله عليه وسلم- سوى إبراهيم والقاسم عبد الله، مات صغيرا بمكة، ويقال له: الطيب والطاهر، ثلاثة أسماء. وهو قول أكثر أهل النسب، قاله أبو عمر، وقال الدار قطنى: هو الأثبت. وسمى عبد الله بالطيب والطاهر لأنه ولد بعد النبوة. فعلى هذا تكون جملتهم سبعة، ثلاثة ذكور. وقيل: عبد الله غير الطيب والطاهر، حكاه الدار قطنى وغيره. فتكون جملتهم على هذا تسعة خمسة ذكور. وقيل: كان له الطيب والمطيب، ولدا فى بطن، والطاهر والمطهر، ولدا فى بطن، ذكره صاحب الصفوة، فيكونون على هذا أحد عشر. وقيل: ولد له ولد قبل المبعث يقال له عبد مناف، فيكونون على هذا اثنى عشر. وكلهم سوى هذا ولد فى الإسلام بعد المبعث. وقال ابن إسحاق: كلهم غير إبراهيم قبل الإسلام. ومات البنون قبل الإسلام وهم يرتضعون، وقد تقدم من قول غيره أن عبد الله ولد بعد النبوة ولذلك سمى بالطيب والطاهر.

_ (1) هو: الحافظ النسابة، قاضى مكة وعالمها، أبو عبد الله بن أبى بكر، بكار بن عبد الله القرشى الأسدى الزبيرى المدنى المكى، كان عالما بالنسب وأخبار المتقدمين، مات سنة (256 هـ) .

فتحصل من جميع الأقوال ثمانية ذكور: اثنان متفق عليهما: القاسم وإبراهيم، وستة مختلف فيهم: عبد مناف، وعبد الله، والطيب والمطيب، والطاهر، والمطهر. والأصح أنهم ثلاثة ذكور والأربع بنات متفق عليهن وكلهم من خديجة بنت خويلد إلا إبراهيم. فأما القاسم فهو أول ولد ولد له- عليه الصلاة والسلام- قبل النبوة، وبه كان يكنى. وعاش حتى مشى، وقيل عاش سنتين، وقال مجاهد مكث سبع ليال، وخطأه الغلابى فى ذلك وقال: الصواب أنه عاش سبعة عشر شهرا. وقال ابن فارس: بلغ ركوب الدابة ومات قبل المبعث. وفى مستدرك الفريانى ما يدل على أنه توفى فى الإسلام. وهو أول من مات من ولده- عليه الصلاة والسلام-. وأما زينب فهى أكبر بناته بلا خلاف إلا ما لا يصح، وإنما الخلاف فيها وفى القاسم أيهما ولد أولا. وعند ابن إسحاق أنها ولدت فى سنة ثلاثين من مولد النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأدركت الإسلام، وهاجرت، وماتت سنة ثمان من الهجرة عند زوجها- وابن خالتها- أبى العاص لقيط وقيل مهشم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس. وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبى- صلى الله عليه وسلم- إليه بالنكاح الأول بعد سنتين، وقيل بعد ست سنين وقيل قبل انقضاء العدة، فيما ذكره ابن عقبة. وفى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ردها له بنكاح جديد سنة سبع. وولدت له عليّا مات صغيرا وقد ناهز الحلم، وكان رديف النبى- صلى الله عليه وسلم- على ناقته يوم الفتح، وولدت له أيضا أمامة التى حملها- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الصبح على عاتقه، وكان إذا ركع وضعها وإذا رفع رأسه من السجود أعادها «1» ، وتزوجها على بن أبى طالب بعد موت فاطمة. وأما رقية فولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولده- صلى الله عليه وسلم-. وذكر الزبير بن

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (516) فى الصلاة، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه فى الصلاة، ومسلم (543) فى المساجد، باب: جواز حمل الصبيان فى الصلاة، من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-.

بكار وغيره أنها أكبر بناته- صلى الله عليه وسلم- وصححه الجرجانى النسابة. والأصح الذى عليه الأكثرون كما تقدم، أن زينب أكبرهن. وكانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وأختها أم كلثوم تحت أخيه عتيبة، فلما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1» قال لهما أبوهما- أبو لهب- رأسى من رأسكما حرام إن لم تفارقا ابنتى محمد، ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما. فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة، وهاجر بها الهجرتين إلى أرض الحبشة، وكانت ذات جمال رائع. وذكر الدولابى أن تزويجه بها كان فى الجاهلية، وذكر غيره ما يدل على أنه كان بعد إسلامه. وتوفيت والنبى- صلى الله عليه وسلم- ببدر. وعن ابن عباس: لما عزى- صلى الله عليه وسلم- برقية قال: «الحمد لله، دفن البنات من المكرمات» «2» أخرجه الدولابى. وأما أم كلثوم فلا يعرف لها اسم، إنما تعرف بكنيتها، وكانت تحت عتيبة بن أبى لهب- كما قدمته- ففارقها قبل الدخول. ويروى أن عتيبة لما فارق أم كلثوم جاء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: كفرت بدينك، وفارقت ابنتك، لا تحبنى ولا أحبك. ثم سطا عليه وشق قميصه وهو خارج نحو الشام تاجرا. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنى أسأل الله أن يسلط عليك كلبه» وفى رواية: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال: ما كان أغناك عن دعوة ابن أخى، فخرج فى تجر من قريش حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزرقاء ليلا، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمى، وهو والله آكلى، كما دعا على محمد، أقاتلى ابن أبى كبشة وهو بمكة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد من بين القوم فأخذ برأسه ففدغه. وفى رواية: فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم، ثم ثنى ذنبه فوثب فضربه ضربة واحدة فخدشه، فقال: قتلنى ومات. وفى

_ (1) سورة المسد: 1. (2) موضوع: أخرجه الطبرانى فى الكبير عن ابن عباس كما فى «ضعيف الجامع» (2792) ، والخطيب البغدادى عن ابن عمر، كما فى «ضعيف الجامع» (2990) .

رواية: أن الأسد أقبل يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه «1» ، ذكره الدولابى. ولما توفيت رقية خطب عثمان ابنة عمر حفصة فرده «2» ، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم- فقال: يا عمر، أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك؟ قال: نعم يا نبى الله، قال: تزوجنى ابنتك، وأزواج عثمان ابنتى، خرجه الخجندى. وكان تزويج عثمان بأم كلثوم سنة ثلاث من الهجرة. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «والذى نفسى بيده لو أن عندى مائة بنت يمتن واحدة بعد واحدة، زوجتك أخرى بعد أخرى، هذا جبريل أخبرنى أن الله يأمرنى أن أزوجكها» «3» . رواه الفضائلى. وماتت أم كلثوم سنة تسع من الهجرة، وصلى عليها- صلى الله عليه وسلم- ونزل فى حفرتها على والفضل وأسامة بن زيد. وفى البخارى (جلس- صلى الله عليه وسلم- على القبر وعيناه تذرفان وقال: «هل فيكم أحد لم يقارف الليلة» فقال أبو طلحة: أنا، فقال: «انزل قبرها» فنزل) «4» . وقد روى نحو ذلك فى رقية، وهو وهم، فإنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن حال دفنها حاضرا، بل كان فى غزوة بدر كما قدمته. وغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب، وشهدت أم عطية غسلها، وروت قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن فى الآخرة كافورا، فإذا

_ (1) أخرجه ابن عساكر كما فى «كنز العمال» (35506) . (2) قلت: الذى فى الصحيح أن حفصة لما تأيمت بوفاة زوجها عرضها أبوها عمر على عثمان، وليس العكس، والخبر أخرجه البخارى (5129) فى النكاح، باب: من قال لا نكاح إلا بولى. (3) ضعيف: أخرجه ابن عساكر بنحوه كما فى «كنز العمال» (36199 و 36200) . (4) صحيح: أخرجه البخارى (1342) فى الجنائز، باب: من يدخل قبر المرأة، من حديث أنس- رضى الله عنه-، ودون تعيين اسم المتوفاة.

فرغتن فاذننى» فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حقوه وقال: «أشعرنها إياه» قالت ومشطناها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها «1» . و «الحقو» : الإزار، و «أشعرنها» أى اجعلناه شعارها الذى يلى جسدها، وذلك هو الشعار وما فوقه الدثار. وأما فاطمة الزهراء البتول فولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبى صلى الله عليه وسلم-، قاله أبو عمر، وهو مغاير لما رواه ابن إسحاق: أن أولاده- صلى الله عليه وسلم- كلهم ولدوا قبل النبوة إلا إبراهيم، وقال ابن الجوزى: ولدت قبل النبوة بخمس سنين، أيام بناء البيت. وروى مرفوعا: «إنما سميت فاطمة، لأن الله قد فطمها وذريتها عن النار يوم القيامة» أخرجه الحافظ الدمشقى. وروى الغسانى والخطيب مرفوعا: «لأن الله فطمها ومحبيها عن النار» «2» . وسميت بتولا لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله، قاله ابن الأثير. وتزوجت بعلى بن أبى طالب فى السنة الثانية، وقيل بعد أحد، وقيل بعد بنائه- عليه السّلام- بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف، وقيل فى صفر فى السنة الثانية، وبنى بها فى ذى الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا. وكان تزويجها بأمر الله ووحيه. وتزوجت ولها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف ولعلى إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر، وقيل غير ذلك. وتقدم مزيد لذلك فى المغازى والسير من المقصد الأول.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1253) فى الجنائز، باب: غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر، ومسلم (939) فى الجنائز، باب: فى غسل الميت. (2) موضوع: أخرجه الخطيب البغدادى عن ابن عباس كما فى «كنز العمال» (34226) ، والديلمى عن أبى هريرة، كما فى «كنز العمال» (34227) ، وانظر «الموضوعات» لابن الجوزى (1/ 421) .

قال أبو عمر: وفاطمة وأم كلثوم أفضل بنات النبى- صلى الله عليه وسلم-، وكانت فاطمة أحب أهله إليه- صلى الله عليه وسلم-، وكان يقبلها فى فيها ويمصها لسانه، وإذا أراد سفرا يكون آخر عهده بها، وإذا قدم أول ما يدخل عليها. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «فاطمة بضعة منى فمن أغضبها أغضبنى» «1» رواه البخارى. وقال لها: «أما ترضين أن تكونى سيدة نساء المؤمنين» «2» رواه مسلم، وفى رواية أحمد «أفضل نساء أهل الجنة» «3» . وتوفيت بعده- صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر، ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وهى ابنة تسع وعشرين سنة، قاله المدينى. وقيل توفيت بعده بثمانية أشهر وقيل غير ذلك، والأول أصح كذا قالوه فيما رأيته، وهو غير منتظم مع السابق فليتأمل. وروى أنها قالت لأسماء بنت عميس: إنى قد استقبحت ما يصنع بالنساء أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة، فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة ما أحسن هذا، تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مت فاغسلينى أنت وعلى، ولا يدخل على أحد، الحديث خرجه أبو عمر. وفى حديث أم رافع سلمى أنها لما اشتكت اغتسلت ولبست ثيابا جددا واضطجعت فى وسط البيت، ووضعت يدها اليمنى تحت خدها، ثم استقبلت القبلة وقالت: إنى مقبوضة الآن فلا يكشفنى أحد ولا يغسلنى، ثم قبضت مكانها، ودخل على فأخبر بالذى قالت، فاحتملها فدفنها بغسلها

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3714) فى المناقب، باب: مناقب قرابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومنقبة فاطمة- عليها السلام-، ومسلم (2449) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام-، من حديث المسور بن مخرمة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3624) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2420) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام-، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 293) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

ذلك، ولم يكشفها ولا غسلها أحد. رواه أحمد فى المناقب والدولابى وهذا لفظه مختصرا، وهو مضاد لخبر أسماء المتقدم. قال أبو عمر: فاطمة أول من غطى نعشها من النساء على الصفة المذكورة فى خبر أسماء المتقدم، ثم بعدها زينب بنت جحش صنع بها ذلك أيضا. وولدت لعلى: حسنا وحسينا ومحسنا، فمات محسن صغيرا، وأم كلثوم وزينب. ولم يكن لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- عقب إلا من ابنته فاطمة- رضى الله عنها- فانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين الحسن والحسين فقط. ويقال للمنسوب لأولهما: حسنى، ولثانيهما: حسينى. وقد يضم للحسينى من يكون من ذرية إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين على بن الحسين بن على بن أبى طالب الإسحاقى، فيقال: الحسينى الإسحاقى. وإسحاق هذا، هو زوج السيدة نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن على، وله منها: القاسم وأم كلثوم ولم يعقبا. وتزوج عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت فاطمة، فولدت له: زيدا ورقية، ولم يعقبا ثم تزوجت أم كلثوم بعد موت عمر بعون بن جعفر، ثم تزوجت بعد وفاته بأخيه محمد بن جعفر ثم مات عنها فتزوجت بأخيهما عبد الله بن جعفر ثم ماتت عنده ولن تلد لواحد من الثلاثة سوى للثانى ابنة صغيرة فليس لها عقب. ثم تزوج عبد الله بن جعفر أختها زينب بنت فاطمة، فولدت له عدة من الأولاد، منهم: على وأم كلثوم. وتزوج أم كلثوم- هذه- ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر بن أبى طالب فولدت له عدة من الأولاد منهم: فاطمة زوج حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام، وله منها عقب.

وبالجملة: فعقب عبد الله بن جعفر انتشر من على وأخته أم كلثوم ابنى زينب بنت الزهراء. ويقال لكل من ينتسب لهؤلاء جعفرى، ولا ريب أن لهؤلاء شرفا. وأما الجعافرة المنسوبون لعبد الله بن جعفر فلهم أيضا شرف، لكنه يتفاوت، فمن كان من ولده من زينب بنت الزهراء فهم أشرف من غيرهم، مع كونهم لا يوازون شرف المنسوبين للحسن والحسين لمزيد شرفهما، وكذا يوصف العباسيون بالشرف لشرف بنى هاشم. قال الحافظ ابن حجر فى الألقاب: وقد لقب به. يعنى بالشريف- كل عباسى ببغداد وعلوى بمصر. وفى شيوخ ابن الرفعة شخص يقال له الشريف العباسى. وأما عبد الله ابن النبى- صلى الله عليه وسلم- فقيل مات صغيرا بمكة، فقال العاصى ابن وائل: قد انقطع ولده فهو أبتر، فأنزل الله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «1» . واختلف: هل ولد قبل النبوة أو بعدها؟ وهل هو الطيب والطاهر؟ والصحيح: أنهما لقبان له، كما تقدم. وأما إبراهيم فمن مارية القبطية، وسيأتى ذكرها فى سراريه- عليه السّلام- إن شاء الله تعالى فى الفصل التالى لهذا فى أمهات المؤمنين. وولد فى ذى الحجة سنة ثمان من الهجرة، وقيل ولد بالعالية، ذكره الزبير بن بكار، وكانت سلمى زوج أبى رافع مولاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قابلته، فبشر أبو رافع به النبى- صلى الله عليه وسلم- فوهب له عبدا، وعق عنه يوم سابعه بكبشين، وحلق رأسه أبو هند، وسماه النبى- صلى الله عليه وسلم- يومئذ، وتصدق بزنة شعره ورقا على المساكين، ودفنوا شعره فى الأرض. وفى البخارى: من حديث أنس بن مالك، أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ولد لى

_ (1) سورة الكوثر: 3.

الليلة غلام سميته باسم أبى إبراهيم» ثم دفعه إلى أم سيف، امرأة قين بالمدينة يقال له أبو سيف «1» ، الحديث، وفيه: أنه بقى عندها إلى أن مات، والقين: الحداد. ويجمع بينهما: بأن التسمية كانت قبل السابع، كما فى حديث أنس هذا ثم ظهرت فيه، وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده- عند الترمذى مرفوعا- أنه أمر بتسمية المولود يوم سابعه «2» ، فيحمل على أنها لا تؤخر عن السابع، لا أنها لا تكون إلا فيه، بل هى مشروعة من الولادة إلى السابع. قال الزبير بن بكار: وتنافست الأنصار فيمن ترضع إبراهيم- عليه السّلام-، فإنهم أحبوا أن يفرغوا مارية له- عليه السّلام-، فأعطاه لأم بردة بنت المنذر بن زيد الأنصارى، زوجه البراء بن أوس، فكانت ترضعه بلبن ابنها فى بنى مازن بن النجار وترجع به إلى أمه. وأعطى- صلى الله عليه وسلم- أمه بردة قطعة نخل. وقد تقدم أنه أعطاه أم سيف وبقى عندها إلى أن مات، فيحتمل أن يكون أعطاه أولا أم بردة ثم أعطاه أم سيف وبقى عندها إلى أن توفى، لكن قد روى أنه توفى عند أم بردة، فيرجع فى الترجيح إلى الصحيح. وعن أنس بن مالك قال: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم-، كان إبراهيم مسترضعا فى عوالى المدينة فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وكان ظئره قينا، فيأخذ فيقبله ثم يرجع. الحديث رواه أبو حاتم. وفى حديث جابر: أخذ- صلى الله عليه وسلم- بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى به النخل فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فأخذه- صلى الله عليه وسلم- فوضعه فى حجره ثم

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3126) فى الجنائز، باب: فى البكاء على الميت، وأصل الحديث عند البخارى (1303) فى الجنائز، ومسلم (2315) فى الفضائل. (2) حسن: أخرجه الترمذى (2832) فى الأدب، باب: ما جاء فى تعجيل اسم المولود، وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال.

ذرفت عيناه، ثم قال: «إنا بك يا إبراهيم لمحزنون، تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب» «1» خرجه بهذا السياق أبو عمرو بن السماك، ومعناه فى الصحيح. وتوفى وله سبعون يوما- فيما ذكره أبو داود- فى ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه، وقيل: بلغ ستة عشر شهرا وثمانية أيام، وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام. وحمل على سرير صغير، وصلى عليه النبى- صلى الله عليه وسلم- بالبقيع وقال: «ندفنه عند فرطنا عثمان بن مظعون» . وروى أن عائشة قالت: دفنه- صلى الله عليه وسلم- ولم يصل عليه، فيحتمل أن يكون لم يصل عليه بنفسه وأمر أصحابه أن يصلوا عليه، أو لم يصل عليه فى جماعة. وروى أن الذى غسله أبو بردة، وروى الفضل بن العباس، ولعلهما اجتمعا عليه. ونزل قبره الفضل وأسامة. والنبى- صلى الله عليه وسلم- على شفير القبر، ورش قبره وعلم بعلامة. قال الزبير: وهو أول قبر رش. وانكسفت الشمس يوم موته فقال الناس: إنما كسفت لموت إبراهيم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد» «2» رواه الشيخان: قيل: الغالب أن الكسوف يكون يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، فكسفت يوم موت إبراهيم فى العاشر، فلذلك قالوا: كسفت لموته.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1303) فى الجنائز، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: إنا بك لمحزونون، ومسلم (2315) فى الفضائل، باب: رحمته- صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1041) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف الشمس، ومسلم (911) فى الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة، من حديث أبى مسعود الأنصارى.

وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن له مرضعا فى الجنة» «1» رواه ابن ماجه. وقد روى من حديث أنس بن مالك أنه قال: «لو بقى- يعنى إبراهيم ابن النبى- صلى الله عليه وسلم- لكان نبيّا، ولكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء» «2» أخرجه أبو عمر. قال الطبرى: وهذا إنما يقوله أنس عن توقيف يخص إبراهيم، وإلا فلا يلزم أن يكون ابن النبى نبيّا، بدليل ابن نوح- عليه السّلام-. وقال النووى فى تهذيب الأسماء واللغات: وأما ما روى عن بعض المتقدمين: لو عاش إبراهيم لكان نبيّا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم. انتهى. قال شيخنا فى كتابه «المقاصد الحسنة» : ونحوه قول ابن عبد البر فى تمهيده: لا أدرى ما هذا، فقد ولد نوح غير نبى، ولو لم يلد النبى إلا نبيّا لكان كل أحد نبيّا، لأنهم من ولد نوح. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: ولا يلزم من الحديث المذكور ما ذكره الطبرى لما لا يخفى، وكأنه سلف النووى، وقال أيضا عقب كلام النووى: إنه عجيب من وروده عن ثلاثة من الصحابة، قال: وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، فقال فى إنكاره ما قال. وجوابه: أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، ولا يظن بالصحابى الهجوم على مثل هذا بالظن. قال شيخنا: والطرق الثلاثة: أحدها: ما أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس: لما مات

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1511) فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصلاة على ابن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وذكر وفاته، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وهو عند البخارى (2250) فى بدء الخلق، باب: ما جاء فى صفة الجنة، من حديث البراء- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 133) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5272) .

إبراهيم ابن النبى- صلى الله عليه وسلم-، صلى عليه وقال: «إن له مرضعا فى الجنة، لو عاش لكان صديقا نبيّا، ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط، وما استرق قبطى» «1» . وفى سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطى، وهو ضعيف، ومن طريقه أخرجه ابن منده فى المعرفة وقال: إنه غريب. ثانيها: ما رواه إسماعيل السدى عن أنس قال: كان إبراهيم قد ملأ المهد، ولو بقى لكان نبيّا، الحديث. ثالثها: ما عند البخارى من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبى خالد قال: قلت لعبد الله بن أبى أوفى: «رأيت إبراهيم ابن النبى- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: مات صغيرا،. ولو قضى بعد محمد نبى عاش ابنه إبراهيم، ولكن لا نبى بعده» «2» . وأخرجه أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبى أوفى يقول: لو كان بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- نبى ما مات ابنه «3» . انتهى.

_ (1) ضعيف بهذا المقام: أخرجه ابن ماجه (1511) ، وقد تقدم قبل حديثين. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6194) فى الأدب، باب: من سمى بأسماء الأنبياء. (3) أخرجه أحمد فى المسند» (4/ 353) .

الفصل الثالث فى ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات

الفصل الثالث فى ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «1» . أى أزواجه- صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين، سواء من مات عنها أو ماتت عنه وهى تحته. وذلك فى تحريم نكاحهن، ووجوب احترامهن، لا فى نظر وخلوة. ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخوانهن ولا أخواتهن أخوال وخالات. قال البغوى: كن أمهات المؤمنين دون النساء، روى ذلك عن عائشة- رضى الله عنها- ولفظها- كما فى البيضاوى-: «لسنا أمهات النساء» وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول: أن النساء لا يدخلن فى خطاب الرجال. قال: وكان- صلى الله عليه وسلم- أبا للرجال والنساء. ويجوز أن يقال أبو المؤمنين فى الحرمة. وفضلت زوجاته صلى الله عليه وسلم- على النساء، وثوابهن وعقابهن مضاعفان، ولا يحل سؤالهن إلا من وراء حجاب. وأفضلهن خديجة وعائشة- رضى الله عنهما-، وفى أفضلهما خلاف يأتى تحقيقه- إن شاء الله تعالى- قريبا. واختلف فى عدة أزواجه- صلى الله عليه وسلم- وترتيبهن، وعدة من مات منهن قبله، ومن مات عنهن ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه. والمتفق عليه: أنهن إحدى عشرة امرأة، ست من قريش: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤى.

_ (1) سورة الأحزاب: 6.

وعائشة بنت أبى بكر بن أبى قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى. وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدى بن كعب بن لؤى. وأم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى. وأم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى. وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤى. وأربع عربيات: زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم ابن دودان بن أسد بن خزيمة. وميمونة بنت الحارث الهلالية. وزينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين. وجويرية بنت الحارث الخزاعية المصطلقية. وواحدة غير عربية من بنى إسرائيل وهى صفية بنت حيى من بنى النضير. ومات عنده- صلى الله عليه وسلم- منهن اثنتان: خديجة وزينب أم المساكين، ومات صلى الله عليه وسلم- عن تسع، ذكر أسماءهن الحافظ أبو الحسن بن الفضل المقدسى نظما فقال: توفى رسول الله عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب فعائشة ميمونة وصفية ... وحفصة تتلوهن هند وزينب جويرية مع رملة ثم سودة ... ثلاث وست ذكرهن مهذب

ولا خلاف فى أن أول امرأة تزوج بها منهن خديجة بنت خويلد، وأنه صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج عليها حتى ماتت. وهذا حين الشروع فى ذكرهن على الترتيب. فأما أم المؤمنين خديجة- وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم- فكانت تدعى فى الجاهلية «الطاهرة» ، وكانت تحت أبى هالة النباش بن أبى زرارة فولدت له هندا وهالة وهما ذكران. ثم تزوجها عتيق بن عائذ المخزومى، فولدت له جارية اسمها هند، وبعضهم يقدم عتيقا على أبى هالة. ثم تزوجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولها يومئذ من العمر أربعون سنة وبعض أخرى، وكان سنه- صلى الله عليه وسلم- إحدى وعشرين سنة، وقيل خمسا وعشرين، وعليه الأكثر، وقيل ثلاثين. وكانت عرضت نفسها عليه، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة، حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها- صلى الله عليه وسلم- وأصدقها عشرين بكرة. وزاد ابن إسحاق من طريق آخر: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر: فخطب أبو طالب. وقد قدمت خطبته فى المقصد الأول عند ذكر تزويجها له- صلى الله عليه وسلم-. وذكر الدولابى وغيره أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أصدق خديجة اثنتى عشرة أوقية ذهبا. وقد كانت خديجة- كما قدمته- أول من آمن من الناس، وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة: «أن جبريل قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام- أو إدام أو شراب- فإذا هى أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» «1» والقصب: اللؤلؤ المجوف.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3821) فى المناقب، باب: تزويج النبى- صلى الله عليه وسلم- خديجة وفضلها- رضى الله عنها-، ومسلم (2432) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل خديجة أم المؤمنين- رضى الله تعالى عنها-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

قال ابن إسحاق: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له- عليه السّلام-، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت. وعن عبد الرحمن بن زيد قال: قال آدم- عليه السّلام-: إنى لسيد البشر يوم القيامة، إلا رجلا من ذريتى نبيّا من الأنبياء، يقال له أحمد، فضل على باثنتين: زوجته عاونته فكانت له عونا، وكانت زوجتى على عونا، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطانى. خرجه الدولابى، كما ذكره الطبرى. وخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة ابنة محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون» «1» . قال الشيخ ولى الدين العراقى: خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار، وقيل: عائشة. انتهى. وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى فى شرح بهجة الحاوى، عند ذكر أزواجه- صلى الله عليه وسلم-: وأفضلهن خديجة وعائشة وفى أفضلهما خلاف، صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة، حين قالت له: قد رزقك الله خيرا منها فقال: «لا والله ما رزقنى الله خيرا منها، آمنت بى حين كفر بى الناس، وصدقتنى حين كذبنى الناس، وأعطتنى مالها حين حرمنى الناس» «2» . وسئل ابن داود [بن على الظاهرى] أيهما أفضل؟ فقال: عائشة أقرأها النبى- صلى الله عليه وسلم- السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل من ربها السلام على لسان محمد، فهى أفضل. قيل له: فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «فاطمة بضعة منى» «3» فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم- أحدا.

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 293) ، وقد تقدم قريبا. (2) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 117) بسند حسن. (3) صحيح: وقد تقدم قريبا.

ويشهد له قوله- صلى الله عليه وسلم- لها: «أما ترضين أن تكونى سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم» «1» . واحتج من فضل عائشة بما احتجت به من أنها فى الآخرة مع النبى صلى الله عليه وسلم- فى الدرجة، وفاطمة مع على فيها. وسئل السبكى عن ذلك فقال: الذى نختاره، وندين الله به، أن فاطمة بنت محمد أفضل من أمها خديجة، ثم أمها خديجة، ثم عائشة، ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه. وأما خبر الطبرانى: خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم آسية امرأة فرعون «2» . فأجاب عنه ابن العماد: بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة. واختار السبكى: أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر، وللاختلاف فى نبوتها، انتهى. وقال أبو أمامة بن النقاش: إن سبق خديجة، وتأثيرها فى أول الإسلام ومؤازرتها ونصرها وقيامها فى الدين لله بمالها ونفسها، لم يشركها فيه أحد، لا عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين. وتأثير عائشة فى آخر الإسلام، وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأحاديث ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها، مما تميزت به عن غيرها، انتهى. وماتت خديجة بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بأربع، وقيل بخمس، ودفنت فى الحجون، وهى ابنة خمس وستين سنة، ولم يكن يومئذ يصلى على الجنازة، وكانت مدة مقامها مع النبى- صلى الله عليه وسلم- خمسا وعشرين سنة، وقيل أربعا وعشرين سنة.

_ (1) صحيح إلا جملة مريم، وقد تقدم قريبا. (2) قلت: هو عند الطبرانى فى «الكبير» (22/ 402) بحرف العطف «واو» وليس «ثم» الذى يفيد الترتيب والتراخى.

وأما سودة بنت زمعة- وأمها الشموس بنت قيس- فأسلمت قديما وكانت تحت ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو- أخو سهيل بن عمرو- أسلم معها قديما، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها، وقيل إنه مات بالحبشة. وتزوجها- صلى الله عليه وسلم- بمكة بعد موت خديجة قبل أن يعقد على عائشة، هذا قول قتادة وأبى عبيدة، ولم يذكر ابن قتيبة غيره، ويقال تزوجها بعد عائشة ويجمع بين القولين: بأنه- صلى الله عليه وسلم- عقد على عائشة قبل سودة، ودخل بسودة قبل عائشة، والتزويج يطلق على كل منهما، وإن كان المتبادر إلى الفهم العقد دون الدخول. ولما كبرت سودة أراد- صلى الله عليه وسلم- طلاقها، فسألته ألايفعل وجعلت يومها لعائشة فأمسكها. وتوفيت بالمدينة فى شوال سنة أربع وخمسين. وروى البخارى فى تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن أبى هلال: أنها ماتت فى خلافة عمر، وجزم الذهبى فى التاريخ الكبير بأنها ماتت فى آخر خلافة عمر، وقال ابن سيد الناس: إنه المشهور. وأما أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس، من بنى مالك بن كنانة- فكانت مسماة على جبير بن مطعم، فخطبها النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصدقها- فيما قاله ابن إسحاق- أربعمائة درهم، وتزوجها بمكة فى شوال سنة عشر من النبوة قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها ست سنين، وأعرس بالمدينة فى شوال سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا، ولها تسع سنين. وقيل بعد سبعة أشهر من مقدمه- عليه الصلاة والسلام-. وخرج الشيخان عن عائشة أنها قالت: «تزوجنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا ابنة ست سنين فقدمنا المدينة، فنزلنا فى بنى الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزق شعرى، فأتتنى أمى- أم رومان- وإنى لفى أرجوحة مع صواحب لى،

فصرخت بى فأتيتها، ما أدرى ما تريد منى، فأخذت بيدى حتى أوقفتنى على باب الدار، وأنا أنهج، حتى سكن بعض نفسى، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهى ورأسى ثم أدخلتنى الدار، فإذا نسوة من الأنصار فى البيت فقلن: على الخير والبركة، فأسلمتنى إليهن فأصلحن من شأنى، فلم يرعنى إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضحى، فأسلمتنى إليه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين «1» . وأخرجه أبو حاتم بتغيير بعض ألفاظه. قال أبو عمر: كان نكاحه- صلى الله عليه وسلم- لعائشة فى شوال، وابتنى بها فى شوال، وكانت تحب أن يدخل النساء من أهلها وأحبتها فى شوال على أزواجهن. وكانت أحب نساء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليه، وكانت إذا هويت الشىء تابعها عليه، وفقدها- عليه السّلام- فى بعض أسفاره فقال: «واعروساه» «2» . أخرجه أحمد. وقال لها- صلى الله عليه وسلم-- كما فى الصحيحين-: «رأيتك فى المنام ثلاث ليال، جاءنى بك الملك فى سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فأقول: إن يكن من عند الله يمضه» «3» والسرقة: شقة الحرير أو البيضاء. وفى الترمذى أن جبريل جاءه- عليه الصلاة والسلام- بصورتها فى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3894) فى المناقب، باب: تزويج النبى- صلى الله عليه وسلم- عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها، ومسلم (1422) فى النكاح، باب: تزويج الأب البكر الصغيرة. (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 248) ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3895) فى المناقب، باب: تزويج النبى- صلى الله عليه وسلم- عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها، ومسلم (2438) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة رضى الله تعالى عنها-، واللفظ لمسلم.

خرقة حرير خضراء وقال هذه زوجتك فى الدنيا والآخرة. وفى رواية عنده: قال جبريل: إن الله قد زوجك بابنة أبى بكر، ومعه صورتها «1» . وكانت مدة مقامها معه- صلى الله عليه وسلم- تسع سنين، ومات عنها- صلى الله عليه وسلم- ولها ثمانى عشرة سنة ولم يتزوج بكرا غيرها، وكانت فقيهة عالمة فصيحة، كثيرة الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، عارفة بأيام العرب وأشعارها، روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وكان- صلى الله عليه وسلم- يقسم لها ليلتين، ليلتها وليلة سودة بنت زمعة، لأنها وهبت ليلتها لما كبرت لها- كما تقدم- ولنسائه ليلة ليلة، وكان يدور على نسائه ويختم بعائشة. وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين. وقال الواقدى: ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة ثمان وخمسين، وهى ابنة ست وستين سنة، وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا، وصلى عليها أبو هريرة، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة فى أيام معاوية بن أبى سفيان. وكانت عائشة تكنى أم عبد الله، يروى أنها أسقطت من النبى- صلى الله عليه وسلم- سقطا، ولم يثبت والصحيح أنها كانت تكنى بعبد الله بن الزبير، ابن أختها، فإنه- عليه الصلاة والسلام- تفل فى فيه لما ولد، وقال لعائشة: «هو عبد الله وأنت أم عبد الله» قالت: فما زلت أكنى بها وما ولدت قط. خرجه أبو حاتم. وأما أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب- رضى الله عنهما- وأمها زينب بنت مظعون- فأسلمت وهاجرت. وكانت قبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحت خنيس- بضم المعجمة وفتح النون وبالسين المهملة- ابن حذافة السهمى، هاجرت معه، ومات عنها بعد غزوة بدر. فلما تأيمت ذكرها عمر على أبى بكر وعثمان فلم يجبه واحد منهما إلى زواجها، فخطبها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنكحه إياها فى سنة ثلاث من

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3880) فى المناقب، باب: من فضل عائشة- رضى الله عنها-، من حديث عائشة- رضى الله عنها- بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

الهجرة «1» ، وطلقها تطليقة واحدة، ثم راجعها «2» ، نزل عليه الوحى: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك فى الجنة «3» . وروى عنها جماعة من الصحابة والتابعين. وماتت فى شعبان سنة خمس وأربعين فى خلافة معاوية، وقيل سنة إحدى وأربعين، وهى ابنة ستين سنة، وقيل إنها ماتت فى خلافة عثمان. وأما أم المؤمنين أم سلمة هند، وقيل رملة والأول أصح- وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة، وليست عاتكة بنت عبد المطلب- فكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- تحت أبى سلمة بن عبد الأسد، وكانت هى وزوجها أول من هاجر إلى أرض الحبشة، فولدت له بها زينب، وولدت له بعد ذلك سلمة وعمر ودرة، وقيل هى أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وقيل غيرها، ومات أبو سلمة سنة أربع وقيل سنة ثلاث من الهجرة. وكانت أم سلمة سمعته- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول: اللهم آجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها» قالت: فلما مات أبو سلمة قلت أى المسلمين خير من أبى سلمة، ثم إنى قلتها، فأخلف الله لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأرسل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاطب بن أبى بلتعة يخطبنى له. وفى رواية: فخطبها أبو بكر فأبت، وخطبها عمر فأبت، ثم أرسل إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: مرحبا برسول الله، إن فى خلالا ثلاثا: أنا امرأة

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5122) فى النكاح، باب: عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (2283) فى الطلاق، باب: فى المراجعة، وابن ماجه (2016) فى الطلاق، باب: رقم (1) من حديث عمر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) حسن: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 16) من حديث قيس بن زيد- رضى الله عنه-، و (4/ 17) من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4351) .

شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية «1» وأنا امرأة ليس لى ها هنا أحد من أوليائى فيزوجنى. فغضب عمر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشد مما غضب لنفسه حين ردته، فأتاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أما ما ذكرت من غيرتك فإنى أدعو الله أن يذهبها عنك، وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم، وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهنى» فقالت لابنها: زوج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزوجه «2» . قال صاحب «السمط الثمين» رواه بهذا السياق هدبة بن خالد «وصاحب الصفوة» وخرج أحمد والنسائى طرفا منه، ومعناه فى الصحيح. وفيه دلالة على أن الابن يلى العقد على أمه، وعندنا أنه إنما زوجها بالعصوبة لأنه ابن ابن عمها، لأن أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال ابن عبد الله، وأم سلمة هند بنت سهيل بن المغيرة بن عبد الله، ولم يكن أحد من عصبتها حاضرا غيره. وكانت أم سلمة من أجمل النساء، وتزوجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ليال بقين من شوال من السنة التى مات فيها أبو سلمة. وماتت سنة تسع وخمسين وقيل سنة اثنتين وستين، والأول أصح، ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة، وقيل سعيد بن زيد، وكان عمرها أربعا وثمانين سنة. وأما أم المؤمنين أم حبيبة، رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب، وقيل اسمها هند، والأول أصح- وأمها صفية بنت أبى العاصى بن أمية عمة عثمان بن عفان- فكانت تحت عبيد الله بن جحش وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام ومات هناك، وثبتت أم حبيبة على الإسلام.

_ (1) مصيبة: أى عندى صبيان. (2) صحيح: أخرجه مسلم (918) فى الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.

واختلف فى وقت نكاح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إياها، وموضع العقد، فقيل: إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست، فروى أنه- صلى الله عليه وسلم- بعث عمرو ابن أمية الضمرى إلى النجاشى ليخطبها عليه، فزوجها إياه، وأصدقها عنه أربعمائة دينار، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة. وروى أن النجاشى أرسل إليها جاريته «أبرهة» فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أن أزوجك منه، وأنها أرسلت إلى خالد ابن سعيد بن العاصى فوكلته وأعطت أبرهة سوارين وخواتم من فضة سرورا بما بشرتها به، فلما كان العشى أمر النجاشى جعفر بن أبى طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا، فخطب النجاشى فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار ذهبا، ثم سكب الدنانير بين يدى القوم. فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وزوجته أم حبيبة بنت أبى سفيان، فبارك الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم- فيها. ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاصى فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. خرجه صاحب الصفوة كما قال الطبرى. وكان ذلك سنة سبع من الهجرة. قال أبو عمر: واختلف فيمن زوجها، فروى أنه سعيد بن العاصى، وروى عثمان بن عفان وهى ابنة عمته. وذكر البيهقى أن الذى زوجها خالد ابن سعيد بن العاصى وهو ابن ابن عم أبيها، لكن إن صح التاريخ المذكور فلا يصح أن يكون عثمان هو الذى زوجها، فإنه كان مقدمه من الحبشة قبل وقعة بدر فى السنة الثانية من الهجرة.

وكان أبو سفيان أبوها حال نكاحها بمكة مشركا محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم-. وقد قيل إن عقد النكاح عليها كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة والمشهور الأول. وماتت بالمدينة سنة أربع وأربعين وقيل: سنة اثنتين وأربعين. وأما أم المؤمنين زينب بنت جحش- وأما أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم- فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زوجها من زيد بن حارثة، فمكثت عنده مدة ثم طلقها- كما سيأتى- إن شاء الله تعالى- فى الخصائص- فلما انقضت عدتها منه قال- صلى الله عليه وسلم- لزيد بن حارثة «اذهب فاذكرنى لها» قال: فذهبت إليها، فجعلت ظهرى إلى الباب فقلت يا زينب بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أؤامر ربى عز وجل، فقامت إلى مسجد لها، فأنزل الله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها «1» . فجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن «2» . أخرجه مسلم. وقال المنافقون: حرم محمد نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ «3» . وكانت زينب تفخر على أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجنى الله من فوق سبع سماوات «4» ، رواه الترمذى وصححه. وكان اسمها «برة» فحوّله- صلى الله عليه وسلم- إلى زينب. وعن أنس: لما تزوج صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو صلى الله عليه وسلم- يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبى- صلى الله عليه وسلم- ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقت

_ (1) سورة الأحزاب: 37. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1428) فى النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش- رضى الله عنها-، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) سورة الأحزاب: 40. (4) صحيح: أخرجه البخارى (7421) فى التوحيد، باب: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، والترمذى (3213) فى التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، واللفظ للترمذى.

فجئت فأخبرت النبى- صلى الله عليه وسلم- أنهم انطلقوا. فجاء حتى دخل فذهبت لأدخل فألقى الحجاب بينى وبينه، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ «1» الآية. وكان تزويجها له- صلى الله عليه وسلم- فى سنة خمس من الهجرة، وقيل سنة ثلاث. وهى أول من مات من أزواجه بعده. وقالت عائشة فى شأنها: ولم تكن امرأة خيرا منها فى الدين، وأتقى لله وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها فى العمل الذى تتصدق به وتتقرب به إلى الله. رواه مسلم. وماتت بالمدينة سنة عشرين، وقيل سنة إحدى وعشرين، ولها ثلاث وخمسون سنة، وصلى عليها عمر بن الخطاب، وهى أول من جعل على جنازتها نعش. وأما أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية، وكانت تدعى فى الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم، فكانت تحت عبد الله بن جحش فى قول ابن شهاب، قتل عنها يوم أحد فتزوجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سنة ثلاث، ولم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة وتوفيت فى حياته- صلى الله عليه وسلم-، وقيل مكثت عنده ثمانية أشهر، ذكره الفضائلى. وقيل كانت قبله- صلى الله عليه وسلم- تحت الطفيل بن الحارث، ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث وقتل عنها يوم أحد شهيدا، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم-، والأول أصح. وتوفيت فى ربيع الآخر سنة أربع ودفنت بالبقيع على الطريق قال الطبرى: كذا ذكره الفضائلى، وإنما يكون هذا على ما حكاه من أنها مكثت عنده- عليه السّلام- ثمانية أشهر، أما على ما حكاه أبو عمر فلا يصح، إذ العقد كان فى سنة ثلاث، ومدتها عنده- صلى الله عليه وسلم- شهران أو ثلاثة فلا يصح أن تكون وفاتها فى ربيع الآخر، انتهى، فليتأمل.

_ (1) سورة الأحزاب: 53.

وأما أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية- وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير- فتزوجها- صلى الله عليه وسلم- لما كان بمكة معتمرا سنة سبع بعد غزوة خيبر، وكانت أختها أم الفضل لبابة الكبرى تحت العباس ابن عبد المطلب، وأختها لأمها أسماء بنت عميس تحت جعفر، وسلمى بنت عميس تحت حمزة، وكانت جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم، فلما رجع بنى بها بسرف حلالا «1» ، ذكره أبو عمر. وفى الصحيح من أفراد مسلم، عنها أنه- صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال، زاد البرقانى بعد قوله تزوجها حلالا: وبنى بها حلالا وماتت بسرف «2» . فيحمل قوله: وهو محرم، أى داخل فى الحرم، ويكون العقد وقع بعد انقضاء العمرة، ثم خرج بها إلى سرف وابتنى بها فيه، وهو على عشرة أميال من مكة، كذا قاله الطبرى. وسيأتى فى مقصد المعجزات فى ذكر الخصائص مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى-. وكانت ميمونة قبل عند أبى رهم بن عبد العزى، ويقال: بل عبد الله ابن أبى رهم، وقيل: بل عند حويطب بن عبد العزى، وقيل: بل فروة بن عبد العزى. قال ابن إسحاق. ويقال: إنها وهبت نفسها للنبى- صلى الله عليه وسلم- وذلك أن خطبته- صلى الله عليه وسلم- انتهت إليها وهى على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله. وقيل: الواهبة نفسها غيرها. وتوفيت ميمونة بسرف فى الموضع الذى بنى بها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وذلك سنة إحدى وخمسين، وقيل ست وخمسين وقيل ثلاث وستين، وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها. وأما أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار- بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الراء- فكانت تحت مسافح- بالسين المهملة والفاء- ابن صفوان المصطلقى.

_ (1) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك. (2) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك.

وكانت قد وقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصارى، فى غزوة المريسيع، وهى غزوة بنى المصطلق، فى سنة خمس وقيل سنة ست، فكاتبته على نفسها، ثم جاءت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمرى ما لا يخفى عليك، ووقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس وإنى كاتبت نفسى، فجئت أسألك فى كتابتى، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «فهل لك إلى ما هو خير» قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أؤدى عنك كتابتك وأتزوجك» قالت: قد فعلت. فتسامع الناس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد تزوج جويرية فأرسلوا ما فى أيديهم من السبى، فأعتقوهم وقالوا أصهار رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قالت عائشة: فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أعتق فى سببها مائة أهل بيت بنى المصطلق «1» خرجه أبو داود من حديث عائشة. وقال ابن هشام: ويقال اشتراها- صلى الله عليه وسلم- من ثابت بن قيس وأعتقها وتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم. وعن ابن شهاب: سبى- صلى الله عليه وسلم- جويرية بنت الحارث يوم المريسيع فحجبها وقسم لها، وكانت ابنة عشرين سنة، وكان اسمها «برة» فحوله صلى الله عليه وسلم- وسماها جويرية. وقد تقدم مثل ذلك فى زينب بنت جحش. وتوفيت وعمرها خمس وستون سنة فى ربيع الأول سنة خمسين، وقيل سنة ست وخمسين. وأما أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب بن سعية- بفتح السين وسكون العين المهملتين وبالياء المثناة التحتية- ابن ثعلبة بن عبيد من بنى إسرائيل من سبط هارون بن عمران- عليه الصلاة والسلام-. وأمها ضرة بفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء- بنت سموأل- بفتح السين المهملة وفتح الميم وسكون الواو وفتح الهمزة وباللام-. فكانت تحت كنانة بن أبى الحقيق

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (3931) فى العتق، باب: فى بيع المكاتب إذا نسخت الكتابة، وأحمد فى «مسنده» (6/ 277) ، وابن حبان فى «صحيحه» (4054 و 4055) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

- بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى وسكون المثناة التحتية- فقتل يوم خيبر فى المحرم سنة سبع من الهجرة. قال أنس: لما افتتح- صلى الله عليه وسلم- خيبر وجمع السبى، جاءه دحية فقال: يا رسول الله أعطنى جارية من السبى، فقال: «اذهب فخذ جارية» فأخذ صفية بنت حيى فجاء رجل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيى سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك، قال: «ادعوه بها» فجاء بها، قال: فلما نظر إليها النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «خذ جارية من السبى غيرها» قال: وأعتقها وتزوجها. قال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها. حتى إذا كان الطريق جهزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل، فأصبح- صلى الله عليه وسلم- عروسا، فقال: «من كان عنده شىء فليجىء به» قال: فبسط نطعا، قال: فجعل الرجل يجىء بالأقط، وجعل الرجل يجىء بالتمر، وجعل الرجل يجىء بالسمن، فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . وفى رواية: فقال الناس لا ندرى أتزوجها أم اتخذها أم ولد، قالوا: إن حجبها فهى امرأته وإن لم يحجبها فهى أم ولد، فلما أراد أن يركب حجبها. وفى رواية: فانطلقنا حتى إذا رأينا جدر المدينة هششنا إليها، فدفعنا مطايانا، ودفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مطيته، قال: وصفية خلفه قد أردفها، قال: فعثرت مطية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصرع وصرعت، فليس أحد من الناس ينظر إليه ولا إليها حتى قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسترها. قال: فدخلنا المدينة، فخرج جوارى نسائه يتراءينها ويشمتن بصرعتها «2» رواه الشيخان وهذا لفظ مسلم. وروى عن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- أتى بصفية يوم خيبر، وأنه قتل أباها

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (371) فى الصلاة، باب: ما يذكر فى الفخذ، ومسلم (1365) فى النكاح، باب: فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1365) (88) فيما تقدم.

وأخاها، وأن بلالا مر بها بين المقتولين، وأنه- صلى الله عليه وسلم- خيرها بين أن يعتقها فترجع إلى من بقى من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختار الله ورسوله. خرجه فى الصفوة. وأخرج تمام فى فوائده من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لها: «هل لك فىّ» قالت: يا رسول الله لقد كنت أتمنى ذلك فى الشرك، فكيف إذ أمكننى الله فى الإسلام. وأخرج أبو حاتم من حديث ابن عمر: رأى- صلى الله عليه وسلم- بعين صفية خضرة فقال: «ما هذه الخضرة؟» فقالت: كان رأسى فى حجر ابن الحقيق وأنا نائمة، فرأيت قمرا وقع فى حجرى فأخبرته بذلك فلطمنى وقال: تمنين ملك يثرب. وبنى بها- صلى الله عليه وسلم- بالصهباء. وماتت فى رمضان سنة خمسين فى زمن معاوية، وقيل غير ذلك. فهؤلاء أزواجه اللاتى دخل بهن لا خلاف فى ذلك بين أهل السير والعلم بالأثر. وقد ذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- تزوج نسوة غير من ذكر، وجملتهن اثنتا عشرة امرأة: الأولى: الواهبة نفسها له- صلى الله عليه وسلم-، واختلف من هى، فقيل أم شريك القرشية العامرية، واسمها: غزية- بضم الغين المعجمة وفتح الزاى وتشديد المثناة التحتية- بنت جابر بن عوف، من بنى عامر بن لؤى. وقيل بنت دودان ابن عوف، وطلقها النبى- صلى الله عليه وسلم- واختلف فى دخوله بها. وقيل هى أم شريك غزية الأنصارية من بنى النجار، وفى الصفوة: هى أم شريك غزية بنت جابر الدوسية قال: والأكثرون على أنها التى وهبت نفسها للنبى- صلى الله عليه وسلم- فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت. وذكر ابن قتيبة فى المعارف عن أبى اليقظان، أن الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمى، ويجوز أن يكونا وهبتا أنفسهما من غير تضاد.

وقال عروة بن الزبير: كانت خولة بنت حكيم، من اللاتى وهبن أنفسهن للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فقالت عائشة: أما تستحى المرأة أن تهب نفسها للرجل، فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ «1» قالت عائشة: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع لك فى هواك «2» رواه الشيخان. وهذه خولة هى زوجة عثمان بن مظعون، ولعل ذلك وقع منها قبل عثمان. الثانية: خولة بنت الهذيل بن هبيرة. تزوجها- صلى الله عليه وسلم- فهلكت قبل أن تصل إليه. الثالثة: عمرة بنت يزيد بن الجون- بفتح الجيم- الكلابية، وقيل بنت يزيد بن عبيد بن أوس بن كلاب الكلابية. قال أبو عمر: وهذا أصح. تزوجها- صلى الله عليه وسلم- فتعوذت منه حين أدخلت عليه، فقال لها: «لقد عذت بمعاذ» فطلقها وأمر أسامة بن زيد فمتعها بثلاثة أثواب «3» ، قال أبو عمر: هكذا روى عن عائشة. وقال قتادة: كان ذلك فى امرأة من سليم. وقال أبو عبيدة: إنما ذلك لأسماء بنت النعمان بن الجون، وهكذا ذكره ابن قتيبة. وسيأتى وقال فى عمرة هذه: إن أباها وصفها للنبى- صلى الله عليه وسلم- ثم قال وأزيدك: أنها لم تمرض قط فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ما لهذه عند الله من خير فطلقها» . الرابعة: أسماء بنت النعمان بن الجون- بفتح الجيم- ابن الحارث الكندية وهى الجونية. قال أبو عمر: أجمعوا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تزوجها واختلفوا فى سبب فراقة لها، فقال قتادة وأبو عبيدة: إنه- صلى الله عليه وسلم- لما دعاها قالت: تعال أنت وأبت أن تجىء، وقال بعضهم: قالت: أعوذ بالله منك، فقال: «عذت

_ (1) سورة الأحزاب: 51. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4788) فى التفسير، باب: قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية، ومسلم (1464) فى الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5254) فى الطلاق، باب: من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، وابن ماجه (2037) فى الطلاق، باب: متعة الطلاق، واللفظ له.

بمعاذ ولقد أعاذك الله منى» وقيل: إن نساءه- صلى الله عليه وسلم- علمنها ذلك فإنها كانت أجمل الناس فخفن أن تغلبهن عليه، فقلن لها إنه يحب إذا دنا منك إن تقولى: أعوذ بالله منك، فقال: «قد عذت بمعاذ» وطلقها، ثم سرحها إلى أهلها وكانت تسمى نفسها الشقية. وقال الجرجانى: قلن لها: إن أردت أن تحظى عنده فتعوذى بالله منه، فقالت ذلك فولى وجهه عنها. وقيل المتعوذة غيرها، قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكونا تعوذتا، وقال آخرون: كان بأسماء وضح فقال لها «ألحقى بأهلك» «1» وقد قيل فى اسمها أميمة، وقيل: أمامة. الخامسة: مليكة بنت كعب الليثية، قال بعضهم: هى التى استعاذت من النبى- صلى الله عليه وسلم- وقيل دخل بها، وماتت عنده، والأول أصح، ومنهم من ينكر تزويجه بها أصلا. والسادسة: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابى، تزوجها بعد وفاة ابنته زينب وخيرها حين نزلت آية التخيير، [الأحزاب 28 و 29] فاختارت الدنيا ففارقها- عليه الصلاة والسلام- فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول هى الشقية اختارت الدنيا، هكذا رواه ابن إسحاق. لكن قال أبو عمر: هذا عندنا غير صحيح، لأن ابن شهاب يروى عن عروة عن عائشة، أنه- صلى الله عليه وسلم- حين خير أزواجه بدأ بها فاختارت الله ورسوله، وتابع أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- على ذلك. وقال قتادة وعكرمة: كان عنده- صلى الله عليه وسلم- عند التخيير تسع نسوة وهن اللاتى توفى عنهن. وقيل إنه- صلى الله عليه وسلم- تزوجها سنة ثمان، وقيل إن أباها قال: إنها لم تصدع قط، فقال- عليه الصلاة والسلام-: «لا حاجة لى بها» . السابعة: عالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف، تزوجها- صلى الله عليه وسلم- وكانت

_ (1) انظر ما قبله، وكذلك ما قاله الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (9/ 357- 359) .

عنده ما شاء الله، ثم طلقها، وقل من ذكرها، وقال أبو سعد: طلقها حين أدخلت عليه- صلى الله عليه وسلم-. الثامنة: قتيلة- بضم القاف وفتح المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية- بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندى، زوجه إياها أخوها فى سنة عشر، ثم انصرف إلى حضر موت فحملها فقبض- صلى الله عليه وسلم- سنة إحدى عشرة قبل قدومها عليه، وقيل تزوجها- عليه السّلام- قبل وفاته بشهرين، وقال قائلون: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب، وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح فتزوجها عكرمة بن أبى جهل بحضر موت، فبلغ ذلك أبا بكر فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها، فقال له عمر- رضى الله عنه-: ما هى من أمهات المؤمنين، ما دخل بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا ضرب عليها الحجاب. وقال بعضهم: لم يوص فيها- عليه السّلام- بشىء، ولكنها ارتدت حين ارتد أخوها. وبذلك احتج عمر على أبى بكر- رضى الله عنهما-: أنها ليست من أمهات المؤمنين بارتدادها. التاسعة: سنا بنت أسماء بن الصلت السلمية، تزوجها- صلى الله عليه وسلم- ومات قبل أن يدخل بها، وعند ابن إسحاق: طلقها قبل أن يدخل بها. العاشرة: شرف- بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء وبالفاء- بنت خليفة الكلبية، أخت دحية بن خليفة الكلبى، تزوجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فماتت قبل دخوله- عليه السّلام- بها. الحادية عشرة: ليلى بنت الخطيم- بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة- أخت قيس تزوجها- صلى الله عليه وسلم- وكانت غيورا فاستقالته فأقالها فأكلها الذئب، وقيل هى التى وهبت نفسها له- صلى الله عليه وسلم-. الثانية عشرة: امرأة من غفار تزوجها- صلى الله عليه وسلم- فأمرها فنزعت ثيابها فرأى

بكشحها بياضا فقال: «ألحقى بأهلك» ولم يأخذ مما آتاها شيئا «1» ، أخرجه أحمد. فهؤلاء جملة من ذكر من أزواجه- صلى الله عليه وسلم-، وفارقهن فى حياته، بعضهن قبل الدخول وبعضهن بعده- كما ذكرناه- فيكون جملة من عقد عليهن ثلاثا وعشرين امرأة دخل ببعضهن دون بعض. مات منهن عنده بعد الدخول خديجة وزينب بنت خزيمة، ومات منهن قبل الدخول اثنتان: أخت دحية وبنت الهذيل باتفاق. واختلف فى مليكة وسنا، هل ماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم- لم يدخل بهما. وفارق بعد الدخول باتفاق بنت الضحاك، وبنت ظبيان، وقبله باتفاق: عمرة وأسماء والغفارية. واختلف فى أم شريك: هل دخل بها؟ مع الاتفاق على الفرقة. والمستقيلة التى جهل حالها. فالمفارقات بالاتفاق سبع، واثنتان على خلاف. الميتات فى حياته باتفاق أربع، ومات- صلى الله عليه وسلم- من عشر، واحدة لم يدخل بها. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- خطب عدة نسوة: الأولى منهن: امرأة من بنى مرة بن عوف بن سعد، خطبها- صلى الله عليه وسلم- إلى أبيها فقال: إن بها برصا، وهو كاذب، فرجع فوجد البرص بها، ويقال: إن ابنها شبيب بن البرصاء بن الحارث بن عوف. ذكره ابن قتيبة، كما قاله الطبرى، وعند ابن الأثير فى جامع الأصول: جمرة بنت الحارث بن عوف خطبها- صلى الله عليه وسلم- فقال أبوها: إن بها سوآ، ولم يكن بها شىء، فرجع إليها أبوها وقد برصت، قال: وهى أم شبيب بن البرصاء الشاعر.

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 300) عن كعب بن زيد أو زيد بن كعب وقال: رواه أحمد، وجميل [أحد رواته] ضعيف.

الثانية: امرأة قرشية يقال لها سودة، خطبها- صلى الله عليه وسلم- وكانت مصبية، فقالت: أخاف أن تضغو صبيتى- أى يصيحوا ويبكوا- عند رأسك، فدعا لها وتركها. الثالثة: صفية بنت بشامة- بفتح الموحدة وتخفيف الشين المعجمة- كان أصابها فى سبى فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها، فاختارت زوجها. الرابعة: ولم يذكر اسمها، قيل إنه- صلى الله عليه وسلم- خطبها، فقالت: أستأمر أبى، فلقيت أباها فأذن لها، فعادت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال لها: «قد التحفنا لحافا غيرك» . الخامسة: أم هانىء فاختة بنت أبى طالب أخت على، خطبها- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إنى امرأة مصبية واعتذرت إليه، فعذرها. السادسة: ضباعة- بضم الضاد المعجمة وتخفيف الموحدة وبالعين المهملة- بنت عامر بن قرط- بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة- خطبها- صلى الله عليه وسلم- إلى ابنها سلمة بن هشام فقال: حتى أستأمرها، فقيل للنبى صلى الله عليه وسلم-: إنها قد كبرت، فلما عاد ابنها- وقد أذنت له- سكت عنها- صلى الله عليه وسلم- فلم ينكحها. السابعة: أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، عرضت عليه- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هى ابنة أخى من الرضاعة» «1» . الثامنة: عزة بنت أبى سفيان، عرضتها أختها أم حبيبة عليه- صلى الله عليه وسلم- فقال «إنها لا تحل لى» «2» لمكان أختها أم حبيبة تحت النبى- صلى الله عليه وسلم-. وقيل: تزوج- صلى الله عليه وسلم- الجندعية- بضم الجيم وسكون النون وضم الدال وبالعين المهملة- امرأة من جندع، وهى ابنة جندب بن ضمرة، ولم يدخل

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2645) فى الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، ومسلم (1447) فى الرضاع، باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، من حديث ابن عباس رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1449) فى الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة.

بها. وأنكره بعض الرواة. فهؤلاء النساء اللاتى ذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- تزوجهن أو خطبهن أو دخل بهن، أو لم يدخل بهن أو عرضن عليه. وأما سرارية فقيل إنهن أربعة: مارية القبطية بنت شمعون- بفتح الشين المعجمة- أهداها له المقوقس القبطى صاحب مصر والإسكندرية، وأهدى معها أختها سيرين- بكسر السين المهملة وسكون المثناة التحتية وكسر الراء وبالنون آخرها-، وخصيا يقال له: مأبور، وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا لينا من قباطى مصر، وبغلة شهباء وهى دلدل، وحمارا أشهب وهو عفير ويقال: يعفور، وعسلا من عسل بنها، فأعجب النبى- صلى الله عليه وسلم- العسل ودعا فى عسل بنها بالبركة. قال ابن الأثير: وبنها- بكسر الباء وسكون النون- قرية من قرى مصر، بارك النبى- صلى الله عليه وسلم- فى عسلها، والناس اليوم يفتحون الباء، انتهى. ووهب- صلى الله عليه وسلم- سيرين لحسان بن ثابت وهى أم عبد الرحمن بن حسان، ومارية أم إبراهيم ابن النبى- صلى الله عليه وسلم-. وماتت مارية فى خلافة عمر سنة ست عشرة ودفنت بالبقيع. وريحانة بنت شمعون من بنى قريظة، وقيل من بنى النضير، والأول أظهر، وماتت قبل وفاته- صلى الله عليه وسلم- مرجعه من حجة الوداع سنة عشر، ودفنت بالبقيع، وكان- صلى الله عليه وسلم- وطئها بملك اليمين، وقيل أعتقها وتزوجها ولم يذكر ابن الأثير غيره. وأخرى: وهبتها له زينب بنت جحش. الرابعة: أصابها فى بعض السبى.

الفصل الرابع فى أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته

الفصل الرابع فى أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته قال صاحب «ذخائر العقبى فى مناقب ذوى القربى» : كان له- صلى الله عليه وسلم- اثنا عشر عمّا بنو عبد المطلب، أبوه- عبد الله- ثالث عشرهم: الحارث، وأبو طالب واسمه عبد مناف، والزبير ويكنى أبا الحارث، وحمزة، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والغيداق، والمقوم، وضرار، والعباس، وقثم، وعبد الكعبة، وجحل- بتقديم الجيم، وهو السقاء الضخم، وقال الدار قطنى بتقديم الحاء وهو القيد والخلخال- ويسمى المغيرة. وقيل كانوا أحد عشر فأسقط: المقوم، وقال هو عبد الكعبة، وقيل عشرة، فأسقط الغيداق وجحلا، وقيل تسعة فأسقط قثم. فأما حمزة، فأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى، كنيتان له بابنيه عمارة ويعلى، وكان يدعى أسد الله وأسد رسوله وفى معجم البغوى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «والذى نفسى بيده إنه لمكتوب عند الله عز وجل فى السماء السابعة: حمزة أسد الله وأسد رسوله» «1» . وكان إسلامه فى السنة الثانية من المبعث، وقيل فى السادسة بعد دخوله صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم، وقيل قبل إسلام عمر بثلاثة أيام. وشهد بدرا، وقتل بها عتبة بن ربيعة مبارزة، قاله موسى بن عقبة، وقيل: بل قتل شيبة بن ربيعة مبارزة، قاله ابن إسحاق. وأول راية عقدها- صلى الله عليه وسلم- لأحد من المسلمين كانت لحمزة، وأول سرية بعثها، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «خير أعمامى حمزة» «2» رواه الحافظ الدمشقى.

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 214 و 219) ، والطبرانى فى «الكبير» (3/ 149) . (2) موضوع: أخرجه الديلمى فى مسند الفردوس عن عباس بن ربيعة، كما فى «الجامع الصغير» (4049) ، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2878) : موضوع.

وروى ابن السرى مرفوعا: «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب» «1» . وذكر السلفى عن بريدة فى قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «2» قال: حمزة بن عبد المطلب، وعن ابن عباس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ «3» قال: حمزة. واستشهد فى وقعة أحد، قتله وحشى. وعن سعيد بن المسيب كان يقول: كنت أعجب لقاتل حمزة كيف ينجو، حتى إنه مات غريقا فى الخمر. رواه الدار قطنى على شرط الشيخين. وقال ابن هشام: بلغنى أن وحشيّا لم يزل يحد فى الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر يقول: لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة. ولما رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- حمزة قتيلا بكى، فلما رأى ما مثل به شهق «4» . وعن أبى هريرة: وقف- صلى الله عليه وسلم- على حمزة- وقد قتل ومثل به- فلم ير منظرا كان أوجع لقلبه منه. رواه أبو عمر، والمخلص «5» ، وصاحب الصفوة. وعند ابن هشام أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ لى من هذا» . وعند ابن شاذان من حديث ابن مسعود: ما رأينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 212) من حديث على- رضى الله عنه-، و (3/ 215) من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3158 و 3675 و 3676) . (2) سورة الفجر: 27. (3) سورة الأحزاب: 23. (4) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 118) عن جابر وقال: رواه البزار وفيه عبد الله بن محمد ابن عقيل، وهو حسن الحديث على ضعفه، وفى (6/ 119) عن جابر أيضا وقال: رواه الطبرانى، وفيه المفضل بن صدقة وهو متروك. (5) هو: الشيخ المحدث، أبو طاهر، محمد بن عبد الرحمن بن العباس البغدادى الذهبى، مخلّص الذهب من الغش، كان ثقة، مات سنة (393 هـ) .

باكيا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه فى القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشغ من البكاء يقول: «يا حمزة يا عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابّا عن وجه رسول الله» «1» . والنشغ: الشهيق حتى يبلغ به الغشى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على جنازة كبر عليها أربعا، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة، رواه البغوى فى معجمه. وقد روى أنس بن مالك أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم «2» . خرجه أحمد وأبو داود. فيحمل أمر حمزة على التخصيص، ومن صلى عليه عليه أنه جرح حال الحرب ولم يمت حتى انقضت الحرب. وكان سن حمزة يوم قتل تسعا وخمسين سنة، ودفن هو وابن أخته عبد الله بن جحش فى قبر واحد. وأما العباس وكنيته أبو الفضل، فأمه نتلة، ويقال نتيلة بنت جناب بن كلب بن النمر بن قاسط، ويقال: إنها أول عربية كست البيت الحرام الديباج وأصناف الكسوة، لأن العباس ضل وهو صبى، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت. وكان العباس جميلا وسيما أبيض، له ضفيرتان، معتدلا وقيل كان طوالا، وولد قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من النبى- صلى الله عليه وسلم- بسنتين أو ثلاث، وكان رئيسا فى قريش وإليه عمارة المسجد الحرام. وكان مع النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم العقبة يعقد له البيعة على الأنصار، وكان عليه السّلام- يثق به فى أمره كله. ولما شدوا وثاقه فى أسرى بدر سهر- صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة، فقيل: ما يسهرك يا رسول الله؟ قال: «لأنين العباس» فقام رجل

_ (1) لم أقف عليه، ولا أظنه يثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (3135- 3137) فى الجنائز، باب: فى الشهيد يغسل، وهو عند البخارى (1343) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ولكن من حديث جابر ابن عبد الله- رضى الله عنهما-.

فأرخى وثاقه، وفعل ذلك بالأسرى كلهم، ذكره أبو عمر، وصاحب الصفوة. وقيل: كان يكتم إسلامه وخرج مع المشركين يوم بدر فقال- صلى الله عليه وسلم- «من لقى العباس فلا يقتله فإنه خرج مستكرها» «1» فأسره كعب بن عمرو، ففادى نفسه ورجع إلى مكة. وقيل: إنه أسلم يوم بدر ثم أقبل إلى المدينة مهاجرا، فاستقبل النبى صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح بالأبواء وكان معه فى فتح مكة، وبه ختمت الهجرة. وقال أبو عمر: أسلم قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه ويسره ما يفتح الله على المسلمين، وأظهر إسلامه يوم فتح مكة، وشهد حنينا والطائف وتبوك. ويقال: إن إسلامه كان قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان المسلمون بمكة يثقون به، وكان يحب القدوم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فيكتب إليه- صلى الله عليه وسلم- «إن مقامك بمكة خير لك» وقال أبو مصعب إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت حدثنا أبو حازم سلمة ابن دينار عن سهل بن سعد- رضى الله عنه- قال: استأذن العباس- رضى الله عنه- النبى صلى الله عليه وسلم- فى الهجرة فكتب إليه: «يا عم أقم مكانك الذى أنت فيه، فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة كما ختم بى النبوة» «2» رواه أبو يعلى والهيثم بن كليب- فى مسنديهما- والطبرانى فى الكبير. وأبو مصعب متروك، لكن يعتضد بقول عروة بن الزبير: كان العباس قد أسلم وأقام على سقايته ولم يهاجر «3» ، رواه الحاكم فى مستدركه. وذكر السهمى فى الفضائل أن أبا رافع لما بشر النبى- صلى الله عليه وسلم- بإسلام العباس أعتقه.

_ (1) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 327) وعزاه لمحمد بن إسحاق عن العباس بن عبد الله بن مغافل عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- فذكره. (2) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 154) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (2646) ، بسند فيه أبو مصعب، إسماعيل بن قيس، وهو متروك. (3) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (3/ 364) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 15) .

وكان- صلى الله عليه وسلم- يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه، ووصفه- عليه السّلام- فقال: «أجود الناس كفّا، وأحناه عليهم» رواه الفضائلى وفى معجم البغوى: «العباس عمى وصنو أبى، من آذاه فقد آذانى» «1» وفى الترمذى نحوه، وقال: حسن صحيح. وذكر السهمى فى الفضائل: أن العباس أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فلما رآه قام إليه، وقبل ما بين عينيه، ثم أقعده عن يمينه ثم قال: «هذا عمى فمن شاء فليباه بعمه» فقال العباس: نعم القول يا رسول الله، قال «ولم لا أقول هذا، أنت عمى وصنو أبى وبقية آبائى ووارثى وخير من أخلف من أهلى» وقال له صلى الله عليه وسلم- «يا عم لا ترم منزلك أنت وبنوك غدا حتى أتيكم فإن لى فيكم حاجة» فلما أتاهم اشتمل عليهم بملاءة ثم قال: «يا رب، هذا عمى وصنو أبى وهؤلاء أهل بيتى فاسترهم من النار كسترى إياهم بملاءتى هذه» قال: فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت: آمين آمين آمين. رواه ابن غيلان، وأبو القاسم حمزة، والسهمى، ورواه ابن السرى وفيه: فما بقى فى البيت مدرة ولا باب إلا أمن. ورواه الترمذى من حديث ابن عباس بلفظ «فألبسنا كساء» ثم قال: «اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبا، اللهم احفظه فى ولده» «2» ، وقال حسن غريب. وعند ابن عبد الباقى من حديث أبى هريرة: «اللهم اغفر للعباس ولولد العباس ولمن أحبهم» «3» . وفى تاريخ دمشق من حديث ابن عباس عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال له فى فتح مكة «اللهم انصر العباس وولد العباس» قالها ثلاثا ثم قال:

_ (1) أخرجه الترمذى (3758) فى المناقب، باب: مناقب العباس بن عبد المطلب- رضى الله عنه-، وأحمد فى «مسنده» ، (4/ 165) وقال الترمذى فى نسختنا: حسن غريب. (2) حسن: أخرجه الترمذى (3762) فى المناقب، باب: مناقب العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه-، والطبرانى فى «مسند الشاميين» (1/ 265) ، وقال: حديث حسن غريب، وهو كما قال. (3) أخرجه الخطيب البغدادى وابن عساكر عن أبى هريرة كما فى «كنز العمال» (33446) .

«يا عم أما علمت أن المهدى من ولدك» «1» . وروى الحاكم فى مستدركه والبغوى فى معجمه عن سعيد بن المسيب أنه قال: «العباس حبر هذه الأمة، ووارث النبى- صلى الله عليه وسلم- وعمه» قال الذهبى سنده صحيح. قال: ويتكلف لتأويله إن كان قوله خير- بالمعجمة والتحتية-. وفى الأفراد للدار قطنى عن جابر الأنصارى- رضى الله عنه-. قال سمعت: رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول «من لم يحب العباس بن عبد المطلب وأهل بيته فقد برىء من الله ورسوله» وفى سنده عمر بن راشد الحارثى. وهو ضعيف جدّا. لكن يشهد له ما رواه محمد بن حسين الأشنانى ثم أبو بكر بن عبد الباقى فى أماليه ومن طريقهما المنذرى من طريق منصور عن مسلم بن صبيح بن الضحى عن مسروق عن ابن عباس- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من لم يحب عمى» هذا- وأخذ بيد العباس فرفعها «لله عز وجل ولقرابته لى فليس بمؤمن» «2» . وللترمذى وقال: حسن، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال للعباس «والذى نفسى بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان ما لم يحبكم لله ولرسوله» ثم قال «يا أيها الناس من آذى عمى فقد آذانى فإنما عم الرجل صنو أبيه» «3» . وروى البغوى أنه- عليه الصلاة والسلام- قال له: «لك يا عم من الله حتى ترضى» «4» . وروى السهمى فى الفضائل أنه- عليه السّلام- قال للعباس: «إن الله عز وجل غير معذبك ولا أحد من ولدك» . وفى المعجم الكبير للطبرانى عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 376) عن سعيد بن المسيب مرسلا. (2) أخرجه العقيلى فى «الضعفاء» له (4/ 149) . (3) تقدم قبل قليل. (4) ذكره ابن عساكر كما فى «تهذيب تاريخ دمشق» (7/ 243) .

- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر للعباس، وأبناء العباس وأبناء أبناء العباس» «1» . وفى سنده عبد الرحمن بن حاتم المرادى المصرى وهو متروك. وفى تاريخ دمشق- مما هو شديد الوهى- عن أبى هريرة مرفوعا: «اللهم اغفر للعباس ولولد العباس ولمحبى ولد العباس وشيعتهم» «2» . وفى المناقب للإمام أحمد بسند لا بأس به، أن العباس قال: كنت عند النبى- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فقال: «انظر هل ترى فى السماء نجما» قلت: نعم قال: «ما ترى» قلت: الثريا، قال: «أما إنه يلى هذه الأمة بعددها من صلبك» «3» . وروى السهمى من حديث ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «ألا أبشرك يا عم» قال: بلى بأبى أنت وأمى فقال- عليه السّلام-: «إن من ذريتك الأصفياء ومن عترتك الخلفاء» «4» . ومن حديث أبى هريرة: «فيكم النبوة والمملكة» «5» . ومن حديث ابن عباس عن أبيه: «هذا عمى أبو الخلفاء أجود قريش كفّا وأجملها وإن من ولده السفاح والمنصور والمهدى» «6» .

_ (1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 205) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 269) وقال: رواه الطبرانى عن شيخه عبد الرحمن بن حاتم المرادى، وهو متروك. (2) تقدم قبل قليل من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 209) ، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 368) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 186) وقال: رواه أحمد والطبرانى، وفيه أبو ميسرة مولى العباس ولم أعرفه إلا فى ترجمة أبى قبيل وبقية رجال أحمد ثقات. (4) أخرجه الرافعى عن ابن عباس، كما فى «كنز العمال» (33420) . (5) أخرجه ابن عساكر عن أبى هريرة كما فى «كنز العمال» (533434 و 387185) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 192) وقال: رواه البزار وفيه محمد بن عبد الرحمن العامرى، وهو ضعيف. (6) موضوع: انظر «الموضوعات» لابن الجوزى (2/ 37) ، و «اللآلىء المصنوعة» للسيوطى (1/ 226) .

وذكر ابن حبان والملاء من حديث ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أبا بكر هذا العباس قد أقبل وعليه ثياب بيض وسيلبس ولده من بعده السواد» . وعن جابر بن عبد الله سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول «ليكونن فى ولده- يعنى العباس- ملوك يكونون أمراء أمتى، يعز الله بهم الدين» «1» قال الحافظ أبو الحسن الدار قطنى: هذا حديث غريب من حديث عمرو بن دينار عن جابر، خرجه الأصفهانى. وتوفى العباس- رضى الله عنه- فى خلافة عثمان- رضى الله عنه- قبل مقتله بسنتين بالمدينة، يوم الجمعة لاثنتى عشرة- وقيل لأربع عشرة- خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة اثنتين وقيل ثلاث وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل سبع وثمانين سنة، أدرك منها فى الإسلام اثنتين وثلاثين سنة ودفن بالبقيع، ودخل قبره ابنه عبد الله. وكان عظيما جليلا، وكان يسمى ترجمان القرآن، وهو أبو الخلفاء. ويروى أن أمه أم الفضل لما وضعته أتت به النبى- صلى الله عليه وسلم- فأذن فى أذنه اليمنى، وأقام فى اليسرى، وقال: «اذهبى بأبى الخلفاء» «2» رواه ابن حبان وغيره. وقد ملأ عقبه الأرض حتى قيل إنهم بلغوا فى زمن المأمون ستمائة ألف. واستبعد والله أعلم. وكان العباس أصغر أعمامه- صلى الله عليه وسلم- ولم يسلم منهم إلا هو وحمزة. وأسنهم الحارث. وأما عماته- صلى الله عليه وسلم- بنات عبد المطلب بن هاشم، فجملتهن ست: عاتكة، وأميمة، والبيضاء وهى أم حكيم، وبرة، وصفية، وأروى، ولم يسلم منهن إلا صفية أم الزبير بلا خلاف.

_ (1) موضوع: انظر «العلل المتناهية» لابن الجوزى (1/ 288) . (2) أخرجه الخطيب عن ابن عباس عن أمه أم الفضل كما فى «كنز العمال» (33432 و 33587) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 187) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه أحمد بن راشد الهلالى، وقد اتهم بهذا الحديث.

واختلف فى أروى وعاتكة، فذهب أبو جعفر العقيلى إلى إسلامهما، وعدهما فى الصحابة، وذكر الدار قطنى: عاتكة فى جملة الإخوة والأخوات، ولم يذكر أروى. وأما ابن إسحاق فذكر أنه لم يسلم منهن غير صفية. فأما صفية فأسلمت باتفاق، كما ذكرته، وشهدت الخندق، وقتلت رجلا من اليهود، وضرب لها- صلى الله عليه وسلم- بسهم، وأمها هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، شقيقة حمزة والمقوم وحجل، وكانت فى الجاهلية تحت الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ثم هلك فخلفه عليها العوام بن خويلد أخو خديجة أم المؤمنين، فولدت له الزبير والسائب وعبد الكعبة، وتوفيت بالمدينة فى خلافة عمر- رضى الله عنه- سنة عشرين، ولها ثلاث وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع. وأما عاتكة المختلف فى إسلامها فأمها فاطمة بنت عمرو بن عائد، فتكون شقيقة عبد الله أبى النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى طالب والزبير وعبد الكعبة، وهى صاحبة الرؤيا فى قصة بدر «1» . وأما أروى المختلف أيضا فى إسلامها، فأمها صفية بنت جندب، فهى شقيقة الحارث بن عبد المطلب، وكانت تحت عمير بن وهب بن عبد الدار بن قصى، فولدت له طليبا، ثم خلفه عليها كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى. وأسلم طليب وكان سببا فى إسلام أمه، كما ذكره الواقدى. وأما أم حكيم، البيضاء، فهى شقيقة عبد الله أبى النبى- صلى الله عليه وسلم-. وأما برة فأمها فاطمة أيضا، وكانت عند أبى رهم بن عبد العزى العامرى، ثم خلفه عليها عبد الأسد بن هلال المخزومى، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد الذى كانت عنده أم سلمة قبل النبى- صلى الله عليه وسلم-. وأما أميمة فأمها فاطمة، وكانت تحت جحش بن رئاب، فولدت له عبد الله وعبيد الله وأبا أحمد وزينب وأم حبيبة وحمنة، أولاد جحش بن رئاب. وأما جداته- عليه الصلاة والسلام- من أبيه:

_ (1) انظر خبر رؤيتها فى «دلائل النبوة» للبيهقى (3/ 29- 31) .

فأم عبد الله- أبيه- هى فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. وأم عبد المطلب، سلمى ابنة عمرو من بنى النجار، وكانت قبل هاشم تحت أحيحة بن الجلاح فولدت له عمرو بن أحيحة، وهو أخو عبد المطلب لأمه. وأم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان من بنى سليم. وأم عبد مناف عاتكة بنت فالج بن مليك بن ذكوان من بنى سليم. وأم قصى فاطمة بنت سعد من أزد الشراة. وأم كلاب، نعم بنت سرير بن ثعلبة بن مالك بن كنانة. وأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهم. وأم كعب، سلمى بنت محارب من فهم. وأم لؤى، وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناف من كنانة. وأم غالب، سلمى بنت سعد من هذيل. وأم فهر، جندلة بنت الحارث الجرهمى. وأم مالك: هند بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن غيلان. وأم النضر، برة بنت مرة، أخت تميم بن مرة. ذكره ابن قتيبة فى كتاب المعارف كما حكاه الطبرى عنه وقال: فالجدة الأولى قرشية مخزومية، والثانية نجارية، والثالثة سليمية والرابعة سليمية أيضا، وقيل خزاعية والخامسة أزدية، والسادسة كنانية، والسابعة فهمية والثامنة فهمية أيضا أو فهرية- والخط فى الأصل يوهم- والتاسعة كنانية، والعاشرة هذلية، والحادية عشرة جرهمية، والثانية عشرة قيسية، والثالثة عشرة مرية. وأما جداته- عليه الصلاة والسلام- من أمه «1» : فأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى بن كلاب بن مرة وأم أبيها وهب:

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 49) .

عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان من بنى سليم، ذكره ابن قتيبة. وقال أبو عمر: ويعرف أبوها بأبى كبشة الذى ينسب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيقال: ابن أبى كبشة، ونسب إليه لأنه كان يعبد «الشعرى» ولم يكن أحد من العرب يعبدها غيره، فلما جاءهم- صلى الله عليه وسلم- بخلاف ما كانت عليه العرب قالوا: هذا ابن أبى كبشة، ولم يقصدوا ذمه- صلى الله عليه وسلم- بذلك. وقيل: بل نسب إلى وهب أخى أمه كان يدعى بها، وقيل: كان يدعى بها أبوه من الرضاعة: الحارث بن عبد العزى زوج حليمة فنسب إليه. وأم برة هى أم حبيب، قاله ابن قتيبة وقال أبو سعد: أم سفيان بنت أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب. وأم أم حبيب هى برة بنت عوف بن عبيد بن عدى بن كعب بن لؤى بن غالب. وأم برة بنت عوف، قلابة بنت الحارث بن صعصعة بن عائذ بن لحيان ابن هذيل. وأم قلابة، هند بنت يربوع من ثقيف. قاله ابن قتيبة، وقال ابن سعد: أمها بنت مالك بن عثمان من بنى لحيان. فالجدة الأولى والثانية والثالثة من أمهات أمه- صلى الله عليه وسلم- قرشيات، وأم أبى أمه سلمية والرابعة لحيانية هذلية، والخامسة ثقفية، ففى كل قبيلة من قبائل العرب له- صلى الله عليه وسلم- علقة نسب. وأما إخوته- عليه الصلاة والسلام- من الرضاعة «1» : فحمزة وأبو سلمة بن عبد الأسد، أرضعتهما معه- صلى الله عليه وسلم- ثويبة جارية أبى لهب بلبن ابنها مسروح بن ثويبة. وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أرضعته ورسول الله- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 87) .

حليمة السعدية، وعبد الله وآسية وجدامة- وتعرف بالشيماء- الثلاثة أولاد حليمة. وقد روى أن خيلا له- صلى الله عليه وسلم- أغارت على هوازن، فأخذوها فى جملة السبى، فقالت: أنا أخت صاحبكم، فلما قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت له: يا محمد، أنا أختك، فرحب بها وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه ودمعت عيناه، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن أحببت فأقيمى عندى مكرمة محببة، وإن أحببت أن ترجعى إلى قومك وصلتك» قالت: بل أرجع إلى قومى، فأسلمت، وأعطاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء «1» ذكره أبو عمر وابن قتيبة. وأما أمه من الرضاعة، فحليمة بنت أبى ذؤيب من هوازن، وهى التى أرضعته حتى أكملت رضاعه، وجاءته- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين فقام إليها وبسط رداءه لها، فجلست عليه. وكذا ثويبة جارية أبى لهب أيضا، واختلف فى إسلامها كما اختلف فى إسلام حليمة وزوجها، فالله أعلم. وكانت ثويبة تدخل عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد أن تزوج خديجة، فكانت تكرمها. وأعتقها أبو لهب، وكان- صلى الله عليه وسلم- يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر. ذكره أبو عمر. وكانت حاضنته- صلى الله عليه وسلم- أم أيمن، بركة بنت ثعلبة بن حصن بن مالك، غلبت عليها كنيتها، وكنيت باسم ابنها أيمن الحبشى، وهى أم أسامة بن زيد، تزوجها زيد بعد عبيد، فولدت له أسامة، ويقال: إنها مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم-. هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة. وكانت لعبد الله ابن عبد المطلب، فورثها النبى- صلى الله عليه وسلم-. وقيل كانت لأمه- عليه السّلام-. وكان صلى الله عليه وسلم- يقول: «أم أيمن أمى بعد أمى» «2» . وكانت الشيماء بنت حليمة السعدية تحضنه أيضا مع أمها حليمة السعدية.

_ (1) انظر قصتها فى «الإصابة» لابن حجر العسقلانى (7/ 732) . (2) ضعيف: أخرجه ابن عساكر عن سليمان بن أبى شيخ معضلا، كما فى «ضعيف الجامع» (1276) .

الفصل الخامس فى خدمه وحرسه ومواليه ومن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه

الفصل الخامس فى خدمه وحرسه ومواليه ومن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه أما خدمه: [من الرجال] فمنهم أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد الأنصارى الخزرجى، يكنى أبا حمزة، خدم النبى- صلى الله عليه وسلم- تسع سنين أو عشر سنين، ودعا له- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة» «1» . وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- منه. وتوفى سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة اثنتين وقيل سنة إحدى وتسعين وقد جاوز المائة. ومنهم: ربيعة بن كعب الأسلمى، صاحب وضوئه، وتوفى سنة ثلاث وستين. ومنهم: أيمن ابن أم أيمن، صاحب مطهرته- صلى الله عليه وسلم-، استشهد يوم حنين. ومنهم: عبد الله بن مسعود بن غافل- بالمعجمة والفاء- ابن حبيب الهذلى، أحد السابقين الأولين، شهد بدرا والمشاهد، وكان صاحب الوسادة والسواك والنعلين والطهور وكان يلى ذلك من النبى- صلى الله عليه وسلم-، وكان إذا قام النبى- صلى الله عليه وسلم- ألبسه نعليه، وإذا جلس جعلهما فى ذراعيه حتى يقوم. وتوفى بالمدينة وقيل بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة ثلاث.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6334) فى الدعوات، باب: قول الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، ومسلم (660) فى المساجد، باب: جواز الجماعة فى النافلة والصلاة على حصير وخمرة وثوب وغيرها من الطاهرات، من حديث أنس- رضى الله عنه-، إلا أنه فى آخره، «وبارك له فيما أعطيته» بدلا من «وأدخله الجنة» .

ومنهم عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو الجهنى، وكان صاحب بغلته يقود به- صلى الله عليه وسلم- فى الأسفار، روينا عنه أنه قال: بينما أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم- فى نقب من تلك النقاب إذ قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اركب يا عقبة» قال فأجللت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أركب مركبه ثم أشفقت أن يكون معصية قال: فركبت هنيهة ثم نزلت، ثم ركب النبى- صلى الله عليه وسلم- وقدت به، فقال لى: «يا عقبة ألا أعلمك من خير سورتين قرأ بهما الناس» فقلت: بلى بأبى أنت وأمى يا رسول الله فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «1» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «2» «3» . الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائى. ولأحمد: فقال «يا عقبة، ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت فى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم» ، قال: قلت بلى، قال: «فأقرأنى» قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «4» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «5» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «6» . وكان عقبة عالما بكتاب الله وبالفرائض فصيحا شاعرا مفوها، ولى مصر لمعاوية سنة أربع وأربعين ثم صرفه بمسلمة بن مخلد، وتوفى بها سنة ثمان وخمسين. ومنهم: أسلع بن شريك صاحب راحلته. وفى الطبرانى عن الربيع بن بدر قال: حدثنى أبى عن أبيه عن رجل يقال له أسلع قال كنت أخدم النبى صلى الله عليه وسلم- وأرحل له، فقال لى ذات يوم: «يا أسلع، قم فارحل» فقلت: يا

_ (1) سورة الفلق: 1. (2) سورة الناس: 1. (3) صحيح بنحوه: أخرجه بنحوه مسلم (1814) فى صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة المعوذتين، وأبو داود (1462) فى الصلاة، باب: فى المعوذتين، والترمذى (2902) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء فى المعوذتين، والنسائى (2/ 158) فى الافتتاح، باب: الفضل فى قراءة المعوذتين، و (8/ 254) فى الاستعاذة، باب: رقم (1) ، وأحمد فى «مسنده» (4/ 144، 149، 151، 152) . (4) سورة الإخلاص: 1. (5) سورة الفلق: 1. (6) سورة الناس: 1.

ومن النساء:

رسول الله أصابتنى جنابة، فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأتاه جبريل فنزل باية الصعيد [النساء: 43 والمائدة: 6] فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قم يا أسلع فتيمم» قال: فقمت، ثم رحلت له ثم سار حتى مر بماء ثم قال لى يا أسلع: «مسّ أو أمسّ هذا جلدك» قال: فأرانى التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين «1» . انتهى. ومنهم: سعد مولى أبى بكر، وقيل سعيد، ولم يثبت، وروى عنه ابن ماجه. ومنهم: أبو ذر جندب بن جنادة الغفارى، أسلم قديما، وتوفى بالربذة سنة إحدى وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود ثم مات بعده فى ذلك اليوم، قاله ابن الأثير فى «معرفة الصحابة» ، وفى التقريب للحافظ ابن حجر سنة اثنتين وثلاثين. ومنهم: مهاجر مولى أم سلمة. ومنهم: حنين والد عبد الله، مولى عباس، كان يخدم النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم وهبه لعمه العباس. ومنهم: نعيم بن ربيعة الأسلمى. ومنهم: أبو الحمراء، مولاه- صلى الله عليه وسلم- وخادمه، واسمه هلال بن الحارث، أو ابن ظفر، نزل حمص وتوفى بها. ومنهم: أبو السمح خادمه- صلى الله عليه وسلم- واسمه إياد. ومن النساء: بركة أم أيمن الحبشية، وهى والدة أسامة بن زيد ماتت فى خلافة عثمان رضى الله عنه-. وخولة جدة حفص. وسلمى أم رافع، زوج أبى رافع.

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 262) وقال: رواه الطبرانى فى «الكبير» ، وفيه الربيع بن بدر، وقد أجمعوا على ضعفه.

وأما حراسه:

وميمونة بنت سعد. وأم عياش مولاة رقية بنت النبى- صلى الله عليه وسلم-. وكان يضرب الأعناق بين يديه: على بن أبى طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، والضحاك بن سفيان. وكان قيس بن سعد بن عبادة بن يديه- صلى الله عليه وسلم- بمنزلة صاحب الشرطة. وكان بلال على نفقاته. ومعيقيب بن أبى فاطمة الدوسى على خاتمه. وابن مسعود على سواكه ونعله، كما تقدم. وأبو رافع واسمه أسلم- وقيل غير ذلك- قبطى، وكان على ثقله «1» . وأذن عليه- صلى الله عليه وسلم- فى المشربة لعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- رياح النوبى. وأما حراسه: فمنهم: سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس، سيد الأوس، أسلم بين العقبتين على يد مصعب بن عمير، وشهد بدرا وأحدا والخندق، فرمى فيه بسهم فعاش شهرا ثم انتقض جرحه فمات. حرس النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر حين نام فى العريش. ومنهم: محمد بن مسلمة الأنصارى، حرسه يوم أحد. ومنهم: الزبير بن العوام حرسه يوم الخندق. ومنهم: بلال، المؤذن، أسلم قديما، وعذب فى الله، وسكن الشام أخيرا، ولا عقب له، وتأتى وفاته- إن شاء الله تعالى-، وكان يحرس النبى صلى الله عليه وسلم- بوادى القرى. وكان أبو بكر الصديق يوم بدر فى العرش شاهرا سيفه على رأسه صلى الله عليه وسلم- لئلا يصل إليه أحد من المشركين. رواه السمان فى الموافقة. ووقف المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحديبية.

_ (1) أى: متاع السفر، أو كل شىء نفيس مصون.

وأما مواليه صلى الله عليه وسلم:

وكان يحرسه- صلى الله عليه وسلم- أيضا عباد بن بشر. فلما نزل وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» ترك ذلك. وأما مواليه صلى الله عليه وسلم: أسامة وأبوه زيد بن حارثة، حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أعتقه وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة فولدت له أسامة. وكان زيد قد أسر فى الجاهلية، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فاستوهبه النبى- صلى الله عليه وسلم- منها: ذكر قصته محمد بن إسحاق فى السيرة، وأن أباه وعمه أتيا مكة فوجداه، فطلبا أن يفدياه، فخيره النبى- صلى الله عليه وسلم- بين أن يدفعه لهما أو يبقى عنده- صلى الله عليه وسلم-، وفى رواية الترمذى قال: يا رسول الله، لا أختار عليك أحدا أبدا. واستشهد زيد فى مؤتة، ومات ابنه أسامة بالمدينة أو بوادى القرى سنة أربع وخمسين. ومنهم: ثوبان، لازم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين. وأبو كبشة، أوس، ويقال سليم من مولدى مكة وشهد بدرا. وشقران- بضم الشين المعجمة وسكون القاف- واسمه صالح الحبشى، ويقال: فارسى، شهد بدرا وهو مملوك، ثم عتق، قاله الحافظ ابن حجر وقال: أظنه مات فى خلافة عثمان. ورباح- وهو بفتح الراء وبالموحدة- الأسود، وكان يأذن عليه أحيانا إذا انفرد، وهو الذى أذن لعمر بن الخطاب فى المشربة، كما تقدم. ويسار الراعى، وهو الذى قتله العرنيون. وزيد وهو أبو يسار- وليس زيد بن حارثة والد أسامة- ذكره ابن الأثير.

_ (1) سورة المائدة: 67.

ومدعم- بكسر الميم وفتح العين المهملة- عبد أسود، كان لرفاعة بن زيد الضبيبى- بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة الأولى- فأهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-. وأبو رافع، واسمه: أسلم القبطى، وكان للعباس فوهبه للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فلما بشر النبى- صلى الله عليه وسلم- بإسلام العباس أعتقه، توفى قبل قتل عثمان بيسير. ورفاعة بن زيد الجذامى. وسفينة، واختلف فى اسمه، فقيل: طهمان، وقيل: كيسان، وقيل: مهران، وقيل غير ذلك، وسماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سفينة لأنهم كانوا حملوه شيئا كثيرا فى السفر «1» . ومأبور القبطى، وهو من جملة من أهداه المقوقس للنبى- صلى الله عليه وسلم-. وواقد، أو أبو واقد، وأنجشة الحادى، ويأتى ذكره فى حداته- صلى الله عليه وسلم- إن شاء الله تعالى. وسلمان الفارسى، أبو عبد الله، ويقال له سلمان الخير، أصله من أصبهان، وقيل من رام هرمز، أول مشاهده الخندق، مات سنة أربع وثلاثين، يقال بلغ ثلاثمائة سنة. وشمعون بن زيد، أبو ريحانة. قال الحافظ ابن حجر: حليف الأنصار، ويقال مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، شهد فتح دمشق وقدم مصر، وسكن بيت المقدس. وأبو بكرة، نفيع بن الحارث بن كلدة، جد القاضى الجليل بكار بن قتيبة الحنفى قاضى مصر المدفون بها. ومن النساء: أم أيمن الحبشية، وسلمى أم رافع زوج أبى رافع، ومارية وريحانة وقيسر أخت مارية وغير ذلك. قال ابن الجوزى: مواليه ثلاثة وأربعون، وإماؤه إحدى عشرة.

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 221) .

الفصل السادس فى أمرائه ورسله وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام

الفصل السادس فى أمرائه ورسله وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام أما كتابه فجمع كثير وجم غفير ذكرهم بعض المحدثين فى تأليف له بديع استوعب فيه جملا من أخبارهم، ونبذا من سيرهم وآثارهم، وصدر فيه بالخلفاء الأربعة الكرام، خواص حضرته- عليه الصلاة والسلام-. فأولهم فى التقديم أبو بكر الصديق، وكان اسمه فى الجاهلية عبد الكعبة، وفى الإسلام عبد الله، وسمى بالصديق لتصديقه النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقيل إن الله صدقه، ويلقب عتيقا لجماله، أو لأنه ليس فى نسبه ما يعاب به، وقيل لأنه عتيق من النار. ولى الخلافة سنتين ونصفا، وسنه سن المصطفى- صلى الله عليه وسلم-. وتوفى مسموما. وأسلم أبوه أبو قحافة يوم الفتح، وتوفى بعد ولده فى خلافة عمر، وأسلمت أمه أم الخير سلمى بنت صخر قديما فى دار الأرقم. وعمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى، استخلفه أبو بكر فأقام عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال، وقتله أبو لؤلؤة، فيروز غلام المغيرة بن شعبة. وعثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما، ثم قتل يوم الدار شهيدا. وروى عن عائشة، مما ذكره الطبرى فى فضائله من كتاب «الرياض» أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمسند ظهره إلىّ، وإن جبريل ليوحى إليه القرآن، وإنه ليقول له: «اكتب يا عثيم» «1» . رواه أحمد.

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 250) .

وروى البيهقى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره وعثمان بين يديه، وكان كاتب سر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وعلى بن أبى طالب، وأقام فى الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر وثمانية أيام، وتوفى شهيدا على يد عبد الرحمن بن ملجم واختص على بكتابة الصلح يوم الحديبية. وطلحة بن عبيد الله التيمى، أحد العشرة، استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين وهو ابن ثلاث وستين سنة. والزبير بن العوام بن خويلد الأسدى ابن عمته وحواريه، أحد العشرة أيضا، قتل سنة ست وثلاثين، يوم الجمل، قتله عمرو بن جرموز، بوادى السباع غيلة وهو نائم. وسعيد بن العاص، أخو خالد وأبان. وسعد بن أبى وقاص. وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر- رضى الله عنه-. وعبد الله بن الأرقم القرشى الزهرى، كان يكتب الرسائل عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك وغيرهم، وكتب بعده لأبى بكر، ثم لعمر من بعده، رضى الله عنهم-، واستعمله عمر على بيت المال مدة ولايته ثم عثمان من بعده، إلى أن استعفى عثمان من الولاية وبقى عاطلا، وكان أمير المؤمنين عمر يقول: ما رأيت أحدا أخشى لله منه، مات فى خلافة عثمان. وأبىّ بن كعب- بضم الهمزة وفتح الموحدة- من سبّاق الأنصار، كان يكتب الوحى له- صلى الله عليه وسلم-، وهو أحد الستة الذين حافظوا القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم- وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهده- عليه السّلام-، توفى بالمدينة سنة تسع عشرة. وقيل سنة عشرين، وقيل غير ذلك، وهو الذى كتب الكتاب إلى ملكى عمان «جيفر» و «عبد» ابنى الجلندى، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.

وثابت بن قيس بن شماس، استشهد باليمامة، وهو الذى كتب كتاب قطن بن حارثة العليمى، كما سيأتى- إن شاء الله-. وحنظلة بن الربيع الأسيدى الذى غسلته الملائكة حين استشهد «1» . وأبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشى الأموى. وابنه معاوية، ولى لعمر الشام، وأقره عثمان. قال ابن إسحاق: وكان أميرا عشرين سنة، وخليفة- أمير المؤمنين- بعد نزول الحسن بن على سبط سيد المرسلين عشرين سنة. وروينا فى مسند الإمام أحمد من حديث العرباض قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب» «2» . وهو مشهور بكتابة الوحى. أسلم يوم فتح مكة ومات فى العشر الأخير من رجب سنة تسع وخمسين، وقيل سنة ستين وقد قارب الثمانين. وقال ابن عبد البر عن اثنتين وثمانين سنة والله أعلم. وأخوة يزيد بن أبى سفيان بن حرب، أمّره عمر على دمشق حتى مات بها سنة تسع عشرة بالطاعون، فوليها بعده أخوه معاوية حتى رقى منها إلى الخلافة، وكان يزيد- رضى الله عنه- من سروات الصحابة وساداتهم، أسلم يوم الفتح أيضا وأعطاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية وزنها له بلال- رضى الله عنه-. وزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصارى النجارى، مشهور بكتب الوحى، مات سنة خمسين أو ثمان وأربعين، وقيل بعد الخمسين. وكان أحد فقهاء الصحابة، وهو أحد من جمع القرآن فى خلافة أبى بكر، ونقله إلى المصحف فى خلافة عثمان.

_ (1) تقدم حديثه. (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 127) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (1938) ، والطبرانى فى «الكبير» (18/ 251) ، من حديث العرباض بن سارية- رضى الله عنه-.

وشرحبيل ابن حسنة، وهى أمه، وهو أول كاتب للنبى- صلى الله عليه وسلم-. والعلاء بن الحضرمى. وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزومى، سيف الله، أسلم بين الحديبية والفتح، مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين. وعمرو بن العاص بن وائل السهمى، فاتح مصر فى أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضى الله عنهما-، أسلم عام الحديبية وولى إمرة مصر مرتين، وهو الذى فتحها، ومات بها سنة نيف وأربعين وقيل بعد الخمسين. والمغيرة بن شعبة الثقفى، أسلم قبل الحديبية، وولى إمرة البصرة ثم الكوفة، مات سنة خمسين على الصحيح. وعبد الله بن رواحة الخزرجى الأنصارى أحد السابقين، شهد بدرا واستشهد بمؤتة. ومعيقيب- بقاف وآخره موحدة، مصغر- ابن أبى فاطمة الدوسى، من السابقين الأولين، وشهد المشاهد ومات فى خلافة عثمان أو على. وكتب له خالد بن سعيد بن العاص كتاب ثقيف كما سيأتى إن شاء الله تعالى فى الوفود. وحذيفة بن اليمان، من السابقين، صح فى مسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابى أيضا استشهد بأحد، ومات حذيفة فى أول خلافة على سنة ست وثلاثين. وحويطب بن عبد العزى العامرى، أسلم يوم الفتح، عاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة أربع وخمسين. وله كتّاب أخر سوى هؤلاء، وذكروا فى الكتاب الذى تقدم ذكره. وكان معاوية وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك وأخصهم به، كما قاله الحافظ الشرف الدمياطى وغيره، ونبهت عليه. قال الحافظ ابن حجر: وقد كتب له قبل زيد بن ثابت، أبى بن كعب، وهو أول من كتب له بالمدينة، وأول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن أبى

سرح، ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، وممن كتب له فى الجملة أكثر من غيره الخلفاء الأربعة وأبان وخالد ابنا سعيد بن العاص بن أمية. وقد كتب- صلى الله عليه وسلم- إلى أهل الإسلام كتبا فى الشرائع والأحكام. منها كتابه فى الصدقات الذى كان عند أبى بكر، فكتبه أبو بكر لأنس لما وجهه إلى البحرين ولفظه كما فى البخارى وأبى داود والنسائى: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التى فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتى أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: فى أربعة وعشرين من الإبل فما دونها، من الغنم فى كل خمس من الإبل شاة. فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر. فإنذا بلغت ستّا وثلاثين إلى خمس وأربعين، ففيها بنت لبون أنثى. فإذا بلغت ستّا وأربعين إلى ستين، ففيها حقة طروقة الجمل. فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة. فإذا بلغت ستّا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون. فإذا بلغت إحدى وسبعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان طروقتا الجمل. فإذا زادت عن عشرين ومائة، ففى كل أربعين ابنة لبون وفى كل خمسين حقة. ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل، فليست فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة. ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما.

ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا ابنة لبون، فإنه تقبل منه بنت لبون، ويعطى شاتين أو عشرين درهما. ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده حقة، فإنه تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون، وليست عنده وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطى معها عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شىء. وفى صدقة الغنم فى سائمتها إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاة شاة. فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان. فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه. فإذا زادت على ثلاثمائة ففى كل مائة شاة. فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج فى الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدّق.

وفى الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) «1» . قوله وفى الرقة: الدراهم المضروبة، والهاء فيه عوض من الواو المحذوفة من الورق. قاله ابن الأثير فى الجامع. وقال فى فتح البارى: هى بكسر الراء وتخفيف القاف: الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة. ومنها كتابه الذى كان عند عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، فى نصب الزكاة وغيرها، كما رواه أبو داود والترمذى عن سالم عن أبيه: كتب- صلى الله عليه وسلم- كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عماله وقرنه بسيفه حتى قبض، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض وكان فيه: فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان وفى خمسة عشر ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بنت مخاض، إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها ابنة لبون، إلى خمس وأربعين، فإن زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففى كل خمسين حقة وفى كل أربعين ابنة لبون. وفى الغنم فى كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة فشاتان، إلى المائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففى كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شىء حتى تبلغ المائة. ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية، ولا يؤخذ فى الصدقة هرمة ولا ذات عيب.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1454) فى الزكاة، باب: زكاة الغنم، وأبو داود (1567) فى الزكاة، باب: فى زكاة السائمة، والنسائى (5/ 18) فى الزكاة، باب: زكاة الإبل، وابن ماجه (1800) فى الزكاة، باب: إذا أخذ المصدق ستّا دون سن أو فوق سن، وأحمد فى «مسنده» (1/ 11) .

قال الزهرى: وإذا جاء المصدق قسم الشاء أثلاثا، ثلث خيار، وثلث أوساط، وثلث شرار، وأخذ من الوسط «1» رواه أبو داود والترمذى وقال: حديث حسن، قال: ورواه يونس وغير واحد عن الزهرى عن سالم ولم يرفعه. قال ابن الأثير فى النهاية: والخليط: المخالط، يريد به الشريك الذى يخلط ماله بمال شريكه، والتراجع بينهما هو أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة وللآخر ثلاثون بقرة ومالهما مختلط، فيأخذ الساعى عن الأربعين مسنة وعن الثلاثين تبيعا، فيرجع باذل المسنة بثلاثة أسباعها على شريكه، وباذل التبيع بأربعة أسباعه على شريكه، لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع وكأن المال ملك واحد. انتهى. وقال فى فتح البارى: واختلف فى المراد بالخليط، فعند أبى حنيفة أنه الشريك، واعترض عليه بأن الشريك لا يعرف عين ماله. وقد قال: إنهما يتراجعان بينهما بالسوية، وما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ «2» وقد بينه قبل ذلك بقوله: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ «3» . واعتذر بعضهم عن الحنفية: بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث، أو رأوا أن الأصل قوله: ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وحكم الخليط يغاير هذا الأصل، فلم يقولوا به، وقال أبو حنيفة: لا يجب على أحد منهم فيما يملك إلا مثل الذى يجب عليه لو لم يكن خلطة. وقال سفيان الثورى: لا يجب حتى يتم لهذا أربعون شاة ولهذا أربعون شاة.

_ (1) قاله أبو داود عقب الحديث (1568) فيما تقدم، والترمذى (621) فى الزكاة، باب: ما جاء فى زكاة الإبل والغنم. (2) سورة ص: 22. (3) سورة ص: 23.

وقال الشافعى وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا، والخلطة عندهم أن يجتمعا فى المسرح والمبيت والحوض والفحل، والشركة أخص منها. انتهى. ومنها كتابه- صلى الله عليه وسلم- إلى أهل اليمن، وهو كتاب جليل، فيه من أنواع الفقه فى الزكاة والديات والأحكام، وذكر الكبائر والطلاق والعتاق، وأحكام الصلاة فى الثوب الواحد والاحتباء فيه، ومس المصحف وغير ذلك. واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات، ورواه النسائى وقال: قد روى هذا الحديث يونس عن الزهرى مرسلا، وأبو حاتم فى صحيحه وغيرهما متصلا عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن، وكان فى كتابه: أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وفيه: أن الرجل يقتل بالمرأة، وفيه: فى النفس الدية مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار، وفى الأنف إذا أوعب جدعه الدية مائة من الإبل، وفى الأسنان الدية، وفى الشفتين الدية، وفى البيضتين الدية، وفى الذكر الدية، وفى الصلب الدية، وفى العينين الدية، وفى الرجل الواحدة نصف الدية، وفى المأمومة ثلث الدية، وفى الجائفة ثلث الدية، وفى المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفى كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفى السن خمس من الإبل «1» . وفى رواية مالك: وفى العين خمسون، وفى اليد خمسون، وفى الرجل خمسون، وفى الموضحة خمس من الإبل. ومنها كتابه إلى بنى زهير. وأما مكاتباته- عليه الصلاة والسلام- إلى الملوك وغيرهم: فروى أنه- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من الحديبية كتب إلى الروم، فقيل له: إنهم لا يقرؤن كتابا إلا أن

_ (1) أخرجه النسائى (8/ 57) فى القسامة، باب: ذكر حديث عمرو بن حزم فى العقول واختلاف الناقلين له، وابن حبان فى «صحيحه» (6559) ، والحاكم فى «مستدركه» (1/ 552) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (4/ 89) بسند فيه مقال.

يكون مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، و «الله» سطر، وختم به الكتاب «1» . وإنما كانوا لا يقرؤن الكتاب إلا مختوما خوفا من كشف أسرارهم، وللإشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغى أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم. وعن أنس، إن ختم كتاب السلطان والقضاة سنة متبعة، وقال بعضهم: هو سنة لفعله- صلى الله عليه وسلم-. فكتب إلى قيصر، المدعو «هرقل» ملك الروم يوم ذاك، ثم قال بعد تمام الكتاب «من ينطلق بكتابى هذا إلى هرقل وله الجنة» فقالوا: وإن لم يصل يا رسول الله؟ قال: «وإن لم يصل» فأخذه دحية بن خليفة الكلبى، وتوجه إلى مكان فيه هرقل. ولفظه: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله- وفى رواية البخارى: عبد الله ورسوله- إلى هرقل عظيم الروم- وفى رواية غير البخارى: إلى قيصر صاحب الروم-: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «2» «3» . رواه البخارى. وكان- صلى الله عليه وسلم- أرسل هذا الكتاب مع دحية بن خليفة الكلبى إلى هرقل فى آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية، كما قاله الواقدي. ووقع فى

_ (1) انظر صحيح البخارى (3106) فى الخمس، باب: ما ذكر فى درع النبى- صلى الله عليه وسلم- وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه، والترمذى (1747 و 1748) فى اللباس، باب: ما جاء فى نقش الخاتم. (2) سورة آل عمران: 64. (3) صحيح: أخرجه البخارى (7) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1773) فى الجهاد والسير، باب: كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.

تاريخ خليفة أن إرساله كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبى سفيان: بأن ذلك كان فى مدة صلح الحديبية كما فى حديث البخارى، فى المدة التى كان- صلى الله عليه وسلم- ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، يعنى مدة صلح الحديبية، وكانت سنة ست اتفاقا. ولم يقل- صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ملك الروم، لأنه معزول بحكم الإسلام، ولم يخله من الإكرام لمصلحة التأليف. وقوله: يؤتك الله أجرك مرتين، أى لكونه مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم-. وقوله: فإن عليك إثم الأريسين: أى فإن عليك مع إثمك إثم الأتباع بسبب أنهم اتبعوك على استمرار الكفر. وقيل: إنه- صلى الله عليه وسلم- كتب هذه الآية: يعنى يا أَهْلَ الْكِتابِ «1» قبل نزولها، فوافق لفظه لفظها لما نزلت، لأن هذه الآية نزلت فى قصة وفد نجران، وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبى سفيان هذه كانت قبل ذلك سنة ست. وقيل: نزلت فى اليهود، وجوز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد والله أعلم. ولما قرىء كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم- غضب ابن أخى قيصر غضبا شديدا وقال: أرنى الكتاب، فقال له وما تصنع به؟: فقال: إنه بدأ بنفسه، وسماك صاحب الروم، فقال له عمه: إنك لضعيف الرأى، أتريد أن أرمى بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، أو كلاما هذا معناه، أو قال: أن أرمى بكتاب ولم أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق: أنا صاحب الروم، والله مالكى، ومالكه، ثم أمر بإنزال دحية وإكرامه إلى أن كان من أمره ما ذكره البخارى فى حديثه. انتهى. وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى أبرويز بن هرمز بن أنو شروان ملك فارس.

_ (1) سورة آل عمران: 64.

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أدعوك بدعاية الله، فإنى رسول الله إلى الناس كلهم، لينذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن توليت فعليك إثم المجوس) . فلما قرىء عليه الكتاب مزقه، فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «مزق ملكه» «1» . وفى البخارى من حديث ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمى، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يمزقوا كل ممزق «2» . وقيل: بعثه مع عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، والذى فى البخارى هو الصحيح. وفى كتاب «الأموال» لأبى عبيد من مرسل عمير بن إسحاق قال: كتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية» . وروى أنه لما جاء الجواب كسرى قال: «مزق ملكه» ولما جاء جواب هرقل قال: «ثبت ملكه» . وذكر شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر العسقلانى فى فتح البارى. عن سيف الدين قلج المنصورى، أحد أمراء الدولة القلاوونية، أنه قدم على ملك المغرب بهدية من الملك المنصور قلاوون، فأرسله ملك المغرب إلى ملك

_ (1) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 121) ، وما بعده. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2939) فى الجهاد والسير، باب: دعوة اليهود والنصارى وعلى ما يقاتلون عليه وما كتب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال.

الفرنج فى شفاعة، وأنه قبله وأكرمه، وقال: لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج له صندوقا مصفحا بذهب، فأخرج منه مقلمة من ذهب فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدى قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا عن آبائهم إلى قيصر، إنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا. انتهى «1» . وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشى «2» : (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة، أما بعد: فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعنى وتؤمن بالذى جاءنى، فإنى رسول الله، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله تعالى، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتى، وقد بعثت إليكم ابن عمى جعفرا ومعه نفر من المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى) . وبعث الكتاب مع عمرو بن أمية الضمرى، فقال النجاشى له عندما قرأ الكتاب: أشهد بالله أنه النبى الأمى الذى ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر عنه، ولكن أعوانى من الحبش قليل، فأنظرنى حتى أكثر الأعوان وألين القلوب. ثم كتب النجاشى جواب الكتاب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-:

_ (1) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (1/ 44) . (2) قلت: النجاشى، لقب لكل من ملك الحبشة، وهو غير النجاشى الذى صلى عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كما ورد فى مسلم (1774) فى الجهاد والسير، باب: كتب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

(بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشى أصحمة، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركات الله الذى لا إله إلا هو الذى هدانى للإسلام أما بعد: فقد بلغنى كتابك يا رسول الله، فما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا، إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت إليك ابنى، وإن شئت أتيتك بنفسى فعلت يا رسول الله، فإنى أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته) . ثم إنه أرسل ابنه فى أثر من أرسله من عنده مع جعفر بن أبى طالب عم رسول الله، فلما كانوا فى وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكانوا سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من القرآن يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى- عليه الصلاة والسلام-، وفيهم أنزل الله: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا «1» . إلى آخر الآية، لأنهم كانوا من أصحاب الصوامع. انتهى. الثفروق: علاقة ما بين النواة والقشر. وهذا هو أصحمة الذى هاجر إليه المسلمون فى رجب سنة خمس من النبوة، وكتب إليه النبى- صلى الله عليه وسلم- كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية الضمرى سنة ست من الهجرة، فامن به وأسلم على يد جعفر بن أبى طالب، وتوفى فى رجب سنة تسع من الهجرة ونعاه النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم توفى وصلى عليه بالمدينة. وأما النجاشى الذى ولى بعده، وكتب له النبى- صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى

_ (1) سورة المائدة: 82.

الإسلام فكان كافرا، لم يعرف إسلامه ولا اسمه. وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما. وفى صحيح مسلم عن قتادة: أن نبى الله- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشى وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشى الذى صلى عليه «1» . وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية واسمه جريح بن مينا «2» . (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم القبط، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «3» . وبعث به مع حاطب بن أبى بلتعة، فتوجه إليه إلى مصر، فوجده بالإسكندرية، فذهب إليها، فرآه فى مجلس مشرف على البحر، فركب سفينة إليه وحاذى مجلسه وأشار بالكتاب إليه، فلما رآه أمر بإحضاره بين يديه، فلما جىء به إليه، ووقف بين يديه، ونظر إلى الكتاب فضه وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على فيسلط على؟ فقال له حاطب: وما منع عيسى أن يدعو على من خالفه أن يسلط عليه؟ فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت، فقال له حاطب: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى. فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.

_ (1) قلت: هو لفظ الحديث السابق تخريجه. (2) انظر الخبر فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 260- 261) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 122) . (3) سورة آل عمران: 64.

فقال: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه. فقال حاطب: ندعوك إلى دين الإسلام الكافى به الله فقد ما سواه، إن هذا النبى دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمرى ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم-، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعاء أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبى أدرك قوما فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبى، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به. فقال المقوقس: إنى قد نظرت فى أمر هذا النبى، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ومل أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر. فأخذ كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم- وجعله فى حق من عاج ودفعه لجارية له، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-. بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيّا قد بقى، وكنت أظن أن يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام. ولم يزد على هذا، ولم يسلم. وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى: ذكر الواقدى «1» بإسناده عن عكرمة قال: وجدت هذا الكتاب فى كتب ابن عباس بعد موته، فنسخته فإذا فيه: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى وكتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام. فكتب المنذر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أما بعد، يا رسول الله فإنى قد قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب

_ (1) هو: محمد بن عمر بن واقد الواسطى، أبو عبد الله المدنى، كان من أوعية العلم، ورأسا فى المغازى والسير، إلا أنه متروك الحديث.

الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى يهود ومجوس، فأحدث إلى فى ذلك أمرك. فكتب إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله. أما بعد، فإنى أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلى ويتبع أمرهم فقد أطاعنى، ومن نصح لهم فقد نصح لى، وإن رسلى قد أثنوا عليك خيرا، وإنى قد شفعتك فى قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية. وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى ملكى عمان، وبعثه مع عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى جيفر- بفتح الجيم وسكون التحتية بعدها فاء- وعبد ابنى الجلندى: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإنى رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلى تحل بساحتكما، وتظهر نبوتى على ملككما. وكتب أبي بن كعب، وختم الكتاب. قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد- وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا- فقلت إنى رسول الله صلى الله عليه وسلم- إليك وإلى أخيك. فقال: أخى المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك عليه. ثم قال: وما تدعو إليه؟

قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: يا عمرو إنك كنت ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة. قلت: مات ولم يؤمن بمحمد- صلى الله عليه وسلم-، وددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت على مثل رأيه حتى هدانى الله للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبا، فسألنى: أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشى، وأخبرته أن النجاشى قد أسلم. قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة فى رجل أفضح له من كذب. قلت: ما كذبت وما نستحله فى ديننا. ثم قال: فأخبرنى ما الذى يأمر به وينهى عنه. قلت: يأمر بطاعة الله- عز وجل- وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنا وشرب الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذى يدعو إليه، ولو كان أخى يتابعنى لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به، ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا. قلت: إن أسلم ملكه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقرائهم. قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الصدقات فى الأموال، حتى

انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو، يؤخذ من سوائم مواشينا التى ترعى الشجر وترد المياه؟ فقلت: نعم. قال: والله ما أرى قومى فى بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون هذا. قال: فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبرى، ثم إنه دعانى يوما فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعى فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعونى لأجلس فنظرت، فقال: تكلم بحاجتك فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففض ختمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره. ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أنى رأيت أخاه أرق منه، فقال: ألا تخبرنى عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه إما راغب فى الدين وإما مقهور بالسيف، قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا فى الإسلام واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله أنهم كانوا فى ضلال. فما أعلم أحدا بقى غيرك فى هذه الحرجة، وإن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال. قال: دعنى يومى هذا وارجع إلى غدا. فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو إنى لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه. حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لى، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أنى لم أصل إليه، فأوصلنى إليه فقال: إنى فكرت فيما دعوتنى إليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما فى يدى، وهو لا تبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت: وأنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجى، خلا به أخوه فأصبح فأرسل إلى فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدق النبى- صلى الله عليه وسلم-، وخليا بينى وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا على من خالفنى. وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى صاحب اليمامة هوذة بن على، وأرسل به سليط بن عمرو العامرى:

(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هوذة بن على، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يدك) . فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مختوما، أنزله وحباه واقترأ عليه الكتاب، فرد ردّا دون رد وكتب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-: ما أحسن ما تدعو إليه وأجله، والعرب تهاب مكانى فاجعل إلى بعض الأمر أتبعك. وأجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر. فقدم بذلك على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، وقرأ النبى- صلى الله عليه وسلم- كتابه وقال: لو سألنى سيابة من الأرض ما فعلت. باد، وباد ما فى يديه. فلما انصرف النبى- صلى الله عليه وسلم- من الفتح جاءه جبريل- عليه السّلام- بأن هوذة مات، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أما إن اليمامة سيظهر بها كذاب يتنبأ، يقتل بعدى» «1» فكان كذلك. وكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى، وكان بدمشق، بغوطتها. (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، فإنى أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك) ، وأرسله مع شجاع بن وهب. قال صاحب «باعث النفوس» : روى عن أبى هند الدارى قال: قدمنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن ستة نفر: تميم بن أوس الدارى، وأخوه نعيم، ويزيد بن قيس، وأبو عبد الله بن عبد الله- وهو صاحب الحديث- وأخوه الطيب بن عبد الله فسماه النبى- صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن، وفاكه بن النعمان، فأسلمنا وسألنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقطعنا أرضا من أرض الشام، فقال:

_ (1) انظر «نصب الراية» للحافظ الزيلعى (4/ 425) .

- صلى الله عليه وسلم- «سلوا حيث شئتم» قال أبو هند فنهضنا من عنده- صلى الله عليه وسلم- إلى موضع نتشاور فيه: أين نسأل. فقال تميم: أرى أن نسأله بيت القدس وكورتها، فقال أبو هند: رأيت ملك العجم اليوم، أليس هو بيت المقدس، قال تميم: نعم، فقال أبو هند: فكذلك يكون فيه ملك العرب، وأخاف ألايتم لنا هذا. قال تميم: نسأله بيت جيرون وكورتها، فقال أبو هند: أكبر وأكبر، فقال تميم: فأين ترى أن نسأل؟ قال: أرى أن نسأله القرى التى نصنع فيها حصونا مع ما فيها من آثار إبراهيم- عليه السّلام-، فقال تميم: أصبت ووفقت. قال: فنهضنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا تميم أتحب أن تخبرنى بما كنتم فيه، أو أخبركم» فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله فنزداد إيمانا، فقال عليه السّلام-: أردت يا تميم أمرا، وأراد أبو هند غيره، ونعم الرأى رأى أبى هند، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقطعة من أدم، وكتب لهما فيها كتابا نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم- للداريين إذا أعطاه الله الأرض، وهب لهم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم ومن فيهم إلى أبد الأبد) شهد عباس بن عبد المطلب وخزيمة بن قيس، وشرحبيل بن حسنة وكتب. قال: ثم دخل بالكتاب إلى منزله فعالج فى زاوية الرقعة بشىء لا يعرف، وعقد من خارج الرقعة بسير عقدتين، وخرج به إلينا مطويّا وهو يقول: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ «1» . ثم قال: انصرفوا حتى تسمعوا أنى قد هاجرت. قال أبو هند: فانصرفنا، فلما هاجر- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابا آخر، فكتب لنا كتابا آخر نسخته. (بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أنطى «2» محمد رسول الله لتميم

_ (1) سورة آل عمران: 68. (2) أى: أعطى.

الدارى وأصحابه، إنى أنطيتكم «1» بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم وجميع ما فيهم نطية «2» بت ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم أبد الأبد، فمن آذاهم فيه آذاه الله» شهد أبو بكر بن أبى قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، ومعاوية بن أبى سفيان وكتب. فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر- رضى الله عنه- وجند الجنود إلى الشام كتب كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم. من أبى بكر الصديق إلى أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد: فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد فى قرى الداريين، وإن كان أهلها قد جلوا عنها وأراد الداريون يزرعونها فليزرعوها بلا خراج وإذا رجع إليها أهلها فهى لهم وأحق بهم والسلام عليك انتهى. نقل من كتاب الأخصا بفضائل المسجد الأقصى. وكتب- صلى الله عليه وسلم- ليوحنة بن رؤبة صاحب أيلة «3» لما أتاه بتبوك، وصالح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأعطاه الجزية. بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله ومحمد النبى رسول الله ليوحنة بن رؤبة وأهل أيلة أساقفتهم وسائرهم فى البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبى ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر. هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وكتب- صلى الله عليه وسلم- لأهل جربا وأذرح لما أتوه بتبوك أيضا وأعطوه الجزية: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبى رسول الله لأهل

_ (1) أى: أعطيتكم. (2) أى: عطية، وهى كما هى مكتوبة لهجة من لهجات العرب، وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخاطب بعض الوفود بلغاتهم رغبة منه فى تأليف قلوبهم ودخولهم الإسلام. (3) انظر الكتاب فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 212) .

أذرح وجربا أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد. وإن عليهم مائة دينار فى كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة «1» . وعن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده ضميرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرّ بأم ضميرة وهى تبكى، فقال «ما يبكيك أجائعة أنت أم عارية أنت؟» فقالت: يا رسول الله فرق بينى وبين ابنى فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يفرق بين الوالدة وولدها» ثم أرسل إلى الذى عنده ضميرة فدعاه فابتاعه منه ببكر قال ابن أبى ذؤيب ثم أقرأنى كتابا عنده: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأبى ضميرة وأهل بيته، أن رسول الله أعتقهم وأنهم أهل بيت من العرب، إن أحبوا أقاموا عند رسول الله وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم فلا يعرض لهم إلا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرا «2» . وكتب أبي بن كعب. وكتب- صلى الله عليه وسلم- كتابا إلى أهل وج «3» ، سيأتى فى وفد ثقيف فى الفصل العاشر من هذا المقصد إن شاء الله تعالى. وكذا كتابه- صلى الله عليه وسلم- إلى مسيلمة الكذاب فى وفد بنى حنيفة. وكتب- صلى الله عليه وسلم- لأكيدر ولأهل دومة الجندل لما صالحه «4» : بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر ولأهل دومة، إن لنا الضاحية من الضحل، والبور والمعامى وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعدّ فاردتكم، ولا يحصر عليكم النبات،

_ (1) انظر المصدر السابق (1/ 212) . (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 107) وقال: رواه البزار، وفيه حسين بن عبد الله بن ضميرة، وهو متروك كذاب. (3) وج: اسم واد بالطائف. (4) انظره فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 220) .

وأما أمراؤه - عليه الصلاة والسلام -:

تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك حق الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين. والضاحى: البارز الظاهر. والضحل: الماء القليل. البور: الأرض تستخرج. والمعامى: أعفال الأرض. والحصن: دومة الجندل. والضامنة: النخل الذى معهم فى الحصن. والمعين: الظاهر من الماء الدائم. وباع- صلى الله عليه وسلم- للعداء عبدا وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله، اشترى عبدا أو أمة- شك الراوى- لا داء ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم للمسلم «1» . رواه أبو داود والدار قطنى. والغائلة: الإباق والسرقة والزنا. الخبثة: قال ابن أبى عروبة: بيع غير أهل المسلمين. وكان إسلام العداء بعد فتح خيبر، وهذا يدل على مشروعية الإشهاد فى المعاملات قال الله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ «2» والأمر هنا ليس للوجوب. فقد باع- صلى الله عليه وسلم- ولم يشهد، واشترى ورهن درعه عند يهودى ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن خوف المنازعة والله أعلم. وأما أمراؤه- عليه الصلاة والسلام- «3» : فمنهم: باذان بن ساسان من ولد بهرام، أمره- صلى الله عليه وسلم- على اليمن، وهو أول أمير فى الإسلام على اليمن، وأول من أسلم من ملوك العجم. وأمر- صلى الله عليه وسلم- على صنعاء خالد بن سعيد. وولى زياد بن لبيد الأنصارى حضر موت.

_ (1) قلت: بل هو عند الترمذى (1216) فى البيوع، باب: ما جاء فى كتابة الشروط، وابن ماجه (2251) فى التجارات، باب: شراء الرقيق، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (5/ 327) بسند حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) سورة البقرة: 282. (3) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 125- 126) .

وأما رسله - صلى الله عليه وسلم -

وولى أبا موسى الأشعرى زبيد وعدن. وولى معاذ بن جبل الجند. وولى أبا سفيان بن حرب نجران. وولى ابنه يزيد تيماء. وولى عتّاب- بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية- ابن أسيد- بفتح الهمزة وكسر السين- مكة، وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان. وولى على بن أبى طالب القضاء باليمن. وولى عمرو بن العاص عمان وأعمالها. وولى أبا بكر الصديق إقامة الحج سنة تسع، وبعث فى أثره عليّا، فقرأ على الناس براءة، فقيل: لأن أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج، وقيل أردفه به عونا له ومساعدا، ولهذا قال له الصديق: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور، وأما الرافضة فقالوا: بل عزله، وهذا لا يبعد من بهتهم وافترائهم. وقد ولى- صلى الله عليه وسلم- على الصدقات جماعة كثيرة. وأما رسله- صلى الله عليه وسلم- ، فقد روى أنه- عليه السّلام- بعث ستة نفر فى يوم واحد «1» ، فى المحرم سنة سبع. وذكر القاضى عياض فى الشفاء مما عزاه للواقدى: أنه أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم. انتهى. وكان أول رسول بعثه- صلى الله عليه وسلم- عمرو بن أمية الضمرى، إلى النجاشى ملك الحبشة، وكتب إليه كتابين يدعوه فى أحدهما إلى الإسلام ويتلو عليه القرآن، فأخذه النجاشى ووضعه على عينيه ونزل عن سريره، فجلس على الأرض ثم أسلم وشهد شهادة الحق وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته. وفى الكتاب الآخر أن يزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان، فزوجه إياها كما تقدم فى ذكر الأزواج، ودعا بحق من عاج فجعل فيه كتابى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال: «لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرهم» وصلى عليه النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو بالحبشة كذا قاله الواقدى وغيره. وليس كذلك، فإن النجاشى الذى صلى عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليس هو الذى كتب إليه، كما قدمته.

_ (1) المصدر السابق (1/ 121- 122) .

وبعث- صلى الله عليه وسلم- دحية بن خليفة الكلبى- وهو أحد الستة- إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل يدعوه إلى الإسلام، فهمّ بالإسلام فلم توافقه الروم فخافهم على ملكه فأمسك. وبعث عبد الله السهمى إلى كسرى وهو الثالث. وبعث الرابع وهو حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس فأكرمه، وبعث إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بجاريتين وكسوة وبغلة ولم يسلم. وبعث الخامس وهو شجاع بن وهب الأسدى إلى ملك البلقاء الحارث ابن أبى شمر الغسانى. وبعث السادس وهو سليط بن عمرو العامرى إلى هوذة وإلى ثمامة بن أثال الحنفى فأسلم ثمامة. وبعث عمر بن العاص فى ذى القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى بعمان فأسلما وصدقا. وبعث العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى بن العبدى ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة- وقيل قبل الفتح- فأسلم وصدق. وبعث المهاجر بن أبى أمية المخزومى إلى الحارث بن عبد كلال الحميرى باليمن، فقال سأنظر فى أمرى. وبعث أبا موسى الأشعرى ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك سنة عشر فى ربيع الأول داعيين إلى الإسلام، فأسلم غالب أهلها من غير قتال. ثم بعث على بن أبى طالب بعد ذلك إليهم ووافاه بمكة فى حجة الوداع. وبعث جرير بن عبد الله البجلى إلى ذى الكلاع وذى عمرو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلما وتوفى- صلى الله عليه وسلم- وجرير عندهم. وبعث عمرو بن أمية الضمرى إلى مسيلمة الكذاب بكتاب. وبعث إلى فروة بن عمرو الجذامى- وكان عاملا لقيصر- يدعوه إلى

الإسلام فأسلم، وكتب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بإسلامه، وبعث إليه بهدية مع مسعود بن سعد، وهى: بغلة شهباء، يقال لها فضة، وفرس يقال له الظرب، وحمار يقال له يعفور، وبعث إليه أثوابا وقباء سندسيا مذهبا، فقبل هديته ووهب لمسعود بن سعد اثنى عشر أوقية. وبعث المصدقين لأخذ الصدقات هلال المحرم سنة تسع: فبعث عيينة بن حصن الفزارى إلى بنى تميم. وبعث بريدة- ويقال كعب ابن مالك- إلى أسلم وغفار. وبعث عباد بن بشر إلى سليم ومزينة. وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة. وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة. وبعث الضحاك بن سفيان إلى بنى كلاب. وبعث بشر بن سفيان الكعبى- ويقال النحام العدوى- إلى بنى كعب. وبعث عبد الله بن اللتبية إلى ذبيان. وبعث رجلا من سعد هذيم إلى قومه.

الفصل السابع فى مؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه

الفصل السابع فى مؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه أما مؤذنوه فأربعة «1» : اثنان بالمدينة: بلال بن رباح، وأمه حمامة، مولى أبى بكر الصديق، وهو أول من أذن لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤذن بعده لأحد من الخلفاء إلا أن عمر لما قدم الشام حين فتحها أذن بلال، فتذكر الناس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال أسلم مولى عمر- فلم أر باكيا أكثر من يومئذ، وتوفى بلال سنة سبع عشرة، أو ثمانى عشرة، أو عشرين بداريا بباب كيسان، وله بضع وستون سنة، وقيل دفن بحلب، وقيل بدمشق. وعمرو بن أم مكتوم القرشى الأعمى، وهاجر إلى المدينة قبل النبى- صلى الله عليه وسلم-. وأذن له- عليه السّلام- بقباء، سعد بن عائد أو ابن عبد الرحمن المعروف بسعد القرظ وبالقرظى، مولى عمار، بقى إلى ولاية الحجاج على الحجاز، وذلك سنة أربع وسبعين. وبمكة أبو محذورة، واسمه أوس الجمحى المكى، أبوه: معير- بكسر الميم وسكون المهملة وفتح التحتانية- مات بمكة سنة تسع وخمسين، وقيل تأخر بعد ذلك. وكان منهم من يرجع الأذان ويثنى الإقامة، وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعى بإقامة بلال، وأهل مكة أخذوا بأذان أبى محذورة وإقامة بلال. وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبى محذورة، وأخذ أحمد وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك فى موضعين: إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة.

_ (1) انظر «المصدر السابق» (1/ 124- 125) .

وأما شعراؤه - صلى الله عليه وسلم - الذين يذبون عن الإسلام:

وأما شعراؤه- صلى الله عليه وسلم- الذين يذبون عن الإسلام: فكعب بن مالك. وعبد الله بن رواحة الخزرجى الأنصارى. وحسان بن ثابت بن المنذر بن عمرو بن حرام الأنصارى، دعا له- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم أيده بروح القدس» «1» . فيقال: أعانه جبريل بسبعين بيتا، وفى الحديث «إن جبريل مع حسان ما نافح عنى» «2» . وهو بالحاء المهملة أى دافع، والمراد هجاء المشركين ومجاوبتهم على أشعارهم. وعاش مائة وعشرين سنة، ستين فى الجاهلية وستين فى الإسلام، وكذا عاش أبوه ثابت، وجده المنذر، وجد أبيه حرام، كل واحد منهم عاش مائة وعشرين سنة، وتوفى حسان سنة أربع وخمسين. ولما جاءه- صلى الله عليه وسلم- بنو تميم، وشاعرهم الأقرع بن حابس، فنادوه يا محمد اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زين وذمنا شين. فلم يزد صلى الله عليه وسلم- على أن قال: «ذاك الله إذا مدح زان وإذا ذم شان، إنى لم أبعث بالشعر، ولم أومر بالفخر، ولكن هاتوا» فأمر- عليه السّلام- ثابت بن قيس أن يجيب خطيبهم فخطب فغلبهم. فقام الأقرع بن حابس شاعرهم فقال: أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر المكارم وأنا رؤس الناس على فى كل معشر ... وإن ليس فى أرض الحجاز كدارم فأمر- صلى الله عليه وسلم- حسانا يجيبهم فقام فقال:

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3212) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (2485) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت- رضى الله عنه-، من حديثه وحديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2490) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت رضى الله عنه-، وأبو داود (5015) فى الأدب، باب: ما جاء فى الشعر، واللفظ له، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

بنى دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول ما بين قن وخادم وكان أول من أسلم شاعرهم. وكان أشد شعرائه- صلى الله عليه وسلم- على الكفار حسان وكعب. ولما رجع صلى الله عليه وسلم- من تبوك وفد عليه وفد همدان، وعليهم مقطعات الحبرات- الخز- والعمائم العدنية، جعل ملك بن النمط يرتجز بين يديه- صلى الله عليه وسلم-. وكان خطيبه- صلى الله عليه وسلم- ثابت بن قيس بن شماس- بمعجمة وميم مشددة وآخره مهملة- وهو خزرجى، شهد له النبى- صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وكان خطيبه وخطيب الأنصار، واستشهد يوم اليمامة سنة اثنتى عشرة. وكان يحدو بين يديه- صلى الله عليه وسلم- فى السفر عبد الله بن رواحة، وفى رواية الترمذى فى الشمائل عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة فى عمرة القضية وابن رواحة يمشى بين يديه ويقول: خلوا بنى الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله «1» وقد تقدم مزيد لهذا فى عمرة القضية والله أعلم. وعامر بن الأكوع- بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الواو وبالعين المهملة- وهو عم سلمة بن الأكوع، استشهد يوم خيبر، ومرت قصته فى غزوتها. وأنشجة، العبد الأسود- وهو بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم وبالشين المعجمة- وكان حسن الحداء. قال أنس: كان البراء بن مالك يحدو بالرجال وأنجشة يحدو بالنساء. وقد كان يحدو وينشد القريض والرجز. فقال

_ (1) تقدم.

له- صلى الله عليه وسلم- كما فى رواية البراء بن مالك-: «عبد رويدك رفقا بالقوارير» «1» أى النساء. فشبههن بالقوارير من الزجاج، لأنه يسرع إليها الكسر، فلم يأمن صلى الله عليه وسلم- أن يصيبهن أو يقع فى قلوبهن حداؤه فأمره بالكف عن ذلك. وفى المثل: الغناء رقية الزنا. وقيل أراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت فى المشى واشتدت فأزعجت الراكب وأتعبته، فنهاه عن ذلك لأن النساء يضعفن عن شدة الحركة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6149) فى الأدب، باب: ما يجوز من الشعر والرجز، ومسلم (2323) فى الفضائل، باب: رحمة النبى- صلى الله عليه وسلم- للنساء وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهم، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وليس البراء بن مالك كما ذكر المصنف، ولعله وهم.

الفصل الثامن فى آلات حروبه صلى الله عليه وسلم كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه

الفصل الثامن فى آلات حروبه صلى الله عليه وسلم كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه «1» أما أسيافه- صلى الله عليه وسلم- فكان له تسعة أسياف: مأثور، وهو أول سيف ملكه- صلى الله عليه وسلم- وهو الذى يقال إنه قدم به إلى المدينة فى الهجرة. والعضب، أرسله إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر. وذو الفقار، لأنه كان فى وسطه مثل فقرات الظهر، ويجوز فى «فائه» الفتح والكسر، وصار إليه يوم بدر، وكان للعاصى بن منبه، وكان هذا السيف لا يفارقه- صلى الله عليه وسلم- يكون معه فى كل حرب يشهدها، وكانت قائمته وقبيعة وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله من فضة. والقلعى، بضم الفاء وفتح اللام، وهو الذى أصابه من قلع، موضع بالبادية. والبتار، أى القاطع. والحتف، وهو الموت. والمخدم، وهو القاطع. والرسوب، أى يمضى فى الضريبة ويغيب فيها، وهو فعول من رسب يرسب إذا ذهب إلى أسفل وإذا ثبت. أصابهما من الفلس- بضم الفاء وإسكان اللام- صنم كان لطىء. والقضيب.

_ (1) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 130- 133) .

وأما أدراعه فسبعة:

وأما أدراعه فسبعة: ذات الفضول، بالضاد المعجمة، لطولها، أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت من حديد، وهى التى رهنها عند أبى الشحم اليهودى على شعير، وكان ثلاثين صاعا، وكان الدين إلى سنة «1» . وذات الوشاح. وذات الحواشى. والسعدية، ويقال بالغين المعجمة، وهى درع عكبر القينقاعى، قيل وهى درع داود- عليه السّلام- التى لبسها حين قتل جالوت. وفضة وكان قد أصابهما من بنى قينقاع. والبتراء، لقصرها. والخرنق، باسم ولد الأرنب. كان عليه- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد درعان، ذات الفصول وفضة. وكان عليه- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين درعان: ذات الفضول والسعدية. وأما أقواسه- صلى الله عليه وسلم- فكانت ستة: الزوراء، وثلاث من سلاح بنى قينقاع، قوس تدعى الروحاء، وقوس تدعى الصفراء، وشوحط، والكتوم وكسرت يوم أحد فأخذها قتادة، والسداد. وكانت له جعبة تدعى الكافور، وكانت له منطقة من أديم فيها ثلاث حلق فضة، والإبزيم من فضة، والطرف من فضة. وأما أتراسه ، فكان له- صلى الله عليه وسلم- ترس اسمه: الزلوق، يزلق عنه السلاح، وترس يقال له الفتق، وترس أهدى إليه، فيه صورة تمثال عقاب أو كبش، فوضع يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال «2» .

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2916) فى الجهاد والسير، باب: ما قيل فى درع النبى- صلى الله عليه وسلم- والقميص فى الحرب، ومسلم (1603) فى المساقاة، باب: الرهن وجوازه فى الحضر كالسفر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 379) .

وأما أرماحه - صلى الله عليه وسلم -

وأما أرماحه- صلى الله عليه وسلم- ، فالمثوى: قال ابن الأثير سمى به لأنه يثبت المطعون به، من الثوى وهو الإقامة. انتهى. والمثنى، ورمحان آخران. وكانت له- صلى الله عليه وسلم- حربة كبيرة اسمها البيضاء، وكانت له- عليه السّلام- حربة أخرى صغيرة دون الرمح شبه العكاز، يقال لها العنزة، وكانت تركز أمامه ويصلى إليها. وكان له- صلى الله عليه وسلم- مغفر من حديد يسمى السبوغ، أو ذا السبوغ، وآخر يسمى الموشح. تكميل: وكان له- صلى الله عليه وسلم- فسطاط يسمى الكن. وكان له محجن قدر ذراع أو أكثر يمشى ويركب به ويعلقه بين يديه على بعيره. وكانت له مخصرة تسمى العرجون، وقضيب من الشوحط يسمى الممشوق. وكان له قدح يسمى الريان، وآخر يسمى مغيثا، وآخر مضبب بسلسلة من فضة فى ثلاثة مواضع، وآخر من عيدان، وآخر من زجاج. وتور من حجارة يسمى المخضب، وركوة تسمى الصادرة، ومخضب من نحاس، ومغتسل من صفر، ومدهن وربعة اسكندرانية يجعل فيها المرآة، ومشط من عاج- وهو الذبل- والمكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثا فى كل عين، وكان له فى الربعة أيضا المقراض والسواك. وهذه الربعة أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية مع مارية أم إبراهيم عليه السّلام-. وكانت له قصعة تسمى الغراء، بأربع حلق، وصاع، ومد. وقطيفة وسرير قوائمة من ساج، وفراش من أدم حشوه ليف. وخاتم من حديد، ملوى بفضة، وخاتم فضة، فصه منه، يجعله فى يمينه، وقيل: كان أولا فى يمينه ثم حوله إلى يساره، منقوش عليه: محمد رسول الله. وأهدى له النجاشى خفين ساذجين فلبسهما. وكان له ثلاث جباب يلبسهن فى الحرب، جبة سندس أخضر، وجبة طيالسة. وعمامة يقال لها السحاب، وأخرى سوداء، ورداء، - صلوات الله وسلامه عليه-.

الفصل التاسع فى ذكر خيله صلى الله عليه وسلم ولقاحه ودوابه

الفصل التاسع فى ذكر خيله صلى الله عليه وسلم ولقاحه ودوابه «1» أما خيله- صلى الله عليه وسلم-: فالسكب، يقال: فرس سكب أى: كثير الجرى كأنما يصب جريه صبّا، وأصله من سكب الماء يسكب، وهو أول فرس ملكه، اشتراه- عليه السّلام- بعشر أواق، وكان أغر محجلا طلق اليمين، كميتا، وقال ابن الأثير: كان أدهم. والمرتجز- بضم الميم وسكون الراء وفتح التاء وكسر الجيم بعدها زاى- سمى به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذى هو ضرب من الشعر، وكان أبيض، وهو الذى شهد له فيه خزيمة بن ثابت، فجعل شهادته بشهادة رجلين «2» . والظرب- بالظاء المعجمة- واحد الظراب، سمى به لكبره وسمنه، وقيل لقوته وصلابة حافره، أهداها له فروة بن عمرو الجذامى. واللحيف- بالمهملة- أهداها له ربيعة بن البراء، سمى به لسمنه وكبره، كأنه يلحف الأرض أى يغطيها بذنبه لطوله، فعيل بمعنى فاعل، يقال لحفت الرجل باللحاف. طرحته عليه، ويروى بالجيم وبالخاء المعجمة، رواه البخارى ولم يتحققه، والمعروف بالحاء المهملة، قاله فى النهاية. واللزاز، سمى به لشدة تلززه، أو لاجتماع خلقه. ولزبه الشىء أى لزق به، كأنه يلتزق بالمطلوب لسرعته، وهذه أهداها له المقوقس.

_ (1) انظر «زاد المعاد» (1/ 133) . (2) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (3607) فى الأقضية، باب: إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، وهو عند البخارى (4784) فى التفسير مختصرا.

والورد، قال ابن سعد: أهداها له تميم الدارى، فأعطاه عمر فحمل عليه فى سبيل الله، ثم وجده يباع برخص فقال: «لا تشتره» . وسبحة، بالموحدة، من قولهم: فرس سابح إذا كان حسن مد اليدين فى الجرى. قال ابن بنين: هى فرس شقراء اشتراها من أعرابى من جهينة بعشر من الإبل. فهذه سبعة متفق عليها: وذكر ابن بنين فيما حكاه الحافظ الدمياطى: البحر، فى خيله- صلى الله عليه وسلم-، قال: وكان اشتراه من تجار قدموا من اليمن، فسبق عليه مرات، فجثا- صلى الله عليه وسلم- على ركبتيه ومسح وجهه وقال «ما أنت إلا بحر» فسمى بحرا. قال ابن الأثير: وكان كميتا وكان سرجه دفتان من ليف. والسجل، بكسر السين وسكون الجيم، ذكره على بن محمد بن الحسين ابن عبدوس الكوفى، ولعله مأخوذ من قولك سجلت الماء فانسجل، أى صببته فانصب. وذو اللمة- بكسر اللام وتشديد الميم- ذكره ابن حبيب. وذو العقال بضم العين المهملة وتشديد القاف، وحكى بعضهم تخفيفها. والسرحان- بكسر المهملة وسكون الراء- ذكره ابن خالويه. والطرف- بكسر الطاء المهملة وسكون الراء بعدها فاء- ذكره ابن قتيبة فى المعارف، وذكر فى رواية أنه الذى اشتراه من الأعرابى وشهد له به خزيمة ابن ثابت. والمرتجل- بكسر الجيم- ذكره ابن خالويه، من قولهم ارتجل الفرس ارتجالا، إذا خلط العنق بشىء من الهملجة. والمرواح- بكسر الميم- من أبنية المبالغة- كالمطعام- مشتق من الريح، أو من الرواح لتوسعه فى الجرى، أهداها له قوم من مذحج، ذكره ابن سعد.

وملاوح، - بضم الميم وكسر الواو- ذكره ابن خالويه. والمندوب، ذكره بعضهم فى خيله- صلى الله عليه وسلم-. والنجيب، ذكره ابن قتيبة، وأن فى رواية: أنه الذى اشتراه من الأعرابى وشهد له به خزيمة. واليعبوب واليعسوب ذكرهما قاسم بن ثابت فى كتاب الدلائل، وكان سرجه دفتان من ليف. وكان له- صلى الله عليه وسلم- من البغال: دلدل: بدالين مهملتين، وكانت شبهاء أهداها له المقوقس. وفضه: أهداها له فروة بن عمرو الجذامى. وأخرى: أهداها له ابن العلماء، صاحب أيلة. وأخرى من دومة الجندل، وأخرى من عند النجاشى. قيل: وأهدى له كسرى بغلة أخرى، وفى ذلك نظر، لأن كسرى مزق كتابه- صلى الله عليه وسلم-. وكان له- صلى الله عليه وسلم- من الحمير: عفير، أهداه له المقوقس، ويعفور، أهداه له فروة بن عمرو، ويقال: هما واحد، وذكر أن سعد بن عبادة أعطى للنبى صلى الله عليه وسلم- حمارا فركبه. وكان له- صلى الله عليه وسلم- من اللقاح: القصواء وهى التى هاجر عليها، والعضباء والجدعاء ولم يكن بهما عضب ولا جدع، وإنما سميتا بذلك، وقيل كان بأذنها عضب، وقيل: العضباء والجدعاء- واحدة، والعضباء هى التى كانت لا تسبق فجاء أعرابى على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم-: «إن حقّا على الله ألايرفع من الدنيا شيئا إلا وضعه» «1» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6501) فى الرقاق، باب: التواضع، من حديث أنس رضى الله عنه-.

وغنم- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر جملا لأبى جهل فى أنفه برة من فضة، فأهداه يوم الحديبية ليغيظ بذلك المشركين. وكانت له خمسة وأربعون لقحة أرسل بها إليه سعد بن عبادة: منها: أطلال، وأطراف، وبردة، وبركة، والبغوم، والحناء، ورمزه، والرياء، والسعدية، وسقيا، والسمراء، والشقراء، وعجرة، والعريس، وغوثة، وقيل: غيثة، وقمر، ومروة، ومهرة، وورشة، والعسيرة. وكانت له مائة شاة، وكانت له ستة أعنز منائح ترعاهن أم أيمن.

الفصل العاشر فى ذكر من وفد عليه صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه

الفصل العاشر فى ذكر من وفد عليه صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه «1» قال النووى: الوفد، الجماعة المختارة للتقدم فى لقاء العظماء، واحدهم: وافد، انتهى. وقد كان ابتداء الوفود عليه بعد رجوعه- صلى الله عليه وسلم- من الجعرانة فى آخر سنة ثمان وما بعدها، وقال ابن إسحاق: بعد غزوة تبوك، وقال ابن هشام: كانت سنة تسع تسمى سنة الوفود. وقد سرد محمد بن سعد فى الطبقات الوفود، وتبعه الدمياطى فى السيرة له، وابن سيد الناس، ومغلطاى، والحافظ زين الدين العراقى. ومجموع ما ذكروه يزيد على الستين. فقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد هوازن «2» ، كما ذكره البخارى وغيره، وذكر موسى بن عقبة فى المغازى: أن رسول الله لما انصرف من الطائف فى شوال إلى الجعرانة وفيها السبى- يعنى سبى هوازن- قدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فيهم تسعة نفر من أشرافهم فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه فقالوا: يا رسول الله، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات، فقال: «سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم، فأى الأمرين أحب إليكم، السبى أم المال» قالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين الحسب والمال، فالحسب أحب إلينا، ولا نتكلم فى شاة ولا بعير، فقال: «أما الذى لبنى هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين فكلموهم وأظهروا إسلامكم» .

_ (1) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 595- 687) . (2) انظره فى «صحيح البخارى» (4319) فى المغازى، باب: قول الله تعالى وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ الآية، من حديث مروان والمسور بن مخرمة- رضى الله عنهما-.

فلما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الهاجرة قاموا، فتكلم خطباؤهم فأبلغوا ورغبوا إلى المسلمين فى رد سبيهم، ثم قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين فرغ، فشفع لهم وحض المسلمين عليه، وقال: «قد رددت الذى لبنى هاشم عليهم» «1» ، وفى رواية ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: وأدركه وفد هوازن بالجعرانة، وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك. فامنن علينا منّ الله عليك، وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله، إن اللواتى فى الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك، وأنت خير مكفول ثم أنشد: امنن علينا رسول الله فى كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر الأبيات المشهورة الآتية- إن شاء الله تعالى-. وروينا فى المعجم الصغير للطبرانى من ثلاثياته، عن زهير بن صرد الجشمى يقول: لما أسرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين- يوم هوازن- وذهب يفرق السبى والشاء أتيته فأنشأت أقول هذا الشعر: امنن علينا رسول الله فى كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مشتت شملها فى دهرها غير أبقت لنا الدهر هتافا على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين تختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من مخضها الدرر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتى وما تذر لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر إنا لنشكر للنعماء إذ كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر يا خير من مرحمت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر

_ (1) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (5/ 190- 200) .

إنا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هادى البرية إذ تعفو وتنتصر فاعفو عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر قال: فلما سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- هذا الشعر قال: «ما كان لى ولعبد المطلب فهو لكم» وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله «1» . ومن بين الطبرانى وزهير لا يعرف، لكن يقوى حديثه بالمتابعة المذكورة، فهو حديث حسن، وقد وهم من زعم أنه منقطع. وقد زاد الطبرانى على ما أورده ابن إسحاق خمسة أبيات. وذكر الواقدى: أن وفد هوازن كانوا أربعة وعشرين بيتا، فيهم أبو برقان السعدى، فقال: يا رسول الله، إن هذه لأمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك فامنن علينا منّ الله عليك، فقال: «قد استأنيت «2» بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبى» «3» . وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد ثقيف، بعد قدومه- صلى الله عليه وسلم- من تبوك، وكان من أمرهم أنه- صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف قيل له: يا رسول الله ادع على ثقيف، فقال: «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» «4» . ولما انصرف عنهم، اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فلما أشرف على علية له، وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله. ثم أقامت ثقيف بعد قتله أشهرا، ثم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة

_ (1) انظر المصدر السابق. (2) استأنيت: انتظرت. (3) انظر «فتح البارى» (8/ 34) . (4) تقدم فى غزوة الطائف.

لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فبعثوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومعه اثنان من الأحلاف: الحكم ابن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك، وشرحبيل بن غيلان، وثلاثة من بنى مالك: عثمان بن أبى العاص، وأوس بن عوف، ونمير بن خرشة، فلما قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضرب لهم قبة فى ناحية المسجد، وكان خالد ابن سعيد بن العاصى هو الذى يمشى بينهم وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أسلموا واكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذى كتبه، وكان فيما سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يدع لهم الطاغية- وهى اللات- لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم- صلى الله عليه وسلم- إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها. وكانوا سألوه مع ذلك أن يعفيهم من الصلاة، وألايكسروا أوثانهم إلا بأيديهم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «كسروا أوثانكم بأيديكم وأما الصلاة فلا خير فى دين لا صلاة فيه» «1» فلما أسلموا وكتب لهم الكتاب أمّر عليهم عثمان بن أبى العاص وكان من أحدثهم سنّا، لكنه كان من أحرصهم على التفقه فى الإسلام وتعلم القرآن. فرجعوا إلى بلادهم ومعهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية، فلما دخل المغيرة عليها علاها يضربها بالمعول، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها، وأخذ المغيرة بعد أن كسرها مالها وحلبها. وكان كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى كتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المؤمنين: إن عضاه وج وصيده حرام لا يعضد، ومن وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد، وتنزع ثيابه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ النبى محمدا، وإن هذا أمر النبى محمد رسول الله، وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله.

_ (1) انظر خبرهم فى سنن أبى داود (3025 و 3026) فى الخراج والإمارة والفىء، باب: ما جاء فى خبر الطائف.

و «وج» : واد بالطائف. واختلف فيه: هل هو حرم يحرم صيده وقطع شجره؟ فالجمهور: أنه ليس فى البقاع حرم إلا حرم مكة والمدينة. وخالفهم أبو حنيفة فى حرم المدينة. وقال الشافعى- فى أحد قوليه- وج حرم، يحرم صيده وشجره، واحتج لهذا القول بحديثين: أحدهما: ما تقدم، والثانى: حديث عروة بن الزبير عن أبيه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله» «1» رواه الإمام أحمد وأبو داود. لكن فى سماع عروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه. وفى مغازى المعتمر بن سليمان التيمى عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفى عن عمه عمرو بن أوس عن عثمان بن أبى العاص، قال: استعملنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف، وذلك أنى كنت قرأت سورة البقرة، فقلت: يا رسول الله، إن القرآن يتفلت منى، فوضع يده على صدرى وقال: «يا شيطان اخرج من صدر عثمان» «2» ، فما نسيت شيئا بعده أريد حفظه. وفى صحيح مسلم، عن عثمان بن أبى العاص، قلت: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بينى وبين صلاتى وقراءتى، فقال: «ذلك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا» قال: ففعلت فأذهبه الله عنى «3» . وقدم وفد بنى عامر «4» عليه- صلى الله عليه وسلم-، قال ابن إسحاق: لما فرغ- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2032) فى المناسك، باب: فى مال الكعبة، وأحمد فى «مسنده» (1/ 165) بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) قلت: فى إسناده عبد الله بن عبد الرحمن، قال عنه الحافظ فى «التقريب» : صدوق يخطىء ويهم، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 3) وقال: رواه الطبرانى وفيه عثمان بن بسر، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2203) فى السلام، باب: التعوذ من شيطان الوسوسة. (4) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 568- 569) .

من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، فدخلوا فى دين الله أفواجا يضربون إليه من كل وجه. فوفد إليه- صلى الله عليه وسلم- بنو عامر، فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس وخالد بن جعفر، وحيان بن أسلم بن مالك، وكان هذا النفر رؤساء القوم وشياطينهم، فقدم- عدو الله- عامر بن الطفيل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يريد أن يغدر به، فقال لأربد إذا قدمنا على الرجل فإنى شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فأعله بالسيف فكلم عامر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: والله لأملأنها عليك خيلا ورجلا، فلما ولى قال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اكفنى عامر بن الطفيل» «1» . فلما خرجوا، قال عامر لأربد: ويحك، أينما كنت أمرتك به؟ فقال: والله ما هممت بالذى أمرتنى به إلا دخلت بينى وبينه، أفأضربك بالسيف؟ ولما كانوا ببعض الطريق بعث الله تعالى على عامر بن الطفيل الطاعون فى عنقه فقتله الله. وفى صحيح البخارى: أن عامرا أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: أخيرك بين ثلاث خصال، يكون لك أهل السهل، ولى أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء. فطعن فى بيت امرأة فقال: أغدة كغدة البكر فى بيت امرأة من بنى فلان. ائتونى بفرسى فركب فمات على ظهر فرسه «2» . وقدم وفد عبد القيس «3» عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه وهى قبيلة كبيرة يسكنون البحرين ينسبون إلى عبد القيس بن أفصى- بسكون الفاء بعدها مهملة بوزن أعمى- ابن دعمى- بضم الدال وسكون العين المهملتين وكسر الميم بعدها تحتانية-.

_ (1) ذكره البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 319) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (4091) فى المغازى، باب: غزوة الرجيع. (3) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (5/ 320) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 238) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 605- 606) .

وفى الصحيحين من حديث ابن عباس: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ممن القوم» قالوا: من ربيعة، قال: «مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى» فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا فى شهر حرام، فمرنا بأمرنا فصل، نأخذ به ونأمر به من وراءنا، وندخل به الجنة. قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، فاحفظوهن وادعوا إليهن من وراءكم» ) «1» . قال ابن القيم: ففى هذه القصة أن الإيمان بالله مجموع هذه الخصال من القول والعمل، كما علي ذلك أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتابعون وتابعوهم كلهم، ذكر ذلك الشافعى فى المبسوط، وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل من الكتاب والسنة، ولم يعد الحج من هذه الخصال، وكان قدومهم فى سنة تسع، وهذا أحد ما يحتج به على أن الحج لم يكن فرض بعد، وأنه إنما فرض فى العاشرة، ولو كان فرض لعده من الإيمان كما عد الصوم والزكاة. انتهى. وقد كان لعبد القيس وفدتان: إحداهما: قبل الفتح، ولهذا قالوا له- صلى الله عليه وسلم-: حال بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك قديما، إما سنة خمس أو قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين، وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر رجلا، وقيل كانوا أربعة عشر راكبا، وفيها سألوه عن الإيمان، وعن الأشربة، وكان فيهم الأشج، وكان كبيرهم، وقال له صلى الله عليه وسلم-: «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة» «2» . رواه مسلم من حديث أبى سعيد.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (53) فى الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان، ومسلم (17) فى الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم- وشرائع الدين. (2) صحيح: أخرجه مسلم (17) (25) فيما تقدم، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وليس أبى سعيد كما ذكر المصنف.

وأخرج البيهقى: بينما النبى- صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه قال: «سيطلع عليكم من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق» فقام عمر نحوهم، فلقى ثلاثة عشر راكبا، فبشرهم بقوله- صلى الله عليه وسلم- ثم مشى معهم حتى أتى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فرموا بأنفسهم عن ركائبهم، فأخذوا يده فقبلوها «1» الحديث وأخرجه البخارى فى الأدب المفرد. فيمكن أن يكون أحد المذكورين غير راكب أو مرتدفا. وثانيهما: كانت فى سنة الوفود وكان عددهم حينئذ أربعين رجلا، كما فى حديث أبى خيرة الصباحى عند ابن منده. ويؤيد التعدد: ما أخرجه من وجه آخر أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لهم: «ما لى أرى ألوانكم تغيرت» «2» ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغير، وفى قولهم: يا رسول الله، دليل على أنهم كانوا حين المقالة مسلمين، وكذا فى قولهم كفار مضر، وقولهم: الله ورسوله أعلم. ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا، ما فى البخارى: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين وهى قرية لهم «3» ، وإنما جمّعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، وقال فى فتح البارى: فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام. وما جزم به ابن القيم من أن السبب فى كونه لم يذكر الحج فى الحديث، لأنه لم يكن فرض، هو المعتمد. وقدمت الدليل على قدم إسلامهم، لكن جزمه تبعا للواقدى بأن قدومهم كان فى سنة تسع قبل فتح مكة ليس بجيد، لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح، لكنه اختار كغيره- أن فرض الحج فى السنة العاشرة، حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور شىء. وقد احتج الشافعى لكونه على التراخى بأن فرض الحج كان بعد

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 327) . (2) ذكره الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (8/ 86) . (3) انظر «صحيح البخارى» (892) فى الجمعة، باب: الجمعة فى القرى والمدن.

الهجرة، وأنه- صلى الله عليه وسلم- كان قادرا على الحج فى سنة ثمان، وفى سنة تسع، ولم يحج إلا فى سنة عشر، وسيأتى فى حجه- صلى الله عليه وسلم- من مقصد عباداته مزيد لذلك إن شاء الله تعالى. فإن قلت كيف قال- صلى الله عليه وسلم- آمركم بأربع، والمذكورات خمس؟ قلت أجاب القاضى [عياض] «1» تبعا لابن بطال: بأن الأربع، ما عدا أداء الخمس، قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد، لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها بعينها لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين. قال: ولذلك لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض. وقال غيره: وقوله «وأن تعطوا» معطوف على قوله «بأربع» أى: آمركم بأربع وبأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع والإتيان: بأن والفعل، مع توجيه الخطاب إليهم. وقال القاضى أبو بكر بن العربى: يحتمل أن يقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- عد الصلاة والزكاة واحدة لأنها قرينتها فى كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يعد الخمس لأنه داخل فى عموم إيتاء الزكاة والجامع بينهما: أنه إخراج مال معين. وقال البيضاوى: الظاهر أن الأمور الخمسة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الآخرى حذفها الراوى اختصارا أو نسيانا. وتعقب بأنه وقع فى صحيح البخارى أيضا فى رواية: «آمركم بأربع: شهادة ألاإله إلا الله، وعقد واحدة» فدل على أن الشهادة إحدى الأربع. وقال القرطبى: قيل إن أول الأربع المأمور بها: إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركا، وإلى هذا نحا الطيبى، فقال عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوبا لغرض جعلوا سياقه له، وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض فى

_ (1) فى الأصل عبد الوهاب، والصواب ما أثبتناه نقلا عن «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (1/ 133) المصدر المنقول منه.

الإيراد ذكر الشهادتين لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتى الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر فى صدر الإسلام. قال: ولهذا لم يعد الشهادتين فى الأوامر «1» ، انتهى ملخصا من فتح البارى. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى حنيفة «2» ، فيهم مسيلمة الكذاب، فكان منزلهم فى دار امرأة من الأنصار، من بنى النجار، فأتوا بمسيلمة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم يسترونه بالثياب، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه، فى يده عسيب من سعف النخل، فلما انتهى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-- وهم يسترونه بالثياب- كلمه وسأله، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لو سألتنى هذا العسيب الذى فى يدى ما أعطيتك» «3» . وذكر حديثه ابن إسحاق على غير ذلك فقال: حدثنى شيخ من أهل اليمامة من بنى حنيفة: أن وفد بنى حنيفة أتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخلفوا مسيلمة فى رحالهم، فلما أسلموا ذكروا له مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحبا لنا فى رحالنا وركابنا يحفظها لنا، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم- بما أمر به للقوم، وقال لهم «إنه ليس بشركم مكانا» يعنى لحفظه صنيعة أصحابه، ثم انصرفوا، فلما قدموا اليمامة ارتد- عدو الله- وتنبأ وقال: إنى أشركت فى الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى. وسجع اللعين على سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «4» فقال: إنا أعطيناك

_ (1) انظر المصدر السابق. (2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 576- 577) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 316) ، و «دلائل النبوة» للبيهقى (5/ 330) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 610- 611) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (3621) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2273) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (4) سورة الكوثر: 1.

الجواهر، فصل لربك وهاجر، إن مبغضك رجل فاجر. وفى رواية: إنا أعطيناك الجماهر فخذ لنفسك وبادر، واحذر أن تحرص أو تكاثر، وفى رواية: إنا أعطيناك الكواثر فصل لربك وبادر فى الليالى الغوادر. ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب، وسيأتى فى أوائل مقصد معجزاته- صلى الله عليه وسلم- من تسجيع مسيلمة الركيك مزيد لذلك على ما ذكرته هنا- إن شاء الله تعالى-. وقيل: إنه أدخل البيضة فى القارورة وادعى أنها معجزة له، فافتضح بنحو ما ذكر: أن النوشادر إذا ضرب فى خل الخمر ضربا جيدا، وجعلت فى بيضة بنت يومها يوما وليلة فإنها تمتد كالخيط، فتجعل فى القارورة ويصب عليها الماء البارد فإنها تجمد. ولما سمع اللعين أن النبى- صلى الله عليه وسلم- مسح رأس صبى كان ألمّ به داء فشفى ومج فى بئر فكثر ماؤها، وتفل فى عين على- وكان أرمد- فبرىء. فتفل اللعين فى بئر فغار ماؤها، وفى عين بصير فعمى، ومسح بيده ضرع شاة حلوب فارتفع درها. ويبس ضرعها، ولله در الشقراطيسى حيث يقول يخاطب النبى- صلى الله عليه وسلم-: أعجزت بالوحى أرباب البلاغة فى ... عصر البيان فضلّت أوجه الحيل سألتهم سورة فى مثل حكمته ... فتلّهم عنه حين العجز حين تلى فرام رجس كذوب أن يعارضه ... بعى غى فلم يحسن ولم يطل مثبج بركيك الإفك ملتبس ... ملجلج بزرى الزور والخطل يمج أول حرف سمع سامعه ... ويعتريه كلال العجز والملل كأنه منطق الورهاء شذّ به ... لبس من الخبل أو مس من الخبل أمرت البئر واغورت لمجته ... فيها وأعمى بصير العين بالتفل وأيبس الضرع منه شؤم راحته ... من بعد إرسال رسل منه منهمل

فشبه هذا الكلام الذى عارض به مسيلمة، بكلام امرأة ورهاء، وهى الحمقاء التى تتكلم لحمقها بما لا يفهم، فهى تهذى بكلام مشذب- أى مختلط- لا يقترن بعضه ببعض، ولا يشبه بعضه بعضا ككلام من به خبل بسكون الموحدة- أى فساد، أو مس من الخبل- بفتحها- أي جنون. ثم إن اللعين وضع عن قومه الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه نبى. وقد كان كتب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإنى قد أشركت معك فى الأمر، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر. فقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسوله بهذا الكتاب، فكتب إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. وفى الصحيحين من حديث نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل يقول: إن جعل لى محمد الأمر من بعده اتبعته، وقدمها فى بشر كثير من قومه، فأقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفى يد النبى- صلى الله عليه وسلم- قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة فى أصحابه، فقال: «لو سألتنى هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإنى لأراك الذى أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عنى» ثم انصرف «1» . قال ابن عباس: فسألت عن قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إنك الذى أريت فيه ما رأيت» فأخبرنى أبو هريرة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «بينا أنا نائم رأيت فى يدى سوارين من ذهب فأهمنى شأنهما فأوحى الله إلى فى المنام أن أنفخهما،

_ (1) صحيح: وهو لفظ الحديث السابق بتمامه.

فنفختهما فطارا، فأولتهما: كذابين يخرجان من بعدى، فهذان هما: أحدهما العنسى صاحب صنعاء والآخر مسيلمة» «1» . فإن قلت: كيف يلتئم خبر ابن إسحاق مع الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم- اجتمع به وخاطبه، وصرح بحضرة قومه أنه لو سأله القطعة من الجريدة ما أعطاه. فالجواب: إن المصير إلى ما فى الصحيح أولى. ويحتمل أن يكون مسيلمة قدم مرتين، الأولى كان تابعا وكان رئيس بنى حنيفة غيره، ولهذا أقام فى حفظ رحالهم، ومرة متبوعا، وفيها خاطبه النبى صلى الله عليه وسلم-. أو القصة واحدة، وكانت إقامته فى رحالهم باختياره أنفة منه واستكبارا أن يحضر مجلس النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعامله- صلى الله عليه وسلم- معاملة الكرم على عادته فى الاستئلاف فقال لقومه: «إنه ليس بشركم» أى مكانا، لكونه يحفظ رحالهم، وأراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل، فلما لم يفد فى مسيلمة توجه بنفسه إليه ليقيم عليه الحجة ويعذر إليه بالإنذار. والعلم عند الله تعالى. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد طىء «2» وفيهم زيد الخيل وهو سيدهم، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «ما ذكر لى رجل من العرب بفضل ثم جاءنى إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه» ثم سماه زيد الخير. فخرج راجعا إلى قومه، فلما انتهى إلي ماء من مياه نجد أصابته الحمى بها فمات «3» . قال ابن عبد البر: وقيل مات فى آخر خلافة عمر. وله ابنان: مكنف

_ (1) صحيح أخرجه البخارى (4374) فى المغازى، باب: وفد بنى حنيفة، ومسلم (2273) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-. (2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 577- 578) ، وابن سعد فى «طبقاته» (1/ 321) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 616) . (3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 337) .

وحريث، أسلما وصحبا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وشهد قتال أهل الردة مع خالد. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد كنده «1» فى ثمانين أو ستين راكبا من كنده، فدخلوا عليه مسجده، قد رجّلوا جممهم وتسلحوا، ولبسوا جباب الحبرات مكففة بالحرير، فلما دخلوا قال- صلى الله عليه وسلم-: «أو لم تسلموا» قالوا: بلى، قال: «فما هذا الحرير فى أعناقكم فشقوه فنزعوه وألقوه» «2» . وقدم عليه- زاده الله شرفا لديه- الأشعريون وأهل اليمن. قيل هو من عطف الخاص على العام، وقال الحافظ أبو الفضل شيخ الإسلام ابن حجر: المراد بهم بعض أهل اليمن، وهم وفد حمير. قال: ووجدت فى كتاب الصحابة لابن شاهين من طريق إياس بن عمرو الحميرى: أنه قدم وافدا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى نفر من حمير فقالوا: أتيناك لنتفقه فى الدين الحديث. والحاصل: أن الترجمة تشتمل على طائفتين، وليس المراد اجتماعهما فى الوفادة، فإن قدوم الأشعرين كان مع أبى موسى فى سنة سبع عند فتح خيبر، وقدوم حمير كان فى سنة تسع، وهى سنة الوفود، ولهذا اجتمعوا مع بنى تميم. وروى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوبا» «3» فقدم الأشعريون فجعلوا يرتجزون: غدا نلقى الأحبه ... محمدا وحزبه

_ (1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 585) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 328) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 617) . (2) انظر المصادر السابقة. (3) صحيح: أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 105 و 155 و 182 و 223 و 262) بسند صحيح.

وعن أبي هريرة- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية والسكينة فى أهل الغنم، والفخر والخيلاء فى الفدادين أهل الوبر قبل مطلع الشمس» «1» رواه مسلم. وفى البخارى: إن نفرا من بنى تميم جاؤا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أبشروا يا بنى تميم» فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وجاء نفر من أهل اليمن، فقال: «اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم» قالوا: قد قبلنا، ثم قالوا: يا رسول الله جئنا لنتفقه فى الدين ونسألك عن هذا الأمر، فقال: «كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء وكتب فى الذكر كل شىء» «2» . وقوله: وجاء نفر من أهل اليمن، هم الأشعريون قوم أبي موسى. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- صرد بن عبد الله الأزدى «3» ، فأسلم وحسن إسلامه، فى وفد من الأزد فأمّره- صلى الله عليه وسلم- على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم أهل الشرك من قبائل اليمن. فخرج صرد يسير بأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بجرش، وبها قبائل من قبائل العرب، فحاصروهم فيها قريبا من شهر، وامتنعوا فيها، فرجع عنهم قافلا، حتى إذا كان فى جبل لهم وظنوا أنه إنما ولى عنهم منهزما خرجوا فى طلبه، حتى أدركوه عطف عليهم فقتله قتلا شديدا. وكان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلين منهم، فبينما هما عنده- صلى الله عليه وسلم- عشية فقال لهما- عليه السّلام-: «إن بدن الله لتنحر عند شكر» أى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4388) فى المغازى، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن، ومسلم (52) فى الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3190- 3192) فى بدء الخلق، باب: ما جاء فى قوله الله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-. (3) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 587- 588) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 337) .

المكان الذى وقع به قتل قومهم، قال: فجلس الرجلان إلى أبى بكر وعثمان فقالا لهما إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينعى لكما قومكما. فخرجا إلى قومهما فوجداهم قد أصيبوا فى اليوم الذى قال فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما قال، وفى الساعة التى ذكر فيها ما ذكر. فخرج وفد جرش حتى قدموا عليه- صلى الله عليه وسلم- فأسلموا وحمى لهم حمى حول قريتهم. وفد بنى الحارث بن كعب «1» . قال ابن إسحاق: بعث- صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد فى شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون فى كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه. فأقام خالد يعلمهم الإسلام وكتب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك. ثم أقبل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه وفدهم، منهم: قيس بن الحصين، ويزيد ابن المحجل، وشداد بن عبد الله. وقال لهم- صلى الله عليه وسلم-: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم» قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم، قال: «صدقتم» «2» . وأمر عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم فى بقية من شوال أو من ذى القعدة، فلم يمكثوا إلا أربعة أشهر حتى توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد همدان فيهم: مالك بن النمط، وضمام بن مالك، وعمرو بن مالك، فلقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرجعه من تبوك، وعليهم

_ (1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 592- 594) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 339) . (2) ذكره ابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 622) .

مقطعات الحبرات والعمائم العدنية، على الرواحل المهرية والأرحبية، ومالك ابن النمط يرتجز بين يديه- صلى الله عليه وسلم-. وذكروا له كلاما كثيرا حسنا فصيحا. فكتب لهم- صلى الله عليه وسلم- كتابا أقطعهم فيه ما سألوه، وأمر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وأمره بقتال ثقيف. وكان لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه. وروى البيهقى بإسناد صحيح عن البراء أن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا، ثم إن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعث على بن أبى طالب فأمره أن يقفل خالدا إلا رجلا ممن كان مع خالد أن يعقب مع على. فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا على، ثم صفنا صفّا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، فقرأ عليهم كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلمت همدان جميعا، فكتب على إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم. فلما قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال: «السلام على همدان، السلام على همدان» «1» وأصل الحديث فى صحيح البخارى. وهذا أصح مما تقدم، ولم تكن همدان تقاتل ثقيفا ولا تغير على سرحهم، فإن همدان باليمن وثقيف بالطائف. قاله ابن القيم فى الهدى النبوى. روى البيهقى عن النعمان بن مقرن قال: قدمنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربعمائة رجل من مزينة، فلما أردنا أن ننصرف قال: «يا عمر زود القوم» قال: ما عندى إلا شىء من تمر ما أظنه يقع من القوم موقعا. قال: «انطلق فزودهم» قال: فانطلق بهم عمر فأدخلهم منزله ثم أصعدهم إلى علية، فلما دخلنا فإذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق، فأخذ القوم منه حاجتهم. قال

_ (1) أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (2/ 366) ، وفى «دلائل النبوة» (5/ 369) ، وأصله عند البخارى (4349) فى المغازى، باب: بعث على بن أبى طالب- رضى الله عنه- وخالد بن الوليد- رضى الله عنه- إلى اليمن.

النعمان: وكنت فى آخر من خرج، فنظرت: وما أفقد موضع تمرة من مكانها «1» . وفد دوس «2» : وكان قدومهم عليه- صلى الله عليه وسلم- بخيبر. قال ابن إسحاق: كان الطفيل بن عمرو الدوسى يحدث أنه قدم مكة ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له: إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذى بين أظهرنا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين المرء وابنه وبين المرء وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمع منه. قال: فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت ألاأسمع منه شيئا، ولا أكلمه، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا، فرقا من أن يبلغنى شىء من قوله. قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائم يصلى عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعنى بعض قوله: فسمعت كلاما حسنا، فقلت: واثكل أماه. والله إنى لرجل لبيب شاعر، ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان ما يقول حسنا قبلت، وإن كان قبيحا تركت. قال: فمكثت حتى أتى- صلى الله عليه وسلم- إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته فقلت: يا محمد إن قومك قد قالوا لى كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفونى أمرك حتى سددت أذنى بكرسف ألاأسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولا حسنا، فاعرض على أمرك. فعرض على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وتلا على القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة

_ (1) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 445) بسند حسن. (2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 353) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 624) .

الحق، وقلت: يا رسول الله، إنى امرؤ مطاع فى قومى وإنى راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لى آية. قال: فخرجت إلى قومى حتى إذا كنت بثنية تطلعنى على الحاضر، وقع نور بين عينى مثل المصباح، قال قلت: اللهم فى غير وجهى، إنى أخشى أن يقولوا إنها مثلة وقعت فى وجهى لفراق دينهم، قال: فتحول فوقع فى رأس سوطى كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، حتى جئتهم وأصبحت فيهم، فلما نزلت أتانى أبى- وكان شيخا كبيرا- فقلت: إليك عنى يا أبت، فلست منى ولست منك، قال: ولم يا بنى؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد، قال: يا بنى فدينى دينك، قال فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال أعلمك ما علمت، قال فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم. ثم أتتنى صاحبتى فقلت: إليك عنى فلست منك ولست منى، قالت: لم؟ قلت: فرق الإسلام بينى وبينك، أسلمت وتابعت محمدا- صلى الله عليه وسلم-، قالت: فدينى دينك فأسلمت. ثم دعوت دوسا إلى الإسلام، فأبطئوا على فجئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا نبى الله إنه قد غلبنى على دوس الزنا، فادع الله عليهم، فقال: «اللهم اهد دوسا» ثم قال «ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم» ، فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس. ثم لحقنا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين «1» . وهذا يدل على تقدم إسلامه، وقد جزم ابن أبى حاتم بأنه قدم مع أبى هريرة بخيبر، وكأنها قدمته الثانية.

_ (1) انظر «صحيح البخارى» (2937) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومسلم (2524) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل غفار وأسلم.

وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران «1» ، فلما دخلوا المسجد النبوى بعد العصر حانت صلاتهم، فقاموا يصلون فيه، فأراد الناس منعهم فقال صلى الله عليه وسلم- دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم. وكانوا ستين راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم، العاقب، أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم واسمه عبد المسيح. والسيد: صاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم- بتحتانية ساكنة- ويقال شرحبيل. وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه، وكان يعرف أمر النبى- صلى الله عليه وسلم- وشأنه وصفته مما علمه من الكتب المتقدمة. ولكن حمله جهله على الاستمرار فى النصرانية، لما يرى من تعظيمه ووجاهته عند أهلها. فدعاهم النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، فقال: «إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم» «2» . وفى البخارى من حديث حذيفة، (جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريدان أن يلاعناه- يعنى يباهلاه- فقال أحدهما لا تفعل) «3» . وعند أبى نعيم: أن القائل ذلك هو السيد، وعند غيره: بل الذى قال ذلك هو العاقب، لأنه صاحب رأيهم، وفى زيادات يونس بن بكير فى المغازى أن الذى قال ذلك هو شرحبيل. (فو الله لئن كان نبيّا فلاعناه- يعى: باهلناه- لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا- زاد فى رواية ابن مسعود: أبدا- ثم قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث

_ (1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 573- 574) ، وابن سعد فى «طبقاته» (1/ 357) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 629) . (2) انظر المصادر السابقة. (3) صحيح: أخرجه البخارى (4380) فى المغازى، باب: قصة أهل نجران.

معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين» فاستشرف لها أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «قم يا أبا عبيدة ابن الجراح» فلما قام قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا أمين هذه الأمة» «1» . وفى رواية يونس بن بكير أنه صالحهم على ألفى حلة، ألف فى رجب وألف فى صفر، ومع كل حلة أوقية، وساق الكتاب الذى بينهم مطولا. وذكر ابن سعد: أن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك وأسلما. وفى ذلك مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة. ووقع ذلك لجماعة من العلماء سلفا وخلفا، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضى عليه سنة من يوم المباهلة. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- رسول فروة بن عمرو الجذامى ملك الروم وكان منزله معان- بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، ولما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه ثم صلبوه على ماء بفلسطين، وضربوا عنقه على ذلك الماء «2» . وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- ضمام بن ثعلبة، بعثه بنو سعد بن بكر «3» . روى البخارى من حديث أنس بن مالك قال، (بينما نحن جلوس مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد دخل رجل على جمل فأناخه فى المسجد ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟ والنبى- صلى الله عليه وسلم- متكىء بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكىء، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم-: «قد أجبتك» . فقال: إنى سائلك فمشدد عليك فى المسألة فلا تجد على فى نفسك. فقال: «سل عما بدا لك» . فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: «اللهم نعم» فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلى الصلوات الخمس فى اليوم والليلة؟ قال: «اللهم نعم» .

_ (1) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق. (2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 592) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 646) . (3) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 573، 574) ، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 299) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 647، 648) .

فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: «اللهم نعم» . قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا. فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم نعم» . فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائى من قومى وأنا ضمام بن ثعلبة، أخو بنى سعد بن بكر) «1» . وزاد ابن إسحاق فى مغازيه: فقال: آلله أمرك أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون؟ فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم نعم» . قال: وكان ضمام رجلا جلدا أشقر ذا غديرتين، ثم أتى بعيره وأطلق عقاله ثم خرج حتى أتى قومه فاجتمعوا إليه، وكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى فقالوا: مه يا ضمام اتق البرص والجنون والجذام، قال: ويلكم، إنهما لا يضران ولا ينفعان. إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به، وإنى أشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإنى قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فو الله ما أمسى فى ذلك اليوم فى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة «2» . وفد طارق بن عبد الله وقومه «3» . روى البيهقى عن جامع بن شداد قال: حدثنى رجل يقال له طارق بن عبد الله قال: إنى لقائم بسوق ذى المجاز إذ أقبل رجل وهو يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة يقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت من

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (63) فى العلم، باب: ما جاء فى العلم. (2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 573- 574) ، والمصادر السابقة قبل حديث. (3) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (5/ 380) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 648) .

هذا؟ فقالوا: هذا غلام من بنى هاشم يزعم أنه رسول الله. قال قلت: من هذا الذى يفعل به هذا؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى. قال: فلما أسلم الناس وهاجروا، خرجنا من الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها، فلما دنونا من حيطانها قلنا: لو نزلنا فلبسنا ثيابا غير هذه، فإذا رجل فى طمرين له فسلم وقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة، قال: وأين تريدون؟ قلنا: نريد المدينة، قال: ما حاجتكم فيها؟ قلنا: نتمار من تمرها، قال: ومعنا ظعينة لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: أتبيعون جملكم هذا؟ قالوا: نعم بكذا وكذا صاعا من تمر، فأخذ بخطام الجمل فانطلق، فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها قلنا: ما صنعنا، والله ما بعنا جملنا ممن نعرف ولا أخذنا له ثمنا. قال: تقول المرأة التى معنا: والله لقد رأيت رجلا كأن وجهه قطعة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم. وفى رواية ابن إسحاق قالت الظعينة: فلا تلاوموا، لقد رأيت وجه رجل لا يغدر بكم، ما رأيت شيئا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، إذ أقبل رجل فقال: أنا رسول رسول الله إليكم، هذا تمركم فكلوا واشبعوا واكتالوا واستوفوا، فأكلنا حتى شبعنا، وأكلنا واستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فلما دخلنا المسجد إذا هو قائم على المنبر يخطب الناس فأدركنا من خطبته وهو يقول: «تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى» . وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد تجيب «1» ، وهم من السكون، ثلاثة عشر رجلا، قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم، فسر عليه السّلام- بهم وأكرم منزلهم، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم، ثم جاؤا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يودعونه فأمر بلالا فأجازهم بأرفع مما كان يجيز به الوفود. قال: «هل بقى منكم أحد؟» قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنّا، قال: «أرسلوه إلينا» فلما أقبل الغلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا

_ (1) بضم التاء وفتحها، بطن من كندة، وانظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 323) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 650) .

رسول الله، إن حاجتى ليست كحاجة أصحابى، وإن كانوا راغبين فى الإسلام، والله ما أخرجنى من بلادى إلا أن تسأل الله أن يغفر لى ويرحمنى وأن يجعل غناى فى قلبى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه فى قلبه» ثم أمر له بما أمر به لرجل من أصحابه. ثم انطلقوا راجعين إلى أهليهم. ثم وافوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمنى سنة عشر، فقال: «ما فعل الغلام؟» قالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها. قدوم وفد بنى سعد هذيم من قضاعة «1» : روى الواقدى عن ابن النعمان عن أبيه من سعد هذيم قال: قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وافدا فى نفر من قومى، فنزلنا ناحية من المدينة ثم خرجنا نؤم المسجد الحرام، فقمنا ناحية ولم ندخل مع الناس فى صلاتهم حتى نلقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونبايعه، ثم بايعناه- صلى الله عليه وسلم- على الإسلام ثم انصرفنا إلى رحالنا. وقد كنا خلفنا أصغرنا، فبعث- صلى الله عليه وسلم- فى طلبنا فأتى بنا إليه، فتقدم صاحبنا إليه فبايعه على الإسلام، فقلنا يا رسول الله، إنه أصغرنا وخادمنا، فقال: «أصغر القوم خادمهم، بارك الله عليك» قال: فكان والله خيرنا وأقرأنا بدعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم أمّره علينا، فكان يؤمنا مرجعنا إلى قومنا، فرزقهم الله الإسلام. وقد بنى فزارة «2» : قال أبو الربيع بن سالم فى كتاب الاكتفاء: ولما رجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك، قدم عليه وفد بنى فزارة، بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، ابن أخى عيينة بن حصن، وهو أصغرهم، مقرين بالإسلام، وهم مسنتون، على ركاب عجاف، فسألهم

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 329) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 652) . (2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 297) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 653) .

- صلى الله عليه وسلم- عن بلادهم فقال أحدهم، يا رسول الله، أسنتت بلادنا وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا، فادع لنا ربك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «سبحان الله!! ويلك، هذا إنما شفعت إلى ربى- عز وجل-: فمن ذا الذى يشفع ربنا إليه؟ لا إله إلا هو العلى العظيم، وسع كرسيه السماوات والأرض، فهى تئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرحل الجديد» «1» . وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله عز وجل ليضحك من شفقكم وقرب غياثكم» . فقال الأعرابى: يا رسول الله، ويضحك ربنا عز وجل؟ قال: «نعم» . فقال الأعرابى: لن نعدمك من رب يضحك خيرا. فضحك- صلى الله عليه وسلم- من قوله وصعد المنبر فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: «اللهم اسق بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا طبقا واسعا عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق. اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» «2» ، الحديث رواه ابن سعد والبيهقى، ويأتى تمامه- إن شاء الله تعالى- فى الاستسقاء فى مقصد عباداته- صلى الله عليه وسلم-. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى أسد «3» ، عشرة رهط فيهم وابصة بن معبد، وطلحة بن خويلد، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه، فقال متكلمهم: يا رسول الله إنا شهدنا أن الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك ولم تبعث إلينا بعثا. فأنزل الله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «4» .

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 143) . (2) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات الكبرى» (1/ 297) . (3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 292) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 654) . (4) سورة الحجرات: 17.

وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بهراء «1» من اليمن «2» ، وكانوا ثلاثة عشر رجلا، فلما انتهوا إلى باب المقداد رحب بهم، وقدم لهم جفنة من حيس، فأكلوا منها حتى نهلوا. وردت القصعة وفيها شىء، فجمع فى قصعة صغيرة وأرسل بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيت أم سلمة، فأصاب منها هو ومن معه فى البيت حتى نهلوا، ثم أكل منها الضيف ما أقاموا، يرددون ذلك عليهم وما تغيض، حتى جعلوا يقولون: يا أبا معبد، إنك لتنهلنا من أحب الطعام إلينا، وما كنا نقدر على مثل هذا إلا فى الحين، فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه أكل منها وردها، وأن هذه بركة أصابعه- صلى الله عليه وسلم-، فجعل القوم يقولون: نشهد أنه رسول الله، وازدادوا يقينا، وتعلموا الفرائض، وأقاموا أياما، ثم ودعوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمر لهم بجوائز وانصرفوا إلى أهليهم. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد عذرة «3» ، فى صفر سنة تسع، وكانوا اثنى عشر رجلا، منهم جمرة بن النعمان، فرحب بهم- صلى الله عليه وسلم-، فأسلموا وبشرهم بفتح الشام وهرب هرقل إلى ممتنع من بلاده، ثم انصرفوا وقد أجيزوا. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بلى «4» ، فأسلموا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله الذى هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو فى النار» . ثم ودعوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن أجازهم. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى مرة «5» وكانوا ثلاثة عشر رجلا، ورئيسهم

_ (1) بهراء: بفتح الباء وإسكان الهاء، قبيلة من قضاعة. (2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 33) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 655- 656) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 56) . (3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 331) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 657) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 56- 57) . (4) بلىّ: بفتح الباء وكسر اللام وياء مشددة، والنسبة إليها بلوى نسبة إلى بلى بن عمر بن الحاف بن قضاعة، وانظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 330) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 657) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 57) . (5) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 297- 298) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 661) .

الحارث بن عوف، فقال لهم- صلى الله عليه وسلم-: «كيف البلاد؟» فقالوا: والله إنا لمسنتون، فادع الله لنا، فقال- عليه السّلام-: «اللهم اسقهم الغيث» . ثم أقاموا أياما ورجعوا بالجائزة فوجدوا بلادهم قد أمطرت فى ذلك اليوم الذى دعا لهم فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقدم عليه- زاده الله شرفا لديه- وفد خولان «1» ، فى شعبان سنة عشر، وكانوا عشرة، فقالوا: يا رسول الله، نحن مؤمنون بالله مصدقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباط الإبل، وركبنا حزون الأرض وسهولها، والمنة لله ولرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أما ما ذكرتم من مسيركم إلى فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارنى بالمدينة كان فى جوارى يوم القيامة» . ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «ما فعل صنم خولان الذى كانوا يعبدونه؟» قالوا: بدلنا الله به ما جئت به، إلا أن عجوزا وشيخا كبيرين يتمسكان به، وإن قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى. ثم علمهم- صلى الله عليه وسلم- فرائض الدين، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار، وألايظلموا أحدا، ثم أجازهم ورجعوا إلى قومهم، وهدموا الصنم. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد محارب «2» عام حجة الوداع، وكانوا أغلظ العرب وأفظهم عليه أيام عرضه على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاءه- صلى الله عليه وسلم- منهم عشرة فأسلموا، ثم انصرفوا إلى أهليهم. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد صداء «3» فى سنة ثمان، وذلك أنه لما انصرف

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 324) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 662- 663) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 58- 59) . (2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 299) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 663- 664) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 59) . (3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 326- 327) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 664- 666) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 59- 61) .

من الجعرانة بعث قيس بن سعد عبادة فى أربعمائة، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن فيها صداء، فقدم رجل منهم علم بالبعث على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله اردد الجيش، وأنا لك بقومى، فرد قيسا. ورجع الصدائى إلى قومه فقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خمسة عشر رجلا منهم، فبايعوه على الإسلام ورجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهم مائة رجل فى حجة الوداع. ذكره الواقدى. وذكر من حديث زياد بن الحارث الصدائى أنه الذى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال له: اردد الجيش، وقال: كان زياد هذا معه- صلى الله عليه وسلم- فى بعض أسفاره وأنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «يا أخا صداء هل معك ماء؟» قلت: معى شىء فى إداوتى، فقال: «صبه» ، فصببته فى قعب ثم وضع- عليه الصلاة والسلام- كفه فيه فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه عينا تفور. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد غسان «1» ، فى شهر رمضان سنة عشر، وكانوا ثلاثة نفر، فأسلموا وأجازهم- صلى الله عليه وسلم- بجوائز، وانصرفوا راجعين. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد سلامان «2» فى شوال سنة عشر، كما قال الواقدى، وكانوا سبعة نفر، فيهم حبيب بن عمرو، فأسلموا وشكوا إليه جدب بلادهم فدعا لهم ثم ودعوه وأمر لهم بالجوائز، ورجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد أمطرت فى اليوم الذى دعا لهم فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلك الساعة. وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى عبس «3» ، فقالوا: يا رسول الله، قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، فإن كان لا

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 330) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 669) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 61) . (2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 332) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 669- 670) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 61- 62) . (3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 295) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 670- 671) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 62) .

إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم عن أعمالكم شيئا» «1» . وقدم عليه وفد غامد «2» سنة عشر، وكانوا عشرة، فأقروا بالإسلام وكتب لهم كتابا فيه شرائع الإسلام، وأمر أبى بن كعب فعلمهم قرآنا، وأجازهم- صلى الله عليه وسلم- وانصرفوا. وقدم عليه وفد الأزد «3» ، ذكر أبو نعيم فى كتاب معرفة الصحابة، وأبو موسى المدينى، من حديث أحمد بن أبى الحوارى، قال: سمعت أبا سليمان الدارانى. قال: حدثنى علقمة بن يزيد بن سويد الأزدى قال: حدثنى أبى عن جدى قال: وفدت سابع سبعة من قومى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا فقال: «ما أنتم» قلنا مؤمنون فتبسم- صلى الله عليه وسلم- وقال: «إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟» قلنا: خمس عشرة خصلة، خمس منها أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها فى الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم-: «ما الخمس التى أمرتكم بها رسلى؟» . قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. قال: «وما الخمس التى أمرتكم أن تعملوا بها؟» . قلنا: أمرتنا أن نقول لا إله إلا الله ونقيم الصلاة ونؤتى الزكاة، ونصوم رمضان ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلا. قال: «وما الخمس التى تخلقتم بها فى الجاهلية؟» . قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضا بمر القضاء، والصدق فى مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء.

_ (1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (1/ 295) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 345) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 671) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 63) . (3) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 672- 673) .

فقال- صلى الله عليه وسلم-: «حكماء علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء» ، ثم قال: «وأنا أزيدكم خمسا فتتم لكم عشرون خصلة، إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا فى شىء أنتم عنه غدا زائلون، واتقوا الله الذى إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخالدون» . فانصرفوا وقد حافظوا وصيته- صلى الله عليه وسلم- وعملوا بها «1» . وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد بنى المنتفق. روى عبد الله، ابن الإمام أحمد فى مسند أبيه عن دلهم بن الأسود عن عاصم بن لقيط، أن لقيط بن عامر بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، أبا رزين العقيلى، المعدود فى أهل الطائف، خرج وافدا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق، فوافيناه- صلى الله عليه وسلم- حين انصرف من صلاة الغداة، فقام فى الناس خطيبا فقال: «يا أيها الناس، ألا إنى قد خبأت لكم صوتى منذ أربعة أيام لتسمعوا اليوم، ألا فهل من امرىء بعثه قومه» فقالوا له اعلم لنا ما يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ألا ثم لعله يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه، ألا وإنى مسئول هل بلغت، ألا اسمعوا تعيشوا ... الحديث. وفيه ذكر البعث والنشور والجنة والنار، وفيه: ثم قلت: يا رسول الله، علام أبايعك؟ فبسط- صلى الله عليه وسلم- يده وقال: «على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وألاتشرك بالله شيئا» «2» . وقدم عليه- صلى الله عليه وسلم- وفد النخع «3» ، وهم آخر الوفود قدوما عليه. وكان قدومهم فى نصف المحرم سنة إحدى عشرة، فى مائتى رجل، فنزلوا دار الأضياف، ثم جاؤا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقرين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل.

_ (1) منكر: وفى إسناده علقمة بن يزيد بن سويد، لا يعرف، قاله الحافظ فى «لسان الميزان» (4/ 188) ، وزاد قائلا: وأتى بخبر منكر فلا يحتج به. (2) أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد فى «زوائد المسند» (4/ 13 و 14) بسند فيه عبد الرحمن ابن عياش السمعى، ودلهم بن الأسود، ولم يوثقهما إلا ابن حبان. (3) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 346) ، و «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 686- 687) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (4/ 67- 69) .

فقال رجل منهم، يقال له زرارة بن عمرو، يا رسول الله إنى رأيت فى سفرى هذا عجبا، قال: «وما رأيت؟» قال: رأيت أتانا تركتها كأنها ولدت جديا أسفع أحوى «1» ، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هل تركت لك مصرة «2» على حمل؟» قال: نعم، قال: «فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك» ، قال يا رسول الله: ما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن منى» ، فدنا منه، قال: هل بك من برص تكتمه؟ قال: والذى بعثك بالحق نبيّا ما علم به أحد، ولا اطلع عليه غيرك، قال: «فهو ذلك» . قال: يا رسول الله، ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان مدلجيان ومسكتان. قال: «ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته» . قال: يا رسول الله، ورأيت عجوزا شمطاء، خرجت من الأرض. قال: «تلك بقية الدنيا» . قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى يقال لى عمرو، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تلك فتنة تكون فى آخر الزمان» . قال: يا رسول الله، وما الفتنة؟ قال: «يقتل الناس إمامهم» - وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه- «يحسب المسىء فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أدركها ابنك» . قال: يا رسول الله ادع الله ألاأدركها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم لا يدركها» . فمات فبقى ابنه فكان ممن خلع عثمان بن عفان رضى الله عنه- «3» . انتهى ملخصا من الهدى النبوى، والله الموفق وسيأتى هذا- إن شاء الله تعالى- فى تعبيره- صلى الله عليه وسلم- الرؤيا من المقصد الثامن.

_ (1) الأسفع: هو الأسود المشوب بحمرة، والأحوى: كالتأكيد للأسفع، حيث أن الحوة سواد إلى خضرة أو حمرة إلى سواد. (2) مصرة: اسم فاعل من أحد، وهى بمعنى أقام على الشىء، والمقصود: حملها محقق ثابت. (3) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 686- 687) والمصادر السابقة معه.

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات الموضوع الصفحة المقدمة 3 ترجمة المؤلف 14 مقدمة المؤلف 29 المقصد الأول تشريف الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم- 39 طهارة نسبه- صلى الله عليه وسلم- 56 آيات حمله- صلى الله عليه وسلم- 71 آيات ولادته- صلى الله عليه وسلم- 76 ذكر رضاعه- صلى الله عليه وسلم- 89 ذكر حضانته- صلى الله عليه وسلم- 112

دقائق حقائق بعثته- صلى الله عليه وسلم- 118 فصل فى ترتيب الدعوة النبوية 134 هجرته- صلى الله عليه وسلم- 145 رؤيا الأذان 191 مغازيه وسراياه وبعوثه- صلى الله عليه وسلم- 199 غزوة قرقرة الكدر 231 غزوة حمراء الأسد 257 غزوة بنى النضير 267 غزوة ذات الرقاع 271 غزوة بدر 276 غزوة دومة الجندل 277 غزوة بنى المصطلق 278 غزوة الخندق 282 غزوة بنى قريظة 293

غزوة بنى لحيان 303 غزوة الغابة 304 سرية ابن رواحة إلى ابن رزام 312 صلح الحديبية 316 غزوة خيبر 336 عمرة القضاء 353 غزوة مؤتة 360 غزوة الطائف 405 غزوة تبوك 418 حجة أبى بكر 429 المقصد الثانى الفصل الأول فى ذكر أسمائه الشريفة المنبئة عن كمال صفاته المنيفة 441

الفصل الثانى فى ذكر أولاده الكرام- عليه وعليهم الصلاة والسلام- 478 الفصل الثالث فى ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات 490 الفصل الرابع فى أعمامه وعماته وإخواته من الرضاعة وجداته 513 الفصل الخامس فى خدمه وحرسه ومواليه ومن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه 525 الفصل السادس فى أمرائه ورسله وكتّابه وكتبه إلى أهل الإسلام فى الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام 531 الفصل السابع فى مؤذنيه وخطبائه وحداته وشعرائه 558

الفصل الثامن فى آلات حروبه- صلى الله عليه وسلم- 562 الفصل التاسع فى ذكر خيله- صلى الله عليه وسلم- ولقاحه ودوابه 565 الفصل العاشر فى ذكر من وفد عليه- صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه 569 فهرس المحتويات 601

الجزء الثاني

الجزء الثاني [المقصد الثالث] الفصل الأول فى كمال خلقته وجمال صورته صلى الله عليه وسلم وشرفه وكرمه اعلم أن من تمام الإيمان به- صلى الله عليه وسلم- الإيمان بأن الله تعالى جعل خلق بدنه الشريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدمى مثله، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه آيات على ما يتضح لك من عظيم خلق نفسه الكريمة، وما يتضح من عظيم أخلاق نفسه آيات على ما تحقق له من سر قلبه المقدس، ولله در الأبوصيرى حيث قال: فهو الذى تم معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم منزه عن شريك فى محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم يعنى: حقيقة الحسن الكامل كائنة فيه، لأنه الذى تم معناه دون غيره، وهى غير منقسمة بينه وبين غيره، وإلا لما كان حسنه تامّا، لأنه إذا انقسم لم ينله إلا بعضه فلا يكون تامّا. وفى الأثر: أن خالد بن الوليد خرج فى سرية من السرايا، فنزل ببعض الأحياء فقال له سيد ذلك الحى: صف لنا محمدا فقال: أما إنى أفصل فلا، فقال الرجل: أجمل، فقال: الرسول على قدر المرسل، ذكره ابن المنير فى أسرار الإسرار. فمن ذا الذى يصل قدره أن يقدر قدر الرسول، أو يبلغ من الاطلاع على مأثور أحواله المأمول والمسئول؟! وقد حكى القرطبى- فى كتاب الصلاة- عن بعضهم أنه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه- صلى الله عليه وسلم-، لأنه لو ظهر لنا تمام حسنه لما أطاقت أعيننا رؤيته- صلى الله عليه وسلم-. ولقد أحسن الأبوصيرى أيضا حيث قال: أعيى الورى فهم معناه فليس يرى ... للقرب والبعد فيه غير منفحم كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكل الطرف من أمم

وهذا مثل قوله أيضا: إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء وأشار بقوله «تظهر» إلى وجه التشبيه بالشمس لا مطلقا، ولقد بين عيب التشبيه بها على الإطلاق أبو النواس حيث قال: تتيه الشمس والقمر المنير ... إذا قلنا كأنهما الأمير لأن الشمس تغرب حين تمسى ... وأن البدر ينقصه المسير وهذه التشبيهات الواردة فى حقه- صلى الله عليه وسلم- إنما هى على سبيل التقريب والتمثيل، وإلا فذاته أعلى ومجده أغلى. فأما رأسه الشريف المقدس فحسبك ما ذكره الترمذى فى جامعه بسنده إلى هند بن أبى هالة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عظيم الهامة «1» . وقال نافع بن جبير: وصف لنا على- رضى الله عنه- رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: كان عظيم الهامة «2» . وأما وجهه الشريف فحسبك ما روى الشيخان من حديث البراء قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير البائن «3» . وعن أبى هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كأن الشمس تجرى فى وجهه «4» رواه الترمذى والبيهقى وأحمد وابن حبان.

_ (1) حسن: انظر ما بعده. (2) حسن: أخرجه البيهقى عن على، كما فى «صحيح الجامع» (4820) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (3549) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2337) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (3648) فى المناقب، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «مسنده» (2/ 350 و 380) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6309) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

قال الطيبى: شبه جريان الشمس فى فلكها بجريان الحسن فى وجهه- صلى الله عليه وسلم-، قال: ويحتمل أن يكون من تناهى التشبيه جعل وجهه مقرّا ومكانا للشمس ولله در القائل: لم لا يضىء بك الوجود وليله ... فيه صباح من جمالك مسفر فبشمس حسنك كل يوم مشرق ... وببدر وجهك كل ليل مقمر وفى البخارى: سئل البراء: أكان وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟ فقال: لا، بل مثل القمر «1» . وكأن السائل أراد مثل السيف فى الطول، فرد عليه البراء فقال: بل مثل القمر، أى فى التدوير، ويحتمل أن يكون أراد مثل السيف فى اللمعان والصقالة، فقال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان. وقال الحافظ النسابة أبو الخطاب بن دحية- رحمه الله تعالى- فى كتابه «التنوير فى مولد البشير النذير- صلى الله عليه وسلم- وشرف وعظم وكرم» ، عند إيراد حديث البراء المذكور ما لفظه: ففى هذا الحديث من العلم أن التشبيه ممن لا يحسنه لا يصلح الإقرار عليه، لأن السائل شبه وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالسيف، ولو شبهه بالشمس لكان أولى، فرد عليه البراء قوله وقال: بل مثل القمر، وأبدع فى تشبيهه، لأن القمر يملأ الأرض بنوره، ويؤنس كل من يشاهده، ونوره من غير حر يفزع، ولا كلل ينزع، والناظر إلى القمر متمكن من النظر بخلاف الشمس التى تغشى البصر وتجلب للناظر الضرر. انتهى. وفى رواية مسلم من حديث جابر بن سمرة، وقال له رجل: أكان وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟ فقال: لا، بل مثل الشمس والقمر وكان مستديرا «2» . وإنما قال: مستديرا للتنبيه على أنه جمع الصفتين، لأن قوله: مثل

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3552) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (3636) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «مسنده» (4/ 281) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (344) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى الله عليه وسلم-.

السيف يحتمل أن يريد به الطول، ويحتمل أن يريد به اللمعان كما تقدمت إليه الإشارة فيما سبق من العبارة، فرده المسئول ردّا بليغا، ولما جرى التعارف به من أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبا الإشراق، وبالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرهما، فقوله وكان مستديرا، أشار به إلى أنه أراد به التشبيه بالصفتين معا: الحسن والاستدارة. وقال المحاربى عن أشعث عن أبى إسحاق عن جابر بن سمرة. أنه قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو كان أحسن فى عينى من القمر «1» ، وفى رواية: بعد قوله حمراء: فجعلت أماثل بينه وبين القمر. وروى الترمذى والبيهقى عن على أنه نعته- صلى الله عليه وسلم- فقال: لم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، كان فى وجهه تدوير «2» . والمكلثم: المدور الوجه، أى لم يكن شديد تدوير الوجه بل فى وجهه تدوير قليل. وفى حديث على عند أبى عبيد فى الغرائب: وكان فى وجهه تدوير قليل، قال أبو عبيد فى شرحه: يريد أنه ما كان فى غاية التدوير، بل كان فيه سهولة وهى أحلى عند العرب. وفى حديث أبى هريرة عند الذهلى «3» فى الزهريات «4» فى صفته

_ (1) حسن غريب: أخرجه الترمذى (2811) فى الأدب، باب: ما جاء فى الرخصة فى لبس الحمرة للرجال، والدارمى فى «سننه» (57) ، وقال الإمام الترمذى: هذا حديث حسن غريب. (2) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (3638) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب، ليس إسناده بمتصل، و (المطهم) : البادن الكثير اللحم. (3) هو: الإمام الحافظ، أبو عبد الله، محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابورى، مولى بنى ذهل، أحد أئمة الحديث الحفاظ، حدث عنه الجماعة سوى مسلم، وكان من أعلم الناس بحديث الزهرى، حيث اعتنى بحديثه، وصنفه، حتى قال له على بن المدينى: أنت وارث الزهرى، مات سنة 250 هـ، وله تسعون عاما. (4) نسبة إلى الزهرى- رحمه الله-، وهو الإمام الحافظ، أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهرى، ولد سنة 50 هـ، وحدث عن صغار الصحابة كابن عمرو سهل

- صلى الله عليه وسلم-: كان أسيل الخدين. قال ابن الأثير: الأسالة فى الخد: الاستطالة وأن لا يكون مرتفع الوجنة. قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: ولعل هذا هو الحامل لمن سأله أكان وجهه مثل السيف. وأخرج البخارى عن كعب بن مالك قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه «1» . أى الموضع الذى يتبين فيه السرور وهو جبينه. وقالت عائشة- رضى الله عنها-: دخل النبى- صلى الله عليه وسلم- يوما مسرورا تبرق أسارير وجهه «2» . ولذلك قال كعب كأنه قطعة قمر. وفى حديث جبير بن مطعم عند الطبرانى: التفت إلينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بوجه مثل شقة القمر، فهذا محمول على صفته عند الالتفات. وقد أخرج الطبرانى حديث كعب بن مالك من طرق فى بعضها: كأنه دارة قمر. ويسأل عن السر فى التقييد بالقطعة مع كثرة ما ورد فى كثير من كلام البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير تقييد. وقد كان كعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة، فلابد من التقييد بذلك من حكمة، وما قيل فى أن ذلك من الاحتراز من السواد الذى فى القمر ليس بقوى، لأن المراد بتشبيهه ما فى القمر من الضياء والاستنارة وهو فى تمامه لا يكون فيها أقل مما فى القطعة المجردة، فكأن التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر.

_ - ابن سعد وأنس بن مالك، وعنه أخذ الإمام مالك، وقيل أنه أول من دون السنة بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، توفى- رحمه الله- سنة 124 هـ. (1) صحيح: أخرجه البخارى (3556) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2799) فى التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3555) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1459) فى الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد.

وعن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- قال: كان وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كدارة القمر «1» ، أخرجه أبو نعيم. وروى البيهقى عن أبى إسحاق الهمدانى عن امرأة من همدان- سماها- قالت: حججت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- مرات فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن عليه بردان أحمران يكاد يمس شعره منكبه إذا مر بالحجر استلمه بالمحجن ثم يرفعه إلى فمه فيقبله، قال أبو إسحاق: فقلت لها شبهيه قالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله- صلى الله عليه وسلم- «2» . وروى الدارمى والبيهقى وأبو نعيم والطبرانى عن أبى عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر قال: قلت للربيع بنت معوذ صفى لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قالت: لو رأيته لقلت: الشمس طالعة «3» ، وفى لفظ: يا بنى لو رأيته رأيت الشمس طالعة. وروى مسلم عن أبى الطفيل أنه قيل له: صف لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: كان أبيض مليح الوجه «4» . وفيما أخرجه الترمذى من حديث هند بن أبى هالة «5» : كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر «6» .

_ (1) أخرجه أبو نعيم فى «الدلائل» كما فى «كنز العمال» (18526) . (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 199) . (3) أخرجه الدارمى فى «سننه» (60) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 274) . وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 280) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط، ورجاله وثقوا. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2340) فى الفضائل، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أبيض مليح الوجه. (5) هو: هند بن أبى هالة- رضى الله عنه-، ربيب النبى- صلى الله عليه وسلم-، أمه خديجة زوج النبى- صلى الله عليه وسلم-، قال عنه أبو عمر: كان فصيحا بليغا وصف النبى- صلى الله عليه وسلم- فأحسن وأتقن، قتل مع على يوم الجمل. انظر «الإصابة» (6/ 557) . (6) أخرجه الترمذى فى الشمائل، والطبرانى فى الكبير والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى «ضعيف الجامع» (4470) .

وقالت أم معبد حين وصفته لزوجها: متبلج الوجه، يعنى: مشرقه مضيئه، ومنه تبلج الصبح إذا أسفر، وما أحسن قول سيدى على بن وفا حيث قال: ألا يا صاحب الوجه المليح ... سألتك لا تغيب عنى فأنت روحى متى ما غاب شخصك عن عيانى ... رجعت فلا ترى إلا ضريحى بحقك جد لرقك يا حبيبى ... وداو لوعة القلب الجريح ورقّ لمغرم فى الحب أمسى ... وأصبح بالهوى دنفا طريح محب ضاق بالأشواق ذرعا ... وآوى منك للكرم الفسيح وفى النهاية «1» : أنه- عليه السّلام- كان إذا سر فكأن وجهه المرآة، وكأن الجدر تلاحك وجهه. قال: الملاحكة، شدة الملاءمة، أى يرى شخص الجدر فى وجهه- صلى الله عليه وسلم-. وفى حديث ابن أبى هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. وذلك: لأن القمر يملأ الأرض بنوره ويؤنس كل من شاهده، وهو يجمع النور من غير أذى ويتمكن من النظر إليه بخلاف الشمس التى تغشى البصر فتمنع من تمكن الرؤية، والتشبيه بالبدر أبلغ فى العرف من التشبيه بالقمر، لأنه وقت كماله، كما قال الفاروق- رضى الله عنه- حين رآه أو كلما رآه: لو كنت من شىء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر وقد صادف هذا التشبيه تحقيقا، فمن أسمائه- صلى الله عليه وسلم-: البدر. ولهذا أنشدوا لما قدم المدينة: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع ولقد أحسن من قال: كالبدر والكاف إن أنصفت زائدة ... فيه فلا تظننها كافا لتشبيه وما أحلى قول ابن الحلاوى:

_ (1) هو: النهاية فى غريب الحديث، لابن الأثير.

يقولون يحكى البدر فى الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن ينحط كما شبهوا غصن النقا «1» بقوامه ... لقد بالغوا فى المدح للغصن واشتطوا فقد حصل للبدر والغصن غاية من الفخر بهذا التشبيه، على أن هذه التشبيهات الواردة فى صفاته- صلى الله عليه وسلم- إنما هى على عادة الشعراء والعرب، وإلا فلا شىء فى هذه التشبيهات المحدثات يعادل صفاته الخلقية والخلقية، ولله در إمام العارفين سيدى محمد وفا الشاذلى المالكى حيث قال: كم فيه للأبصار حسن مدهش ... كم فيه للأرواح راح مسكر سبحان من أنشاه من سبحاته ... بشرا بأسرار الغيوب يبشر قاسوه جهلا بالغزال تغزلا ... هيهات يشبهه الغزال الأحور هذا وحقك ما له من مشبه ... وأرى المشبه بالغزالة يكفر يأتى عظيم الذنب فى تشبيهه ... لولا لرب جماله يستغفر فخر الملاح بحسنهم وجمالهم ... وبحسنه كل المحاسن تفخر فجماله مجلى لكل جميلة ... وله منار كل وجه نير جنات عدن فى جنى وجناته ... ودليله أن المراشف كوثر هيهات ألهو عن هواه بغيره ... والغير فى حشر الأجانب يحشر كتب الغرام على فى أسفاره ... كتبا تؤول بالهوى وتفسر فدع الدعى وما ادعاه فى الهوى ... فدعيه بالهجر فيه يهجر وعليك بالعلم العليم فإنه ... لخطيبه فى كل خطب منبر وأما بصره الشريف- صلى الله عليه وسلم- فقد وصفه الله فى كتابه العزيز بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «2» . وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرى بالليل فى الظلمة كما يرى فى النهار فى الضوء «3» . رواه البخارى.

_ (1) ضرب من النبات، له زهر أحمر. (2) سورة النجم: 17. (3) موضوع: أخرجه البيهقى فى الدلائل عن ابن عباس، وابن عدى فى الكامل عن عائشة كما فى «ضعيف الجامع» (4547) ، والحديث كما هو واضح ليس فى البخارى. كما قال المصنف ولو معلقا.

وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرى فى الظلماء كما يرى فى الضوء «1» . رواه البيهقى. وعن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «هل ترون قبلتى هاهنا، فو الله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم، إنى لأراكم من وراء ظهرى» «2» . رواه البخارى ومسلم. وعند مسلم من رواية أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أيها الناس، إنى أمامكم فلا تسبقونى بالركوع ولا بالسجود، فإنى أراكم من أمامى ومن خلفى» «3» . وعن مجاهد: فى قوله تعالى الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «4» قال: كان- صلى الله عليه وسلم- يرى من خلفه من الصفوف، كما يرى من بين يديه «5» ، رواه الحميدى فى مسنده، وابن المنذر فى تفسيره. وهذه الرؤية رؤية إدراك: والرؤية لا تتوقف على وجود آلتها التى هى العين- عند أهل الحق- ولا شعاع ولا مقابلة، وهذا بالنسبة إلى القديم «6» العالى، أما المخلوق فتتوقف صفة الرؤية فى حقه على الحاسة والشعاع والمقابلة بالاتفاق، ولهذا كان خرق عادة فى حقه- صلى الله عليه وسلم-، وخالق البصر فى العين قادر على خلقه فى غيرها. قال الحرالى: وهذه الآية قد جعلها الله تعالى دالة على ما فى حقيقة أمره فى الاطلاع الباطن لسعة علمه، ومعرفته لما عرف بربه لا بنفسه أطلعه

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 75) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (418) فى المساجد، باب: عظة الإمام الناس فى إتمام الصلاة، ومسلم (424) فى المساجد، باب: الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها. (3) صحيح: أخرجه مسلم (426) فى المساجد، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود أو نحوهما. (4) سورة الشعراء: 218، 219. (5) مرسل: أخرجه الحميدى فى «مسنده» (962) عن مجاهد مرسلا. (6) الأولى أن يقال (الأول) كما نطق القرآن، ولا أعلم سبب العدول من الأول إلى القديم، مع العلم بأن اللفظ القرآنى أدل على المعنى عن غيره من الألفاظ المحدثة، والله المستعان.

الله على ما بين يديه مما تقدم من أمر الله، وعلى ما وراء الوقت مما تأخر من أمر الله، فلما كان على ذلك من الإحاطة فى إدراك مدركات القلوب جعل الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك فى مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره كما يراها من بين يديه كما قال- صلى الله عليه وسلم-. انتهى. ومن الغريب ما ذكره الزاهدى بختيار محب بن محمود، شارح القدورى فى رسالته الناصرية أنه- صلى الله عليه وسلم- كان له بين كتفيه عينان كسم الخياط يبصر بهما، ولا تحجبهما الثياب؟؟؟ «1» . وقيل: بل كانت صورهم تنطبع فى حائط قبلته كما تنطبع فى المرآة أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم وهذا إن كان نقلا عن الشارع- عليه السّلام- بطريق صحيح فمقبول وإلا فليس المقام مقام رأى، على أن الأقعد فى إثبات كونه معجزة حملها على الإدراك من غير آلة والله أعلم. وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الرؤية رؤية قلبه الشريف. وعن بعضهم: المراد بها العلم إما بأن يوحى الله إليه كيفية فعلهم، وإما بأن يلهم، والصحيح والصواب ما تقدم «2» وقد استشكل على قول من يقول: إن المراد بذلك العلم، ما ذكره ابن الجوزى فى بعض كتبه بغير إسناد أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنى لا أعلم ما وراء جدارى هذا» فإن صح فالمراد منه نفى العلم بالمغيبات، فكيف يجتمعان؟ وأجيب: بأن الأحاديث الأول ظاهرها ينطق باختصاص ذلك بحالة الصلاة، ويحمل المطلق منها على المقيد. وأما إذا ذهبنا إلى الإدراك بالبصر- وهو الصواب- فلا إشكال، لأن نفى العلم هنا عن الغيب وذاك عن مشاهدة. وفى «المقاصد الحسنة» للحافظ شمس الدين السخاوى حديث: «ما أعلم ما خلف جدارى هذا» «3» قال شيخنا- يعنى شيخ الإسلام ابن حجر-:

_ (1) ذكر ذلك أيضا الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (1/ 515) . (2) انظر فى ذلك المصدر السابق. (3) انظر «كشف الخفا» للعجلونى (2175) .

لا أصل له. قلت: ولكنه قال فى تلخيص تخريج أحاديث الرافعى عند قوله فى الخصائص: «ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه» . هو فى الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره، والأحاديث الواردة فى ذلك مقيدة بحالة الصلاة وبذلك يجمع بينه وبين قوله: لا أعلم ما وراء جدارى هذا. انتهى. قال شيخنا، وهذا مشعر بوروده، وعلى تقدير وروده لا تنافى بينهما لعدم تواردهما على محل واحد. انتهى. فإن قيل: يشكل على هذا- أيضا- إخباره- صلى الله عليه وسلم- بكثير من المغيبات التى فى زمانه وبعده، ووقعت كما أخبر- صلى الله عليه وسلم-. فالجواب: إن نفى العلم فى هذا ورد على أصل الوضع، وهو أن علم الغيب مختص بالله تعالى، وما وقع منه على لسان نبيه- صلى الله عليه وسلم- وغيره فمن الله تعالى، إما بوحى أو إلهام، ويدل على ذلك الحديث الذى فيه: أنه لما ضلت ناقته- صلى الله عليه وسلم- تكلم بعض المنافقين وقال: إن محمدا يزعم أنه يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته؟ فقال- صلى الله عليه وسلم- لما بلغه ذلك: «والله إنى لا أعلم إلا ما علمنى ربى، وقد دلنى ربى عليها وهى فى موضع كذا وكذا» حبستها شجرة بخطامها فذهبوا فوجدوها كما أخبر- صلى الله عليه وسلم-. فصح أنه لا يعلم ما وراء جداره ولا غيره إلا ما علمه ربه تبارك وتعالى. وذكر القاضى عياض- فى الشفاء- أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرى فى الثريا أحد عشر نجما، وعند السهيلى، اثنى عشر. وفى حديث ابن أبى هالة: وإذا التفت التفت جميعا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء جل نظره الملاحظة «1» .

_ (1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (22/ 155) ، وهو عند أحمد (1/ 89 و 101) من حديث على- رضى الله عنه-، بسند فيه مقال.

وهى مفاعلة من اللحظ: وهو النظر بشق العين الذى يلى الصدغ، وأما الذى يلى الأنف فالموق والماق. وقوله: إذا التفت التفت جميعا أراد أنه لا يسارق النظر، وقيل: لا يلوى عنقه يمنة ولا يسرة إذا نظر إلى الشىء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف ولكن كان يقبل جميعا ويدبر جميعا. قاله ابن الأثير: وعن على قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرب العين بحمرة «1» ، رواه البيهقى. وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضليع الفم أشكل العينين منهوس القدمين «2» ، رواه مسلم. والشكلة: الحمرة تكون فى بياض العين وهو محمود محبوب، وأما الشهلة: فإنها حمرة فى سوادها. وهذا هو الصواب: لا ما فسره بعضهم، بأنه طول شق العين. وعند الترمذى فى حديث عن على، أنه نعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: كان فى وجهه تدوير أبيض مشرب بحمرة، أدعج العينين، أهدب الأشفار «3» الحديث. والأدعج: الشديد سواد الحدقة. والأهدب: الطويل الأشفار: وهى شعر العين. وعنده- أيضا- عن على قال: كان أسود الحدقة أهدب الأشفار. وعن على: بعثنى النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فقمت لأخطب يوما على الناس، وحبر من أحبار اليهود واقف بيده سفر ينظر فيه، فلما رآنى قال:

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 212) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2339) فى الفضائل، باب: فى صفة فم النبى- صلى الله عليه وسلم- وعينيه وعقبيه. (3) أخرجه الترمذى (3638) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 213) من حديث على- رضى الله عنه-، وقد تقدم.

صف لى أبا القاسم، فقلت: ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. الحديث، وفيه: قال على: ثم سكت، فقال الحبر وماذا: قلت: هذا ما يحضرنى، قال الحبر: فى عينيه حمرة حسن اللحية، ثم قال على: هذه والله صفته، قال الحبر: فإنى أجد هذه الصفة فى سفر آبائى، وإنى أشهد أنه نبى وأنه رسول الله إلى الناس كافة. الحديث. وأما سمعه الشريف فحسبك أنه قال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجد لله تعالى» «1» رواه الترمذى من رواية أبى ذر. وما رواه أبو نعيم عن حكيم بن حزام، بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أصحابه إذ قال لهم: «تسمعون ما أسمع» قالوا: ما نسمع من شىء، قال: «إنى لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم» «2» . وأما جبينه الكريم- صلى الله عليه وسلم- فقد كان واضح الجبين، مقرون الحاجبين. بهذا وصفه على، كما عند ابن سعد وابن عساكر فقال: مقرون الحاجبين صلت الجبين أى: واضحه، والقرن: اتصال شعر الحاجبين. وعند البيهقى عن رجل من الصحابة قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فإذا رجل حسن الجسم عظيم الجبهة رقيق الحاجبين. ولله در القائل: جبينه مشرق من فوق طرته ... يتلو الضحى ليله والليل كافره بالمسك خطت على كافور جبهته ... من فوق نوناتها سينا ضفائره مكحل الخلق ما تحصى خصائصه ... منضر الحسن قد قلت نظائره

_ (1) حسن: أخرجه الترمذى (2312) فى الزهد، باب: فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا» ، وابن ماجه (4190) فى الزهد، باب: الحزن والبكاء، وأحمد فى «المسند» (5/ 173) بسند حسن. (2) أخرجه الطبرانى، والضياء، عن حكيم بن حزام كما فى «كنز العمال» (2983) ، وابن أبى حاتم فى التفسير، وأبو الشيخ فى العظمة، كما فى «الكنز» أيضا (29841) .

وقال ابن أبى هالة: أزج الحواجب- وفسر: بالمقوس الطويل الوافر الشعر- ثم قال: سوابغ من غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أى يمتلئ دما إذا غضب كما يمتلئ الضرع لبنا إذا در. قاله فى النهاية. وعن مقاتل بن حيان «1» قال: أوحى الله إلى عيسى- عليه الصلاة والسلام-: اسمع وأطع يا ابن الطاهرة البتول، إنى خلقتك من غير فحل، فجعلتك آية للعالمين، فإياى فاعبد، وعلى فتوكل، فسر لأهل سوران أنى أنا الله الحى القيوم، الذى لا أزول، صدقوا النبى الأمى، صاحب الجمل والمدرعة والعمامة والنعلين والهراوة، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه فى وجهه كاللؤلؤ، وريح المسك ينفح منه، كأن عنقه إبريق فضة الحديث. والأنجل: الواسع شق العينين. والقرن: بالتحريك: التقاء الحاجبين. وما وصفه به ابن أبى هالة مخالف لما فى حديث مقاتل بن حيان وما فى حديث أم معبد فإنها قالت: أزج أقرن، أى مقرون الحاجبين، قال ابن الأثير: والأول هو الصحيح فى صفته، يعنى: سوابغ فى غير قرن. والقنى فى الأنف: طوله ورقة أرنبته مع حدب فى وسطه. وقد وصفه- صلى الله عليه وسلم- غير واحد: بأنه عظيم الهامة، أى الرأس، كذا فى حديث ابن أبى هالة المشهورة. وقال على بن أبى طالب- فى حديث رواه الترمذى وصححه والبيهقى-: ضخم الرأس. وكذا قال أنس فى رواية البخارى. وكان- صلى الله عليه وسلم- أيضا ضخم الكراديس، وهى رؤوس العظام، كما وصفه به على فى حديث الترمذى. وقال أيضا فى رواية للترمذى: جليل المشاش

_ (1) هو: مقاتل بن حيان النبطى، أبو بسطام، كان ممن عنى بعلم القرآن، وواظب على الورع فى السر والإعلان، مات بكابل حيث هرب فى أيام خروج أبى مسلم الخراسانى وهو غير مقاتل بن سليمان المفسر، حيث كان معاصرا له، إلا أنه متروك الحديث. انظر «تذكرة الحفاظ» (1/ 174) .

والكتد «1» . وفسر برؤوس العظام كالركبتين والمرفقين والمنكبين، أى عظيمها. والكتد- بفتحتين ويجوز كسر التاء- مجمع الكتفين. وكان- صلى الله عليه وسلم- دقيق العرنين، أى أعلى الأنف، كما وصفه به على فى رواية ابن سعد وابن عساكر. وفى رواية أيضا عن ابن عمر من وصف على له أيضا: أقنى الأنف، وفسر بالسائل المرتفع وسطه، وقال ابن أبى هالة: أقنى العرنين له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمّ، والأشم: الطويل قصبة الأنف. وأما فمه الشريف- صلى الله عليه وسلم- ففى مسلم من حديث جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ضليع الفم «2» يعنى واسعه. وكذا وصفه به ابن أبى هالة، وزاد يفتتح الكلام ويختم بأشداقه يعنى لسعة فمه، والعرب تمدح به وتذم بصغر الفم. وقال شمر «3» : عظيم الأسنان. وفى حديث عند البزار والبيهقى قال أبو هريرة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسيل الخدين واسع الفم. ووصفه- صلى الله عليه وسلم- ابن أبى هالة فقال: أشنب مفلج الأسنان. والشنب: رونق الأسنان وماؤها. وقيل: رقتها وتحديدها. وأفلج الأسنان أى متفرقها. وقال على: مبلج الثنايا، بالموحدة، أخرجه ابن سعد من حديث أبى هريرة. وعند ابن عساكر: عن على: براق الثنايا. وعند ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفلج الثنيتين، إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من ثناياه «4» ، رواه الترمذى فى الشمائل، والدارمى، والطبرانى فى الأوسط.

_ (1) أخرجه الترمذى (3638) من حديث على- رضى الله عنه-، وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2339) فى الفضائل، باب: فى صفة فم النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-. (3) هو: شمر بن عطية الأسدى الكاهلى الكوفى، من الأثبات، مات فى ولاية خالد. انظر «مشاهير علماء الأمصار» (1/ 165) . (4) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 279) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عبد العزيز بن أبى ثابت، وهو ضعيف.

وكان- صلى الله عليه وسلم- أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم. بحر من الشهد فى فيه مراشفه ... يا قوته صدف فيه جواهره وعن أبى قرصافة قال: بايعنا رسول الله أنا وأمى وخالتى، فلما رجعنا قالت لى أمى وخالتى: يا بنى، ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن وجها ولا أنقى ثوبا ولا ألين كلاما، ورأينا كالنور يخرج من فيه. وأما ريقه الشريف ففى الصحيحين عن سهل بن سعد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، قال: «أين على بن أبى طالب؟» فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» فأتى به، فبصق الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى عينيه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع «1» . الحديث متفق عليه. وأتى بدلو من ماء، فشرب من الدلو، ثم صب فى البئر، أو قال: «مج فى البئر» ففاح منها مثل رائحة المسك «2» . رواه أحمد وابن ماجه من حديث وائل بن حجر. وبزق فى بئر فى دار أنس، فلم يكن بالمدينة بئر أعذب منها، رواه أبو نعيم. وكان- صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء يدعو برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة فيتنقل فى أفواههم ويقول للأمهات: «لا ترضعنهم إلى الليل» فكان ريقه يجزئهم «3» . رواه البيهقى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2942) فى الجهاد والسير، باب: دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام والنبوة، ومسلم (2406) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-. (2) أخرجه ابن ماجه (659) فى الطهارة وسننها، باب: المج فى الإناء، وأحمد فى «المسند» (4/ 315 و 318) ، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» . (3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 226) .

ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هى وأخواتها يبايعنه وهن خمس فوجدنه يأكل قديدا فمضغ لهن قديدة فمضغتها كل واحدة منهن قطعة قطعة فلقين الله وما وجدن لأفواههن خلوف «1» ، رواه الطبرانى. ومسح- صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة وبطنه وكان به شرى، فما كان يشم أطيب منه رائحة. رواه الطبرانى. وأعطى الحسن لسانه- وكان قد اشتد ظمؤه- فمصه حتى روى. رواه ابن عساكر. ولله در إمام العارفين سيدى محمد وفا الشاذلى حيث يقول: جنى النحل فى فيه وفيه حياتنا ... ولكنه من لى بلثم لثامه رحيق الثنايا والمثانى تنفست ... إذا قال فى فيح بطيب ختامه وأما فصاحة لسانه وجوامع كلمه، وبديع بيانه وحكمه، فكان- صلى الله عليه وسلم- أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاما، وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتى كان كلامه يأخذ بمجامع القلوب ويسلب الأرواح. ينظم در الثغر نثر مقوله ... ما حسنه فى نثره ونظامه يناجى فينجى من يناجى من الجوى ... فكل كليم برؤه فى كلامه ففصاحة لسانه- صلى الله عليه وسلم- غاية لا يدرك مداها، ومنزلة لا يدانى منتهاها، وكيف لا يكون ذلك وقد جعل الله تعالى لسانه سيفا من سيوفه، يبين عن مراده، ويدعو به إليه عباده، فهو ينطق بحكمه عن أمره، ويبين عن مراده بحقيقة ذكره. أفصح خلق الله إذا لفظ، وأنصحهم إذا وعظ، لا يقول هجرا، ولا ينطق هذرا، كلامه كله يثمر علما، ويمتثل شرعا وحكما، لا يتفوه بشر بكلام أحكم منه فى مقالته، ولا أجزل منه فى عذوبته. وخليق بمن عبر عن مراد الله بلسانه، وأقام به الحجة على عباده ببيانه،

_ (1) ضعيف: وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 283) وقال: رواه الطبرانى وفيه إسحاق بن إدريس الأسوارى، وهو ضعيف.

وبين مواضع فروضه وأوامره، ونواهيه، وزواجره ووعده ووعيده وإرشاده أن يكون أحكم الخلق جنانا وأفصحهم لسانا، أوضحهم بيانا. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين، يعده العاد، ليس بهذا مسرع لا يحفظ، قالت عائشة- رضى الله عنها-: ما كان- صلى الله عليه وسلم- يسرد سردكم هذا، كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه «1» وكان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه «2» . وكان يقول: «أنا أفصح العرب» «3» . وقد قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال: «كانت لغة إسماعيل قد درست فجاءنى بها جبريل فحفظنيها» «4» . رواه أبو نعيم. وروى العسكرى فى الأمثال من حديث على بسند ضعيف جدّا قال: قدم بنو نهد على النبى- صلى الله عليه وسلم-: الحديث وفيه: ذكر خطبتهم وما أجابهم به النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: فقلنا: يا نبى الله، نحن بنو أب واحد، ونشأنا فى بلد واحد، وإنك تكلم العرب بلسان ما نفهم أكثره، فقال: «إن الله عز وجل أدبنى فأحسن أدبى، ونشأت فى بنى سعد بن بكر» «5» . وعن محمد بن عبد الرحمن الزهرى عن أبيه عن جده قال: قال رجل: يا رسول الله، أيدالك الرجل امرأته؟ قال: «نعم إذا كان مفلجا» فقال

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3568) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2493) فى الزهد والرقائق، باب: التثبت فى الحديث. (2) صحيح: أخرجه البخارى (94، 95) فى العلم، باب: من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) لا أصل له: أخرجه العسكرى فى الأمثال عن بريدة، وفيه حسان بن مصك، متروك، قاله المتقى الهندى فى «كنز العمال» (35471) . (4) ضعيف: أخرجه الغطريف فى جزئه وابن عساكر عن عمر، كما فى «ضعيف الجامع» (1919) . (5) ضعيف: انظر «ضعيف الجامع» (249، 250) .

له أبو بكر: يا رسول الله، ما قال لك، وما قلت له؟ قال: «قال: أيماطل الرجل أهله؟ قلت له نعم إذا كان مفلسا» ، قال أبو بكر: يا رسول الله، لقد طفت فى العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك، قال: «أدبنى ربى ونشأت فى بنى سعد» «1» رواه السرقسطى فى الدلائل بسند واه. وكذا أخرجه ابن عساكر. قال فى القاموس: ودالكه أى ماطله انتهى. وقوله: «ملفجا» بضم الميم وفتح الفاء، اسم فاعل من «ألفج الرجل» فهو ملفج، إذا كان فقيرا، وهو غير مقيس. ومثله أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، فى ألفاظ شذت، والقياس الكسر، قاله ابن مرزوق. لكن قال ابن الأثير: لم يجىء إلا فى ثلاثة أحرف، أسهب وأحصن وألفج. وقال غيره: معناه: أيداعب الرجل امرأته، يعنى قبل الجماع؟ وسماه مطلا لكون غرضها الأعظم الجماع. قال: إذا كان عاجزا، ليكون ذلك محركا لشهوته، ولعجزه سمى مفلسا. وقال ابن الأثير: يماطلها بمهرها إذا كان فقيرا. وأما ما يروى: «أنا أفصح من نطق بالضاد» «2» فقال: ابن كثير: لا أصل له. انتهى لكن معناه صحيح والله أعلم. وقد حدوا الفصاحة: بخلوص الكلمة من التنافر والغرابة ومخالفة القياس. والمراد بالتنافر: تقارب مخارج الحروف كقوله: غدائره مستشزرات إلى العلا فإن السين والتاء والزاى كلها متقاربة المخارج. والغرابة: كون الكلمة لا تدل على المراد من أول وهلة لاحتمال معنى آخر. ومخالفة القياس: استعمال الكلمة على غير قياس، كإبقاء وجود المثلين من كلمة واحدة من غير إدغام. كقوله: الحمد لله العلى الأجلل. والفصاحة: يوصف بها الكلام والكلمة والمتكلم. والبلاغة: أن يطابق الكلام مقتضى الحال مع فصاحته، الجزالة: خلاف الركاكة.

_ (1) ضعيف: انظر ما قبله. (2) لا أصل له: انظر «كشف الخفا» للعجلونى (609) .

ففصاحته- صلى الله عليه وسلم- إلى الحد الخارق للعادة، البالغ نهاية المزية والزيادة التى تصدع القلوب قبل الأذهان، وتقرع الجوانح قبل الآذان، مما يروق ويفوق، ويثبت له على سائر البشر الحقوق التى لا تقابل بالعقوق، فهو صاحب جوامع الكلم وبدائع الحكم، وقوارع الزجر وقواطع الأمر، والأمثال السائرة، والغرر السائلة، والدرر المنثورة والدرارى المأثورة والقضايا المحكمة، والوصايا المبرمة، والمواعظ التى هى على القلوب محكمة، والحجج التى هى للد الخصماء مفحمة ملجمة. وقليل هذا الوصف فى حقه- صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه، وقد روى الحاكم فى مستدركه وصححه من حديث ابن عباس: إن أهل الجنة يتكلمون بلغة محمد- صلى الله عليه وسلم- «1» وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد، ولا ينكرها موافق ولا معاند، وقد جمع الناس من كلامه الفرد الموجز البديع الذى لم يسبق إليه دواوين، وفى كتاب الشفاء للقاضى عياض من ذلك ما يشفى العليل. كقوله- صلى الله عليه وسلم-: «المرء مع من أحب» «2» . وقوله: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» «3» . وقوله: «السعيد من وعظ بغيره» «4» . ومما لم يذكره القاضى- رحمه الله-.

_ (1) لم أقف عليه فيه، ولا فى غيره بهذا اللفظ. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6168، 6169) فى الأدب، باب: علامة الحب فى الله عز وجل، ومسلم (2641) فى البر والصلة، باب: المرء مع من أحب، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. (3) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (7) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1773) فى الجهاد والسير، باب: كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى هر قل يدعوه إلى الإسلام، من حديث أبى سفيان- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2645) فى القدر، باب: كيفية خلق الآدمى، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.

وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات» «1» رواه الشيخان وغيرهما. وقوله: «ليس للعامل من عمله إلا ما نواه» «2» . وتحت هاتين الكلمتين كنوز من العلم لهذا قال الشافعى- رحمه الله-: حديث الأعمال بالنيات يدخل فى نصف العلم، وذلك أن للدين ظاهرا وباطنا، والنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وأيضا: فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح. وقال بعض الأئمة: حديث الأعمال بالنيات ثلث الدين، ووجهه: أن الدين: قول وعمل ونية. وقوله: «نية المرء خير من عمله» «3» رواه الطبرانى. لكن قال بعضهم لا يصح رفعه قال: ورواه القضاعى عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصفار، أخبرنا على بن عبد الله الفضل حدثنا محمد بن الحنفية الواسطى، حدثنا محمد بن عبد الله الحلبى، حدثنا يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «نية المؤمن أبلغ من عمله» «4» . قال: وهذا إسناد لا ضوء عليه ويوسف بن عطية متروك الحديث. ورواه عثمان بن عبد الله الشامى من حديث النواس بن سمعان وقال: «نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاجر شر من عمله» «5» وقال ابن عدى: عثمان بن عبد الله الشامى له أحاديث موضوعات، هذا من جملتها، وقال

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1907) فى الإمارة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات» ، من حديث عمر- رضى الله عنه-. (2) لم أقف عليه. (3) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 185) ، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-، وقال الحافظ فى «الفتح» (4/ 219) والحديث ضعيف. (4) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «سند الشهاب» (1/ 119) بسند فيه متروك، كما قال المصنف. (5) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «سند الشهاب» (1/ 119) بسند ضعيف، كما ذكر المصنف.

ابن الجوزى: لا يصح رفعه، قال: ومعناه: أن النية سر، والعمل ظاهر، [وعمل] السر أفضل، وهو يقتضى أنه لو نوى أن يذكر الله أو يتفكر، تكون نية الذكر والتفكير خيرا منه، وليس بصحيح. وقيل: إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهذا بعيد، لأن العمل إذا خلا عن النية لم يكن فيه خير أصلا. وقيل: إن النية عمل القلب، والفعل عمل الجوارح، وعمل القلب خير من عمل الجوارح، فإن القلب أمير الجوارح، وبينه وبينها علاقة، فإذا تألمت تألم القلب، وإذا تألم القلب تألمت فارتعدت الفرائص وتغير اللون، فإنه الملك الراعى والجوارح جيشه ورعيته، وعمل الملك أبلغ من عمل رعيته. وقيل: لما كانت النية أصل الأعمال كلها وروحها ولبها. والأعمال تابعة لها تصح بصحتها وتفسد بفسادها، وهى التى تقلب العمل الصالح فتجعله فاسدا، وغير الصالح تجعله صالحا مثابا عليه، ويثاب عليها أضعاف ما يثاب على العمل، فلذا كانت نية المؤمن خيرا من عمله. وقال أبو بكر بن دريد فى مجتباه: المعنى- والله أعلم- أن المؤمن ينوى الأشياء من أبواب البر نحو الصدقة والصوم وغير ذلك فلعله يعجز عن بعض ذلك وهو معقود النية عليه، فنيته خير من عمله. وقوله: «يا خيل الله اركبى» «1» . رواه أبو الشيخ فى الناسخ والمنسوخ عن سعيد بن جبير، والعسكرى أنس، وابن عائذ فى المغازى عن قتادة ولفظه عند ابن عائذ: قال بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ- يعنى يوم الأحزاب- مناديا ينادى: يا خيل الله اركبى. قال العسكرى وابن دريد فى مجتباه، وهذا على المجاز والتوسع، أراد: يا فرسان خيل الله اركبى، فاختصره.

_ (1) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 397) ، وابن المبارك فى «الجهاد» (161) من قول منادى على- رضى الله عنه-، وانظر «كشف الخفا» (3170) .

وقوله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» «1» . رواه الشيخان وغيرهما، والمعنى- والله أعلم- أن حظ العاهر الحجر ولا شىء له فى الولد، وقيل: أراد أن حظه الغلظة والخشونة من إقامة الحد التى نهايتها رميه بالحجر. وقيل: أراد بالحجر هنا الكناية عن رجوعه بالخيبة على الولد إذا لم تكن المرأة زوجا له، والله أعلم. وقوله: «كل الصيد فى جوف الفرا» «2» . وهو بفتح الفاء، حمار الوحش، رواه الرامهرمزى فى الأمثال، وسنده جيد، ولكنه مرسل، ونحوه عند العسكرى وقال: جوف أو جنب. وهذا خاطب به النبى- صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب حين جاءه مسلما بعد أن كان عدوّا له وهجاه كثير الهجاء مقذعا فيه، فكأنه يقول- صلى الله عليه وسلم- إن الحمار الوحشى من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه، كما أنك من أعظم أهلى وأمسهم رحما بى، ومن أكرم من يأتينى وكل دونك. انتهى. وقوله: «الحرب خدعة» «3» . رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة قال: سمى النبى- صلى الله عليه وسلم- الحرب خدعة. وليس عند مسلم «سمى» ، وقوله: «خدعة» مثلث الخاء، أشهرها: فتح الخاء وإسكان الدال، قال ثعلب وغيره: وهى لغة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والثانية، ضم الخاء وإسكان الدال. والثالثة: ضم الخاء وفتح الدال. وقد قال ذلك- صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب، لما بعث نعيم بن مسعود وأمره أن يخذل بين قريش وغطفان واليهود، وأشار بذلك إلى أن المماكرة أنفع من المكاثرة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2053) فى البيوع، باب: تفسير المشبهات، ومسلم (1457) فى الرضاع، باب: الولد للفراش وتوقى الشبهات، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) ذكره العجلى فى «كشف الخفا» (1977) وعزاه للرامهرمزى فى الأمثال. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3028) فى الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، ومسلم (1740) فى الجهاد والسير، باب: جواز الخداع فى الحرب.

قال النووى: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار فى الحرب كيف أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل. وقوله: «إياكم وخضراء الدمن» «1» . رواه الرامهرمزى والعسكرى فى الأمثال، وابن عدى فى الكامل، وأبو بكر بن دريد فى المجتبى والقضاعى فى مسند الشهاب والديلمى من حديث الواقدى قال: حدثنا محمد بن سعيد بن دينار عن أبى وجزة يزيد بن عبيد عن عطاء بن يزيد الليثى عن أبى سعيد مرفوعا: قيل يا رسول الله وماذا؟ قال: «المرأة الحسناء فى المنبت السوء» «2» قال ابن عدى: تفرد به الواقدى. ومعناه: أنه كره نكاح الفاسدة، وقال: إن أعراق السوء تنزع أولادها، وتفسير حقيقته: أن الريح تجمع الدمن، وهو البعر، فى البقعة من الأرض، ثم يركبه السافى فإذا أصابه المطر أنت نبتا غضّا ناعما، يهتز وتحته الأصل الخبيث، فيكون ظاهره حسنا وباطنه قبيحا فاسدا. والدمن جمع دمنة وأنشد زفر بن الحارث: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا ومعنى البيت: أن الرجلين قد يظهران الصلح والمودة، وينطويان على البغض والعداوة، كما ينبت المرعى على الدمن. وهذا أكثرى أو كلى فى زماننا، أشار إليه شيخنا. وقوله: «الأنصار كرشى وعيبتى» «3» . رواه البخارى، أى إنهم بطانته، وموضع سره، والعيبة كذلك، لأن

_ (1) ضعيف: أخرجه الرامهرمزى والعسكرى معا فى الأمثال عن أبى سعيد، وفيه الواقدى، كما فى «كنز العمال» (45620) . (2) ضعيف: وهو تتمة ما قبله. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3799) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» ، ومسلم (2510) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل الأنصار- رضى الله عنهم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

المجتر يجمع علفه فى كرشه، والرجل يضع ثيابه فى عيبته. وقيل: هم الذين أعتمد عليهم وأفزع إليهم وأقوى بهم، وقيل أراد بالكرش الجماعة، أى جماعتى وصحابتى، ويقال: عليه كرش من الناس أى جماعة، ووقع فى رواية الترمذى: «ألا إن عيبتى التى آوى إليها أهل بيتى وإن كرشى الأنصار» «1» . وقوله: «ولا يجنى على المرء إلا يده» «2» . رواه الشيخان. ولأحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص: «لا يجنى جان إلا على نفسه» «3» وقد أراد- صلى الله عليه وسلم- بهذا: أنه لا يؤخذ إنسان بجناية غيره، إن قتل أو جرح أو زنى، وإنما يؤخذ بما جنته يده، فيده هى التى أدته إلى ذلك. وقوله: «ليس الشديد من غلب الناس إنما الشديد من غلب نفسه» «4» . رواه ابن حبان فى صحيحه، ورواه الشيخان بلفظ «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب» «5» يعنى أنه إذا ملكها كان قد قهر أقوى أعدائه وشر خصومه. ولذلك قال: «أعدى عدو لك نفسك التى بين جنبيك» «6» . وهذا من باب المجاز، ومن فصيح الكلام، لأنه

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3907) فى المناقب، باب: فى فضل الأنصار وقريش، وانظر ما قبله. (2) لم أجده، والحديث ليس في الصحيحين. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (2159) فى الفتن، باب: ما جاء دماؤكم وأموالكم عليكم حرام و (3087) فى التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وابن ماجة (2669) فى الديات، باب: لا يجنى أحد على أحد، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجة» . (4) صحيح: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (717) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وهو فى الصحيحين بلفظ الحديث الآتى. (5) صحيح: أخرجه البخارى (6114) فى الأدب، باب: الحذر من الغضب، ومسلم (2609) في البر والصلة، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (6) ضعيف: ذكره العجلونى فى «كشف الخفا» (412) وقال: رواه البيهقى فى الزهد بإسناد ضعيف.

لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ وقد ثارت عليه شدة الغضب فقهرها بحلمه، وصرعها بثباته كان كالصرعة الذى يصرع الرجال ولا يصرعونه. وقوله: «ليس الخبر كالمعاينة» «1» . رواه أحمد وابن منيع والطبرانى والعسكرى. وقوله: «المجالس بالأمانة» «2» . رواه العقيلى فى ترجمة حسين بن عبد الله بن ضمرة عن أبيه عن جده عن على رفعه، وعن جابر بن عتيك «إذا حدث الرجل ثم التفت فهى أمانة» «3» ورواه أبو داود فى سننه والترمذى فى جامعه وابن أبى الدنيا فى الصمت. وغيرهم. ففى هاتين الكلمتين من الحمل على آداب العشرة وآداب الصحبة وكتم السر، وحفظ الود وحسن العهد، وإصلاح ذات البين والتحذير من النميمة بين الإخوان، الموقعة للشنان ما لا يكاد يخفى على مبادى الأذهان. وقوله: «البلاء موكل بالمنطق» «4» . رواه ابن أبى شيبة، والبخارى فى الأدب المفرد، من رواية إبراهيم عن ابن مسعود، ورواه الديلمى عن أبى الدرداء مرفوعا: «البلاء موكل بالمنطق»

_ (1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 215، 271) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6213 و 6214) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5374) . (2) حسن: أخرجه أبو داود (4869) فى الأدب، باب: فى نقل الحديث، وأحمد فى «المسند» (3/ 342) ، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، وأخرجه أبو الشيخ ابن حبان فى التوبيخ عن عثمان، وابن عباس كما فى «صحيح الجامع» (2330) وانظر رقم (6678) أيضا. (3) حسن: أخرجه أبو داود (4868) فى الأدب، باب: فى نقل الحديث، والترمذى (1959) فى البر والصلة، باب: ما جاء أن المجالس أمانة، وأحمد فى «المسند» (3/ 324 و 379 و 394) عن جابر بن عتيك عن جابر بن عبد الله فذكره. (4) ضعيف: انظر «ضعيف الجامع» (2377- 2380) .

وأورده ابن الجوزى فى الموضوعات من حديث أبى الدرداء وابن مسعود. قال شيخنا فى المقاصد الحسنة: ولا يحسن مع مجموع ما ذكرناه الحكم عليه بالوضع، ويشهد لمعناه قوله- صلى الله عليه وسلم- للأعرابى الذى دخل عليه يعوده. وقال: «لا بأس طهور» فقال الأعرابى: بل هى حمى تفور على شيخ كبير تزيده القبور، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فنعم إذا» «1» . وأنشد فى معناه: لا تنطقن بما كرهت فربما ... نطق اللسان بحادث فيكون وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «ترك الشر صدقة» «2» . رواه بعضهم ومعنى ذلك أن من ترك الشر وأذى الناس فكأنه تصدق عليهم، وعلم من ذلك أن فضل ترك الشر كفضل الصدقة. وقوله: «وأى داء أدوأ من البخل» «3» . رواه البخارى، والبخل قد جعله- صلى الله عليه وسلم- داء، وليس بداء مؤلم لصاحبه، وإنما شبهه بالداء إذ كان مفسدا للرجل مورثا له سوء الثناء، كما أن الداء يؤول إلى طول الضنا وشدة العنا، والقصد من هذا النهى عن البخل أعاذنا الله منه. وقوله: «لا ينتطح فيها عنزان» «4» . أى لا يجرى فيها خلف ولا نزاع. وقوله: «الحياء خير كله» «5» متفق عليه.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5656) فى المرض، باب: عيادة، الأعراب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) لا أصل له: ذكره العجلونى فى «كشف الخفا» (966) وقال: ذكره فى المواهب من غير عزو لأحد. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3137) فى فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (4) ضعيف: أخرجه ابن سعد عن عبد الله بن الحارث بن الفضيل الخطمى عن أبيه مرسلا، وابن عدى، وابن عساكر عن ابن عباس- رضى الله عنهما-، كما فى «كنز العمال» (44131) . (5) صحيح: أخرجه مسلم (37) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.

وقوله: «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» «1» . رواه فى مسند الفردوس من حديث أبى هريرة. وقوله: «سيد القوم خادمهم» «2» . رواه أبو عبد الرحمن السلمى فى «آداب الصحبة» له عن عقبة بن عامر رفعه، وفى سنده ضعف وانقطاع. ورواه غيره أيضا. وقوله: «فضل العلم خير من فضل العبادة» «3» . رواه الطبرانى والبزار. وقوله: «الخيل فى نواصيها الخير» «4» . متفق عليه من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه بلفظ: «الخيل فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة» وفى لفظ لغيرهما: «معقود بنواصيها الخير» . وقوله: «أعجل الأشياء عقوبة البغى» «5» . وقوله: «إن من الشعر لحكما» «6» .

_ (1) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق عن معمر بلاغا، كما فى «كنز العمال» (46388) . (2) ضعيف: أخرجه الخطيب البغدادى فى التاريخ عن ابن عباس كما فى «ضعيف الجامع» (3323) ، وأبو نعيم فى الأربعين الصوفية عن أنس كما فى المصدر السابق (3324) . (3) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 120) عن حذيفة بن اليمان وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والبزار وفيه عبد الله بن عبد القدوس، وثقه البخارى وابن حبان وضعفه ابن معين. (4) صحيح: أخرجه البخارى (2849) فى الجهاد والسير، باب: الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة، ومسلم (1871) فى الإمارة، باب: الخيل فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة. (5) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (4212) فى الزهد، باب: البغى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (840) . (6) صحيح: أخرجه البخارى (6145) فى الأدب، باب: ما يجوز من الشعر، وأبو داود (5010) فى الأدب، باب: ما جاء فى الشعر، وابن ماجة (3755) فى الأدب، باب: الشعر، من حديث أبى بن كعب- رضى الله عنه-، وهو عند أبى داود (5011) من حديث ابن عباس، و (5012) من حديث بريدة- رضى الله عنه-.

رواه أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن من البيان لسحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما» فقال صعصعة بن صوحان: صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. أما قوله: «إن من البيان لسحرا» فالرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله: «إن من العلم جهلا، فتكلف العالم إلى علمه ما لم يعلم يجهله» وأما قوله: «إن من الشعر حكما» فى هذه المواعظ والأمثال التى يتعظ بها الناس «1» . ومفهومه: أن بعض الشعر ليس كذلك. لأن من تبعيضية. وفى البخارى: إن من الشعر حكمة. أى قولا صادقا مطابقا للحق. قال الطبرى: وفى هذا الحديث رد على من كره الشعر مطلقا، واحتج بقول ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان. وعن أبى أمامة- رفعه- أن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال: رب اجعل لى قرآنا، قال: قرآنك الشعر. ثم أجاب عن ذلك: بأنها أحاديث واهية. وهو كذلك. فحديث أبى أمامة فيه: على بن زيد الألهانى، وهو ضعيف. وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراط فيه والإكثار منه. ويدل على الجواز أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه البخارى فى الأدب المفرد، عن عمرو بن الشريد عن أبيه: استنشدنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من شعر أمية بن أبى الصلت فأنشدته مائة قافية «2» . وقوله: «الصحة والفراغ نعمتان» «3» . رواه البخارى.

_ (1) ذكره أبو داود عقب الحديث رقم (5012) . (2) صحيح: أخرجه البخارى فى «الأدب المفرد» (799 و 869) ، وهو عند مسلم (2255) فى أول كتاب الشعر. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6412) فى الرقاق، باب: ما جاء فى الصحة والفراغ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بلفظ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» .

وقوله: «استعينوا على الحاجات بالكتمان فإن كل ذى نعمة محسود» «1» . رواه الطبرانى فى معاجمه الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه، وأخرجه الخلعى عن على مرفوعا: «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان لها» . وقوله: «المكر والخديعة فى النار» «2» . رواه الديلمى عن أبى هريرة، ومعناه: أن ذا المكر والخداع لا يكون نقيّا ولا خائفا لله، لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وإذا فعلهما أوبق وهذا لا يكون فى تقى، فكل خلة جانبت التقى فهى فى النار. وقوله: «من غشنا فليس منا» «3» رواه مسلم فى صحيحه. وقوله: «المستشار مؤتمن» «4» . رواه أحمد وغيره. ومعناه: أن من أفضى إليك بسره وآمنك على ذات نفسه فقد جعلك بموضع نفسه، فيجب عليك أن لا تشير عليه إلا بما تراه صوابا، فإنه كالأمانة للرجل الذى لا يأمن على إيداع ماله إلا الثقة فى نفسه،

_ (1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الصغير» (1186) ، وفى «الكبير» (20/ 94) ، وفى «مسند الشاميين» (408) ، من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه-. وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 195) وقال: رواه الطبرانى فى الثلاثة، وفيه سعيد بن سلام العطار، قال العجلى: لا بأس به، كذبه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ. (2) ضعيف: أخرجه أبو داود فى «المراسيل» (167) عن الحسن مرسلا، وهو عند القضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 175) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (101) فى الإيمان، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من غشنا فليس منا» ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه أبو داود (5128) فى الأدب، باب: فى المشورة، والترمذى (2822) فى الأدب، باب: إن المستشار مؤتمن، وابن ماجة (3745) فى الأدب، باب: المستشار مؤتمن، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6700) .

والسر الذى ربما كان فى إذاعته تلف النفس أولى بأن لا يجعل إلا عند الموثوق به. وقوله: «الندم توبة» «1» رواه الطبرانى فى الكبير. وقوله: «الدال على الخير كفاعله» «2» . رواه العسكرى وابن جميع، ومن طريقه المنذرى عن ابن عباس فى حديث مرفوع بلفظ: «وكل معروف صدقة والدال على الخير كفاعله والله يحب إغاثة اللهفان» والمعنى: أن من دلك على الخير وأرشدك إليه فنلته بإرشاده فكأنه فعل ذلك الخير. وقوله: «حبك الشىء يعمى ويصم» «3» . رواه أبو داود والعسكرى من حديث بقية بن الوليد، عن أبى بكر بن عبد الله بن أبى مريم عن خالد بن محمد الثقفى عن بلال بن أبى الدرداء عن أبيه مرفوعا، ولم ينفرد به بقية بل توبع عليه. وابن أبى مريم ضعيف. وقد حكم الصغانى عليه بالوضع. وتعقبه العراقى وقال: إن ابن أبى مريم لم يتهمه أحد بكذب، ويكفينا سكوت أبى داود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن. قال العسكرى: أراد النبى- صلى الله عليه وسلم- أن من الحب ما يعميك عن طريق الرشد، ويصمك عن استماع الحق، وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمه حبه عن العدل وأعماه عن الرشد، ولذا قال بعض الشعراء:

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجة (4252) فى الزهد، باب: ذكر التوبة، وأحمد فى «المسند» (1/ 376 و 422 و 423 و 433) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6802) . (2) صحيح: أخرجه الترمذى (2670) فى العلم، باب: ما جاء فى الدال على الخير كفاعله من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1605) . (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (5130) فى الأدب، باب: فى الهوى، وأحمد فى «المسند» (5/ 194) و (6/ 450) . والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2688) .

وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدى المساويا أشار إليه شيخنا فى المقاصد الحسنة. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضى والزعيم غارم» «1» . رواه الترمذى وأبو داود. وقوله: «سبقك بها عكاشة» «2» رواه البخارى. وقوله: «عجب ربك» «3» . من كذا. روى فى عدة روايات عند البخارى وغيره. ومعناه كما قاله ابن الأثير: عظم ذلك عنده وكبر لديه، أعلم الله أنه إنما يتعجب الآدمى من الشىء إذا عظم موقعه عنده وخفى عليه سببه، فأخبرهم بما يعرفون ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده. وقيل معنى عجب ربك أى رضى وأثاب، فسماه عجبا مجازا وليس بعجب فى الحقيقة. والأول أوجه.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3565) فى الإجارة، باب: فى تضمين العارية، والترمذى (1265) فى البيوع، باب: ما جاء فى أن العارية مؤداء، و (2120) فى الوصايا، باب: لا وصية لوارث، وابن ماجة (2398) فى الصدقات، باب: العارية، وأحمد فى «المسند» (5/ 267) ، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (1513) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، ومسلم (220) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وهو فى الصحيحين أيضا من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3010) فى الجهاد والسير، باب: الأسارى فى السلاسل، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- بلفظ: «عجب الله ... » ومنهج أهل السنة والجماعة إمرار صفات الله عز وجل كما جاءت بلا تعطيل ولا تشبيه، بل نثبت ما أثبته لنفسه، وننفى ما نفاه عن نفسه، أما تأويل بعض الصفات على غير معناها كالعجب مثلا بحجة أنه من صفات البشر، والعجب لا يدخل على الله، فنقول: أن الله عز وجل يسمع ويبصر، والإنسان كذلك يسمع ويبصر، وشتان بين سمع وبصر الله، وسمع وبصر العبد المخلوق، فكذلك نثبت صفة العجب لله دون تشبيهها بصفات المخلوقين.

وقوله: «قتل صبرا» «1» رواه غير واحد. وقوله: «ليس المسئول بأعلم من السائل» «2» رواه مسلم وغيره. وقوله: «ولا ترفع عصاك عن أهلك أدبا» «3» . رواه أحمد، أى لا تدع تأديبهم وجمعهم على طاعة الله، يقال شق العصا، أى فارق الجماعة، وليس المراد الضرب بالعصا، ولكنه جعله مثلا، وقيل: لا تغافل عن أدبهم ومنعهم من الفساد، قاله ابن الأثير. وقوله: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم» «4» . رواه البخارى، وذكره ابن دريد وقال: إنه من الكلام الفرد الوجيز الذى لم يسبق- صلى الله عليه وسلم- إلى معناه. أى كل ما أنبت الجدول، وإسناد الإنبات إليه مجاز، والمنبت فى الحقيقة هو الله تعالى، وليست «من» للتبعيض، وحبطا: بفتح المهملة والموحدة والطاء المهملة أيضا، وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل حتى ينتفخ فيموت، ويلم: بضم الياء، أى يقرب من الهلاك. وهو مثل للمنهمك فى جمع الدنيا، المانع من إخراجها فى وجهها. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «خير المال عين ساهرة لعين نائمة» «5» . ومعناه: عين ماء تجرى ليلا ونهارا وصاحبها نائم، فجعل دوام جريانها: سهرا لها.

_ (1) حسن: أخرجه البزار عن عائشة كما فى «صحيح الجامع» (4360) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (50) فى الإيمان، باب: سؤال جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ومسلم (9 و 10) فى الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 238) من حديث معاذ- رضى الله عنه-، وهو عند الطبرانى (24/ 190) من حديث أميمة مولاة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو عند البيهقى فى «الكبرى» (7/ 304) من حديث أم أيمن- رضى الله عنها-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1465) فى الزكاة، باب: الصدقة على اليتامى، ومسلم (1052) فى الزكاة، باب: تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (5) لم أقف عليه.

وقوله: «خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» «1» . رواه أحمد والطبرانى عن سويد بن هبيرة. ومعنى مأمورة: أى كثيرة النتاج، وسكة مأبورة: أى طريقة مصطفة من النخل، ومنه قيل للأزقة: سكة، والتأبير: تلقيح النخل. انتهى. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» «2» رواه مسلم من حديث أبى هريرة. وقوله: «زر غبّا، تزدد حبّا» «3» . رواه البزار، والحارث بن أبى أسامة عن أبى هريرة مرفوعا، وفى بعض أحاديث الباب، أنه قيل له: «يا أبا هريرة أين كنت أمس» قال: زرت ناسا من أهلى، فقال: «يا أبا هريرة زر غبّا تزدد حبّا» . وقوله: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» «4» . رواه أبو يعلى والبزار من طرق، أحدها حسن بلفظ: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق.

_ (1) رجاله ثقات، أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 468) ، والطبرانى فى «الكبير» (7/ 91) ، من حديث سويد بن هبيرة- رضى الله عنه-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 258) وقال: رواه أحمد والطبرانى، ورجال أحمد ثقات. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2699) فى الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البزار والطبرانى فى الأوسط والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى هريرة، والبزار والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى ذر، والطبرانى فى الكبير، والحاكم فى المستدرك عن حبيب بن مسلمة الفهرى، والطب فى الكبير عن ابن عمرو، والطبرانى فى الأوسط عن ابن عمر، والخطيب فى التاريخ عن عائشة كما فى «صحيح الجامع» (3568) . (4) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 23) عن أبى هريرة وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفيه عبد الله بن سعيد المقبرى، وهو ضعيف. اه، والحديث ضعفه كذلك الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2043) .

وقوله: «الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل» «1» رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط والبيهقى. وقوله: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» «2» . رواه البزار والحاكم فى علومه، والبيهقى فى سننه، كلهم من طريق محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا. وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة فى إرساله ووصله، وفى رفعه ووقفه، ثم فى الصحابى، أهو جابر أو عائشة أو عمر. ورجح البخارى فى تاريخه من حديث ابن المنكدر الإرسال، ومعناه: أنه بقى فى طريقه عاجزا عن مقصده، ولم يقض وطره، وقد أعطب ظهره. والوغول: الدخول، فكأنه قال: إن هذا الدين- مع كونه يسيرا سهلا شديد، فبالغوا فيه بالعبادة، لكن اجعلوا تلك المبالغة مع رفق، فإن من بالغ بغير رفق وتكلف من العبادة فوق طاقته يوشك أن يمل حتى ينقطع عن الواجبات، فيكون مثله كمثل الذى يعسف الركاب ويحملها على السير على ما لا تطيق رجاء الإسراع، فينقطع ظهره، فلا هو الذى قطع الأرض التى أراد، ولا هو أبقى ظهره سالما ينتفع به بعد ذلك. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «من شاد هذا الدين غلبه» . رواه العسكرى عن بريدة، وللبخارى من حديث معن بن محمد الغفارى عن سعيد المقبرى عن أبى هريرة مرفوعا: «إن الدين يسر، ولن يشاد

_ (1) ضعيف جدّا: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 24) عن ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عيسى بن ميمون المدنى، وهو ضعيف. اه. وقال الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2945) : ضعيف جدّا. (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 62) وقال: رواه البزار، وفيه يحيى بن المتوكل، أبو عقيل، وهو كذاب.

الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشىء من الدلجة» «1» . وقوله: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى» «2» . رواه الحاكم عن شداد بن أوس، وقال: صحيح على شرط البخارى، وتعقبه الذهبى بأن فيه ابن أبى مريم وهو واه. وكذا رواه العسكرى والقضاعى والترمذى وابن ماجة. وقوله: «ما حاك فى نفسك فدعه» «3» . رواه الطبرانى فى الكبير من حديث أبى أمامة. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «تنكح المرأة لجمالها ومالها ودينها وحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك» «4» . متفق عليه من حديث أبى هريرة. وقوله: «الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه» «5» رواه البيهقى وأحمد وأبو نعيم مختصرا، والعسكرى بتمامه، كلهم من حديث دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد، وله شواهد.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (39) فى الإيمان، باب: الدين يسر. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2459) فى صفة القيامة، باب: منه، وابن ماجة (4260) فى الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له، وأحمد فى «المسند» (4/ 124) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 125) و (4/ 280) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4305) . (3) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 252 و 255) ، وابن حبان فى «صحيحه» (176) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 58) و (4/ 111) ، والطبرانى فى «الكبير» (8/ 117) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (4) صحيح: أخرجه البخارى (5090) فى النكاح، باب: الأكفاء فى النكاح، ومسلم (1466) فى الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين. (5) ضعيف: أخرجه أحمد فى المسند (3/ 75) مختصرا، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 297) ، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، وانظر «ضعيف الجامع» (3429 و 3430) .

وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه فى بساتين الطاعات، ويسرح فى ميادين العبادات، ويتنزه قلبه فى رياض الأعمال الميسرة فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة ولا يحصل له جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد فلا يحصل فيه مشقة الصيام. وقوله: «القناعة مال لا ينفد وكنز لا يفنى» «1» . رواه الطبرانى فى الأوسط من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر، والقضاعى بدون: «وكنز لا يفنى» عن أنس. وفى القناعة أحاديث كثيرة، ولو لم يكن فى القنع إلا التمتع بالعز لكفى صاحبه، وكان من دعائه- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم قنعنى بما رزقتنى» «2» وأنشد بعضهم: ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ... ولن ترى قانعا ما عاش مفتقرا وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد» «3» رواه الطبرانى فى معجمه الأوسط من حديث أنس. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم» «4» . رواه البيهقى فى الشعب، والعسكرى فى الأمثال، وابن السنى والديلمى من طريقه والقضاعى كلهم من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعا. وضعفه

_ (1) ضعيف جدّا: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 256) عن جابر، وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه خالد بن إسماعيل المخزومى، وهو متروك. اه، وأخرجه القضاعى عن أنس كما فى «كنز العمال» (7080) . (2) أخرجه العسكرى فى «الأمثال» ، عن ابن عباس- رضى الله عنهما-، كما فى «كنز العمال» (5094) . (3) موضوع: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 96) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والصغير من طريق عبد السلام بن عبد القدوس، وكلاهما ضعيف. (4) موضوع: أخرجه الطبرانى فى «مكارم الأخلاق» ، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن ابن عمر، كما فى «ضعيف الجامع» (2286) .

البيهقى، لكن له شاهد عند العسكرى من حديث خلاد بن عيسى عن ثابت عن أنس رفعه: «الاقتصاد نصف العيش، وحسن الخلق نصف الدين» «1» وكذا أخرجه الطبرانى وابن لال. ومن شواهده أيضا: ما للعسكرى عن أنس رفعه: «السؤال نصف العلم، والرفق نصف المعيشة، وما عال امرؤ فى اقتصاد» «2» وللديلمى من حديث أبى أمامة رفعه: «السؤال نصف العلم والرفق نصف المعيشة» «3» . وفى صحيح ابن حبان من حديث طويل عن أبى ذر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال له: «يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كسحن الخلق» «4» وهذا اللفظ عند البيهقى فى الشعب. وله أيضا وللعسكرى عن على مرفوعا: «التودد نصف الدين، وما عال امرؤ قط على اقتصاد» «5» أى: ما افتقر من أنفق قصدا ولم يجاوزه إلى الإسراف. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن من أمنه الناس» «6» . رواه الترمذى. وقوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرم الله» «7» . متفق عليه عن ابن عمرو، به مرفوعا، وعن أبى موسى، ومسلم عن جابر.

_ (1) ضعيف: انظر «ضعيف الجامع» (2287) . (2) ضعيف: أخرجه العسكرى فى الأمثال عن أنس، كما فى «كنز العمال» (29261) وفيه شبيب بن بشر لين الحديث. (3) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «تاريخه» كما فى «كنز العمال» (29260) . (4) إسناده ضعيف جدّا: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (361) ضمن حديث طويل جدّا بسند ضعيف جدّا. (5) انظر «كشف الخفا» (476) . (6) صحيح: أخرجه الترمذى (2627) فى الإيمان، باب: ما جاء المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والنسائى (8/ 104) فى الإيمان وشرائعه، باب: صفة المؤمن، وأحمد فى «المسند» (2/ 379) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6710) . (7) صحيح: أخرجه البخارى (10) فى الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ومسلم (40) بعضه فى الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأى أموره أفضل.

وقوله: «قلة العيال أحد اليسارين» «1» . رواه صاحب مسند الفردوس لفظه: «التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» «2» . رواه أبو داود والترمذى من رواية شريك وقيس بن الربيع، كلاهما عن أبى صالح والحارث من رواية الحسن، كلاهما عن أبى هريرة، وقال الترمذى: حديث حسن غريب، وأخرجه الدارمى فى مسنده، والدارقطنى والحاكم وقال: إنه صحيح على شرط مسلم، ولكن أعله ابن حزم وكذا ابن القطان والبيهقى. وقال أبو حاتم: إنه منكر، وقال الشافعى: إنه ليس بثابت عند أهله. وقال أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبى- صلى الله عليه وسلم- من وجه صحيح. قال شيخنا لكن بانضمامها يقوى الحديث. انتهى. وقوله: «الرضاع يغير الطباع» «3» رواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» «4» . رواه أحمد وأبو يعلى فى مسنديهما، والبيهقى فى الشعب عن أنس. وقوله: «النساء حبائل الشيطان» «5» رواه فى مسند الفردوس عن عقبة ابن عامر.

_ (1) ضعيف: أخرجه القضاعى عن على، والديلمى فى «مسند الفردوس» عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (2505) . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (3535) فى الإجارة، باب: فى الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والترمذى (1264) فى البيوع، باب: رقم (38) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (240) . (3) ضعيف: أخرجه القضاعى عن ابن عباس، كما فى «ضعيف الجامع» (3156) . (4) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 135 و 154 و 210 و 251) ، وابن حبان فى «صحيحه» (194) ، وأبو يعلى فى مسنده (2863 و 3445) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (7179) . (5) ضعيف: أخرجه الديلمى فى «مسند الفردوس» عن عقبة بن عامر كما فى «كشف الخفا» (2802) ، والخرائطى فى «اعتلال القلوب» عن زيد بن خالد الجهنى، كما فى «ضعيف الجامع» (3428) .

وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «حسن العهد من الإيمان» «1» . رواه الحاكم فى مستدركه، عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو عندى فقال لها: «من أنت؟» فقالت: جثامة المزينة قال: «أنت حسانة، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا» قالت: بخير بأبى أنت وأمى، فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ قال: «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان» وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين وليس له علة. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «الخمر جماع الإثم» «2» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «جمال الرجل فصاحة لسانه» «3» . رواه القضاعى من حديث الأوزاعى والعسكرى من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر، كلاهما عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا. وأخرجه أيضا الخطيب وابن طاهر، وفى إسناده أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقى والديلمى من حديث جابر رفعه: «الجمال صواب المقال، والكمال حسن الفعال بالصدق» . وعند العسكرى من حديث العباس: قلت يا نبى الله ما الجمال فى الرجل: قال: «فصاحة لسانه» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا» «4» .

_ (1) حسن: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 62) من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2056) . (2) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 68) . (3) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 164) . (4) أخرجه الدارمى فى «سننه» (332) ، والطبرانى فى «الكبير» (10/ 180) ، والقضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 212) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، مرفوعا موقوفا، ولعل الصواب وقفه.

رواه الطبرانى فى الكبير والقضاعى عن ابن مسعود، وهو عند البيهقى فى المدخل: عن القاسم قال: قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان طالب علم وصاحب الدنيا. ولا يستويان، أما صاحب الدنيا فيتمادى فى الطغيان، وأما صاحب العلم فيزداد من رضى الرحمن. وقال: إنه موقوف منقطع. وكذا رواه البزار والعسكرى وغيرهما وبمجموعها يتقوى، وإن كانت مفرداته ضعيفة، والله أعلم. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أكثر من العقل، ولا وحشة أشد من العجب» «1» رواه ابن ماجة. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «الذنب لا ينسى، والبر لا يبلى، والديان لا يموت، فكن كما شئت» «2» رواه فى مسند الفردوس عن ابن عمر. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «ما جمع شىء إلى شىء أحسن من حلم إلى علم» «3» . رواه العسكرى فى الأمثال من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن على ابن الحسين عن أبيه عن على مرفوعا بزيادة: «وأفضل الإيمان التحبب إلى الناس، ثلاث من لم تكن فيه فليس منى ولا من الله، حلم يرد به جهل الجاهل، وحسن خلق يعيش به فى الناس، عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله تعالى بها عزّا» «4» .

_ (1) ذكره العجلونى فى «كشف الخفا» (3038) وعزاه لابن ماجة والطبرانى عن أبى ذر، ولم أجده فيها، وفى الباب عن على بن أبى طالب يسأل ابنه الحسن فأجابه بذلك. (2) مرسل: أخرجه عبد الرزاق عن أبى قلابة مرسلا، كما فى «ضعيف الجامع» (2369) . (3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 121) عن على وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والصغير من رواية حفص بن بشر عن حسن بن الحسين بن يزيد العلوى عن أبيه، ولم أر من ذكر أحدا منهم. اه. وانظر «ضعيف الجامع» (5051) ، و «كشف الخفا» (2204 و 2734) . (4) ضعيف: انظر ما قبله.

وعنده أيضا من حديث جابر مرفوعا: «ما أوى شىء إلى شىء أحسن من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان إلى حلم» «1» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «التمسوا الرزق فى خبايا الأرض» «2» . رواه فى جزء ب ى ب ى «3» عن ابن أبى شريح والمراد الزرع، وأنشدوا: تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يوما أن تجاب فترزقا وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك فى أهل القبور» «4» رواه البيهقى فى الشعب والعسكرى من حديث ابن عمر مرفوعا: وأخرجه البخارى والترمذى وغيرهم. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «صنائع المعروف تقى مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد فى العمر» «5» . خرج الطبرانى فى الكبير بسند حسن. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «العفو لا يزيد العبد إلا عزّا، والتواضع لا يزيده إلا رفعة. وما نقص مال من صدقة» «6» .

_ (1) موضوع: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 162) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف جدّا. اه. والحديث حكم بوضعه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (964) . (2) ضعيف: أخرجه الدارقطنى فى الأفراد، والبيهقى فى الشعب عن عائشة، وابن عساكر عن عبد الله بن أبى عباس بن أبى ربيعة، كما فى «ضعيف الجامع» (1150) ، وانظر رقم (905) أيضا. (3) كذا بالأصل. (4) صحيح: أخرجه البخارى (6416) فى الرقاق، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» طرفه الأول، والترمذى (2333) فى الزهد، باب: ما جاء فى قصر الأمل، وابن ماجة (4114) فى الزهد، باب: مثل الدنيا. (5) حسن: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 115) عن أبى أمامة وقال: رواه الطبرانى فى الكبير وإسناده حسن. اه. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3797) . (6) أخرجه ابن أبى الدنيا فى «ذم الغضب» عن محمد بن عمير العبدى، كما فى «كنز العمال» (5719) .

وروى مسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» «1» . وروى القضاعى عن أبى سلمة عن أم سلمة مرفوعا: «ما نقص مال من صدقة ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله تعالى بها عزّا» «2» . وروى الديلمى من حديث أبى هريرة مرفوعا: «والذى نفس محمد بيده لا ينقص مال من صدقة» «3» رواه الترمذى وقال حسن صحيح. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إنى أعوذ بك من شر سمعى، ومن شر بصرى، ومن شر لسانى ومن شر قلبى ومن شر منيى «4» » «5» أخرجه أبو داود والترمذى فى جامعه والحاكم فى مستدركه عن شكل. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إنى أعوذ بك من شر فتنة الغنى» «6» رواه الترمذى والنسائى وأبو داود وابن ماجه. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل قادر، يحق فيها الحق ويبطل

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2588) فى البر والصلة، باب: استحباب العفو والتواضع، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 105) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط، وفيه زكريا بن دويد، وهو ضعيف جدّا. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (2029) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى التواضع. (4) المنى: المراد شر الفرج، وقيل: من المنية، أى الموت. (5) صحيح: أخرجه أبو داود (1551) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، والترمذى (3492) فى الدعوات، باب: رقم (76) ، والنسائى (8/ 260) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من شر السمع والبصر، وأحمد فى «المسند» (3/ 429) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 715) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1292) . (6) صحيح: أخرجه البخارى (6368) فى الدعوات، باب: التعوذ من المأثم والمغرم، ومسلم (589) فى الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر الفتن وغيرها، وأبو داود (1543) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، والترمذى (3495) فى الدعوات، باب: رقم (77) ، والنسائى (8/ 266) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من شر فتنة الغنى، وابن ماجه (3838) فى الدعاء، باب: ما تعوذ منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

الباطل، فكونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا. فإن كل أم يتبعها ولدها» «1» رواه أبو نعيم فى الحلية من حديث شداد. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «أخسر الناس صفقة من أذهب آخرته بدنيا غيره» «2» . وعند ابن النجار من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه وهو مما بيض له الديلمى: «أخسر الناس صفقة رجل أخلق يديه فى آماله ولم تساعده الأيام على أمنيته، فخرج من الدنيا بغير زاد وقدم على الله بغير حجة» «3» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن من كنوز البر كتمان المصائب» «4» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «اليمين حنث أو ندم» «5» . رواه أبو يعلى وابن ماجه إلا أنه قال: «إنما الحلف» «6» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك» «7» . رواه الترمذى من حديث مكحول عن واثلة، وقال: حسن غريب، وهو عند

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 189) عن شداد بن أوس، وقاله: رواه الطبرانى فى «الكبير» ، وفيه أبو مهدى سعيد بن سنان، وهو ضعيف جدّا. (2) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (3966) فى الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2008) . (3) ضعيف: أخرجه ابن النجار فى تاريخه عن عامر بن ربيعة، وهو مما بيض له الديلمى (أى لم يذكر سنده، تركه أبيضا لعدم وقوفه على سنده) ، كما فى «ضعيف الجامع» (237) . (4) ضعيف: أخرجه أبو نعيم فى الحلية عن ابن عمر، كما فى «ضعيف الجامع» (5311) . (5) ضعيف: أخرجه أبو يعلى فى «مسنده» (5587) ، وهو عند ابن ماجة (2103) فى الكفارات، باب: اليمين حنث أو ندم، بلفظ: «إنما الحلف» ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجة» . (6) ضعيف: انظر ما قبله. (7) ضعيف: أخرجه الترمذى (2506) فى صفة القيامة، باب: رقم (18) ، والطبرانى فى «الكبير» (22/ 53) ، من حديث واثلة بن الأسقع- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (6245) .

الطبرانى أيضا، وفى رواية لابن أبى الدنيا: «فيرحمه الله» بدل: فيعاقبه الله، وروى الترمذى مرفوعا: «من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» «1» . وقوله- صلى الله عليه وسلم- لأبى هريرة: «جف القلم بما أنت لاق» «2» . قال صاحب فتح المنة بشرح الأخبار لمحيى السنة: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها، فإن الفراغ بعد الشروع يستلزم جفاف القلم عن مداده، فهو من إطلاق اللازم على الملزوم، وهذا اللفظ لم يوجد فى كلام العرب، بل هو من الألفاظ التى لم يهتد إليها البلغاء، بل اقتضتها الفصاحة النبوية. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «اليوم الرهان وغدا السباق والغاية الجنة والهالك من دخل النار» «3» . وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «من ضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنة» «4» . رواه الجماعة، منهم العسكرى عن جابر، وفى البخارى والترمذى عن سهل بن سعد بلفظ: «من يضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» . والمراد بما بين لحييه: اللسان وما يأتى به النطق، وما بين رجليه: الفرج، وقال الداودى: المراد بما بين اللحيين: الفم، فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يأتى بالفم.

_ (1) موضوع: أخرجه الترمذى (2505) فى صفة القيامة، باب: رقم (18) ، من حديث معاذ ابن جبل- رضى الله عنه-، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (5710) : موضوع. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5076) فى النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء. (3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 228) عن ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفيه أصدم بن حوشب، وهو متروك وفى إسناده الأوسط الوليد بن الفضل العنزى، وهو ضعيف جدّا. (4) صحيح: أخرجه البخارى (6474) فى الرقاق، باب: حفظ اللسان، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.

وفى لفظ: «من توكل لى ما بين فقميه ورجليه أتوكل له بالجنة» «1» . والفقم: بالضم والفتح: اللحى. وفى لفظ آخر: «من تكفل لى تكفلت له» . وللديلمى- بسند ضعيف- عن أنس رفعه: «من وقى شر قبقبه وذبذبه ولقلقه وجبت له الجنة» «2» ولفظ الإحياء: وقى يعنى البطن من القبقبة، وهو صوت يسمع فى البطن، وكأنها حكاية ذلك الصوت، ويجوز أن يكون كناية عن أكل الحرام وشبهه، والذكر واللسان. فهذا وأشباهه، مما يعسر استقصاؤه. يدلك على ذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- قد رقى من الفصاحة وجوامع الكلم درجة لا يقاس بها غيره، وحاز مرتبة لا يقدر فيها قدره- صلى الله عليه وسلم-. ومما عد من وجوه بلاغته: ما ذكر أنه جمع متفرقات الشرائع وقواعد الإسلام فى أربعة أحاديث وهى: حديث «إنما الأعمال بالنية» «3» رواه الشيخان. وحديث «الحلال بين والحرام بين» «4» رواه مسلم. وحديث «البينة على المدعى واليمين على من أنكر» «5» .

_ (1) أخرجه العسكرى فى الأمثال عن سهل بن سعد، كما فى «كنز العمال» (43201) . (2) انظر «كشف الخفاء» (2523) . (3) صحيح: وقد تقدم. (4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (52) فى الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599) فى المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-. (5) صحيح: أخرجه الترمذى (1341) فى الأحكام، باب: ما جاء فى أن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، من حديث ابن عمرو- رضى الله عنهما-، وهو فى الصحيحين بلفظ: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وانظر «صحيح الجامع» (2897) .

وحديث «لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «1» رواه الشيخان. فالحديث الأول: يشتمل على ربع العبادات. والثانى: على ربع المعاملات. والثالث: على ربع الحكومات وفصل الخصومات. والرابع: على ربع الآداب والمناصفات ويدخل تحته التحذير من الجنايات. قاله ابن المنير. ومما عدّ أيضا من أنواع بلاغته كلامه- صلى الله عليه وسلم- مع كل ذى لغة بليغة بلغته اتساعا فى الفصاحة، واستحداثا للألفة، فكان- صلى الله عليه وسلم- يخاطب أهل الحضر وبكلام ألين من الدهن وأرق من المزن، ويخاطب أهل البدو بكلام أرسى من الهضب، وأرهف من العضب. فانظر إلى دعائه لأهل المدينة وقد سألوه ذلك فقال: «اللهم بارك لهم فى مكيالهم وبارك لهم فى صاعهم ومدهم» «2» وفى حديث آخر: «اللهم بارك لنا فى تمرنا وبارك لنا فى مدينتنا، وبارك لنا فى صاعنا، وبارك لنا فى مدنا. اللهم إنى أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه» . ثم انظر دعاءه لبنى نهد وقد وفدوا عليه فى جملة الوفود، فقام طهفة ابن رهم النهدى يشكو الجدب فقال: أتيناك يا رسول الله من غورى تهامة، بأكوار الميس، ترتمى بنا العيس، نستحلب الصبير، ونستخلب الخبير، ونستعضد البرير، ونستخيل الرهام، ونستجيل الجهام، من أرض غائلة النطا،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (13) فى الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم (45) فى الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وهو فيها بلفظ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (2130) فى البيوع، باب: بركة صاع النبى- صلى الله عليه وسلم- ومدهم، ومسلم (1368) فى الحج، باب: فضل المدينة، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

غليظة الوطا، قد نشف المدهن، ويبس الجعثن، وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدى، ومات الودى، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن وما يحدث الزمن، لنا دعوة السلام وشريعة الإسلام، ما طمى البحر وقام تعار، ولنا نعم همل، أغفال ما تبل ببلال، ووقير كثير الرسل، قليل الرسل، أصابتها سنية حمراء مؤزلة، وليس لها علل ولا نهل. فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم بارك لهم فى محصنها ومخضها ومذقها، وابعث راعيها فى الدثر بيانع الثمر، وافجر له الثمد، وبارك له فى المال والولد، من أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا، لكم يا بنى نهد ودائع الشرك، ووضائع الملك، لا تلطط فى الزكاة، ولا تلحد فى الحياة، ولا تتثاقل عن الصلاة» . ثم كتب معه كتابا إلى بنى نهد: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى بنى نهد بن زيد، السلام على من آمن بالله عز وجل ورسوله، لكم يا بنى نهد فى الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض والفريش، وذو العنان الركوب، والفلو الضبيس، لا يمنع سرحكم، لا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الإماق، وتأكلوا الرباق، من أقر بما فى هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى فعليه الربوة» «1» وتحتاج هذه الألفاظ البالغة أعلى أنواع البلاغة إلى تفسير: فالميس: شجر صلب تعمل منه أكوار الإبل ورحالها. نستحلب- بالحاء المهملة- الصبير: بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة، وهو سحاب أبيض متراكب متكاثف. أى نستدر السحاب. ونستخلب- بالخاء المعجمة- الخبير: بالخاء المعجمة أيضا ثم الموحدة: النبات والعشب، شبه بخبير الإبل وهو وبرها، واستخلابه: احتشاشه بالمخلب وهو المنجل، والخبير: يقع على الوبر والزرع والأكار قاله ابن الأثير. ونستعضد البرير: أى نقطعه ونجنيه من شجره للأكل، هو بموحدة

_ (1) انظر «كنز العمال» (30317) .

وراءين بينهما مثناة تحتية، ثمر الأراك إذا اسود وبلغ، وقيل: وهو اسم له فى كل حال، وكانوا يأكلونه فى الجدب. ونستخبل- بالخاء المعجمة- الرهام: بكسر الراء، وهى الأمطار الضعيفة، واحدتها رهمة، أى نتخيل الماء فى السحاب القليل، وقيل: الرهمة أشد وقعا من الديمة. ونستجيل: بالجيم، أى نراه جائلا تذهب به الريح هاهنا وهاهنا. والجهام: بالجيم، أى السحاب الذى فرغ ماؤه. ومن روى نستخيل- بالخاء المعجمة- فهو نستفعل من «خلت، أخال» إذا ظننت، أراد أن لا نتخيل فى السحاب حالا إلا المطر وإن كان جهاما لشدة حاجتنا إليه، ومن رواه بالحاء المهملة- وهو الأشهر- أراد: لا ننظر من السحاب فى حال إلا جهام من قلة المطر. وأرض غائلة- بالغين المعجمة- والنطا- بكسر النون- أى مهلكة للبعد، يقال: بلد نطى، أى بعيد، ويروى المطى وهو مفعل منه. والمدهن: نقرة فى الجبل. والجعثن: بالجيم والمثلاثة، أصل النبات، ويقال: أصل الصليان خاصة وهو نبت معروف. والعسلوج: بضم العين وبالسين المهملتين، آخره جيم، وهو الغصن إذا يبس وذهبت طراوته، وقيل: هو القضيب الحديث الطلوع، يريد أن الأغصان يبست وهلكت من الجدب، وجمعه: عساليج. والأملوج: بالضم والجيم، ورق شجر يشبه الطرفاء والسرو، وقيل: هو ضرب من النبات ورقه كالعيدان، وقيل: هو نوى المقل. وفى رواية: وسقط الأملوج من البكارة- بالكسر- جمع البكرة- بالفتح- يريد أن السمن الذى قد علا بكارة الإبل بما رعت من هذه الشجرة قد سقط عنها، فسماه باسم المرعى، إذ كان سببا له. وهلك الهدى: بفتح الهاء وكسر الدال المهملة والتشديد، كالهدى بالتخفيف، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لتنحر، فأطلق على جميع الإبل لم وإن لم تكن هديا، تسمية للشىء ببعضه، يقال: كم هدى بنى فلان؟ أى كم إبلهم. ومات الودى: بالتشديد، فسيل النخل، يريد هلكت الإبل ويبست

النخيل. وبرئنا إليك من الوثن والعنن: الوثن: الصنم، والعنن، الاعتراض، يقال: عنّ لى الشىء أى اعترض، كأنه قال: برئنا إليك من الشرك والظلم، وقيل: أراد به الخلاف والباطل. وما طمى البحر: أى ارتفع بأمواجه. وتعار: بكسر التاء المثناة الفوقية، يصرف ولا يصرف، اسم جبل: ولنا نعم همل: أى مهملة لا رعاء لها، ولا فيها ما يصلحها ويهديها، فهى كالضالة. والإبل الأغفال: لا لبن فيها. وقوله- عليه الصلاة والسلام-. فى محضها: بالحاء المهملة والضاد المعجمة، أى خالص لبنها. ومخضها: بالمعجمة، ما مخض من اللبن وأخذ زبده. ومذقها: بفتح الميم وسكون المعجمة وبالقاف، أى ممزوج بالماء. وابعث راعيها فى الدثر: بالمهملة المفتوحة ثم المثلاثة الساكنة ثم الراء، المال الكثير، وقيل: الخصب والنبات الكثير. وافجر له الثمد: بفتح المثلاثة، الماء القليل، أى صيره كثيرا. وودائع الشرك: قيل المراد بها العهود والمواثيق، يقال: توادع الفريقان، إذا أعطى كل واحد منهم عهده للآخر لا يغزوه، وقيل: ما كانوا استودعوه من أموال الكفار الذين لم يدخلوا فى الإسلام، أراد إحلالها لهم لأنها مال كافر قدر عليه من غير عهد ولا شرط. ووضائع الملك: جمع وضيعة، وهى الوظيفة التى تكون على الملك، وهى ما يلزم الناس فى أموالهم من الزكاة والصدقة، أى لكم الوظائف التى تلزم المسلمين لا تتجاوز عنكم ولا نزيد عليكم فيها شيئا. ولا تلطط، بضم المثناة الفوقية، ثم اللام الساكنة ثم طاآن، الأولى مكسورة والثانية مجزومة على النهى، أى لا تمنعها. ولا تلحد فى الحياة: بضم المثناة الفوقية وإسكان اللام وكسر الحاء المهملة آخره دال مهملة، أى: لا تمل عن الحق ما دمت حيّا. قال بعضهم: كذا رواه القتيبى: لا تلطط ولا

تلحد على النهى للواحد، ولا وجه له لأنه خطاب للجماعة، ورواه غيره ما لم يكن عهد ولا موعد ولا تثاقل عن الصلاة، ولا تلطط فى الزكاة ولا تلحد فى الحياة. قال الحافظ أبو السعادات الجزرى، وهو الوجه، لأنه خطاب للجماعة واقع على ما قبله. وقوله: «ولا تتثاقل عن الصلاة» أى لا تتخلف. والوظيفة: الحق الواجب. والفريضة: أى الهرمة المسنة، أى لا تأخذ فى الصدقات هذا الصنف كما أنا لا نأخذ خيار المال. والفارض: - بالفاء والضاد المعجمة- المريضة. والفريش: بفتح الفاء آخره شين معجمة، وهى من الإبل كالنفساء من بنات آدم، أى لكم خيار المال وشراره، ولنا وسطه. وذون العنان: بكسر العين، سير اللجام. والركوب: بفتح الراء، أى الفرس الذلول. والضبيس، بفتح المعجمة وكسر الموحدة آخره مهملة، المهر العسر الصعب. امتن عليهم بترك الصدقة فى الخيل جيدها ورديئها. ولا يمنع- بضم المثناة التحتية وفتح النون-، سرحكم- بفتح السين المهملة وسكون الراء وبالحاء المهملة- ما سرح من المواشى، أى لا يدخل عليكم أحد فى مراعيكم. ولا يعضد طلحكم: أى لا يقطع. ولا يحبس دركم: أى لا تحبس ذوات الدر عن المرعى إلى أن تجمع الماشية ثم تعد، أو أنا منعناه أن يأخذها لما فى ذلك من الإضرار. والإماق: بالميم، أى ما لم تضمروا الغيظ، والبكاء، مما يلزمكم من الصدقة، قاله فى القاموس. وقال الزمخشرى: المراد إضمار الكفر والعمل على ترك الاستبصار فى دين الله، وفى رواية: الرماق- بالراء والميم- أى النفاق، يقال: رامقته رماقا، وهو أن تنظر إليه شزرا نظرة العداوة، يعنى ما لم تضق قلوبكم عن الحق، يقال: عيش رماق، أى ضيق، وعيش رمق ومرمق: أى يمسك الروح، والرمق: بقية الروح وآخر النفس. وتأكلوا الرباق- بكسر الراء وبالموحدة المخففة- أى إلا أن تنقضوا

العهد، واستعار الأكل لنقض العهد لأن البهيمة إذا أكلت الربق- وهو الحبل تجعل فيه عرى وتشد به- خلصت من الرباط. والربوة: - بكسر الراء وفتحها وضمها- أى الزيادة. يعنى: من تقاعد عن إعطاء الزكاة فعليه الزيادة فى الفريضة عقوبة له. فانظر إلى هذا الدعاء والكتاب الذى انطبق على لغتهم، وجاد وزاد عليها فى الجزالة والبداوة وأين هذا من كتابه- صلى الله عليه وسلم- لأنس فى الصدقة، وأين ذلك من كتابه بين قريش والأنصار أنهم أمة واحدة دون الناس من قريش على رباعتهم، يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى، ويفكون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على من بغى عليهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، وأن سلم المؤمنين واحد على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت يعقب بعضهم بعضا، ومن اعتبط مؤمنا قتلا فهو قود إلا أن يرضى ولى المقتول، ومن ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأولاهم بهذه الصحيفة البر المحسن. كذا روى مختصرا من حديث ابن شطب. وقوله: دسيعة ظلم: أى عظيمة من الظلم. ورباعتهم: أمرهم القديم الذى كانوا عليه. ويتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى: أى يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها، وهو تفاعل من العقل، والمعاقل الديات، جمع معقلة، يقال: بنو فلان على معاقلهم التى كانوا عليها، أى مراتبهم وحالتهم. ولا يوتغ: أى لا يهلك. ويعقب بعضهم بعضا: أى يكون الغزو بينهم نوبا، فإذا خرجت طائفة ثم عادت لم تكلف أن تعود ثانية حتى يعقبها غيرها. وأين هذا اللين فى القول، وقرب المأخذ فى اللفظ على طريق الحاضرة وعرف الجمهور المشهور من كتابه لذى المشعار الهمدانى، لما لقيه وفد همدان مقدمه من تبوك، فقال مالك بن نمط: يا رسول الله، نصية من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا

تأخذهم فى الله لومة لائم، من مخلاف خارف ويام لا ينقض عهدهم عن سنة ماحل، ولا سوداء عنقفير، ما قام لعلع، وما جرى اليعفور بصلع. فكتب إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم-: هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحفاف الرمل، مع وافدها ذى المشعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عفاها لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض والداجن والكبس الحورى، وعليهم فيها المصالغ والقارح. وقوله نصية من كل حاضر وباد قال ابن الأثير: النصية من ينتصى من القوم أى يختار من نواصيهم، وهم الرؤوس والأشراف، ويقال للأشراف: نواص، كما يقال للأتباع أذناب. وأتوك على قلص: بضم القاف واللام، جمع قلوص، وهى الناقة الشابة. والنواج: السراع. وقوله متصلة بحبائل الإسلام أى عهوده وأسبابه. وخارف: بالخاء المعجمة. ويام: بالمثناة التحتية: قبيلتان. ولا ينقض عهدهم عن سنة ماحل: أى لا ينقض عهدهم بسعى ساع أى بالنميمة والإفساد، كما يقال: لا أفسد ما بينى وبينك بمذاهب الأشرار وطرقهم فى الفساد. والسنة: الطريقة، والسنن أيضا. والعنقفير: بفتح العين المهملة وسكون النون وتقديم القاف، الداهية. أى لا ينقض عهدهم بسعى الواشى ولا بداهية تنزل. ولعلع: جبل. وما جرى اليعفور: بفتح التحتية، الخشف وولد البقرة الوحشية، وقيل: هو تيس الظباء، والجمع: اليعافير، والياء: زائدة. وبصلع: بضم الصاد المهملة وتشديد اللام، الأرض التى لا نبات فيها: وقوله- عليه الصلاة والسلام-: «وأهل الجناب الهضب» بكسر الجيم، اسم موضع. و «حفاف الرمل» أسماء بلادهم. «وفراعها» بكسر الفاء وبراء وعين مهملة، أى ما علا من الجبال أو الأرض. «ووهاطها» بكسر الواو، وبطاء مهملة، المواضع

المطمئنة، واحدها وهط، وبه سمى الوهط، وهو مال كان لعمرو بن العاص بالطائف. وقيل الوهط: قرية بالطائف كان الكرم المذكور بها. «وعزازها» بفتح العين المهملة ثم زاءين مخففتين، ما صلب من الأرض واشتد وخشن، وإنما يكون فى أطرافها. «ويأكلون علافها» بكسر العين المهملة وتخفيف اللام وبالفاء، جمع علف، وهو ما تأكله الماشية. «وعفاها» بفتح وتخفيف الفاء وبالمد، أى المباح. «ومن دفئهم» بكسر الدال المهملة وسكون الفاء وبالهمز. قال فى المجمل: نتاج الإبل وألبانها والانتفاع بها. «وصرامهم» بكسر الصاد المهملة وتخفيف الراء، أى من نخلهم. والثلب: بكسر المثلاثة واللام الساكنة وبباء موحدة، ما هرم من ذكور الإبل وتكسرت أسنانه. والناب: بالنون الموحدة: الناقة الهرمة التى طال نابها. والفصيل: بالمهملة الذى انفصل عن أمه. والفارض: بالفاء المسن من الإبل. والداجن: بالمهملة والجيم، الدابة التى تألف البيوت. والكبش الحورى: بالحاء المهملة، وواو مفتوحتين فراء مكسورة: الذى فى صوفه حمرة. والصالغ: بالصاد المهملة والغين المعجمة، من صلغت الشاة ونحوها: إذا تمت أسنانها. والقارح: بالقاف والراء والحاء المهملة، من الخيل الذى دخل فى السنة الخامسة. انتهى. وهذا من جنس كتابه لقطن بن حارثة العليمى من كلب. هذا كتاب من محمد لعمائر كلب وأحلافها، ومن ظأره الإسلام من غيرهم مع قطن ابن حارثة العليمى، بإقام الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة بحقها فى شدة عقدها ووفاء عهدها، بمحضر من شهود المسلمين، وسمى جماعة منهم دحية بن خليفة الكلبى، عليهم من الهمولة الراعية البساط الظئار فى كل خمسين ناقة غير ذات عوار، والحمولة المائرة لهم لاغية، وفى الشوى الورى مسنة حامل أو حائل، وفيما سقى الجدول من العين المعين العشر، وفى

العشرى شطره بقيمة الأمين لا يزاد عليهم وظيفة ولا يفرق. شهد على ذلك الله ورسوله، وكتب ثابت بن قيس بن شماس. وتفسير غريبه أن قوله: ومن ظأره الإسلام: بالظاء المعجمة والهمز، آخره هاء أى: عطف عليه وعليهم. فى الهمولة: بفتح الهاء، التى ترعى بأنفسها. ولا تستعمل فعولة بمعنى مفعولة. والبساط: التى معها أولادها. والظئار: أن تعطف الناقة على غير ولدها. والحمولة المائرة لهم لاغية: يعنى أن الإبل التى تحمل عليها الميرة- وهى الطعام ونحوه مما يجلب للبيع- لا يؤخذ منها زكاة لأنها عوامل. وفى الشوى: بفتح الشين المعجمة وكسر الواو والياء المشددة: اسم جمع للشاة. والورى: السمينة. ومن هذا النمط كتابه- صلى الله عليه وسلم- لوائل بن حجر- بتقديم الحاء المضمومة على الجيم الساكنة- إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب، وذكر الفرائض فقال: فى التيعة شاة لا مقورة الألياط ولا ضناك، وأنطوا الثبجة وفى السيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عاما، ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم، ولا توصيم فى الدين، ولا غمة فى فرائض الله، وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفل على الأقيال. وفسر الأقيال- وهو بالقاف والمثناة التحتية- بالرؤساء الذين دون الملوك. والعباهلة: بالمهملة المفتوحة والموحدة، الذين أقروا على ملكهم لا يزالون. والأوراع: - بفتح الهمزة وسكون الراء آخره عين مهملة- جمع رائع، وهم ذوو الهيئات الحسان الوجوه. والمشابيب: - بفتح الميم والشين المعجمة وباءين موحدتين بينهما مثناة تحتية ساكنة- السادة الرؤوس، الحسان الوجوه. وفى التيعة: - بكسر المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية وبالعين المهملة- أربعون من الغنم. وفى القاموس والنهاية: أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان. ولا مقورة: بضم الميم وفتح القاف وتشديد الواو. والألياط: - بفتح الهمزة وسكون اللام آخرها طاء مهملة- أى: لا

مسترخية الجلود لكونها هزيلة. ولا ضناك: - بكسر المعجمة وتخفيف النون- ضدها وهى المستكثرة اللحم. وأنطوا: بقطع الهمزة أى أعطوا. والثبجة: بالمثلاثة ثم موحدة ثم جيم مفتوحات، وقد تكسر الموحدة، أى أعطوا الوسط فى الصدقة لا من خيار المال ولا من رذلته. والسيوب: - بضم المهملة وآخره موحدة- أى: الركاز، قاله الهروى، وقيل: المال المدفون فى الجاهلية أو المعدن. ومن زنى مم بكر: - بكسر الراء بلا تنوين، لأن أصله من البكر، لكن أهل اليمن يبدلون لام التعريف ميما، وهى ساكنة فأدغمت النون فيها، والمراد بالبكر الجنس، وقال ابن الأثير: أى من بكر ومن ثيب، فقلبت النون الساكنة ميما، أما مع بكر فلأن النون إذا سكنت قبل الباء فإنها تقلب ميما فى النطق، نحو: عنبر وشنبا، وأما مع غير الباء فإنها لغة يمانية، كما يبدلون الميم من لام التعريف. انتهى. و: فاصقعوه: بهمزة وصل وإسكان الصاد المهملة، وفتح القاف وضم العين المهملة، أى: اضربوه. واستوفضوه: بهمزة وصل وكسر الفاء وضم الضاد المعجمة، أى: غربوه وانفوه. وفضرجوه: بالضاد المعجمة وتشديد الراء وبالجيم. وبالأضاميم: بفتح الهمزة والضاد المعجمة، أى: أدموه بالضرب بجماهير الحجارة. ولا توصيم: بصاد مهملة مكسورة، أى لا كسل عن إقامة الحدود. ولا غمة: بضم المعجمة وتشديد الميم، أى لا تستر ولا تخفى. ويترفل: بتشديد الفاء المفتوحة: يتسود ويترأس، استعارة من ترفيل الثوب وهو إسباغه وإسباله. وقريب من هذا، كتابه لأكيدر وأهل دومة، كما قدمته فى مكاتباته- صلى الله عليه وسلم-. وقال- صلى الله عليه وسلم- فى حديث عطية السعدى: «فإن اليد العليا هى المنطية والسفلى هى المنطاة» «1» قال: فكلمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بلغتنا.

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 363) ، والبيهقى فى «الكبرى» (4/ 198) ، والطبرانى فى «الكبير» (17/ 166 و 169) ، من حديث عروة بن محمد عن أبيه عن جده- رضى الله عنه- والمنطية: هى العطية، والمنطاة: هى المعطاة أى السائلة.

وقد كان هذا من خصائصه- صلوات الله وسلامه عليه- أن يكلم كل ذى لغة بليغة بلغته على اختلاف لغة العرب وتركيب ألفاظها وأساليب كلمها، وكان أحدهم لا يتجاوز لغته، وإن سمع لغة غيره فكالعجمية يسمعها العربى، وما ذلك منه- صلى الله عليه وسلم- إلا بقوة إلهية وموهبة ربانية، لأنه بعث إلى الكافة طرا، وإلى الخليقة سودا وحمرا، والكلام باللسان يقع فى غاية البيان، ولا يوجد غالبا متكلم بغير لغته إلا قاصرا فى الترجمة نازلا عن صاحب الأصالة فى تلك اللغة، إلا نبينا وسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- كما تقدم، فإنه زاده الله تكريما وشرفا تكلم فى كل لغة من لغة العرب أفصح وأنصع بلغاتها منها بلغة نفسها، وجدير به ذلك فقد أوتى فى سائر القوى البشرية المحمودة زيادة ومزية على الناس، مع اختلاف الأصناف والأجناس ما لا يضبطه قياس ولا يدخل فى تحقيقه إلباس. انتهى. وأما صوته الشريف، فعن أنس قال: ما بعث الله نبيّا قط إلا بعثه حسن الوجه حسن الصوت، حتى بعث الله نبيكم- صلى الله عليه وسلم- فبعثه حسن الوجه حسن الصوت، رواه ابن عساكر، وروى نحوه من حديث على بن أبى طالب، وروى أنه كان إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من ثناياه «1» . وقد كان صوته- صلى الله عليه وسلم- يبلغ حيث لا يبلغه صوت غيره. فعن البراء قال: «خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أسمع العواتق فى خدورهن» «2» رواه البيهقى. وقالت عائشة- رضى الله عنها- جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة على المنبر فقال للناس: «اجلسوا» ، فسمعه عبد الله بن رواحة وهو فى بنى غنم فجلس فى مكانه «3» رواه أبو نعيم. وقال عبد الرحمن بن معاذ التيمى: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمنى، ففتحت أسماعنا- وفى لفظ ففتح الله أسماعنا- حتى إن كنا لنسمع ما يقول ونحن فى منازلنا. رواه ابن سعد «4» .

_ (1) تقدم. (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 256) . (3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 256) . (4) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 175) .

وعن أم هانئ قالت كنا نسمع قراءة النبى- صلى الله عليه وسلم- فى جوف الليل عند الكعبة، وأنا على عريشى «1» ، رواه ابن ماجه. وأما ضحكه- صلى الله عليه وسلم-، ففى البخارى عن عائشة: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى لهواته، إنما كان يتبسّم «2» ، أى: ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما مقبلا بكليته على الضحك. واللهوات: بفتح اللام، جمع لهاة، وهى اللحمة التى بأعلى الحنجرة من أقصى الفم. وهذا لا ينافيه ما فى حديث أبى هريرة فى قصة المواقع أهله فى رمضان، فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه «3» . رواه البخارى: وهى بالجيم والذال المعجمة: الأضراس. ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة فى الضحك. لأن عائشة إنما نفت رؤيتها، وأبو هريرة أخبر بما شاهده، والمثبت مقدم على النافى. وقد قال أهل اللغة: التبسم: مبادىء الضحك، والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فالضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم. وقال ابن أبى هالة: جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام، أى يبدى أسنانه ضاحكا، وحب الغمام: البرد. وقال الحافظ ابن حجر: والذى يظهر من مجموع الأحاديث: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان فى معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك. قال: والمكروه إنما هو الإكثار منه والإفراط فيه لأنه يذهب الوقار. وقال ابن بطال: والذى ينبغى أن يقتدى به من أفعاله ما واظب عليه من ذلك. وقد روى البخارى فى الأدب المفرد وابن ماجه عن أبى هريرة رفعه:

_ (1) حسن: أخرجه النسائى (2/ 178) فى الافتتاح، باب: رفع الصوت بالقرآن، وابن ماجه (1349) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى صلاة الليل، وأحمد فى «المسند» (6/ 341 و 424) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (6092) فى الأدب، باب: التبسم والضحك. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6087) فى الأدب، باب: التبسم والضحك.

«لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» «1» . وقال أبو هريرة: وإذا ضحك- صلى الله عليه وسلم- يتلألأ فى الجدر «2» رواه البزار والبيهقى، أى يضىء فى الجدر- بضم الجيم والدال، جمع جدار وهو الحائط- أى يشرق نوره عليها إشراقا كإشراق الشمس عليها. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسّم ضاحكا حتى يرتفع عنه، بل كان إذا خطب أو ذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته كأنه منذر جيش، صبحكم ومساكم «3» . رواه مسلم. وكان بكاؤه- صلى الله عليه وسلم- من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة ولكن تدمع عيناه حتى تهملان، ويسمع لصدره أزيز، يبكى رحمة لميت خوفا على أمته وشفقة، ومن خشية الله، وعند سماع القرآن، وأحيانا فى صلاة الليل، قاله فى الهدى النبوى. وقد حفظه الله تعالى من التثاؤب، ففى تاريخ البخارى ومصنف ابن أبى شيبة عن يزيد بن الأصم: «ما تثاءب النبى قط» «4» لكن فى رواية عند ابن أبى شيبة: «ما تثاءب نبى قط» . وأما يده الشريفة- صلى الله عليه وسلم-، فقد وصفه غير واحد بأنه كان شثن الكفين كما سيأتى، أى غليظ أصابعهما، وبأنه عبل الذراعين رحب الكفين. وقد

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى فى «الأدب المفرد» (252 و 253) ، والترمذى (2305) فى الزهد، باب: من اتقى المحارم فهو أعبد الناس، وابن ماجه (4193) فى الزهد، باب: الحزن والبكاء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (7435) . (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 227) . (3) صحيح: أخرجه مسلم (867) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (4) ذكره الحافظ فى «الفتح» (10/ 613) وقال: أخرجه ابن أبى شيبة والبخارى فى التاريخ من مرسل يزيد بن الأصم، والرواية الثانية أخرجها الخطابى من طريق مسلمة بن عبد الملك، ومسلمة أدرك بعض الصحابة، وهو صدوق، ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان. اه.

مسح- صلى الله عليه وسلم- خد جابر بن سمرة قال: فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجها من جونة عطار «1» ، رواه مسلم. وفى حديث وائل بن حجر عند الطبرانى والبيهقى: لقد كنت أصافح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو يمس جلدى جلده، فأتعرفه بعد فى يدى، وإنه لأطيب رائحة من المسك. وقال يزيد بن الأسود: ناولنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده فإذا هى أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك «2» ، رواه البيهقى. وعن المستورد ابن شداد عن أبيه قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخذت بيده فإذا هى ألين من الحرير وأبرد من الثلج «3» ، رواه الطبرانى. ودخل- صلى الله عليه وسلم- على سعد بن أبى وقاص بمكة يعوده وقد اشتكى، قال: فوضع يده على جبهتى فمسح وجهى وصدرى وبطنى، فما زلت يخيل إلى أنى أجد برد يده على كبدى حتى الساعة «4» . وفى البخارى من حديث أنس: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «5» . وهو من باب عطف الخاص على العام، لأن الديباج نوع من الحرير. قيل: وهذا الوصف فى هذا الحديث يخالف ما وقع فى حديث ابن أبى هالة عند الترمذى فى صفته- صلى الله عليه وسلم-، فأن فيه- كما تقدم- كان شثن الكفين والقدمين، أى غليظهما فى خشونة، وهكذا وصفه علىّ من عدة طرق عند الترمذى والحاكم وغيرهما، وكذا وصف عائشة له عند ابن أبى خيثمة. والجمع بينهما: أن المراد اللين فى الجلد. والغلظ فى العظام، فيجتمع له نعومة البدن وقوته. وقال ابن بطال: كانت كفه- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2329) فى الفضائل، باب: طيب رائحة النبى- صلى الله عليه وسلم- ولين مسكه. (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 256) . (3) إسناده قوى: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 282) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط ورجال الكبير رجال الصحيح غير موسى بن أيوب النصيبى، وهو ثقة. (4) صحيح: أخرجه البخارى (5659) فى المرضى، باب: وضع اليد على المريض. (5) صحيح: أخرجه البخارى (3561) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-.

ممتلئة لحما، غير أنها مع ضخامتها كانت لينة، كما فى حديث أنس، قال: وأما قول الأصمعى: الشثن: غلظ الكف فى خشونة، فلم يوافق على تفسيره بالخشونة، والذى فسر به الخليل أولى، قال: وعلى تسليم ما فسر به الأصمعى الشثن: يحتمل أن يكون أنس وصف حالتى كف النبى- صلى الله عليه وسلم- فكان إذا عمل بكفه فى الجهاد، أو فى مهنة أهله، صار كفه خشنا للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجع كفه إلى أصل جبلته من النعومة. وقال القاضى عياض: فسر أبو عبيدة الشثن بالغلظ مع القصر. وتعقب: بأنه ثبت فى وصفه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان سائل الأطراف. انتهى. ويؤيد كونها كانت لينة قوله فى رواية النعمان: كان سبط الكفين. بتقديم المهملة على الموحدة، فإنه موافق لوصفها باللين. والتحقيق فى الشثن أنه الغلظ من غير قصر ولا خشونة. وقد نقل ابن خالويه: أن الأصمعى لما فسر الشثن بما مضى، قيل له إنه ورد فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه لين الكفين، فالى على نفسه أن لا يفسر شيئا فى الحديث. انتهى. وفى حديث معاذ عند الطبرانى والبزار: أردفنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه فى سفر، فما مسست شيئا قط ألين من جلده- صلى الله عليه وسلم-. وأصيب عائذ بن عمرو فى وجهه يوم حنين، فسال الدم على وجهه وصدره، فسلت النبى- صلى الله عليه وسلم- الدم بيده عن وجهه وصدره، ثم دعا له، فكان أثر يده- صلى الله عليه وسلم- إلى منتهى ما مسح من صدره غرة سائلة كغرة الفرس «1» رواه الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر. وأخرج البخارى فى تاريخ والبغوى وابن منده فى الصحابة من طريق صاعد بن العلاء بن بشر عن أبيه عن جده بشر بن معاوية: أنه قدم مع أبيه معاوية بن ثور على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمسح رأسه ودعا له بالبركة فكانت فى وجهه مسحة النبى- صلى الله عليه وسلم- كالغرة وكان لا يمسح شيئا إلا برئ. ومسح- صلى الله عليه وسلم- رأس مدلوك أبى سفيان فكان ما مرت يده عليه أسود،

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 677) ، والطبرانى فى «الكبير» (18/ 20) .

وشاب ما سوى ذلك. رواه البخارى فى تاريخه والبيهقى. وكذا وقع له- صلى الله عليه وسلم- فى رأس السائب «1» . رواه البغوى والبيهقى وابن منده. وأخرج البيهقى وصححه، والترمذى وحسنه، عن أبى زيد الأنصارى قال: مسح- صلى الله عليه وسلم- بيده على رأسى ولحيتى ثم قال: «اللهم جمله» ، قال: فبلغ بضعا ومائة سنة وما فى لحيته بياض. ولقد كان منبسط الوجه ولم ينقبض وجهه حتى مات «2» . ومسح- صلى الله عليه وسلم- رأس حنظلة بن حذيم بيده وقال له: «بورك فيك» فكان يؤتى بالشاة الوارم ضرعها والبعير والإنسان به الورم، فيتفل فى يده ويمسح بصلعته ويقول بسم الله على أثر يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيمسحه ثم يمسح موضع الورم فيذهب الورم «3» . رواه أحمد والبخارى فى التاريخ وأبو يعلى وغيرهم. وقد جاء فى عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة بياض إبطيه. فعن أنس قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه فى الدعاء حتى رأيت بياض إبطيه «4» . وقال الطبرى: ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم- أن الإبط من جميع الناس متغير اللون غيره، أى إلا هو- صلى الله عليه وسلم-، ومثله للقرطبى وزاد: أنه لا شعر عليه، لكن نازع فيه صاحب شرح تقريب الأسانيد، وقال: إنه لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، قال: والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه أن لا يكون له شعر. وقد قال عبد الله بن أقرم الخزاعى- وقد صلى معه- صلى الله عليه وسلم- كنت أنظر إلى عفرة إبطيه «5» . حسنه

_ (1) ذكر القصة الحافظ ابن حجر فى «الإصابة» (6/ 62) . (2) صحيح: أخرجه الترمذى (3629) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (5/ 77 و 340 و 341) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) رجاله ثقات: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 67) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 214) بسند رجاله ثقات. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1031) فى الاستسقاء، باب: رفع الإمام يده فى الاستسقاء، ومسلم (895) فى صلاة الاستسقاء، باب: رفع اليدين بالدعاء فى الاستسقاء. (5) قلت: ثبت ذلك فى حديث صحيح عند البخارى (2597) فى «الهبة» ، باب: من لم يقبل الهدية لعلة، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى الله عنه-.

الترمذى. والعفرة: بياض ليس بالناصع كما قاله الهروى وغيره، وسيأتى مزيد لذلك فى الخصائص- إن شاء الله تعالى-. وعن رجل من بنى حريش قال: ضمنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسال علىّ من عرق إبطيه مثل ريح المسك. رواه البزار. ووصفه علىّ فقال: ذو مسربة «1» ، وفسر بخيط من الشعر بين الصدر والسرة. وقال ابن أبى هالة: دقيق المسربة. وعند ابن سعد عن على: طويل المسربة. وعند البيهقى: له شعرات من لبته إلى سرته تجرى كالقضيب. ليس على صدره ولا على بطنه غيره. ووصفت بطنه أم هانئ فقالت: ما رأيت بطن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا ذكرت القراطيس المثنى بعضها على بعضها «2» . رواه الطيالسى والطبرانى. وقال أبو هريرة: كان- صلى الله عليه وسلم- أبيض كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر «3» ، مفاض البطن، عظيم مشاش المنكبين. وتقدم أن المشاش: رؤوس العظام كالركبتين، ومفاض: أى واسع البطن، وقيل: مستوى البطن مع الصدر. وخرج الإمام أحمد عن محرش الكعبى قال: اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- من الجعرانه ليلا، فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة «4» .

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3637) فى المناقب، باب: ما جاء فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 280) وقال: رواه الطبرانى، وفيه جابر الجعفى، وهو ضعيف. (3) حسن: أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (11) ، والبيهقى فى «الدلائل» (1/ 188) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4619) . (4) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 200) فى الحج، باب: دخول مكة ليلا، وأحمد فى «المسند» (3/ 426) و (4/ 69) و (5/ 380) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

وكان- صلى الله عليه وسلم- بعيد ما بين المنكبين «1» رواه البخارى. أى عريض الصدر، ووقع عند ابن سعد من حديث أبى هريرة: رحب الصدر. وأما قلبه الشريف- صلى الله عليه وسلم-، فاعلم أن القلب مضغة فى الفؤاد معلقة بالنياط، فهو أخص من الفؤاد. قاله الواحدى، وسمى به لتقلبه بالخواطر والعزوم، قال الشاعر: وما سمى الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب وقال الزمخشرى: مشتق من التقلب الذى هو المصدر لفرط تقلبه، ألا ترى إلى ما روى أبو موسى الأشعرى عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: ومثل هذا القلب كمثل ريشة ملقاة بفلاة يقلبها الريح بطنا لظهر. قال: والفرق بينه وبين الفؤاد، أن الفؤاد وسط القلب، سمى به لتفؤده، أى توقده. وفسر الجوهرى القلب بالفؤاد ثم فسر الفؤاد بالقلب. قال الزركشى: والأحسن قول غيره: الفؤاد غشاء القلب، والقلب حبته وسويداؤه، ويؤيد الفرق قوله- صلى الله عليه وسلم-: «ألين قلوبا وأرق أفئدة» ، وهو أولى من قول بعضهم: إنه كرر لاختلاف اللفظ. وقال الراغب: يعبر بالقلب عن المعانى التى تختص به كالعلم والشجاعة. وقيل: حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم، كقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «2» ، وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى من الشهوة والغضب ونحوهما. انتهى. قال بعض العلماء: وقد خلق الله تعالى الإنسان، وجعل له قلبا يعقل عنه، وهو أصل وجوده، إذا صلح قلبه صلح سائره، وإذا فسد قلبه فسد سائره، وجعل سبحانه القلوب محل السر والإخلاص، الذى هو سر الله

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3551) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2337) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث البراء بن عازب- رضى الله عنه-. (2) سورة ق: 37.

يودعه قلب من شاء من عباده، فأول قلب أودعه قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- لأنه أول خلق وصورته- صلى الله عليه وسلم- آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء، فهو أولهم وآخرهم. وقد جعل سبحانه وتعالى أخلاق القلوب للنفوس أعلاما على أسرار القلوب، فمن تحقق قلبه بسر الله اتسعت أخلاقه لجميع خلق الله، ولذلك جعل الله تعالى لمحمد- صلى الله عليه وسلم- جثمانية اختص بها من بين سائر العالمين، فتكون علامات اختصاص جثمانيته آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة وعظيم خلقه، وتكون علامات عظيم أخلاقه آيات على سر قلبه المقدس. ولما كان قلبه- صلى الله عليه وسلم- أوسع قلب اطلع الله عليه- كما ورد فى الخبر- كان هو الأولى أن يكون هو قلب العبد الذى يقول فيه الله تعالى: ما وسعنى أرضى ولا سمائى ووسعنى قلب عبدى المؤمن «1» . ولما كان كماله قبل الإسراء بمنزلة سائر النبيين كان صدره يضيق، فاتسع قلبه لما انشرح صدره، ووضع عنه وزره ورفع له ذكره. وقد صح أن جبريل- عليه الصلاة والسلام- شقه واستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه فأعاده فى مكانه. قال أنس فلقد كنت أرى أثر المخيط فى صدره «2» . رواه مسلم. وإنما خلقت هذه العلقة فى ذاته الكريمة ثم استخرجت منه لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقها تكملة للخلق الإنسانى فلا بد منها، ونزعها أمر ربانى طرأ بعد ذلك، قاله السبكى. وعند أحمد وصححه الحاكم: ثم استخرجا قلبى فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين فقال أحدهما لصاحبه ائتنى بماء وثلج فغسلا به جوفى ثم

_ (1) موضوع: ذكره الغزالى فى «الإحياء» وقال الحافظ العراقى. لم أر له أصلا. (2) صحيح: أخرجه مسلم (161) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

قال: ائتنى بماء برد فغسلا به قلبى ثم قال: ائتنى بالسكينة فذراها فى قلبى ثم قال أحدهما لصاحبه حصه فحاصه وختم عليه بخاتم النبوة «1» . وفى رواية البيهقى أن ملكين جاآنى فى صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد فشرح أحدهما صدرى، ومج الآخر بمنقاره فيه. وعن أبى هريرة قال: يا رسول الله، ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة. قال: «إنى لفى صحراء أمشى ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسى يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأخذانى فألصقانى لحلاوة القفا ثم شقا بطنى، وكان أحدهما يختلف بالماء فى طست من ذهب والآخر يغسل جوفى، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فإذا صدرى- فيما أرى- مفلوق لا أجد له وجعا، ثم قال: اشقق قلبه فشق قلبى، فقال أخرج الغل والحسد منه، فأخرج شبه العلقة فنبذ به ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة قلبه، فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذر عليه، ثم نقر إبهامى، ثم قال: اغد فرجعت بما لم أغد به من رحمتى للصغير ورأفتى على الكبير» «2» . رواه عبد الله بن الإمام أحمد فى زوائد المسند وأبو نعيم وقال: تفرد به معاذ عن أبيه، وتفرد بذكر السن. وعند أبى نعيم فى حديث يونس بن ميسرة: فاستخرج حشوة جوفى فغسلها ثم ذر عليه ذرورا ثم قال: قلب وكيع يعى ما وقع فيه، عينان تبصران وأذنان تسمعان وأنت محمد رسول الله المقفى الحاشر قلبك سليم ولسانك صادق ونفسك مطمئنة وخلقك قيم وأنت قثم. وهذا الشق روى أنه وقع له- صلى الله عليه وسلم- مرات فى حال طفوليته إرهاصا. وتقديم المعجزة على زمان البعثة جائز للإرهاص، ومثل هذا فى حق الرسول- صلى الله عليه وسلم- كثير. وبه يجاب عن استشكال وقوع ذلك فى حال طفولتيه لأنه من المعجزات، ولا يجوز أن تتقدم على النبوة، قاله الرازى.

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 184) ، والدارمى فى «سننه» (13) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 673) ، من حديث عتبة بن عبد- رضى الله عنه-. (2) أخرجه عبد الله بن أحمد فى «زوائد المسند» (5/ 139) .

والذى عليه أكثر أهل الأصول: اشتراط اقتران المعجزة بالدعوى كما نبهت عليه فى أوائل الكتاب، ويأتى تحقيقه- إن شاء الله تعالى- فى المقصد الرابع. وهو المراد بقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» وقد قيل المراد بالشرح فى الآية ما يرجع إلى المعرفة والطاعة. ثم ذكروا فى ذلك وجوها منها أنه لما بعث إلى الأحمر والأسود من جنى وإنسى أخرج تعالى عن قلبه جميع الهموم، وانفسح صدره حتى اتسع لجميع المهمات، فلا يقلق ولا يضجر بل هو حالتى البؤس والفرج منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف. فإن قلت: لم قال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ولم يقل: قلبك. أجيب: بأن محل الوسوسة الصدر، كما قال تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ «2» فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعى الخير هى الشرح، لا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب. وقد قال محمد بن على الترمذى: القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذى يقصد الشيطان، يجىء إلى الصدر الذى هو حصن القلب فإذا دخل مسلكا أغار فيه وأنزل جنده فيه وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة، وإذا طرد العدو فى الابتداء حصل الأمن وزال الضيق وانشرح الصدر وتيسر له القيام بأداء العبودية. وهاهنا دقيقة: «قال الله تعالى حكاية عن موسى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي «3» وقال لنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «4» أعطى بلا سؤال، ثم إنه تعالى نعته- عليه السّلام- فقال وَسِراجاً مُنِيراً «5» فانظر إلى

_ (1) سورة الشرح: 1. (2) سورة الناس: 5. (3) سورة طه: 25. (4) سورة الشرح: 1. (5) سورة الأحزاب: 46.

التفاوت، فإن شرح الصدر هو أن يصير قابلا للنور، والسراج المنير هو الذى يقتبس منه النور، والفرق واضح. قال الدقاق: كان موسى- عليه السّلام- مريدا إذ قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي «1» ونبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- مراد إذ قال الله له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ والله أعلم» . وأما جماعه- صلى الله عليه وسلم- فقد كان يدور على نسائه فى الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة، قال الراوى قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين «2» . رواه البخارى. وعند الإسماعيلى عن معاذ: قوة أربعين زاد أبو نعيم عن مجاهد: كل رجل من رجال أهل الجنة. وعن أنس مرفوعا: «يعطى المؤمن فى الجنة قوة كذا وكذا فى الجماع» قلت: يا رسول الله، أو يطيق ذلك؟ قال: «يعطى قوة مائة» «3» . قال الترمذى: صحيح غريب لا نعرفه عن حديث قتادة إلا من حديث عمران القطان. فإذا ضربنا أربعين فى مائة بلغت أربعة آلاف، فبهذا يندفع ما استشكل من كونه- صلى الله عليه وسلم- أوتى قوة أربعين فقط وسليمان- عليه الصلاة والسلام- قوة مائة رجل أو ألف على ما ورد. وذكر ابن العربى: أنه كان له- صلى الله عليه وسلم- القوة الظاهرة على الخلق فى الوطء، وكان له فى الأكل القناعة، ليجمع الله له الفضيلتين فى الأمور الاعتيادية كما جمع له الفضيلتين فى الأمور الشرعية، حتى يكون حاله كاملا فى الدارين. انتهى. وطاف- صلى الله عليه وسلم- على نسائه التسع فى ليلة. رواه ابن سعد. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أتانى جبريل بقدر فأكلت منها فأعطيت قوة

_ (1) سورة طه: 25. (2) صحيح: أخرجه البخارى (268) فى الغسل، باب: إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه فى غسل واحد. (3) حسن: أخرجه الترمذى (2536) فى صفة الجنة، باب: ما جاء فى صفة جماع أهل الجنة، وابن حبان فى «صحيحه» (7400) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث حسن.

أربعين رجلا فى الجماع» «1» رواه ابن سعد: حدثنا عبد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن صفوان بن سليم مرسلا من حديث أبى هريرة: شكا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل قلة الجماع فتبسم جبريل حتى تلألأ مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بريق ثنايا جبريل فقال له: أين أنت من أكل الهريسة فإن فيه قوة أربعين رجلا. ومن حديث حذيفة بلفظ «أطعمنى جبريل الهريسة أشد بها ظهرى وأتقوى بها على الصلاة» «2» رواه الدار قطنى. ومن حديث جابر بن سمرة وابن عباس وغيرهم. وكلها أحاديث واهية. بل صرح الحافظ ابن ناصر الدين فى جزء له سماه رفع الدسيسة بوضع حديث الهريسة أنه موضوع. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- أعطى قوة بضع وأربعين رجلا كل رجل من أهل الجنة، رواه الحارث بن أبى أسامة. وقد حفظه الله من الاحتلام، فعن ابن عباس قال: ما احتلم نبى قط، وإنما الاحتلام من الشيطان «3» ، رواه الطبرانى. وأما قدمه الشريف- صلى الله عليه وسلم- فقد وصفه غير واحد بأنه كان شثن القدمين «4» ، أى غليظ أصابعهما. رواه الترمذى وغيره. وعن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما نسيت طول أصبع قدميه السبابة على سائر أصابعه «5» ، رواه أحمد والطبرانى. وعن جابر بن سمرة: كانت خنصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من رجله متظاهرة، رواه البيهقى. وقد اشتهر على الألسنة أن سبابة النبى- صلى الله عليه وسلم- كانت أطول من الوسطى «6» . قال الحافظ ابن حجر: وهو غلط ممن قاله، وإنما ذلك فى أصابع رجليه. انتهى.

_ (1) مرسل: أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (1/ 373) ، عن صفوان بن سليم مرسلا. (2) موضوع: ذكره الحافظ ابن حجر فى «اللسان» (5/ 116) فى ترجمة محمد بن الحجاج اللخمى، وحكم عليه بالوضع به. (3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 267) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عبد الكريم بن أبى ثابت، وهو مجمع على ضعفه. (4) تقدم من حديث على قريبا. (5) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (7/ 145) ، والحديث عند أحمد والطبرانى، إلا أنه ليست فيها هذه اللفظة. (6) انظر فى ذلك «كشف الخفاء» (1457) .

وقال شيخنا- فى المقاصد الحسنة-: وسلف جمهورهم الكمال الدميرى. هو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة. وعبارته: «كذا رواه ابن هارون عن عبد الله بن مقسم عن سارة ابنة مقسم أنها سمعت ميمونة ابنة كردم تخير أنها رأت أصابع النبى- صلى الله عليه وسلم- كذلك» . فضم ما وقع فيها من إطلاق الأصابع إلى كون الوسطى من كل أطول من السبابة، وعين اليد منه- صلى الله عليه وسلم- لذلك بناء على أن القصد ذكر وصف اختص به- صلى الله عليه وسلم- عن غيره. ولكن الحديث فى مسند الإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون المذكور مقيد بالرجل، ولفظه- كما قدمته- فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه. وهو عند البيهقى أيضا فى الدلائل «1» من طريق يزيد بن هارون ولفظها: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة وهو على ناقته وأنا مع أبى، فدنا منه أبى فأخذ بقدمه فأقر له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه. وعن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا وطئ بقدمه بكلها ليس له أخمص «2» . رواه البيهقى: وعن أبى أمامة الباهلى قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- لا أخمص له يطأ على قدمه كلها رواه ابن عساكر. وقال ابن أبى هالة: خمصان الأخمصين، مسيح القدمين. وقال ابن الأثير: الأخمص من القدم الموضع الذى لا يلصق بالأرض منها عند الوطء. والخمصان: البالغ منه، أى إن ذلك الموضع من أسفل قدمه شديد التجافى عن الأرض. وسئل ابن الأعرابى عنه فقال: إذا كان خمص الأخمص بقدر لا يرتفع جدّا، لم يستو أسفل القدم جدّا فهو أحسن ما يكون، وإذا استوى أو ارتفع جدّا فهو ذم، فيكون بمعنى أن أخمصه معتدل الخمص بخلاف الأول. ووقع فى حديث أبى هريرة إذا وطئ بقدمه وطئ

_ (1) (1/ 246) . (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 245) .

بكلها ليس له أخمص. وقوله: مسيح القدمين أى ملساوتان لينتان ليس فيهما تكسر ولا شقاق، فإذا أصابهما الماء نبا عنهما كما قال ابن أبى هالة: ينبو عنهما الماء، وهو معنى حديث أبى هريرة. وعن عبد الله بن بريدة قال: كان- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس قدما. رواه ابن سعد. وأما طوله- صلى الله عليه وسلم- فقال على: كان- صلى الله عليه وسلم- لا قصير ولا طويل، وهو إلى الطول أقرب «1» . رواه البيهقى. وعنه: كان- صلى الله عليه وسلم- ليس بالذاهب طولا، وفوق الربعة إذا جامع القوم غمرهم. رواه عبد الله بن الإمام أحمد. وعن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ربعة وهو إلى الطول أقرب «2» . رواه البزار. وقوله: ربعة، أى مربوعا، والتأنيث باعتبار النفس. وقد فسر فى الحديث الآتى بأنه ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، والمراد بالطويل البائن: المفرط فى الطول مع اضطراب القامة. وقال ابن أبى هالة: أطول من المربوع وأقصر من المشذب- وهو بمعجمتين مفتوحتين ثانيهما مشدد، أى البائن الطول فى نحافة، وهو مثل قوله فى الحديث الآخر لم يكن بالطويل الممغط- وهو بتشديد الميم الثانية- المتناهى الطول. وأمغط النهار إذا امتد، ومغطت الحبل إذا مددته، وأصله منمغط والنون للمطاوعة فقلبت ميما وأدغمت فى الميم، ويقال بالعين المهملة بمعناه. وعن عائشة قالت: لم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، وكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله- صلى الله عليه وسلم- ولربما اكتنفه الرجلان

_ (1) تقدم حديث على. (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 280) وقال: رواه البزار، ورجاله وثقوا. اه. قلت: هو فى صحيح البخارى (3547) ، من حديث أنس بلفظ: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل لا بالقصير.

الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الربعة، رواه ابن عساكر والبيهقى. وزاد ابن سبع فى الخصائص: أنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين. ووصفه ابن أبى هالة بأنه بادن متماسك، أى معتدل الخلق، كأن أعضاءه يمسك بعضها بعضا. وأما شعره الشريف- صلى الله عليه وسلم-، فعن قتادة قال: سألت أنسا عن شعر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: شعر بين شعرين، لا رجل ولا سبط ولا جعد قطط كان بين أذنيه وعاتقه. وفى رواية للشيخين قال: كان رجلا ليس بالسبط ولا الجعد بين أذنه وعاتقه «1» . وفى أخرى: إلى أنصاف أذنيه «2» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. وعن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبى- صلى الله عليه وسلم- عن إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة «3» . رواه الترمذى وأبو داود. والوفرة: الشعر الواصل إلى شحمة الأذن. وقال ابن أبى هالة أيضا: كان رجل الشعر- وهو بفتح الراء وكسر الجيم، أى يتكسر قليلا، بخلاف السبط والجعد- إن انفرقت عقيقته فرق وإلا فلا، يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره. والعقيقة بالقافين، شعر رأسه الشريف، يعنى إن انفرقت بنفسها فرقها وإلا تركها معقوصة، ويروى: إن انفرقت عقيصته- بالصاد المهملة- وهى الشعر المعقوص. وعن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان يحب

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5905) فى اللباس، باب: الجعد، ومسلم (2338) فى الفضائل، باب: صفة شعر النبى- صلى الله عليه وسلم-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2338) (96) فيما سبق. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (4187) فى الترجل، باب: ما جاء فى الشعر، والترمذى (1775) فى اللباس، باب: ما جاء فى الجمة واتخاذ الشعر، وابن ماجه (3635) فى اللباس، باب: اتخاذ الجمة والذوائب، وأحمد فى «المسند» (6/ 108 و 118) من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشىء، ثم فرق- صلى الله عليه وسلم- رأسه «1» . رواه الترمذى فى الشمائل. وفى صحيح مسلم نحوه. وسدل الشعر إرساله، والمراد هنا إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة. وأما الفرق: فهو فرق الشعر بعضه من بعض، قال العلماء: والفرق سنة، لأنه الذى رجع إليه- صلى الله عليه وسلم-، والصحيح جواز الفرق والسدل، لكن الفرق أفضل. وعن عائشة: كان له- صلى الله عليه وسلم- شعر فوق الجمة ودون الوفرة «2» . رواه الترمذى. وفى حديث أنس كان إلى أذنيه «3» ، وفى حديث البراء: يضرب منكبيه «4» . وفى حديث أبى رمثة: يبلغ إلى كتفيه أو منكبيه «5» . وفى رواية: ما رأيت من ذى لمة أحسن منه. والجمة: هى الشعر الذى نزل إلى المنكبين. والوفرة: ما نزل إلى شحمة الأذنين، واللمة: التى لمت بين المنكبين. قال القاضى عياض: والجمع بين هذه الروايات: أن مايلى الأذن هو الذى يبلغ شحمة أذنيه، وما خلفه هو الذى يضرب منكبيه. قال: وقيل: بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك. وعن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علينا مكة قدمة وله أربع غدائر «6» . رواه الترمذى فى الشمائل. والغدائر: - بالغين

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3558) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2336) فى الفضائل، باب: فى سدل النبى- صلى الله عليه وسلم- شعر رأسه إلى جانبيه. (2) صحيح: وقد تقدم قبل حديث. (3) صحيح: وقد تقدم قريبا. (4) صحيح: وقد تقدم قريبا. (5) صحيح: وحديث أبى رمثة أخرجه البخارى (3551) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2337) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان أحسن الناس وجها. (6) صحيح: أخرجه أبو داود (4191) فى الترجل، باب: فى الرجل يعقص شعره، والترمذى (1781) فى اللباس، باب: رقم (38) ، وابن ماجه (3631) فى اللباس، باب: اتخاذ الجمة والذوائب، وأحمد فى «المسند» (6/ 341 و 425) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى صحيح «سنن أبى داود» .

المعجمة والدال المهملة- هى الذوائب، واحدتها غديرة. وفى مسلم عن أنس، كان فى لحيته- صلى الله عليه وسلم- شعرات بيض «1» . وفى رواية عنده: لم ير من الشيب إلا قليلا، وفى أخرى له أيضا: لو شئت أن أعد شمطات كن فى رأسه ولم يخضب. وعنده أيضا: لم يخضب- صلى الله عليه وسلم- إنما كان البياض فى عنفقته وفى الصدغين وفى الرأس نبذ- بضم النون وفتح الباء الموحدة، وبفتح النون وإسكان الموحدة- أى شعرات متفرقة. وفى رواية أخرى: ما شانه الله ببيضاء. قال الشيخ عبد الجليل فى شعب الإيمان، فيما حكاه عنه الفاكهانى: إنما كان كذلك لأن النساء يكرهن الشيب غالبا، ومن كره من النبى- صلى الله عليه وسلم- شيئا كفر. وقال فى النهاية: قد تكرر فى الحديث جعل الشيب هاهنا عيبا وليس بعيب، فإنه قد جاء فى الحديث: أنه وقار وأنه نور، والشيب ممدوح، وذلك عجيب منه لا سيما فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم-. ويمكن الجمع بينهما: ووجه الجمع أنه- صلى الله عليه وسلم- لما رأى أبا قحافة ورأسه كالثغامة «2» أمرهم بتغييره وكرهه، ولذلك قال: «غيروا الشيب» «3» ، فلما علم أنس ذلك من عادته قال: ما شانه الله ببيضاء بناء على هذا القول وحملا له على هذا الرأى. ولم يسمع الحديث الآخر، ولعل أحدهما ناسخ للآخر انتهى. وفى رواية أبى جحيفة عنده، رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهذه منه بيضاء. ووضع الراوى بعض أصابعه على عنفقته. وفى حديث أنس عند البيهقى: ما شانه الله بالشيب، ما كان فى رأسه ولحيته إلا سبع عشرة أو ثمان عشرة يعنى شعرة بيضاء. وعن أبى جحيفة كان أبيض قد شمط «4» . ورواه البخارى. وفى الصحيحين: أن

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2341) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى الله عليه وسلم-. (2) الثغامة: نبت أبيض الزهر والثمر يشبه به الشيب، وقيل: هى شجرة تبيض كأنها الثلج. (3) صحيح: والخبر أخرجه مسلم (2102) فى اللباس والزينة، باب: استحباب خضاب الشيب بصفرة، أو حمرة وتحريمه بالسواد، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (3044) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-.

ابن عمر رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يصبغ بالصفرة «1» . وعن ابن عمر: إنما كان شيبه- صلى الله عليه وسلم- نحوا من عشرين شعرة بيضاء «2» رواه الترمذى. وروى أيضا عن ابن عباس قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال: «شيبتنى هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت» «3» . وفى حديث جابر عنده: لم يكن فى رأسه- صلى الله عليه وسلم- شيب إلا شعرات فى مفرق رأسه إذا ادهن واراهن الدهن. وفى رواية البيهقى: كان أسود اللحية حسن الشعر. واختلف العلماء: هل خضب- صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ قال القاضى عياض: منعه الأكثرون وهو مذهب مالك. وقال النووى: المختار أنه صبغ فى وقت وترك فى معظم الأوقات، فأخبر كل بما رأى وهو صادق، قال: وهذا التأويل كالمتعين، فحديث ابن عمر فى الصحيحين ولا يمكن تركه ولا تأويل له. وأما اختلاف الرواية فى قدر شيبه فالجمع بينهما أنه رأى شيبا يسيرا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير ومن نفاه أراد لم يكثر فيه، كما قال فى الرواية الآخرى: لم ير الشيب إلا قليلا، انتهى. وعن جابر بن سمرة قال: كان- صلى الله عليه وسلم- قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادهن لم يتبين، فإذا شعث رأسه تبين وكان كثير شعر اللحية «4» . رواه مسلم والنسائى. وعن أنس كان- صلى الله عليه وسلم- يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته «5» . رواه البغوى فى شرح السنة. وقد وصفه- صلى الله عليه وسلم- ابن أبى هالة بأنه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (166) فى الوضوء، باب: غسل الرجلين فى النعلين، ومسلم (1187) فى الحج، باب: الإهلال من حيث تنبعث الراحلة. (2) قلت: هو فى صحيح البخارى (3547) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2347) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم- ومبعثه وسنه، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (3297) فى التفسير، باب: سورة الواقعة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3723) . (4) صحيح: أخرجه مسلم (2344) فى الفضائل، باب: شيبه- صلى الله عليه وسلم-. (5) ضعيف: أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (ص 32) ، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4602) بعد أن عزاه للبيهقى فى الشعب.

كان موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجرى كالخط عارى الثديين مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالى الصدر. وعن أنس قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا فى يد رجل «1» . رواه مسلم. وسيأتى إن شاء الله تعالى قصة حلق رأسه الشريف فى حجة الوداع. ولم يرو أنه- صلى الله عليه وسلم- حلق رأسه الشريف فى غير نسك حج أو عمرة فيما علمته، فتبقية الشعر فى الرأس سنة ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية فيباح له إزالته. وقد رأيت بمكة المشرفة فى ذى القعدة سنة سبع وتسعين وثمانمائة شعرة عند الشيخ أبى حامد المرشدى، شاع وذاع أنها من شعره- صلى الله عليه وسلم-، زرتها صحبة المقام المقرى خليل العباسى والى الله إحسانه عليه. وعن محمد بن سيرين قال: قلت لعبيدة، عندنا من شعر النبى- صلى الله عليه وسلم- أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس، قال: لأن تكون عندى شعرة منه أحب إلى من الدنيا وما فيها «2» . رواه البخارى. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها «3» . رواه الترمذى وقال: حديث غريب. وأخرج الترمذى عن ابن عباس وحسنه قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يقص شاربه «4» . وعنده من حديث زيد بن أرقم قال- صلى الله عليه وسلم-: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» «5» . وفى الصحيحين: «خالفوا المشركين وفروا اللحى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2325) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس وتبركهم به. (2) صحيح: أخرجه البخارى (170) فى الوضوء، باب: الماء الذى يغسل به شعر الإنسان. (3) موضوع: أخرجه الترمذى (2762) فى الأدب، باب: ما جاء فى الأخذ من اللحية، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4517) ، موضوع. (4) ضعيف: أخرجه الترمذى (2760) فى الأدب، باب: ما جاء فى قص الشارب، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (5) صحيح: أخرجه الترمذى (2761) فى الأدب، باب: ما جاء فى قص الشارب، والنسائى (8/ 129) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 366 و 368) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6533) .

وأحفوا الشوارب» «1» . واختلف فى قص الشارب وحلقه أيهما أفضل: ففى الموطأ يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وعن ابن عبد الحكم عن مالك قال: ويحفى الشارب ويعفى اللحية، وليس إحفاء الشارب حلقه، وأرى تأديب من حلق شاربه. وعن أشهب أن حلقه بدعة قال: وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال النووى: المختار أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله. وقال الطحاوى: لم نجد عن الشافعى شيئا منصوصا فى هذا، وكان المزنى والربيع يحفيان شاربهما. وأما أبو حنيفة وصاحباه فمذهبهم فى شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير. وأما أحمد، فقال الأثرم رأيته يحفى شاربه شديدا. وقد اختلفوا فى كيفية قص الشارب، هل يقص طرفاه أيضا، وهم المسميان بالسبالين أم تترك السبالان كما يفعله كثير من الناس؟ قال الغزالى فى الإحياء: لا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب. فعل ذلك عمر- رضى الله عنه- وغيره، لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمرة الطعام إذ لا يصل إليه انتهى. وروى أبو داود عن جابر قال: كنا [نعفى] السبال إلا فى حج أو عمرة «2» . وكره بعضهم إبقاءه لما فيه من التشبه بالأعاجم بل بالمجوس وأهل الكتاب، وهذا أولى بالصواب لما رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث ابن عمر قال: ذكر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- المجوس فقال: «إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم» «3» ، فكان يجز سباله كما يجز الشاة أو البعير. وروى أحمد فى مسنده فى أثناء حديث لأبى أمامة. فقلنا: يا رسول الله، فإن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم فقال: «قصوا

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5892) فى اللباس، باب: تقليم الأظفار، ومسلم (259) فى الطهارة، باب: خصال الفطرة، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) أخرجه أبو داود (4201) فى الترجل، باب: فى أخذ الشارب. (3) حسن: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (5476) من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.

سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب» «1» ، والعثانين- بالعين المهملة والثاء المثلاثة وتكرار النون- جمع عثنون وهو اللحية قاله فى شرح تقريب الأسانيد. وأما العانة ففى حديث أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان لا يتنور، وكان إذا كثر شعره حلقه «2» ولكن سنده ضعيف. وروى ابن ماجه والبيهقى، ورجاله ثقات، ولكن أعل بالإرسال. وأنكر الإمام أحمد صحته من حديث أم سلمة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذا طلى بدأ بعانته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله. وأما الحديث الذى يروى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل حمام الجحفة، فموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث كما قاله الحافظ ابن كثير، بل ولم تعرف العرب الحمام ببلادهم إلا بعد موته- صلى الله عليه وسلم-. وأخرج البيهقى من مرسل أبى جعفر الباقر قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة «3» . وله شاهد موصول من حديث أبى هريرة ولكن سنده ضعيف أخرجه البيهقى أيضا فى الشعب. وسئل عنه أحمد فقال يسن يوم الجمعة قبل الزوال. وعنه: يوم الخميس، وعنه يتخير. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهذا هو المعتمد، أنه يستحب كيفما احتاج إليه، قال: ولم يثبت فى استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وكذا لم يثبت فى كيفيته شىء، ولا فى تعيين يوم له عن النبى- صلى الله عليه وسلم-. وما يعزى من النظم فى ذلك لعلى- رضى الله عنه- ثم لشيخ الإسلام ابن حجر قال شيخنا: إنه باطل. والمراد: إزالة ما يزيد على ما يلامس رأس الأصبع من الظفر، لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهى إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 264) ، والطبرانى فى «الكبير» (8/ 236) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 131) وقال: رواه أحمد والطبرانى، ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر. (2) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (1/ 152) بسند ضعيف، وهو عنده من حديث أم سلمة (1/ 152) أيضا. (3) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (3/ 244) عن أبى جعفر مرسلا، وذكر بسند صحيح عن ابن عمر من فعله.

غسله فى الطهارة. وقد حكى أصحاب الشافعى فيه وجهين: فقطع المتولى بأن الوضوء حينئذ لا يصح، وقطع الغزالى فى الإحياء بأنه يعفى عن مثل ذلك. وأخرج الطبرانى فى الأوسط عن عائشة: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- لا يفارق سواكه ومشطه وكان ينظر فى المرآة إذا سرح لحيته «1» . وعن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثة فى هذه وثلاثة فى هذه «2» . رواه ابن ماجه والترمذى وأحمد ولفظه: كان يكتحل بالإثمد كل ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل فى كل عين ثلاثة أميال. وروى النسائى والبخارى فى تاريخه عن محمد بن على قال سألت عائشة: أكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يتطيب؟ قالت: نعم، بذكارة الطيب، المسك والعنبر «3» . وأما مشيه- صلى الله عليه وسلم- فعن على قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تكفأ تكفيا، كأنما ينحط من صبب «4» ، رواه الترمذى وصححه البيهقى. والتكفؤ: الميل إلى سنن المشى. وعند البزار من حديث أبى هريرة: إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها «5» . وعند الترمذى فى الشمائل من حديثه: وما رأيت أحدا أسرع فى مشيه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: كأنما الأرض تطوى له، إنا

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 171) وقال: رواه الطبرانى فى «الأوسط» ، وفيه سليمان بن أرقم الزهرى، وهو ضعيف. (2) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (1757) فى اللباس، باب: ما جاء فى الاكتحال، وابن ماجه (3499) فى الطب، باب: من اكتحل وترا، وأحمد فى «المسند» (1/ 354) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4486) . (3) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (8/ 150) فى الزينة، باب: العنبر، وفى «الكبرى» (9407) ، والبخارى فى «التاريخ الكبير» (2/ 88) ، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (4) صحيح: أخرجه الترمذى (3637) فى المناقب، باب: رقم (37) ، وهو عند مسلم (2330) من حديث أنس بنحوه. (5) حسن: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 227) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4633) .

لنجهد أنفسنا وهو غير مكترث «1» . وعن يزيد بن مرثد قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مشى أسرع، حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه «2» . رواه ابن سعد: ويروى أنه كان إذا مشى مشى مجتمعا أى قوى الأعضاء غير مسترخ فى المشى. وقال على- رضى الله عنه- كان إذا مشى تقلع «3» . وقال ابن أبى هالة: إذا زال زال تقلعا، يخطو تكفيا، ويمشى هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وفى رواية إذا زال زال قلعا- بالفتح والضم، فبالفتح هو مصدر بمعنى الفاعل أى لا يزول قالعا لرجله من الأرض، وهو بالضم إما مصدر أو اسم وهو بمعنى الفتح. وقال الهروى: «قرأت هذا الحرف فى كتاب غريب الحديث لابن الأنبارى: قلعا: بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهرى، وهو كما جاء فى حديث آخر كأنما ينحط من صبب، والانحدار من الصبب والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض. أراد: أنه كان يستعمل التثبت ولا يتبين منه فى هذه الحال استعجال ومبادرة شديدة» . وذريع المشية: أى واسع الخطوة قاله ابن الأثير. وقال ابن القيم: التقلع الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحط من الصبب، وهى مشية أولى العزم والهمة والشجاعة، وهى أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، فكثير من الناس يمشى قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة، فهى مذمومة، وإما أن يمشى بانزعاج مشى الجمل الأهوج وهى مشية مذمومة، وهى علامة خفة عقل صاحبها ولا سيما إن أكثر الالتفات حال مشيه يمينا وشمالا. وفى بعض المسانيد: أن المشاة شكوا إلى رسول الله

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3648) فى المناقب، باب: رقم (45) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بسند فيه ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ. (2) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (1/ 379) . (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3638) فى المناقب، باب: رقم (38) ، وفى «الشمائل» له (60) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 252) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

- صلى الله عليه وسلم- من المشى فى حجة الوداع فقال: «استعينوا بالنسلان» «1» وهو العدو الخفيف الذى لا يزعج الماشى. وأما مشيه- صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: «خلوا ظهرى للملائكة» «2» ، وهو معنى قول القائل: وكان يسوق أصحابه ويماشيهم فرادى وجماعة. ومشى- صلى الله عليه وسلم- فى بعض غزواته مرة فجرحت أصبعه وسال منها الدم فقال: «هل أنت إلا أصبع دميت وفى سبيل الله ما لقيت» «3» . رواه أبو داود. ولم يكن له- صلى الله عليه وسلم- ظل فى شمس ولا قمر رواه الترمذى الحكيم عن ذكوان. وقال ابن سبع كان- صلى الله عليه وسلم- نورا. فكان إذا مشى فى الشمس أو القمر لا يظهر له ظل. قال غيره: ويشهد له قوله- صلى الله عليه وسلم- فى دعائه: «واجعلنى نورا» . وأما لونه الشريف الأزهر- صلى الله عليه وسلم- فقد وصفه- عليه السّلام- جمهور أصحابه بالبياض، منهم: أبو بكر وعمر وعلى وأبو جحيفة وابن عمر وابن عباس وابن أبى هالة والحسن بن على وأبو الطفيل ومحرش الكعبى وابن مسعود والبراء وأنس فى إحدى الروايتين عنه. فأما أبو جحيفة فقال: كان أبيض «4» . رواه البخارى. وأما أبو الطفيل فقال: كان أبيض مليحا «5» . رواه الترمذى فى الشمائل، وفى رواية مسلم: أبيض مليح الوجه. وفى رواية عنه للطبرانى: ما أنسى شدة بياض وجهه مع شدة سواد شعره. وفى شعر أبى طالب:

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 267) عن جابر، ولم يعزه لأحد!. (2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 398) من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1389) ولكن عزاه لابن سعد. (3) قلت: بل هو عند البخارى (2802) فى الجهاد والسير، باب: من ينكب فى سبيل الله، ومسلم (1796) فى الجهاد والسير، باب: ما لقى النبى- صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين، من حديث جندب بن سفيان- رضى الله عنه-. (4) صحيح: وقد تقدم. (5) صحيح: أخرجه مسلم (2340) فى الفضائل، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- مليح الوجه.

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وقال على: أبيض مشرب، والمشرب: هو الذى فى بياضه حمرة، كما فى الرواية الآخرى: أبيض مشرب بحمرة، وبهذا فسر قول أنس فى صحيح مسلم: أزهر اللون. وفى النسائى من حديث أبى هريرة: بينا النبى- صلى الله عليه وسلم- جالس بين أصحابه جاء رجل فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: هذه الأمغر المرتفق «1» . والأمغر: المشرب بحمرة. المرتفق: المتكئ على مرفقه. وفى البخارى من حديث أنس: ليس بأبيض أمهق «2» . قال الحافظ ابن حجر: ووقع عند الداودى تبعا لرواية المروزى: أمهق ليس بأبيض، وفى رواية عند أبى حاتم وغيره أسمر. واستشكله بعضهم وقال: إن غالب هذه الروايات متدافع، وبعضها ممكن الجمع كالأبيض مع رواية مشرب بالحمرة والأزهر، وبعضها غير ممكن الجمع كالأبيض الشديد الوضح مع الأسمر. واعترض الداودى رواية أمهق ليس بأبيض. وهى التى وقعت عنده تبعا لرواية المروزى. وقال القاضى عياض: إنها وهم، وقال: وكذلك رواية من روى أنه ليس بالأبيض ولا الآدم، ليس بصواب. قال الحافظ ابن حجر: هذا ليس يجيد لأن المراد أنه ليس بالأبيض الشديد البياض ولا بالآدم الشديد الأدمة، وإنما يخالط بياضه الحمرة، والعرب قد تطلق على كل من كان كذلك أسمر، ولهذا جاء فى حديث أنس عند أحمد والبزار وابن منده بإسناد صحيح أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان أسمر، وأخرجه البيهقى فى الدلائل من وجه آخر عن أنس، فذكر الصفة النبوية فقال: كان- صلى الله عليه وسلم- أبيض بياضه إلى السمرة. وفى حديث ابن عباس فى صفته- صلى الله عليه وسلم-: رجل بين رجلين جسمه ولحمه، أحمر إلى البياض، أخرجه أحمد. وقد تبين من مجموع الروايات: أن المراد بالسمرة؛ الحمرة التى تخالط البياض، وأن المراد بالبياض المثبت ما تخالطه

_ (1) أخرجه ابن عساكر كما فى «كنز العمال» (18533) ، ولم أقف عليه فى النسائى، ولعله وهم. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3547 و 3548) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2347) فى الفضائل، باب: فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم- ومبعثه وسنه.

الحمرة، والمنفى ما لا تخالطه، وهو الذى تكره العرب لونه وتسميه أمهق، وبهذا تبين أن رواية المروزى أمهق ليس بأبيض مقلوبة، على أنه يمكن توجيهها بأن المراد بالأمهق الأخضر اللون الذى ليس بياضه فى الغاية، ولا سمرته ولا حمرته، فقد نقل عن رؤبة: أن المهق خضرة الماء، فهذا التوجيه يتم على تقدير ثبوت الرواية، وقد تقدم فى حديث أبى جحيفة إطلاق كونه كان أبيض، وكذا فى حديث أبى الطفيل عند مسلم والترمذى. وفى حديث سراقة عند ابن إسحاق فجعلت أنظر إلى ساقه كأنها جمارة، ولأحمد من حديث محرش الكعبى فى عمرة الجعرانة قال: فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة «1» . وعن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصفه- صلى الله عليه وسلم- فقال: كان شديد البياض «2» أخرجه يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوى. ويجمع بينهما بما تقدم. وقال البيهقى: يقال: إن المشرب منه بحمرة وإلى السمرة منه ما ضحى للشمس والريح أى كالوجه والعنق وأما ما تحت الثياب فهو الأزهر الأبيض انتهى. وهذا ذكره ابن أبى خيثمة عقب حديث عائشة فى صفته- صلى الله عليه وسلم- بأبسط من هذا وزاد: ولونه الذى لا يشك فيه الأبيض الأزهر. انتهى والله أعلم. وقد ضعف بعضهم قول من قال: إنما وصف بالسمرة ما كانت الشمس تصيب منه، بأن أنسا لا يخفى عليه أمره حتى يصفه بغير صفته اللازمة له لقربه منه، ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- ملازما للشمس، نعم لو وصفه بذلك بعض القادمين ممن صادفه فى وقت غيرته الشمس لأمكن، فالأولى حمل السمرة فى رواية أنس على الحمرة التى تخالط البياض كما قدمناه. تنبيه: فى الشفاء حكاية عن أحمد بن سليمان صاحب سحنون: من قال إن النبى- صلى الله عليه وسلم- أسود يقتل. انتهى. وهذا يقتضى أن مجرد الكذب عليه فى صفة من صفاته كفر يوجب القتل. وليس كذلك، بل لابد من ضميمة ما يشعر بنقص فى ذلك. كما فى مسألتنا هذه فإن الأسود لون مفضول.

_ (1) تقدم. (2) تقدم.

وأما طيب ريحه- صلى الله عليه وسلم- وعرقه وفضلاته، فقد كانت الرائحة الطيبة صفته- صلى الله عليه وسلم- وإن لم يمس طيبا. وروينا عن أنس قال: ما شممت ريحا قط ولا مسكا ولا عنبرا أطيب من ريح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . لحديث رواه الإمام أحمد. وفى البخارى: ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة النبى- صلى الله عليه وسلم-. وفى رواية الترمذى: ولا شممت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقوله: شممت: بكسر الميم الأولى وسكون الثانية. وعن أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد السلمى قالت: كنا عند عتبة أربع نسوة، فما منا امرأة إلا وهى تجتهد فى الطيب لتكون أطيب ريحا منا، وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنا لنجتهد فى الطيب، ولأنت أطيب ريحا منا فمم ذلك؟ فقال: أخذنى الشرى على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأتيته فشكوت ذلك إليه، فأمرنى أن أتجرد، فتجردت وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبى على فرجى، فنفث فى يده ثم مسح ظهرى وبطنى بيده، فعبق بى هذا الطيب من يومئذ «2» رواه الطبرانى فى معجمه الصغير. وروى أبو يعلى والطبرانى قصة الذى استعان به- صلى الله عليه وسلم- على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شىء، فاستدعاه بقارورة فسلت له فيها من عرقه، وقال: «مرها فلتطيب به» ، فكانت إذا تطيبت به شم أهل المدينة ذلك الطيب فسموا بيت المطيبين. وقال جابر بن عبد الله: كان فى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خصال: لم يكن فى طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عرقه وعرفه «3» ، ولم يكن يمر بحجر إلا سجد له. رواه الدارمى والبيهقى وأبو نعيم. ولله در القائل:

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3561) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2330) فى الفضائل، باب: طيب رائحة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (3/ 107 و 200 و 222 و 227 و 228 و 265 و 270) . (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 282) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، ورجال الأوسط رجال الصحيح. غير أم عاصم فإنى لم أعرفها. (3) أخرجه الدارمى فى «سننه» . (66) .

فلو أن ركبا يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل به الركب وعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مر فى طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب وقالوا: مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من هذا الطريق «1» . رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح. وما أحسن قول القائل: يروح على غير الطريق التى غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته تنفسه فى الوقت أنفاس عطره ... فمن طيبه طابت له طرقاته تروح له الأرواح حيث تنسمت ... لها سحرا من حيه نسماته وعن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجها وأنورهم لونا، لم يصفه واصف قط إلا شبه وجهه بالقمر ليلة البدر. وكان عرقه فى وجهه مثل اللؤلؤ، أطيب من المسك الإذفر. رواه أبو نعيم. وعن أنس قال: دخل علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال عندنا، فعرق وجاءت أمى بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أم سليم ما هذا الذى تصنعين؟» قالت: هذا عرقك نجعله لطيبنا، وهو أطيب الطيب «2» . رواه مسلم. وفى رواية له: كان- صلى الله عليه وسلم- يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه. قال فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتيت فقيل لها هذا النبى نائم فى بيتك على فراشك قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره فى قواريرها، ففزع- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما تصنعين يا أم سليم» فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال: «أصبت» والعتيدة: كالصندوق الصغير الذى تترك فيه المرأة ما يعز عليها من متاعها.

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 282) وقال: رواه أبو يعلى والبزار والطبرانى فى الأوسط، ورجال أبى يعلى وثقوا. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2331) فى الفضائل، باب: طيب عرق النبى- صلى الله عليه وسلم- والتبرك به.

وأما ما روى أن الورد خلق من عرقه- صلى الله عليه وسلم- أو من عرق البراق فقال شيخنا فى الأحاديث المشتهرة: قال النووى: لا يصح. وقال شيخ الإسلام ابن حجر: إنه موضوع، وسبقه لذلك ابن عساكر، وهو فى مسند الفردوس بلفظ: «الورد الأبيض خلق من عرقى ليلة المعراج، والورد الأحمر خلق من عرق جبريل، والورد الأصفر خلق من عرق البراق» «1» . رواه من طريق مكى ابن بندار الزنجانى. حدثنا الحسن بن على بن عبد الواحد القرشى، حدثنا هشام بن عمار عن الزهرى عن أنس به مرفوعا ثم قال: قال أبو مسعود حدث به أبو عبد الله الحاكم عن رجل عن مكى. ومكى تفرد به انتهى. ورواه أبو الحسين بن فارس اللغوى فى «الريحان والراح» له عن مكى به. ومكى ممن اتهمه الدارقطنى بالوضع، وله طريق أخرى رواه أبو الفرج النهروانى فى الخامس والتسعين من «الجليس الصالح» له من طريق محمد بن عنبسة بن حماد، حدثنا أبى عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار عن أنس رفعه: «لما عرج بى إلى السماء بكت الأرض من بعدى فنبت اللصف من نباتها، فلما أن رجعت قطر من عرقى على الأرض فنبت ورد أحمر، ألا من أراد أن يشم رائحتى فليشم الورد الأحمر» «2» . ثم قال أبو الفرج: اللصف: الكبر، وقال: وما أتى به هذا الخبر فهو اليسير من كثير مما أكرم الله به نبيه ودل على فضله ورفيع منزلته. انتهى. وإنما ذكرته ليعلم «3» . وعن جابر بن سمرة أنه- صلى الله عليه وسلم- مسح خده، وقال: فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار «4» . قال غيره: مسها بطيب أو لم يمسها يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبى فيعرف من بين الصبيان ريحها. وجؤنة العطار: بضم الجيم وهمزة بعدها، ويجوز تخفيفها واوا: سلسلة مستديرة مغشاة أدما.

_ (1) موضوع: ذكره الحافظ ابن حجر فى اللسان (2/ 219) فى ترجمة الحسن بن عبد الواحد القزوينى، وقال: هذا حديث موضوع، وضعه من لا علم له. (2) موضوع: أخرجه ابن عدى فى «الكامل» (2/ 342) . (3) أى: يعلم أنه موضوع. (4) صحيح: وقد تقدم.

وقد ورد مما عزاه القاضى عياض للأخباريين ومن ألف فى الشمائل الكريمة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتغوط انشقت الأرض وابتلعت بوله وغائطه وفاحت لذلك رائحة طيبة. قال غيره: ولم يطلع على ما يخرج منه بشر قط. وأسند محمد بن سعد كاتب الواقدى- كما هو فى بعض نسخ الشفاء، وقالوا: إنه ليس من الرواية ولا من حواشى أصل ابن جبير بل من حواشى غيره- عن عائشة- رضى الله عنها- قالت للنبى- صلى الله عليه وسلم-: إنك تأتى الخلا فلا نرى منك شيئا من الأذى فقال: «يا عائشة أو ما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شىء» «1» انتهى. وفى الشفاء لابن سبع عن بعض الصحابة قال: صحبته- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فلما أراد قضاء الحاجة تأملته وقد دخل مكانا فقضى حاجته، فدخلت الموضع الذى خرج منه فلم ير له أثر غائط ولا بول، ورأيت فى ذلك الموضع ثلاثة أحجار فأخذتهن فوجدت لهن رائحة طيبة وعطرا. قلت: وقد سئل الحافظ عبد الغنى المقدسى: هل روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟ فقال: قد روى ذلك من وجه غريب، والظاهر يؤيده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنه رآه ولا ذكره، وأما البول فقد شاهده غير واحد. وشربته أم أيمن والله أعلم انتهى. لكن قال البيهقى: وأما الحديث الذى أخبرنا به أبو الحسين بن بشر أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ حدثنا حسين بن علوان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الغائط دخلت فى أثره فلا أرى شيئا إلا أنى كنت أشم رائحة الطيب، فذكرت ذلك له فقال: «يا عائشة أما علمت أن أجسادنا تنبت على أرواح أهل الجنة وما خرج منها ابتلعته الأرض» «2» فهذا من موضوعات الحسين بن علوان، لا ينبغى ذكره إلا لبيان أنه موضوع

_ (1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى الأفراد، وابن الجوزى فى الواجبات، كما فى «كنز العمال» (32253) . (2) موضوع: أخرجه البيهقى فى «الدلائل» ، وابن عساكر عن عائشة، وقال: هذا من موضوعات حسين بن علوان، كما فى «كنز العمال» (32255) .

ففى الأحاديث الصحيحة المشهورة فى معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان انتهى. لكن للحديث طرق غير طريق ابن علون: فعند الدار قطنى فى الأفراد: حدثنا محمد بن سليمان الباهلى حدثنا محمد بن حسان الأموى، أنبأنا عبدة ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: يا رسول الله، إنى أراك تدخل الخلاء ثم يأتى الذى بعدك فلا يرى لما يخرج منك أثرا، فقال: «يا عائشة أما علمت أن الله أمر الأرض أن تبتلع ما يخرج من الأنبياء» «1» ، ومحمد بن حسان بغدادى ثقة، وعبدة من رجال الصحيح. وله طريق أخرى عند ابن سعد، وأخرى عند الحاكم فى مستدركه. وروى أنه كان يتبرك ببوله ودمه- صلى الله عليه وسلم-. فروى ابن حبان فى «الضعفاء» عن ابن عباس قال: حجم النبى- صلى الله عليه وسلم- غلام لبعض قريش، فلما فرغ من حجامته أخذ الدم فذهب به من وراء الحائط، فنظر يمينا وشمالا فلم ير أحدا، فحسا دمه حتى فرغ ثم أقبل فنظر فى وجهه فقال: «ويحك ما صنعت بالدم» قلت غيبته من وراء الحائط، قال أين غيبته؟ قلت: يا رسول الله نفست على دمك أن أهريقه فى الأرض فهو فى بطنى فقال: «اذهب فقد أحرزت نفسك من النار» . وفى سنن سعيد بن منصور من طريق عمرو بن السائب أنه بلغه أن مالكا والد أبى سعيد الخدرى لما جرح النبى- صلى الله عليه وسلم- مص جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل: مجه، فقال: لا والله لا أمجه أبدا، ثم ازدرده فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» «2» . فاستشهد. وأخرج البزار والطبرانى والحاكم والبيهقى وأبو نعيم فى الحلية، من حديث عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: احتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعطانى الدم فقال: «اذهب فغيبه» فذهب فشربته فأتيته- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما

_ (1) ضعيف: وانظر ما قبلهما. (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (3/ 266) .

صنعت» قلت: غيبته، قال: «لعلك شربته» قلت: شربته، وفى رواية قلت: جعلته فى أخفى مكان ظننت أنه خاف عن الناس، قال: «لعلك شربته؟» قلت: شربته، فقال: «ويل لك من الناس وويل للناس منك» . وفى رواية فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فما حملك على ذلك» قال: علمت أن دمك لا تصيبه نار جهنم فشربته لذلك، فقال: «ويل لك من الناس» «1» . وعند الدار قطنى من حديث أسماء بنت أبى بكر نحوه، وفيه: ولا تمسك النار، وفى كتاب الجوهر المكنون فى ذكر القبائل والبطون: أنه لما شرب- أى عبد الله بن الزبير- دمه تضوع فمه مسكا، وبقيت رائحته موجودة فى فمه إلى أن صلب- رضى الله عنه-. وأخرج الحسن بن سفيان فى مسنده والحاكم والدار قطنى والطبرانى وأبو نعيم من حديث أبى مالك النخعى عن الأسود بن قيس عن نبيح عن أم أيمن قالت: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الليل إلى فخارة فى جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أم أيمن قومى فأهريقى ما فى تلك الفخارة» ، فقلت: قد والله شربت ما فيها قالت: فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: «أما والله لا يبجعن بطنك أبدا» «2» . وعن ابن جريج قال: أخبرت أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يبول فى قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره فجاء فإذا القدح ليس فيه شىء فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة «أين البول الذى فى القدح» قالت: شربته قال: «صحة يا أم يوسف» فما مرضت قط حتى كان مرضها الذى ماتت فيه. ورواه أبو داود عن ابن جريج عن حكيمة عن أمها أميمة بنت رقيقة. وصحح ابن دحية أنهما قصتان وقعتا لامرأتين وقد وضح أن بركة أم يوسف غير بركة أم أيمن، وهو الذى ذهب إليه شيخ الإسلام البلقينى. وفى هذه الأحاديث دلالة على طهارة بوله ودمه- صلى الله عليه وسلم-. قال النووى

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 638) . (2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 70) ، والطبرانى فى «الكبير» (25/ 89) .

فى شرح المهذب: واستدل من قال بطهارتهما بالحديثين المعروفين: أن أبا طيبة الحجام حجمه- صلى الله عليه وسلم- وشرب دمه ولم ينكر عليه، وأن امرأة شربت بوله- صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليها. وحديث أبى طيبة ضعيف، وحديث شرب البول صحيح رواه الدار قطنى وقال: هو حديث حسن صحيح، وذلك كاف فى الاحتجاج لكل الفضلات قياسا، ثم إن القاضى حسينا قال: الأصح القطع بطهارة الجميع انتهى. وبهذا قال أبو حنيفة، كما قاله العينى. وأبو طيبة؛ بفتح الطاء المهملة وسكون الياء المثناة تحت وبالموحدة، نافع الحجام مولى محيصة- بضم الميم وفتح المهملة وتشديد المثناة تحت وكسرها- هو أبو مسعود الأنصارى. وقال شيخ الإسلام ابن حجر قد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته- صلى الله عليه وسلم- وعدّ الأئمة ذلك فى خصائصه. انتهى. قال بعضهم: وكأن السر فى ذلك ما روى من صنيع الملكين حين غسلا جوفه والله أعلم. وأما سيرته- صلى الله عليه وسلم- فى البراز، ففى حديث عائشة عند أبى عوانة فى صحيحه والحاكم: ما بال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائما منذ أنزل عليه القرآن «1» . وفى حديث عبد الرحمن بن حسنة عند النسائى وابن ماجه: أنه بال جالسا، فقالوا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة «2» . وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائما، ويؤيده ما فى حديث عبد الرحمن هذا. وفيه دلالة على أنه كان يخالفهم فى ذلك فيقعد لكونه أستر

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (12) فى الطهارة، باب: ما جاء فى النهى عن البول قائما، والنسائى (1/ 26) فى الطهارة، باب: البول فى البيت جالسا، وابن ماجه (307) فى الطهارة، باب: فى البول قاعدا، وأحمد فى «المسند» (6/ 136 و 192 و 213) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (22) فى الطهارة، باب: الاستبراء من البول، والنسائى (1/ 26) فى الطهارة، باب: البول إلى السترة يستتر بها، وابن ماجه (346) فى الطهارة وسننها، باب: التشديد فى البول، وأحمد فى «المسند» (4/ 196) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

وأبعد عن مماسة البول. وقال حذيفة: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ «1» . رواه البخارى. وفى رواية غيره: بال قائما ففجع رجليه، أى: فرقهما وباعد ما بينهما. والسباطة- بضم المهملة وبعدها موحدة- هى المزبلة والكناسة تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها، وتكون فى الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك لأنها لا تخلو عن النجاسة. وبهذا يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهى الجدار ففيه إضرار، أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا فى أصل الجدار، وهو صريح فى رواية أبى عوانة فى صحيحه. وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم فى ذلك بالتصريح أو غيره أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف فى مال أمته دون غيره لأنه أولى بالمؤمنين عن أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى لكن لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه- صلى الله عليه وسلم-. قال الحافظ ابن حجر: وأما مخالفته- صلى الله عليه وسلم- لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظار، فقد قيل فيه إنه- صلى الله عليه وسلم- كان مشغولا بمصالح المسلمين، ولعله طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول فلو أبعد لتضرر، واستدنى حذيفة ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يراه، أو لعله فعله لبيان الجواز. ثم هو فى البول أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف، والغرض من الإبعاد التستر وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر. وروى الطبرانى من حديث عصمة بن مالك قال: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بعض سكك المدينة فانتهى إلى سباطة قوم فقال: يا حذيفة استرنى فذكر الحديث «2» . وظهر منه الحكمة فى إدنائه حذيفة فى تلك الحالة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (224) فى الوضوء، باب: البول قائما وقاعدا، ومسلم (273) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين. (2) انظر «فتح البارى» (1/ 329) .

وقيل: إنما بال قائما لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك لكونه قريبا من الديار، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر- رضى الله عنه- قال: البول قائما أحصن للدبر «1» . وقيل السبب فى ذلك ما روى الشافعى وأحمد: أن العرب كانت تستشفى لوجع الصلب بذلك فلعله كان به. وروى الحاكم والبيهقى من حديث أبى هريرة قال: إنما بال- صلى الله عليه وسلم- قائما لجرح كان بمأبضه «2» . والمأبض: بهمزة ساكنة بعدها موحدة ثم معجمة: باطن الركبة. فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود، ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم ولكن ضعفه الدار قطنى والبيهقى، والأظهر: أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول من قعود. وقيل إن البول عن قيام منسوخ واستدل عليه بحديث عائشة المتقدم. والصواب: أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه فى البيوت، وأما غير البيوت فلم تطلع عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وهو جائز من غير كراهة إذا أمن الرشاش. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: «اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث» «3» . رواه البخارى من حديث أنس. والخبث: - بضم المعجمة والموحدة- ومراده: ذكران الشياطين وإناثهم. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يستعيذ إظهارا للعبودية، ويجهر بذلك للتعليم. وهل يختص هذا الذكر بالأبنية المعدة لذلك لكونه حضرة الشياطين، أو يعم؟ الأصح الثانى. ويقول

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 257) وقال: رواه الطبرانى فى «الكبير» ، وفيه الفضل بن المختار، وهو منكر الحديث يحدث بالأباطيل. (2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 290) ، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 101) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (142) فى الوضوء، باب: ما يقال عند الخلاء، ومسلم (375) فى الحيض، باب: ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.

ذلك قبيل الدخول فى الأمكنة، وأما فى غيرها فيقول فى أول الشروع كتشمير ثيابه مثلا، وهذا مذهب الجمهور، فلو نسى يستعيذ بقلبه لا بلسانه. وعن أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض «1» . رواه الترمذى وأبو داود والدارمى. وعن عائشة قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك» «2» رواه الترمذى وابن ماجه. وعن أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذى أذهب عنى الأذى وعافانى» «3» . رواه ابن ماجه. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا» «4» ، رواه البخارى من حديث أبى أيوب الأنصارى. وهذا فى الصحراء، أما فى البنيان فلا، لما روى عن ابن عمر: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتى، فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقضى حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام «5» . رواه الشيخان. وأما حديث جابر: عند أبى داود وابن خزيمة، ولفظه عند أحمد: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (14) فى الطهارة، باب: كيف التكشف عند الحاجة، والترمذى (14) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الاستتار عند الحاجة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4652) . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (30) فى الطهارة، باب: ما يقول: الرجل إذا خرج من الخلاء، والترمذى (7) فى الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، وابن ماجه (300) فى الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، وأحمد فى «المسند» (6/ 155) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (52) . (3) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (301) فى الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، بسند فيه إسماعيل بن مسلم المكى، متفق على تضعيفه، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (53) . (4) صحيح: أخرجه البخارى (144) فى الوضوء، باب: لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء، ومسلم (264) فى الطهارة، باب: الاستطابة. (5) صحيح: أخرجه البخارى (148) فى الوضوء، باب: التبرز فى البيوت، ومسلم (266) فى الطهارة، باب: الاستطابة.

الماء «1» . قال: ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة. فقال فى فتح البارى: الحق أنه ليس بناسخ لحديث النهى خلافا لمن زعمه، بل هو محمول على أنه رآه فى بناء أو نحوه، لأن ذلك هو المعهود من حاله- صلى الله عليه وسلم- لمبالغته فى التستر. ودعوى خصوصية ذلك بالنبى- صلى الله عليه وسلم- لا دليل عليها، إذا الخصائص لا تثبت بالاحتمال. ومذهب الجمهور وهو مذهب مالك والشافعى وإسحاق: التفريق بين البنيان والصحراء، وهذا أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة. وقال قوم بالتحريم مطلقا، وهو المشهور عن أبى حنيفة وأحمد، ورجحه من المالكية ابن العربى وحجتهم: أن النهى مقدم على الإباحة، ولم يصححوا حديث جابر المتقدم. وقال قوم بالجواز مطلقا، وهو قول عائشة وعروة وربيعة، محتجين بأن الأحاديث تعارضت فلنرجع إلى أصل الإباحة. وفى البخارى عن أنس كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج لحاجته أجىء أنا وغلام، معنا إداوة من ماء، يعنى ليستنجى به «2» . وفى رواية مسلم عنه: فخرج علينا وقد استنجى بالماء. وعن أبى هريرة قال: اتبعت النبى- صلى الله عليه وسلم- وخرج لحاجته فقال: «ابغنى أحجارا أستنفض بها ولا تأتنى بعظم ولا روث» ، فأتيته بأحجار بطرف ثيابى فوضعتها إلى جنبه فلما قضى حاجته أتبعه بهن «3» . وعن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- الغائط فأمرنى أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (13) فى الطهارة، باب: الرخصة فى ذلك، والترمذى (9) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الرخصة فى ذلك، وابن ماجه (325) فى الطهارة، باب: الرخصة فى ذلك، وأحمد فى «المسند» (3/ 360) ، وابن حبان فى «صحيحه» (1420) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (58) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (151) فى الوضوء، باب: من حمل معه الماء لطهوره، ومسلم (271) فى الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء من التبرز. (3) صحيح: أخرجه البخارى (155) فى الوضوء، باب: الاستنجاء بالحجارة.

الحجرين وألقى الروثة «1» . رواه البخارى. وفى حديث سلمان عند مسلم مرفوعا: «لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار» «2» . وقد أخذ الشافعى وأحمد وأصحاب الحديث بهذا، فاشترطوا أن لا ينقص عن الثلاثة مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها فتزاد حتى ينقى. ويستحب حينئذ الإيتار، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «ومن استجمر فليوتر» «3» . وليس بواجب لزيادة فى أبى داود حسنة الإسناد، قال: ومن لا، فلا حرج، قال الخطابى: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظا وعلم الإنقاء فيه معنى دل على إيجاب الأمرين، ونظيره: العدة بالإقراء، فإن العدد مشترط ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد. وقال الطحاوى: لو كان العدد مشترطا لطلب- عليه السّلام- حجرا ثالثا. وغفل- رحمه الله- عما أخرجه أحمد فى مسنده من طريق معمر عن ابن مسعود فى هذا الحديث، فإن فيه: فألقى الروثة وقال: «إنها ركس، ائتنى بحجر» ورجاله ثقات أثبات. واستدلال الطحاوى فيه نظر، لاحتمال أن يكون اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث، لأن المقصود بالثلاثة: أن يمسح بها ثلاث مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد. انتهى ملخصا من فتح البارى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (156) فى الوضوء، باب: لا يستنجى بروث. (2) صحيح: أخرجه مسلم (262) فى الطهارة، باب: الاستطابة. (3) صحيح: أخرجه البخارى (161) فى الوضوء، باب: الاستنثار فى الوضوء، ومسلم (237) فى الطهارة، باب: الإيتار فى الاستنثار والاستجمار، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

الفصل الثانى فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية

الفصل الثانى فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية اعلم أن الأخلاق جمع خلق. بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها. قال الراغب: الخلق- بالفتح وبالضم- فى الأصل بمعنى واحد، كالشرب والشرب لكن خص الخلق الذى بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذى بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. انتهى. وقد اختلف: هل حسن الخلق غريزة أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم» «1» الحديث رواه البخارى. وقد قال القرطبى: الخلق جبلة فى نوع الإنسان. وهم فى ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شىء منها كان محمودا وإلا فهو المأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض حتى يقوى. وقد وقع فى حديث الأشج أنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» ، قال: يا رسول الله قديما كانا أو حديثا؟ قال: «قديما» ، قال: الحمد لله الذى جبلنى على خلتين يحبهما الله «2» . رواه أحمد والنسائى وصححه ابن حبان. فترديد السؤال وتقريره عليه بأن فى الخلق ما هو جبلى وما هو مكتسب. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللهم كما حسنت

_ (1) صحيح موقوفا: أخرجه البخارى فى «التاريخ الكبير» (4/ 313) ، وليس فى الصحيح كما يوهم صنيع المؤلف. (2) صحيح: أخرجه مسلم (18) فى الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم-، وابن ماجه (4187) فى الزهد، باب: الحلم، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.

خلقى فحسن خلقى» «1» . أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وعند مسلم فى حديث دعاء الافتتاح: «واهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت» «2» . ولما اجتمع فيه- صلى الله عليه وسلم- من خصال الكمال ما لا يحيط به حد، ولا يحصره عد، أثنى الله تعالى عليه فى كتابه الكريم فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «3» ، وكلمة «على» للاستعلاء فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاق ومستول عليها. والخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، وقد وصف الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم فقال تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً «4» ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «5» . فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة. قال الحليمى: وإنما وصف خلقه بالعظم، مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة، ولم يكن خلقه- صلى الله عليه وسلم- مقصورا على ذلك، بل كان رحيما بالمؤمنين، رفيقا بهم، شديدا على الكفار، غليظا عليهم، مهيبا فى صدور الأعداء، منصورا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصف خلقه بالعظيم أولى ليشمل الإنعام والانتقام. وقال الجنيد: وإنما كان خلقه- صلى الله عليه وسلم- عظيما لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى. وقيل: لأنه- صلى الله عليه وسلم- عاشر الخلق بخلقه، وباينهم بقلبه. وقيل:

_ (1) صحيح: أخرجه أحمد فى المسند عن ابن مسعود، كما فى «صحيح الجامع» (1307) إلا أنى لم أقف عليه فى المسند. (2) صحيح: أخرجه مسلم (771) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث على- رضى الله عنه-. (3) سورة القلم: 4. (4) سورة النساء: 113. (5) سورة القلم: 4.

لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال- صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الطبرانى فى الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسى وهو ضعيف- عن جابر: «إن الله بعثنى بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال» «1» ، وفى رواية مالك فى الموطأ بلاغا: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «2» . فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه- صلى الله عليه وسلم-، فإنه أدب بالقرآن، كما قالت عائشة- رضى الله عنها-: (كان خلقه القرآن) «3» . قال بعض العارفين: وقد علم أن القرآن فيه المتشابه الذى لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به، أى أقررناه فى نصابه، وأقررنا به من خلف حجابه، وتقلدنا سيف الحجة به ولكن فى قرابه. وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل وقال صاحب عوارف المعارف: ولا يبعد أن قول عائشة- رضى الله عنها-: (كان خلقه القرآن) فيه رمز غامض، وإيماء خفى إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلقا بأخلاق الله تعالى فعبرت عن المعنى بقولها: (كان خلقه القرآن) استحياء من سبحات الجلال وسترا للحال بلطف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها. انتهى. فكما أن معانى القرآن لا تتناهى فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى إذ فى كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى. فإذا التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته. قال الحرالى- وهو كما فى القاموس: بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة

_ (1) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 188) عن جابر وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عمر بن إبراهيم القرشى، وهو ضعيف. (2) ضعيف: أخرجه مالك فى «الموطأ» (2/ 904) بلاغا. (3) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل.

بالبربر، واسمه: على بن أحمد بن الحسين، ذو التصانيف المشهورة-: ولما كان عرفان قلبه- صلى الله عليه وسلم- بربه عز وجل كما قال- عليه السّلام-: «بربى عرفت كل شىء» «1» كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذلك بعثه إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الإنس حتى عمت الجن، ولم يقصرها على الثقلين حتى عمت جميع العالمين: فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، وكما أن الربوبية تعم العالمين فالخلق المحمدى يشمل جميع العالمين. انتهى. وهذا مصير منه إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضا، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى وهو المستعان. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- مجبولا على الأخلاق الكريمة فى أصل خلقته الزكية النقية، لم يحصل له ذلك برياضة نفس، بل بجود إلهى، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف فى قلبه حتى وصل إلى الغاية العليا والمقام الأسنى. وأصل هذه الخصال الحميدة، والمواهب المجيدة، كمال العقل، لأن به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل، فالعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان، قال بعضهم: لكل شىء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر. وأما ما روى «أن الله لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتى وجلالى ما خلقت خلقا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطى» . فقال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب موضوع باتفاق. انتهى. وفى زوائد عبد الله ابن الإمام أحمد على «الزهد» لأبيه عن على بن مسلم عن سيار بن حاتم- وهو ممن ضعفه غير واحد وكان جماعا للرقائق، وقال القواريرى: إنه لم يكن له عقل- قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعى، حدثنا مالك بن دينار عن الحسن البصرى، مرسلا: «لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: ما خلقت خلقا أحب إلى منك، بك آخذ وبك أعطى» . وأخرجه داود بن المحبر فى كتاب العقل له، وابن المحبر كذاب. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: والوارد فى أول ما خلق الله، حديث أول ما

_ (1) لم أقف على هذه العبارة.

خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل. ولأبى الشيخ عن قرة بن إياس المزنى رفعه: «الناس يعملون الخير وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم» «1» . وقد اختلف فى ماهية العقل اختلافا طويلا يطول استقصاؤه. وفى القاموس ومن خط مؤلفه نقلت: العقل العلم، أو بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، أو يطلق لأمور لقوة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعان مجتمعة فى الذهن تكون بمقدمات يستثبت بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان فى حركاته وكلماته، والحق أنه روحانى به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. انتهى. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- من كمال العقل فى الغاية القصوى التى لم يبلغها بشر سواه، ولهذا كانت معارفه عظيمة وخصائصه جسيمة، حارت العقول فى بعض فيض ما أفاضه من غيبه لديه، وكلّت الأفكار فى معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرم ما وهبه من أسرار إلهيته ومعرفة ربوبيته وتحقق عبوديته. قال وهب بن منبه: قرأت فى أحد وسبعين كتابا، فوجدت فى جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل فى جنب عقله- صلى الله عليه وسلم- إلا كحبة رمل بين رمل من جميع رمال الدنيا، وإن محمدا أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا. رواه أبو نعيم فى الحلية وابن عساكر. وعن بعضهم مما هو فى عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون فى النبى- صلى الله عليه وسلم- وجزء فى سائر المؤمنين، ومن تأمل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشادر، والطبع المتنافر والمتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاءهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه،

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو الشيخ، كما فى «كنز العمال» (7052) .

وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروا على أنفسهم، وهجروا فى رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله- صلى الله عليه وسلم- أوسع العقول لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعا لا يضيق عن شىء. فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم فى الحلم والعفو مع القدرة وصبره- صلى الله عليه وسلم- على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه- عليه السّلام- عن الكافرين به المقاتلين المحاربين له فى أشد ما نالوه به من الجراح بحيث كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شق ذلك على أصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إنى لم أبعث لعانا، ولكنى بعثت داعيا ورحمة، اللهم اغفر لقومى، أو اهد قومى فإنهم لا يعلمون» «1» . قال ابن حبان: أى اغفر لهم ذنبهم فى شج وجهى لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقا، إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم. كذا قال- رحمه الله-. وقد روى عن عمر أنه قال فى بعض كلامه: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «2» الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . وهاهنا دقيقة؛ وهى أنه- صلى الله عليه وسلم- لما شج عفا وقال «اللهم اهد قومى» ، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق قال: «اللهم املأ بطونهم نارا» «3» فتحمل الشجة الحاصلة فى وجه جسده الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة فى وجه دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجح حتى خالقه على حقه.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2599) فى البر والصلة، باب: النهى عن لعن الدواب وغيرها، مقتصرا على طرفه الأول، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) سورة نوح: 26. (3) صحيح: أخرجه مسلم (627) فى المساجد، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هى صلاة العصر، من حديث على- رضى الله عنه-.

واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله تعالى النفس على التألم بما يفعل بها، ولهذا شق عليه- صلى الله عليه وسلم- نسبتهم له إلى الجور فى القسمة، لكنه- عليه السّلام- حلم على القائل وصبر، لما علم من جزيل ثواب الصابر وأن الله يأجره بغير حساب. وصبره- صلى الله عليه وسلم- على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان الله فإنه يمتثل فيه أمر الله تعالى من الشدة كما قال له تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «1» وقد وقع له- صلى الله عليه وسلم- أنه غضب لأسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان فى أمر الله، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد فى الزجر. فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة- صلى الله عليه وسلم-. وقد روى الطبرانى وابن حبان والحاكم والبيهقى عن زيد بن سعنة- بالمهملة والنون المفتوحتين، كما قيده به عبد الغنى وذكره الدار قطنى: وبالمثناة التحتية، ثبت فى الشفاء وصحح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذى ذكره ابن إسحاق، وهو كما قاله النووى: أجل أحبار اليهود الذين أسلموا- أنه قال: لم يبق من علامات النبوة شىء إلا وقد عرفته فى وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرا إلى أجل فأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضينى يا محمد حقى، فو الله إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فقال عمر: أى عدو الله، أتقول لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أسمع فو الله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفى رأسك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى عمر فى سكون وتؤدة وتبسم ثم قال: «أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا مكان ما رعته» ، ففعل، فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد

_ (1) سورة التوبة: 73.

عرفتها فى وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد اختبرتهما، فأشهدك أنى قد رضيت بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا «1» . وعن أبى هريرة قال حدثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوما ثم قام، فقمنا حين قام فنظرنا إلى أعرابى قد أدركه فجبذه بردائه فحمر رقبته، وكان رداء خشنا، فالتفت إليه فقال له الأعرابى: احملنى على بعيرى هذين، فإنك لا تحملنى من مالك ولا من مال أبيك، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «لا، وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا أحملك حتى تقيدنى من جبذتك التى جبذتنى» ، فكل ذلك يقول له الأعرابى: والله لا أقيدكها، فذكر الحديث، قال: ثم دعا رجلا فقال له: «احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرا وعلى الآخر شعيرا» «2» رواه أبو داود. ورواه البخارى من حديث أنس بلفظ: كنت أمشى مع النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية فأدركه أعرابى فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتقه وقد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لى من مال الله الذى عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء «3» . وفى هذا بيان حلمه- صلى الله عليه وسلم- وصبره على الأذى فى النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وعن عائشة لم يكن النبى

_ (1) أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (288) ، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 700) ، والطبرانى فى «الكبير» (5/ 222) . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4775) فى الأدب، باب: فى الحلم وأخلاق النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (8/ 33) فى القسامة، باب: القود من الجبذة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (3) صحيح: أخرجه البخارى (3149) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس وغيره، ومسلم (1057) فى الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة.

- صلى الله عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح «1» . رواه الترمذى، أى لم يكن له الفحش خلقا ولا مكتسبا. وروى البخارى من حديث ابن عمرو: ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- فاحشا ولا متفاحشا «2» ، وفى روايته أيضا من حديث أنس بن مالك: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- سبابا ولا فاحشا ولا لعانا «3» . والفحش: كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل فى القول والفعل والصفة، لكن استعماله فى القول أكثر: والمتفحش: بالتشديد، الذى يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه. وعن عائشة أن رجلا استأذن على النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، أو بئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبى- صلى الله عليه وسلم- فى وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت فى وجهه وانبسطت إليه. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة، متى عهدتينى فاحشا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» «4» ، رواه البخارى. قال ابن بطال: هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارى، وكان يقال له الأحمق المطاع. وكذا فسره به القاضى عياض والقرطبى والنووى. وأخرج عبد الغنى من طريق أبى عامر الخزاعى، عن عائشة قالت: جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- صوته قال: «بئس أخو العشيرة» . الحديث. والمراد بالعشيرة: الجماعة أو القبيلة، وإنما تطلق- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (2016) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى خلق النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (6/ 236) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (3760) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6031) فى الأدب، باب: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا. (4) صحيح: أخرجه البخارى (6023) فى الأدب، باب: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا، ومسلم (2591) فى البر والآداب، باب: مداراة من يتقى فحشه.

فى وجهه تألفا له ليسلم قومه، لأنه كان رئيسهم. وقد جمع هذا الحديث كما قال الخطابى علما وأدبا، وليس قوله- صلى الله عليه وسلم- فى أمته بالأمور التى يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم فى بعض، بل الواجب عليه- صلى الله عليه وسلم- أن يبن ذلك ويفصح به، ويعرف الناس أمرهم فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة. ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدى به أمته فى اتقاء شر من هذا سبيله وفى مداراته ليسلموا من شره وغائلته. وقال القرطبى: فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة فى دين الله. ثم قال تبعا للقاضى حسين: والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهو مباحة وربما استحسنت، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبى- صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق فى مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقدير الإشكال ولله الحمد. وقال القاضى عياض: لم يكن عينية- والله أعلم- حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا، فأراد النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه فى حياة النبى- صلى الله عليه وسلم- وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به- صلى الله عليه وسلم- من علامات النبوة، وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الائتلاف وفى فتح البارى: أن عيينة ارتد فى زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح فى عهد عمر. انتهى. «وما انتقم- صلى الله عليه وسلم- لنفسه» «1» . رواه البخارى. فإن قلت: قد صح أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل عقبة بن أبى معيط وعبد الله بن خطل وغيرهما ممن كان يؤذيه- صلى الله عليه وسلم- وهذا ينافى قوله: «وما انتقم لنفسه» . فالجواب: أنهم كانوا مع

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3560) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2327) فى الفضائل، باب: مباعدته- صلى الله عليه وسلم- للآثام واختياره من المباح أسهله.

ذلك ينتهكون حرمات الله. وقيل: أراد أنه لا ينتقم إذا أوذى فى غير السبب الذى يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابى الذى جفا فى رفع صوته عليه، وعن الآخر الذى جبذ بردائه حتى أثر فى كتفه. وحمل الداودى عدم الانتقام على ما يختص بالمال، وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه. وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهرى مطولا، وأوله: ما لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسلما بذكر- أى بصريح اسمه- وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن يضرب فى سبيل الله، ولا سئل شيئا قط فمنعه إلا أن يسأل مأثما، ولا انتقم لنفسه من شىء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون لله ينتقم «1» . الحديث. ومما روى من اتساع خلقه وحلمه- صلى الله عليه وسلم-، اتساع خلقه لطائفة المنافقين، الذين كانوا يؤذونه إذا غاب ويتملقون له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية حتى تؤيدها العناية الربانية. وكان- صلى الله عليه وسلم- كلما أذن له فى التشديد عليهم فتح لهم- صلى الله عليه وسلم- بابا من الرحمة، فكان يستغفر لهم ويدعو لهم، حتى أنزل الله عليه اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «2» ، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «خيرنى ربى فاخترت أن أستغفر لهم» ولما قال تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «3» ، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لأزيدن على السبعين» «4» وأمر ولد الذى تولى كبر النفاق والأذى منهم ببر أبيه، ولما مات كفنه فى ثوبه خلعه عن بدنه وصلى عليه، هذا وعمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- يجذبه بثوبه ويقول: يا رسول الله أتصلى على رأس المنافقين؟ فنتر ثوبه من عمر وقال: «إليك عنى يا عمر» «5» . فخالف مؤمنا وليّا فى حق منافق عدو، وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحرالى.

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 670) ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) سورة التوبة: 80. (3) سورة التوبة: 80. (4) صحيح: أخرجه البخارى (4670) فى التفسير، باب: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، ومسلم (2400) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- بنحوه. (5) انظر ما قبله.

وقال النووى: قيل إنما أعطاه قميصه وكفنه فيه تطييبا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيّا صالحا وقد سأل ذلك فأجابه إليه، وقيل مكافأة لعبد الله المنافق الميت، لأنه كان ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصا. وفى ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاق النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء، وقابله بالحسنى فألبسه قميصه كفنا وصلى عليه واستغفر له، قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» . ومن ذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره. وعفا عن اليهودية التى سمته فى الشاة على الصحيح من الرواية. والله تعالى يرحم القائل: وما الفضل إلا خاتم أنت فصه ... وعفوك نقش الفص فاختم به عذرى ومن ذلك إشفاقه- صلى الله عليه وسلم- على أهل الكبائر من أمته، وأمره إياهم بالستر، فقال: «من بلى بهذه القاذورات» يعنى المحرمات «فليستتر» «2» . وأمر أمته أن يستغفروا للمحدود ويترحموا عليه لما حنقوا عليه فسبوه ولعنوه، فقال: «قولوا اللهم اغفر له، اللهم ارحمه» «3» وقال لهم فى رجل كان كثيرا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة فقال: «لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله» «4» . فأظهر لهم مكتوم قلبه لما رفضوه بظاهر فعله، وإنما ينظر الله إلى القلوب، طهر الله قلوبنا وغفر عظيم ذنوبنا. ومن ذلك ما رواه الدار قطنى من حديث عائشة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصغى إلى الهرة الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها «5» .

_ (1) سورة القلم: 4. (2) ضعيف: أخرجه مالك فى «الموطأ» (2/ 825) عن زيد بن أسلم مرسلا. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (4477) فى الحدود، باب: الحد فى الخمر، وأحمد فى «المسند» (2/ 299) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) صحيح: أخرجه البخارى (6780) فى الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة، من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-. (5) إسناده ضعيف: أخرجه الدار قطنى (1/ 66) بسند فيه عبد الله بن سعيد المقبرى، ضعيف.

ومن ذلك اتساع خلقه فى شريف تواضعه وآدابه وحسن عشرته مع أهله وخدمه وأصحابه. وقال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان نور المشاهدة فى قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفى ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتنطبع للحق والخلق بمحو آثارها وسكون وهجها وغبارها. وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- فى أوطان القرب وحسبك من تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أن خيره ربه تعالى بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا، فاختار أن يكون نبيّا عبدا، فأعطاه الله تعالى بتواضعه أن جعله أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، وأول مشفع، فلم يأكل متكئا بعد ذلك حتى فارق الدنيا. وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله» «1» رواه الترمذى. ومن تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أنه لا ينهر خادما، روينا فى كتاب الترمذى عن أنس قال: خدمت النبى- صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لى أف قط ولا قال لشىء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشىء تركته لم تركته؟ «2» وكذلك كان- صلى الله عليه وسلم- مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحدا قط، وهذا أمر لا تتسع له الطباع البشرية لولا التأييدات الربانية. وفى رواية مسلم: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» . وقالت عائشة: ما ضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا قط بيده، ولا

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3445) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، وأحمد فى «المسند» (1/ 23 و 24 و 47) ، من حديث عمر- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6038) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (2309) فى الفضائل، باب: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2316) فى الفضائل، باب: رحمته- صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد فى سبيل الله، وما نيل منه شىء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شىء من محارم الله فينتقم لله «1» . رواه مسلم. وسئلت عائشة: كيف كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا خلا فى بيته؟ قالت: ألين الناس، بساما ضحاكا «2» ، لم ير قط مادّا رجليه بين أصحابه. وعنها: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما دعاه أحد من أصحابه إلا قال لبيك. وعند أحمد وابن سعد وصححه ابن حبان عنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يخيط ثوبه ويخصف نعله «3» ، وفى رواية لأحمد: ويرفع دلوه، وعنده أيضا: يفلى ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. وهذا يتعين حمله على أوقات فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة. وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، وركب يوم بنى قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف «4» رواه الترمذى. وعن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما أراد الانصراف قرب له سعد حمارا وطأ عليه بقطيفة، وركب- صلى الله عليه وسلم- ثم قال سعد: يا قيس، اصحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال قيس: فقال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اركب» فأبيت، فقال: «إما أن تركب وإما أن تنصرف» . وفى رواية أخرى: «اركب أمامى فصاحب الدابة أولى بمقدمها» «5» رواه أبو داود وغيره. وفى

_ (1) صحيح: وقد تقدم قريبا. (2) إسناده ضعيف: أخرجه ابن سعد وابن عساكر، كما فى «ضعيف الجامع» (4386) . (3) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 121 و 256 و 260) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5677 و 6440 و 5675) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4937) . (4) ضعيف: أخرجه الترمذى (1017) فى الجنائز، باب: آخر، وقال الترمذى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم عن أنس، ومسلم الأعور يضعف، هو مسلم بن كيسان الملائى. (5) ضعيف الإسناد: أخرجه أبو داود (5185) فى الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل فى الاستئذان، وأحمد فى «المسند» (3/ 421) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

البخارى من حديث أنس بن مالك: أقبلنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من خيبر، وإنى لرديف أبى طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رديف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إذ عثرت الناقة، فقلت: المرأة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنها أمكم» ، فشددت الرحل، وركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، الحديث «1» . والمرأة: صفية، والردف والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه. وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبى- صلى الله عليه وسلم- ليس بينى وبينه إلا آخرة الرحل. وقد ركب- صلى الله عليه وسلم- على حمار على إكاف عليه قطيفة فدكية أردف أسامة وراءه. ولما قدم- صلى الله عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بنى عبد المطلب، فحمل واحدا بين يديه، وآخر خلفه. وقال ابن عباس: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة وقد حمل قثم بين يديه والفضل خلفه، أو قثم خلفه والفضل بين يديه «2» ، رواه البخارى. وذكر المحب الطبرى فى مختصر السيرة النبوية له، أنه- صلى الله عليه وسلم- ركب حمارا عريا إلى قباء وأبو هريرة معه، قال: «يا أبا هريرة أأحملك» فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب» ، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر فاستمسك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعا. ثم ركب- صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «يا أبا هريرة أأحملك» ؟ فقال: ما شئت يا رسول الله فقال: «اركب» فلم يقدر فتعلق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعا، ثم قال: «يا أبا هريرة أأحملك» فقال: لا والذى بعثك بالحق لا رميتك ثالثا «3» . وذكر المحب الطبرى أيضا: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان فى سفر، وأمر أصحابه بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله على ذبحها، وقال الآخر: يا رسول الله، على سلخها، وقال آخر: يا رسول الله، على طبخها فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «علىّ جمع الحطب» فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل، فقال:

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5968) فى اللباس، باب: إرداف المرأة خلف الرجل. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5966) فى اللباس، باب: حمل صاحب الدابة غيره بين يديه. (3) تقدم.

«قد علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه» انتهى. ولم أر هذا لغير الطبرى بعد التتبع نعم رأيت فى جزء تمثال النعل الشريف لأبى اليمن بن عساكر بعد أن روى حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الطواف فانقطعت شسعه فقلت: يا رسول الله ناولنى أصلحه، فقال: «أثرة ولا أحب الأثرة» «1» والأثرة: بفتح الهمزة والثاء، الاسم من آثر يؤثر إذا أعطى، والأثرة: الاستئثار وهو الانفراد بالشىء. قال: وكأنه كره- صلى الله عليه وسلم- أن ينفرد أحد بإصلاح نعله، فيحوز فضيلة الخدم فيكون له بمثابة الخادم ويكون له- صلى الله عليه وسلم- ترفع المخدوم على خادمه، كره ذلك- صلى الله عليه وسلم- لتواضعه وعدم ترفعه على من يصحبه. ويؤيده ما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- أراد أن يمتهن نفسه فى شىء فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: «قد علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه» انتهى. ثم رأيت شيخنا فى الأحاديث المشتهرة حكى ذلك والله الموفق. وعن أبى قتادة: وقد وفد النجاشى، فقام النبى- صلى الله عليه وسلم- يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، قال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم» «2» ذكره فى الشفاء. وفى البخارى: عن أنس: كان الرجل يجعل للنبى- صلى الله عليه وسلم- النخلات حتى افتتح قريظة والنضير، وإن أهلى أمرونى أن آتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأسأله الذى كانوا أعطوه أو بعضه، وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب فى عنقى تقول: كلا والذى لا إله غيره لا نعطيكم وقد

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 244) وقال: رواه أبو يعلى والطبرانى فى الكبير والأوسط، وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف، وفى (9/ 21) وقال: رواه البزار وفيه من لم أعرفه. (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 307) .

أعطانيها- أو كما قال- والنبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لك كذا» وتقول كلا والله، حتى أعطاها- حسبت أنه قال- عشرة أمثاله «1» أو كما قال. وإنما فعلت هذا أم أيمن لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤبدة وتمليكا لأصل الرقبة، وأراد النبى- صلى الله عليه وسلم- استطابة قلبها فى استرداد ذلك فلاطفها وما زال يزيدها فى العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه- صلى الله عليه وسلم- وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ولا يخفى ما فى هذا من فرط جوده وكثرة حلمه وبره- صلى الله عليه وسلم-. وجاءته- صلى الله عليه وسلم- امرأة كان فى عقلها شىء، فقالت: إن لى إليك حاجة، فقال: «اجلسى فى أى سكك المدينة شئت أجلس إليك» ، وفى رواية مسلم: «حتى أقضى حاجتك» ، فخلا معها فى بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها «2» . ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه- صلى الله عليه وسلم-. وقال عبد الله بن أبى الحمساء- بالحاء المهملة المفتوحة والميم الساكنة والسين المهملة وفى آخره همزة ممدودة- بايعت النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها فى مكانه، فنسيت فذكرت بعد ثلاث فإذا هو فى مكانه فقال: «لقد شققت على، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» «3» . رواه أبو داود. وقال ابن أبى أوفى: كان- عليه السّلام- لا يأنف أن يمشى مع الأرملة والمسكين فيقضى له الحاجة «4» . رواه النسائى. وفى رواية البخارى: إن كانت

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4120) فى المغازى، باب: مرجع النبى- صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب، ومسلم (1771) فى الجهاد والسير، باب: رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2326) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (4996) فى الأدب، باب: فى العدة، والبيهقى فى «الكبرى» (10/ 198) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (4) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 108) فى السهو، باب: ما يستحب من تقصير الخطبة، والدارمى فى «سننه» (74) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5005) .

الأمة لتأخذ بيد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت «1» ، وفى رواية أحمد: فتنطلق به فى حاجتها، وعنده أيضا إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجىء فتأخذ بيد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت. والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الانقياد. وقد اشتمل على أنواع من المبالغة فى التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء، أى: أى أمة كانت، وبقوله: حيث شاءت، أى من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها فى تلك الحالة لساعدها على ذلك. وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر- صلى الله عليه وسلم-. ودخل الحسن وهو يصلى قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ فى سجوده حتى نزل الحسن، فلما فرغ قال له بعض أصحابه: يا رسول الله قد أطلت سجودك. قال: «إن ابنى ارتحلنى فكرهت أن أعجله» «2» . أى جعلنى كالراحلة فركب على ظهرى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يعود المرضى، ويشهد الجنازة. أخرجه الترمذى فى الشمائل. وحج- صلى الله عليه وسلم- على رحل رث وعليه قطيفة لا تساوى أربعة دراهم. فقال: «اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» «3» . وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بانيتهم فيها الماء، فما

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6072) فى الأدب، باب: الكبر، وابن ماجه (4177) فى الزهد، باب: البراءة من الكبر والتواضع، وأحمد فى «المسند» (3/ 98 و 174 و 215) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (2/ 263) ، وهو فى الصحيحين بنحوه، ولكن مع أمامة ابنة زينب- رضى الله عنها-. (3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 221) عن ابن عباس وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه أحمد بن محمد بن القاسم بن أبى بزة ولم أعرفه.

يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاؤوه فى الغداة الباردة فيغمس يده فيها «1» . رواه مسلم والترمذى. وكان- صلى الله عليه وسلم- حسن العشرة مع أزواجه، وكان- صلى الله عليه وسلم- ينام مع أزواجه. قال النووى: وهو ظاهر فعله الذى واظب عليه مع مواظبته- صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل، فينام مع إحداهن، فإذا أراد القيام لوظيفته قام وتركها، فيجمع بين وظيفته وأداء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف. وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته فى فراش واحد أفضل، لا سيما إذا عرف من حالها حرصها على هذا، ولا يلزم من نومه معها الجماع والله أعلم. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها «2» . رواه الشيخان. وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه على موضع فمها وشرب رواه مسلم. وإذا تعرقت عرقا- وهو العظم الذى عليه اللحم- أخذه فوضع فمه على موضع فمها «3» . رواه مسلم أيضا. وكان يتكئ فى حجرها، ويقبلها وهو صائم «4» . رواه الشيخان. وكان يريها الحبشة وهم يلعبون فى المسجد وهى متكئة على منكبه «5» . رواه الشيخان. ورواه الترمذى بلفظ: قام- صلى الله عليه وسلم- فإذا حبشة تزفن والصبيان

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2324) فى الفضائل، باب: قرب النبى- عليه السّلام- من الناس، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6130) فى الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (2440) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة- رضى الله تعالى عنها-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (300) فى الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (300) فى الحيض، باب: النوم مع الحائض وهى فى ثيابها، ومسلم (1106) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته. (5) صحيح: أخرجه البخارى (455) فى المساجد، باب: أصحاب الحراب فى المسجد، ومسلم (892) فى صلاة العيدين، باب: الرخصة فى اللعب الذى لا معصية فيه، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

حولها، فقال: «يا عائشة تعالى فانظرى» فجئت فوضعت لحيى على منكب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لى: «أما شبعت أما شبعت» فجعلت أقول: لا، لا «1» . وقال: حسن صحيح غريب. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- سابقها فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، قال: «هذه بتلك» «2» . رواه أبو داود بلفظ: سابقته فى سفر فسبقته على رجلى، فلما حملت اللحم سابقته فسبقنى فقال: «هذه بتلك السبقة» . وعن أنس بن مالك: أنهم كانوا يوما عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيت عائشة- رضى الله عنها-، إذ أتى بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ضعوا أيديكم» فوضع نبى الله يده ووضعنا أيدينا فأكلنا، وعائشة تصنع طعاما عجلته قد رأت الصحفة التى أتى بها، فلما فرغت من طعامها جاءت به فوضعته ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كلوا بسم الله، غارت أمكم» ثم أعطى صحفتها أم سلمة فقال: «طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء» «3» . رواه الطبرانى فى الصغير. وهو عند البخارى بلفظ: كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التى النبى فى بيتها يد الخادم فسقطت

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3691) فى المناقب، باب: رقم (17) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (2578) فى الجهاد، باب: فى السبق على الرجل، وابن ماجه (1979) فى النكاح، باب: حسن معاشرة النساء، وأحمد فى «المسند» (6/ 39 و 264) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) صحيح: وأصل الحديث عند البخارى (2481) فى المظالم والغضب، باب: إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره، وأبو داود (3567) فى البيوع، باب: فيمن أفسد شيئا يغرم مثله، والترمذى (1359) فى الأحكام، باب: ما جاء فيمن يكسر له الشىء ما يحكم له من مال الكاسر، والنسائى (7/ 70) فى عشرة النساء، باب: الغيرة، وابن ماجه (2334) فى الأحكام، باب: الحكم فيمن كسر شيئا، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

الصحفة وانفلقت، فجمع النبى- صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذى كان فى الصحفة ويقول: «غارت أمكم» ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التى هو فى بيتها، فدفع الصحفة إلى التى كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة فى بيت التى كسرت. وعند أحمد وأبى داود والنسائى، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، أهدت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- إناء من طعام، فما ملكت نفسى أن كسرته، فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ قال: «إناء كإناء وطعام كطعام» وعند غيرهم: فأخذت القصعة من بين يديه فضربت بها وكسرتها، فقام- صلى الله عليه وسلم- يلتقط اللحم والطعام وهو يقول: «غارت أمكم» فلم يثرب عليها. فوسع خلقه الكريم آثار طفحات آثار غيرتها، ولم يتأثر، وقضى عليها بحكم الله فى القصاص. وهكذا كانت أحواله- صلى الله عليه وسلم- مع أزواجه، لا يأخذ عليهن ويعذرهن، وإن أقام عليهن قسطاس عدل أقامه بغير قلق ولا غضب، بل رؤوف رحيم، حريص عليهن وعلى غيرهن، عزيز عليه ما يعنتهم. قيل: وفى هذا الحديث إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيرى فيما يصدر منها، لأنها فى تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذى أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعا، «إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادى من أعلاه» «1» انتهى. وعن عائشة- رضى الله عنها-: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة- والنبى- صلى الله عليه وسلم- بينى وبينها-: كلى، فأبت، فقلت لها: كلى، فأبت، فقلت لها: لتأكلين أو لألطخن بها وجهك، فأبت فوضعت يدى فى الخزيرة فلطخت بها وجهها فضحك النبى- صلى الله عليه وسلم- فوضع فخذه لها وقال لسودة:

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 322) وقال: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وسلمة بن الفضل، وقد وثقه جماعة، ابن معين وابن حبان وأبو حاتم، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد رواه أبو الشيخ فى كتاب الأمثال، وليس فيه غير أسامة بن زيد الليثى، وهو من رجال الصحيح وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.

«الطخى وجهها» فلطخت بها وجهى فضحك- صلى الله عليه وسلم- الحديث رواه ابن غيلان من حديث الهاشمى وخرجه الملاء فى سيرته. والخزيرة: لحم يقطع صغارا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق. وبالجملة؛ فمن تأمل سيرته- صلى الله عليه وسلم- مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والأضياف والمساكين، علم أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه الغاية التى لا مرمى وراءها لمخلوق. وإن كان يشتد فى حدود الله وحقوقه ودينه، حتى قطع يد السارق، إلى غير ذلك. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يباسط أصحابه بما يولج حبه فى القلوب، كان له رجل من البادية يسمى زهيرا، وكان يهادى النبى- صلى الله عليه وسلم- بموجود البادية بما يستطرف منها، وكان- صلى الله عليه وسلم- يهاديه ويكافئه بموجود الحاضرة وبما يستطرف منها، وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول: «زهير باديتنا، ونحن حاضرته» وكان- صلى الله عليه وسلم- يحبه، فمشى- صلى الله عليه وسلم- يوما إلى السوق فوجده قائما، فجاء من قبل ظهره وضمه بيده إلى صدره فأحس زهير أنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: فجعلت أمسح ظهرى فى صدره رجاء بركته. وفى رواية الترمذى فى الشمائل: فاحتضنه من خلفه ولا يبصره، فقال أرسلنى، من هذا؟ فالتفت فعرف النبى- صلى الله عليه وسلم- فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبى- صلى الله عليه وسلم- حين عرفه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من يشترى العبد» فقال له زهير: يا رسول الله، إذن تجدنى كاسدا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أنت عند الله غال» ، وفى رواية للترمذى أيضا: «لكن عند الله لست بكاسد» ، أو قال: «أنت عند الله غال» «1» . وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم أن رجلا كان يهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم- العكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (121) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 161) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5790) ، والبيهقى فى «الكبرى» (6/ 169) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

فقال: أعط هذا حق متاعه، فما يزيد النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يتبسم، ويأمر به فيعطى «1» . ووقع فى حديث محمد بن عمرو بن حزم: وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله، هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول: «ألم تهده لى» فيقول ليس عندى، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه. وكان- صلى الله عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقّا، كما روى أبو هريرة، وقد قال له رجل كان فيه بله: يا رسول الله احملنى، فباسطه- صلى الله عليه وسلم- من القول بما عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك، فقال: «أحملك على ابن الناقة» فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه البنوة فقال: يا رسول الله، ما عسى يغنى عنى ابن الناقة، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «ويحك وهل يلد الجمل إلا الناقة» «2» روى حديثه الترمذى وأبو داود. وباسط عمته صفية وهى عجوز فقال لها: «إن الجنة لا تدخلها عجوز» ، فلما جزعت قال لها: «إنك تعودين إلى صورة الشباب فى الجنة» وفى رواية الترمذى عن الحسن: أتته- صلى الله عليه وسلم- عجوز فقالت: يا رسول الله، ادع الله لى أن يدخلنى الجنة، فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز» قال فولت تبكى فقال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز» إن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً «3» «4» وذكره رزين.

_ (1) مرسل: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 148) وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (4998) فى الأدب، باب: ما جاء فى المزاح، والترمذى (1991) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى المزاح، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) سورة الواقعة: 35، 36. (4) ضعيف: أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (122) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 419) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف.

وكان- صلى الله عليه وسلم- يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويؤنسهم. ويأخذ معهم فى تدبير أمورهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم فى حجره، ومع ذلك سره فى الملكوت يجول حيث أراد الله به. والدعابة: - بضم الدال وتخفيف العين المهملتين وبعد الألف موحدة- هى الملاطفة فى القول بالمزاح وغيره. وقد أخرج الترمذى وحسنه من حديث أبى هريرة؛ قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: «إنى لا أقول إلا حقّا» «1» . وما ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- فى النهى عن المداعبة محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر فى مهمات الدين وغير ذلك. والذى يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب- كما كان هو فعله- صلى الله عليه وسلم- فهو مستحب. وقال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا، وكان لى أخ يقال له: أبو عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل على النبى- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فرآه حزينا فقال: «ما شأنه» قالوا: مات نغره، فقال: «يا أبا عمير ما فعل النغير» «2» . رواه البخارى ومسلم. وفى رواية الترمذى قال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لى صغير «يا أبا عمير ما فعل النغير» . قال الجوهرى: النغير: تصغير نغر، والنغر جمع النغرة وهو طائر صغير كالعصفور، والجمع نغران مثل صرد وصردان. وكان قد ألقى عليه مع الدعابة المهابة، ولقد جاء إليه- صلى الله عليه وسلم- رجل فقام بين يديه فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له: «هون عليك، فإنى لست بملك ولا جبار إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة» فنطق الرجل بحاجته، فقام- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أيها الناس إنى أوحى إلى أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (1990) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى المزاح، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2509) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (6129) فى الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (2150) فى الأداب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

الله إخوانا» «1» . فسكن- صلى الله عليه وسلم- روعه شفقة، لأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية بقوله: «فإنى لست بملك» لما يلزمها من الجبروتية، وقال: «إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد» «2» تواضعا، لأن القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة. ولما رأته- صلى الله عليه وسلم- قيلة بنت مخرمة فى المسجد، وهو قاعد القرفصاء، ارتعدت من الفرق «3» رواه أبو داود. وروى مسلم عن عمرو بن العاصى قال: صحبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ما ملأت عينى منه قط حياء منه وتعظيما له، ولو قيل لى صفه لما قدرت «4» ، أو كما قال. وإذا كان هذا قوله وهو من أجلة الصحابة، ولولا أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يباسطهم ويتواضع لهم ويؤنسهم لما قدر أحد منهم أن يقعد معه ولا أن يسمع كلامه- عليه الصلاة والسلام- لما رزقه الله تعالى من المهابة والجلالة. يبين ذلك ويوضحه ما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا فرغ من ركوع الفجر حدث عائشة إن كانت مستيقظة، وإلا اضطجع بالأرض ثم خرج بعد ذلك إلى الصلاة، وما ذاك إلا أنه- صلى الله عليه وسلم- لو خرج على تلك الحالة التى كان عليها، وما حصل له من القرب والتدانى فى مناجاته وسماع كلام ربه وغير ذلك من الأحوال التى يكل اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه ولا يباشره، فكان- صلى الله عليه وسلم- يتحدث مع عائشة أو يضطجع بالأرض حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة، أو جنس أصل الخلقة التى هى الأرض. ثم يخرج إليهم، وما ذاك إلا رفقا بهم، وكان بالمؤمنين رحيما. قاله ابن الحاج فى المدخل.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2865) فى الجنة وصفة نعيمها، باب: الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار، من حديث عياض بن حمار المجاشعى- رضى الله عنه-، بدون ذكر قصة الحديث. (2) صحيح: أخرجه ابن ماجة (2312) فى الأطعمة، باب: القديد، من حديث أبى مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (3) حسن: أخرجه أبو داود (4847) فى الأدب، باب: فى جلوس الرجل، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (121) فى الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج.

وقد جاء فى الحديث أنه لما خير بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا نظر- صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل كالمستشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، فاختار- صلى الله عليه وسلم- العبودية «1» ، فلما كان تواضعه- صلى الله عليه وسلم- إلى الأرض حيث أشار جبريل أورثه الله تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفرف الأعلى، إلى حضرة قاب قوسين أو أدنى، ووقف بين يديه محمود بن الربيع، وهو صغير ابن خمس سنين، فمج- صلى الله عليه وسلم- فى وجهه مجة من ماء من دلو يمازحه بها، فكان فى ذلك من البركة أنه لما كبر لم يبق فى ذهنه من ذكر رؤية النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا تلك المجة «2» ، فعد بها من الصحابة وحديثه مذكور فى البخارى. ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة وهو فى مغتسله، فنضح الماء فى وجهها، فكان فى ذلك من البركة فى وجهها أنه لم يتغير، فكان ماء الشباب ثابتا فى وجهها ظاهرا فى رونقها وهى عجوز كبيرة «3» . وحديثها مذكور فى البخارى. فقد علمت أنه- صلى الله عليه وسلم- كان مع أصحابه وأهله، ومع الغريب والقريب من سعة الصدر ودوام البشر وحسن الخلق والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه والمزح بالحق مع الصغير والكبير أحيانا، وإجابة الداعى ولين الجانب حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه. وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبا أو مستحبا أو مباحا، فكان يباسط الخلق ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته فى ظلمات دياجى الجهل، ويقتدوا بهديه- صلى الله عليه وسلم-. وقد كانت مجالسه مع أصحابه- رضى الله عنهم- عامتها مجالس تذكير بالله،

_ (1) هذه القصة ذكرها الهيثمى فى «المجمع» (9/ 18- 19) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- وقال: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى ورجال الأوليين رجال الصحيح. (2) صحيح: والحديث عند البخارى (189) فى الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس. (3) القصة ذكرها الحافظ فى الإصابة، أما حديثها فى البخارى فهو ليس سماعا، حيث ليس لها حديث مرفوع، بل كل أحاديثها بواسطة لصغر سنها.

وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما نفع فى الدين، كما أمره الله تعالى أن يذكر ويعظ ويقص، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر، فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقة القلوب، والزهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة، كما ذكره أبو هريرة فيما رواه أحمد والترمذى وابن حبان فى صحيحه قال: قلنا: يا رسول الله، ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا وزهدنا فى الدنيا وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك عافسنا أهلنا وشممنا أولادنا وأنكرنا أنفسنا. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لو أنكم إذا خرجتم من عندى كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة فى بيوتكم» «1» الحديث. وقوله: عافسنا: - بالعين المهملة بعد الألف فاء فسين مهملة ساكنة- أى: عالجنا أهلنا ولاعبناهم. ومن تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أنه ما عاب ذواقا قط، ولا عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه «2» رواه الشيخان. وهذا إن كان الطعام مباحا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه، وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، قال: لأن صنعة الله تعالى لا تعاب، وصنعة الآدميين تعاب. قال فى فتح البارى: والذى يظهر: التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع. قال النووى: ومن آداب الطعام المتأكدة: أن لا يعاب، كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ، رقيق، غير ناضج ونحو ذلك. ومن تواضعه: أن هذه الدنيا شاع سبها فى العالمين، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا الدنيا» «3» ، ثم مدحها فقال: «نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير،

_ (1) قلت: هو فى صحيح مسلم (2750) فى التوبة، باب: فضل دوام الذكر والفكر فى أمور الآخرة، من حديث حنظلة الأسيدى- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3563) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2064) فى الأشربة، باب: لا يعيب الطعام، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) أخرجه الديلمى وابن النجار عن ابن مسعود، كما فى «كنز العمال» (3029 و 6343) .

وبها ينجو من الشر» «1» . وقال: «لا تسبوا الدهر» ، رواه البخارى من حديث أبى هريرة بلفظ: «ولا تقولوا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر» «2» . وفى لفظ له: «يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر، بيدى الليل والنهار» وعند مسلم فى حديث بلفظ «لا يسب أحدكم الدهر» . ومحصل ما قيل فى تأويله، ثلاثة أوجه: أحدها: أن المراد بقوله: إن الله هو الدهر، أى: المدبر للأمور. ثانيها: أنه على حذف مضاف. أى: صاحب الدهر. ثالثها: التقدير: مقلب الدهر. ولذلك عقبه بقوله فى رواية البخارى: بيدى الليل والنهار. وقال المحققون: من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكن يكره ذلك لتشبهه بأهل الكفر فى الإطلاق. وما خير- صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه «3» . رواه البخارى. أى بين أمرين من أمور الدنيا لا إثم فيهما، وأبهم «فاعل» خير ليكون أعم، من قبل الله أو من قبل المخلوقين. وقوله: إلا اختار أيسرهما وقوله: ما لم يكن إثما: أى لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم فإنه حينئذ يختار الأشد. وفى حديث أنس عند الطبرانى فى الأوسط: إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط. ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح. ومن تواضعه- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن له بواب راتب، كما جاء عن أنس أنه قال: مر النبى- صلى الله عليه وسلم- بامرأة وهى تبكى عند قبر، فقال: «اتقى الله

_ (1) هو تتمة ما قبله. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6181 و 6182) فى الأدب، باب: لا تسبوا الدهر، ومسلم (2246) فى الألفاظ من الأدب، باب: النهى عن سب الدهر. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3560) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2327) فى الفضائل، باب: مباعدته- صلى الله عليه وسلم- للآثام واختياره من المباح أسهله، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

واصبرى» ، فقالت: إليك عنى فإنك خلو من مصيبتى، قال فجاوزها ومضى. فمر بها رجل فقال لها؛ ما قال لك رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: ما عرفته. قال: إنه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابا «1» . الحديث رواه البخارى. لكن فى حديث أبى موسى: أنه كان بوابا للنبى- صلى الله عليه وسلم- لما جلس على القف «2» . وجمع بينهما: بأنه- صلى الله عليه وسلم- إذا لم يكن فى شغل من أهله ولا انفراد من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة إليه. وفى حديث عمر حين استأذن له الأسود فى قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا، ففيه: أنه كان فى وقت خلوته بنفسه يتخذ بوابا، ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه ولم يحتج إلى قوله يا رباح استأذن لى. لكن يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشى أن يكون وجد عليه بسبب ابنته، فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلما أذن له اطمأن. وقد اختلف فى مشروعية الحجاب للحاكم. فقال الشافعى وجماعة: ينبغى أن يكون للحاكم أن لا يتخذ حاجبا. وذهب آخرون: إلى جوازه. وحمل الأول على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم، وقال آخرون: بل يستحب ذلك حينئذ ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل، ويدفع الشرير، والله أعلم. وأما ما روى من حيائه- صلى الله عليه وسلم-؛ فحسبك ما فى البخارى من حديث أبى سعيد: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء فى خدرها «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1283) فى الجنائز، باب: زيارة القبور، ومسلم (926) فى الجنائز، باب: فى الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3693) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشى العدوى- رضى الله عنه-، ومسلم (2403) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان بن عفان- رضى الله عنه-. وقف البئر: هو الدكة التى تجعل حولها. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3562) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2320) فى الفضائل، باب: كثرة حيائه- صلى الله عليه وسلم-.

والعذراء: هى البكر. والخدر: - بكسر الخاء المعجمة- أى فى سترها. وهو من باب التتميم، لأن العذراء فى الخدر يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجة عنه، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل بها. فالظاهر: أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها فى خدرها لا حيث تكون منفردة فيه. والحياء- بالمد- وهو من الحياء، ومنه: الحيا للمطر، لكن هو مقصور. وعلى حسب حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وكلما كان القلب حيّا كان الحياء أتم. وهو فى اللغة: تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشىء بسبب. والترك إنما هو من لوازمه. وفى الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير فى حق ذى الحق. وقال ذو النون: «الحياء وجود الهيبة فى القلب، مع وحشة ما يسبق منك إلى ربك، والحب ينطق والحياء يسكت، والخوف يقلق» . وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعا استخيا منه وهو مذنب. وهذا الكلام يحتاج إلى شرح ومعناه: أن من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى فى حال طاعته فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستحى خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحيا الله من نظره إليه فى تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحى أن يرى من وليه ما يشينه عنده. وفى الشاهد. شاهد بذلك، فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأقربهم منه، من صاحب أو ولد أو من يحبه، وهو يخونه، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياء عجيب حتى كأنه هو الجانى. وهذا غاية الكرم. وللحياء أقسام ثمانية يطول استقصاؤها. منها: حياء الكرم، كحيائه- صلى الله عليه وسلم- من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا عنده المقام، واستحيا أن يقول لهم انصرفوا «1» .

_ (1) القصة أخرجها البخارى (4793) فى التفسير، باب: قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ... ، ومسلم (1428) فى النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش- رضى الله عنها-، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

ومنها: حياء المحب من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه فى حال غيبته هاج الحياء من قلبه وأحس به فى وجهه، فلا يدرى ما سببه. ومنها: حياء العبودية، وهو حياء يمتزج بين محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجل منها، فعبوديته له توجب استيحاءه منه لا محالة. ومنها: حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون، فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتى كأن له نفسين، يستحى بإحداهما من الآخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحى من غيره أجدر. والحياء- كما قال- صلى الله عليه وسلم- «لا يأتى إلا بخير» «1» ، «وهو من الإيمان» «2» ، كما رواهما البخارى. قال القاضى عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان- وإن كان غريزة- لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم. وقال القرطبى: الحياء المكتسب هو الذى جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزى. غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، حتى يكاد يكون غريزيّا، وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- قد جمع له النوعان، فكان فى الغريزى أشد حياء من العذراء فى خدرها. وقال القاضى عياض: وروى عنه- صلى الله عليه وسلم-: كان من حيائه لا يثبت بصره فى وجه أحد. وأما خوفه- صلى الله عليه وسلم- ربه جل وعلا، فاعلم أن الخوف والوجل والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة. قال الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجارى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6117) فى الأدب، باب: الحياء، ومسلم (37) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-. (2) صحيح: وهو يشير إلى حديث «الإيمان بضع وسبعون شعبة..» ، والحديث أخرجه البخارى (9) فى الإيمان، باب: أمور الإيمان، ومسلم (35) فى الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

الأنفاس. وقيل الخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف. وقيل الخوف: قوة العلم بمجارى الأحكام، وهذا سبب الخوف، لا أنه نفسه. وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره. والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى: قال الله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «1» ، فهو خوف مقرون بمعرفة. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أتقاكم لله وأشدكم له خشية» «2» فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذى يرى العدو والسيل ونحوهما له حالتان: إحداهما حركة للهرب منه وهى حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره فى مكان لا يصل إليه وهى الخشية. وأما الرهبة: فهى الإمعان فى الهرب من المكروه، وهى ضد الرغبة التى هى سفر القلب فى طلب المرغوب فيه. وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته. وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما تكون مع المعرفة والمحبة. والإجلال: تعظيم مقرون بالحب. فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» «3» رواه البخارى، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» «4» رواه البخارى

_ (1) سورة فاطر: 28. (2) صحيح: أخرجه البخارى (20) فى الإيمان، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أعلمكم بالله» ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وأخرجه مسلم (1108) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: وقد تقدم تخريجه فى الحديث السابق. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1044) فى الكسوف، باب: الصدقة فى الكسوف، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها- وأخرجه البخارى (6485) فى الرقاق، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو تعلمون ما أعلم» من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

من حديث أبى هريرة، وفيه دلالة على اختصاصه- صلى الله عليه وسلم- بمعارف بصرية وقلبية. وقد يطلع الله تعالى عليها غيره من المخلصين من أمته لكن بطريق الإجمال، وأما تفصيلها فاختص بها- صلى الله عليه وسلم-. وفى صحيح مسلم من حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «والذى نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» قالوا: وما رأيت يا رسول الله قال: «رأيت الجنة والنار» «1» . فقد جمع الله له بين علم اليقين وعين اليقين مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا قال: «إن أتقاك وأعلمكم بالله أنا» «2» وهو فى الصحيح من حديث عائشة: وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء «3» رواه النسائى وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحه بلفظ: كأزيز الرحا، أى خنين من الخوف- بالخاء المعجمة- وهو صوت البكاء. وقيل: وهو أن يجيش جوفه ويغلى بالبكاء. وأما ما روى من شجاعته- صلى الله عليه وسلم- ونجدته وقوته فى الله وشدته، فعن أنس: (كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس) ، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- راجعا قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبى طلحة عرى والسيف فى عنقه وهو يقول: «لن تراعوا» . وفى رواية: كان فزع بالمدينة فاستعار النبى- صلى الله عليه وسلم- فرسا من أبى طلحة يقال له المندوب، فركب فلما رجع قال: «ما رأينا من شىء، وإن وجدناه

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (426) فى الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود. (2) صحيح: وقد تقدم قريبا. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (904) فى الصلاة، باب: البكاء فى الصلاة، والنسائى (3/ 13) فى السهو، باب: البكاء فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 25) ، وابن حبان فى «صحيحه» (665 و 753) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (900) من حديث عبد الله بن الشخير- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

لبحرا، أو إنه لبحر» . قال وكان فرسا يبطؤ «1» رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى. وللبخارى: إن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبى- صلى الله عليه وسلم- فرسا لأبى طلحة كان يقطف، أو فيه قطاف، فلما رجع قال: «وجدنا فرسكم ها بحرا» فكان بعد لا يجارى. وفى أخرى له: ثم خرج يركض وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال: «لن تراعوا إنه لبحر، فما سبق بعد ذلك اليوم» . قوله لن تراعوا: أى روعا مستقرا، أو روعا يضربكم. وفى هذا الحديث بيان شجاعته- صلى الله عليه وسلم- من شدة عجلته فى الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس. وفيه: بيان عظيم بركته ومعجزته فى انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان بطيئا وهو معنى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وجدناه بحرا» أى واسع الجرى. وكان فيه قطاف: يقال: قطف الفرس فى مشيه إذا تضايق خطوه وأسرع مشيه. قال القاضى عياض: وقد كان فى أفراسه- صلى الله عليه وسلم- فرس يقال له: مندوب، فلعله صار إليه بعد أبى طلحة. وقال النووى: يحتمل أنهما فرسان اتفقا فى الاسم. وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» . وذكر ابن إسحاق فى كتابه وغيره: أنه كان بمكة رجل شديد القوة يحسن الصراع وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم. فبينا هو ذات يوم فى شعب من شعاب مكة إذ لقيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له: «يا ركانة ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه» - أو كما قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له ركانة: يا محمد، هل من شاهد يدل على صدقك؟ قال:

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3908) فى الجهاد والسير، باب: الحمائل وتعليق السيف بالعنق، ومسلم (2307) فى الفضائل، باب: فى شجاعة النبى- عليه السّلام- وتقدمه للحرب، وأبو داود (4988) فى الأدب، باب: ما روى فى الرخصة فى ذلك، والترمذى (1687) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الخروج عند الفزع، وابن ماجه (2772) في الجهاد، باب: الخروج فى النفير. (2) صحيح: أخرجه الدارمى فى «سننه» (59) بسند صحيح.

«أرأيت إن صرعتك أتؤمن بالله ورسوله؟» قال: نعم يا محمد، فقال له: «تهيأ للمصارعة» قال: تهيأت، فدنا منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذه ثم صرعه، قال فتعجب ركانة من ذلك، ثم سأله الإقالة والعودة، ففعل به ذلك ثانيا وثالثا. فوقف ركانة متعجبا وقال: إن شأنك لعجيب «1» . رواه الحاكم فى مستدركه عن أبى جعفر محمد بن ركانة المصارع، ورواه أبو داود والترمذى وكذا البيهقى من رواية سعيد بن جبير. وقد صارع- صلى الله عليه وسلم- جماعة غير ركانة، منهم أبو الأسود الجمحى، كما قاله السهيلى. ورواه البيهقى، وكان شديدا بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة، ويجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المصارعة وقال: إن صرعتنى آمنت بك، فصرعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يؤمن وفى قصته طول. وفى البخارى من حديث البراء، وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين؟ فقال: فأكببنا على المغانم فاستقبلنا بالسهام. ولقد رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها وهو يقول: «أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» «2» . وهذا فى غاية ما يكون من الشجاعة التامة، لأنه فى مثل هذا اليوم فى حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة ليست بسريعة الجرى، ولا تصلح لكر ولا فر ولا هرب، ومع ذلك يركضها إلى وجوههم، وينوه باسمه ليعرفه من ليس يعرفه- صلوات الله وسلامه عليه-. وفى حديث البراء: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أى جعلناه قدامنا واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه.

_ (1) أخرجه أبو داود (4078) فى اللباس، باب: فى العمائم، والترمذى (1784) فى اللباس، باب: العمائم على القلانس، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 511) وأبو يعلى فى «مسنده» (1412) ، والطبرانى فى «الكبير» (5/ 71) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (2864) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (1776) فى الجهاد والسير، باب: غزوة حنين.

وأما ما ذكر من سخائه وجوده وكرمه، فاعلم أن السخاء صفة غريزية، وفى مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» فحكم بالفلاح لمن وقى الشح، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل فقال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «2» أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «3» والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين. وليس الشح من الآدمى بعجيب، لأنه جبلى فيه، وإنما العجب وجود السخاء فى الغريزة، والسخاء أتم وأكمل من الجود، وفى مقابلته البخل، وفى مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق انتهى الاكتساب بطريق العادة بخلاف الشح والسخاء إذ كان ذلك من ضرورة الغريزة، فكل سخى جواد وليس كل جواد سخيّا. والجود يتطرق إليه الرياء، ويأتى به الإنسان متطلعا لغرض من الخلق أو الحق بمقابلة من الثناء أو غير ذلك من الخلق والثواب من الله تعالى، ولا يتطرق الرياء إلى السخاء لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض. أشار إليه فى عوارف المعارف. وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس «4» رواه البخارى ومسلم من حديث أنس. وأجود: أفعل تفضيل، من الجود وهو إعطاء ما ينبغى لمن ينبغى، ومعناه: هو أسخى الناس، ولما كانت نفسه أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة لابد أن يكون فعله أحسن الأفعال، وشكله أملح الأشكال، وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شك يكون أجود الناس، وكيف لا وهو مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات. واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكلم، لأنها أمهات

_ (1) سورة الحشر: 9. (2) سورة البقرة: 3، وسورة الأنفال: 3، وسورة الحج: 35، وسورة القصص: 54، وسورة السجدة: 16، وسورة الشورى: 38. (3) سورة البقرة: 5. (4) صحيح: أخرجه البخارى (2820) فى الجهاد والسير، باب: الشجاعة فى الحرب والجبن، ومسلم (2307) فى الفضائل، باب: فى شجاعة النبى- صلى الله عليه وسلم- وتقدمه للحرب.

الأخلاق، فإن فى كل إنسان ثلاث قوى: إحداها الغضبية، وكمالها الشجاعة، وثانيها، الشهوانية وكمالها الجود، وثالثها العقلية وكمالها النطق بالحكمة. وفى رواية لمسلم عنه: ما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخاف الفقر «1» . وعنده أيضا عن صفوان بن أمية قال: لقد أعطانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أعطانى وإنه لمن أبغض الناس إلى، فما برح يعطينى حتى إنه لأحب الناس إلى «2» . قال ابن شهاب: أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة. وفى مغازى الواقدى: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- أعطى صفوان يومئذ واديا مملوآ إبلا ونعما، فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبى. ويرحم الله ابن جابر حيث قال: هذا الذى لا يتقى فقرا إذا ... يعطى ولو كثر الأنام وداموا واد من الأنعام أعطى آملا ... فتحيرت لعطائه الأوهام وإنما أعطاه ذلك لأنه- صلى الله عليه وسلم- علم أن داءه لا يزول إلا بهذا الدواء وهو الإحسان فعالجه به حتى برئ من داء الكفر وأسلم، وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته- صلى الله عليه وسلم- إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حر النيران إلى برد لطف الجنان. وكان على إذا وصفه- صلى الله عليه وسلم- قال: كان أجود الناس كفّا، وأصدق الناس لهجة. وخرج ابن عدى- بإسناد فيه ضعف- من حديث أنس مرفوعا: «أنا أجود بنى آدم» «3» . فهو- صلى الله عليه وسلم- بلا ريب أجود بنى آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم فى جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2312) فى الفضائل، باب: ما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا قط فقال: لا، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2313) فيما سبق. (3) إسناده ضعيف: أخرجه ابن عدى فى «الكامل» (1/ 357) .

بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله فى إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولقد أحسن ابن جابر حيث قال: يروى حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومنسجم من وجه أحمد لى بدر ومن يده ... بحر ومن فمه در لمنتظم يمم نبيّا تبارى الريح أنمله ... والمزن من كل هام الودق مرتكم لو عامت الفلك فيما فاض من يده ... لم تلق أعظم بحر منه إن تعم تحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودع كل طامى الموج ملتطم لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وروت قلب كل ظمى فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحاب من غمائم يمينه. روى البخارى من حديث جابر: (ما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن شىء قط فقال: لا) «1» وكذا عند مسلم، أى ما طلب منه شىء من أمر الدنيا فمنعه: قال الفرزدق: ما قال لا قط إلا فى تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل ابن حجر: ليس المراد أنه يعطى ما يطلب منه جزما، بل المراد: أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه إن كان الإعطاء سائغا وإلا سكت. قال: وقد ورد بيان ذلك فى حديث مرسل لابن الحنيفة عند ابن سعد ولفظه: إذا سئل فأراد أن يفعل قال: نعم، وإن لم يرد أن يفعل سكت. وهو قريب من حديث أبى هريرة؛ ما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه: لم يقل: لا، منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما فى قوله تعالى: قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ «2» ، ولا يخفى الفرق بين

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6034) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (2311) فى الفضائل، باب: ما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا قط فقال: لا. (2) سورة التوبة: 92.

قوله: لا أجد ما أحملكم وبين لا أحملكم انتهى. وهو نظير ما فى حديث أبى موسى الأشعرى: لما سأله الأشعريون الحملان فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ما عندى ما أحملكم» «1» . لكن يشكل عليه أنه- صلى الله عليه وسلم- حلف لا يحملهم فقال: «والله لا أحملكم» «2» فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر، ما إذا سئل ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضى الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة، فلو اقتصر فى جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلا، ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر فى الجمع بين قوله: «لا أجد ما أحملكم» وقوله: «والله لا أحملكم» أن الأول لبيان أن الذى سئله لم يكن موجودا عنده، والثانى أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب، إذ لا اضطرار حينئذ، وروى الترمذى أنه حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منها. قال: وجاءه رجل فقال ما عندى شىء ولكن ابتع على، فإذا جاءنا شىء قضيناه، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر، فكره النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذى العرش إقلالا، فتبسم- صلى الله عليه وسلم- وعرف البشر فى وجهه. وقال: «بهذا أمرت» «3» . وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك كالاستئلاف ونحوه.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3133) فى الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ومسلم (1649) فى الإيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها. (2) صحيح: وهو جزء مما قبله. (3) أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (281) .

وذكر ابن فارس فى كتابه «فى أسماء النبى- صلى الله عليه وسلم-» أنه فى يوم حنين جاءت امرأة فأنشدت شعرا تذكره أيام رضاعته فى هوازن فرد عليهم ما أخذ وأعطاهم عطاء كثيرا حتى قوّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف. قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذى لم يسمع بمثله فى الوجود. وفى البخارى من حديث أنس: أنه أتى بمال من البحرين فقال: «انثروه» - يعنى صبوه- فى المسجد، وكان أكثر مال أتى به النبى- صلى الله عليه وسلم-، فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فقال: أعطنى، فإنى فاديت نفسى وفاديت عقيلا، فقال له «خذ» ، فحثا فى ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إلى، قال: لا، قال: فارفعه أنت على، قال: لا، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه على، قال: لا، قال: فارفعه أنت قال: لا، ثم نثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله فانطلق، فما زال النبى- صلى الله عليه وسلم- يتبعه بصره حتى خفى علينا من حرصه، فما قام- صلى الله عليه وسلم- وثم منها درهم «1» . وفى رواية ابن أبى شيبة من طريق حميد بن هلال مرسلا: كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمى من خراج البحرين، قال: وهو أول مال حمل إليه- صلى الله عليه وسلم-. وسايره جابر على حمل له، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «بعنى جملك» فقال: هو لك يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، فقال: «بل بعنيه» فباعه إياه وأمر بلالا أن ينقده ثمنه فنقده، ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «اذهب بالثمن والجمل بارك الله فيهما» «2» . مكافأة لقوله: هو لك، فأعطاه الثمن ورد عليه الجمل وزاده الدعاء بالبركة فيهما. وحديثه فى البخارى ومسلم وغيرهما.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى فى المساجد، باب: القسمة وتعليق القنو فى المسجد تعليقا. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2718) فى الشروط، باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، ومسلم (715) فى المساقاة، باب: بيع البعير واستثناء ركوبه.

وقد كان جوده- صلى الله عليه وسلم- كله لله وفى ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج وتارة ينفقه فى سبيل الله، وتارة يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه. وكان يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطى عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش فى نفسه عيش الفقراء، فيأتى عليه الشهر والشهران لا توقد فى بيته تار، وربما ربط الحجر على بطنه الشريفة من الجوع. وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أتاه سبى، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت وطلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد، وقال: «لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع» «1» . وأتته امرأة ببردة فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه، فأخذها- صلى الله عليه وسلم- محتاجا إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسنيها فقال: «نعم» فلما قام- صلى الله عليه وسلم- لامه أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- أخذها محتاجا إليها ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل فيمنعه «2» . رواه البخارى من حديث سهل بن سعد. وفى رواية ابن ماجه والطبرانى قال: نعم، فلما دخل طواها وأرسل بها إليه. وأفاد الطبرانى فى رواية زمعة بن صالح أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر أن يصنع له غيرها فمات قبل أن يفرغ منها. وفى هذا الحديث من الفوائد: حسن خلقه- صلى الله عليه وسلم- وسعة جوده. واستنبط منه السادة الصوفية: جواز استدعاء المريد خرقة التصوف من المشايخ تبركا بهم وبلباسهم، كما استدلوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- ألبس أم خالد خميصة سوداء ذات علم «3» رواه البخارى.

_ (1) صحيح: وأصل القصة عند البخارى (3113) فى الخمس، باب: الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمساكين، ومسلم (2727) فى الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6036) فى الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء. (3) صحيح: حديث أم خالد أخرجه البخارى (5823) فى اللباس، باب: الخميصة السوداء.

لكن قال شيخنا: ما يذكرونه من أن الحسن البصرى لبسها من على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، فقال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر ليس فى شىء من طرقها ما يثبت، ولم يرد فى خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أنه- صلى الله عليه وسلم- ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحا فى ذلك فباطل. قال: ثم إن من الكذب المفترى قول من قال: إن عليّا ألبس الخرقة الحسن البصرى، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من على سماعا فضلا عن أن يلبسه الخرقة. وكذا قال الدمياطى والذهبى والعلاء ومغلطاى والعراقى والأبناسى والحلبى وغيرهم مع كون جماعة منهم لبسوها وألبسوها تشبها بالقوم، نعم ورد لبسهم لها مع الصحبة له المتصلة إلى كميل بن زياد، وهو صحب على ابن أبى طالب- رضى الله عنه- من غير خلف فى صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل. وفى بعض الطرق اتصالها بأويس القرنى، وهو اجتمع بعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب- رضى الله عنهما-. وهذه صحبة لا مطعن فيها، وكثير من السادة يكتفى بمجرد الصحبة كالشاذلية وشيخنا أبى إسحاق المتبولى. وكان الشيخ يوسف العجمى يجمع بين تلقين الذكر وأخذ العهد واللبس وله فى ذلك رسالته «ريحان القلوب» قرأتها على ولد ولده العارف المسلك سيدى على، مع إلباسه لى الخرقة والتلقين والعهد. وللشيخ قطب الدين القسطلانى «ارتقاء الرتبة فى اللباس والصحبة» والله يهديناا إلى سواء السبيل.

الفصل الثالث فيما تدعو ضرورته إليه صلى الله عليه وسلم من غذائه وملبسه ومنكحه وما يلحق بذلك

الفصل الثالث فيما تدعو ضرورته إليه صلى الله عليه وسلم من غذائه وملبسه ومنكحه وما يلحق بذلك وفيه أربعة أنواع: النوع الأول فى عيشه صلى الله عليه وسلم فى المأكل والمشرب اعلم أن تناول الطعام أصل كبير، يحتاج إلى علوم كثيرة، لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية، وتعلق أثره بالقلب والقالب، وبه قوام البدن بإجراء سنة الله تعالى بذلك، والقالب مركب القلب، وبهما عمارة الدنيا والآخرة، والقالب بمفرده على طبيعة الحيوان يستعان به على عمارة الدنيا، والروح والقلب على طبيعة الملائكة يستعان بهما على عمارة الآخرة، وباجتماعهما يصلحان لعمارة الدارين. قال الغزالى: ولا طريق إلى الوصول إلى اللقاء إلا بالعلم والعمل، ولا يمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات، والتناول منها بقدر الحاجات، على تكرار الأوقات. فمن هذا الوجه، قال بعض السلف الصالحين: إن الأكل من الدين، وعليه نبه رب العالمين بقوله، وهو أصدق القائلين: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً «1» ، فمن تناول الأكل ليستعين به على العلم والعمل، ويقوى به على التقوى فلا ينبغى أن يترك نفسه سدى يسترسل فى الأكل استرسال البهائم فى المرعى، فإنما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه، ينبغى أن تظهر أنوار الدين عليه، وإنما

_ (1) سورة المؤمنون: 51.

نور الدين وآدابه وسننه، التى يزم العبد بزمامها، ويلجم المتقى بلجامها، حتى يزن بميزان الشرع، شهوة الطعام فى إقدامها وإحجامها، فيصير بسببها مدفعة للوزر ومجلبة للأجر. واعلم أن الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول، وقد روى النسائى وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معدى كرب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه، حسب الآدمى لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمى نفسه فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» «1» . قال القرطبى فى شرح «الأسماء» كما نقله شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر: لو سمع بقراط بهذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. وقال غيره: إنما خص الثلاثة بالذكر لأنها أسباب حياة الحيوان، ولأنه لا يدخل البطن سواها. وهل المراد بالثلث التساوى على ظاهر الخبر، أو التقسيم على ثلاثة أقسام متقاربة؟ محل احتمال. وقد صح، (المؤمن يأكل فى معى واحد- وهى بكسر الميم مقصور: المصارين- والكافر يأكل فى سبعة أمعاء) «2» وليست حقيقة العدد مرادة، وتخصيص السبعة للمبالغة فى التكثير، والمعنى: أن المؤمن من شأنه التقلل من الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما سد الجوع، ويعين على العبادة، ولخشيته أيضا من حساب من زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك. وعند أهل التشريح أن أمعاء الإنسان سبعة؛ المعدة ثم ثلاثة أمعاء بعدها

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (2380) فى الزهد، باب: ما جاء فى كراهية كثرة الأكل، وابن ماجه (3349) فى الأطعمة، باب: الاقتصاد فى الأكل وكراهة الشبع، وأحمد فى «المسند» (4/ 132) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5236) ، والحاكم فى «مستدركه» (4/ 367) ، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5674) : صحيح. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5393- 5395) فى الأطعمة، باب: المؤمن يأكل فى معى واحد، ومسلم (2060 و 2061) فى الأشربة، باب: المؤمن يأكل فى معى واحد، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

متصلة بها: البواب ثم الصائم ثم الرقيق، والثلاثة رقاق. ثم الأعور والقولون والمستقيم وطرفه الدبر، وكلها غلاظ، وقد نظمها زين الدين العراقى فى قوله: سبعة أمعاء لكل آدمى ... معدة بوابها مع صائم ثم الرقيق أعور قولون مع ... المستقيم مسلك المطاعم فيكون المعنى: أن الكافر لكونه يأكل بشراهة لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء معى واحد. ولا يلزم من هذا الحديث اطراده فى حق كل مؤمن وكافر، فقد يكون فى المؤمنين من يأكل كثيرا، إما بحسب العادة أو لعارض له من مرض باطن أو لغير ذلك. ويكون فى الكفار من يأكل قليلا إما لمراعاة الصحة على رأى الأطباء، وإنما للرياضة على رأى الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة. ومحصل القول إن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والاقتناع بالبلغة، بخلاف الكافر. وقيل: المراد أن المؤمن يسمى الله عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل بخلاف الكافر. وقيل: المراد بالمؤمن- فى هذا الحديث- التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده، فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوته كما ورد فى حديث لأبى أمامة رفعه: «من كثر تفكره قل مطعمه، ومن قل تفكره كثر مطعمه، وقسا قلبه» وقالوا: لا تدخل الحكمة معدة ملئت طعاما، ومن قل طعامه قل شربه وخف منامه، ومن خف منامه ظهرت بركة عمره، ومن امتلأ بطنه كثر شربه، ومن كثر شربه ثقل نومه، ومن ثقل نومه محقت بركة عمره، فإذا اكتفى بدون الشبع حسن اغتذاء بدنه، وصلح حال نفسه وقلبه، ومن تملأ من الطعام ساء غذاء بدنه وأشرت نفسه وقسا قلبه.

وعن ابن عباس قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن أهل الشبع فى الدنيا هم أهل الجوع غدا فى الآخرة» «1» رواه الطبرانى. وعن سلمان وأبى جحيفة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أكثر الناس شبعا فى الدنيا أطولهم جوعا فى الآخرة» «2» . وقالت عائشة: لم يمتلئ جوف النبى- صلى الله عليه وسلم- شبعا قط. وإنه كان فى أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب. وقولها: لم يمتلئ جوف النبى- صلى الله عليه وسلم- شبعا قط، محمول على الشبع الذى يثقل المعدة ويثبط صاحبه عن القيام بالعبادة، ويفضى إلى البطر والأشر والنوم والكسل، وقد تنتهى كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة، وليس المراد بالشبع النسبى المعتاد فى الجملة، ففى صحيح مسلم: خروجه- صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه من الجوع، وذهابهم إلى بيت الأنصارى، وذبحه الشاة «3» . وفيه: فلما أن شبعوا ورووا. قال النووى: فيه جواز الشبع، وما جاء فى كراهته محمول على المداومة عليه. وعن أبى هريرة قال: ما شبع آل محمد- صلى الله عليه وسلم- من طعام ثلاثة أيام تباعا حتى قبض «4» . رواه الشيخان.

_ (1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (11/ 267) وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 250، 251) وقال: فيه يحيى بن سليمان الحفرى، وقد تقدم الكلام عليه، وبقية رجاله ثقات. اه. قلت: وقال فى (10/ 249) : أما يحيى فقد ذكر الذهبى فى الميزان فى آخر ترجمة يحيى ابن سليمان الجعفى فقال: فأما سميه يحيى بن سليمان الحفرى فما علمت به بأسا، ثم ذكر بعده يحيى بن سليمان القرشى، قال أبو نعيم: فيه مقال، وذكره ابن الجوزى، فإن كانا اثنين فالحفرى ثقة. (2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (6/ 236 و 268) من حديث سلمان- رضى الله عنه- و (22/ 126 و 132) من حديث أبى جحيفة- رضى الله عنه-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 31) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بأسانيد وفى أحد أسانيد الكبير محمد بن خالد الكوفى ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. (3) صحيح: وسيأتى بتمامه بعد قليل. (4) صحيح: أخرجه البخارى (5374) فى الأطعمة، باب: قول الله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، ومسلم (2976) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) .

وعن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبيت الليالى المتتابعة وأهله طاويا لا يجدون عشاء، وإنما كان خبزهم الشعير «1» . رواه الترمذى وصححه. وفى حديث مسعر عند مسلم: «ما شبع آل محمد يومين من خبز البر، إلا وأحدهما تمر» «2» . وأخرج ابن سعد من طريق عمران بن زيد المدنى: حدثنى والدى قال: دخلنا على عائشة فقالت: خرج- تعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- من الدنيا ولم يملأ بطنه فى يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير، وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر «3» . وليس فى هذا ما يدل على ترك الجمع بين لونين، فقد جمع- صلى الله عليه وسلم- القثاء والرطب كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. وعن الحسن قال: خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «والله ما أمسى فى آل محمد صاع من طعام، وإنها لتسعة أبيات» والله ما قالها استقلالا لرزق الله ولكن أراد أن تتأسى به أمته. رواه الدمياطى فى السيرة له. وعن عائشة قالت: كان يعجب نبى الله- صلى الله عليه وسلم- من الدنيا ثلاثة أشياء: الطيب والنساء والطعام، فأصاب اثنتين ولم يصب واحدة، أصاب النساء والطيب، ولم يصب الطعام. ذكره الدمياطى أيضا. وفى رواية مسلم: «يظل اليوم يلتوى ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه» «4» .

_ (1) حسن: أخرجه الترمذى (2360) فى الزهد، باب: ما جاء فى معيشة النبى- صلى الله عليه وسلم- وأهله، وابن ماجه (3347) فى الأطعمة، باب: خبز الشعير، والطبرانى فى «الكبير» (11/ 328) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4895) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2971) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، ومسعر هذا أحد رواته. (3) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (1/ 405) . (4) صحيح: أخرجه مسلم (2977) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) ، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-.

وقالت عائشة: إن كنا آل محمد نمكث شهرا ما نستوقد بنار، إن هو إلا الماء والتمر «1» . وقال عتبة بن غزوان: لقد رأيتنى- وإنى لسابع سبعة- مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما لنا طعام إلا ورق السمر حتى تقرحت أشداقنا «2» . وفى البخارى ومسلم: كانت عائشة تقول لعروة: والله يا ابن أختى، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة فى شهرين وما أوقد فى أبيات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نار، قال: قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء، إلا أنه كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ألبانها فيسقيناه «3» . ولمسلم أيضا: قالت: لقد مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما شبع من خبز وزيت فى يوم واحد مرتين «4» . وقال أنس: ما أعلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه حتى لحق بالله «5» . رواه البخارى. والمرقق: الملين المحسن كخبز الحوارى وشبهه، والترقيق: التليين، ولم يكن عندهم مناخل، وقد يكون المرقق: الرقيق الموسع، قاله القاضى عياض. وجزم به ابن الأثير فقال: وهو السميد وما يصنع من كعك وغيره، وقال ابن الجوزى: هو الخفيف. كأنه أخذه من الرقاق وهى الخشبة التى يرقق بها. والحوارى: - بضم المهملة وتشديد الواو وفتح الراء- الخالص الذى ينخل مرة بعد أخرى.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2972) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2967) فى كتاب الزهد والرقائق، باب: رقم (1) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (2567) فى الهبة، باب: فضلها والتحريض عليها، ومسلم (2972) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) . (4) صحيح: أخرجه مسلم (2974) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) . (5) صحيح: أخرجه البخارى (5421) فى الأطعمة، باب: شاة مسموطة.

وقوله: ولا شاة سميطا: هو الذى أزيل شعره بالماء السخن وشوى بجلده، وإنما يصنع ذلك فى الصغير السن، وهو من فعل المترفهين من وجهين: أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقى لازداد ثمنه، وثانيهما: أن المسلوخ ينتفع بجلده فى اللبس وغيره. والسمط يفسده، وقد جرى ابن بطال وابن الأثير على أن المسموط هو المشوى، لكن الثانى ذكر أن أصله نزع صوفه بالماء الحار كما تقدم، قال: وإنما يفعل ذلك فى الغالب ليشوى. ولعله يعنى: أنه لم يرد السميط فى مأكوله، وإلا فإن لم يكن معهودا فلا تمدح. وعن أبى حازم أنه سأل سهلا: هل رأيتم فى زمان النبى- صلى الله عليه وسلم- النقى؟ قال: لا، فقلت: كنتم تنخلون الشعير؟ قال: لا، ولكن كنا ننفخه «1» . رواه البخارى. وفى رواية له: هل كانت لكم فى عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مناخل؟ فقال: ما رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- منخلا من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله «2» . قال شيخ الإسلام ابن حجر: أظنه احترز عما قبل البعثة، لكونه- صلى الله عليه وسلم- كان يسافر فى تلك المدة إلى الشام تاجرا، وكانت الشام إذ ذاك مع الروم، والخبز النقى عندهم كثير، وكذا المناخل وغيرها من آلات الترفه، ولا ريب أنه رأى ذلك عندهم، وأما بعد البعثة فلم يكن إلا بمكة والطائف والمدينة، ووصل إلى تبوك وهى من أطراف الشام لكن لم يفتحها ولا طالت إقامته بها. انتهى. وقد تتبعت هل كانت أقراص خبزه صغارا أم كبارا؟ فلم أجد فى ذلك

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5410) فى الأطعمة، باب: النفخ فى الشعير. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5413) فى الأطعمة، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يأكلون.

شيئا بعد التفتيش. نعم روى أمره بتصغيرها فى حديث عند الديلمى عن عائشة رفعته بلفظ: «صغروا الخبز وأكثروا عدده يبارك لكم فيه» «1» ، وهو واه، بحيث ذكره ابن الجوزى فى الموضوعات وقال: إن المتهم به جابر بن سليم. وروى عن ابن عمر مرفوعا: «البركة فى صغر القرص» «2» ، ونقل عن النسائى أنه كذب. لكن روى البزار بسند ضعيف عن أبى الدرداء مرفوعا. «قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه» «3» قال فى النهاية: وحكى عن الأوزاعى أنه تصغير الأرغفة، كذا حكى البزار عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن بعض أهل العلم: أنه تصغير الأرغفة. أشار إلى ذلك شيخنا فى المقاصد الحسنة. ولعل هذا سند شيخى وقدوتى وإنسان عين بصيرتى العارف الربانى رهان العارفين أبى إسحاق إبراهيم المتبولى فى تصغير أرغفة سماطه كالشيخ أبى العباس أحمد البدوى «4» والسادات إكسير معارف السعادات أولى المواهب

_ (1) موضوع: أخرجه الأزدى فى الضعفاء والإسماعيلى فى معجمه، كما فى «الجامع الصغير» (4998) ، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (3472) : موضوع. (2) موضوع: أخرجه أبو الشيخ ابن حبان فى الثواب عن ابن عباس، والسلفى فى الطوريات عن ابن عمر، كما فى «الجامع الصغير» (3203) ، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2372) : موضوع. (3) ضعيف: أخرجه الطبرانى عن أبى الدرداء، كما فى «ضعيف الجامع» (4117) . (4) قلت: الثابت عنه من كتب السير أنه كان يأتى بأفعال المجاذيب، ومما يؤسف له أن كل من أتى بفعل من أفعال المجاذيب، اعتبره الناس وليّا، وأقاموا له ضريحا بعد وفاته، يطوفون به، وينذرون له، ويستغيثون به، وكلها أفعال شركية، لا يصح للمسلم الإتيان بها، ومن أراد معرفة الولاية الحقيقية فلينظر فى سيرة أنبياء الله، فى خلق الله، الذين أمرنا باتباعهم، والهدى على سيرهم، وكذلك صحابتهم الكرام والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، ويكفى أن يعرف عن هؤلاء المجاذيب أنه لم يعرف لهم صلاة ولا صيام ولا حج ولا درس علم ولا فقه عنهم منتشر كالأئمة الأربعة مثلا، ولا أعلم على أى شىء اعتبرهم الناس أولياء، أو عارفين بالله، وهل العارف بالله من يترك الصلاة، أو الصيام أو غيرها من العبادات، بل والنكاح الذى هو من سنن المرسلين، سبحانك ما هذا إلا بهتان عظيم، بل ومما يؤسف له أن بعضهم كأحمد البدوى مثلا ترك الجهاد فى سبيل-

العلية والحقائق المحمدية بنى الوفاء أعاد الله من بركاتهم وواصل إمداداتهم إلينا. وعن عائشة قالت: توفى- صلى الله عليه وسلم- وليس عندى شىء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير فى رف لى، فأكلت منه حتى طال على فكلته ففنى «1» رواه البخارى ومسلم. وعندهما أيضا قالت: توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودى فى ثلاثين صاعا من شعير «2» . وقال ابن عباس: ودرعه مرهونة بعشرين صاعا من طعام أخذه لأهله. رواه الترمذى «3» . وعن أبى هريرة قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فإذا هو بأبى بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: «وأنا والذى نفسى بيده لآخرجنى الذى أخرجكما» فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس فى بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها- صلى الله عليه وسلم-: «أين فلان؟» قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، إذ جاء الأنصارى، فنظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا منى. قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر

_ - الله ضد أعداء الله حينما أغاروا على بلاد المسلمين واستباحوا بيضتهم ولم يحرك ساكنا، بل دعا الناس إلى ترك جهادهم!! بحجة أنهم قدر الله، ولو عرف هذا قدر الله حقّا لأمر بمدافعة قدر الله بالأسباب المشروعة، ورحم الله عمر حينما أراد دخول الشام، فعلم أن فيها وباء فامتنع عن الدخول، فقيل له: أتفر من قدر الله، فقال: بل نفر من قدر الله إلى قدر الله، وما هذا منه إلا أخذا بالأسباب المشروعة، وغير ذلك كثير، والله المستعان. (1) صحيح: أخرجه البخارى (3097) فى الخمس، باب: نفقة نساء النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، ومسلم (2973) فى الزهد والرقائق، باب: رقم (1) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (2916) فى الجهاد والسير، باب: ما قيل فى درع النبى- صلى الله عليه وسلم-. ومسلم (1603) فى الجهاد والسير. (3) أخرجه الترمذى (1214) فى البيوع، باب: ما جاء فى الرخصة فى الشراء إلى أجل.

ورطب، فقال: كلوا، وأخذ المدية فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إياك والحلوب» فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال- صلى الله عليه وسلم- لأبى بكر وعمر: «والذى نفسى بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم» «1» رواه مسلم وغيره. وهذا السؤال سؤال تشريف وإنعام وتعديد فضل وإكرام. وعن طلحة بن نافع أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيدى ذات يوم إلى منزله فأخرج إليه فلق من خبز، فقال: «ما من أدم؟» فقالوا: لا، إلا شىء من خل، قال: «نعم الأدم الخل» . قال جابر: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبى الله- صلى الله عليه وسلم- وقال طلحة: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر «2» . رواه مسلم. وروى عن ابن بجير قال: أصاب النبى- صلى الله عليه وسلم- جوع يوما، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال: «ألا رب نفس الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم» «3» رواه ابن أبى الدنيا. وعن أنس عن أبى طلحة قال: شكونا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن بطنه عن حجرين «4» ، قال الترمذى: هذا حديث غريب من حديث أبى طلحة لا نعرفه

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2038) فى الأشربة، باب: جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2052) فى الأشربة، باب: فضيلة الخل. (3) ضعيف جدّا: أخرجه ابن سعد والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى «ضعيف الجامع» (2181) . (4) ضعيف: أخرجه الترمذى (2371) فى الزهد، باب: ما جاء فى معيشة أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

إلا من هذا الوجه. ومعنى قوله: ورفعنا عن بطوننا عن حجر. قال: كان أحدهم يشد فى بطنه الحجر من الجهد والضعف الذى به من الجوع. وقصة جابر- يوم الخندق- حين رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق، وقد قام إلى الكدية وبطنه معصوب بحجر. وتقدمت، وما أحسن قول الأبوصيرى: وشد من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحا مترف الأدم والكشح: كما ذكرته فى شرح هذه القصيدة، ما بين خاصرته الشريفة وأقصر ضلع من جنبه الشريف، وإنما فعل هذا- صلى الله عليه وسلم- ليسكن بعض ألم الجوع، وإنما كان هذا الفعل مسكنا لأن كلب الجوع من شدة حرارة المعدة الغريزية، فهى إذا امتلأت من الطعام اشتغلت تلك الحرارة بالطعام، فإذا لم يكن فيها طعام طلبت رطوبات الجسم وجواهره، فيتألم الإنسان بتلك الحرارة فتتعلق بكثير من جواهر البدن، فإذا انضمت على المعدة الأحشاء والجلد خمدت نارها بعض الخمود فقل الألم. وإنما تألمه بالجوع ليحصل به تضعيف الأجر مع حفظ قوته ونضارة جسمه، حتى إن من رآه لا يظن أن به جوعا، لأن جسمه- صلى الله عليه وسلم- إنما كان يرى أشد نضارة من أجسام المترفين بالنعم فى الدنيا. وهذا المعنى هو الذى قصده الناظم بقوله «مترف الأدم» وهو من باب الاحتراس والتكميل، لأنه لما ذكر أنه شد من سغب. خاف أن يتوهم أن جسمه الشريف حينئذ يظهر فيه أثر الجوع فاحترس ورفع ذلك الإبهام بقوله: مترف الأدم. وقد أنكر أبو حاتم بن حبان أحاديث وضع الحجر على بطنه الشريف من الجوع، وقال: إنها باطلة، متمسكا بحديث الوصال «لست كأحدكم إنى

أطعم وأسقى» «1» قال: وإنما معناه: الحجز، بالزاى وهو طرف الإزار، لأن الله تعالى قد كان يطعم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويسقيه إذا واصل، فكيف يحتاج إلى شد الحجر على بطنه؟ وما يغنى الحجر عن الجوع. انتهى. وقال بعضهم: يجوز أن يكون عصب الحجر لعادة العرب أو أهل المدينة أنهم يفعلون ذلك إذا خلت أجوافهم وغارت بطونهم يشدون عليها حجرا ففعل- صلى الله عليه وسلم- ذلك ليعلم أصحابه أنه ليس عنده ما يستأثر به عليهم. والصواب: صحة الأحاديث، وأنه- صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك اختيارا للثواب.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1961) فى الصوم، باب: الوصال، ومسلم (1104) فى الصيام، باب: النهى عن الوصال فى الصوم، وابن حبان فى «صحيحه» (3579) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وقال ابن حبان هذا الكلام عقب الحديث السابق.

وقد استشكل كونه- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعا، مع ما ثبت أنه كان يرفع لأهله قوت سنة، وأنه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير مما أفاء الله عليه، وأنه ساق فى عمرته مائة بدنة فنحرها وأطعمها المساكين، وأنه أمر لأعرابى بقطيع من الغنم، وغير ذلك، مع من كان معه من أصحاب الأموال كأبى بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه. وقد أمر بالصدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه، وحث على تجهيز جيش العسرة فجهزهم عثمان بألف بعير إلى غير ذلك. وأجاب عنه الطبرى- كما حكاه فى فتح البارى- أن ذلك كان منهم فى حالة دون حالة لا لعوز وضيق، بل تارة للإيثار وتارة لكراهة الشبع وكثرة الأكل، انتهى. وتعقب: بأن ما نفاه مطلقا فيه نظر لما تقدم من الأحاديث وأخرج ابن حبان فى صحيحه عن عائشة: «من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم» «1» ، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئا من التمر والودك إلى غير ذلك. قال الحافظ ابن حجر: والحق أن الكثير منهم كانوا فى حال ضيق قبل الهجرة، حيث كانوا بمكة ثم لما هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل والمنائح، فلما فتحت لهم النضير وما بعدها ردوا عليهم منائحهم كما تقدم. وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «لقد أخفت فى الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت على ثلاثون من يوم وليلة ما لى ولبلال طعام يأكله أحد إلا شىء يواريه إبط بلال» «2» . رواه الترمذى وصححه.

_ (1) إسناده قوى: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (684) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (2472) فى صفة القيامة والرقائق والورع، وابن ماجه (151) فى المقدمة، باب: فى فضائل أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

نعم كان- صلى الله عليه وسلم- يختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط فى الدنيا له، كما أخرج الترمذى من حديث أبى أمامة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عرض على ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا، يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» «1» وحكمة هذا التفصيل الاستلذاذ بالخطاب، وإلا فالله تعالى عالم بالأشياء جملة وتفصيلا. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وجبريل على الصفا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا جبريل والذى بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق، ولا كف من سويق» ، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمر الله القيامة أن تقوم؟ قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه إسرافيل فقال: إن الله سمع ما ذكرت فبعثنى إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرنى أن أعرض عليك أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فإن رضيت فعلت، فإن شئت نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا، فأومأ إليه جبريل أن تواضع فقال: بل نبيّا عبدا ثلاثا» «2» ، رواه الطبرانى بإسناد حسن. فانظر إلى همته العلية كيف عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها، ومعلوم أنه لو أخذها لأنفقها فى طاعة ربه، فأبى ذلك واختار العبودية المحضة، فيا لها من همة شريفة رفيعة ما أسناها ونفس زكية كريمة ما أبهاها، ولله در صاحب بردة المديح حيث قال: وراودته الجبال الشم من ذهب ... عن نفسه فأراه أيما شمم وأكدت زهده فيها ضرورته ... إن الضرورة لا تعدو على العصم وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (2347) فى الزهد، باب: ما جاء فى الكفاف والصبر عليه، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (2) قلت: انظر «مجمع الزوائد» (9/ 19، 20) .

أى كيف تدعو ضرورة سيد المعصومين إلى زخرف الدنيا، وهى وما فيها إنما برزت لأجله، فكيف يضطر إليها. لكن فى كلامه شىء، فإنه فى مقام المديح فلا يليق منه الوصف بالزهد ولا بالضرورة. قال الحليمى فى شعب الإيمان: من تعظيم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن لا يوصف بما هو عند الناس من أوصاف الضعة، فلا يقال كان فقيرا. وأنكر بعضهم إطلاق الزهد فى حقه- صلى الله عليه وسلم-. وقد حكى صاحب «نثر الدر» عن محمد بن واسع أنه قيل له: فلان زاهد، قال: وما قدر الدنيا حتى يزهد فيها. وقد ذكر القاضى عياض فى الشفاء، ونقله عنه الشيخ تقى الدين السبكى فى كتابه «السيف المسلول» أن فقهاء الأندلس أفتوا بقتل حاتم المتفقه الطليطلى وصلبه لاستخفافه بحق النبى- صلى الله عليه وسلم- وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم، وزعمه أن زهده لم يكن قصدا، ولو قدر على الطيبات لأكلها. انتهى. وقد ذكر الشيخ بدر الدين الزركشى عن بعض الفقهاء المتأخرين أنه كان يقول: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- فقيرا من المال قط، ولا حاله حال فقير، بل كان أغنى الناس بالله، قد كفى أمر دنياه فى نفسه وعياله، وكان يقول فى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أحينى مسكينا» «1» إن المراد به استكانة القلب لا المسكنة التى هى أن لا يجد ما يقع موقعا من كفايته. وكان يشدد النكير على من يعتقد خلاف ذلك انتهى. وأما ما يروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «الفقر فخرى وبه أفتخر» «2» فقال شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر: هو باطل موضوع. واعلم أنه لم يكن من عادته الكريمة- صلى الله عليه وسلم- حبس نفسه الشريفة على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى سواه، فإن ذلك يضر بالطبيعة جدّا، ولو

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (2352) فى الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، من حديث أنس- رضى الله عنه- وأخرجه ابن ماجه (4126) فى الزهد، باب: مجالسة الفقراء، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1261) . (2) باطل موضوع: قاله الحافظ ابن حجر كما فى «كشف الخفاء» (1835) للعجلونى.

أنه أفضل الأغذية، بل كان- صلى الله عليه وسلم- يأكل مما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره مما سيأتى، فأكل- صلى الله عليه وسلم- الحلوى والعسل وكان يحبهما «1» ، رواه البخارى والترمذى، والحلوى: بالقصر والمد، كل حلو، وقال الخطابى: اسم الحلوى لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة، وقال ابن سيدة: ما عولج من الطعام بحلو، وقد يطلق على الفاكهة. قال الخطابى: ولم يكن حبه- صلى الله عليه وسلم- لها على معنى كثرة التشهى لها، وشدة نزاع النفس إليها، وإنما كان ينال منها إذا أحضرت إليه نيلا صالحا فيعلم بذلك أنها تعجبه، ووقع فى كتاب فقه اللغة للثعالبى: أن حلوى النبى- صلى الله عليه وسلم- التى كان يحبها هى المجيع- بالميم والجيم، بوزن عظيم- وهو تمر يعجن بلبن، حكاه فى فتح البارى. ولم يصح ورود أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحب السكر ولا أنه تصدق به ولا أنه رآه. لكن أخرج أبو جعفر الطحاوى والبيهقى فى سننه من حديث لمازة عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حضر ملاك رجل من الأنصار، فجاءت الجوارى معهن الأطباق عليها اللوز والسكر فأمسك القوم أيديهم، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ألا تنتهبون؟» قالوا: إنك نهيت عن النهبة، قال: «أما العرسان فلا» «2» ، قال: فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يجاذبهم ويجاذبونه. واحتج به الطحاوى على أن النثار غير مكروه، كما ذهب إليه أبو حنيفة، وقضى به على الأحاديث الصحيحة التى فيها النهى عن النهبة. لكن

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5599) فى الأشربة، باب: الباذق، والترمذى (1831) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى حب النبى- صلى الله عليه وسلم- الحلواء والعسل، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (20/ 97) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 56، 290) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه حازم مولى بنى هاشم عن لمازة، وليس ابن زبار، هذا متأخر، ولم أجد من ترجمها وبقية رجاله ثقات، ورواه الطبرانى فى الأوسط أتم من هذا، بإسناد فيه بشر بن إبراهيم وهو وضاع، وهو غير هذا الإسناد.

قال البيهقى بعد رواية الحديث: وهذا لا يثبت، ثم قال: وروى من حديث عائشة عنه- صلى الله عليه وسلم-، ولا يثبت فى هذا المعنى شىء، وشنع على الطحاوى القول فى ذلك جدّا فى كتاب المعرفة وقال: الحديث إنما يروى عن عون بن عمارة وعصمة بن سليمان وكلاهما لا يحتج به، وشيخهما لمازة بن المغيرة مجهول، فهاتان علتان كل منهما منفردة توجب ضعف الحديث فكيف بهما مجتمعتان؟! هذا وخالد بن معدان منقطع ولا حجة فى منقطع. فهذه علل ثلاث يضعف الحديث بدونها. وقد أفرد الكلام على ذلك ابن مفلح اليوسفى والله أعلم. وعن ليث بن أبى سالم قال: أول من خبص فى الإسلام عثمان بن عفان، قدمت عليه عير تحمل الدقيق والعسل فخلط بينهما وبعث به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكل فاستطابه. قال الطبرى فى الرياض: رواه خيثمة فى فضائل عثمان. وعن عبد الله بن سلام قال: قدمت عير فيها جمل لعثمان بن عفان عليه دقيق حوارى وسمن وعسل، فأتى بها النبى- صلى الله عليه وسلم- فدعا فيها بالبركة ثم دعا ببرمة فنصبت على النار وجعل فيها من العسل والدقيق والسمن ثم عصد حتى نضج أو كاد ينضج ثم أنزل فقال- صلى الله عليه وسلم-: «كلوا هذا شىء تسميه فارس الخبيص» «1» قال الطبرى: خرجه تمام فى فوائده والطبرانى فى معجمه ورجاله ثقات. وأكل- صلى الله عليه وسلم- لحم الضأن. وهذه الثلاثة- أعنى: الحلوى والعسل واللحم. من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء، ولا ينفر منها إلا من به علة وآفة. «واللحم سيد طعام أهل الجنة» ، وفى رواية «هو سيد الطعام لأهل الدنيا والآخرة» «2» ، رواه ابن ماجة وابن أبى الدنيا من حديث أبى الدرداء مرفوعا. وسنده ضعيف وله شواهد منها:

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 112) ، والطبرانى فى «الصغير» (833) ، من حديث عبد الله بن سلام- رضى الله عنه-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 37، 38) وقال: رواه الطبرانى فى الثلاثة، ورجال الصغير والأوسط ثقات. (2) ضعيف جدّا: أخرجه ابن ماجه (3305) فى الأطعمة، باب: اللحم، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» ، وانظر «ضعيف الجامع» (3327) .

عن على رفعه: سيد طعام الدنيا اللحم ثم الأرز، أخرجه أبو نعيم فى الطب النبوى. وأكل اللحم يزيد سبعين قوة. قاله الزهرى. وعن على: أنه يصفى اللون ويحسن الخلق ومن تركه أربعين ليلة ساء خلقه. ولأبى الشيخ ابن حيان من رواية ابن سمعان قال: سمعت من علمائنا يقولون: كان أحب الطعام إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اللحم، وهو يزيد فى السمع، وهو سيد الطعام فى الدنيا والآخرة، ولو سألت ربى أن يعطمنيه كل يوم لفعل. وقال الإمام الشافعى: إن أكله يزيد فى العقل. وكان- صلى الله عليه وسلم- يعجبه الذراع ولذلك سم فيه، وعن أبى رافع أنه أهديت له شاة فجعلها فى قدر، فدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما هذا يا أبا رافع؟» فقال: شاة أهديت لنا يا رسول الله فطبختها فى القدر. قال: «ناولنى الذراع يا أبا رافع» ، فناولته الذراع، ثم قال: «ناولنى الذراع الآخر» ، فناولته الذراع الآخر، فقال: «ناولنى الذراع الآخر» فقال: يا رسول الله، إنما للشاة ذراعان فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنك لو سكت لناولتنى ذراعا فذراعا ما سكت» ، ثم دعا بماء فمضمض فاه وغسل أطراف أصابعه ثم قام فصلى «1» . الحديث رواه أحمد. ورواه الدارمى والترمذى عن أبى عبيد بلفظ: طبخت له- صلى الله عليه وسلم- قدرا، وكان يعجبه الذراع، فناولته الذراع، ثم قال: «ناولنى الذراع» ، فقلت: يا رسول الله وكم للشاة من ذراع؟ فقال: «والذى نفسى بيده لو سكت لناولتنى الذراع ما دعوت» . وقالت عائشة: وكان الذراع أحب إليه، وكان لا يأكل اللحم إلا غبّا، وكان يعجل إليها لأنه أعجل نضجا «2» ، رواه الترمذى.

_ (1) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 8 و 392) ، والطبرانى فى «الكبير» (1/ 324 و 325) والحديث ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 311) وقال: رواه أحمد والطبرانى، ورواه فى الأوسط باختصار، وأحد إسنادى أحمد حسن. (2) منكر: أخرجه الترمذى (1838) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى أى اللحم كان أحب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» منكر.

وكذلك كان يحب لحم الرقبة. فعن ضباعة بنت الزبير أنها ذبحت فى بيتها شاة، فأرسل إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن أطعمينا من شاتكم» ، فقالت: ما بقى عندنا إلا الرقبة، وإنى لأستحى أن أرسل بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فرجع الرسول فأخبره، فقال: «ارجع إليها فقل لها: أرسلى بها فإنها هاربة الشاة وأقرب الشاة إلى الخير وأبعدها من الأذى» «1» . ولا ريب أن أخف لحم الشاة لحم الرقبة ولحم الذراع والعضد، وهو أخف على المعدة وأسرع انهضاما، وفى هذا أنه ينبغى مراعاة الأغذية التى تجمع ثلاث خواص: أحدها: كثرة نفعها وتأثيرها فى القوى، الثانى: خفتها على المعدة وسرعة انحدارها عنها، الثالث: سرعة هضمها، وهذا أفضل ما يكون من الغذاء. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «أطيب اللحم لحم الظهر» «2» ، رواه الترمذى. وأما الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يكره الكليتين لمكانهما من البول، فقال الحافظ العراقى رويناه فى جزء من حديث أبى بكر محمد بن عبد الله بن الشخير من حديث ابن عباس بإسناد فيه ضعف. انتهى. وكان- صلى الله عليه وسلم- ينتهش اللحم، أى يقبض عليه بفمه ويزيله من العظم أو غيره، وينتشله أى يقتلعه من المرق. والنهش بعد الانتشال. وفى البخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- احتز من كتف شاة فى يده، فدعى إلى الصلاة، فألقاها والسكين التى يحتز بها، ثم قال إلى الصلاة، ولم يتوضأ «3» .

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 360) ، والنسائى فى «الكبرى» (6658) ، والطبرانى فى «الكبير» (24/ 337) . (2) أخرجه ابن ماجه (3308) فى الأطعمة، باب: أطايب اللحم، وأحمد فى «المسند» (1/ 204) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 124) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (207) فى الوضوء، باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ومسلم (254) فى الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

قال ابن بطال: هذا الحديث يرد حديث أبى معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رفعته: «لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم وانهشوا فإنه أهنأ وأمرأ» «1» قال أبو داود وهو حديث ليس بالقوى. قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى- رحمه الله-، له شاهد من حديث صفوان بن أمية. أخرجه الترمذى بلفظ: «انهشوا اللحم نهشا، فإنه أهنأ وأمرأ» «2» وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبد الكريم انتهى. قال: وعبد الكريم هو أبو أمية بن أبى المخارق، ضعيف، لكن أخرجه ابن أبى عاصم من وجه آخر عن صفوان بن أمية فهو حسن لكن ليس فيه ما زاده أبو معشر من التصريح بالنهى عن قطع اللحم بالسكين. وأكثر ما فى حديث صفوان أن النهش أولى. انتهى. ويمكن الجمع: بأن النهش مما على العظم الصغير، والاحتزاز مما على الكبير. وأكل- صلى الله عليه وسلم- الشواء، فعن أم سلمة أنها قربت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- جنبا مشويّا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة وما توضأ «3» ، قال الترمذى: حسن صحيح. وأكل- صلى الله عليه وسلم- القديد، كما فى حديث فى السنن عن رجل قال: ذبحت لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاة ونحن مسافرون. فقال: «أصلح لحمها» ، فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة «4» وأكل- صلى الله عليه وسلم- من الكبد المشوية. وأكل لحم الدجاج «5» رواه الشيخان والترمذى وغيرهم. وأكل لحم حمار

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (3778) فى الأطعمة، باب: فى أكل اللحم، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وأخرجه الترمذى (1835) فى الأطعمة، باب: ما جاء أنه قال: انهشوا اللحم نهشا، وأحمد فى «المسند» من حديث صفوان بن أمية- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) ضعيف: وقد تقدم فيما قبله. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (1829) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى أكل الشواء، والنسائى فى «الكبرى» (189) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) صحيح: أخرجه مسلم (1975) فى الأضاحى، باب: بيان ما كان من النهى عن أكل لحوم الأضاحى بعد ثلاث فى أول الإسلام. (5) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (5517) فى الذبائح والصيد، -

الوحش «1» رواه الشيخان، وأكل لحم الجمل سفرا وحضرا. وأكل لحم الأرنب «2» رواه الشيخان. وأكل من دواب البحر «3» رواه مسلم. وأكل الثريد- وهو بفتح المثلاثة- أن يثرد الخبز بمرق اللحم، وقد يكون معه اللحم. ومن أمثالهم: الثريد أحد اللحمين. وروى أبو داود من حديث ابن عباس قال: أحب الطعام إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الثريد من الخبز والثريد من الحيس «4» . وأكله- صلى الله عليه وسلم- بالسمن، وأكل الخبز بالزيت. وعن حذيفة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن جبريل أطعمنى الهريسة، يشد بها ظهرى لقيام الليل» «5» ، رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه محمد بن الحجاج اللخمى، وهو الذى وضع هذا الحديث. وأكل- صلى الله عليه وسلم- الدباء وكانت تعجبه، وكان يتتبعها من حوالى القصعة، قال أنس فلم أزل أحب الدباء من يومئذ «6» . رواه مسلم. وقال النووى: فيه

_ - باب: لحم الدجاج، ومسلم (1649) فى الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، أن يأتى الذى هو خير، ويكفر عن يمينه، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-. (1) قلت: الذى فى الصحيحين، أنه لم يأكل لأنه كان حرم، وهو يدل على إباحته، لأن رده- صلى الله عليه وسلم- لم يكن لحرمته، كما أنه قد أكل أمامه بأمره فى قصة أخرى، وكلتاهما فى الصحيحين، انظر صحيح البخارى (1821) ، ومسلم (1196) من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-، والبخارى (2596) ، ومسلم (1193) من حديث الصعب بن جثامة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (2572) فى الهبة، باب: قبول هدية الصيد، ومسلم (1953) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة الأرنب، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (1935) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3783) فى الأطعمة، باب: فى أكل الثريد، والحديث ضعفه أبو داود والشيخ الألبانى. (5) موضوع: ذكره الحافظ ابن حجر فى «اللسان» (5/ 116) فى ترجمة محمد بن الحجاج اللخمى، وحكم عليه بالوضع به. (6) صحيح: أخرجه البخارى (2092) فى البيوع، باب: السهولة والسماحة فى الشراء والبيع، ومسلم (2041) فى الأشربة، باب: جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين.

أنه يستحب أن تحب الدباء وكذلك كل شىء كان يحبه- صلى الله عليه وسلم-. وكذلك أكل- صلى الله عليه وسلم- السلق مطبوخا بالشعير قال الترمذى: حديث حسن غريب. وأتى الحسن بن على وابن عباس وابن جعفر إلى سلمى فقالوا: اصنعى لنا طعاما مما كان يعجب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحسن أكله: فقالت: يا بنى لا تشتهيه اليوم فقال: بلى اصنعيه لنا، فقامت فأخذت شيئا من الشعير فطحنته ثم جعلته فى قدر وصبت عليه شيئا من زيت ودقت الفلفل والتوابل فقربته إليهم فقالت: هذا مما كان يعجبه- صلى الله عليه وسلم- ويحسن أكله. رواه الترمذى. وأكل- صلى الله عليه وسلم- الخزيرة- وهى بخاء معجمة مفتوحة ثم زاى مكسورة، وبعد التحتانية الساكنة راء- ما يتخذ من الدقيق على هيئة العصيدة، لكن أرق منها، قاله الطبرى. وقال ابن فارس: دقيق يخلط بشحم، وقال القتبى وتبعه الجوهرى: أن يؤخذ اللحم فيقطع صغارا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهى عصيدة. وقيل: مرقة تصفى من بلالة النخالة ثم تطبخ، وقيل: الخزيرة بالإعجام من النخالة، والحريرة- يعنى بالإهمال- من اللبن. وقال عتبان: غدا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر حين ارتفع النهار، وحبسناه على خزير صنعناه «1» وأكل- صلى الله عليه وسلم- الأقط «2» ، قاله ابن عباس فيما رواه وهو جبن اللبن المستخرج زبده، أكلته وهو كثير بمكة والمدينة زادهما الله شرفا، وهو أشبه شىء بالكشك. وأكل- صلى الله عليه وسلم- الرطب والتمر والبسر. رواه مسلم والترمذى وغيرهما. وأكل الكباث «3» . رواه مسلم، وهو بفتح الكاف وتخفيف الموحدة وبعد

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1186) فى التطوع، باب: صلاة النوافل جماعة، ومسلم (263) فى المساجد، باب: الرخصة فى التخلف عن الجماعة بعذر. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2575) فى الهبة، باب: قبول الهدية، ومسلم (1947) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة العنب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-: (3) قلت: هو فى الصحيحين الأمر بأكل الأسود منه لأنه أطيبه، والحديث أخرجه البخارى (3406) فى أحاديث الأنبياء، باب: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ، ومسلم (2050) فى الأشربة، باب: فضيلة الأسود من الكباث، من حديث جابر- رضى الله عنه- و (الكباث) شىء يشبه التين.

الألف مثلاثة، النضيج من تمر الأراك. وقيل ورق الأراك، وتعقبه الإسماعيلى فقال: إنما هو تمر الأراك وهو البرير- بموحدة بوزن الحرير- فإذا اسود فهو الكباث. وفى النهاية لابن الأثير؛ أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحب الجذب- بالجيم والذال المعجمة المفتوحتين- أى الجمار، وهو شحم النخل واحدتها جذبة. وأما الجبن، ففى السنن من حديث ابن عمر قال: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- بجبنة فى تبوك فدعا بسكين فسمى وقطع «1» رواه أبو داود. وكان- صلى الله عليه وسلم- يراعى صفات الأطعمة وطبائعها واستعمالها على قاعدة الطب، فإذا كان فى أحد الطعامين ما يحتاج إلى كسر وتعديل كسره وعدله بضده إن أمكن، كتعديله حرارة الرطب بالبطيخ. وهذا أصل كبير فى المركبات من الأدوية، وإن لم يجد ذلك تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف. وروى أبو داود من حديث أبى أسامة عن هشام أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يأكل البطيخ بالرطب، ويقول يكسر حر هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحر هذا «2» . ورواه يزيد بن رومان عن الزهرى عن عروة بتقديم «الطاء» كما للنوقانى، وبتأخيرها كما للنسائى فى الوليمة، فكأنه عند هشام باللفظين. وكذا رواه ابن حبان فى صحيحه من حديث محمد بن عبد الرحمن عن الإمام أحمد بن حنبل عن وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبى، سمعت حميدا يحدث عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يأكل الطبيخ أو البطيخ بالرطب، وقال عقبة: الشك من أحمد «3» . وتقديم الطاء لغة حكاها صاحب المحكم. وقد كان محمد بن أسلم لا يأكل البطيخ لأنه لم ينقل كيفية أكل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- له. وروى الطبرانى فى الأوسط من حديث عبد الله بن جعفر

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (3819) فى الأطعمة باب: أكل الجبن، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) حسن: أخرجه أبو داود (3836) فى الأطعمة، باب: فى الجمع بين لونين فى الأكل، والترمذى (1843) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى أكل البطيخ بالرطب من حديث عائشة- رضى الله عنها- والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) صحيح: وهو عند ابن حبان فى «صحيحه» (5248) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط، إسناده صحيح على شرط الشيخين.

قال: رأيت فى يمين النبى- صلى الله عليه وسلم- قثاء وفى شماله رطبا وهو يأكل من ذا مرة، ومن ذا مرة «1» ، وفى سنده ضعف. وأخرج فيه، وفى الطب لأبى نعيم من حديث أنس. كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه. وسنده ضعيف أيضا. وأخرج النسائى بسند صحيح عن حميد عن أنس: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الرطب والخربز- «2» وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاى- نوع من البطيخ الأصفر. وفى هذا تعقب على من زعم أن المراد بالبطيخ فى الحديث الأخضر، واعتلوا بأن الأصفر فيه حرارة كما فى الرطب، وقد ورد التعليل بأن أحدهما يطفئ الآخر. والجواب عن ذلك بأن فى الأصفر بالنسبة للرطب برودة، وإن كان فيه لحلاوته طرف حرارة، والله أعلم. وفى رواية النسائى أيضا، بسند صحيح عن عائشة أن نبى الله- صلى الله عليه وسلم- أكل البطيخ والرطب جميعا «3» . وأخرج ابن ماجه عن عائشة: أرادت أمى معالجتى للسمنة لتدخلنى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما استقام لها ذلك حتى أكلت الرطب بالقثاء، فسمنت كأحسن سمنة «4» . ورواه النسائى وقال: بالتمر، مكان الرطب. وأما فضائل البطيخ فأحاديثه باطلة، وإن أفرده النوقاتى فى جزء كما قال الحافظ والله أعلم. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يأكل التمر بالزبد ويعجبه. فعن عبد الله وعطية ابنى بسر، قالا: دخل علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقدمنا له زبدا وتمرا، وكان يحب

_ (1) ضعيف جدّا: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 170) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه أصرم بن حوشب، وهو متروك. (2) صحيح: أخرجه البغدادى فى «تاريخ بغداد» (3/ 40) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4916) وعزاه فيه لأحمد والترمذى فى الشمائل والنسائى. (3) حسن: وقد تقدم قريبا. (4) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (3903) فى الطب، باب: فى السمنة، والنسائى فى «الكبرى» (6725) ، وابن ماجه (3324) فى الأطعمة، باب: القثاء والرطب يجمعان، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

الزبد والتمر» . رواه أبو داود وابن ماجه. وسمى النبى- صلى الله عليه وسلم- اللبن والتمر الأطيبين «2» . رواه أحمد. وكان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما، فتارة يأدمه باللحم ويقول: هو سيد الطعام لأهل الدنيا والآخرة، وتارة بالبطيخ، وتارة بالتمر، فإنه وضع تمرة على كسرة من خبز الشعير، وقال: «هذه إدام هذه» «3» ، رواه أبو داود والترمذى بسند حسن من حديث يوسف بن عبد الله ابن سلام قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- أخذ ... فذكره. قال ابن القيم: وهذا من تدبير الغذاء، فإن الشعير بارد يابس، والتمر حار رطب- على أصح القولين- فإدام خبز الشعير به من أحسن التدبير. وتارة بالخل، ويقول: نعم الأدم الخل «4» رواه مسلم، وتقدم. قال الخطابى والقاضى عياض: معناه مدح الاقتصاد فى المأكل، ومنع النفس من ملاذ الأطعمة، تقديره: ائتدموا بالخل وما فى معناه مما تخفف مؤنته ولا يعز وجوده، ولا تنافسوا فى الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن. وتعقبه النووى فقال: الذى ينبغى أن يجزم به، أنه مدح للخل نفسه، وأما الاقتصاد فى المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر. انتهى. وقال ابن القيم: هذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر، لا تفضيله على غيره كما ظنه بعضهم، قال: وسبب الحديث أنه دخل على أهله يوما فقدموا له خبزا فقال: «ما من أدم؟» فقالوا: ما عندنا إلا الخل، فقال: «نعم الأدم الخل» والمقصود أن أكل الخبز مع الأدم من أسباب حفظ الصحة بخلاف الاقتصار على أحدهما، وسمى الأدم أدما لإصلاحه الخبز وجعله ملائما لحفظ الصحة،

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3837) فى الأطعمة، باب: فى الجمع بين لونين فى الأكل، وابن ماجه (3334) فى الأطعمة، باب: التمر بالزبد، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4921) . (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 474) عن رجل من الصحابة. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3259 و 3260) فى الأيمان والنذور، باب: الرجل يحلف أن لا يتأدم، و (3830) فى الأطعمة، باب: فى التمر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (4) صحيح: وقد تقدم.

وليس فى هذا تفضيل له على اللبن واللحم والعسل والمرق، ولو حضر لحم أو لبن لكان أولى بالمدح منه، فقال هذا جبرا وتطييبا لقلب من قدمه له، لا تفضيلا له على سائر أنواع الأدم. وكان- صلى الله عليه وسلم- يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يحتمى عنها. وهذا من أكبر أسباب الصحة، فإن الله سبحانه بحكمته جعل فى كل بلد من الفاكهة ما ينتفع به أهلها فى وقته، فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم، ويغنى عن كثير من الأدوية، وقل من احتمى عن فاكهة بلدة خشية السقم إلا وهو من أسقم الناس جسما وأبعدهم من الصحة والقوة، فمن أكل منها ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى، على الوجه الذى ينبغى كان له دواء نافعا. وقد روى ابن عباس قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأكل العنب خرطا «1» . رويناه فى الغيلانيات. لكن قال أبو جعفر العقيلى- كما حكاه فى الهدى- لا أصل لهذا الحديث. قال ابن الأثير: يقال خرط العنقود واخترطه إذا وضعه فى فيه ثم يأخذ حبه ويخرج عرجونه عاريا منه. قال: وجاء فى بعض الروايات خرصا- بالصاد بدل الطاء-. وأما البصل فروى أبو داود فى سننه عن عائشة أنها سئلت عن البصل فقالت: إن آخر طعام أكله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه بصل «2» . وثبت عنه فى الصحيحين أنه منع آكله من دخول المسجد «3» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يترك الثوم دائما

_ (1) موضوع: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 38) وقال: رواه الطبرانى، وفيه زياد بن المنذر، وهو كذاب. اه. قلت: وانظر «ضعيف الجامع» (4520) . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3829) فى الأطعمة، باب: فى أكل الثوم، وأحمد فى «المسند» (6/ 89) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (3) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (854) فى الأذان، باب: ما جاء فى الثوم النىء والبصل والكراث، ومسلم (564) فى المساجد، باب: نهى من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها مما له رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح، من حديث جابر- رضى الله عنه-، وفى الباب عن غيره من الصحابة.

لأنه يتوقع مجىء الملائكة والوحى كل ساعة. قال النووى: واختلف أصحابنا فى حكم الثوم فى حقه- صلى الله عليه وسلم- وكذلك البصل والكراث ونحوها، فقال بعض أصحابنا: هى محرمة عليه، والأصح عندهم أنها مكروهة كراهة تنزيه وليست محرمة لعموم قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا» فى جواب: أحرام هى؟ «1» ومن قال بالأول يقول: معنى الحديث: ليس بحرام فى حقكم. انتهى. فينبغى لمحبه موافقته- صلى الله عليه وسلم- فى ترك الثوم ونحوه، وكراهة ما كان يكرهه- صلى الله عليه وسلم-، فإن من أوصاف المحب الصادق أن يحب ما أحب محبوبه ويكره ما يكرهه. وكان- صلى الله عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث «2» . رواه الترمذى فى الشمائل وهذا- كما فى الهدى- أنفع ما يكون من الأكلات، فإن الأكل بأصبع أكل المتكبر، ولا يستلذ به الآكل ولا يمريه ولا يشبعه إلا بعد طول، ولا يفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها فى كل أكلة فيأخذها على إغماض كما يأخذ الرجل حقه حبة حبة أو نحو ذلك، فلا يلتذ بأخذه، والأكل بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على الآلة وعلى المعدة، وربما استدت الآلات فمات، وتغصب الآلات على دفعه، والمعدة على احتماله، ولا يجد له لذة ولا استمراء، فأنفع الأكل أكله- صلى الله عليه وسلم-، وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاثة. وكان- صلى الله عليه وسلم- يلعق أصابعه إذا فرغ ثلاثا: رواه الترمذى فى الشمائل. وفى رواية مسلم ويلعق يده قبل أن يمسحها. وفى رواية أنه أمر بلعق الأصابع والصحفة «3» . وقد روى الترمذى عن أم عاصم قالت: دخل علينا نبيشة الخير، ونحن نأكل فى قصعة فحدثنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أكل

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (565) فيما سبق، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (2) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2032) فى الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة، وأبو داود (3848) فى الأطعمة، باب: فى المنديل، من حديث كعب بن مالك- رضى الله عنه-. (3) صحيح: وهو إحدى روايات حديث مسلم السابق.

فى قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة» «1» ، وكذا أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن شاهين والدارمى وغيرهم. وقال الترمذى: إنه حديث غريب. وأورده بعضهم بلفظ: تستغفر الصحفة للاحسها. وفى حديث جابر مرفوعا عن أبى الشيخ فى الثواب: «من أكل ما يسقط من الخوان أو القصعة أمن من الفقر والبرص والجذام وصرف عن ولده الحمق» «2» . وللديلمى من طريق الرشيد عن آبائه عن ابن عباس رفعه؛ «من أكل ما يسقط من المائدة خرج ولده صباح الوجوه، ونفى عنه الفقر» «3» . وأورده الغزالى فى الإحياء بلفظ: «عاش فى سعة وعوفى فى ولده» وكلها مناكير. لكن فى مسلم عن جابر وأنس مرفوعا: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه لأنه لا يدرى فى أى طعامه البركة» «4» . وفى حديث كعب بن عجرة عند الطبرانى فى الأوسط صفة لعق الأصابع، ولفظه: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث، بالإبهام والتى تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها، الوسطى ثم التى تليها ثم الإبهام «5» . قال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى: كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثا لأنها أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما ينزل الطعام. وقد وقع فى مرسل ابن شهاب

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (1804) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى اللقمة تسقط، وابن ماجه (3271 و 3272) فى الأطعمة، باب: تنقية الصحفة، وأحمد فى «المسند» (5/ 76) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (2) ضعيف: أخرجه الحسن بن معروف فى فضائل بنى هاشم، والخطيب وابن النجار عن ابن عباس، كما فى «كنز العمال» (40823) ، وانظر «كشف الخفاء» (2393) . (3) تقدم فيما قبله. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2033) فى الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة من حديث جابر- رضى الله عنه-، وأخرجه مسلم (2034) من حديث أنس- رضى الله عنه-. (5) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 28) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه الحسن بن إبراهيم الأوبى، ومحمد بن كعب بن عجرة ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات.

عند سعيد بن منصور أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أكل أكل بخمس. فيجمع بينه وبين ما تقدم باختلاف الحال. وقد جاءت علة اللعق مبينة- فى بعض الروايات- أنه لا يدرى أحدكم فى أى طعامه البركة. وفى الحديث رد على من كره لعق الأصابع استقذارا ممن ينسب للرياسة والإمرة فى الدنيا. نعم، يحصل ذلك لو فعله أثناء الأكل لأنه يعيد أصابعه فى الطعام، وعليها أثر ريقه. قال الخطابى: عاب قوم أفسد عقلهم الترفه لعق الأصابع، وزعموا أنه مستقبح، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذى علق بالأصابع والصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذرا لم يكن الجزء اليسير منه مستقذرا، وليس فى ذلك أكثر من مصه أصابعه بباطن شفتيه، ولا يشك عاقل أن لا بأس بذلك، فقد يتمضمض الإنسان فيدخل أصبعه فى فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه، ثم لم يقل أحد إن ذلك قذارة وسوء أدب، انتهى. ولا ريب أن من استقذر ما نسب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيىء الأدب، يخشى عليه أمر عظيم، فنسأل الله بوجاهة وجهه الكريم أن لا يسلك بنا غير حلاوة سبيل سنته وأن يديم لنا محبته. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- لا يأكل متكئا، لما صح أنه قال «لا آكل متكئا» «1» . رواه البخارى. وقال: «إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد» «2» . وروى ابن ماجه والطبرانى بإسناد حسن قال: أهديت للنبى- صلى الله عليه وسلم- شاة، فجثا على ركبتيه يأكل فقال له أعرابى: ما هذه الجلسة؟ فقال: «إن الله جعلنى كريما ولم يجعلنى جبارا عنيدا» «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5398 و 5399) فى الأطعمة، باب: الأكل متكئا، من حديث أبى جحيفة- رضى الله عنه-. (2) تقدم. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (3773) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الأكل من أعلى الصحفة، وابن ماجه (3263) فى الأطعمة، باب: الأكل متكئا، من حديث عبد الله بن بسر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

قال ابن بطال: إنما فعل ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- تواضعا لله، ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهرى قال: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- ملك لم يأته قبلها فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون نبيّا ملكا أو نبيّا عبدا، فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأومأ إليه أن تواضع، فقال: «بل عبدا نبيّا» قال فما أكل متكئا «1» . وهذا مرسل أو معضل، وقد وصله النسائى من طريق الزبيدى عن الزهرى عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصى قال: ما رؤى النبى- صلى الله عليه وسلم- يأكل متكئا قط. وأخرج ابن أبى شيبة عن مجاهد قال: ما أكل النبى- صلى الله عليه وسلم- متكئا إلا مرة واحدة. ويمكن الجمع بأن تلك المرة التى فى أثر مجاهد لم يطلع عليها عبد الله بن عمرو. فقد أخرج ابن شاهين «فى ناسخه» من مرسل عطاء بن يسار: أن جبريل رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يأكل متكئا فنهاه، وروى ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم- نهى أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه «2» . وقد فسر القاضى عياض فى الشفاء الاتكاء بالتمكن للأكل والتقعدد للجلوس له كالمتربع وشبهه من تمكن الجلسات التى يعتمد فيها الجالس على ما تحته. قال: والجالس على هذه الهيئة يستدعى الأكل ويستكثر منه. والنبى- صلى الله عليه وسلم- إنما كان جلوسه للأكل المستوفز مقعيا. قال: وليس معنى الحديث فى الاتكاء الميل على شق عند المحققين انتهى. والإقعاء: أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويتساند إلى ظهره، وهو المنهى عنه فى الصلاة. وتفسير القاضى عياض الاتكاء بما فسره به حكاه فى الإكمال عن الخطابى، وقال: إن الخطابى خالف فى هذا التأويل أكثر الناس، وأنهم إنما حملوا الاتكاء على أنه الميل على أحد الجانبين. انتهى. والذى رأيته يعزى للخطابى: تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك،

_ (1) تقدم. (2) حسن: أخرجه أبو داود (3774) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الجلوس على مائدة عليها بعض ما يكره، وابن ماجه (3370) فى الأطعمة، باب: النهى عن الأكل منبطحا، من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

بل هو المعتمد على الوطاء الذى تحته. انتهى. وقد فسر أيضا بالميل على أحد الشقين، وبه فسر ابن الجوزى: وقيل هو الاعتماد على الشىء، وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض. وقد أخرج ابن عدى بسند ضعيف: زجر النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل. قال الإمام مالك: هو نوع من الاتكاء، قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى: وفى هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئا، ولا يختص بصفة بعينها، وحكى ابن الأثير فى النهاية أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب. وقال ابن القيم: إنه يضر بالآكل، فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعى عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء. وأما الاعتماد على الشىء فهو جلوس الجبابرة المنافى للعبودية، ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم-: «آكل كما يأكل العبد» «1» . وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائل والوطاء الذى تحت الجالس- كما ذكرته عن الخطابى- فيكون المعنى: أنى إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطئة والوسائد كفعل الجبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام، لكنى آكل بلغة من الزاد، فلذلك أقعد مستوفزا. وفى حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- أكل تمرا وهو مقع «2» ، من الجوع. وفى رواية: وهو محتفز. والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن. واختلف السلف فى حكم الأكل متكئا، فزعم ابن القاص: أن ذلك من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. وتعقبه السهيلى فقال: قد يكره لغيره أيضا لأنه من فعل المتعظمين، وأصله مأخوذ من ملوك العجم، قال: فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئا لم يكن فى ذلك كراهة، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة.

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (3771) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الأكل متكئا، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

قال فى فتح البارى: وفى الحمل نظر، وقد أخرج ابن أبى شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار وغيرهم جواز ذلك مطلقا، وإذا ثبت كونه مكروها أو خلاف الأولى، فالمستحب فى صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى. انتهى. وقال ابن القيم: ويذكر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يجلس للأكل متوركا على ركبتيه ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر اليمنى تواضعا- صلى الله عليه وسلم- لله عز وجل وأدبا بين يديه. قال وهذه الهيئة أنفع هيئات الأكل وأفضلها لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذى خلقها الله تعالى عليه. انتهى. وأخرج ابن أبى شيبة من طريق إبراهيم النخعى قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاة مخافة أن تعظم بطونهم. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا وضع يده فى الطعام يسمى الله تعالى «1» . وأما قول النووى فى آداب الأكل من الأذكار: والأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال: بسم الله كفاه وحصلت السنة. فقال فى فتح البارى: لم أر لما أدعاه من الأفضلية دليلا خاصا. وكان- صلى الله عليه وسلم- يحمد فى آخره فيقول: «الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه غير مودع ولا مستغنى عنه ربنا» «2» رواه الترمذى. وقوله: «غير مودع» بفتح الدال الثقيلة- أى غير متروك. ولا مستغنى: بفتح النون. وربنا: بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى: هو ربنا؛ ويجوز النصب على المدح، أو الاختصاص، أو إضمار أعنى. وقال ابن الجوزى: بالنصب على النداء مع حذف أداة النداء. وفى رواية: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 337) عن رجل خدم النبى- صلى الله عليه وسلم- ثمان سنين، وله شاهد صحيح من أمره لغلام وسيأتى. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5458 و 5459) فى الأطعمة، باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-. (3) أخرجه أبو داود (3850) فى الأطعمة، باب: ما يقول الرجل إذا طعم، والترمذى (3457) فى الدعوات، باب: ما يقول إذا فرغ من الطعام، وابن ماجه (3283) فى-

وللنسائى من طريق عبد الرحمن بن جبير المصرى أنه حدثه رجل خدم النبى- صلى الله عليه وسلم- ثمان سنين له كان يسمع النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا قرب إليه طعام يقول: «بسم الله» ، فإذا فرغ قال: «اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت فلك الحمد على ما أعطيت» «1» وسنده صحيح. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يحب التيامن من شأنه كله «2» ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» «3» . قال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى: حمله أكثر الشافعية على الندب، وبه جزم الغزالى ثم النووى. لكن نص الشافعى فى الرسالة وفى موضع آخر من الأم على الوجوب، كذا ذكر عنه الصيرفى فى شرح الرسالة. ونقل البويطى فى مختصره: أن الأكل من رأس الثريد، والتعريس على الطريق، والقران فى التمر حرام. ومثل البيضاوى فى منهاجه للندب بقوله: «كل مما يليك» وتعقبه الشيخ تاج الدين بن السبكى فى شرحه: بأن الشافعى نص فى غير هذا الموضع على أن من أكل مما لا يليه عالما بالنهى كان عاصيا آثما، قال: وقد جمع والدى نظائر هذه المسألة فى كتاب له سماه «كشف اللبس عن المسائل الخمس» ونصر القول بأن الأمر فيها للوجوب. قال شيخ الإسلام ابن حجر: بعد أن ذكر ذلك: ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد فى الأكل بالشمال، ففى صحيح مسلم أن النبى

_ - الأطعمة، باب: ما يقال إذا فرغ من الطعام، وأحمد فى «المسند» (3/ 32 و 98 و 253) من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4436) . (1) تقدم قريبا. (2) قلت: ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (426) فى الصلاة، باب: التيمن فى دخول المسجد وغيره، ومسلم (268) فى الطهارة، باب: التيمن فى الطهور وغيره، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5376) فى الأطعمة، باب: التسمية على الطعام، والأكل باليمين، ومسلم (2022) فى الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، من حديث عمر بن أبى سلمة- رضى الله عنهما-.

- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا يأكل بشماله فقال: «كل بيمينك» فقال: لا أستطيع، قال: «لا استطعت» «1» فما رفعها إلى فيه بعد فإن قلت: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يتتبع الدباء من حوالى القصعة وهو يعارض الأكل مما يلى: فالجواب: أنه يحمل الجواز على ما إذا علم رضى من يأكل معه، فإذا علم كراهة من يأكل معه لذلك لم يأكل إلا مما يليه. قال ابن بطال: وإنما جالت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الطعام، لأنه علم أن أحدا لا يتكره ذلك منه ولا يتقذره، بل كانوا يتبركون بريقه وبما مسه بيده، بل كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتدلكون بها. وقال غيره: إنما فعل ذلك لأنه كان يأكل وحده. وهو غير مسلّم، لأن أنسا أكل معه- صلى الله عليه وسلم-. وحديث عكراش عند الترمذى: الذى فيه التفصيل بين ما إذا كان لونا واحدا فلا يتعدى ما يليه، أو أكثر من لون فيجوز، ضعيف والله أعلم. وقرب إليه- صلى الله عليه وسلم- طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ قال: «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» «2» رواه الترمذى. وفى رواية له: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده» «3» . فيحمل الوضوء الأول على الشرعى والثانى على اللغوى. وروى أبو يعلى بإسناد ضعيف من حديث ابن عمر: من أكل من هذه اللحوم شيئا فليغسل يده من ريح وضره، ولا يؤذى من حذاءه. ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يأكل طعاما حارا، فروى الطبرانى فى الصغير والأوسط من حديث بلال بن أبى هريرة عن أبيه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أتى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2021) فيما سبق، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (374) فى الحيض، باب: جواز أكل المحدث الطعام، وأنه لا كراهة فى ذلك، وأبو داود (3760) فى الأطعمة، باب: فى غسل اليدين عند الطعام، والترمذى (1847) فى الأطعمة، باب: فى ترك الوضوء قبل الطعام، والنسائى (1/ 85) فى الطهارة، باب: الوضوء لكل صلاة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3761) فى الأطعمة، باب: فى غسل اليد قبل الطعام، والترمذى (1846) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الوضوء قبل الطعام وبعده، من حديث سلمان- رضى الله عنه-، وقال أبو داود عقبه: وهو ضعيف.

بصحفة تفور، فقال: «إن الله لم يطعمنا نارا» «1» قال: وبلال قليل الرواية عن أبيه. انتهى. وعند أبى نعيم فى الحلية، من حديث أنس مرفوعا: كان يكره الكى والطعام الحار ويقول: «عليكم بالبارد فإنه ذو بركة، ألا وإن الحار لا بركة له» «2» الحديث. ولأحمد وأبى نعيم من حديث أسماء أنها كانت إذا ثردت غطته بشىء حتى يذهب فوره ثم تقول: إنى سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «هو أعظم بركة» «3» . لكن عند البيهقى- بسند صحيح- عن أبى هريرة قال: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- بطعام سخن فقال: «ما دخل بطنى طعام سخن منذ كذا وكذا قبل اليوم» «4» . وكان له- صلى الله عليه وسلم- قدح من خشب مضبب بحديد، قال أنس لقد سقيته- صلى الله عليه وسلم- بهذا القدح الشراب كله: الماء والنبيذ والعسل. وفى البخارى عن سهل بن سعد قال: أقبل النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى جلس فى سقيفة بنى ساعدة هو وأصحابه، ثم قال «اسقنا يا سهل» فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه «5» ، فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له. الحديث. وكان عمر بن عبد العزيز قد ولى حينئذ إمرة المدينة. وعند البخارى من حديث عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبى- صلى الله عليه وسلم- عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة. قال: وهو قدح جيد عريض من نضار، وقال: قال أنس: لقد سقيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى هذا القدح أكثر من كذا وكذا «6» ، قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 20) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط، وفيه عبد الله بن يزيد البكرى، ضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات. (2) ضعيف جدّا: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (8/ 252) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4606) . (3) ضعيف: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (8/ 177) ، وانظر «كشف الخفاء» للعجلونى (36) . (4) أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (7/ 280) . (5) صحيح: أخرجه البخارى (5637) فى الأشربة، باب: الشرب من قدح النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2007) فى الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذى لم يشتد ولم يصر مسكرا. (6) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5638) فى الأشربة، باب: الشرب من قدح النبى- صلى الله عليه وسلم- وآنيته.

من حديث فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال أبو طلحة: لا تغيرن شيئا صنعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتركه. وعنده: فى فرض الخمس من طريق أبى حمزة السكرى عن عاصم قال: رأيت القدح وشربت منه. وأخرجه أبو نعيم من طريق على بن الحسن ابن شقيق عن أبى حمزة، ثم قال: قال على بن الحسن وأنا رأيت القدح وشربت منه. وذكر القرطبى فى مختصر البخارى أنه رأى فى بعض النسخ القديمة من البخارى: قال أبو عبد الله البخارى: - رأيت هذا القدح بالبصرة وشربت فيه، وكان اشترى من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف. ووقع عند أحمد من طريق شريك عن عاصم: رأيت عند أنس قدح النبى- صلى الله عليه وسلم- فيه ضبة من فضة. وقوله من نضار- بضم النون وبالضاد المعجمة- الخالص من العود ومن كل شىء ويقال: أصله من شجر النبع، وقيل: من الأثل ولونه يميل إلى الصفرة. ولم يأكل- صلى الله عليه وسلم- على خوان ولا أكل خبزا مرققا «1» ، رواه الترمذى. والخوان- بكسر المعجمة ويجوز ضمها- المائدة ما لم يكن عليها طعام، وأما السفرة: فاشتهرت لما يوضع عليه الطعام. وكان- صلى الله عليه وسلم- ينهى عن النوم على الأكل، ويذكر أنه يقسى القلب، ذكره أبو نعيم، ولذا قال الأطباء- كما فى الهدى «2» - من أراد حفظ الصحة فليمش بعد العشاء ولو مائة خطوة ولا ينام عقبه فإنه يضر جدّا، والصلاة بعد الأكل تسهل هضمه. وأما شربه- صلى الله عليه وسلم- فقد كان يستعذب له الماء، أى يطلب له الماء الحلو. قالت عائشة: كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا «3» . رواه أبو داود. وهى- بضم المهملة وبالقاف- وهى عين بينها وبين المدينة يومان.

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) هو كتاب «زاد المعاد فى هدى خير العباد» لابن القيم- رحمه الله-، وهو كتاب مشهور فى بابه. (3) حسن: أخرجه أبو داود (3735) فى الأشربة، باب: فى إسكاء الآنية، وأحمد فى «المسند» (6/ 108) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5332) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.

قال ابن بطال: واستعذاب الماء لا ينافى الزهد، ولا يدخل في الترفه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالك لما فيه من السرف. وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح قد فعله الصالحون. وليس فى شرب الماء المالح فضيلة. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يشرب العسل الممزوج بالماء البارد. قال ابن القيم: وفى هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدى إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء، فإن شرب العسل ولعقه على الريق يزيل البلغم ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها ويدفع عنها الفضلات، ويسخنها باعتدال ويفتح سددها، والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ البدن. وقالت عائشة: كان أحب الشراب إليه- صلى الله عليه وسلم- الحلو البارد «1» . رواه الترمذى. ويحتمل أن تريد به الماء الممزوج بالعسل أو الذى نقع فيه التمر والزبيب. وكان ينبذ له أول الليل ويشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التى تجىء، والغد إلى العصر، فإن بقى شىء سقاه الخدام أو أمر به فصب «2» . رواه مسلم. وهذا النبيذ: هو ماء يطرح فيه تمر يحليه، وله نفع عظيم فى زيادة القوة، ولم يكن يشربه بعد ثلاث خوفا من تغيره إلى الإسكار. وكان- صلى الله عليه وسلم- يشرب اللبن خالصا تارة، وتارة مشوبا بالماء البارد، لأن اللبن عند الحلب يكون حارا، وتلك البلاد فى الغالب حارة، فكان يكسر حر اللبن بالماء البارد. وعن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل على رجل من الأنصار، ومعه صاحب له، فسلم فرد الرجل وهو يحول الماء فى حائطه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن كان عندك ماء بات فى شنه وإلا كرعنا» فقال: عندى ماء بات فى شن، فانطلق إلى العريش فسكب فى قدح ثم حلب عليه من لبن داجن، فشرب- صلى الله عليه وسلم- «3» الحديث. رواه البخارى.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (1895) فى الأشربة، باب: ما جاء أى الشراب كان أحب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (6/ 38 و 40) ، والحديث أعله الترمذى بالإرسال، وصححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2004) فى الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذى لم يشتد ولم يصر مسكرا، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5613) فى الأشربة، باب: شرب اللبن بالماء.

وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليس يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن» «1» قال الترمذى: حديث حسن. وللترمذى أيضا: عن ابن عمر مرفوعا: «ثلاثة لا ترد: اللبن والوسادة والدهن» «2» وأنشد بعضهم: قد كان من سيرة خير الورى ... صلى عليه الله طول الزمن أن لا يرد الطيب والمتكا ... واللحم أيضا يا أخى واللبن قال ابن القيم: ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يشرب على طعامه لئلا يفسده، ولا سيما إن كان الماء حارا أو باردا إنه ردىء جدّا. انتهى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يشرب قاعدا وكان ذلك عادته. رواه مسلم. وفى رواية له أيضا: أنه نهى عن الشرب قائما «3» وفى رواية له أيضا عن أبى هريرة: «لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسى فليستقىء» «4» . وفى الصحيحين من حديث ابن عباس قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بدلو من ماء زمزم فشرب وهو قائم «5» . وفى حديث على عند البخارى: أنه شرب وهو قائم، ثم قال: «إن أناسا يكرهون الشرب قائما، وإن النبى- صلى الله عليه وسلم- صنع مثل ما صنعت» «6» . وكل هذه الأحاديث صحيحة ولا إشكال فيها ولا تعارض، وغلط من

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (3730) فى الأشربة، باب: ما يقول إذا شرب اللبن، والترمذى (3455) في الدعوات، باب: ما يقول إذا أكل طعاما، وأحمد فى «المسند» (1/ 225) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (381) . (2) حسن: أخرجه الترمذى (2790) فى الأدب، باب: ما جاء فى كراهية رد الطيب، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3046) . (3) صحيح: أخرجه مسلم (2025) فى الأشربة، باب: كراهية الشرب قائما، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2026) فيما سبق، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (5) صحيح: أخرجه البخارى (1637) فى الحج، باب: ما جاء فى زمزم، ومسلم (2027) فى الأشربة، باب: فى الشرب من زمزم قائما. (6) صحيح: أخرجه البخارى (5615 و 5616) فى الأشربة، باب: الشرب قائما.

زعم أن فيها نسخا، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث، والصواب: أن النهى محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه- صلى الله عليه وسلم- قائما فلبيان الجواز. فإن قلت: كيف يكون الشرب قائما مكروها، وقد فعله- صلى الله عليه وسلم-؟ فالجواب: أن فعله- صلى الله عليه وسلم- إذا بيانا للجواز لا يكون مكروها، بل البيان واجب عليه- صلى الله عليه وسلم-. وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «فمن نسى فليستقىء» فمحمول على الاستحباب والندب، فيستحب لمن شرب قائما أن يتقيأ لهذا الحديث الصحيح الصريح سواء كان ناسيا أو لا، قاله النووى. وقال المالكية: لا بأس بالشرب قائما، واستدلوا لذلك بحديث جبير بن مطعم قال: رأيت أبا بكر الصديق يشرب قائما. ويقول مالك إنه بلغه عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلى أنهم كانوا يشربون قياما. وأجابوا عن حديث أبى هريرة «لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسى فليستقىء» بأن عبد الحق قال: فى إسناده عمر بن حمزة العمرى، وهو ضعيف. انتهى. وقال المازرى: قال بعض شيوخنا لعل النهى ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا به، وخروجا عن كون ساقى القوم آخرهم شربا. وقال بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبى هريرة: قال: والأظهر لى أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز، وأحاديث النهى تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل، لأن فى الشرب قائما ضرّا ما، فكره من أجله، وفعله هو لأمنه منه، قال: وعلى هذا الثانى يحمل قوله: «فمن شرب فليستقىء» على أن ذلك يحرك خلطا يكون القىء دواءه، ويؤيده قول النخعى: إنما نهى عن ذلك لداء البطن. انتهى. وقال ابن القيم: للشرب قائما آفات عديدة منها: أنه لا يحصل به الرى التام، ولا يستقر فى المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء وينزل بسرعة إلى المعدة فيخشى منه أن تبرد حرارتها، ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج، وكل هذا يضر بالشارب قائما، فإذا فعله نادرا لم يضره. وعند أحمد عن أبى هريرة أنه رأى رجلا يشرب قائما، فقال له قئه،

فقال: لم؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر قال: لا، قال: قد شرب معك من هو شر منه: الشيطان «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يتنفس فى الشراب ثلاثا ويقول: «إنه أروى وأمرأ وأبرأ» «2» رواه مسلم. ومعنى تنفسه: إبانة القدح عن فيه، وتنفسه خارجه، ثم يعود إلى الشرب. وأخرج الطبرانى فى الأوسط بسند حسن عن أبى هريرة: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يشرب فى ثلاثة أنفاس «3» : إذا أدنى الإناء إلى فيه سمى الله، فإذا أخره حمد الله، يفعل ذلك ثلاثا. وفى هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة، نبه- صلى الله عليه وسلم- على مجامعها بقوله «إنه أروى وأمرأ وأبرأ» فأروى: من الرى- بكسر الراء من غير همز- أشد ريّا وأبلغه وأنفعه. وأبرأ، أفعل من البرء- بالهمز- وهو الشفاء، أى يبرئ من شدة العطش ودائه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات، تسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه، والثالثة ما عجزت عنه الثانية. وأيضا: فإنه أسلم لحرارة المعدة، وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ونهلة واحدة، فإنه أسلم عاقبة وآمن غائلة من تناول جميع ما يروى دفعة واحدة، فإنه يخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزية لشدة برده وكثرة كميته، أو يضعفها فيؤدى ذلك إلى فساد المعدة والكبد، وإلى أمراض رديئة، خصوصا فى سكان البلاد الحارة، وفى الأزمنة الحارة، فإن الشرب فيهما وهلة واحدة مخوف عليهم جدّا. وقوله: أمرأ: بالهمز، أفعل من مرؤ الطعام والشراب فى بدنه إذا داخله وخالطه بسهولة ولذة ونفع. انتهى. وقال بعضهم: والمعنى أنه يصير هنيئا مريئا. أى: سالما أو مبرئا من مرض أو عطش أو أذى. ويؤخذ من ذلك: أنه أقمع للعطش وأقوى على الهضم. ومن آفات الشرب نهلة واحدة، أنه

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 301) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2028) فى الأشربة، باب: كراهة التنفس فى نفس الإناء، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 82) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه اليمان بن المغيرة، وهو ضعيف.

يخاف منه الشرق، بأن ينسد مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه، فإذا تنفس رويدا ثم شرب أمن من ذلك. وقد روى عبد الله بن المبارك والبيهقى وغيرهما عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصّا، ولا يعب عبّا فإنه يورث الكباد «1» . والكباد: - بضم الكاف وتخفيف الباء- وجع الكبد. ولا معارضة بين التنفس هنا وبين النهى عن التنفس فى الإناء الوارد فى الحديث، لأن المنهى عنه التنفس داخل الإناء، فإنه ربما حصل للماء تغير من النفس، إما لكون المتنفس كان متغير الفم لمأكول مثلا، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة، وهاهنا التنفس خارج الإناء فلا تعارض، فلو لم يتنفس جاز الشرب بنفس واحد، وقيل يمنع مطلقا لأنه شرب الشيطان. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا دعى لطعام وتبعه أحد أعلم به رب المنزل، فيقول: «إن هذا تبعنا فإن شئت رجع» «2» . وكان يكرر على أضيافه ويعرض عليهم الأكل مرارا، وفى حديث أبى هريرة فى قصة شرب اللبن، وقوله مرارا: «اشرب» فما زال يقول: اشرب حتى قال: والذى بعثك بالحق لا أجد له مسلكا «3» . رواه البخارى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أكل مع قوم كان آخرهم أكلا. رواه البيهقى فى الشعب عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا. وفى حديث ابن عمر مرفوعا عند ابن ماجه والبيهقى: «إذا وضعت المائدة فلا يقوم الرجل

_ (1) ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور فى سننه وابن السنى، وأبو نعيم فى الطب، والبيهقى فى شعب الإيمان عن ابن أبى حسين مرسلا، كما فى «ضعيف الجامع» (561) . (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2081) فى البيوع، باب: السهولة والسماحة فى الشراء والبيع، ومسلم (2036) فى الأشربة، باب: ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه، من حديث أبى مسعود- رضى الله عنه-. (3) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (6452) فى الرقاق، باب: كيف كان عيش النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتخليهم من الدنيا.

النوع الثانى فى لباسه صلى الله عليه وسلم وفراشه

وإن شبع حتى يفرغ القوم، فإن ذلك يخجل جليسه وعسى أن يكون له فى الطعام حاجة» «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم. فدعا فى منزل عبد الله بن بسر فقال: «اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم» «2» رواه مسلم، ودعا فى منزل سعد فقال: «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة» «3» رواه أبو داود، وسقاه آخر لبنا فقال: «اللهم أمتعه بشبابه» «4» فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء، رواه ابن السنى. النوع الثانى فى لباسه صلى الله عليه وسلم وفراشه قال البخارى: باب ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يتجوز من اللباس. يعنى يتوسع فلا يضيق بالاقتصار على صنف بعينه، أو لا يضيق بطلب النفيس الغالى، بل يستعمل ما تيسر. وقال القاضى عياض: كان- صلى الله عليه وسلم- قد اقتصر منه على ما تدعوه ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان يلبس ما وجده، فيلبس- فى غالب أحواله- الشملة والكساء الخشن والأردية والأزر، ويقسم على من حضره أقبية

_ (1) ضعيف جدّا: أخرجه ابن ماجه (3295) فى الأطعمة، باب: النهى أن يقام عن الطعام حتى يرفع، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2042) فى الأشربة، باب: استحباب وضع النوى خارج التمر، واستحباب دعاء الضيف لأهل الطعام. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (3854) فى الأطعمة، باب: ما جاء فى الدعاء لرب الطعام إذا أكل عنده، والدارمى فى «سننه» (1772) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 118 و 201) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1226) . (4) أخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (6/ 322) من حديث عمرو بن الحمق- رضى الله عنه-.

الديباج المخوصة بالذهب، ويرفع لمن لم يحضر. إذ المباهاة فى الملابس والتزين بها ليست من خصال الشرف والجلالة، وهى من سمات النساء، والمحمود منها نقاوة الثوب، والتوسط فى جنسه، وكونه ليس مثله، غير مسقط لمروءة جنسه. انتهى. وقد روى أبو نعيم فى الحلية عن ابن عمر مرفوعا: «أن من كرامة المؤمن على الله عز وجل نقاء ثوبه ورضاه باليسير» «1» . وله أيضا من حديث جابر: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا وسخة ثيابه فقال: «أما وجد هذا شيئا ينقى به ثيابه؟» «2» . فقد كانت سيرته- صلى الله عليه وسلم- فى ملبسه أتم وأنفع للبدن وأخفه عليه، فإنه لم تكن عمامته بالكبيرة التى يؤذى حملها ويضعفه ويجعله عرضة للآفات، كما يشاهد من حال أصحابها ولا بالصغيرة التى تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد بل وسطا بين ذلك، وكان يدخلها تحت حنكه، فإنها تقى العنق من الحر والبرد، وهو أثبت لها عند ركوب الخيل والإبل، والكر والفر، وكذلك الأردية والأزر أخف على البدن من غيرها. وقد أطنب ابن الحاج فى المدخل فى الاستدلال لاستحباب التحنيك، ثم قال: وإذا كانت العمامة من باب المباح فلابد فيها من فعل سنن تتعلق بها، من تناولها باليمين والتسمية والذكر الوارد، إن كانت مما ليس جديدا، وامتثال السنة فى صفة التعميم، من فعل التحنيك والعذبة. وتصغير العمامة يعنى سبعة أذرع أو نحوها، يخرجون منها التحنيك والعذبة، فإن زاد فى العمامة قليلا لأجل حر أو برد فيسامح فيه. ثم قال بعد أن ذكر قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «3» ، فعليك بأن تتسرول قاعدا وتتعمم قائما. انتهى.

_ (1) ضعيف جدّا: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 132) وقال: رواه الطبرانى، وفيه عباد بن كثير، وثقه ابن معين، وضعفه غيره، وحرول بن حنفل ثقة، وقال ابن المدينى: له مناكير، وبقية رجاله ثقات. اه، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (5309) . (2) رواه الطبرانى وأبو نعيم، كما فى «كشف الخفاء» للعجلونى (922) . (3) سورة الحشر: 7.

ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يطول أكمامه ويوسعها، بل كان كم قميصه إلى الرسغ، وهو منتهى الكف عند المفصل، لا يجاوز اليد فيشق على لابسه ويمنعه سرعة الحركة والبطش، ولا يقصره- صلى الله عليه وسلم- عن هذا فتبرز للحر والبرد، وقد روى عن أسماء بنت يزيد قالت: كان كم قميص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الرسغ. رواه الترمذى. وكان ذيل قميصه وردائه إلى أنصاف الساقين، لم يتجاوز الكعبين، فيؤذى الماشى ويجعله كالمقيد، ولم يقصر عن عضلة ساقيه، فيتأذى بالحر والبرد. أشار إليه فى زاد المعاد. وأخرج الترمذى عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتى تحدث عن عمها قال: بينا أنا أمشى بالمدينة إذا إنسان خلفى يقول: «ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى» ، فإذا هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله إنما هى بردة قال: «أما لك فى أسوة؟» فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه «1» . وأخرج الطبرانى من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن عمر قال: رآنى النبى- صلى الله عليه وسلم- أسبلت إزارى، فقال: «يا ابن عمر كل شىء لمس الأرض من الثياب فهو فى النار» «2» . وفى البخارى من حديث أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فى النار» «3» . قال الخطابى: يريد أن الموضع الذى يناله الإزار من أسفل الكعبين فى النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه: أن الذى دون الكعبين من القدم يعذب بالنار عقوبة. وحاصله أنه من باب تسمية الشىء باسم ما جاوره أو حل فيه، وتكون «من» بيانية.

_ (1) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (9682 و 9683) ، وأحمد فى «المسند» (5/ 364) . (2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 98) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 387) ، وانظر ما بعده. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5787) فى اللباس، باب: ما أسفل من الكعبين فهو فى النار.

وللطبرانى من حديث عبد الله بن مغافل، رفعه: (إزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين وليس عليه حرج فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففى النار) «1» والإزرة: - بالكسر- الحالة وهيئة الائتزار مثل الركبة والجلسة. واعلم طهر الله ثوبى وثوبك، ونزه سرى وسرك- أن هذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الذى ورد فيه الوعيد بالاتفاق. وقد أخرج أصحاب السنن إلا الترمذى- واستغربه- وابن أبى شيبة من طريق عبد العزيز بن أبى رواد عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الإسبال فى الإزار والقميص والعمامة، من جر شيئا منها خيلاء» «2» الحديث، فبين فى هذه الرواية أن الحكم ليس خاصّا بالإزار، وإن جاء فى أكثر طرق الأحاديث بلفظ الإزار. قال الطبرى: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار، لأن أكثر الناس فى عهده كانوا يلبسون الأزر والأردية، فلما لبس الناس القمص والدراريع كان حكمها حكم الإزار فى النهى. قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب فإنه يشمل جميع ذلك، وفى تصوير جر العمامة نظر إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة فى ذلك كان من الإسبال. وهل يدخل فى الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر. والذى يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل فى ذلك. قال ابن القيم: وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال، التى هى كالآخراج، وعمائم كالأبراج، فلم يلبسها- صلى الله عليه وسلم- هو ولا أحد من أصحابه، وهى مخالفة لسنته، وفى جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء، انتهى. وقال صاحب «المدخل» : ولا يخفى على ذى بصيرة أن كم بعض من

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 126) عن عبد الله بن مغافل وقال: رواه الطبرانى وفيه الحكم بن عبد الملك القرشى، وهو ضعيف. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (4094) فى اللباس، باب: فى قدر موضع الإزار، والنسائى (8/ 208) فى الزينة، باب: إسبال الإزار، وابن ماجه (3576) فى اللباس، باب: طول القميص كم هو؟، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2770) .

ينسب إلى العلم اليوم فيه إضاعة المال المنهى عنها، لأنه قد يفضل من ذلك الكم ثوب لغيره. انتهى. لكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك فى تحريمه، وما كان على طريق العادة، فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع منه. ونقل القاضى عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد فى اللباس من الطول والسعة. وفى حديث أبى هريرة عند البخارى مرفوعا «بينما رجل يمشى تعجبه [نفسه] مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة» «1» . وفى الطبرانى وأبى داود «إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردة فتبختر فيها، فنظر الله إليه فمقته، فأمر الأرض فأخذته» «2» . وهذا الوعيد المذكور يتناول الرجال والنساء على هذا الفعل المخصوص، وقد فهمت ذلك أم سلمة- رضى الله عنها-، فأخرج النسائى والترمذى- وصححه- من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر: فقالت أم سلمة فكيف تصنع النساء بذيولهن فقال: يرخين شبرا فقالت: إذا تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه «3» . وحاصل ما ذكر فى ذلك: أن للرجال حالين، حال استحباب: وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، وحال جواز: وهو إلى الكعبين، وكذلك للنساء حالان: حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع، وأن الإسبال يكون فى الإزار والقميص والعمامة، وأنه لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5789) فى اللباس، باب: من جر ثوبه من الخيلاء، ومسلم (2088) فى اللباس، باب: تحريم التبختر فى المشى مع إعجابه بثيابه. (2) أخرجه الطبرانى فى الكبير عن أبى جوى الجهنى، كما فى «كنز العمال» (7788) . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (4117) فى اللباس، باب: فى قدر الذيل، والترمذى (1731) فى اللباس، باب: ما جاء فى ذيول النساء، والنسائى (8/ 209) فى الزينة، باب: ذيول النساء، وأحمد فى «المسند» (2/ 5) و (6/ 213 و 309) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

للخيلاء، وإن كان لغيرها فهو مكروه للتنزيه. قال النووى: وظواهر الأحاديث فى تقييدها بالخيلاء يدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، قال: وهذا نص الشافعى على الفرق كما ذكرنا انتهى. تنبيه: قال العراقى فى شرح الترمذى: الذراع الذى رخص للنساء فيه، هل ابتداؤه من الحد الممنوع منه الرجال، وهو من الكعبين، أو من الحد المستحب وهو أنصاف الساقين، أو حده من أول ما يمس الأرض؟ الظاهر أن المراد الثالث: بدليل حديث أم سلمة الذى رواه أبو داود والنسائى- واللفظ له- وابن ماجه، قالت: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كم تجر المرأة من ذيلها؟ قال «شبرا» قالت: إذا ينكشف عنها، قال: «فذراع لا تزيد عليه» «1» فظاهره: أن لها أن تجر على الأرض منه ذراعا. قال: والظاهر أن المراد بالذراع ذراع اليد وهو شبران، لما فى سنن ابن ماجه عن ابن عمر قال: رخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأمهات المؤمنين شبرا، ثم استزدنه فزادهن شبرا. فدل على أن الذراع المأذون فيه شبران وهو الذراع الذى يقاس به الحصر اليوم. وإنما جاز ذلك للنساء لأجل الستر لأن المرأة كلها عورة إلا ما استثنى. وقد كان له- صلى الله عليه وسلم- عمامة تسمى السحاب، ويلبس تحتها القلانس اللاطئة. والقلانس: جمع قلنسوة- بفتح القاف وسكون النون وضم المهملة وفتح الواو، وقد تبدل ياء تحتية، وقد تبدل ألفا وتفتح السين، يقال: قلنساة، وقد تحذف النون من هذه بعدها هاء تأنيث- غشاء مبطن يستر به الرأس، قاله الفراء فى شرح «الفصيح» . وقال ابن هشام: هى التى يقول لها العامة الشاشية، وفى «المحكم» : هى ملابس الرؤوس، معروفة، قال أبو هلال العسكرى: هى التى تغطى بها العمائم وتستر من الشمس والمطر، كأنها عنده رأس البرنس. انتهى. وروى الترمذى عن جابر- رضى الله عنه- قال: (دخل النبى- صلى الله عليه وسلم- مكة يوم

_ (1) صحيح: وهو ما قبله.

الفتح وعليه عمامة سوداء) «1» ، وفى رواية لأنس عند البخارى (دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر) «2» وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء، زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس. ويجمع بينهما: بأن العمامة السوداء كانت فوق المغفر. وجمع بينهما القاضى عياض: بأن أول دخوله كان على رأسه المغفر، ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر، بدليل قوله فى حديث عمرو بن حريث عن أبيه (خطب الناس وعليه عمامة سوداء) «3» لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة. قال الولى بن العراقى: وهو أولى وأظهر فى الجمع من الأول. وقد تقدم نحو ذلك فى غزوة فتح مكة. وعن ابن عمر قال: (كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا اعتم سدل) «4» رواه الترمذى فى الشمائل، زاد مسلم (وقد أرخى طرفها بين كتفيه) . وقد روى أبو محمد ابن حيان «5» فى كتاب «أخلاق النبى- صلى الله عليه وسلم-» من حديث ابن عمر: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتم قال: يدير كور العمامة على رأسه ويغرسها من ورائه ويرخى لها ذؤابة بين كتفيه. وروى مسلم من حديث عمرو بن حريث قال: (رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه) «6» وعنده أيضا عن جابر، وقال: «دخل مكة وعليه عمامة سوداء» «7» ولم يذكر فيه ذؤابة، فدل على أنه لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه. لكن قد يقال: إن دخوله مكة كان وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه، فلبس فى كل موطن ما يناسبه. وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1358) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1359) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1846) فى الحج، باب: دخول الحرم ومكة بغير إحرام. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (1736) فى اللباس، باب: فى سدل العمامة بين الكتفين، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4676) . (5) صحيح: أخرجه مسلم (1359) من حديث عمرو بن الحريث المتقدم قبل حديث. (6) قلت: هو الحديث السابق. (7) صحيح: وقد تقدم قريبا.

فى سبب الذؤابة شيئا بديعا: وهو أن النبى- صلى الله عليه وسلم- إنما اتخذها صبيحة المنام الذى رآه بالمدينة لما رأى رب العزة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدرى، فوضع يده بين كتفى فعلمت ما بين السماء والأرض «1» . الحديث وهو فى الترمذى، وسئل عنه البخارى فقال: صحيح. قال: فمن تلك الغداة أرخى الذؤابة بين كتفيه. قال: وهذا من العلم الذى تنكره ألسنة الجهال وقلوبهم، قال: ولم أر هذه الفائدة فى شأن الذؤابة لغيره. انتهى. وعبارة غير الهدى: وذكر ابن تيمية أنه- صلى الله عليه وسلم- لما رأى ربه واضعا يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة. انتهى لكن قال العراقى بعد أن ذكره: لم نجد لذلك أصلا. انتهى. وروى ابن أبى شيبة عن على قال: عممنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعمامة سدل طرفها على منكبى وقال: «إن الله أمدنى يوم بدر ويوم حنين بملائكة معممين هذه العمة» وقال: «إن العمامة حاجز بين المسلمين وبين المشركين» «2» . قال عبد الحق الإشبيلى: وسنة العمامة- بعد فعلها- أن يرخى طرفها ويتحنك به، فإن كانت بغير طرف ولا تحنيك فذلك يكره عند العلماء، واختلف فى وجه الكراهة، فقيل لمخالفة السنة فيها، وقيل: لأنها كذلك عمائم الشياطين. وجاءت الأحاديث فى إرسال طرفها على أنواع: منها ما تقدم أنه أرسل طرفها على منكب على، ومنها: أن عبد الرحمن بن عوف قال: عممنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسدلها بين يدى ومن خلفى «3» . ذكره أبو داود. وعن ابن عباس أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه عمامة دسماء أى سوداء. رواه الترمذى. وفى حديث ركانة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن فرق ما بيننا وبين المشركين

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3233) فى التفسير، باب: ومن سورة ص، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (10/ 14) ، من حديث على- رضى الله عنه-. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (4079) فى اللباس، باب: فى العمائم، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

العمائم على القلانس» «1» . رواه الترمذى أيضا. وعن أبى كبشة الأنمارى قال: كانت كمام أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- بطحا. رواه الترمذى أيضا. وفى رواية أكمة، وهما جمع كثرة وقلة، الكمة: القلنسوة، يعنى أنها كانت منبطحة غير منتصبة، وعن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانت له كمة بيضاء، رواه الدمياطى. وكان أحب الثياب إليه- صلى الله عليه وسلم- القميص، كما فى الشمائل للترمذى، من حديث أم سلمة قالت: (كان أحب الثياب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- القميص) «2» . وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رهط من مزينة لنبايعه وإن قميصه لمطلق الأزرار- أو قال: زر قميصه مطلق- قال: فأدخلت يدى فى جيب قميصه فمسست الخاتم «3» . رواه الترمذى. وعن أنس قال: كان قميص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قطنا قصير الطول والكمين، رواه الدمياطى. وعن أنس بن مالك قال: كان أحب الثياب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبسه الحبرة «4» . رواه الترمذى. والحبرة: ضرب من البرود فيه حمرة. وعن أبى رمثة قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه بردان أخضران «5» رواه الترمذى. وعن عطاء عن أبى يعلى عن أبيه قال: رأيت

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4078) فى اللباس، باب: العمائم، والترمذى (1784) فى اللباس، باب: رقم (41) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (3959) . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (4025) فى اللباس، باب: ما جاء فى القميص، والترمذى (1762) فى اللباس، باب: ما جاء فى القميص، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4625) . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (4082) فى اللباس، باب: فى حل الأزرار، وأحمد فى «المسند» (3/ 434) و (4/ 19) و (5/ 35) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) صحيح: أخرجه البخارى (5812 و 5813) فى اللباس، باب: البرود والحبرة والشملة، ومسلم (2079) فى اللباس والزينة، باب: فضل لباس ثياب الحبرة. (5) صحيح: أخرجه أبو داود (4206) فى الترجل، باب: فى الخضاب، والترمذى (2812) فى الأدب، باب: ما جاء فى الثوب الأخضر، والنسائى (3/ 185) فى صلاة العيدين، باب: الزينة للخطبة للعيدين، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت مضطبعا ببرد أخضر «1» . رواه أبو داود. وعن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لبس جبة رومية ضيقة الكمين «2» . رواه الترمذى. وعن أبى ذر: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه ثوب أبيض «3» . رواه البخارى: وعن عائشة قالت: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات غداة وعليه مرط شعر أسود «4» . رواه الترمذى. وعن أنس قال كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبس الصوف، وكان له- صلى الله عليه وسلم- كساء ملبد يلبسه ويقول: «إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد» «5» رواه الشيخان. فإن قلت قد علم من هذا، ومن سيرة السلف الصالح، بذاذة الهيئة ورثاثة الملابس، فما بال الشاذلية من الصوفية يجملون هياتهم وملابسهم، وطريقهم الاقتداء بالسنة الشريفة والسلف الصالح. أجاب العارف الربانى على الوفائى، أذاقنا الله حلاوة مشربه، ومن خطه الكريم نقلت بما لفظه: ذلك لأنهم نظروا إلى المعانى والحكم. فوجدوا السلف الصالح لما وجدوا أهل الغافلة والشغل لدنياهم منهمكين على الزينة الظاهرة، تفاخرا بدنياهم واطمئنانا إليها وإشعارا بأنهم من أهلها، خالفوهم إظهارا لحقارة ما حقره الحق مما عظمه الغافلون بالغنى عما اطمأن إليه الغافلون؛ فكأن أطمارهم يومئذ تقول الحمد لله الذى أغنانا به عما أفقر نفسه إليه من همه دنياه. فلما طال الأمد وقست القلوب بنسيان ذلك المعنى، واتخذ الغافلون رثاثة الأطمار وبذاذة الهيئة حيلة على جلب دنياهم انعكس

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (1883) فى المناسك، باب: الاضطباع فى الطواف، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (5/ 79) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه الترمذى (1768) فى اللباس، باب: ما جاء فى لبس الجبة والخفين، والنسائى (1/ 83) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين فى السفر، وابن ماجه (3563) فى اللباس، باب: لبس الصوف، والحديث أصله عند مسلم (274) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (5827) فى اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (94) فى الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2081) فى اللباس والزينة، باب: التواضع فى اللباس. (5) قلت: هو ليس فيهما، ولم أجده.

الأمر، فصار مخالفة هؤلاء فى ذلك لله هو قول السلف وطريقتهم كما تقدم. قال وقد أرشد الأستاذ أبو الحسن الشاذلى. قدس الله سره العزيز، إلى ذلك بقوله لبعض من أنكر عليه جمال هيئته من أصحاب الرثاثة: يا هذا هيئتى هذه تقول: الحمد لله، وهيئتك هذه تقول: أعطونى شيئا من دنياكم. والقوم أفعالهم دائرة مع الحكمة الربانية مرادهم مرضاة ربهم. انتهى ما قاله سيدى على وفا. وقد ورد فى الحديث الصحيح عنه- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله جميل يحب الجمال» «1» وفى الحديث الآخر «إن الله نظيف يحب النظافة» «2» وفى السنن عن أبى الأحوص الجشمى عن أبيه قال: رآنى النبى- صلى الله عليه وسلم- وعلى أطمار- وفى رواية النسائى: وعلى ثوب دون- فقال: «هل لك من مال؟» قلت: نعم، قال: «من أى المال؟» قلت: من كل ما آتى الله من الإبل والشاء، قال: «فكثر نعمته وكرامته عليك» «3» ، وفى رواية النسائى قال: «فإذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته» وفى حديث جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا شعثا قد تفرق شعره فقال: «ما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه» ، ورأى رجلا عليه ثياب وسخة فقال: «ما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه» «4» رواه أحمد. وفى السنن: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» «5» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (91) فى الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، من حديث عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنه-. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2799) فى الأدب، باب: ما جاء فى النظافة، من حديث سعد- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1616) . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (4063) فى اللباس، باب: فى غسل الثوب، والنسائى (8/ 180) فى الزينة، باب: الجلاجل، وأحمد فى «المسند» (3/ 473) و (4/ 137) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (254) . (4) صحيح: أخرجه أبو داود (4062) فى اللباس، باب: فى غسل الثوب، وأحمد فى «المسند» (3/ 357) ، وابن حبان فى «صحيحه» (5483) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (5) صحيح: وقد تقدم قبل حديث.

فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذى يحبه، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن، فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها، ولأجل محبته تعالى للجمال أنزل على عباده لباسا يجمل ظواهرهم، وتقوى تجمل بواطنهم فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ «1» . وقال فى أهل الجنة: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً «2» . وهو سبحانه كما يحب الجمال فى الأقوال والأفعال واللباس والهيئة، يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والهيئة، فيبغض القبيح وأهله ويحب الجمال وأهله. ولكن ضل فى هذا الموضع فريقان: فريق قالوا: كل ما خلق الله تعالى جميل، فهو يحب كل ما خلقه، ونحن نحب جميع ما خلقه فلا نبغض منه شيئا، قالوا: ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة، واحتجوا بقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «3» . وهؤلاء قد عدموا الغيرة لله من قلوبهم، والبغض فى الله، والمعاداة فيه، وإنكار المنكر وإقامة الحدود. والفريق الثانى، قالوا: قد ذم الله جمال الصور، وتمام القامة والخلقة، فقال عن المنافقين وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ «4» . وفى صحيح مسلم مرفوعا «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» «5» ، قالوا: وقد حرم الله علينا لباس الحرير والذهب، وآنية الذهب والفضة، وذلك من أعظم جمال الدنيا. وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَ

_ (1) سورة الأعراف: 26. (2) سورة الإنسان: 11، 12. (3) سورة السجدة: 7. (4) سورة المنافقون: 4. (5) صحيح: أخرجه مسلم (2564) فى البر والصلة، باب: تحريم ظلم الإنسان وخذله واحتقاره، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ «1» . وفى الحديث «البذاذة من الإيمان» «2» وقد ذم الله المسرفين، والسرف كما يكون فى الطعام والشراب يكون فى اللباس. وفصل النزاع أن يقال: الجمال فى الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم. فالمحمود منه، ما كان لله وأعان على طاعة الله، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له، كما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير فى الحرب والخيلاء فيه، فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه. والمذموم منه: ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء، وأن يكون من هو غاية العبد وأقصى مطلبه، فإن كثيرا من الناس ليس له همة فى سوى ذلك. وأما ما لا يحمد ولا يذم فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين. والمقصود من هذا الحديث أن الله تعالى يحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه فى لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والشعور المكروهة، والختان وتقليم الأظافر وغير ذلك مما وردت به السنة، والله أعلم. وعن جابر بن سمرة قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ليلة مقمرة أضحيان، فجعلت أنظر إليه- صلى الله عليه وسلم- وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فإذا هو أحسن عندى من القمر «3» . رواه الدارمى والترمذى: وعن عون بن أبى جحيفة عن

_ (1) سورة طه: 131. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (4161) فى الترجل، باب: رقم (1) ، وابن ماجه (4118) فى الزهد، باب: من لا يؤبه له، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 51) ، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2879) . (3) صحيح: وقد تقدم.

أبيه قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه حلة حمراء كأننى أنظر إلى بريق ساقيه «1» . قال سفيان: أراه حبرة. وعن البراء بن عازب قال: ما رأيت أحدا من الناس أحسن فى حلة حمراء من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» . رواهما الترمذى. وفى البخارى ومسلم: رأيته فى حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه. وفى رواية لأبى داود ما رأيت من ذى لمة فى حلة حمراء أحسن من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» . وقوله: من ذى لمة: - بكسر اللام- أى شعر الرأس، دون الجمة، سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين، فإذا زادت فهى الجمة. وفى النسائى: ما رأيت رجلا أحسن فى حلة حمراء من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال فى القاموس: الحلة- بالضم- إزار ورداء، برد أو غيره، ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة. قال ابن القيم: وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتا، ولا يخالطها غيرها، وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، كسائر البرود اليمانية، وهى معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط، وإلا فالأحمر البحت ينهى عنه أشد النهى، وفى صحيح البخارى: (أنه- صلى الله عليه وسلم- نهى عن المياثر الحمر) «4» وفى صحيح مسلم عن ابن عمر قال: (رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- على ثوبين معصفرين فقال: «إن هذا لباس الكفار فلا تلبسهما» «5» ومعلوم أن ذلك إنما يصبغ صباغا أحمر. قال: وفى جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرهما نظر، وأما كراهته فشديدة، فكيف يظن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه لبس الأحمر القانى، كلا لقد أعاذه الله منه، وإنما وقعت الشبهة من لفظ الحلة الحمراء والله أعلم. انتهى.

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) صحيح: أخرجه البخارى (5849) فى اللباس، باب: الميثرة الحمراء، من حديث البراء- رضى الله عنه-. (5) صحيح: أخرجه مسلم (2077) فى اللباس، باب: النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر.

وقال النووى: اختلف العلماء فى الثياب المعصفرة، وهى المصبوغة بعصفر فأباحها جميع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الإمام الشافعى وأبو حنيفة ومالك، ولكنه قال: غيرها أفضل منها. وفى رواية عنه أنه أجاز لبسها فى البيوت وأفنية الدور وكرهه فى المحافل والأسواق وغيرها. وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهى على هذا، لأنه ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- لبس حلة حمراء، وفى الصحيحين من حديث ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- صبغ بالصفرة، وحمل بعضهم النهى على المحرم بالحج أو العمرة. وقد أتقن البيهقى المسألة فى «معرفة السنن» فقال: نهى الشافعى الرجل عن المزعفر، وأباح له المعصفر، قال الشافعى: وإنما رخصت فى المعصفر لأنى لم أجد أحدا يحكى عنه- صلى الله عليه وسلم- النهى عنه، إلا ما قال على- رضى الله عنه- أنه- صلى الله عليه وسلم- نهانى ولا أقول نهاكم. قال البيهقى: وقد جاءت أحاديث تدل على أن النهى على العموم، ثم ذكر حديث مسلم «أن هذه من لباس الكفار» وأحاديث غيرها، ثم قال: ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعى لقال بها إن شاء الله تعالى، ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعى أنه قال: إذا صح الحديث بخلاف قولى فاعملوا بالحديث ودعوا قولى. وفى رواية: مذهبى. قال البيهقى: قال الشافعى: وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر وآمره إذا تزعفر أن يغسله، قال البيهقى: فتبع السنة فى المزعفر فمتابعتها فى المعصفر أولى به، انتهى. ورأيت فى فتاوى شيخنا العلامة قاسم أحد أئمة الحنفية ومحققيها كراهته للتحريم مع صحة الصلاة فيه، واستدل له بما ذكرته، وبما فى حديث طاووس عند الحاكم وقال على شرطهما عن ابن عمرو بن العاص قال: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وعلى ثوب معصفر، قال: «من أين لك هذا؟» قال: صنعته لى أهلى فقال- صلى الله عليه وسلم-: «احرقه» «1» انتهى.

_ (1) قلت: هو عند أبى داود (4068) فى اللباس، باب: فى الحمرة، ولكن الحرق من فعل عبد الله بن عمرو لا من قوله- صلى الله عليه وسلم-، بل قال له لما علم بفعله: «أفلا كسوته بعض أهلك» .

وعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبس برده الأحمر فى العيدين والجمعة «1» ، وعن يحيى بن عبد الله بن مالك قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصبغ ثيابه بالزعفران قميصه ورداءه وعمامته. رواهما الدمياطى. وهو عند أبى داود بلفظ: يصبغ بالورس والزعفران ثيابه حتى عمامته «2» ، وكذا رواه من حديث زيد بن أسلم وأم سلمة وابن عمر، لكن يعارضه ما فى الصحيح أنه- صلى الله عليه وسلم- نهى عن التزعفر والله أعلم. وأما صفة إزاره- صلى الله عليه وسلم-، فعن أبى بردة بن أبى موسى الأشعرى قال: أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى هذين «3» ، رواه البخارى، وفى رواية: إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه التى تدعونها الملبدة، وفى رواية: كساء ملبدا. قال ابن الأثير: أى مرقعا، يقال: لبدت القميص ألبده، ولبدته، ويقال للخرقة التى يرقع بها صدر القميص. اللبدة: وقيل الملبد: الذى ثخن وسطه وصفق حتى صار يشبه اللبد. وروى مسلم من حديث عائشة قالت: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود «4» والمرط: - بكسر الميم وإسكان الراء- كساء من صوف أو خز، يؤتزر به. والمرحل: بتشديد الحاء المهملة المفتوحة، كمعظم، هو الذى فيه صور الرحال، قال فى القاموس فى مادة ر ح ل: وك «معظم» : برد فيه تصاوير رحل، قال: وتفسير الجوهرى إياه بإزار خز فيه علم، غير جيد، إنما ذلك تفسير المرجل- بالجيم-، وقال فى مادة ر ج ل- يعنى الجيم-: وبرد مرجل كمعظم، فيه صور الرجال، انتهى.

_ (1) ضعيف: أخرجه البيهقى، كما فى «ضعيف الجامع» (4620) . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (4064) فى اللباس، باب: فى المصبوغ بالصفرة، والنسائى (8/ 140) فى الزينة، باب: الخضاب بالصفرة، والحديث صحح إسناده الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) صحيح: أخرجه البخارى (5818) فى اللباس، باب: الأكسية والخمائص، ومسلم (2080) فى اللباس والزينة، باب: التواضع فى اللباس. (4) صحيح: وقد تقدم.

وقال النووى: والصواب الذى رواه الجمهور، وضبطه المتقنون: بالحاء المهملة، أى عليه صور رحال الإبل، ولا بأس بهذه الصورة، وإنما يحرم تصوير الحيوان. وقال الخطابى، المرحل، الذى فيه خطوط والله أعلم. وعن عروة: أن طول رداء النبى- صلى الله عليه وسلم- أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر وعن عروة أيضا: أن ثوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى كان يخرج فيه إلى الوفد رداء أخضر فى طول أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر. وعن معن بن عيسى قال: حدثنا محمد بن هلال قال: رأيت على هشام بن عبد الملك برد النبى- صلى الله عليه وسلم- من حبرة له حاشيتان. وعن ابن عمر قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه إزار يتقعقع. وعن يزيد بن أبى حبيب أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرخى الإزار بين يديه ويرفعه من ورائه. وعن ابن عباس قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأتزر تحت سرته وتبدو سرته، ورأيت عمر يأتزر فوق سرته، رواها كلها الدمياطى. (فصل) وعن أسماء بنت أبى بكر، أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية، لها لبنة ديباج، وفرجاها مكفوفان بالديباج، وقالت: هذه جبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كانت عند عائشة، فلما قبضت قبضتها، وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبسها فنحن نغسلها للمرضى نستشفى بها «1» . رواه مسلم. وقوله: جبة طيالسة: بإضافة جبة إلى طيالسة. وكسروانية: بكسر الكاف وفتحها، والسين ساكنة والراء مفتوحة، نسبة إلى كسرى ملك الفرس. ولبنة: بكسر اللام وإسكان الباء، رقعة فى جيب القميص. وفيه: جواز لبس ما له فرجان وأنه لا كراهة فيه، وأن المراد بالنهى عن الحرير المتحمض منه، أو ما أكثره منه، وأنه ليس المراد تحريم كل جزء منه، بخلاف الخمر والذهب فإنه يحرم كل جزء منهما، قاله النووى. (لطيفة) قيل: لما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يبدو منه إلا طيب، كان آية

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2069) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.

ذلك فى بدنه الشريف أنه لا يتسخ له ثوب، فما اتسخ له ثوب قط، وقال ابن سبع فى «الشفاء» والسبتى فى «أعذب الموارد وأطيب الموالد» : لم يكن القمل يؤذيه تعظيما له وتكريما- صلى الله عليه وسلم- لكن يشكل عليه ما رواه أحمد والترمذى فى الشمائل عن عائشة- رضى الله عنها-: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفلى ثوبه ويحلب شاته «1» ، ومن لازم التفلى وجود شىء يؤذى فى الجملة، إما قملا أو برغوثا أو نحو ذلك. ويمكن أن يجاب: بأن التفلى لاستقذار وجود ما علق بثوبه الشريف من غيره، ولو لم يحصل منه أذى فى حقه- صلى الله عليه وسلم-، وهذا فيه بحث، لأن أذى القمل هو غذاؤه من البدن على ما أجرى الله العادة، وإذا امتنع الغذاء لا يعيش الحيوان عادة. ونقل الفخر الرازى: أن الذباب لا يقع على ثيابه قط، وأنه لا يمتص دمه البعوض. وأما الطيلسان- وهو بفتح اللام، واحدة الطيالسة، والهاء فى الجمع للعجمة لأنه فارسى معرب، وهو الساج أيضا، وقال ابن خالويه فى شرح «الفصيح» يقال للطيلسان الأخضر: الساج، وفى «المجمل» لابن فارس: الطاق الطيلسان- فقال ابن القيم: لم ينقل عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه لبسه، ولا أحد من أصحابه، بل ثبت فى صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر الدجال فقال: «يخرج معه سبعون ألفا من يهود أصبهان عليهم الطيالسة» «2» ورأى أنس جماعة عليهم الطيالسة فقال: ما أشبههم بيهود خيبر. قال: ومن هاهنا كرهه جماعة من السلف والخلف، لما روى أبو داود والحاكم فى المستدرك أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» «3» وفى الترمذى:

_ (1) صحيح: أخرجه أبو نعيم فى الحلية، كما فى «صحيح الجامع» (4996) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2944) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: فى بقية من أحاديث الدجال، من حديث أنس، وليس عن النواس بن سمعان- رضى الله عنهم-. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (4031) فى اللباس، باب: فى لبس الشهرة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6149) .

«ليس منا من تشبه بغيرنا» «1» وأما ما جاء فى حديث الهجرة أنه- صلى الله عليه وسلم- جاء إلى أبى بكر- رضى الله عنه- متقنعا بالهاجرة، فإنما فعله- صلى الله عليه وسلم- تلك الساعة ليختفى بذلك للحاجة، ولم يكن عادته التقنع. وقد ذكر أنس عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يكثر القناع «2» . وهذا إنما كان يفعله للحاجة من الحر ونحوه. قال شيخ الإسلام الولى بن العراقى فى شرح تقريب [الأسانيد:] التقنع معروف وهو تغطية الرأس بطرف العمامة أو برداء أو نحو ذلك. انتهى. وقال ابن الحاج فى «المدخل» : وأما قناع الرجل فهو أن يغطى رأسه بردائه ويرد طرفه على أحد كتفيه. انتهى. وأما قول ابن القيم: إنه- صلى الله عليه وسلم- إنما فعل ذلك للحاجة، فيرد عليه حديث سهل بن سعد أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يكثر القناع. رواه البيهقى فى الشعب والترمذى. وللبيهقى فى الشعب أيضا وابن سعد فى طبقاته من حديث أنس بلفظ: يكثر التقنع، فهذا وما أشبهه يرد قول ابن القيم: أنه لم ينقل عنه أنه- صلى الله عليه وسلم- لبسه. وأما قوله: ولا أحد من أصحابه، فيرده ما أخرجه الحاكم فى المستدرك، بسند على شرط الشيخين عن مرة بن كعب قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يذكر فتنة فقربها، فمر رجل مقنع فى ثوب، فقال: «هذا يومئذ على الهدى» ، فقمت فإذا هو عثمان بن عفان- رضى الله عنه- «3» . وأخرج سعيد بن منصور فى سننه عن أبى العلاء قال: رأيت الحسن بن على يصلى وهو مقنع

_ (1) حسن: أخرجه الترمذى (2695) فى الاستئذان، باب: فى كراهية إشارة اليد فى السلام، من حديث ابن عمرو- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (50434) . (2) ضعيف: أخرجه الترمذى فى «الشمائل» (ص 32) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4601) . (3) صحيح: أخرجه الترمذى (3704) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان- رضى الله عنه-، وابن ماجه (111) فى المقدمة، باب: فضل عثمان- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

رأسه، وأخرج ابن سعد عن سليمان بن المغيرة قال: رأيت الحسن يلبس الطيالسة، وأخرج عن عمارة بن زاذان قال: رأيت على الحسن طيلسانا أندقيّا. وأما ما ذكره ابن القيم من قصة اليهود، فقال الحافظ ابن حجر: إنما يصلح الاستدلال به فى الوقت الذى تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك فى هذه الأزمنة فصار ذلك داخلا فى عموم المباح، وقد ذكره ابن عبد السلام فى أمثلة البدعة المباحة. وقد يصير من شعار قوم فيكون تركه من الإخلال بالمروءة. وقيل: إنما أنكر أنس ألوان الطيالسة لأنها كانت صفراء. والله أعلم. وأما الخاتم ففى الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من ورق، فكان فى يده، ثم كان فى يد أبى بكر، ثم كان فى يد عمر، ثم كان فى يد عثمان حتى وقع فى بئر أريس «1» . وفيهما أيضا عن أنس بن مالك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لبس خاتم فضة فيه فص حبشى، وكان يجعل فصه مما يلى كفه. وأخرج أحمد والنسائى والترمذى والبزار فى مسنده عن بريدة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- رأى فى يد رجل خاتما من حديد، فقال: «ما لى أجد منك ريح الأصنام» ، ثم قال له: «اتخذه من فضة ولا تزد على مثقال» «2» . وقد اختلف العلماء فى لبسه فى الجملة، فأباحه كثير من أهل العلم من غير كراهة، ومنهم من كرهه إذا قصد به الزينة، ومنهم من كرهه إلا لذى سلطان، لحديث أبى داود والنسائى عن أبى ريحانة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نهى عن لبس الخاتم إلا لذى سلطان. ولأنه- صلى الله عليه وسلم- إنما اتخذه لحاجة ختم الكتب التى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5866) فى اللباس، باب: خاتم الفضة، ومسلم (2091) فى اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال. (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4223) فى الخاتم، باب: ما جاء فى خاتم الحديد، والترمذى (1785) فى اللباس، باب: ما جاء فى الخاتم الحديد، والنسائى (8/ 172) فى الزينة، باب: مقدار ما يجعل فى الخاتم من الفضة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

يبعثها إلى الملوك، كما فى حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا بختم فصاغ خاتما ونقش فيه: محمد رسول الله، وإنما لبسه أبو بكر- رضى الله عنه- لأجل ولايته، فإنه كان يحتاج إليه كما كان- صلى الله عليه وسلم- يحتاج إليه وكذلك عمر وعثمان. وحكى ابن عبد البر عن طائفة من العلماء كراهة لبسه مطلقا، احتجاجا بحديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- نبذه ولم يلبسه. وفى الشمائل للترمذى عن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من فضة فكان يختم به ولا يلبسه. وفى الصحيحين من حديث أنس أنه رأى فى يده- صلى الله عليه وسلم- خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاتمه فطرح الناس خواتيمهم. والصواب: القول الأول، فإن لبس النبى- صلى الله عليه وسلم- الخاتم إنما كان فى الأصل لأجل المصلحة لختم الكتب التى يرسلها إلى الملوك، ثم استدام لبسه ولبسه أصحابه معه، ولم ينكره عليهم، بل أقرهم عليه، فدل ذلك على الإباحة المجردة. وأما حديث النهى عن الخاتم إلا لذى سلطان فقال ابن رجب: ذكر بعض أصحابنا أن أحمد ضعفه. وأما ما جاء فى حديث الزهرى عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- لبسه يوما واحدا ثم ألقاه. فقد أجيب عنه بثلاثة أجوبة: أحدها: أنه وهم من الزهرى، وسهو جرى على لسانه لفظ الورق، وإنما الذى لبسه يوما واحدا ثم ألقاه كان من ذهب، كما ثبت ذلك من غير وجه فى حديث ابن عمر وأنس أيضا. الثانى: أن الخاتم الذى رمى به- صلى الله عليه وسلم- لم يكن كله فضة، وإنما كان حديدا عليه فضة، وروى أبو داود عن معيقيب الصحابى- وكان على خاتم النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: كان خاتم النبى- صلى الله عليه وسلم- من حديد ملوى عليه فضة. فلعل هذا هو الذى لبسه يوما واحدا ثم طرحه، ولعله هو الذى كان يختم به ولا يلبسه.

الثالث: إن طرحه إنما كان لئلا يظن أنه سنة مسنونة، فإنهم اتخذوا الخواتيم لما رأوه قد لبسه فتبين بطرحه أنه ليس بمشروع ولا سنة. ثم إن الخاتم قد يكون تارة من ذهب، وتارة من فضة، وتارة يكون من حديد، وتارة من صفر أو رصاص أو نحوها، وتارة من عقيق. * فأما الذهب ففى الصحيحين عن البراء بن عازب قال: (نهانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن خاتم الذهب وآنية الفضة) «1» . وفيهما عن أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-: (أنه نهى عن خاتم الذهب) «2» ، وفيهما أيضا عن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من ذهب فجعله فى يمينه وجعل فصه مما يلى باطن كفه، فاتخذ الناس خواتيم الذهب. قال: فصعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المنبر فألقاه ونهى عن التختم بالذهب) «3» . وهو مذهب الأئمة الأربعة: مالك والشافعى وأبى حنيفة وأحمد وأكثر العلماء. ورخصت فيه طائفة منهم إسحاق بن راهواه وقال: مات خمسة من أصحابه- صلى الله عليه وسلم- خواتيمهم من ذهب. قال مصعب بن سعد: رأيت على طلحة وسعد وصهيب خواتيم من ذهب. وعن حمزة بن أبى أسيد والزبير بن المنذر بن أبى أسيد أنهما نزعا من يد أبى أسيد خاتما من ذهب حين مات، وكان بدريّا، رواهما البخارى فى تاريخه. وروى النسائى عن سعيد بن المسيب قال: قال عثمان لصهيب ما لى أرى عليك خاتم الذهب فقال: قد رآه من هو خير منك فلم يعبه، قال: من هو؟ قال: رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5175) فى النكاح، باب: حق إجابة الوليمة، ومسلم (2066) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5864) فى اللباس، باب: خواتيم الذهب، ومسلم (2089) فى اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5866) فى اللباس، باب: خاتم الفضة، ومسلم (2091) فى اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال.

* وأما خاتم الفضة، فأباحه كثير من العلماء، ولبسه- صلى الله عليه وسلم- وجماعة من أصحابه. قال الرافعى: يجوز للرجل التختم بالفضة، وكذا قال النووى فى الروضة وغيرها، وكتب أصحابنا طافحة بجوازه. وروى أبو داود وصححه ابن حبان، من حديث بريدة بن الحصيب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال للابس خاتم الحديد: «ما لى أرى عليك حلية أهل النار» ، فطرحه وقال: يا رسول الله، من أى شىء أتخذه؟ قال: «من ورق ولا تتمه مثقالا» «1» . وأخرجه أيضا النسائى والترمذى وقال: غريب. وأخرجه أحمد وأبو يعلى فى مسنديهما والضياء فى المختارة مما ليس فى الصحيحين ورجاله رجال الصحيحين إلا عبد الله بن مسلم المعروف بأبى طيبة، وهو محدث مشهور، وتصحيح ابن حبان لحديثه دال على قبوله، فأقل أحواله أن يكون من درجة الحسن. والأصل فى النهى كونه للتحريم، ولأن الأصل فى استعمال الفضة للرجال التحريم إلا ما رخص فيه، فإذا حد فيه حد وجب الوقوف عنده، وبقى ما عداه على الأصل. وقد قال ابن الرفعة فى باب ما يكره لبسه فى «الكفاية» : وينبغى أن ينقص وزنه عن مثقال. لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا، وساق الحديث. وقوله ينبغى، يصلح للوجوب وغيره، وحمله عليه أولى، لأنه ساق الحديث مساق الاحتجاج لهذا الحكم، فلا يصرف النهى عن حقيقته إلا بصارف. وظاهر صنيع ابن الملقن فى شرح منهاج النووى يقتضيه، فإنه قال فى زكاة النقد: فرع فى أبى داود وصحيح ابن حبان من حديث بريدة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لذلك الرجل: فذكر الحديث فساقه سوق الفروع التى لا خلاف فيها بين الأصحاب، وظاهر ذلك تحريم المثقال. وفى «القوت» للأذرعى: لم يتعرض أصحابنا لمقدار الخاتم ولعلهم

_ (1) ضعيف: وقد تقدم قريبا من حديث بريدة قبل حديثين.

اكتفوا بالعرف، فما خرج عنه كان إسرافا كما قالوا فى الخلخال للمرأة ونحوه، والصواب الضبط بما نص عليه فى الحديث وليس فى كلامهم ما يخالفه، هذا لفظه. وهو يشير إلى هذا الحديث. وكذا مشى عليه ابن العماد فى التعقيبات وعبارته: وإذا جاز لبس الخاتم فشرطه أن لا يبلغ به مثقالا للحديث. انتهى. لكن قال الحافظ العراقى فى شرح الترمذى: إن النهى فى قوله: «ولا تتمه مثقالا» محمول على التنزيه، فيكره أن يبلغ به وزن مثقال. قال: وفى رواية لأبى داود، فى رواية صاحب المعالم: «ولا تتمه مثقالا ولا قيمة مثقال» وليست هذه الزيادة فى رواية اللؤلؤى. ومعنى هذه الزيادة أنه ربما وصل الخاتم بالنفاسة فى صنعته إلى أن يكون قيمة مثقال فهو داخل فى النهى أيضا. انتهى. وقد أفتى العلامة السراج العبادى بأنه يجوز أن يبلغ به مثقالا وأن ما زاد عليه حرام. * وأما خاتم الحديد، فأخرج أبو داود فى الخاتم من سننه، والبيهقى في شعب الإيمان والأدب وغيرهما من تصانيفه من طريقه، والنسائى فى الزينة من سننه، وابن حبان فى صحيحه: أن رجلا جاء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وعليه خاتم من شبه- وهو بفتح المعجمة والموحدة، وبإسكانها وكسر المعجمة، نوع من النحاس كانت الأصنام تتخذ منه، وسمى بذلك لشبهه بالذهب لونا- فقال: «ما لى أجد منك ريح الأصنام» ، فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد، فقال: «ما لى أرى عليك حلية أهل النار فطرحه» «1» وأخرجه الترمذى لكنه قال: من صفر بدل من شبه، وهما بمعنى. قال النووى فى شرح المهذب: قال صاحب الإبانة: يكره الخاتم من حديد أو شبه، وتابعه صاحب البيان فقال: يكره الخاتم من حديد أو نحاس أو رصاص لحديث بريدة. وقال صاحب التتمة: لا يكره الخاتم من حديد أو رصاص لحديث

_ (1) ضعيف: وهو الحديث السابق.

الصحيحين: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال للذى خطب الواهبة نفسها: «اطلب ولو خاتما من حديد» «1» قال: ولو كان فيه كراهة لم يأذن فيه. وفى سنن أبى داود بإسناد جيد عن معيقيب الصحابى: كان خاتمه- صلى الله عليه وسلم- من حديد ملوى عليه فضة «2» . والمختار: أنه لا يكره لهذين الحديثين. وقال فى شرح مسلم فى الكلام على حديث المرأة الواهبة نفسها: وفى هذا الحديث جواز اتخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسلف حكاه القاضى، ولأصحابنا فى كراهته وجهان أصحهما لا يكره لأن الحديث فى النهى عنه ضعيف. انتهى. ولعل تضعيف النووى للحديث إنما هو بالنسبة إلى مقاومة حديث سهل بن سعد فى الصحيحين وغيرهما فى قصة الواهبة نفسها لا مطلقا، كيف وله فى ذلك شواهد عدة، إن لم ترقه إلى درجة الصحة لم تدعه ينزل عن درجة الحسن. * وأما خاتم العقيق: فعن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «تختموا بالعقيق، واليمين أحق بالزينة» «3» وفى سنده مجهول، وروى بلفظ تختموا بالعقيق فإنه ينفى الفقر. وروى يعقوب بن إبراهيم عن عائشة مرفوعا: «تختموا بالعقيق فإنه مبارك» «4» ويعقوب متروك. وروى أبو بكر بن شعيب عن فاطمة- رضى الله عنها- مرفوعا: «من تختم بالعقيق لم يزل يرى خيرا» «5» وهذا أيضا لا يثبت.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5029) فى فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ومسلم (1425) فى النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-. (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (4224) فى الخاتم، باب: ما جاء فى خاتم الحديد، والنسائى (8/ 175) فى الزينة، باب: لبس خاتم حديد ملوى عليه بفضة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (3) موضوع: أخرجه ابن عدى عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (2411) . (4) موضوع: أخرجه العقيلى فى الضعفاء، وابن لال فى مكارم الأخلاق، والحاكم فى تاريخه، والبيهقى فى «شعب الإيمان» ، والخطيب فى التاريخ، وابن عساكر، والديلمى فى مسند الفردوس عن عائشة، كما فى «ضعيف الجامع» (2410) . (5) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 154) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وعمرو بن الشريد لم يسمع من فاطمة، وزهير بن عباد الرواسى وثقه أبو حاتم، وبقية رجاله رجال الصحيح.

وكذا ورد فيه أحاديث غير هذه، وكلها كما قال الحافظ ابن رجب لا تثبت، وقال العقيلى: لا يصح فى التختم بالعقيق عن النبى- صلى الله عليه وسلم- شىء. وروى ابن فنجويه فى كتاب الخواتيم له بإسناد ضعيف عن على مرفوعا: «من تختم بالياقوت الأصفر منع الطاعون» «1» ، وإسناده ضعيف. وأما فص خاتمه- صلى الله عليه وسلم-، فروى أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتما من فضة، فصه منه «2» . أخرجه البخارى وغيره. وفى صحيح مسلم أن خاتمه- صلى الله عليه وسلم- كان فصه حبشيّا «3» . قال النووى: قال العلماء: يعنى حجرا حبشيّا، أى فصا من جزع أو عقيق، فإن معدنهما بالحبشة واليمن. انتهى، فإن صح أنهم كانوا يعنون بالحبشى العقيق فيكون له خاتمان: أحدهما فصه عقيق، والآخر فصه فضة، وفى شرح مسلم للنووى حكاية أنه- صلى الله عليه وسلم- كان له فى وقت خاتم فصه منه، قال: وفى حديث آخر فصه من عقيق، انتهى. لكن لم يرو عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه لبس خاتما كله عقيقا. وأما نقش خاتمه- صلى الله عليه وسلم-، ففى صحيح مسلم (عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صنع خاتما من ورق نقش فيه: محمد رسول الله. وقال للناس: «إنى اتخذت خاتما من فضة ونقشت فيه: محمد رسول الله، فلا ينقش أحد على نقشه» «4» . قال الترمذى: معنى قوله: «لا تنقشوا عليه» نهى أن ينقش أحد على خاتمه: محمد رسول الله. وفى رواية للنسائى: (اتخذ خاتما من ورق فصه

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن زنجويه فى كتاب الخواتيم عن على وسنده ضعيف، كما فى «كنز العمال» (17298) . (2) لم أقف على رواية «فصه منه» وهى عند الترمذى (1740) فى اللباس. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2094) فى اللباس والزينة، باب: فى خاتم الورق فصه حبشى. (4) صحيح: أخرجه البخارى (5877) فى اللباس، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينقش على نقش خاتمه» ، ومسلم (2092) فى اللباس والزينة، باب: لبس النبى- صلى الله عليه وسلم- خاتما من ورق نقشه محمد رسول الله.

حبشى، ونقش فيه: محمد رسول الله) «1» . وفى رواية البخارى والترمذى (وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر) «2» . قال فى فتح البارى: ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك، وأنه كان على هذا الترتيب، لكن لم تكن كتابته على الترتيب العادى، فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به تقتضى أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا، وأما قول بعض الشيوخ أن كتابته كانت من فوق يعنى الجلالة أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد أسفلها، فلم أر التصريح بذلك فى شىء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلى يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال: محمد سطر، والسطر الثانى رسول، والسطر الثالث: الله. وعن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يلبس خاتمه فى يمينه، فلما قبض صار فى يد أبى بكر فى يمينه، فلما قبض صار فى يد عمر فى يمينه، ثم صار فى يد عثمان فى يمينه، ثم ذهب يوم الدار عليه: «لا إله إلا الله» . رواه بركة بن محمد الحلبى، كما حكاه ابن رجب فى كتاب الخواتيم، ثم قال: وهى رواية ساقطة جدّا، فإن بركة مذكور بالكذب، وفى لفظه ما يدل على بطلانه، وهو قوله: ذهب يوم الدار عليه: لا إله إلا الله، فإنه إنما سقط فى بئر أريس قبل يوم الدار، وقد عاش عثمان بعده مدة واتخذ له خاتما عوضه، وإنما كان نقشه، محمد رسول الله لا كلمة الإخلاص. انتهى. تنبيه: قال شيخ الإسلام الشرف المناوى: وتحصل السنة بلبس الخاتم مطلقا، ولو مستعارا أو مستأجرا، لكن الأوفق للسنة لبسه بالملك، والاستدامة على ذلك، ويجوز تعداد الخواتيم اتخاذا، وأما الاستعمال فمفهوم كلام الرافعى عدم الجواز، وبه صرح المحب الطبرى فقال: المتجه أنه لا يجوز

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (8/ 172) فى الزينة، باب: صفة خاتم النبى- صلى الله عليه وسلم-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3106) فى الخمس، باب: ما ذكر فى درع النبى- صلى الله عليه وسلم- وعصاه وقدحه وخاتمه، والترمذى (1747 و 1748) فى اللباس، باب: ما جاء فى نقش الخاتم.

للرجل أن يلبس خاتمين من فضة فى يديه أو فى إحداهما، لأن استعمال الفضة حرام إلا ما وردت به الرخصة، ولم ترد إلا فى خاتم واحد، لكن ذكر الخوارزمى فى الكافى أنه لا يجوز له أن يلبس زوجا فى يد وفرادى فى الآخرى، فإن لبس فى كل واحدة زوجا فقال الصيدلانى فى الفتاوى لا يجوز. وقال الدارمى فى الاستذكار يكره للرجل لبس فوق خاتمين، فاقتصاره على الكراهة يدل على عدم الحرمة، وإذا تقرر ذلك فالمسألة ذات خلاف، والذى يظهر كلام المحب الطبرى، فإن تسامحنا اعتمدنا على ما أفتى به الصيدلانى. انتهى. ويجوز التختم فى اليمين واليسار، واختلف الناس فى أفضلهما، فقيل: اليسار، وهو نص الإمام أحمد، فى رواية صالح قال: التختم فى اليسار أحب إلى، وهو مذهب الإمام مالك، ويروى أنه كان يلبسه فى يساره، وكذلك الإمام الشافعى. وفى صحيح مسلم عن أنس قال: (كان خاتم النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذه وأشار إلى الخنصر فى يده اليسرى) «1» . وفى سنن أبو داود (عن ابن عمر أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يتختم فى يساره) «2» وروى إسماعيل بن مسلم عن السليطى قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ليلة قمراء، وكأنى أنظر إلى عكن بطنه، وكأنها القباطى وإلى وبيص خاتمه فى يساره. وإسماعيل هذا قال البخارى: تركه ابن المبارك، وربما روى عنه. وقد ذكر بعض الحفاظ- كما أفاده الحافظ ابن رجب- أن التختم فى اليسار مروى عن عامة الصحابة والتابعين. ورجحت طائفة التختم فى اليمين، وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن جعفر، وروى حماد بن سلمة قال: رأيت ابن أبى رافع يتختم فى يمينه فسألته عن ذلك فقال: رأيت عبد الله بن جعفر يتختم فى يمينه، وقال: كان- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2095) فى اللباس والزينة، باب: فى لبس الخاتم فى الخنصر من اليد. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (4227) فى الخاتم، باب: ما جاء فى التختم فى اليمين أو اليسار؟، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4899) .

يتختم فى يمينه «1» ، رواه أحمد والنسائى وابن ماجه والترمذى وقال: قال محمد- يعنى البخارى- هذا أصح شىء روى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذا الباب. وفى الشمائل للترمذى عن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يتختم فى يمينه. وهذا فيه ضعف، لحال عبد الله بن ميمون. ويروى من حديث عباد بن صهيب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والخاتم فى يمينه، وعباد بن صهيب متروك أيضا. وروى البزار فى مسنده من حديث عبيد بن القاسم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يتختم فى يمينه، وقبض والخاتم فى يمينه. وعبيد هذا كذاب. قال الحافظ ابن رجب: وقد جاء التصريح بأن تختمه- صلى الله عليه وسلم- فى يساره كان آخر الأمرين فى حديث رواه سليمان بن محمد عن عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يتختم فى يمينه ثم إنه حوله إلى يساره «2» . وقال وكيع: التختم فى اليمين ليس بسنة. ونص أحمد: أنه يكره التختم فى السبابة والوسطى. وروى عن على أنه قال: (نهانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أتختم فى هذه أو هذه وأومأ إلى السبابة والوسطى) «3» والله أعلم. وفى اللباب: وكان- صلى الله عليه وسلم- يتختم، وربما خرج وفى خاتمه خيط مربوط يستذكر به الشىء، ورواه ابن عدى بسند ضعيف من حديث واثلة بلفظ: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد حاجة أوثق فى خاتمه

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (1744) فى اللباس، باب: ما جاء فى لبس الخاتم فى اليمين، والنسائى (8/ 175) ، فى الزينة، باب: موضع الخاتم من اليد، وابن ماجه (3647) فى اللباس، باب: التختم باليمين، وأحمد فى «المسند» (1/ 205) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4900) . (2) ضعيف: أخرجه ابن عدى فى الكامل عن ابن عمر، وابن عساكر عن عائشة، كما فى «ضعيف الجامع» (4532) . (3) صحيح: أخرجه مسلم (2078) فى اللباس والزينة، باب: النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر.

خيطا. وروى أبو يعلى عن ابن عمر أنه إذا أشفق من الحاجة أن ينساها ربط فى أصبعه خيطا ليذكرها. وكذا هو فى رابع الخلعيات. لكن فيه سالم بن عبد الأعلى أبو الفيض، رماه ابن حبان بالوضع بل اتهمه أبو حاتم بهذا الحديث. وأما السراويل فاختلف هل لبسها النبى- صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فجزم بعض العلماء بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يلبسه، ويستأنس له بما جزم به النووى فى ترجمة عثمان بن عفان- رضى الله عنه- من كتاب تهذيب الأسماء واللغات: أنه- رضى الله عنه- لم يلبس السراويل فى جاهلية ولا إسلام إلا يوم قتله. فإنهم كانوا أحرص شىء على اتباعه- صلى الله عليه وسلم-. لكن قد ورد فى حديث عند أبى يعلى الموصلى فى مسنده بسند ضعيف جدّا عن أبى هريرة قال: دخلت السوق يوما مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجلس إلى البزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزان يزن فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اتزن وأرجح» ، فقال الوزان إن هذه الكلمة ما سمعتها من أحد، فقال أبو هريرة فقلت له: كفى بك من الوهن والجفاء فى دينك ألا تعرف نبيك، فطرح الميزان، ووثب إلى يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يقبلها فجذب يده- صلى الله عليه وسلم- منه وقال: «يا هذا إنما تفعل هذا الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم» ، فوزن فأرجح وأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السراويل. قال أبو هريرة: فذهبت لأحمله عنه فقال: «صاحب الشىء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم» ، قال: قلت يا رسول الله، وإنك لتلبس السراويل؟ قال: «أجل، فى السفر والحضر، وبالليل والنهار، فإنى أمرت بالستر، فلم أجد شيئا أستر منه» «1» .

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3336) فى البيوع، باب: فى الرجحان فى الوزن والوزن بالأجر، والترمذى (1305) فى البيوع، باب: ما جاء فى الرجحان فى الوزن، والنسائى (7/ 284) فى البيوع، باب: الرجحان فى الوزن، وابن ماجة (2220) فى التجارات، باب: الرجحان فى الوزن، والدارمى فى «سننه» (2585) ، وأحمد فى «المسند» -

وكذا أخرجه ابن حبان فى الضعفاء عن أبى يعلى، ورواه الطبرانى فى الأوسط، والدار قطنى فى الأفراد، والعقيلى فى الضعفاء، ومداره على يوسف ابن زياد الواسطى. لكن قد صح شراء النبى- صلى الله عليه وسلم- له. وفى الهدى: والظاهر أنه- صلى الله عليه وسلم- إنما اشتراه ليلبسه. وقد روى أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسونه فى زمانه وبإذنه. قال أبو عبد الله الحجازى فى حاشيته على «الشفاء» : وما قاله فى الهدى من أنه- صلى الله عليه وسلم- لبس السراويل، قالوا: سبق قلم والله أعلم. وقد أورد أبو سعيد النيسابورى ذكر الحديث فى تجارته- صلى الله عليه وسلم- من كتابه «شرف المصطفى» . وقد ترجم البخارى فى اللباس من صحيحه: باب السراويل، وأورد فيه حديث المحرم لكونه لم يرد فيه شىء على شرطه. وأما الخف: فروى الترمذى عن بريدة أن النجاشى أهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم- خفين أسودين ساذجين، فلبسهما ثم توضأ ومسح عليهما «1» . وعن المغيرة بن شعبة قال: أهدى دحية للنبى- صلى الله عليه وسلم- خفين فلبسهما. وقال إسرائيل عن جابر عن عامر: وجبة فلبسهما حتى تخرقا، لا يدرى النبى- صلى الله عليه وسلم- أذكيان هما أم لا «2» . رواه الطبرانى. وأما نعله- صلى الله عليه وسلم-، والنعل- كما قال صاحب المحكم- ما وقيت به القدم، ففى البخارى عن قتادة عن أنس (أن نعل النبى- صلى الله عليه وسلم- كان لها

_ - (4/ 352) ، وابن حبان فى «صحيحه» (2147) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 35) و (4/ 213) ، من حديث سويد بن قيس- رضى الله عنه-، مختصرا، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» وانظر «كشف الخفاء» (1582) . (1) صحيح: أخرجه أبو داود (155) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين، والترمذى (2820) فى الأدب، باب: ما جاء فى الخف الأسود، وابن ماجه (549) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على الخفين، و (3620) فى اللباس، باب: الخفاف السود، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه الترمذى (1769) فى اللباس، باب: ما جاء فى لبس الجبة والخفين، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

قبالان) «1» . والقبالان: تثنية القبال، وهو زمام النعل، وهو السير الذى يكون بين الأصبعين. وعن ابن عباس قال: كان لنعل النبى- صلى الله عليه وسلم- قبالان مثنى شراكهما، رواه الترمذى فى الشمائل، وفيها أيضا عن أبى هريرة قال: كان لنعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبالان. وعن عيسى بن طهمان قال: أخرج إلينا أنس ابن مالك نعلين جرداوين لهما قبالان، فحدثنى ثابت بعد عن أنس: أنهما كانتا نعلى النبى «2» . وعن عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر: رأيتك تلبس النعال السبتية، قال: إنى رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبس النعال التى ليس فيها شعر ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها «3» . وعن عمرو بن حريث قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى فى نعلين مخصوفتين «4» . وعن عائشة كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحب التيمن ما استطاع فى ترجله وتنعله وطهوره «5» رواه الترمذى. وعن أبى هريرة، قال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا تنعل أحدكم فليبدأ باليمين، فإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمين أولهما تنعل وآخرهما تنزع» «6» . وكان- صلى الله عليه وسلم- ينهى أن ينتعل الرجل قائما «7» . رواه أبو داود والترمذى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5857 و 5858) فى اللباس، باب: قبالان في نعل. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3107) فى فرض الخمس، باب: ما ذكر من درع النبى- صلى الله عليه وسلم-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5851) فى اللباس، باب: النعال السبتية وغيرها، ومسلم (1187) فى الحج، باب: الإحلال من حيث تنبعث الراحلة. (4) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (9803 و 9804) ، وأحمد فى «المسند» (5/ 58) . (5) صحيح: أخرجه البخارى (168) فى الوضوء، باب: التيمن فى الوضوء والغسل، ومسلم (268) فى الطهارة، باب: التيمن فى الطهور وغيره. (6) صحيح: أخرجه البخارى (5856) في اللباس، باب: ينزع نعله اليسرى، ومسلم (2097) فى اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل فى اليمنى أولا. (7) صحيح: أخرجه أبو داود (4135) في اللباس، باب: فى الانتعال، من حديث جابر- رضى الله عنه-، وأخرجه الترمذى (1775) فى اللباس، باب ما جاء فى كراهية أن ينتعل الرجل وهو قائم، وابن ماجه (3618) فى اللباس، باب: الانتعال قائما، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وأخرجه الترمذى (1776) من حديث أنس- رضى الله عنه-، وأخرجه ابن ماجه (3619) من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

وقد ذكر أبو اليمن بن عساكر تمثال نعله الكريمة- عليه أفضل الصلاة والسلام- فى جزء مفرد رويته قراءة وسماعا. وكذا أفرده بالتأليف أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن خلف السلمى المشهور بابن الحاج من أهل المرية بالأندلس وكذا غيرهما. ولم أثبتها هنا اتكالا على شهرتها وصعوبة ضبط تسطيرها إلا على حاذق. ومن بعض ما ذكر من فضلها وجرب من نفعها وبركتها، ما ذكره أبو جعفر أحمد بن عبد المجيد، وكان شيخا صالحا قال: حذوت هذا المثال لبعض الطلبة فجاءنى يوما فقال لى رأيت البارحة من بركة هذا النعل عجبا. أصاب زوجى وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النعل على موضع الوجع وقلت: اللهم أرنى بركة صاحب هذا النعل، فشفاها الله للحين. وقال أبو إسحاق: قال أبو القاسم بن محمد: ومما جرب من بركته أن من أمسكه عنده متبركا به كان له أمانا من بغى البغاة وغلبة العداة وحرزا من كل شيطان مارد وعين كل حاسد، وإن أمسكته المرأة الحامل بيمينها وقد اشتد عليها الطلق تيسر أمرها بحول الله وقوته، ولله در أبى اليمن بن عساكر حيث قال: يا منشدا فى رسم ربع خال ... ومناشدا لدوارس الأطلال دع ندب آثار وذكر ماثر ... لأحبة بانوا وعصر خال والثم ثرى الأثر الكريم فحبذا ... إن فزت منه بلثم ذا التمثال أثر له بقلوبنا أثر لها ... شغل الخلى بحب ذات الخال قبّل لك الإقبال نعلى أخمص ... حل الهلال بها محل قبال ألصق بها قلبا يقلبه الهوى ... وجلا على الأوصاب والأوجال صافح بها خدّا وعفر وجنة ... فى تربها وجدا وفرط فعال سيبل حر جوى ثوى بجوانح ... فى الحب ما جنحت إلى الإبلال يا شبه نعل المصطفى روحى الفدا ... لمحلك الأسمى الشريف العال هملت لمرآك العيون وقد نأى ... مرمى العيان بغير ما إهمال

وتذكرت عهد العقيق فتأثرت ... شوقا عقيق المدمع الهطال وصبت فواصلت الحنين إلى الذى ... ما زال بالى منه فى بلبال أذكرتنى قدما لها قدم العلا ... والجود والمعروف والإفضال أذكرتنى من لم يزل ذكرى له ... يعتاد فى الأبكار والآصال ولها المفاخر والماثر فى الدنا ... والدين والأقوال والأفعال لو أن خدى يحتذى نعلا لها ... لبلغت من نيل المنى آمال أو أن أجفانى لوطء نعالها ... أرض سمت عزا بذا الإذلال وما أحسن قول أبى الحكم بن المرحل فى قصيدة ذكرها أبو إسحاق بن الحاج: بوصف حبيبى طرز الشعر ناظمه ... ونمنم خد الطرس بالنقش راقمه رؤوف عطوف أوسع الناس رحمة ... وجادت عليهم بالنوال غمائمه له الحسن والإحسان فى كل مذهب ... فاثاره محبوبة ومعالمه به ختم الله النبيين كلهم ... وكل فعال صالح فهو خاتمه أحب رسول الله حبّا لو أنه ... تقاسمه قومى كفتهم قسائمه كأن فؤادى كلما مرّ ذكره ... من الورق خفاق أصيبت قوادمه أهيم إذا هبت نواسم أرضه ... ومن لفؤادى أن تهب نواسمه فأنشق مسكا طيبا فكأنما ... نوافجه جاءت به ولطائمه ومما دعانى والدعاوى كثيرة ... إلى الشوق أن الشوق مما أكاتمه مثال لنعلى من أحب هويته ... فها أنا فى يومى وليلى ألاثمه أجر على رأسى ووجهى أديمه ... وألثمه طورا وطورا ألازمه أمثله فى رجل أكرم من مشى ... فتبصره عينى وما أنا حالمه أحرك خدى ثم أحسب وقعه ... على وجنتى خطوا هناك يداومه ومن لى بوقع النعل فى حر وجنتى ... لماش علت فوق النجوم براجمه سأجعله فوق الترائب عوذة ... لقلبى لعل القلب يبرد حاجمه وأربطة فوق الشؤون تميمة ... لجفنى لعل الجفن يرقأ ساجمه

ألا بأبى تمثال نعل محمد ... لطاب لحاذيه وقدس خادمه يود هلال الأفق لو أنه هوى ... يزاحمنا في لثمه ونزاحمه وما ذاك إلا أن حب نبينا ... يقوم بأجسام الخليقة لازمه سلام عليه كلما هبت الصبا ... وغنت بأغصان الأراك حمائمه ولأبى بكر أحمد بن الإمام أبى محمد عبد الله بن الحسين القرطبى- رحمه الله-: ونعل خضعنا هيبة لبهائها ... وإنا متى نخضع لها أبدا نعلو فضعها على أعلى المفارق إنها ... حقيقتها تاج وصورتها نعل بأخمص خير الخلق حازت مزية ... على التاج حتى باهت المفرق الرجل طريق الهدى عنها استنارت لمبصر ... وإن بحار الجود من فيضها حلوا سلونا ولكن عن سواها وإنما ... نهيم بمغناها الغريب وما نسلوا فما شاقنا مذ راقنا رسم عزها ... حميم ولا مال كريم ولا نسل شفاء لذى سقم رجاء لبائس ... أمان لذى خوف كذا يحسب الفضل وأما فراشه- صلى الله عليه وسلم-، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- آخذا من ذلك بما تدعو ضرورته إليه، وترك ما سوى ذلك. وفى صحيح مسلم قوله- صلى الله عليه وسلم-: «فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف، والرابع للشيطان» «1» . قال العلماء: معناه ما زاد على الحاجة فاتخاذه إنما هو للمباهاة والاختيال، والالتهاء بزينة الدنيا، وما كان بهذه الصفة فهو مذموم، وكل مذموم يضاف للشيطان لأنه يرتضيه ويوسوس به ويحسنه، وقيل: إنه على ظاهره، وإنه إذا كان لغير حاجة كان للشيطان عليه مبيت ومقيل، وأما تعداد الفراش للزوج والزوجة فلا بأس به لأنه قد يحتاج كل واحد منهما إلى فراش عند المرض ونحوه.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2084) فى اللباس والزينة، باب: كراهة ما زاد على الحاجة من الفراش واللباس، من حديث جابر- رضى الله عنه-.

وعن عائشة: «إنما كان فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى ينام عليه أدما حشوه الليف» «1» رواه الشيخان. وروى البيهقى من حديثها، قالت: دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قطيفة مثنية، فبعثت إلى بفراش حشوه الصوف، فدخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قلت: يا رسول الله، فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فبعثت إلى بهذا، فقال: «رديه يا عائشة فو الله لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة» «2» . وعند عبد الله بن مسعود: نام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حصير، فقام وقد أثر فى جنبه «3» . الحديث رواه ابن ماجه والترمذى وقال: حسن صحيح. والطبرانى ولفظه: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو فى غرفة كأنها حمام. وهو نائم على حصير، وقد أثر فى جنبه فبكيت، فقال: «ما يبكيك يا عبد الله؟» قلت: يا رسول الله كسرى وقيصر يطؤون على الخز والديباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير قد أثر بجنبك، فقال: «فلا تبك يا عبد الله، فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة» «4» . وقوله: كأنها بيت حمام- بتشديد الميم- أى أن فيها من الحر والكرب كما فى بيت الحمام. وعن ابن عباس قال: حدثنى عمر بن الخطاب قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو على حصير، قال: فجلست، فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر فى جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وإذا إهاب معلق، فابتدرت عيناى، فقال: «ما يبكيك يا ابن

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6456) فى الرقاق، باب: كيف كان عيش النبى- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومسلم (2082) فى اللباس والزينة، باب: التواضع فى اللباس. (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (1/ 345) . (3) صحيح: أخرجه الترمذى (2377) فى الزهد، باب: رقم (31) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (2292) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) حسن: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (10/ 162) وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 326) وقال: رواه الطبرانى، وفيه عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش، وقد وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات.

الخطاب» ، فقال: يا نبى الله، وما لى لا أبكى وهذا الحصير قد أثر فى جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر فى الثمار والأنهار، وأنت نبى الله وصفوته، وهذه خزائنك. قال: «يا ابن الخطاب، أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا» «1» . رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولفظه. قال عمر- رضى الله عنه-: استأذنت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدخلت عليه فى مشربة، وإنه لمضطجع على خصفة وإن بعضه لعلى التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، وإن فوق رأسه لإهاب عطين، وفى ناحية المشربة قرظ، فسلمت عليه وجلست فقلت: أنت نبى الله وصفوته، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير، فقال: «أولئك عجلت لهم طيباتهم وهى وشيكة الانقطاع وإنا قوم أخرت لنا طيباتنا فى آخرتنا» «2» . وعن عائشة، كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- سرير مرمّل بالبردى، عليه كساء أسود، وقد حشوناه بالبردى، فدخل أبو بكر وعمر عليه فإذا النبى- صلى الله عليه وسلم- نائم عليه، فلما رآهما استوى جالسا، فنظرا فإذا أثر السرير فى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالا: يا رسول الله ما يؤذيك خشونة ما نرى من فراشك وسريرك، وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تقولا هذا، فإن فراشى كسرى وقيصر فى النار، وإن فراشى وسريرى هذا عاقبته إلى الجنة» «3» . رواه ابن حبان فى صحيحه. ويروى أنه- صلى الله عليه وسلم- ما عاب مضجعا قط، إن فرش له اضطجع، وإلا اضطجع على الأرض. وتغطى- صلى الله عليه وسلم- باللحاف، قال- صلى الله عليه وسلم-: «ما أتانى جبريل وأنا فى لحاف امرأة منكن غير عائشة» «4» .

_ (1) حسن: أخرجه ابن ماجه (4153) فى الزهد، باب: ضجاع آل محمد- صلى الله عليه وسلم-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 117) ، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (3) أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (704) . (4) صحيح: أخرجه البخارى (3775) فى المناقب، باب: فضل عائشة- رضى الله عنها-، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.

النوع الثالث فى سيرته صلى الله عليه وسلم فى نكاحه

النوع الثالث فى سيرته صلى الله عليه وسلم فى نكاحه قد كان- صلى الله عليه وسلم- يأخذ من الجماع بالأكمل، مما تحفظ به الصحة، وتتم به اللذة وسرور النفس، وتحصل به مقاصده التى وضع لأجلها. فإن الجماع فى الأصل وضع لثلاثة أشياء، هى مقاصده الأصلية: أحدها: حفظ النفس ودوام النوع الإنسانى إلى أن تتكامل العدة التى قدر الله تعالى بروزها إلى هذا العالم. الثانى: إخراج الماء الذى يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن. الثالث: قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة، وهذه هى الفائدة التى فى الجنة، إذ لا تناسل هناك، ولا احتقان يستفرغه الإنزال، وفضلاء الأطباء يرون أن الجماع من أسباب حفظ الصحة. لكن لا ينبغى إخراج المنى إلا فى طلب النسل، وإخراج ما احتقن منه، فإنه إذا دام احتقانه أحدث أمراضا رديئة، منها الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك، وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا، فإنه إذا طال احتباسه فسد واستحال إلى كيفية سمية توجب أمراضا رديئة. قال محمد بن زكريا: من ترك الجماع مدة طويلة ضعفت قوى أعضائه وانسدت مجاريها، وتقلص ذكره، وقد رأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف فبردت أبدانهم وعسرت حركاتهم ووقعت عليهم كابة بلا سبب، وقلت شهواتهم وهضمهم. أشار إليه فى زاد المعاد. ومن منافعه: غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه فى دنياه وآخرته، وينفع المرأة، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة، والتمادح به سيرة ماضية، ولذلك كان- صلى الله عليه وسلم- يتعاهده ويقول كما فى حديث أنس عند الطبرانى فى الأوسط،

والنسائى فى سننه: «حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عينى فى الصلاة» «1» أى لمناجاته فيها ربه، زاد الإمام أحمد فى الزهد: وأصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن. فمحبة النساء والنكاح من كمال الإنسان، هذا خليل الله إبراهيم، إمام الحنفاء، كان عنده سارة أجمل نساء العالمين، أحب هاجر وتسرى بها. وذكر سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه قال: كان الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- يزور هاجر فى كل يوم من الشام على البراق شغفا بها وقلة صبر عنها. وهذا داود- عليه الصلاة والسلام- كان عنده تسع وتسعون امرأة فأحب تلك المرأة وتزوج بها فكمل المائة وهذا سليمان ابنه كان يطوف فى الليلة على تسعين امرأة. تنبيه: قد وقع فى الإحياء للغزالى، وتفسير آل عمران من الكشاف، وكثير من كتب الفقهاء: «حبب إلى من دنياكم ثلاث» «2» . وقالوا: إنه- عليه الصلاة والسلام- قال «ثلاث» ولم يذكر إلا اثنتين: الطيب والنساء. قالوا: ومنه قول الشاعر: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالى وكنت بهن قدما مولعا الخمر والماء القراح وأطلى ... بالزعفران فلا أزال مولعا وذكرها ابن فورك فى جزء مفرد ووجهها وأطنب فى ذلك، وهذا عندهم يسمى «طيا» وهو أن يذكر جمع ثم يؤتى ببعضه ويسكت عن ذكر باقيه لغرض للمتكلم، وأنشد الزمخشرى عليه: كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها وفائدة الطى عندهم تكثير ذلك الشىء: لكن قال ابن القيم وغيره: من

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 61) فى عشرة النساء، باب: حب النساء، وأحمد فى «مسنده» (3/ 128 و 199 و 285) من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3124) . (2) انظر فى ذلك «كشف الخفاء» للعجلونى (1089) .

رواه «حبب إلى من دنياكم ثلاث» فقد وهم، ولم يقل- صلى الله عليه وسلم-: ثلاث، والصلاة ليست من أمور الدنيا التى تضاف إليها. انتهى، نعم تضاف إليها لكونها ظرفا لوقوعها فقط، فهى عبادة محضة. وقال شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر فى تاريخ الكشاف: إن لفظ «ثلاث» لم تقع فى شىء من طرقه، وزيادته مفسدة للمعنى. وكذا قال شيخ الإسلام الولى ابن العراقى فى أماليه، وعبارته: ليست هذه اللفظة وهى «ثلاث» فى شىء من كتب الحديث، وهى مفسدة للمعنى، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا. وكذا صرح به الزركشى وغيره، كما حكاه شيخنا فى المقاصد الحسنة وأقره. وقال ابن الحاج فى المدخل: انظر إلى حكمة قوله- صلى الله عليه وسلم- «حبب» ولم يقل: أحببت، وقال: «من دنياكم» فأضافها إليهم دونه- عليه الصلاة والسلام-، فدل على أن حبه كان خاصا بمولاه تعالى، وجعلت قرة عينه فى الصلاة، فكان- صلى الله عليه وسلم- بشرىّ الظاهر، ملكوتى الباطن. وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يأتى إلى شىء من أحوال البشرية إلا تأنيسا لأمته وتشريعا لها، لا أنه محتاج إلى شىء من ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ «1» فقال: «لكم» ولم يقل: إنى ملك، فلم ينف الملكية عنه إلا بالنسبة إليهم، أعنى فى معانيه- صلى الله عليه وسلم- لا فى ذاته الكريمة، إذ إنه- صلى الله عليه وسلم- يلحق بشريته ما يلحق البشر، ولهذا قال سيدى أبو الحسن الشاذلى فى صفته- صلى الله عليه وسلم-: هو بشر ليس كالأبشار، كما أن الياقوت حجر ليس كالأحجار. وهذا منه- رحمه الله- على سبيل التقريب للفهوم، فدل على أنه- صلى الله عليه وسلم- ملكى الباطن، ومن كان ملكى الباطن ملك نفسه. انتهى. وهاهنا لطيفة: روى أنه- صلى الله عليه وسلم- لما قال: «حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عينى فى الصلاة» ، قال أبو بكر: وأنا يا رسول الله حبب إلى من الدنيا: النظر إلى وجهك، وجمع المال للإنفاق عليك،

_ (1) سورة الأنعام: 50.

والتوسل بقرابتك إليك. وقال عمر: وأنا يا رسول الله حبب إلى من الدنيا: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والقيام بأمر الله، وقال عثمان: وأنا يا رسول الله حبب إلى من الدنيا إشباع الجائع وإرواء الظمان وكسوة العارى، وقال على بن أبى طالب: وأنا يا رسول الله حبب إلى من الدنيا الصوم فى الصيف، وإقراء الضيف والضرب بين يديك بالسيف. قال الطبرى: خرجه الجندى. كذا قال والعهدة عليه. وعن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «فضلت على الناس بأربع بالسماحة والشجاعة وكثرة الجماع وشدة البطش» «1» . رواه الطبرانى. وقال أنس: (كان- صلى الله عليه وسلم- يدور على نسائه فى الساعة الواحدة من الليل، وهن إحدى عشرة، قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين) «2» رواه البخارى من طريق قتادة. قال ابن خزيمة: تفرد بذلك معاذ بن هشام عن أبيه. ورواه سعيد بن أبى عروبة وغيره عن قتادة فقال: (تسع نسوة) «3» انتهى. وكذا رواه البخارى من طريق سعيد بن أبى عروبة أيضا بلفظ (وله يومئذ تسع نسوة) . وقد جمع بينهما ابن حبان فى صحيحه بأن حمل ذلك على حالتين، لكنه وهم فى قوله: إن الأولى كانت فى أول قدومه المدينة، حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية فى آخر الأمر، حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة. وموضع هذا الوهم منه: إنه- صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة لم يكن تحته سوى سودة ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة وحفصة وزينب بنت خزيمة فى السنة الرابعة، ثم زينب بنت جحش فى الخامسة، ثم جويرية فى السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة فى السابعة، هؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور ... لكن تحمل رواية هشام على

_ (1) موضوع: أخرجه الطبرانى فى الكبير، والإسماعيلى فى معجمه، كما فى «ضعيف الجامع» (3985) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (268) فى الغسل، باب: إذا جامع ثم عاد. (3) هو تتمة ما قبله.

أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليهن لفظ «نسائه» تغليبا. فإن قلت: وطء المرأة فى يوم الآخرى ممنوع، والقسم وإن لم يكن واجبا عليه- صلى الله عليه وسلم- لكنه التزمه تطييبا لنفوسهن. أجيب: باحتمال إذن صاحبة اليوم له، أو أنه فى يوم لم يثبت فيه قسم بعد، كيوم قدومه من سفر، أو اليوم الذى بعد كمال الدورة، لأنه يستأنف القسم فيما بعد، أو أنه من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-، وقد اختص فى باب النساء بأشياء، كما سيأتى إن شاء الله تعالى. وعن طاووس ومجاهد: أعطى- صلى الله عليه وسلم- قوة أربعين رجلا فى الجماع «1» . رواه ابن سعد. وفى رواية عن مجاهد: قوة بضع وأربعين رجلا كل رجل من أهل الجنة. رواه الحارث بن أبى أسامة. وعند أحمد والنسائى، وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه: «إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة فى الأكل والشرب والجماع والشهوة» «2» . وعن صفوان بن سليم مرفوعا: «أتانى جبريل بقدر، فأكلت منها فأعطيت قوة أربعين رجلا فى الجماع» «3» . رواه ابن سعد. ولما كان- صلى الله عليه وسلم- ممن أقدر على القوة فى الجماع وأعطى الكثير منه، أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره. قال ابن عباس: تزوجوا فإن أفضل هذه الأمة أكثرها نساء. يشير إليه- صلى الله عليه وسلم-، وقيد بهذه الأمة ليخرج مثل سليمان- عليه السّلام- فإنه كان أكثر نساء. ووقع عند الطبرانى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: تزوجوا فإن خيرنا أكثرنا نساء، قيل المعنى: خير أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل. قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى: والذى يظهر أن مراد ابن عباس ب «الخير» النبى- صلى الله عليه وسلم- وب «الأمة» أخصاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك

_ (1) تقدم فى حديث الهريسة، وهو ضعيف. (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 371) ، والدارمى فى «سننه» (2825) ، والطبرانى فى «الكبير» (5/ 177 و 178) . (3) تقدم.

التزويج مرجوح، إذ لو كان راجحا ما آثر النبى- صلى الله عليه وسلم- غيره، وكان- مع كونه أخشى الناس لله وأعلمهم به- يكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التى لا يطلع عليها الرجال، ولإظهار المعجزة البالغة فى خرق العادة لكونه كان لا يجد ما يستمتع به من القوت غالبا، وإن وجد فكان يؤثر بأكثره، ويصوم كثيرا ويواصل، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه فى الليلة الواحدة، ولا يطاق ذلك إلا مع قوة البدن، وقوة البدن تابعة لما يقوم به من استعمال المقويات من مأكول ومشروب، وهى عنده- صلى الله عليه وسلم- نادرة أو معدومة. وقال بعض العلماء: لما كان الحر لفضله على العبد يستبيح من النساء أكثر مما يستبيح العبد، وجب أن يكون النبى- صلى الله عليه وسلم- لفضله على جميع الأمة يستبيح من النساء أكثر مما تستبيحه الأمة. قالوا: ومن فوائد ذلك، زيادة التكليف بهن مع تحمل أعباء الرسالة، فيكون ذلك أعظم لمشاقه وأكثر لأجره، ومنها: أن النكاح فى حقه عبادة، ومنها: نقل محاسنه الباطنة، وقد تزوج- صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة وكان أبوها فى ذلك الوقت عدوه، وصفية وقد قتل أباها وعمها وزوجها، فلو لم يطلعن من باطن أحواله على أنه أكمل خلق الله لكانت الطباع البشرية تقتضى ميلهن إلى آبائهن وقرابتهن، فكان فى كثرة النساء عنده بيان لمعجزاته وكماله باطنا، كما عرف الرجال منه الظاهر. وقد رغب- صلى الله عليه وسلم- فى النكاح. فروى أبو داود والنسائى من حديث معقل بن يسار مرفوعا: «تزوجوا الولود الودود فإنى مكاثر بكم الأمم» «1» وفى ابن ماجه عن أبى هريرة رفعه: «انكحوا فإنى مكاثر بكم الأمم» . وهو معنى ما اشتهر على الألسنة: «تناكحوا تناسلوا فإنى أباهى بكم الأمم» «2» ، ولم أقف عليه بهذا اللفظ.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2050) فى النكاح، باب: من تزوج الولود، والنسائى (6/ 65) فى النكاح، باب: كراهية تزويج العقيم، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 176) ، من حديث معقل بن يسار- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2940) . (2) انظر هذه الرواية فى «كشف الخفاء» للعجلونى (1021) .

وأرشد- صلى الله عليه وسلم- من لم يستطع الباءة إلى الصوم، لأن كثرته تقلل مادة النكاح، وتضعف ما يجده المرء من الحرارة القوية التى تبعثه على النكاح، وخص الشباب فى قوله: «يا معشر الشباب» «1» لأن للشباب من شهوة النكاح ما ليس لغيرهم. وقد ظهر لك أن النكاح أعظم فى الأجر والثواب من الصيام، فإنه- صلى الله عليه وسلم- لم يأمر أولا بالصوم إنما أمر به عند عدم الطول إلى النكاح، وإذا كان النكاح ينوى به التناسل لتكثير هذه الأمة المحمدية فهو بلا شك أفضل. قال عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-: إنى لأطأ النساء وما لى إليهن حاجة، رجاء أن يخرج الله من ظهرى من يكاثر به محمد- صلى الله عليه وسلم- الأمم يوم القيامة. ذكره ابن أبى جمرة. وانظر كون نبينا- صلى الله عليه وسلم- بالإجماع- أعبد الناس، مع ما طبعت عليه بشريته من حب الجماع، وكيف لم يخل بعبادته شيئا، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يأتيها إلا على مشروعيتها، وهذا هو غاية الكمال فى البشرية، لأنه يرجع ما طبع عليه تابعا لما أمر به. وقد روى عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا رهبانية فى الإسلام» «2» . وهى ترك النساء، ولو كان تركهن أفضل لشرع ذلك فى ديننا، إذ هو خير الأديان. وقد قال سليمان- عليه السّلام-: لأطوفن الليلة على مائة امرأة «3» . رواه البخارى. وهذا فيه معجزة لسليمان- عليه السّلام-، إذ البشر عاجز عن الطواف على مائة

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5065) فى النكاح، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» ، ومسلم (1400) فى النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-. (2) لم أره بهذا اللفظ: قاله الحافظ ابن حجر، لكن فى حديث سعد بن أبى وقاص عند البيهقى «أن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة» ، نقلا عن «كشف الخفاء» (3154) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (3424) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، ومسلم (1654) فى الأيمان، باب: الاستثناء، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

النوع الرابع فى نومه صلى الله عليه وسلم

امرأة فى ليلة واحدة، فأظهر الله تعالى قدرته بأن أعطى لسليمان- عليه السّلام- القوة على ذلك فكان فيها معجزة وإظهار قدرة وإبداء حكمة، ردّا على من ربط الأشياء بالعوائذ فيقول: لا يكون كذا إلا من كذا، ولا يتولد كذا إلا من كذا، فألقى الله فى صلب سليمان ماء مائة رجل. وكان له ثلاثمائة زوجة وألف سرية وهذا لا يعطى تفضيل سليمان- عليه السّلام- على نبينا- صلى الله عليه وسلم-، إذ سيدنا محمد لم يعط إلا ماء أربعين رجلا، ولم يكن له غير عشر نسوة، لأن مرتبة نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى الأفضلية لا يساويه فيها أحد، وسليمان تمنى أن يكون ملكا فأعطى ذلك، وأعطى هذه القوة فى الجماع لكى يتم له الملك على خرق العادة من كل الجهات ليمتاز بذلك. فكان نساؤه من جنس ملكه الذى لا ينبغى لأحد من بعده كما طلب. ونبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- لما خير بين أن يكون نبيّا ملكا أبى ذلك، واختار أن يكون نبيّا عبدا، فأعطى من الخصوصية ذلك القدر لكونه- صلى الله عليه وسلم- اختار الفقر والعبودية فأعطى الزائد لخرق العادة فى النوع الذى اختار وهو الفقر والعبودية، فكان- صلى الله عليه وسلم- يربط على بطنه الأحجار من شدة الجوع والمجاهدة، وهو على حاله فى الجماع لم ينقصه شيئا، والناس أبدا إذا أخذهم الجوع والمجاهدة لا يستطيعون ذلك، فهو أبلغ فى المعجزة، قاله فى بهجة النفوس، والله أعلم. النوع الرابع فى نومه صلى الله عليه وسلم كان- صلى الله عليه وسلم- ينام أول الليل ويستيقظ فى أول النصف الثانى، فيقوم فيستاك ويتوضأ، ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان ينام على جانبه الأيمن، ذاكرا الله حتى تغلبه عيناه، غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحب التيامن فى شأنه كله، وليرشد أمته، لأن فى الاضطجاع على الشق الأيمن سرّا، وهو

أن القلب معلق فى الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجانب الأيسر استثقل نوما، لأنه يكون فى دعة واستراحة فيثقل نومه، فإذا نام على الشق الأيمن فإنه يقلق ولا يستغرق فى النوم لقلق القلب، وطلبه مستقره وميله إليه. قالوا: وكثرة النوم على الجانب الأيسر- وإن كان أهنأ- مضر بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصب المواد فيه. وأما قول القاضى عياض فى الشفاء: وكان نومه على جانبه الأيمن استظهارا على قلة النوم.. إلخ، ففيه شىء، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لا ينام قلبه، فسواء كان نومه على الجانب الأيمن أو الأيسر فهذا الحكم ثابت له، وما علله به إنما تستقيم فى حق من ينام قلبه، وحينئذ فالأحسن تعليله بحب التيامن، أو بقصده التعليم، كما مر. وأردأ النوم، النوم على الظهر، ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم، وأردأ منه أن ينام منبطحا على وجهه، وفى سنن ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم- مر برجل فى المسجد منبطح على وجهه فضربه برجله وقال: «قم، أو اقعد، فإنها نومة جهنمية» «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- ينام على النطع تارة، وعلى الفراش تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة. وكان فراشه أدما حشوه ليف. وكان له مسح ينام عليه. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ مضجعه وضع كفه تحت خده الأيمن وقال: «رب قنى عذابك يوم تبعث عبادك» «2» وفى رواية: «يوم تجمع عبادك» . وقال أبو قتادة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا عرّس بليل اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه «3» . وقال ابن

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3735) فى الأدب، باب: النهى عن الاضطجاع على الوجه، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (5045) فى الأدب، باب: ما يقول عند النوم، من حديث حفصة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) صحيح: أخرجه مسلم (683) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، وأحمد فى «المسند» (5/ 298) .

عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا نام نفخ «1» . وعن حذيفة كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه قال: «باسمك اللهم أموت وأحيا» «2» . وقالت عائشة: كان يجمع كفيه فينفث فيهما ويقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «3» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «4» وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «5» ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده. يصنع ذلك ثلاث مرات «6» . وقال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه قال: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، وكم ممن لا كافى له ولا مؤوى» «7» . روى ذلك الترمذى. وكان- صلى الله عليه وسلم- تنام عينه ولا ينام قلبه «8» ، رواه البخارى من حديث عائشة، قاله لها- عليه الصلاة والسلام- لما قالت له: أتنام قبل أن توتر، وإنما كان- صلى الله عليه وسلم- لا ينام قلبه لأن القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن، وكمال هذه الحالة لنبينا- صلى الله عليه وسلم-، ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسوله من ذلك جزء، بحسب نصيبه منها، فمستيقظ القلب وغافله، كمستيقظ البدن ونائمه، وإلى هذا الذى ذكرته أشار صاحب المعارف العلية والحقائق السنية سيدى على ابن سيدى محمد وفا: عينى تنام لكن قلبى والله ما ينام

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (698) فى الأذان، باب: إذا قام الرجل عن يسار الإمام، ومسلم (763) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6312) فى الدعوات، باب: ما يقول إذا نام. (3) سورة الإخلاص: 1. (4) سورة الفلق: 1. (5) سورة الناس: 1. (6) صحيح: أخرجه البخارى (8/ 50) فى فضائل القرآن، باب: فضل المعوذات. (7) صحيح: أخرجه مسلم (5/ 27) فى الذكر والدعاء، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع. (8) صحيح: أخرجه البخارى (3569) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- تنام عيناه ولا ينام قلبه.

وكيف ينام عاشق مسبى فى الحب مستهام ناظر إلى وجه الحبيب شاخص على الدوام ... أتاه فى المعنى مرسوم أن يمحى الرسوم فقال بالحى القيوم يا سعد من يقوم وقد جمع العلماء بين هذا الحديث وبين حديث نومه- صلى الله عليه وسلم- فى الوادى عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس وحميت حتى أيقظه عمر- رضى الله عنه- بالتكبير «1» . فقال النووى: له جوابان، أحدهما: أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة والقلب يقظان، والثانى: أنه كان له حالان، حال كان قلبه لا ينام وهو الأغلب، وحال ينام فيه قلبه وهو نادر، فصادف هذا، أى قصة النوم عن الصلاة. قال: والصحيح المعتمد هو الأول والثانى ضعيف. قال فى فتح البارى: وهو كما قال، ولا يقال: القلب- وإن كان لا يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلا- لكنه يدرك إذا كان يقظانا مرور الوقت الطويل، فإن من ابتداء طلوع الفجر إلى أن حميت الشمس مدة طويلة، لا تخفى على من لم يكن مستغرقا، لأنا نقول: يحتمل أن يقال: كان قلبه- صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك مستغرقا بالوحى، ولا يلزم من ذلك وصفه بالنوم، كما كان يستغرق- صلى الله عليه وسلم- حالة إلقاء الوحى فى اليقظة، وتكون الحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل، لأنه أوقع فى النفس، كما فى قصة سهوه فى الصلاة، وقريب من هذا جواب ابن المنير: أن القلب يحصل له السهو فى اليقظة لمصلحة التشريع، ففى النوم بطريق الأولى، أو على السواء. وقال ابن العربى فى القبس: النبى- صلى الله عليه وسلم- كيفما اختلف حاله من نوم أو يقظة فى حق وتحقيق، ومع الملائكة فى كل طريق، إن نسى فباكد من

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (344) فى التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، ومسلم (682) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيلها، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.

المنسى اشتغل، وإن نام فبقلبه ونفسه على الله أقبل، ولهذا قالت الصحابة كان- صلى الله عليه وسلم- إذا نام لا نوقظه حتى يستيقظ، لأنا لا ندرى ما هو فيه، فنومه عن الصلاة أو نسيانه لشىء منها لم يكن عن آفة، وإنما كان بالتصرف من حالة إلى حالة مثلها لتكون لنا سنة. انتهى. وقد أجيب عن أصل الإشكال بأجوبة أخرى ضعيفة منها: أن معنى قوله: «لا ينام قلبى» أى لا يخفى عليه حالة انتقاض وضوئه، ومنها: أن معناه لا يستغرقه النوم حتى يوجد منه الحدث، وهذا قريب من الذى قبله. قال ابن دقيق العيد، كأن قائل هذا أراد تخصيص يقظة القلب بإدراك حالة الانتقاض، وذلك بعيد، وذلك أن قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن عينى تنامان ولا ينام قلبى» «1» خرج جوابا عن قول عائشة: أتنام قبل أن توتر؟ وهذا كلام لا تعلق له بانتقاض الطهارة الذى تكلموا فيه. وإنما هو جواب يتعلق بأمر الوتر، فتحمل يقظته على تعلق القلب باليقظة للوتر، وفرق بين من شرع فى النوم مطمئن القلب به، وبين من شرع فيه متعلقا باليقظة. قال: وعلى هذا فلا تعارض ولا إشكال فى حديث النوم حتى طلعت الشمس، لأنه يحتمل أنه اطمأن فى نومه لما أوجبه تعب السير معتمدا على من وكله بكلاءة الفجر، انتهى. ومحصله تخصيص اليقظة المفهومة من قوله «ولا ينام قلبى» بإدراكه وقت الوتر إدراكا معنويّا لتعلقه به، وأن نومه فى حديث الباب كان نوما مستغرقا، ويؤيده قول بلال: أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك، كما فى حديث أبى هريرة عند مسلم، ولم ينكر عليه، ومعلوم أن نوم بلال كان مستغرقا، وقد اعترض عليه: بأن ما قاله يقتضى اعتبار خصوص السبب، وأجاب، بأنه يعتبر إذا قامت عليه قرينة، وأرشد إليها السياق، وهو هنا كذلك. ومن الأجوبة الضعيفة أيضا: قول من قال: كان قلبه يقظانا وعلم بخروج الوقت، لكن ترك إعلامهم بذلك لمصلحة التشريع، والله أعلم انتهى.

_ (1) صحيح: وقد تقدم قبل حديث.

المقصد الرابع وفيه فصلان:

المقصد الرابع وفيه فصلان: * فى معجزاته الدالة على ثبوت نبوته وصدق رسالته. * وما خص به من خصائص آياته وبدائع كراماته.

الفصل الأول فى معجزاته ص

الفصل الأول فى معجزاته ص تعريف المعجزة بالدليل: اعلم أيها المحب لهذا النبى الكريم، والرسول العظيم- سلك الله بى وبك مناهج سنته، وأماتنا على محبته، بمنه ورحمته- أن المعجزة هى الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدى الدال على صدق الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. وسميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها، فعلم أن لها شروطا: [شروط المعجزة] * أحدها: أن تكون خارقة للعادة ، كانشقاق القمر، وانفجار الماء من بين الأصابع، وقلب العصا حية، وإخراج ناقة من صخرة، وإعدام جبل. فخرج غير الخارق للعادة، كطلوع الشمس كل يوم. * الثانى: أن تكون مقرونة بالتحدى، وهو طلب المعارضة والمقابلة. قال الجوهرى: يقال: تحديث فلانا، إذا باريته فى فعل ونازعته للغلبة. وفى القاموس: نحوه. وفى الأساس: حدا، يحدو، وهو حادى الإبل، واحتدى بها حداء إذا غنى، ومن المجاز: تحدى أقرانه إذا باراهم ونازعهم للغلبة. وأصله: الحداء، يتبارى فيه الحاديان ويتعارضان، فيتحدى كل واحد منهما صاحبه، أى يطلب حداءه. كما يقال: توفاه بمعنى استوفاه، وفى بعض الحواشى الموثوق بها، كانوا عند الحدو يقوم حاد عن يمين القطار وحاد عن يساره، يتحدى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أى يطلب منه حداءه، ثم اتسع فيه حتى استعمل فى كل مباراة. انتهى من حاشية الطيبى على الكشاف. وقال المحققون: التحدى، الدعوى للرسالة. انتهى. * والشرط الثالث من شروط المعجزة: أن لا يأتى أحد بمثل ما أتى به

وجوه بطلان دعوى اشتراط التحدي بالمعجزة

المتحدى على وجه المعارضة. وعبر عنه بعضهم بقوله: دعوى الرسالة مع أمن المعارضة وهو أحسن من التعبير: بعدم المعارضة، لأنه لا يلزم من عدم المعارضة امتناعها. والشرط إنما هو عدم إمكانها. وقد خرج بقيد «التحدى» الخارق من غير تحد، وهو الكرامة للولى. وب «المقارنة» الخارق المتقدم على التحدى، كإظلال الغمام، وشق الصدر، الواقعين لنبينا- صلى الله عليه وسلم- قبل دعوى الرسالة، وكلام عيسى فى المهد، وما شابه ذلك مما وقع من الخوارق قبل دعوى الرسالة، فإنها ليست معجزات إنما هى كرامات، ظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء فيجوز ظهورها عليهم أيضا، وحينئذ يسمى «إرهاصا» أى تأسيسا للنبوة كما صرح به العلامة السيد الجرجانى فى شرح المواقف، وغيره، وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم. وخرج أيضا بقيد «المقارنة» المتأخر عن التحدى، بما يخرجه عن المقارنة العرفية، نحو ما روى بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم- من نطق بعض الموتى بالشهادتين وشبهه، مما تواترت به الأخبار. وخرج أيضا ب «أمن المعارضة» السحر المقرون بالتحدى، فإنه يمكن معارضته بالإتيان بمثله من المرسل إليهم. واختلف: هل السحر قلب الأعيان وإحالة الطبائع أم لا؟ فقال بالأول قائلون، حتى جوزوا للساحر أن يقلب الإنسان حمارا. وذهب آخرون: إلى أن أحدا لا يقدر على قلب عين ولا إحالة طبيعة إلا الله تعالى لأنبيائه، وأن الساحر والصالح لا يقلبان عينا. قالوا: ولو جوزنا للساحر ما جاز على النبى فأى فرق عندكم بينهما؟ فإن لجأتم إلى ما ذكره القاضى أبو بكر الباقلانى من الفرق بالتحدى فقط قيل لكم هذا باطل من وجوه: [وجوه بطلان دعوى اشتراط التحدي بالمعجزة] أحدها: أن اشتراط التحدى قول لا دليل عليه ، لا من كتاب ولا من سنة، ولا من قول صاحب ولا إجماع، وما تعرى من البرهان فهو باطل. الثانى: أن أكثر آياته- صلى الله عليه وسلم- وأعمها وأبلغها كانت بلا تحد ، كنطق الحصى، ونبع الماء، ونطق الجذع، وإطعامه المئين من صاع، وتفله فى العين،

والوجه الثالث:

وتكليم الذراع، وشكوى البعير، وكذا سائر معجزاته العظام، ولعله لم يتحد بغير القرآن، وتمنى الموت. قالوا: فأف لقول لا يبقى من الآيات ما يسمى معجزة إلا هذين الشيئين، ويلقى معجزات كالبحر المتقاذف بالأمواج، ومن قال: إن هذه ليست بمعجزات ولا آيات فهو إلى الكفر أقرب منه إلى البدعة. قالوا: وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يقول عند ورود آية من هذه الآيات: «أشهد أنى رسول الله» «1» ، كما قال ذلك عند تحققهم مصداق قوله فى الإخبار عن الذى أنكى فى المشركين قتلا فى المعركة: إنه من أهل النار، فقتل نفسه بمحضر ذلك الذى اتبعه من المسلمين. قالوا: والوجه الثالث: وهو الدافع لهذا القول، قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «2» ، وقال تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «3» فسمى الله تلك المعجزات المطلوبات من الأنبياء آيات، ولم يشترط تحديا من غيره. فصح أن اشتراط التحدى باطل محض، انتهى ملخصا من تفسير الشيخ أبى أمامة بن النقاش. وأجيب: بأنه ليس الشرط الاقتران بالتحدى بمعنى طلب الإتيان بالمثل الذى هو فى المعنى الأصلى للتحدى، بل يكفى للتحدى دعوى الرسالة والله أعلم. الرابع من شروط المعجزة: أن تقع على وفق دعوى المتحدى بها ، فلو قال مدعى الرسالة: آية نبوتى أن تنطق يدى، أو هذه الدابة، فنطقت يده أو الدابة بكذبه فقالت: كذب وليس هو نبى، فإن الكلام الذى خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعى، لأن ما فعله الله تعالى لم يقع على وفق دعواه. كما يروى أن مسيلمة الكذاب- لعنه الله- تفل فى بئر ليكثر ماؤها فغارت

_ (1) ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (5443) فى الأطعمة، باب: الرطب والتمر، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. (2) سورة الأنعام: 109. (3) سورة الإسراء: 59.

وذهب ما فيها من الماء. فمتى اختل شرط من هذه لم تكن معجزة. ولا يقال: قضية ما قلتم: إن ما توفرت فيه الشروط الأربعة من المعجزات لا يظهر إلا على أيدى الصادقين، وليس كذلك، لأن المسيح الدجال يظهر على يديه من الآيات العظام ما هو مشهور، كما وردت به الأخبار الصحيحة، لأن ما ذكر فيمن يدعى الرسالة وهذا فيمن يدعى الربوبية. وقد قام الدليل العقلى على أن بعثة بعض الخلق غير مستحيلة، فلم يبعد أن يقيم الله الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة، ودلت القواطع على كذب المسيح الدجال فيما يدعيه للتغير من حال إلى حال، وغير ذلك من الأوصاف التى تليق بالمحدثات ويتعالى عنها رب البريات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «1» . فإن قلت أى الاسمين أحق وأولى بما أتت به الأنبياء، هل لفظ «المعجزة» أو لفظ «الآية» أو «الدليل» ؟. فالجواب: إن كبار الأئمة يسمون معجزات الأنبياء: دلائل النبوة، وآيات النبوة، ولم يرد أيضا فى القرآن لفظ «المعجزة» بل ولا فى السنة أيضا، وإنما فيهما لفظ «الآية» و «البينة» و «البرهان» . كما فى قصة موسى فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ «2» ، فى العصا واليد، وفى حق نبينا- صلى الله عليه وسلم- قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ «3» . وأما لفظ الآيات فكثير. بل هو أكثر من أن نسرده هنا، كقوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ «4» وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ «5» . وأما لفظ المعجز إذ أطلق فإنه لا يدل على كون ذلك آية إلا إذا فسر المراد به، وذكرت شرائطه، وقد كان كثير من أهل الكلام لا يسمى معجزا إلا ما كان للأنبياء

_ (1) سورة الشورى: 11. (2) سورة القصص: 32. (3) سورة النساء: 174. (4) سورة الأنعام: 124. (5) سورة الرعد: 3.

فقط، ومن أثبت للأولياء خوارق عادات سماها: كرامات، والسلف كانوا يسمون هذا وهذا معجزا كالإمام أحمد وغيره، بخلاف ما كان آية وبرهانا على نبوة النبى فإن هذا يجب اختصاصه به. وقد يسمون الكرامات آيات لكونها تدل على نبوة من اتبعه ذلك الولى، فإن الدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول، فلذلك كان آية وبرهانا، انتهى. وإذا علمت هذا، فاعلم أن دلائل نبوة نبينا- صلى الله عليه وسلم- كثيرة، والأخبار بظهور معجزاته شهيرة. فمن دلائل نبوته: ما وجد فى التوراة والإنجيل وسائر كتب الله المنزلة من ذكره ونعته، وخروجه بأرض العرب، وما خرج بين يدى أيام مولده ومبعثه من الأمور العجيبة الغريبة القادحة فى سلطان الكفر، الموهنة لكلمتهم المؤيدة لشأن العرب. المنوهة لذكرهم، كقصة الفيل، وما أحل الله تعالى بأصحابه من العقوبات والنكال، وخمود نار فارس وسقوط شرفات إيوان كسرى، وغيض ماء بحيرة ساوة، ورؤيا الموبذان «1» ، وما سمع من الهواتف الصارخة بنعوته وأوصافه، وانتكاس الأصنام المعبودة وخرورها لوجهها من غير دافع لها من أمكنتها، إلى سائر ما روى وما نقل فى الأخبار المشهورة من ظهور العجائب فى ولادته وأيام حضانته وبعدها إلى أن بعثه الله نبيّا. ولم يكن له- صلى الله عليه وسلم- ما يستميل به القلوب من مال فيطمع فيه، ولا قوة فيقهر بها الرجال، ولا أعوان على الرأى الذى أظهره، والدين الذى دعا إليه، وكانوا يجتمعون على عبادة الأصنام، وتعظيم الأزلام، مقيمين على عادة الجاهلية فى العصبة والحمية، والتعادى والتباغى وسفك الدماء، وشن الغارة ولا تجمعهم ألفة دين، ولا يمنعهم عن سوء أفعالهم نظر فى عاقبة، ولا خوف عقوبة ولائمة، فألف- صلى الله عليه وسلم- بين قلوبهم وجمع كلمتهم، حتى اتفقت الآراء وتناصرت القلوب، وترادفت الأيدى، فصاروا إلبا واحدا فى نصرته، وعنقا واحدا إلى طلعته، وهجروا بلادهم وأوطانهم، وجفوا قومهم وعشائرهم فى

_ (1) اسم حاكم المجوس، حيث قد رأى رؤية ليلة مولده الشريفة، أن إبلا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت فى بلادها، نقلا عن بعض كتب التاريخ.

محبته، وبذلوا مهجهم وأرواحهم فى نصرته، ونصبوا وجوههم لوقع السيوف فى إعزاز كلمته، بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها عليهم، ولا عوض فى العاجل أطمعهم فى نيله يرجونه، أو ملك أو شرف فى الدنيا يحوزونه، بل كان من شأنه- صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الغنى فقيرا، والشريف أسوة الوضيع، فهل يلتئم مثل هذه الأمور، أو يتفق مجموعها لأحد هذا سبيله، من قبيل الاختيار العقلى والتدبير الفكرى، لا والذى بعثه بالحق، وسخر له هذه الأمور، ما يرتاب عاقل فى شىء من ذلك، وإنما هو أمر إلهى، وشىء غالب سماوى، ناقض للعادات، يعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلا من له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. ومن دلائل نبوته- صلى الله عليه وسلم- أنه كان أميّا، لا يخط كتابا بيده ولا يقرؤه، ولد فى قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم فى بلد ليس بها عالم يعرف أخبار الماضين، ولم يخرج فى سفر ضاربا إلى عالم فيعكف عليه، فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية، وقد كان ذهبت معالم تلك الكتب، ودرست وحرفت عن مواضعها، ولم يبق من المتمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها وسقيمها إلا القليل، ثم حاجّ كل فريق من أهل الملل المخالفة له بما لو احتشد له حذاق المتكلمين وجهابذة النقاد المتفننين لم يتهيأ لهم نقض ذلك. وهذا أدلّ شىء على أنه أمر جاءه من عند الله تعالى. ومن ذلك، القرآن العظيم، فقد تحدى بما فيه من الإعجاز، ودعاهم إلى معارضته والإتيان بسورة من مثله، فنكلوا عنه وعجزوا عن الإتيان بشىء منه. قال بعض العلماء: إن الذى أورده- صلى الله عليه وسلم- على العرب من الكلام أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب فى الآية، وأوضح فى الدلالة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين فى اللسن بكلام مفهوم المعنى عندهم، فكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى، لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه، ولا إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه، وقريش كانت تتعاطى الكلام

الفصيح والبلاغة والخطابة، فدل على أن العجز عنه إنما كان ليصير علما على رسالته، وصحة نبوته، وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح. وقال أبو سليمان الخطابى: وقد كان- صلى الله عليه وسلم- من عقلاء الرجال عند أهل زمانه، بل هو أعقل خلق الله على الإطلاق. وقد قطع القول فيما أخبر به عن ربه تعالى بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «1» فلولا علمه بأن ذلك من عند الله علام الغيوب، وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلف، وإلا لم يأذن له عقله أن يقطع القول فى شىء، بأنه لا يكون وهو يكون. انتهى. وهذا أحسن ما يقال فى هذا المجال وأبدعه وأكمله وأبينه، فإنه نادى عليهم بالعجز قبل المعارضة، وبالتقصير عن بلوغ الغرض فى المناقضة، صارخا بهم على رؤوس الأشهاد، فلم يستطع أحد منهم الإلمام به مع توفر الدواعى وتظاهر الاجتهاد، فقال- وكان بما ألقى إليهم من الأخبار عليما خبيرا-: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «2» فرضيت هممهم السرية وأنفسهم الشريفة الأبية بسفك الدماء وهتك الحرم. وقد ورد من الأخبار فى قراءة النبى- صلى الله عليه وسلم- بعض ما نزل عليه على المشركين الذين كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة، وإقرارهم بإعجازه جمل كثيرة: فمنها ما روى عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم- وهو جالس فى نادى قريش، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس وحده فى المسجد-: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورا لعله يقبل منا بعضها ويكف عنا. قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكر الحديث- فيما قاله عتبة وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك- فلما فرغ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أفرغت يا أبا الوليد؟»

_ (1) سورة البقرة: 24. (2) سورة الإسراء: 88.

قال: نعم، قال: «فاسمع منى» . قال: أفعل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ حتى بلغ قُرْآناً عَرَبِيًّا «1» » فمضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه حتى انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة «2» فسجد فيها ثم قال: «سمعت يا أبا الوليد؟» قال: سمعت قال: «فأنت وذاك» ، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: والله إنى قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت نبأ. قال: فأجابنى بشىء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة. قرأ «بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حتى بلغ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «3» » فأمسكت فمه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب «4» . رواه البيهقى وغيره. وفى حديث إسلام أبى ذر، ووصف أخاه أنيسا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخى أنيس، وقد ناقض اثنى عشر شاعرا فى الجاهلية أنا أحدهم، وأنه انطلق وجاء إلى أبى ذر بخبر النبى- صلى الله عليه وسلم-، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم، ولا يلتئم على لسان أحد بعدى أنه شعر، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون «5» . رواه مسلم والبيهقى.

_ (1) سورة فصلت: 1- 3. (2) سورة فصلت: 37. (3) سورة فصلت: 1- 13. (4) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 204، 205) . (5) صحيح: والخبر أخرجه مسلم (2473 و 2474) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى ذر- رضى الله عنه-.

وعن عكرمة فى قصة الوليد بن المغيرة، وكان زعيم قريش فى الفصاحة: أنه قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: اقرأ على، فقرأ عليه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى «1» إلى أخر الآية. قال: أعد، فأعاد- صلى الله عليه وسلم-، فقال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر، ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منى، ولا أعلم برجزه ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذى يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى. وفى خبره الآخر: حين جمع قريشا عند حضورهم الموسم وقال: إن وفود العرب تردنا، فأجمعوا فيه رأيا، لا يكذب بعضكم بعضا، فقالوا: نقول هو كاهن، قال: والله ما هو بزمزمته ولا سجعه، قالوا: مجنون. قال: ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا بوسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر. قد عرفنا الشعر كله. رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم قائلون من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل، رواه ابن إسحاق والبيهقى. وأخرج أبو نعيم من طريق ابن إسحاق، حدثنى إسحاق بن يسار عن رجل من بنى سلمة قال: لما أسلم فتيان بنى سلمة قال عمرو بن الجموح لابنه: أخبرنى ما سمعت من كلام هذا الرجل؟ فقرأ عليه الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى قوله الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «2» فقال: ما أحسن هذا وأجمله، أو كل كلامه مثل هذا؟ قال: يا أبت وأحسن من هذا. وقال بعض العلماء: إن هذا القرآن لو وجد مكتوبا فى مصحف فى فلاة من الأرض، ولم يعلم من وضعه هناك لشهدت العقول السليمة أنه منزل

_ (1) سورة النحل: 90. (2) سورة الفاتحة: 1- 6.

وجوه إعجاز القرآن الكريم

من عند الله، وأن البشر لا قدرة لهم على تأليف مثل ذلك، فكيف إذا جاء على يد أصدق الخلق وأبرهم وأتقاهم وقال: إنه كلام الله، وتحدى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكيف يبقى مع هذا شك. انتهى. [وجوه إعجاز القرآن الكريم] واعلم أن وجوه إعجاز القرآن لا تنحصر، لكن قال بعضهم: قد اختلف العلماء فى إعجازه على ستة أوجه: * أحدها: أن وجه إعجازه هو الإيجاز والبلاغة ، مثل قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «1» فجمع فى كلمتين عدد حروفهما عشرة أحرف معانى كلام كثير. وحكى أبو عبيد: أن أعرابيّا سمع رجلا يقرأ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «2» فسجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. وسمع آخر رجلا يقرأ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا «3» قال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وحكى الأصمعى: أنه رأى جارية خماسية أو سداسية وهى تقول: أستغفر الله من ذنوبى كلها، فقلت لها: مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت: أستغفر الله لذنبى كله ... قتلت إنسانا بغير حله مثل غزال ناعم فى دله ... انتصف الليل ولم أصله فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت: أو تعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «4» فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. وحكى أن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- كان يوما نائما فى المسجد، فإذا هو برجل قائم على رأسه، يتشهد شهادة الحق، فأعلمه أنه من بطارقة الروم، ممن

_ (1) سورة البقرة: 179. (2) سورة الحجر: 94. (3) سورة يوسف: 80. (4) سورة القصص: 7.

يحسن كلام العرب وغيرها، وأنه سمع رجلا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأملتها فإذا قد جمع الله فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة. وهى قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ «1» الآية. وقد رام قوم من أهل الزيغ والإلحاد، أوتوا طرفا من البلاغة، وحظّا من البيان، أن يضعوا شيئا يلبسون به، فلما وجدوه مكان النجم من يد المتناول، مالوا إلى السور القصار، كسورة الكوثر والنصر وأشباههما، لوقوع الشبهة على الجهال فيما قل عدد حروفه، لأن العجز إنما يقع فى التأليف والاتصال. وممن رام ذلك من العرب فى التشبث بالسور القصار، مسيلمة الكذاب فقال: يا ضفدع نقى كم تنقين، أعلاك فى الماء وأسفلك فى الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين. فلما سمع أبو بكر- رضى الله عنه- هذا قال: إنه كلام لم يخرج من إل. قال ابن الأثير: أى من ربوبية، و «الإل» بالكسر هو الله تعالى. وقيل: الإل الأصل الجيد، أى لم يجئ من الأصل الذى جاء منه القرآن. ولما سمع مسيلمة الكذاب- لعنه الله- و «النازعات» قال: والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والحافرات حفرا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، لقد فضلتم على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر. إلى غير ذلك من الهذيان، مما ذكرت فى الوفود من المقصد الثانى بعضه والله أعلم. وقال آخر: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى، من بين شراسيف «2» وأحشى وقال آخر: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، ومشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل.

_ (1) سورة النور: 52. (2) الشرسوف: غضروف على طرف كل ضلع.

* والثانى: أن إعجازه هو الوصف الذى صار به خارجا عن جنس كلام العرب

ففى هذا الكلام مع قلة حروفه من السخافة ما لا خفاء به على من لا يعلم، فضلا عمن يعلم. * والثانى: أن إعجازه هو الوصف الذى صار به خارجا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع، فلا يدخل فى شىء منها ولا يختلط بها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة فى نظمهم ونثرهم، ولذلك تحيرت عقولهم، وتدلهت «1» أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله فى حسن كلامهم، فلا ريب أنه فى فصاحته قد قرع القلوب ببديع نظمه، وفى بلاغته قد أصاب المعانى بصائب سهمه، فإنه حجة الله الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقى إلا تهافت تهافت الفراش فى الشهاب، وذل ذل النقد حول الليوث الغضاب. وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك، كما حكى عن يحيى بن حكيم الغزال- بتخفيف الزاى وقد تشدد- وكان بليغ الأندلس فى زمانه أنه قد رام شيئا من هذا، فنظر فى سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، فاعترته خشية ورقة، حملته على التوبة والإنابة. وحكى أيضا أن ابن المقفع- وكان أفصح أهل وقته- طلب ذلك ورامه، ونظم كلاما وجعله مفصلا، وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبى يقرأ فى مكتب قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ... «2» الآية، فرجع ومحى ما عمل وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا، وما هو من كلام البشر. ولله در العارف سيدى محمد وفا حيث قال، يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- والقرآن المعظم:

_ (1) دله فلان: أى حيره وأدهشه. (2) سورة هود: 44.

* والثالث: أن وجه إعجازه هو أن قارئه لا يمله

له آية الفرقان فى عين جمعه ... جوامع آيات بها اتضح الرشد حديث نزيه عن حدوث منزه ... قديم صفات الذات ليس له ضد بلاغ بليغ للبلاغة معجز ... له معجزات لا يعد لها عد تحلت بروح الوحى حلة نسجه ... عقود اعتقاد لا يحل لها عقد وغاية أرباب البلاغة عجزهم ... لديه وإن كانوا هم الألسن اللد فأفاكهم بالإفك أعياه غيه ... تصدى وللأسماع عن غيه صد قلى الله أقوالا يهاجر هجرها ... هوانا بها الورهاء والبهم البلد «1» تلاها فتلّ الفحش فى القبح وجهها ... وعن ريبها الألباب نزهها الزهد لقد فرق الفرقان شمل فريقه ... بجمع رسول الله واستعلن الرشد أتى بالهدى صلى عليه إلهه ... ولم يله بالأهواء إذ جاءه الجد * والثالث: أن وجه إعجازه هو أن قارئه لا يمله ، وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة وطلاوة، لا يزال غضّا طريّا، وغيره من الكلام ولو بلغ فى الحسن والبلاغة ما بلغ يمل مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، وكتابنا يستلذ به فى الخلوات، ويؤنس بتلاوته فى الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث أصحابها لها لحونا وطرقا، يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف- صلى الله عليه وسلم- القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضى عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذى لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فامنا به «2» أشار إليه القاضى عياض. * والرابع: أن وجه إعجازه هو ما فيه من الإخبار بما كان ، مما علموه

_ (1) الورهاء: الحمقاء، والبهم: أولاد الضأن المعز والبقر، والبلد جمع بليد، وهو معروف. (2) قلت: ورد بذلك فى حديث عند الترمذى (2906) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء فى فضل القرآن، والدارمى فى «سننه» (3331) من حديث على- رضى الله عنه-، بسند فيه الحارث والأعور، وهو ضعيف.

* والخامس: أن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب،

وما لم يعلموه، فإذا سألوا عنه عرفوا صحته وتحققوا صدقه كالذى حكاه من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر- عليهما الصلاة والسلام-، وحال ذى القرنين، وقصص الأنبياء مع أممها، والقرون الماضية فى دهرها. * والخامس: أن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب، والإخبار بما يكون، فيوجد على صدقه وصحته، مثل قوله تعالى لليهود: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ «1» فما تمناه أحد منهم. ومثل قوله تعالى لقريش: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «2» فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا. وتعقب: بأن الغيوب التى اشتمل عليها القرآن وقع بعضها فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، كقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «3» وبعضها بعد مدة كقوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ «4» فلو كان كما قالوا لنازعوا وقع المتوقع، وبأن الإخبار عن الغيب جاء فى بعض سور القرآن واكتفى منهم بمعارضة سورة غير معينة، فلو كان كذلك لعارضوه بقدر أقصر سورة لا غيب فيها. * السادس: أن وجه إعجازه هو كونه جامعا لعلوم كثيرة، لم تتعاط العرب فيها الكلام، ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد منهم، ولا يشتمل عليها كتاب، بين الله فيه خبر الأولين والآخرين وحكم المتخلفين وثواب المطيعين وعقاب العاصين. فهذه ستة أوجه، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازا، فإذا جمعها القرآن فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزا بأولى من غيره، فيكون الإعجاز بجميعها. وقد قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «5» فلم يقدر أحد أن يأتى بمثل هذا القرآن

_ (1) سورة البقرة: 94، 95. (2) سورة البقرة: 24. (3) سورة الفتح: 1. (4) سورة الروم: 1. (5) سورة الإسراء: 88.

فى زمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا بعده على نظمه وتأليفه وعذوبة منطقه وصحة معانيه، وما فيه من الأمثال والأشياء التى دلت على البعث وآياته، والإنباء بما كان وبما يكون، وبما فيه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والامتناع من إراقة الدماء، وصلة الأرحام، إلى غير ذلك، فكيف يقدر على ذلك أحد وقد عجزت عنه العرب الفصحاء والخطباء البلغاء، والشعراء الفهماء، من قريش وغيرها، وهو- صلى الله عليه وسلم- فى مدة ما عرفوه قبل نبوته وأداء رسالته أربعين سنة لا يحسن نظم كتاب، ولا عقد حساب، ولا يتعلم سحرا، ولا ينشد شعرا، ولا يحفظ خبرا، ولا يروى أثرا، حتى أكرمه الله بالوحى المنزل، والكتاب المفصل، فدعاهم إليه وحاجهم به، قال الله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ «1» ، وشهد له فى كتابه بذلك فقال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ «2» . وأما ما عدا القرآن من معجزاته- صلى الله عليه وسلم-، كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام ببركته، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدى به، ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحد، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده- صلى الله عليه وسلم- من خوارق العادات شىء كثير- كما يقطع بجود حاتم، وشجاعة على- وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت موارد الآحاد مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر ورواه العدد الكثير، والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم بذلك. فلو ادعى مدع أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظرى لما كان مستبعدا، وذلك أنه لا مرية أن رواة الأخبار فى كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار فى الجملة، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة مخالفة الراوى فيما حكاه من ذلك. ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم

_ (1) سورة يونس: 16. (2) سورة العنكبوت: 48.

كالناطق، لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء على الباطل، وعلى تقدير أن يوجد من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئا من ذلك فإنما هو من جهة توقف فى صدق الراوى أو تهمته بكذب، أو توقف فى ضبطه أو نسبته إلى سوء الحفظ، أو جواز الغلط، ولا يوجد أحد منهم طعن فى المروى، كما وجد منهم فى غير هذا الفن من الأحكام وحروف القرآن ونحو ذلك والله أعلم. وأنت إذا تأملت معجزاته وباهر آياته وكراماته- صلى الله عليه وسلم- وجدتها شاملة للعلوى والسفلى، والصامت والناطق، والساكن والمتحرك، والمائع والجامد، والسابق واللاحق، والغائب والحاضر، والباطن والظاهر، والعاجل والآجل، إلى غير ذلك، مما لو عد لطال، كالرمى بالشهب الثواقب، ومنع الشياطين من استراق السمع فى الغياهب، وتسليم الحجر والشجر عليه، وشهادتها له بالرسالة بين يديه، ومخاطبتها له بالسيادة، وحنين الجذع، ونبع الماء من كفه فى الميضأة والتور والمزادة، وانشقاق القمر، ورد العين من العور، ونطق البعير والذئب والجمل، وكالنور المتوارث من آدم إلى جبهة أبيه من الأزل، وما سوى ذلك من المعجزات التى تداولتها الحملة، ونقلتها عن الألسنة الأول النقلة، مما لو أعملنا أنفسنا فى حصرها لفنى المداد فى ذكرها. ولو بالغ الأولون والآخرون فى إحصاء مناقبه لعجزوا عن استقصاء ما حباه الكريم به من مواهبه، ولكن الملم بساحل بحرها مقصرا عن- حصر بعض فخرها، ولقد صح لبعض محبيه أن ينشدوا فيه: وعلى تفنن واصفيه لنعته ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف وأنه لخليق بمن ينشد: فما بلغت كف امرئ متناولا ... من المجد إلا والذى نال أطول ولا بلغ المهدون فى القول مدحه ... ولو حذقوا إلا الذى فيه أفضل ولله در إمام العارفين سيدى محمد وفا فلقد كفى وشفى بقوله:

ما شئت قل فيه فأنت مصدق ... فالحب يقضى والمحاسن تشهد ولقد أبدع الإمام الأديب شرف الدين الأبوصيرى حيث قال: دع ما ادعته النصارى فى نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدره ما شئت من عظم فإن فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم يعنى أن المداح وإن انتهوا إلى أقصى الغايات والنهايات لا يصلون إلى شأوه، إذ لا حدّ له، ويحكى أنه رؤى الشيخ عمر بن الفارض السعدى فى النوم فقيل له: لم لا مدحت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: أرى كل مدح فى النبى مقصرا ... وإن بالغ المثنى عليه وأكثرا إذا الله أثنى بالذى هو أهله ... عليه فما مقدار ما يمدح الورى قال الشيخ بدر الدين الزركشى: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين- كأبى تمام والبحترى وابن الرومى- مدحه- صلى الله عليه وسلم-، وكان مدحه عندهم من أصعب ما يحاولونه، فإن المعانى دون مرتبته، والأوصاف دون وصفه، وكل غلو فى حقه تقصير، فيضيق على البليغ بحال النظم، وعند التحقيق إذا اعتبرت جميع الأمداح التى فيها غلو بالنسبة إلى من قرضت له وجدتها صادقة فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم-، حتى كأن الشعراء على صفاته كانوا يعتمدون وإلى أمداحه كانوا يقصدون، وقد أشار الأبوصيرى بقوله: «دع ما ادعته النصارى فى نبيهم» إلى ما أطرت النصارى به عيسى ابن مريم من اتخاذه إلها. قال النيسابورى: إنهم صحفوا فى الإنجيل «عيسى نبى وأنا ولدته» فحرفوا الأول بتقديم الباء الموحدة وخففوا اللام فى الثانى، فلعنة الله على الكافرين. فإن قلت: هل ادعى أحد فى نبينا- صلى الله عليه وسلم- ما ادعى فى عيسى؟ أجيب: بأنهم قد كادوا أن يفعلوا نحو ذلك حين قالوا له- صلى الله عليه وسلم-: أفلا نسجد لك؟ قال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» «1» فنهاهم عما عساه يبلغ بهم من العبادة.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (2140) فى النكاح، باب: فى حق الزوج على-

أقسام معجزاته ص

وقد جاء فى صفته فى حديث ابن أبى هالة: ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، أى: مقارب فى مدحه غير مفرط فيه. وقال ابن قتيبة معناه؛ إلا أن يكون ممن له عليه منة، فيكافئه الآخر، وغلطه ابن الأنبارى: بأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لأن الله بعثه رحمة للعالمين، فالثناء عليه فرض عليهم، لا يتم الإسلام إلا به. قال: وإنما المعنى: لا يقبل الثناء إلا من رجل عرف حقيقة إسلامه. [أقسام معجزاته ص] ثم إن حاصل معجزاته وباهر آياته وكراماته- صلى الله عليه وسلم- كما نبه عليه القطب القسطلانى يرجع إلى ثلاثة أقسام: ماض: وجد قبل كونه، فقضى بمجده. ومستقبل: وقع بعد مواراته فى لحده. وكائن معه من حين حمله ووضعه إلى أن نقله الله إلى محل فضله وموطن جمعه. [القسم الأول ما كان قبل ظهوره] فأما القسم الأول الماضى وهو ما كان قبل ظهوره إلى هذا الوجود، فقد ذكرت منه جملة فى المقصد الأول، كقصة الفيل وغير ذلك، مما هو تأسيس لنبوته وإرهاص لرسالته، قال الإمام فخر الدين الرازى: ومذهبنا: أنه يجوز تقديم المعجزة تأسيسا وإرهاصا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله، يعنى فى سفره قبل النبوة، خلافا للمعتزلة القائلين بأنه لا يجوز أن تكون المعجزة قبل الإرسال. انتهى. وقد تقدم أول هذا المقصد: أن الذى عليه جمهور أئمة الأصول وغيرهم: أن هذا ونحوه مما هو متقدم على الدعوى لا يسمى معجزة، بل تأسيسا للرسالة وكرامة للرسول- صلى الله عليه وسلم-. وأما القسم الثانى ما وقع بعد وفاته- ص: وهو ما وقع بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم- فكثير جدّا، إذ فى

_ - المرأة، والدارمى فى «سننه» (1463) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 204) من حديث قيس بن سعد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حين ولادته إلى وفاته،

كل حين يقع لخواص أمته من خوارق العادات بسببه مما يدل على تعظيم قدره الكريم ما لا يحصى كالاستغاثة به وغير ذلك مما يأتى فى المقصد الأخير، فى أثناء الكلام على زيارة قبره الشريف المنير. وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حين ولادته إلى وفاته، فكالنور الذى خرج معه حتى أضاء له قصور الشام وأسواقها، حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى، ومسح الطائر على فؤاد أمه حتى لم تجد ألما لولادته، والطواف به فى الآفاق، إلى غير ذلك. وكانشقاق القمر عند اقتراحه عليه، وانضمام الشجرتين لما دعاهما إليه، وكإطعام الجيش الكثير من النزر اليسير، فى عدة من المواضع واستيلاء الفجائع، وغير ذلك مما أمده الله تعالى به من المعجزات، وأكرمه به خوارق العادات تأييدا لإقامة حجته، وتمهيدا لهداية محجته، وتأييدا لسيادته فى كل أمة، وتسديدا لمن ادكر بعد أمة، مما تتبعه يخرج عن مقصود الاختصار، إذ هو باب فسيح المجال منيع المنال، لكنى أنبه من ذلك على نبذة يسيرة، وأنوه فى أثنائها بجملة خطيرة، فأقول وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. أما معجزة انشقاق القمر، فقد قال تعالى فى كتابه العزيز: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «1» . الآية، والمراد وقوع انشقاقه، ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «2» . فإن ذلك ظاهر فى أن المراد بقوله: «انشق» وقوع انشقاقه، لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، وإذا تبين أن قولهم إنما هو فى الدنيا تبين وقوع الانشقاق وأنه المراد بالآية التى زعموا أنها سحر، وسيأتى ذلك صريحا فى حديث ابن مسعود وغيره. واعلم أن القمر لم ينشق لأحد غير نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وهو من أمهات معجزاته- صلى الله عليه وسلم-. وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجله

_ (1) سورة القمر: 1. (2) سورة القمر: 2.

- صلى الله عليه وسلم-، فإن كفار قريش لما كذبوه ولم يصدقوه طلبوا منه آية تدل على صدقه على دعواه، فأعطاه الله هذه الآية العظيمة، التى لا قدرة لبشر على إيجادها، دلالة على صدقه- صلى الله عليه وسلم- فى دعواه الوحدانية لله تعالى، وأنه منفرد بالربوبية، وأن هذه الآلهة التى يعبدونها باطلة لا تنفع ولا تضر، وأن العبادة إنما تكون لله وحده لا شريك له. قال الخطابى: انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شىء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر فى ملكوت السماوات خارجا عن جملة طباع ما فى هذا العالم المركب من الطبائع، فليس فيما يطمع فى الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. انتهى. وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث- يعنى حديث انشقاق القمر- جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا. وتأيد بالآية الكريمة. انتهى. وقال العلامة ابن السبكى فى شرحه لمختصر ابن الحاجب: والصحيح عندى أن انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه فى القرآن، مروى فى الصحيحين وغيرهما من طرق من حديث شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن أبى معمر عن ابن مسعود، ثم قال: وله طرق أخر شتى، بحيث لا يمترى فى تواتره. انتهى. وقد جاءت أحاديث الانشقاق فى روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم: أنس، وابن مسعود، وابن عباس، وعلى، وحذيفة، وجبير ابن مطعم، وابن عمر، وغيرهم. فأما أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك، لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد، وأما أنس فكان ابن أربع سنين أو خمس بالمدينة، وأما غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك. ففى الصحيحين: من حديث أنس- رضى الله عنه-: أن أهل مكة سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء

بينهما، وقوله: شقتين- بكسر الشين المعجمة- أى نصفين «1» . ومن حديث ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «اشهدوا» «2» . وفى الترمذى من حديث ابن عمر، فى قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «3» قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، انشق فلقتين، فلقة دون الجبل، وفلقة فوق الجبل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اشهدوا» «4» . وعند الإمام أحمد، من حديث جبير بن مطعم قال: انشق القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس «5» . وعن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال كفار قريش: هذا سحر ابن أبى كبشة، قال: فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال: فجاء السفار فأخبروهم بذلك «6» رواه أبو داود الطيالسى. ورواه البيهقى بلفظ: انشق القمر بمكة فقالوا: سحركم ابن أبى كبشة، فاسألوا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن لم يكونوا رأوا ما رأيتم فهو سحر، فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (36367) فى المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبى- صلى الله عليه وسلم- آية فأراهم انشقاق القمر، ومسلم (2802) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: انشقاق القمر. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3636) فى المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبى- صلى الله عليه وسلم- آية فأراهم انشقاق القمر، ومسلم (2800) فى صفة القيامة والجنة، باب: انشقاق القمر. (3) سورة القمر: 1. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2801) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: انشقاق القمر، والترمذى (3288) فى التفسير، باب: ومن سورة القمر. (5) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 81) ، وهو عند الترمذى (3289) . (6) أخرجه أبو داود الطيالسى فى «مسنده» (295) .

وعند أبى نعيم فى الدلائل من حديث ضعيف عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاصى بن وائل، والأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبى- صلى الله عليه وسلم-: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق. وعند البخارى مختصرا من حديث ابن عباس بلفظ: إن القمر انشق على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» ، وابن عباس وإن كان لم يشاهد القصة كما قدمته، ففى بعض طرقه أنه حمل الحديث عن ابن مسعود «2» . وعند مسلم من حديث شعبة عن قتادة بلفظ فأراهم انشقاق القمر مرتين «3» . وكذا فى مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ مرتين أيضا. واتفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ: فرقتين، كما فى حديث جبير عند أحمد. وفى حديث ابن عمر فلقتين- باللام- كما قدمته. وفى لفظ من حديث جبير: فانشق باثنتين. وفى رواية عن ابن عباس عند أبى نعيم فى الدلائل: فصار قمرين. ووقع فى نظم السيرة للحافظ أبى الفضل العراقى: وانشق مرتين بالإجماع. قال الحافظ ابن حجر: وأظن قوله: «بالإجماع» يتعلق ب «انشق» لا ب «مرتين» ، فإنى لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-. ولعل قائل «مرتين» أراد: فرقتين. وهذا الذى لا يتجه غيره جمعا بين الروايات. وقد وقع فى رواية البخارى من حديث ابن مسعود: ونحن بمنى، وهذا لا يعارض قول أنس: إن ذلك كان بمكة، لأنه لم يصرح بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان ليلتئذ بمكة. فالمراد أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة والله أعلم.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3638) فى المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبى- صلى الله عليه وسلم- آية، فأراهم انشقاق القمر، ومسلم (2803) فى صفات المنافقين وأحكامهم، باب: انشقاق القمر. (2) صحيح: وقد تقدم حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2802) (47) فى صفة المنافقين وأحكامهم، باب: انشقاق القمر.

وقد أنكر هذه المعجزة جماعة من المبتدعة، كجمهور الفلاسفة، متمسكين بأن الأجرام العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام، وكذا قالوا فى فتح أبواب السماء ليلة الإسراء، إلى غير ذلك. وجواب هؤلاء: إن كانوا كفارا أن يناظروا أولا على ثبوت دين الإسلام، فإذا تمت اشتركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلّم المسلم بعض ذلك دون بعض لزم التناقض. وأيضا لا سبيل إلى إنكار ما ثبت فى القرآن من الانخراق والالتئام فى القيامة، وإذا ثبت هذا استلزم الجواز، ووقوعه معجزة للنبى- صلى الله عليه وسلم-. وقد أجاب القدماء عن ذلك، فقال أبو إسحاق الزجاج فى «معانى القرآن» : أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفى الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء كما يكوره يوم القيامة ويفنيه. انتهى. وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا النقل جاء متواترا واشترك أهل الأرض كلهم فى معرفته، ولم يختص بها أهل مكة، لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء، والدواعى متوفرة على رواية كل غريب، ونقل ما لم يعهد، ولو كان لذلك أصل لخلد فى كتب التسيير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره. فأجاب عنه الخطابى وغيره: بأن هذه القصة خرجت عن الأمور التى ذكروها، لأنه شىء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلا، لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فيه نياما ومستكنين فى الأبنية، والبارز منهم فى الصحراء إذا كان يقظانا يحتمل أن يتفق أنه كان فى ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراكز القمر ناظرين إليه ولا يغافلوا عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان فى قدر اللحظة التى هى مدرك البصر، وقد يكون القمر حينئذ فى بعض المنازل التى تظهر لبعض الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عند قوم، وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد آخر.

وقد أبدى الخطابى حكمة بالغة فى كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شىء منها مبلغ التواتر الذى لا نزاع فيه كالقرآن بما حاصله: إن معجزة كل نبى كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب بها من قومه، والنبى- صلى الله عليه وسلم- بعث رحمة للعالمين، فكانت معجزته التى تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم، لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عامّا لعوجل من كذب بها كما عوجل من قبلهم. انتهى. وكذا أجاب ابن عبد البر بنحوه. تنبيه: ما يذكره بعض القصاص: أن القمر دخل فى جيب النبى- صلى الله عليه وسلم- وخرج من كمه، فليس له أصل، كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشى عن شيخه العماد بن كثير. وأما رد الشمس له- صلى الله عليه وسلم-، فروى عن أسماء بنت عميس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يوحى إليه ورأسه فى حجر على- رضى الله عنه-، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أصليت يا على؟» فقال: لا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس» ، قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقعت على الجبال والأرض، وذلك فى الصهباء فى خيبر «1» ، رواه الطحاوى فى مشكل الحديث، كما حكاه القاضى عياض فى الشفاء وقال: قال الطحاوى: إن أحمد بن صالح كان يقول: لا ينبغى لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة. انتهى. قال بعضهم: هذا الحديث ليس بصحيح، وإن أوهم تخريج القاضى عياض له فى الشفاء عن الطحاوى من طريقين، فقد ذكره ابن الجوزى فى الموضوعات وقال: إنه موضوع بلا شك وفى سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذاب، كما قال الدار قطنى. وقال ابن حبان: كان يضع الحديث. قال ابن الجوزى: وقد روى هذا الحديث ابن شاهين فذكره ثم قال:

_ (1) ضعيف: أخرجه الطحاوى فى مشكل الآثار: (2/ 9) و (4/ 388) ، بسند فيه متروك.

وهذا حديث باطل، قال: ومن تغافل واضعه أنه نظر إلى صورة فضيلة، ولم يلمح عدم الفائدة فيها، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء، ورجوع الشمس لا يعيدها أداء. انتهى. وقد أفرد ابن تيمية تصنيفا مفردا فى الرد على الروافض ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله وأنه موضوع، والعجب من القاضى مع جلالة قدره وعلو خطره فى علوم الحديث كيف سكت عنه موهما صحته، ناقلا ثبوته، موثقا رجاله. انتهى. وقال شيخنا: قال أحمد: لا أصل له، وتبعه ابن الجوزى فأورده فى الموضوعات. ولكن قد صححه الطحاوى والقاضى عياض، وأخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس، وابن مردويه من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- انتهى. ورواه الطبرانى فى معجمه الكبير بإسناد حسن كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقى فى شرح التقريب عن أسماء بنت عميس ولفظه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليّا فى حاجة فرجع وقد صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- العصر، فوضع- صلى الله عليه وسلم- رأسه فى حجر على ونام، فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إن عبدك عليّا احتبس بنفسه على نبيه فرد عليه الشمس» قالت أسماء: فطلعت عليه الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض، وقام على فتوضأ وصلى العصر ثم غابت وذلك بالصهباء «1» . وفى لفظ آخر: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحى يغشى عليه، فأنزل الله عليه يوما وهو فى حجر على، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «صليت العصر يا على؟» فقال: لا، يا رسول الله، فدعا الله فرد عليه الشمس حتى صلى العصر قالت أسماء: فرأيت الشمس طلعت بعد ما غابت حين ردت حتى صلى العصر «2» .

_ (1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (24/ 144) . (2) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (24/ 152) .

قال: وروى الطبرانى أيضا فى معجمه الأوسط بإسناد حسن عن جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار. وروى يونس بن بكير فى زيادة المغازى فى روايته عن ابن إسحاق، مما ذكره القاضى عياض: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم- وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التى فى العير، قالوا: متى تجىء؟ قال: «يوم الأربعاء» ، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون، وقد ولى النهار، ولم تجئ، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزيد له فى النهار ساعة وحبست عليه الشمس «1» . انتهى. وهذا يعارضه قوله فى الحديث: لم تحبس الشمس على أحد إلا ليوشع ابن نون، يعنى حين قاتل الجبارين يوم الجمعة، فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم ويدخل السبت فلا يحل له قتالهم، فدعا الله تعالى فرد عليه الشمس حتى فرغ من قتالهم. قال الحافظ ابن كثير: فيه أن هذا كان من خصائص يوشع، فيدل على ضعف الحديث الذى رويناه أن الشمس رجعت حتى صلى على بن أبى طالب، وقد صححه أحمد بن صالح المصرى، ولكنه منكر، ليس فى شىء من الصحاح والحسان، وهو مما تتوفر الدواعى على نقله، وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها. انتهى. ويحتمل الجمع: بأن المعنى لم تحبس الشمس على أحد من الأنبياء غيرى إلا ليوشع، والله أعلم. وكذا روى حبس الشمس لنبينا- صلى الله عليه وسلم- أيضا يوم الخندق، حين شغل عن صلاة العصر، فيكون حبس الشمس مخصوصا بنبينا- صلى الله عليه وسلم- وبيوشع، كما ذكره القاضى عياض فى الإكمال، وعزاه لمشكل الآثار، ونقله النووى فى شرح مسلم فى باب حل الغنائم عن عياض وكذا الحافظ ابن حجر فى باب الأذان فى تخريج أحاديث الرافعى ومغلطاى فى الزهر الباسم، وأقروه. وتعقب: بأن الثابت فى الصحيح وغيره: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى العصر فى وقعة الخندق بعد ما غربت الشمس. كما سبق فى غزوتها. وذكر البغوى فى

_ (1) انظر «الشفا» للقاضى عياض (1/ 284) .

تفسيره: أنها حبست لسليمان- عليه السّلام- أيضا، لقوله: رُدُّوها عَلَيَّ «1» . ونوزع فيه بعدم ذكر الشمس فى الآية، فالمراد: الصافنات الجياد والله أعلم. قال القاضى عياض: واختلف فى حبس الشمس المذكور هنا، فقيل: ردت على أدراجها وقيل: وقفت ولم ترد، وقيل: بطء حركتها. قال: وكل ذلك من معجزات النبوة. انتهى. وأما ما روى من طاعات الجمادات وتكليمها له بالتسبيح والسلام ونحو ذلك مما وردت به الأخبار، فمنها تسبيح الطعام والحصى فى كفه الشريف- صلى الله عليه وسلم- «2» . فخرج محمد بن يحيى الذهلى فى الزهريات قال: أخبرنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب عن الزهرى قال: ذكر الوليد بن سويدان رجلا من بنى سليم كبير السن كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة: عن أبى ذر قال: هجرت يوما من الأيام، فإذا النبى- صلى الله عليه وسلم- قد خرج من بيته فسألت عنه الخادم فأخبرنى أنه ببيت عائشة، فأتيته وهو جالس ليس عنده أحد من الناس، وكأنى حينئذ أرى أنه فى وحى، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: «ما جاء بك؟» قلت: الله ورسوله، فأمرنى أن أجلس فجلست إلى جنبه، لا أسأله عن شىء ولا يذكره لى، فمكثت غير كثير، فجاء أبو بكر يمشى مسرعا فسلم عليه، فرد عليه السلام، ثم قال: «ما جاء بك؟» قال: جاء بى الله ورسوله، فأشار بيده أن اجلس، فجلس إلى ربوة مقابل النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم جاء عمر ففعل مثل ذلك، ثم قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبى بكر، ثم جاء عثمان كذلك وجلس إلى جنب عمر، ثم قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حصيات سبع أو تسع أو ما قرب من ذلك، فسبحان فى يده، حتى سمع لهن حنين كحنين النحل فى كف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم ناولهن أبا بكر، وجاوزنى، فسبحان فى كف أبى بكر، ثم أخذهن منه فوضعهن فى الأرض فخرسن وصرن حصى، ثم ناولهن عمر، فسبحان فى

_ (1) سورة ص: 33. (2) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (6/ 64) .

كفه، كما سبحان فى كف أبى بكر، ثم أخذهن منه فوضعهن فى الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان فسبحان فى كفه، كما سبحان فى كف أبى بكر وعمر، ثم أخذهن فوضعهن فى الأرض فخرسن «1» . وقال الحافظ ابن حجر: قد اشتهر على الألسنة تسبيح الحصى. ففى حديث أبى ذر قال: تناول النبى- صلى الله عليه وسلم- سبع حصيات فسبحان فى يده حتى سمعت لهن حنينا، ثم وضعهن فى يد أبى بكر فسبحان، ثم وضعهن فى يد عمر فسبحان، ثم وضعهن فى يد عثمان فسبحان «2» ، أخرجه البزار، والطبرانى فى الأوسط. وفى رواية الطبرانى: فسمع تسبيحهن من فى الحلقة، ثم دفعهن إلينا فلم يسبحان مع أحد منا، قال البيهقى فى «الدلائل» «3» : كذا رواه صالح بن أبى الأخضر- ولم يكن بالحافظ- عن الزهرى عن سويد بن يزيد السلمى عن أبى ذر. والمحفوظ ما رواه شعيب عن أبى حمزة عن الزهرى قال: ذكر الوليد ابن سويد أن رجلا من بنى سليم كان كبير السن، انتهى. وليس لحديث تسبيح الحصى إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها، لكنه مشهور عند الناس. وما أحسن قول سيدى محمد وفا- رحمه الله تعالى- حيث قال: لسبحة ذاك الوجه قد سبح الحصا ... ومن سح سحب الكف قد سبح الرعد وقال الآخر: يا حبذا لو لثمت كفا ... قد سبحت وسطها الحصاء وقد أخرج البخارى من حديث ابن مسعود: كنا نأكل مع النبى- صلى الله عليه وسلم- الطعام، ونحن نسمع تسبيح الطعام «4» . وعن جعفر بن محمد عن أبيه

_ (1) ذكره ابن عساكر فى «تهذيب تاريخ دمشق» (2/ 108) ، والقاضى عياض فى «الشفا» له (1/ 306) . (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 299) وقال: رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات، وفى بعضهم ضعف. (3) (6/ 65) . (4) صحيح: أخرجه البخارى (3579) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام.

قال: مرض النبى- صلى الله عليه وسلم- فأتاه جبريل بطبق فيه رمان وعنب فأكل منه النبى- صلى الله عليه وسلم- فسبح «1» . رواه القاضى عياض فى «الشفاء» ونقله عنه الحافظ أبو الفضل فى فتح البارى. واعلم أن التسبيح من قبيل الألفاظ الدالة على معنى التنزيه. واللفظ يوجد حقيقة ممن قام به اللفظ، فيكون فى غير من قام به مجازا، فالطعام والحصا والشجر ونحو ذلك، كل منها متكلم باعتبار خلق الكلام فيها حقيقة، وهذا من قبيل خرق العادة. وفى قوله: «ونحن نسمع تسبيحه» تصريح بكرامة الصحابة لسماع هذا التسبيح وفهمه وذلك ببركته- صلى الله عليه وسلم-. ومن ذلك تسليم الحجر عليه- صلى الله عليه وسلم-: خرج مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث، إنى لأعرفه الآن» «2» . وقد اختلف فى هذا الحجر، فقيل: هو الحجر الأسود، وقيل: حجر غيره بزقاق يعرف به بمكة، والناس يتبركون بلمسه، ويقولون: إنه هو الذى كان يسلم على النبى- صلى الله عليه وسلم- متى اجتاز به. وقد ذكر الإمام أبو عبد الله، محمد بن رشيد- بضم الراء- فى رحلته مما ذكره فى «شفاء الغرام» عن علم الدين أحمد بن أبى بكر بن خليل قال: أخبرنى عمى سليمان قال: أخبرنى محمد بن إسماعيل بن أبى الصيف قال: أخبرنى أبو حفص الميانشى قال: أخبرنى كل من لقيته بمكة أن هذا الحجر- يعنى المذكور- هو الذى كلم النبى- صلى الله عليه وسلم-. وروى الترمذى والدارمى والحاكم وصححه، عن على بن أبى طالب قال: كنت أمشى مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة فخرجنا فى بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله «3» . وعن عائشة

_ (1) لا أصل له: والحديث ذكره القاضى عياض فى «الشفا» (1/ 307) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2277) فى الفضائل، باب: فضل نسب النبى- صلى الله عليه وسلم- وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. (3) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (3626) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والدارمى فى «سننه» (21) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 677) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لما استقبلنى جبريل بالرسالة جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله» «1» رواه البزار وأبو نعيم. وعن جابر بن عبد الله قال: لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له «2» . ومن ذلك: تأمين أسكفة الباب وحوائط البيت على دعائه- صلى الله عليه وسلم-، عن أبى أسيد الساعدى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للعباس بن عبد المطلب: «يا أبا الفضل، لا ترم منزلك أنت وبنوك غدا حتى آتيكم، فإن لى فيكم حاجة» . فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى، فدخل عليهم فقال: «السلام عليكم» ، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: «كيف أصبحتم؟» قالوا: أصبحنا بخير بحمد الله، فقال لهم: «تقاربوا» فتقاربوا يزحف بعضهم إلى بعض، حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته فقال: «يا رب، هذا عمى، وصنو أبى، وهؤلاء أهل بيتى فاسترهم من النار كسترى إياهم بملاءتى هذه، قال: فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقال: آمين آمين آمين» «3» رواه البيهقى فى الدلائل وابن ماجه مختصرا. ومن ذلك كلامه للجبل وكلام الجبل له- صلى الله عليه وسلم-، عن أنس قال: صعد النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان أحدا، فرجف بهم، فضربه النبى- صلى الله عليه وسلم- برجله وقال: «اثبت أحد، فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان» «4» رواه أحمد والبخارى والترمذى وأبو حاتم. قال ابن المنير: قيل الحكمة فى ذلك أنه لما رجف أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يبين أن هذه الرجفة ليست من جنس

_ (1) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 260) وقال: رواه البزار عن شيخه عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف. (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 69) . (3) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (19/ 263) . (4) صحيح: أخرجه البخارى (3686) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشى العدوى- رضى الله عنه-، وأبو داود (4651) فى السنة، باب: فى الخلفاء، والترمذى (3697) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان- رضى الله عنه-.

رجفة الجبل بقوم موسى لما حرفوا الكلم، وأن تلك رجفة الغضب، وهذه هزة الطرب، ولهذا نص على مقام النبوة والصديقية والشهادة التى توجب سرور ما اتصلت به لا رجفانه، فأقر الجبل بذلك فاستقر، انتهى. وأحد: جبل بالمدينة، وهو الذى قال فيه: «أحد جبل يحبنا ونحبه» «1» . رواه البخارى ومسلم. واختلف فى المراد بذلك، فقيل: أراد به أهل المدينة، كما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» . أى أهلها، قاله الخطابى، وقال البغوى فيما حكاه الحافظ المنذرى: الأولى إجراؤه على ظاهره، ولا ينكر وصف الجمادات بحب الأنبياء والأولياء، وأهل الطاعة، كما حنت الأسطوانة على مفارقته- صلى الله عليه وسلم- حتى سمع الناس حنينها إلى أن سكنها، وكما أخبر أن حجرا كان يسلم عليه قبل الوحى، فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه وتحن إلى لقائه حالة مفارقته إياها. انتهى. وقال الحافظ المنذرى: هذا الذى قاله البغوى جيد. وعن ثمامة عن عثمان بن عفان أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان على ثبير مكة، ومعه أبو بكر وعمر وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، فركله برجله وقال: «اسكن ثبير، فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان» «3» . خرجه النسائى والترمذى والدارقطنى. والحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل. وركله برجله: أى ضربه بها. وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال- صلى الله عليه وسلم-:

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2889) فى الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة فى الغزو، ومسلم (1365) فى الحج، باب: فضل المدينة، و (1393) فى الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) سورة يوسف: 82. (3) حسن: أخرجه الترمذى (3703) فى المناقب، باب: فى مناقب عثمان بن عفان- رضى الله عنه-، والنسائى (6/ 236) فى الأحباس، باب: وقف المساجد، وفى «الكبرى» (6435) ، والدار قطنى فى «سننه» (4/ 196 و 197) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

«اسكن حراء، فما عليك إلا نبى أو صديق أو شهيد» «1» . وفى رواية: وسعد ابن أبى وقاص، ولم يذكر عليّا. خرجهما مسلم وانفرد بذلك. وخرجه الترمذى فى مناقب عثمان، ولم يذكر «سعدا» وقال: «اهدأ» مكان «اسكن» وقال: حديث صحيح. وخرجه الترمذى أيضا عن سعيد بن زيد وذكر أنه كان عليه العشرة إلا أبا عبيدة «2» . وقال: اثبت حراء. وكذا رواه الخلعى عنه بنحوه، ولم يذكر أبا عبيدة بن الجراح. ورواه أيضا إسحاق البغدادى فيما رواه الكبار عن الصغار، والآباء عن الأبناء، ولله در القائل: ومال حراء من تحته فرحا به ... لولا مقال «اسكن» تضعضع وانقضا وحراء وثبير: جبلان متقابلان معروفان بمكة. واختلاف الروايات تحمل على أنها قضايا تكررت. قاله الطبرى وغيره. لكن صحح الحافظ ابن حجر: أنه «أحد» قال: ولولا اتحاد المخرج لجوزت تعدد القصة، ثم ظهر لى أن الاختلاف فيه من سعيد، فإنى وجدته فى مسند الحارث بن أبى أسامة عن روح بن عبادة فقال فيه: «أحد» أو «حراء» بالشك. وقد أخرجه أحمد من حديث بريدة «3» بلفظ حراء وإسناده صحيح. وأخرجه أبو يعلى من حديث سهل بن سعد بلفظ «أحد» وإسناده صحيح فقوى احتمال تعدد القصة. وأخرج مسلم «4» من حديث أبى هريرة ما يؤيد تعدد القصة، فذكر أنه كان على حراء ومعه المذكورون هنا وزاد معهم غيرهم. ولما طلبته- صلى الله عليه وسلم- قريش قال له ثبير: اهبط يا رسول الله فإنى أخاف أن يقتلوك على ظهرى فيعذبنى الله، فقال له حراء: إلى يا رسول الله رواه فى «الشفاء» وهو حديث مروى فى الهجرة من السيرة. وحراء مقابل لثبير، والوادى بينها، وهو على يسار السالك إلى منى، وحراء قبلى ثبير مما يلى شمال الشمس. وهذه الواقعة غير واقعة ثور فى خبر الهجرة. هذا هو الظاهر والله أعلم.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2417) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل طلحة والزبير- رضى الله عنهما-. (2) قلت: هو عند أحمد فى «مسنده» (1/ 187 و 188) . (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 346) . (4) صحيح: وقد تقدم حديث مسلم قبل حديثين.

قال السهيلى فى حديث الهجرة: وأحسب فى الحديث أن ثورا ناداه أيضا، لما قال له ثبير: اهبط عنى. ومن ذلك كلام الشجر له وسلامها عليه وطواعيتها له، وشهادتها له بالرسالة- صلى الله عليه وسلم-. أخرج البزار وأبو نعيم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لما أوحى إلى جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله» «1» . وأخرج الإمام أحمد عن أبى سفيان طلحة بن نافع عن جابر قال: جاء جبريل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وهو جالس حزين، قد خضب بالدماء، ضربه بعض أهل مكة، فقال له: ما لك؟ فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فعل بى هؤلاء وفعلوا» ، فقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟ فقال: «نعم» ، قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادى فقال: ادع تلك الشجرة فدعاها، قال فجاءت تمشى حتى قامت بين يديه، فقال: مرها فلترجع إلى مكانها، فأمرها فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «حسبى حسبى» «2» ، ورواه الدارمى من حديث أنس. وعن على قال: كنت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة، فخرجنا فى بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله «3» ، رواه الترمذى وقال: حديث حسن غريب. وخرج الحاكم فى مستدركه بإسناد جيد عن ابن عمر قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فأقبل أعرابى، فلما دنا منه قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أين تريد» قال: إلى أهلى، قال: «هل لك إلى خير» ، قال: وما هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله» قال: هل لك من شاهد على ما تقول؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذه الشجرة»

_ (1) تقدم. (2) قلت: هو عند ابن ماجه (4028) فى الفتن، باب: الصبر على البلاء، والدارمى فى «سننه» (23) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 113) من حديث أنس- رضى الله عنه-، ولم أقف عليه من حديث جابر كما قال المصنف، ولعله وهم. وإسناده صحيح. (3) ضعيف: وقد تقدم قريبا.

فدعاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهى على شاطئ الوادى فأقبلت تخد الأرض خدا، فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت، ثم رجعت إلى منبتها «1» ، الحديث. ورواه الدارمى أيضا بنحوه. وقوله: تخد- بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة- أى تشق الأرض. وعن بريدة: سأل أعرابى النبى- صلى الله عليه وسلم- آية، فقال له: «قل لتلك الشجر رسول الله يدعوك» ، قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها، وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقها ثم جاءت تخد الأرض تجر عروقها مغيرة حتى وقفت بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فقال الأعرابى: مرها فلترجع إلى منبتها، فرجعت فدلت عروقها فى ذلك الموضع فاستقرت. فقال الأعرابى: ائذن لى أن أسجد لك، قال: «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» رواه البزار فى الشفاء. وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: جاء أعرابى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟ قال: «إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أنى رسول الله؟» قال: نعم فدعاه رسول الله فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: «ارجع» فعاد، فأسلم الأعرابى «2» ، رواه الترمذى وصححه. وفى حديث يعلى بن مرة الثقفى: ثم سرنا حتى نزلنا منزلا فنام النبى- صلى الله عليه وسلم-، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذكرت له، فقال: «هى شجرة استأذنت ربها أن تسلم على فأذن لها» «3» الحديث رواه البغوى فى شرح السنة.

_ (1) رجاله ثقات: أخرجه الدارمى فى «سننه» (16) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6505) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 431) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (5662) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: رجاله ثقات. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (3628) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 676) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 110) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 173) ، وعبد بن حميد فى «منتخبه» (405) .

وفى حديث جابر بن عبد الله: سرنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقضى حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان فى شاطئ الوادى فانطلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: «انقادى على بإذن الله» فانقادت معه كالبعير المخشوش «1» الذى يصانع قائده، ثم فعل بالآخرى كذلك، حتى إذا كان بالمنصب بينهما قال: «التئما على بإذن الله فالتأمتا» «2» الحديث رواه مسلم. والمنصف: - بفتح الميم- الموضع الوسط بين الموضعين. والتلاؤم: الاجتماع. ولله در الأبوصيرى حيث قال: جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشى إليه على ساق بلا قدم كأنما سطرت سطرا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط فى اللقم فشبه آثار مشى الشجر لما جاءت إليه- صلى الله عليه وسلم- بكتابة كاتب أوقعها على نسبة معلومة فى أسطر منظومة. وإذا كانت الأشجار تبادر لامتثال أمره- صلى الله عليه وسلم- حتى تخر ساجدة بين يديه، فنحن أولى بالمبادرة لامتثال ما دعا إليه زاده الله شرفا لديه. وتأمل قول الأعرابى: «ائذن لى أن أسجد لك» لما رأى من سجود الشجرة، فرأى أنه أحرى بذلك، حتى أعلمه- صلى الله عليه وسلم- أن ذلك لا يكون إلا لله، فحق على كل مؤمن أن يلازم السجود للحق المعبود، ويقوم على ساق العبودية، وإن لم يكن له قدم كما قامت الشجرة. ومن ذلك: حنين الجذع شوقا إليه «3» . اعلم أن «الحنين» مصدر مضاف

_ (1) البعير المخشوش: هو الذى وضع فى أنفه عود خشاش من خشب لينقاد بسهولة. (2) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (3012) فى الزهد والرقائق باب: حديث جابر الطويل. (3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3583) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

إلى الفاعل. والمراد: شوقه وانعطافه إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، والذى فى الأحاديث المسوقة هنا أنه صوت، ولعل المراد منه الدلالة على الشوق، أى الصوت الدال على شوقه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. والجذع: واحد جذوع النخل، وهو بالذال المعجمة. وقد روى حديث حنين الجذع عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة تفيد القطع بوقوع ذلك. قال العلامة التاج ابن السبكى فى شرحه لمختصر ابن الحاجب: والصحيح عندى أن حنين الجذع متواتر: رواه البخارى عن نافع عن ابن عمر. ورواه أحمد من رواية أبى جناب عن أبيه عن ابن عمر. ورواه ابن ماجه وأبو يعلى الموصلى وغيرهما من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس، وإسناده على شرط مسلم. ورواه الترمذى وصححه، وأبو يعلى وابن خزيمة والطبرانى والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم، يلزمه إخراجه من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس. ورواه الطبرانى من رواية الحسن عن أنس. ورواه أحمد وابن منيع والطبرانى وغيرهم من رواية حماد بن سلمة عن عمار بن أبى عامر عن ابن عباس. ورواه أحمد والدارمى وأبو يعلى وابن ماجه وغيرهم من رواية الطفيل بن أبى كعب عن أبيه. ورواه الدارمى من رواية أبى حازم عن سهل بن سعد. ورواه أبو محمد الجوهرى من رواية عبد العزيز أبى رواد عن نافع عن تميم الدارى. ثم قال: ولست أدعى أن التواتر حاصل بما عددت من الطريق، بل من طرق أخرى كثيرة يجدها المحدث ضمن المسانيد والأجزاء وغيرها، وإنما ذكرت فى المشاهد منها أو فى بعضها، ورب متواتر عند قوم غير متواتر عند آخرين. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: فى فتح البارى، حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له فى ذلك، والله أعلم، انتهى.

وقال البيهقى: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التى حملها الخلف عن السلف، انتهى. وهذه الآية من أكبر الآيات والمعجزات الدالة على نبوة نبينا- صلى الله عليه وسلم-. قال الشافعى- فيما نقله ابن أبى حاتم عنه، فى مناقبه-: ما أعطى الله نبيّا ما أعطى نبينا محمدا- صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمد حنين الجذع حتى سمع صوته، فهو أكبر من ذلك. وقال القاضى عياض: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم: أبى ابن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وأبو سعيد الخدرى، وبريدة، وأم سلمة، والمطلب بن أبى وداعة، انتهى. فأما حديث أبى، فرواه الشافعى من حديث الطفيل بن أبى بن كعب عن أبيه، قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: هل لك أن نجعل لك منبرا تقوم عليه يوم الجمعة، وتسمع الناس خطبتك؟ قال: «نعم» فصنع له ثلاث درجات، هى التى على المنبر، فلما صنع وضعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- موضعه الذى هو فيه، فكان إذا بدا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يخطب عليه، تجاوز الجذع الذى كان يخطب عليه، خار حتى تصدع وانشق، فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر، الحديث. وأما حديث جابر، فرواه البخارى من طرق، وفى لفظ له: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل من الأنصار: ألا نجعل لك منبرا؟ قال: «إن شئتم» فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة رفع إلى المنبر، فصاحت النخلة فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبى الذى يسكن، قال: «كانت تبكى على ما كانت تسمع من الذكر عندها» «1» .

_ (1) صحيح: والحديث عند البخارى (3584 و 3585) فيما سبق، من حديث جابر- رضى الله عنه-.

وفى لفظ: قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار- وهو بكسر العين: النوق الحوامل- وفى حديث أبى الزبير عن جابر- عند النسائى فى الكبرى-: اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج. انتهى. والخلوج: - بفتح الخاء المعجمة، وضم اللام الخفيفة وآخره جيم- الناقة التى انتزع منها ولدها. والحنين: صوت المتألم المشتاق عند الفراق. وإنما يشتاق إلى بركة الرسول ويتأسف على مفارقته أعقل العقلاء. والعقل والحنين بهذا الاعتبار يستدعى الحياة، وهذا يدل على أن الله عز وجل خلق فيه الحياة والعقل والشوق ولهذا حنّ وأنّ. فإن قيل: مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى: أن الأصوات لا يستلزم خلقها فى المحل خلق الحياة ولا العقل. أجيب: بأنه كذلك، ونحن لم نجعل الحياة لازمة، إلا أن الشوق إلى الحق شوقا معنويّا عقليّا لا طبيعيا بهيميّا. ومذهب الشيخ أبى الحسن أن الذكر المعنوى والكلام النفسى يستلزمان الحياة استلزام العلم لها. وقد بينا أن هذه المعانى وجدت فى الجذع، وأطلق الحاضرون حينئذ على صوته أنه حنين، وفهموا أنه شوق إلى الذكر وإلى مقام الحبيب عنده، وقد عامله النبى- صلى الله عليه وسلم- هذه المعاملة، فالتزمه كما يلتزم الغائب أهله وأعزته يبرد غليل شوقهم إليه وأسفهم عليه، ولله در القائل: وحن إليه الجذع شوقا ورقة ... ورجع صوتا كالعشار مرددا فبادره ضما فقر لوقته ... لكل امرئ من دهره ما تعودا وأما حديث أنس، فرواه أبو يعلى الموصلى بلفظ: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب فى المسجد يخطب الناس، فجاءه رومى فقال: ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع له منبرا له درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر

جأر الجذع كجؤر الثور، حتى ارتج المسجد لجؤاره حزنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنزل إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن المنبر فالتزمه وهو يجأر، فلما التزمه سكت. ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «والذى نفس محمد بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى تقوم الساعة حزنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأمر به- صلى الله عليه وسلم- فدفن» «1» ورواه الترمذى وقال: صحيح غريب. وكذا رواه ابن ماجه والإمام أحمد من طريق الحسن عن أنس ولفظه: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم الجمعة يسند ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: «ابنوا لى منبرا» أراد أن يسمعهم، فبنوا له عتبتين، فتحول من الخشبة إلى المنبر، قال: فأخبر أنس بن مالك أنه سمع الخشبة تحن حنين الواله، قال: فما زالت تحن حتى نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن المنبر فمشى إليها فاحتضنها فسكتت. ورواه أبو القاسم البغوى وزاد فيه: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شوقا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. ولله در القائل: وألقى حتى فى الجمادات حبه ... فكانت لإهداء السلام له تهدى وفارق جذعا كان يخطب عنده ... فأنّ أنين الأم إذ تجد الفقدا يحن إليه الجذع يا قوم هكذا ... أما نحن أولى أن نحنّ له وجدا إذا كان جذع لم يطق بعد ساعة ... فليس وفاء أن نطيق له بعدا وأما حديث سهل بن سعد، ففى الصحيحين من طرق. وأما حديث

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3627) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وابن ماجه (1415) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى بدء شأن المنبر، وأحمد فى «المسند» (1/ 266 و 363) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (3384) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ابن عباس فعند الإمام أحمد بإسناد على شرط مسلم، ورواه ابن ماجه. وأما حديث ابن عمر، ففى البخارى. وأما حديث أبى سعيد الخدرى، فعند عبد ابن حميد. وأما حديث عائشة، فعند البيهقى وفى آخره: أنه خير الجذع بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة. وأما حديث بريدة، فعند الدارمى وفيه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن شئت أردك إلى الحائط الذى كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك فى الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك؟» ثم أصغى له النبى- صلى الله عليه وسلم- ليسمع ما يقول، فقال: بل تغرسنى فى الجنة فيأكل منى أولياء الله وأكون فى مكان لا أبلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «قد فعلت» ثم قال: «اختار دار البقاء على دار الفناء» «1» . وأما حديث أم سلمة، فعند أبى نعيم فى الدلائل. والقصة واحدة، وما فى ألفاظها مما ظاهره التغاير هو من الرواة. وعند التحقيق ترجع إلى معنى واحد، فلا نطيل بذكر ذلك والله أعلم. وأما كلام الحيوانات وطاعتها له- صلى الله عليه وسلم-: فمنها: سجود الجمل وشكواه إليه- صلى الله عليه وسلم- «2» . عن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وأن الأنصار جاؤا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنه كان لنا جمل نسنى عليه، وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش النخل والزرع، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «قوموا» فقاموا فدخل الحائط، والجمل فى ناحية فمشى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، قد صار مثل الكلب الكلب، وإنا نخاف عليك صولته، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ليس على منه بأس» فلما نظر الجمل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بناصيته أذل ما كان قط، حتى أدخله فى العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد

_ (1) تقدمت هذه الأحاديث. (2) أخرجها البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 28) .

لك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، لو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» «1» ، رواه أحمد والنسائى. والحائط: هو البستان. وقوله: نسنى عليه: - بالنون والسين المهملة- أى نستقى عليه. وفى حديث يعلى بن مرة الثقفى: بينا نحن نسير مع النبى- صلى الله عليه وسلم- إذ مررنا ببعير يسنى عليه، فلما رآه البعير جرجر، فوضع جرانه، فوقف عليه النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أين صاحب هذا البعير» ، فجاءه، فقال: «بعنيه» ، فقال: بل نهبه لك يا رسول الله، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، فقال: «أما إذ ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرة العمل، وقلة العلف، فأحسنوا إليه» «2» رواه البغوى فى شرح السنة. والجران: بكسر الجيم، قال ابن فارس: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره. وروى الإمام أحمد قصة أخرى نحو ما تقدم من حديث جابر ضعيفة السند، والبيهقى بإسناد جيد. وكذا روى الطبرانى قصة أخرى عن عكرمة عن ابن عباس: لكن بإسناد ضعيف. والإمام أحمد أيضا من حديث يعلى بن مرة. وأخرج ابن شاهين فى الدلائل عن عبد الله بن جعفر- رضى الله عنهما- قال: أردفنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه فأسر إلى حديثا لا أحدث به أحدا من الناس، قال: وكان أحب ما استتر به النبى- صلى الله عليه وسلم- لحاجته هدف أو حائش نخل، فدخل حائط رجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- حنّ فذرفت عيناه، فأتاه النبى- صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفراه، وفى رواية فسكن، ثم قال: «من رب هذا الجمل؟» فجاء فتى من الأنصار فقال: هذا لى يا رسول الله، فقال: «ألا تتقى الله فى هذه البهيمة التى ملكك الله إياها،

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 158) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 4) وقال: رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح غير حفص ابن أخى أنس، وهو ثقة. (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 170 و 173) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 5، 6) وقال: رواه أحمد بإسنادين والطبرانى بنحوه، وأحد إسنادى أحمد رجاله رجال الصحيح.

فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتدئبه» «1» قال فى المصابيح: وهو حديث صحيح، قال: ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن مهدى بن ميمون. والحائش: - بالحاء المهملة وبالشين المعجمة ممدودا- هو جماعة النخل، لا واحد له من لفظه. وقوله: ذفران: تثنية ذفرا، بكسر الذال المعجمة مقصور، وهو الموضع الذى يعرف من قفا البعير عند أذنه. ومنها: سجود الغنم له- صلى الله عليه وسلم-، عن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حائطا للأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجل من الأنصار، وفى الحائط غنم فسجدت له، فقال أبو بكر: يا رسول الله، نحن أحق بالسجود لك من هذه الغنم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينبغى لأحد أن يسجد لأحد» «2» رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه فى كتاب دلائل النبوة بإسناد ضعيف. وذكره القاضى عياض فى الشفاء وذكر أيضا عن جابر عن عبد الله عن رجل أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- وآمن به وهو على بعض حصون خيبر، وكان من غنم يرعاها لهم، فقال: يا رسول الله، كيف لى بالغنم، قال: «احصب وجوهها فإن الله سيؤدى عنك أمانتك ويردها إلى أهلها» ففعل فسارت كل شاة حتى دخلت إلى أهلها «3» . ومنها: قصة كلام الذئب وشهادته له بالرسالة «4» . اعلم أنه قد جاء حديث قصة كلام الذئب فى عدة طرق من حديث أبى هريرة وأنس وابن عمر وأبى سعيد الخدرى. فأما حديث أبى سعيد، فرواه الإمام أحمد بإسناد جيد ولفظه: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعى فانتزعها منه فأقعى الذئب على ذنبه وقال: ألا تتقى الله؟ تنزع منى رزقا ساقه الله إلى، فقال الراعى: يا عجبا، ذئب مقع على ذنبه يكلمنى بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك:

_ (1) أخرجه أبو داود (2549) فى الجهاد، باب: ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، وأحمد فى «المسند» (1/ 204 و 205) ، وطرفه الأول عند مسلم (342) فى الحيض. (2) ذكره ابن كثير فى «البداية والنهاية» له (6/ 150) . (3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (2/ 148) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 143) . (4) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 39 و 41) .

محمد بيثرب يخبر الناس بأنباء ما سبق قال: فأقبل الراعى يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زواياها، ثم أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنودى بالصلاة جامعة، ثم خرج فقال للأعرابى: «أخبرهم» «1» فأخبرهم. وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو سعد المالينى والبيهقى. وأما حديث أنس فأخرجه أبو نعيم فى الدلائل. وأما حديث أبى هريرة، فرواه سعيد بن منصور فى سننه قال: جاء الذئب فأقعى بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعل يبصبص بذنبه فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا وافد الذئاب جاء يسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئا» قالوا: والله لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرا رماه به، فأدبر الذئب وله عواء، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الذئب وما الذئب» «2» . وروى البغوى فى شرح السنة وأحمد وأبو نعيم بسند صحيح عن أبى هريرة أيضا قال: جاء ذئب إلى راعى غنم فأخذ منه شاة، فطلبه الراعى حتى انتزعها منه، قال فصعد الذئب على تل فأقعى واستثفر وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله أخذته ثم انتزعته منى فقال الرجل: تالله إن رأيت كاليوم ذئب يتكلم، فقال الذئب: أعجب من هذا رجل فى النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم، ولا تتبعونه، قال: وكان الرجل يهوديّا فجاء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره وأسلم فصدقه النبى ثم قال: «إنها أمارات بين يدى الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما

_ (1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 83 و 88) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6494) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 514) ، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو كما قال. (2) حديث أبى هريرة أصله عند البخارى (3663) فى المناقب، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2388) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، وهو بلفظه عند البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 40) .

أحدث أهله بعده» «1» . واستثفر: - بالسين والمثناة ثم المثلاثة والفاء آخره راء- كاستفعل، أى جعل ذنبه بين رجليه كما يفعل الكلب. قال القاضى عياض: وفى بعض الطرق عن أبى هريرة: فقال الذئب أنت أعجب منى واقفا على غنمك وتركت نبيّا لم يبعث الله قط أعظم منه عنده قدرا، وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم وما بينك وبينه إلا هذا الشعب، فتصير من جنود الله. قال الراعى: من لى بغنمى؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى، وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبى- صلى الله عليه وسلم- يقاتل، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «عد إلى غنمك تجدها بوفرها» فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها. وقد روى ابن وهب مثل هذا أنه جرى لأبى سفيان بن حرب وصفوان ابن أمية مع ذئب وجداه أخذ ظبيا، فدخل الظبى الحرم فانصرف الذئب، فعجبا من ذلك فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار، فقال أبو سفيان: واللات والعزى، لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنها خلوفا- بضم الخاء المعجمة- أى فاسدة متغيرة، بمعنى: يقع الفساد والتغير فى أهلها. ومن ذلك حديث الحمار: أخرج ابن عساكر عن أبى منظور قال: لما فتح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خيبر أصاب حمارا أسود، فكلم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الحمار، فكلمه الحمار، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما اسمك» قال: يزيد ابن شهاب، أخرج الله من نسل جدى ستين حمارا كلهم لا يركبه إلا نبى، وقد كنت أتوقعك أن تركبنى، لم يبق من نسل جدى غيرى ولا من الأنبياء غيرك وقد كنت قبلك لرجل يهودى وكنت أتعثر به عمدا، وكان يجيع بطنى ويضرب ظهرى، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «فأنت يعفور» فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبعثه إلى باب الرجل فيأتى الباب فيقرعه برأسه فإذا خرج إليه

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 41- 43) ، ولكنه فيه من حديث أبى سعيد.

صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء إلى بئر كانت لأبى الهيثم بن التهيان فتردى فيها جزعا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . ورواه أبو نعيم بنحوه من حديث معاذ بن جبل، لكن الحديث مطعون فيه. وذكره ابن الجوزى فى الموضوعات. وفى معجزاته- صلى الله عليه وسلم- ما هو أعظم من كلام الحمار وغيره. ومن ذلك: من حديث الضب، وهو مشهور على الألسنة، ورواه البيهقى «2» فى أحاديث كثيرة، لكنه حديث غريب ضعيف. قال المزى: لا يصح إسنادا ولا متنا، وذكره القاضى عياض فى الشفاء، وقد روى من حديث عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فى محفل عن أصحابه، إذ جاء أعرابى من بنى سليم قد صاد ضبا جعله فى كمه ليذهب به إلى رحله فيشويه ويأكله، فلما رأى الجماعة قال من هذا؟ قالوا: نبى الله، فأخرج الضب من كمه وقال: واللات والعزى لا آمنت بك أو يؤمن هذا الضب. وطرحه بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا ضب» فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، قال: «من تعبد؟» قال: الذى فى السماء عرشه وفى الأرض سلطانه وفى البحر سبيله وفى الجنة رحمته وفى النار عقابه، قال: «فمن أنا؟» قال: رسول رب العالمين وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدقك وقد خاب من كذبك فأسلم الأعرابى الحديث بطوله، وهو مطعون فيه وقيل إنه موضوع. لكن معجزاته- صلى الله عليه وسلم- فيها ما هو أبلغ من هذا وليس فيه ما ينكر شرعا خصوصا وقد رواه الأئمة فنهايته الضعف لا الوضع، والله أعلم. ومن ذلك: حديث الغزالة. روى حديثها البيهقى من طرق، وضعفه جماعة من الأئمة، لكن طرقه يقوى بعضها بعضا. وذكره القاضى عياض فى الشفاء، ورواه أبو نعيم فى الدلائل بإسناد فيه مجاهيل، عن حبيب بن محصن عن أم سلمة- رضى الله عنها- قالت: بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى صحراء من

_ (1) ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» له (1/ 314) . (2) ذكره فى «دلائل النبوة» له (6/ 36) .

الأرض، إذا هاتف يهتف: يا رسول الله ثلاث مرات فالتفت فإذا ظبية مشدودة فى وثاق، وأعرابى منجدل فى شملة نائم فى الشمس، فقال: «ما حاجتك؟» قالت: صادنى هذا الأعرابى، ولى خشفان فى ذلك الجبل فأطلقنى حتى أذهب فأرضعهما وأرجع، قال: «وتفعلين؟» فقالت: عذبنى الله عذاب العشار إن لم أعد، فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها النبى- صلى الله عليه وسلم- فانتبه الأعرابى وقال: يا رسول الله ألك حاجة؟ قال: «تطلق هذه الظبية» فأطلقها فخرجت تعدو فى الصحراء فرحا وهى تضرب برجليها الأرض وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله «1» . وكذا رواه الطبرانى بنحوه، وساق الحافظ المنذرى حديثه فى الترغيب والترهيب من باب الزكاة: ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوى عن ابن كثير: أنه لا أصل له، وأن من نسبه إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ثم قال: شيخنا: لكن ورد فى الجملة فى عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض أوردها شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فى المجلس الحادى والستين من تخريج أحاديث المختصر والله أعلم. انتهى. وفى شرح مختصر ابن الحاجب للعلامة ابن السبكى، وتسبيح الحصى رواه الطبرانى وابن أبى عاصم من حديث أبى ذر، وتسليم الغزالة رواه أبو نعيم الأصبهانى والبيهقى فى دلائل النبوة، ونحن نقول فيهما: وإن لم يكونا متواترين فلعلهما استغنى عنهما بنقل غيرهما، أو لعلهما تواترا إذ ذاك، انتهى. ومن ذلك، داجن البيوت، وهو ما ألفها من الحيوان، كالطير والشاة وغيرهما، روى قاسم بن ثابت عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: كان عندنا داجن، فإذا كان عندنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قر وثبت مكانه، فلم يجئ ولم يذهب، وإذا خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء وذهب، وذكره القاضى عياض بسنده. وأما نبع الماء الطهور من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم-، وهو أشرف المياه، فقال

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 34) .

القرطبى: قصة نبع الماء من بين أصابعه قد تكررت منه- صلى الله عليه وسلم- فى عدة مواطن فى مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعى المستفاد من التواتر المعنوى، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا- صلى الله عليه وسلم-، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البر عن المزنى أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم- أبلغ فى المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم. انتهى. وقد روى حديث نبع الماء جماعة من الصحابة، منهم أنس وجابر وابن مسعود. فأما حديث أنس ففى الصحيحين قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بوضوء فوضع يده فى ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم وفى لفظ البخارى: كانوا ثمانين رجلا، وفى لفظ له: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم، قال: فقلنا لأنس كم كنتم قال: كنا ثلاثمائة «1» . قوله: «حتى توضؤوا من عند آخرهم» قال الكرمانى: حتى للتدريج، ومن للبيان، أى: توضأ الناس حتى توضأ الذين هم عند آخرهم، وهو كناية عن جميعهم، و «عند» بمعنى «فى» لأن «عند» وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضى أن تكون لمطلق الظرفية، فكأنه قال: الذين هم فى آخرهم. وقال التيمى: المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر، وقال النووى: «من» هنا بمعنى «إلى» وهى لغة، وتعقبه الكرمانى بأنها شاذة، قال: ثم إن «إلى» لا يجوز أن تدخل على «عند» ويلزم عليه وعلى ما قاله التيمى أن لا يدخل إلا خبر، لكن ما قاله الكرمانى من أن «إلى» لا تدخل على عند

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (169) فى الوضوء، باب: التماس الوضوء إذا حانت الصلاة، وأطرافه (195 و 200 و 3572 و 3573 و 3574 و 3575) ، ومسلم (2279) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-.

لا يلزم مثله فى «من» إذا وقعت بمعنى «إلى» وعلى توجيه النووى يمكن أن يقال عند زائدة. قاله فى فتح البارى. وروى هذا الحديث أيضا عن أنس، ابن شاهين، ولفظه: قال كنت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك، فقال المسلمون: يا رسول الله، عطشت دوابنا وإبلنا، فقال: «هل من فضلة ماء» فجاء رجل فى شن بشىء، فقال: «هاتوا صحيفة» فصب الماء ثم وضع راحته فى الماء، قال: فرأيتها تخلل عيونا بين أصابعه، قال: فسقينا إبلنا ودوابنا وتزودنا، فقال: «اكتفيتم؟» فقالوا: نعم اكتفينا يا نبى الله، فرفع يده فارتفع الماء «1» . وأخرج البيهقى عن أنس أيضا، قال: خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى قباء فأتى من بعض بيوتهم بقدح صغير، فأدخل يده فلم يسعه القدح، فأدخل أصابعه الأربعة ولم يستطع أن يدخل إبهامه، ثم قال للقوم: «هلموا إلى الشراب» قال أنس: بصر عينى ينبع الماء من بين أصابعه فلم يزل القوم يردون القدح حتى رووا منه جميعا «2» . وأما حديث جابر: ففى الصحيحين، قال: عطش الناس يوم الحديبية، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين يديه ركوة يتوضأ منها، وجهش الناس نحوه، فقال: «ما لكم؟» فقالوا يا رسول الله ما عندنا ماء نتوضأ به ولا نشربه إلا ما بين يديك، فوضع يده فى الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة «3» . وقوله: «يفور» ، أى يغلى ويظهر متدفقا. وفى رواية الوليد بن عبادة بن الصامت عنه فى حديث مسلم الطويل فى ذكر غزوة بواط، قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا جابر ناد: الوضوء» وذكر الحديث بطوله، وأنه لم يجد إلا قطرة فى عزلاء شجب فأتى به النبى

_ (1) أخرجه البخارى (3579) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، بنحوه. (2) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (4/ 123) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (3576) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام.

- صلى الله عليه وسلم- فغمزه وتكلم بشىء لا أدرى ما هو، وقال: «ناد بجفنة الركب» فأتيت بها فوضعتها بين يديه، وذكر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- بسط يده فى الجفنة وفرق أصابعه وصب عليه جابر، فقال: «بسم الله» ، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا، فقلت: هل بقى من أحد له حاجة؟ فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده من الجفنة وهى ملأى «1» . وروى حديث جابر أيضا الإمام أحمد فى مسنده بلفظ: اشتكى أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليه العطش، فدعا بعس فصب فيه شيئا من الماء، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه يده، وقال: «استقوا» فاستقى الناس، فكنت أرى العيون تنبع من بين أصابعه «2» . وفى لفظ من حديث له أيضا: فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفه فى الإناء ثم قال: «بسم الله» ثم قال: «أسبغوا الوضوء» قال جابر: فو الذى ابتلانى ببصرى، لقد رأيت العيون، عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم- فما رفعها حتى توضؤوا أجمعون «3» . ورواه أيضا عند البيهقى فى الدلائل قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سفر، فأصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «فوضع يده فى تور من ماء بين يديه، قال: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنه العيون قال: خذوا بسم الله» ، فشربنا، فوسعنا وكفانا، ولو كنا مائة ألف لكفانا، قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: ألفا وخمسمائة «4» . وأخرجه ابن شاهين من حديث جابر أيضا، وقال: أصابنا عطش بالحديبية فجهشنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، الحديث: وأخرجه أيضا- عن

_ (1) صحيح: والحديث عند مسلم (3013) في الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطويل، وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 343) . (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 292) ، والبيهقى فى «الدلائل» (4/ 117- 118) . (4) تقدم فيما قبله.

جابر- أحمد من طريق نبيح العنزى عنه، وفيه: فجاء رجل بإداوة فيها شىء من ماء ليس فى القوم ماء غيره، فصبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى قدح ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، قال: «فتزاحم الناس على القدح» فقال: «على رسلكم» ، فوضع كفه فى القدح ثم قال: «أسبغوا الوضوء» قال: فلقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه. وأما حديث ابن مسعود، ففى الصحيح من رواية علقمة: بينما نحن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اطلبوا من معه فضل ماء» ، فأتى بما فصبه فى إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . وظاهر هذا أن الماء ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائى، وهو فى نفس الأمر- للبركة الحاصلة فيه- يفور ويكثر، وكفه- صلى الله عليه وسلم- فى الإناء، فيراه الرائى نابعا من بين أصابعه. وظاهر كلام القرطبى: أنه نبع من نفس اللحم الكائن فى الأصابع، وبه صرح النووى فى شرح مسلم، ويؤيده قول جابر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه، وفى رواية: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، وهذا هو الصحيح، وكلاهما معجزة له- صلى الله عليه وسلم-. وإنما فعل ذلك ولم يخرجه من غير ملامسة ماء ولا وضع إناء تأدبا مع الله تعالى، إذ هو المنفرد بابتداع المعدومات وإيجادها من غير أصل. وروى ابن عباس قال: دعا النبى- صلى الله عليه وسلم- بلالا فطلب الماء، فقال: لا والله ما وجدت الماء، قال: «فهل من شن؟» فأتاه بشن فبسط كفه فيه فانبعث تحت يده عين، فكان ابن مسعود يشرب وغيره يتوضأ «2» ، رواه الدارمى وأبو نعيم، وكذا رواه الطبرانى وأبو نعيم من حديث أبى ليلى الأنصارى وأبو نعيم من طريق القاسم بن عبد الله بن أبى رافع عن أبيه عن جده.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3579) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام. (2) أخرجه الدارمى فى «سننه» (25) .

ومن ذلك تفجير الماء ببركته، وانبعاثه بمسه ودعوته. روى مسلم فى صحيحه عن معاذ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لهم: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتى» قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشىء من ماء «1» ، فسألهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هل مسستما من مائها شيئا؟» قالا: نعم، فسبهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع فى شىء، ثم غسل- صلى الله عليه وسلم- به وجهه ويديه ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «يا معاذ، يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملىء جنانا» «2» . أى بساتين وعمرانا، وهذا أيضا من معجزاته- صلى الله عليه وسلم-. ورواه القاضى عياض فى الشفاء بنحوه من طريق مالك فى الموطأ، وزاد فقال: قال فى حديث ابن إسحاق: فانخرق من الماء ما له حس كحس الصواعق. وفى البخارى، فى غزوة الحديبية، من حديث المسور بن مخرمة ومروان ابن الحكم: أنهم نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالرى حتى صدروا عنه «3» . والثمد: - بالمثلاثة والتحريك- الماء القليل. وقوله: «يتبرضه الناس تبرضا» - بالضاد المعجمة- أى يأخذونه قليلا قليلا، والبرض: الشىء القليل. وقوله: «فما زال يجيش» - بفتح المثناة التحتية، وبالجيم آخره شين- أى: يفور ماؤه ويرتفع. وفى رواية: أنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ فتمضمض ودعا ومج فى بئر الحديبية من فمه، فجاشت بالماء كذلك.

_ (1) يقصد: أن الماء قليل جدّا. (2) صحيح: أخرجه مسلم (706) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-. (3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2731 و 2732) فى الشروط، باب: الشروط فى الجهاد.

وفى مغازى أبى الأسود عن عروة: أنه توضأ فى الدلو، ومضمض فاه ثم مج فيه، وأمر أن يصب فى البئر، ونزع سهما من كنانته وألقاه فى البئر ودعا الله تعالى، ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتيها، فجمع بين الأمرين. وكذا رواه الواقدى من طريق أوس بن خولى. وهذه القصة غير القصة السابقة فى ذكر نبع الماء من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم- مما رواه البخارى فى المغازى من حديث جابر: عطش الناس بالحديبية وبين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركوة فوضع يده فى الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه. الحديث «1» . فبين القصتين مغايرة، وجمع ابن حبان بينهما: بأن ذلك وقع فى وقتين، انتهى. فحديث جابر فى نبع الماء كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء، وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك. ويحتمل أن يكون الماء لما تفجر من أصابعه ويده فى الركوة، وتوضؤوا كلهم وشربوا أمر حينئذ بصب الماء الذى بقى فى الركوة فى البئر فتكاثر الماء فيها. انتهى. وفى حديث البراء وسلمة بن الأكوع مما رواه البخارى فى قصة الحديبية وهم أربع عشرة مائة، وبئرها لا تروى خمسين شاة، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فقعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جباها، قال البراء: وأتى بدلو منها فبصق ودعا، وقال سلمة: فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت فأرووا أنفسهم وركابهم، وقال فى رواية البراء: ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها ثم قال: «دعوها ساعة» «2» . قوله: «على جباها» - بفتح الجيم والموحدة والقصر- ما حول البئر، وبالكسر: ما جمعت فيها من الماء. وقوله: «وركابهم» أى الإبل التى يسار عليها. وفى الصحيحين عن عمران بن الحصين قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سفر، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانا- كان يسميه أبو

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4152) فى المغازى، باب: غزوة الحديبية. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4151) فيما سبق.

رجاء ونسبه عوف- ودعا عليّا، وقال: «اذهبا فابتغيا الماء» فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء فجاآ بها إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبى- صلى الله عليه وسلم- بإناء ففرّغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواههما، وأطلق العزالى، ونودى فى الناس: «اسقوا واستقوا» فسقى من سقى، واستقى من شاء، وهى قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اجمعوا لها» فجمعوا لها من بين عجوة ورقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعاما، فجعلوه فى ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها قال لها: «تعلمين ما رزأنا من مائك شيئا ولكن الله هو الذى سقانا» فأتت أهلها فقالت: العجب، لقينى رجلان فذهبا بى إلى الرجل الذى يقال له الصابئ ففعل كذا وكذا، فو الله إنه لأسحر الناس كلهم أو إنه لرسول الله حقّا، فقالت لقومها: ما أرى أن هؤلاء يدعونكم عمدا فهل لكم فى الإسلام «1» . الحديث. وعن أبى قتادة قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء غدا إن شاء الله» فانطلق الناس لا يلوى أحد على أحد، فبينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسير حتى ابهارّ الليل- أى ابيض- فمال عن الطريق فوضع رأسه ثم قال: «احافظوا علينا صلاتنا» فكان أول من استيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والشمس فى ظهره، ثم قال: «اركبوا» ، فركبنا فسرنا، حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معى فيها شىء من ماء، فتوضأ منها وضوآ، قال: «وبقى شىء من ماء» ، ثم قال: «احفظ علينا ميضأتك» فسيكون لها نبأ، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين ثم صلى الغداة، وركب وركبنا معه، فانتهينا إلى الناس حين اشتد النهار وحمى كل شىء، وهم يقولون: يا رسول الله هلكنا وعطشنا، فقال: «لا هلك عليكم» ودعا بالميضأة فجعل يصب وأبو قتادة يسقيهم فلم

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (344) فى التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، ومسلم (682) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة.

يعد أن رأى الناس ماء فى الميضأة فتكابوا عليها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أحسنوا الملأ «1» كلكم سيروى» ، قال: ففعلوا، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصب وأسقيهم، حتى ما بقى غيرى وغير رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم صب فقال لى: «اشرب» فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله، فقال: «إن ساقى القوم آخرهم» قال: فشربت وشرب «2» ، الحديث رواه مسلم. وعن أنس قال: أصاب الناس سنة «3» على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فبينما النبى- صلى الله عليه وسلم- يخطب فى يوم الجمعة، قام أعرابى فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى فى السماء قزعة «4» ، «فو الذى نفسى بيده» ما وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد، حتى الجمعة الآخرى، وقام ذلك الأعرابى أو غيره وقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» ، فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادى قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود. وفى رواية قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» فأقلعت وخرجنا نمشى فى الشمس «5» . رواه البخارى ومسلم. و «الجوبة» - بفتح الجيم والموحدة بينهما واو ساكنة- الحفرة المستديرة الواسعة، وكل منفتق بلا بناء جوبة، أى حتى صار الغيم والسحاب محيطا بافاق المدينة. و «الجود» : - بفتح الجيم وإسكان الواو- المطر الواسع الغزير. وعن عبد الله بن عباس، أنه قيل لعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- حدثنا عن

_ (1) أى: الملء لأوانيكم. (2) صحيح: أخرجه مسلم (681) في المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة. (3) السنة: القحط والجدب. (4) القزعة: القطعة من السحاب. (5) صحيح: أخرجه البخارى (1013) فى الاستسقاء، باب: الاستسقاء فى المسجد الجامع.

ساعة العسرة فقال عمر: خرجنا إلى تبوك فى قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقى على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك فى الدعاء خيرا، فادع الله لنا، قال: «أتحبون ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت، فملؤوا ما معهم من آنية، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها تجاوز العسكر «1» ، قال الحافظ المنذرى: أخرجه البيهقى فى الدلائل، وشيخه ابن بشران ثقة، ودعلج ثقة، وابن خزيمة أحد الأئمة، ويونس احتج به مسلم فى صحيحه وابن وهب وعمرو بن الحارث ونافع بن جبير احتج بهم البخارى ومسلم، وعتبة فيه مقال. وقد رواه القاضى عياض فى الشفاء مختصرا وروى ابن إسحاق فى مغازيه نحوه. وروى صاحب «مصباح الظلام» عن عمرو بن شعيب: أن أبا طالب قال: كنت مع ابن أخى- يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- بذى المجاز، فأدركنى العطش، فشكوت إليه فقلت: يا ابن أخى عطشت، وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئا إلا الجزع، فثنى وركه ثم نزل وقال: «يا عم، أعطشت؟» فقلت: نعم، فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال: «اشرب يا عم فشربت» وكذا رواه ابن سعد وابن عساكر. ومن ذلك: تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه- صلى الله عليه وسلم-. عن جابر، فى غزوة الخندق قال: فانكفأت إلى امرأتى، فقلت هل عندك شىء، فإنى رأيت بالنبى- صلى الله عليه وسلم- خمصا «2» شديدا، فأخرجت جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن «3» فذبحتها وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم فى البرمة ثم

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (5/ 231) . (2) الخمص: الجوع. (3) الداجن: الشاة التى يعلفها الناس فى منازلهم فيقال: شاة داجن.

جئت النبى- صلى الله عليه وسلم- فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعا من شعير. فتعال أنت ونفر معك. فصاح النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا أهل الخندق، إن جابرا صنع سورا، فحى هلا بكم» فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجىء برجال» فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال: «ادع خابزة فلتخبز معك، واقدحى من برمتكم ولا تنزلوها» وهم ألف. فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هى، وإن عجيننا ليخبز كما هو «1» ، رواه البخارى ومسلم. وقوله: «فانكفأت» أى: انقلبت. وقوله: «داجن» يعنى سمينة. وقوله: «فذبحتها» بسكون الحاء، و «طحنت» بسكون التاء، يعنى إن الذى ذبح هو جابر، والتى طحنت هى امرأته سهيلة بنت معوذ الأنصارية. وقوله: «سورا» بضم المهملة وسكون الواو بغير همز. قال ابن الأثير: أى طعاما يدعو إليه الناس. قال: اللفظة فارسية. وقوله: «فحى هلا بكم» كلمة استدعاء فيه حث، أى هلموا مسرعين. وقوله: «واقدحى» أى: اغرفى. وقوله: «إن برمتنا لتغط» بالغين المعجمة والطاء المهملة، أى: تغلى ويسمع غطيطها. وعن أنس قال: قال أبو طلحة لأم سليم، لقد سمعت صوت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضعيفا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شىء، فقالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا، فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدى ولاثتنى ببعضه- أى أدارت بعض الخمار على رأسى مرتين كالعمائم- ثم أرسلتنى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فذهبت به فوجدت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد ومعه الناس، فسلمت عليه، فقال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أرسلك أبو طلحة؟» فقلت: نعم، قال: «لطعام؟» قلت: نعم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمن معه: «قوموا» فانطلق وانطلقت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4102) فى المغازى، باب: غزوة الخندق، ومسلم (2039) فى الأشربة، باب: جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك.

رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو طلحة معه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هلمى يا أم سليم ما عندك» فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ففت، وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: «ائذن لعشرة» فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة» ثم لعشرة، فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا «1» . رواه البخارى ومسلم. والمراد بالمسجد- هنا- الموضع الذى أعده النبى- صلى الله عليه وسلم- للصلاة فيه حين محاصرة الأحزاب للمدينة فى غزوة الخندق. وفى رواية لمسلم: أنه قال: «ائذن لعشرة» فدخلوا فقال: «كلوا وسموا الله» ، فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلا، ثم أكل النبى- صلى الله عليه وسلم- وأهل البيت وترك سؤرا. أى بقية وهو بالهمز. وفى رواية للبخارى: قال: «أدخل على عشرة» ، حتى عد أربعين، ثم أكل النبى- صلى الله عليه وسلم-، فجعلت أنظر هل نقص منها شىء؟. وفى رواية يعقوب: أدخل على ثمانية ثمانية، فما زال حتى دخل عليها ثمانون، ثم دعانى ودعا أمى وأبا طلحة فأكلنا حتى شبعنا. انتهى. وهذا يدل على تعدد القصة، فإن أكثر الروايات فيها أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه، قاله الحافظ ابن حجر، قال: وظاهره أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل لمنزل أبى طلحة وحده، وصرح بذلك فى رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى ولفظه: فلما انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الباب قال لهم: «اقعدوا» ودخل. وفى رواية يعقوب عن أنس: فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى، وفى رواية عمرو بن عبد الله عن أنس: فقال أبو طلحة: إنما هو قرص، فقال: «إن الله سيبارك فيه» «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3578) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2040) فى الأشربة، باب: جواز استتباعه غيره إلى من يثق برضاه بذلك. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5450) فى الأطعمة، باب: من أدخل الضيفان عشرة عشرة.

قال العلماء: وإنما أدخلهم عشرة عشرة- والله أعلم- لأنها كانت قصعة واحدة، لا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا على التناول منها مع قلة الطعام، فجعلهم عشرة عشرة لينالوا من الأكل ولا يزدحموا. وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أرسلك أبو طلحة؟» قلت: نعم، قال: «لطعام؟» قلت: نعم، فقال لمن معه: «قوموا» فظاهره: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله، فلذلك قال لمن عنده قوموا، وأول الكلام يقتضى أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس؟!. فيجمع: بأنهما أرادا الخبز مع أنس «1» أن يأخذه النبى- صلى الله عليه وسلم- فيأكله، فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حول النبى- صلى الله عليه وسلم- استحيى، وظهر له أن يدعو النبى- صلى الله عليه وسلم- ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من إطعامه. ويحتمل أن يكون ذلك عن رأى من أرسله، عهد إليه أنه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعى النبى- صلى الله عليه وسلم- وحده، خشية أن لا يكفى ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- هو ومن معه، وقد عرفوا إيثاره- صلى الله عليه وسلم-، وأنه لا يأكل وحده. ووقع فى رواية يعقوب بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس- عند أبى نعيم وأصله عند مسلم- فقال لى أبو طلحة: يا أنس اذهب فقم قريبا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فإذا قام فدعه حتى يتفرق عنه أصحابه، ثم اتبعه حتى إذا قام على عتبة بابه فقل له: إن أبى يدعوك، وفيه: فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى، فقال: «ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك» . وفى رواية مبارك بن فضالة: فقال: هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان فى العكة شىء فجاء بها، فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- القرص فانتفخ، وقال: «بسم الله» فلم يزل يصنع ذلك والقرص

_ (1) زيادة من فتح البارى (6/ 730) .

ينتفخ حتى رأيت القرص فى الجفنة يتسع «1» . وفى رواية النضر بن أنس: فجئت بها ففتح رباطها ثم قال: «بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة» «2» وعرف بهذا المراد بقوله فى رواية الصحيحين: «فقال فيها ما شاء الله أن يقول» . وفى رواية أنس عند أحمد: أن أبا طلحة رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طاويا. وعند أبى يعلى من طريق محمد بن سيرين عن أنس: أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طعام فاجر نفسه بصاع من شعير فعمل بقية يومه ذلك ثم جاء به الحديث. وفى رواية عمرو بن عبد الله بن أبى طلحة عند مسلم وأبى يعلى قال: رأى أبو طلحة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مضطجعا ينقلب ظهرا لبطن. وفى رواية يعقوب بن عبد الله بن أبى طلحة عند مسلم أيضا عن أنس قال: جئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقال من الجوع، فذهبت إلى أبى طلحة فأخبرته، فدخل على أم سليم فقال: هل من شىء؟. وفى رواية محمد بن كعب عن أنس عند أبى نعيم قال: جاء أبو طلحة إلى أم سليم فقال: «أعندك شىء؟ فإنى مررت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرا» . وعن أبى هريرة قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: يا رسول الله ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، فقال: «نعم» فدعا بنطع فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجىء بكف ذرة، ويجىء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شىء يسير، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالبركة ثم قال: «خذوا فى أوعيتكم» فأخذوا فى أوعيتهم، حتى ما تركوا فى العسكر وعاء إلا ملئوه. قال: فأكلوا حتى شبعوا

_ (1) حسن: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (5285) وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن. (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 342) .

وفضلت فضلة فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجز عن الجنة» «1» رواه مسلم. وعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عروسا بزينب، فعمدت أمى أم سليم إلى تمر وسمن وأقط فصنعت حيسا، فجعلته فى تور، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقل: بعثت بهذا إليك أمى، وهى تقرئك السلام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ضعه» ثم قال: «اذهب فادع لى فلانا وفلانا» رجالا سماهم، «وادع لى من لقيت» فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت فإذا البيت غاص بأهله، قيل لأنس: عددكم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: «اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه» قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة بعد طائفة حتى أكلوا كلهم، قال لى: «يا أنس ارفع فرفعت، فما أدرى حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت» «2» رواه البخارى ومسلم. وعن جابر أن أم مالك كانت تهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم- فى عكة لها سمنا، فيأتيها فيسألونها الأدم، وليس عندهم شىء، فتعمد إلى الذى كانت تهدى فيها للنبى- صلى الله عليه وسلم- فتجد فيه سمنا، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته، فأتت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أعصرتيها؟» قالت: نعم، قال: «لو تركتيها ما زال قائما» «3» رواه مسلم. وعنه أن رجلا أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- يستطعمه، فأطعمه شطر وسق من شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فقال: «لو لم تكله لأكلتم منه ولقام بكم» «4» . رواه مسلم أيضا.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (27) فى الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5163) فى النكاح، باب: الهدية للعروس تعليقا، ووصله مسلم (1428) فى النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2280) فى الفضائل، باب: فى معجزات النبى- صلى الله عليه وسلم-. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2281) فيما سبق.

حديث القصعة

والحكمة فى ذهاب بركة السمن حين عصرت العكة، وإعدام بركة الشعير حين كاله، أن عصرها وكيله مضاد للتسليم على رزق الله تعالى، يتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة، وتكلف الإحاطة بأسرار حكم الله تعالى وفضله، فعوقب فاعله بزواله، قاله النووى. حديث القصعة : وعن أبى العلاء سمرة بن جندب قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- نتداول من قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة ويقعد عشرة، قلنا: فما كانت تمد؟ قال: «من أى شىء تعجب، ما كانت تمد إلا من هاهنا» وأشار بيده إلى السماء «1» ، رواه الترمذى والدارمى. وعنه: أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- بقصعة فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل، يقوم قوم ويقعد آخرون، فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ قال: ما كانت تمد إلا من هاهنا، وأشار بيده إلى السماء «2» . رواه الدارمى وابن أبى شيبة والترمذى والبيهقى والحاكم وصححوه وأبو نعيم. وفى حديث عبد الرحمن بن أبى بكر: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- ثلاثين ومائة، وذكر الحديث أنه عجن صاع، وصنعت شاة فشوى سواد بطنها، قال: وايم الله، ما من الثلاثين ومائة إلا وقد حزّ له حزة من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فأكلنا أجمعون وفضل فى القصعتين فحملته على البعير «3» . رواه البخارى.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3625) فى المناقب، باب: فى آيات إثبات نبوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (5/ 18) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه الدارمى (56) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6529) ، والحاكم فى «مستدركه» (2/ 675) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (3) صحيح: أخرجه البخارى (2618) فى الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم (2056) فى الأشربة، باب: إكرام الضيف وفضل إيثاره.

وعن أبى هريرة قال: أمرنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أدعو أهل الصفة، فتتبعتهم حتى جمعتهم، فوضعت بين أيدينا صحفة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهى مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع «1» . رواه ابن أبى شيبة والطبرانى وأبو نعيم. وعن على بن أبى طالب: جمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بنى عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قوم يأكلون الجذعة ويشربون الفرق، فصنع لهم مدا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، وبقى كما هو، ثم دعا بعس فشربوا حتى رووا، وبقى كأنه لم يشرب منه، رواه فى الشفاء. ومن ذلك: إبراء ذوى العاهات، وإحياء الموتى، وكلامهم، وكلام الصبيان وشهادتهم له- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة. روى البيهقى فى الدلائل: أنه- صلى الله عليه وسلم- دعا رجلا إلى الإسلام، فقال: لا أؤمن بك حتى تحيى لى ابنتى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أرنى قبرها» فأراه إياه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «يا فلانة» ، فقالت: لبيك وسعديك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أتحبين أن ترجعى إلى الدنيا؟» فقالت: لا والله يا رسول الله، إنى وجدت الله خيرا لى من أبوى، ورأيت الآخرة خيرا لى من الدنيا. وروى الطبرى عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نزل الحجون كئيبا حزينا، فأقام به ما شاء الله عز وجل ثم رجع مسرورا قال: «سألت ربى عز وجل فأحيا لى أمى فامنت بى ثم ردها» . وكذا روى من حديث عائشة أيضا إحياء أبويه- صلى الله عليه وسلم- حتى آمنا به، أورده السهيلى وكذا الخطيب فى السابق واللاحق، لكن قال السهيلى: إن فى إسناده مجاهيل، وقال ابن كثير: إنه منكر جدّا، وتقدم البحث فى ذلك فى أوائل المقصد الأول.

_ (1) رجاله ثقات: أخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (6/ 315) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 315) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 308) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، ورجاله ثقات.

وعن أنس أن شابا من الأنصار توفى وله أم عجوز عمياء، فسجيناه وعزيناها، فقالت: مات ابنى؟ قلنا: نعم، قالت: اللهم إن كنت تعلم أنى هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعيننى على كل شدة فلا تحملن على هذه المصيبة، فما برحنا أن كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا «1» . رواه ابن عدى وابن أبى الدنيا والبيهقى وأبو نعيم. وعن النعمان بن بشير قال: كان زيد بن خارجة من سروات الأنصار، فبينما هو يمشى فى طريق من طرق المدينة بين الظهر والعصر إذ خرّ فتوفى، فأعلمت به الأنصار، فأتوه فاحتملوه إلى بيته فسجوه كساء وبردين، وفى البيت نساء من نساء الأنصار يبكين عليه، ورجال من رجالهم، فمكث على حاله حتى إذا كان بين المغرب والعشاء الآخرة سمعوا صوت قائل يقول: انصتوا انصتوا، فنظروا فإذا الصوت من تحت الثياب، فحسروا عن وجهه وصدره، فإذا القائل يقول على لسانه: محمد رسول الله النبى الأمى خاتم النبيين، لا نبى بعده، كان ذلك فى الكتاب الأول، ثم قال: صدق صدق، ثم قال: هذا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب من عاش بعد الموت. وعن سعيد بن المسيب أن رجلا من الأنصار توفى، فلما كفن أتاه القوم يحملونه تكلم فقال: محمد رسول الله، أخرجه أبو بكر بن الضحاك. وأخرج أبو نعيم: أن جابرا ذبح شاة وطبخها، وثرد فى الجفنة، وأتى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكل القوم، وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: «كلوا ولا تكسروا عظاما» ثم إنه- صلى الله عليه وسلم- جمع العظام ووضع يده عليها ثم تكلم بكلام فإذا بالشاة قد قامت تنفض أذنيها، كذا رواه والله أعلم؟!. وعن معرض بن معيقيب اليمانى قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دارا بمكة، فرأيت فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ورأيت منه عجبا، جاء رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا غلام، من أنا»

_ (1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «الدلائل» (6/ 50) .

قال: أنت رسول الله، قال: «صدقت بارك الله فيك» ، ثم إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شب، فكنا نسميه مبارك اليمامة «1» . رواه البيهقى من حديث معرض- بالضاد المعجمة-. وعن فهد بن عطية، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أتى بصبى قد شب لم يتكلم قط فقال: «من أنا؟» قال: أنت رسول الله، رواه البيهقى. وعن ابن عباس قال: إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن ابنى به جنون، وإنه ليأخذه عند غدائنا وعشائنا، فمسح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صدره فثع ثعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى «2» . رواه الدارمى. وقوله «ثع» يعنى قاء. وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن لى امرأة أحبها أخشى إن رأتنى تقذرنى فأخذها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيده وردها إلى موضعها وقال: «بسم الله اللهم اكسه جمالا» فكانت أحسن عينيه وأحدّهما نظرا، وكانت لا ترمد إذا رمدت الآخرى «3» . وقد وفد على عمر بن عبد العزيز رجل من ذريته فسأله عمر: من أنت؟ فقال: أبونا الذى سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أيما رد فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد فوصله عمر وأحسن جائزته. قال السهيلى: ورواه محمد بن أبى عثمان عن عمار بن نصر عن مالك بن أنس عن محمد بن عبد الله بن أبى صعصعة

_ (1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 59) بسند فيه وضاع. (2) أخرجه الدارمى فى «سننه» (19) ، وأحمد فى «المسند» (1/ 254 و 268) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 57) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 20) وقال: رواه أحمد والطبرانى، وفيه فرقد السبخى، وثقه ابن معين، والعجلى، وضعفه غيرهما. (3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (3/ 252) .

عن أبيه عن أبى سعيد عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناى يوم أحد فسقطتا على وجنتى، فأتيت بهما النبى- صلى الله عليه وسلم- فأعادهما مكانهما وبصق فيهما فعادتا تبرقان، قال الدار قطنى: هذا حديث غريب تفرد به عمار بن نصر وهو ثقة، ورواه الدار قطنى عن إبراهيم الحربى عن عمار بن نصر. وأخرج الطبرانى وأبو نعيم عن قتادة قال: كنت يوم أحد أتقى السهام بوجهى دون وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتى فأخذتها بيدى وسعيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما رآها فى كفى دمعت عيناه فقال: «اللهم ق قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظرا» «1» . وفى البخارى فى غزوة خيبر أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أين على بن أبى طالب» فقالوا: هو يا رسول الله يشتكى عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» فأتى به، فبصق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع «2» . وعند الطبرانى من حديث على قال: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الراية يوم خيبر «3» . وفى رواية مسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: فأرسلنى النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى على فجئت به أقوده أرمد، فبصق فى عينيه فبرأ «4» . وعند الحاكم من حديث على قال: فوضع- صلى الله عليه وسلم- رأسى فى حجره ثم بصق فى راحته فدلك بها عينى «5» . وعند الطبرانى: فما اشتكيتهما حتى الساعة، ودعا لى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم أذهب عنه الحر والقر» ، قال: فما اشتكيتهما حتى يومى هذا «6» .

_ (1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (19/ 8) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (4210) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، ومسلم (2406) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-. (3) صحيح: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 123) وقال: رواه أبو يعلى وأحمد باختصار، ورجالهما رجال الصحيح غير أم موسى، وحديثها مستقيم. (4) صحيح: أخرجه مسلم (1807) فى الجهاد والسير، باب: غزوة ذى قرد وغيرها. (5) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 41) . (6) حسن: أخرجه ابن ماجه (117) فى المقدمة، باب: فضل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

وأصيب سلمة يوم خيبر أيضا بضربة فى ساقه، فنفث فيها- صلى الله عليه وسلم- ثلاث نفثات فما اشتكاها قط «1» . رواه البخارى. ونفث فى عينى فديك وكانتا مبيضتين لا يبصر بهما شيئا، وكان وقع على بيض حية، فكان يدخل الخيط فى الإبرة وإنه لابن ثمانين سنة وإن عينيه لمبيضتان «2» ، رواه ابن أبى شيبة والبغوى والبيهقى والطبرانى وأبو نعيم.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4206) فى المغازى، باب: غزوة خيبر. (2) أخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (6/ 328) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 296) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط والبزار، وفى أحد أسانيده على بن عروة وهو ضعيف متروك، وفى الآخر النضر أبو عمر، وحديثه حسن.

الفصل الثانى فيما خصه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البينات

الفصل الثانى فيما خصّه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البيّنات اعلم نور الله قلبى وقلبك، وقدس سرى وسرك، أن الله تعالى قد خص نبينا- صلى الله عليه وسلم- بأشياء لم يعطها لنبى قبله، وما خص نبى بشىء إلا وكان لسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- مثله، فإنه أوتى جوامع الكلم، وكان نبيّا وآدم بين الروح والجسد، وغيره من الأنبياء لم يكن نبيّا إلا فى حال نبوته وزمان رسالته. ولما أعطى هذه المنزلة علمنا أنه- صلى الله عليه وسلم- الممد لكل إنسان كامل مبعوث ويرحم الله الأديب شرف الدين الأبوصيرى فلقد أحسن حيث قال: وكل آى أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم فإنه شمس فضل هم كواكبها ... يظهرن أنوارها للناس فى الظلم قال العلامة ابن مرزوق: يعنى أن كل معجزة أتى بها كل واحد من الرسل فإنما اتصلت بكل واحد منهم من نور محمد- صلى الله عليه وسلم- وما أحسن قوله: فإنما اتصلت من نوره بهم فإنه يعطى أن نوره- صلى الله عليه وسلم- لم يزل قائما به ولم ينقص منه شىء، ولو قال: فإنما هى من نوره لتوهم أنه وزع عليهم وقد لا يبقى له منه شىء. وإنما كانت آيات كل واحد من نوره- صلى الله عليه وسلم- لأنه شمس فضل هم كواكب تلك الشمس يظهرن- أى تلك الكواكب- أنوار تلك الشمس للناس فى الظلم. فالكواكب ليست مضيئة بالذات وإنما هى مستمدة من الشمس فهى عند غيبة الشمس تظهر نور الشمس. فكذلك الأنبياء قبل وجوده- صلى الله عليه وسلم- كانوا يظهرون فضله فجميع ما ظهر على أيدى الرسل- عليهم

الصلاة والسلام- سواه من الأنوار فإنما هو من نوره الفائض ومدده الواسع من غير أن ينقص منه شىء. وأول ما ظهر ذلك فى آدم- عليه السّلام-، حيث جعله الله خليفة وأمده بالأسماء كلها من مقام جوامع الكلم التى لمحمد- صلى الله عليه وسلم- فظهر بعلم الأسماء كلها على الملائكة القائلين: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «1» ، ثم توالت الخلائف فى الأرض إلى أن وصل زمان وجود صورة جسم نبينا- صلى الله عليه وسلم- الشريف لإظهار حكم منزلته، فلما برز كان كالشمس اندرج فى نوره كل نور، وانطوى تحت منشور آياته كل آية لغيره من الأنبياء، ودخلت الرسالات كلها فى صلب نبوته، والنبوات كلها تحت لواء رسالته، فلم يعط أحد منهم كرامة أو فضيلة إلا وقد أعطى- صلى الله عليه وسلم- مثلها. فادم- عليه الصلاة والسلام- أعطى أن الله تعالى خلقه بيده، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- شرح صدره، وتولى الله تعالى شرح صدره بنفسه، وخلق فيه الإيمان والحكمة، وهو الخلق النبوى، فتولى من آدم الخلق الوجودى ومن سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- الخلق النبوى، مع أن المقصود- كما مر- من خلق آدم خلق نبينا فى صلبه، فسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- المقصود وآدم الوسيلة، والمقصود سابق على الوسيلة «2» . وأما سجود الملائكة لآدم، فقال فخر الدين الرازي فى تفسيره: إن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد- صلى الله عليه وسلم- كان فى جبهته «3» ، ولله در القائل:

_ (1) سورة البقرة: 30. (2) قلت: الحديث الوارد فى ذلك، ضعيف جدّا، ولا حجة فيه، أما غاية الخلق، فهى كما ذكرها الله حيث قال: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات: 56] . (3) قلت: وهذا أيضا لا حجة فيه، ولم يذكر أئمة التفاسير المسندة هذه الروايات بأسانيد صحيحة أو ضعيفة، بل هى من شطحات الصوفية التى تغالى فى شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى قال عن نفسه «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» صحيح أخرجه مسلم.

تجليت جل الله فى وجه آدم ... فصلى له الأملاك حين توسلوا وعن أبى عثمان الواعظ، فيما حكاه الفاكهانى قال: سمعت الإمام سهل بن محمد يقول: هذا التشريف الذى شرف الله تعالى به محمدا بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «1» الآية، أتم وأجمع من تشريف آدم- عليه السّلام- بأمر الملائكة له بالسجود، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة فى ذلك التشريف، فتشريف يصدر عنه تعالى وعن الملائكة والمؤمنين أبلغ من تشريف تختص به الملائكة، انتهى. قال بعضهم: وأما تعليم آدم أسماء كل شىء، فأخرج الديلمى فى مسند الفردوس من حديث أبى رافع قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «مثلت لى أمتى فى الماء والطين، وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها» «2» فكما أن آدم علم أسماء العلوم كلها كذلك نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وزاد عليه- واصل الله صلاته وسلامه عليه- بعلم ذواتها. ولله در الأبوصيرى حيث قال: لك ذات العلوم من عالم الغي ... ب ومنها لآدم الأسماء ولا ريب أن المسميات أعلى رتبة من الأسماء، لأن الأسماء يؤتى بها لتبين المسميات، فهى المقصودة بالذات، وإليه الإيماء بقوله: «ذات العلوم» ، والأسماء مقصودة لغيرها فهى دونها، ففضل العالم بحسب فضل معلومه. * وأما إدريس- عليه السّلام-، فرفعه الله مكانا عليّا، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- المعراج، ورفع إلى مكان لم يرفع إليه غيره. * وأما نوح- عليه السّلام- فنجاه الله تعالى ومن آمن معه من الغرق ونجاه من الخسف، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه لم تهلك أمته بعذاب من السماء، قال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «3» . وأما قول الفخر الرازى فى تفسيره: «أكرم الله نوحا بأن أمسك سفينته

_ (1) سورة الأحزاب: 56. (2) ضعيف: أخرجه الديلمى، كما فى «كنز العمال» (34588) . (3) سورة الأنفال: 33.

على الماء وفعل بمحمد- صلى الله عليه وسلم- أعظم منه. روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان على شط ماء وقعد عكرمة بن أبى جهل فقال: إن كنت صادقا فادع ذلك الحجر الذى فى الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار إليه- صلى الله عليه وسلم- فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وشهد له بالرسالة، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يكفيك هذا؟» فقال: حتى يرجع إلى مكانه» فلم أره لغيره والله أعلم بحاله. * وأما إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- فكانت عليه نار نمروذ بردا وسلاما، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- نظير ذلك، إطفاء نار الحرب عنه- صلى الله عليه وسلم- وناهيك بنار حطبها السيوف ووهجها الحتوف وموقدها الحسد ومطلبها الروح والجسد، قال الله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «1» . فكم أرادوا أن يطفئوا النور بالنار، وأبى الجبار إلا أن يتم نوره وأن يخمد شرورهم ويحمد لمحمد- صلى الله عليه وسلم- سروره وظهوره. ويذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- مر ليلة المعراج على بحر النار الذى دون سماء الدنيا مع سلامته منه، كما روى مما رأيته فى بعض الكتب. وروى النسائى أن محمد بن حاطب قال: كنت طفلا فانصب القدر على واحترق جلدى كله، فحملنى أبى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتفل- صلى الله عليه وسلم- فى جلدى ومسح بيده على المحترق وقال: «أذهب البأس رب الناس» ، فصرت صحيحا لا بأس بى «2» . وأما ما أعطيه إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- من مقام الخلة فقد أعطيه نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وزاد بمقام المحبة. وقد روى فى حديث الشفاعة أن الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- إذا قيل له: اتخذك الله خليلا فاشفع لنا قال: «إنما كنت خليلا من وراء وراء» اذهبوا إلى غيرى إلى أن تنتهى الشفاعة إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فيقول: «أنا لها، أنا لها» «3» وهذا يدل على أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- كان

_ (1) سورة المائدة: 64. (2) لم أقف عليه. (3) صحيح: أخرجه مسلم (195) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.

خليلا مع رفع الحجاب وكشف الغطاء ولو كان خليلا من وراء وراء لاعتذر كما اعتذر إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-. وفيه تنبيه ظاهر على أنه- صلى الله عليه وسلم- فاز برؤية الحق سبحانه وكشف له الغطاء حتى رأى الحق بعينى رأسه «1» ، كما سيأتى البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى المقصد الخامس. والملخص من هذا: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نال درجة الخلة التى اشتهرت لإبراهيم- عليه الصلاة والسلام- على وجه نطق إبراهيم بأن نصيب سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- منه الأعلى، بمفهوم قوله عن نفسه: «إنما كنت خليلا من وراء وراء» فلم يشفع، ففيه دليل على أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء بل مع الكشف والعيان وقرب المكانة من حظيرة القدس، لا المكان، وذلك مقام محمد- صلى الله عليه وسلم- بالدليل والبرهان. ومما أعطيه إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- انفراده فى أهل الأرض بعبادة الله تعالى وتوحيده، والانتصاب للأصنام بالكسر والقسر، أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- كسرها بأسرها بمحضر من أولى نصرها بقضيب ليس مما يكسر إلا بقوة ربانية ومادة إلهية، اجتزأ فيها بالأنفاس عن الفاس، وما عول على المعول، ولا عرض فى القول ولا تمرض من الصول بل قال جهرا بغير سر: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «2» . ومما أعطيه الخليل- عليه الصلاة والسلام- بناء البيت الحرام، ولا خفاء أن البيت جسد وروحه الحجر الأسود بل هو سويداء القلب، بل جاء «أنه يمين الرب» «3» كناية عن استلامه كما تستلم الأيمان عند عقد العهود والأيمان، وقد أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أن قريشا لما بنت البيت بعد تهدمه ولم يبق إلا وضع الحجر تنافسوا على الفخر الفخم والمجد الضخم، ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل، فاتفق دخول سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذا الأمين،

_ (1) قلت: جمهور السلف على استحالة رؤية الله عز وجل فى الحياة الدنيا، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يره فى الحياة الدنيا، وإن كان سيراه هو والمؤمنون فى الآخرة- إن شاء الله-. (2) سورة الإسراء: 81. (3) ضعيف: أخرجه الخطيب، وابن عساكر، كما فى: «ضعيف الجامع» (2772) .

فحكموه فى ذلك فأمر ببسط ثوب ووضع الحجر فيه ثم قال: «يرفع كل بطن بطرف» فرفعوه جميعا، ثم أخذه سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- فوضعه فى موضعه «1» ، فادخر الله تعالى له ذلك المقام ليكون منقبة له على مدى الأيام. * وأما ما أعطيه موسى- عليه الصلاة والسلام- من قلب العصا حية غير ناطقة، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- حنين الجذع «2» ، وقد مرت قصته. وحكى الإمام الرازى- فى تفسيره- وغيره: أنه لما أراد أبو جهل أن يرميه- صلى الله عليه وسلم- بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوبا. وأما ما أعطيه موسى- عليه السّلام- أيضا من اليد البيضاء، وكان بياضها يغشى البصر، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يزل نورا ينتقل فى أصلاب الآباء وبطون الأمهات من لدن آدم إلى أن انتقل إلى عبد الله أبيه. وأعطى- صلى الله عليه وسلم- قتادة بن النعمان وقد صلى معه العشاء فى ليلة مظلمة مطيرة عرجونا وقال: «انطلق به فإنه سيضىء لك من بين يديك عشرا، ومن خلفك عشرا، فإذا دخلت بيتك فسترى سوادا فاضربه حتى يخرج فإنه شيطان» «3» فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ووجد السواد وضربه حتى خرج. رواه أبو نعيم. وأخرج البيهقى، وصححه الحاكم عن أنس قال: كان عباد بن بشر وأسيد بن حضير عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حاجة: حتى ذهب من الليل ساعة، وهى ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عصا، فأضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا فى ضوئها، حتى إذا افترقت بهم الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما فى ضوء عصاه حتى بلغ هديه «4» ، ورواه البخارى بنحوه فى الصحيح.

_ (1) القصة مشهورة، وقد ذكرت فى «كتب السير» ، انظر سيرة ابن هشام (1/ 208) . (2) تقدم. (3) تقدم. (4) صحيح: أخرجه البخارى (465) فى الصلاة، باب: إدخال البعير فى المسجد لعلة، وأطرافه (3639 و 3805) .

وأخرج البخارى فى تاريخه والبيهقى وأبو نعيم عن حمزة الأسلمى قال: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فتفرقنا فى ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعى حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم وإن أصابعى لتنير «1» . ومما أعطيه موسى- عليه السّلام- أيضا انفلاق البحر له، أعطى نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- انشقاق القمر- كما مر- فموسى تصرف فى عالم الأرض وسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- تصرف فى عالم السماء، والفرق بينهما واضح، قاله ابن المنير. وذكر ابن حبيب أن بين السماء والأرض بحرا يسمى المكفوف «2» ، يكون بحر الأرض بالنسبة إليه كالقطرة من البحر المحيط، قال: فعلى هذا يكون ذلك البحر انفلق لنبينا- صلى الله عليه وسلم- حتى جاوزه- يعنى ليلة الإسراء- وهو أعظم من انفلاق البحر لموسى- عليه الصلاة والسلام-. ومما أعطيه موسى- عليه السّلام- إجابة دعائه، أعطى نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما لا يحصى. ومما أعطيه موسى- عليه السّلام- تفجير الماء له من الحجارة، أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أن الماء تفجر من بين أصابعه «3» ، وهذا أبلغ لأن الحجر من جنس الأرض التى ينبع منها الماء، ولم تجر العادة ينبع الماء من اللحم، ويرحم الله القائل: وكل معجزة للرسل قد سلفت ... وافى بأعجب منها عند إظهار فما العصا حية تسعى بأعجب من ... شكوى البعير ولا من مشى أشجار ولا انفجار معين الماء من حجر ... أشد من سلسل من كفه جار ومما أعطيه موسى- عليه السّلام- الكلام، أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- مثله ليلة الإسراء وزيادة الدنو والتدلى، وأيضا كان مقام المناجاة فى حق نبينا

_ (1) أخرجه البخارى فى «تاريخه الكبير» (3/ 46) . (2) قلت: لا أعلم من أين أتى بهذه المعلومة، أمن وحى فلا يوجد دليل، أمن من تجربة، وأين الدليل؟! (3) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك.

- صلى الله عليه وسلم- فوق السماوات العلى وسدرة المنتهى، والمستوى وحجب النور والرفرف، ومقام المناجاة لموسى- عليه السّلام- طور سيناء. * وأما ما أعطيه هارون- عليه الصلاة والسلام- من فصاحة اللسان، فقد كان نبينا- صلى الله عليه وسلم- من الفصاحة والبلاغة بالمحل الأفضل والموضع الذى لا يجهل. ولقد قال له بعض أصحابه: ما رأينا الذى هو أفصح منك فقال: «وما يمنعنى وإنما نزل القرآن بلسانى، لسان عربى مبين» «1» . وقد كانت فصاحة هارون غايتها فى العبرانية، والعربية أفصح منها. وهل كانت فصاحة هارون معجزة أم لا؟ قال ابن المنير: الظاهر أنها لم تكن معجزة، ولكن فضيلة ولم يتحد نبى من الأنبياء بالفصاحة إلا نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، لأن هذه الخصوصية لا تكون لغير الكتاب العزيز، وهل فصاحته- صلى الله عليه وسلم- فى جوامع الكلم التى ليست من التلاوة ولكنها معدودة من السنة، هل تحدى بها أم لا؟ فظاهر قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أوتيت جوامع الكلم» «2» أنه من التحدث بنعمة الله عليه وخصائصه، ولا خلاف أنها باعتبار ما اشتملت عليه من الإخبار بالمغيبات ونحوها معجزة. * وأما ما أعطيه يوسف- عليه الصلاة والسلام- من شطر الحسن، فأعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- الحسن كله، وستأتى الإشارة إلى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد الإسراء. ومن تأمل ما نقلته فى صفته تبين له من ذلك التفصيل التفضيل على كل مشهور بالحسن فى كل جيل. وأما ما أعطيه يوسف- عليه السّلام- أيضا من تعبير الرؤيا، فالذى نقل عنه من ذلك ثلاث منامات، أحدها: حين رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر، والثانى: منام صاحبى السجن، والثالث: منام الملك، وقد أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما لا يدخله الحصر، ومن تصفح الأخبار وتتبع الآثار وجد من ذلك العجب العجاب، وستأتى نبذة من ذلك- إن شاء الله تعالى-.

_ (1) ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» له (1/ 80) . (2) قلت: هو فى الصحيح بلفظ: «بعثت بجوامع الكلم» أخرجه البخارى (7013) فى التعبير، باب: المفاتيح فى اليد، وبلفظ «أوتيت جوامع الكلم» عند مسلم (523) في المساجد، باب: رقم (1) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

* وأما ما أعطيه داود- عليه الصلاة والسلام- من تليين الحديد له، فكان إذا مسح الحديد لان، فأعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- أن العود اليابس اخضر فى يده وأورق، ومسح- صلى الله عليه وسلم- شاة أم معبد الجرباء، فبرئت ودرت. * وأما ما أعطيه سليمان- عليه الصلاة والسلام- من كلام الطير وتسخير الشياطين والريح، والملك الذى لم يعطه أحد من بعده، فقد أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك وزيادة. أما كلام الطير والوحش فنبينا- صلى الله عليه وسلم- كلمه الحجر، وسبح فى كفه الحصى، وهو جماد، وكلمه ذراع الشاة المسمومة- كما تقدم فى غزوة خيبر- وكذلك كلمه الظبى وشكا إليه البعير- كما مر-. وروى أن طيرا فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فيقول: أيكم فجع هذا بولده، فقال رجل أنا فقال: «اردد ولده» ذكره الرازى ورواه أبو داود بلفظ: كنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش- أى تدنو- من الأرض، فجاء النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها» «1» الحديث. وقصة كلام الذئب مشهورة. وأما الريح التى كانت غدوها شهر ورواحها شهر، تحمله أين أراد من أقطار الأرض، فقد أعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- البراق الذى هو أسرع من الريح، بل أسرع من البرق الخاطف، فحمله من الفرش إلى العرش فى ساعة زمانية، وأقل مسافة ذلك سبعة آلاف سنة، وتلك مسافة السماوات، وأما إلى المستوى وإلى الرفرف فذلك ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وأيضا: فالريح سخرت لسليمان لتحمله إلى نواحى الأرض، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- زويت له الأرض

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2675) فى الجهاد، باب: فى كراهية حرق العدو بالنار، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 267) ، والطبرانى فى «الكبير» (10/ 177) ، والطيالسى فى «مسنده» (336) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

- أى جمعت- حتى رأى مشارقها ومغاربها، وفرق بين من يسعى إلى الأرض، وبين من تسعى له الأرض. وأما ما أعطيه من تسخير الشياطين فقد روى أن أبا الشياطين إبليس اعترض سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- وهو فى الصلاة فأمكنه الله منه وربطه بسارية من سوارى المسجد «1» وخير مما أوتيه سليمان من ذلك إيمان الجن بمحمد- صلى الله عليه وسلم-، فسليمان استخدمهم ومحمد استسلمهم. وأما عد الجن من جنود سليمان فى قوله تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ «2» . فخير منه عد الملائكة، جبريل ومن معه من جملة أجناده- صلى الله عليه وسلم-، باعتبار الجهاد وباعتبار تكثير السواد على طريقة الأجناد. وأما عد الطير من جملة أجناده، فأعجب منه حمامة الغار «3» وتوكيرها فى الساعة الواحدة وحمايتها له من عدوه، والغرض من استكثار الجند إنما هو الحماية، وقد حصلت من أعظم شىء بأيسر شىء. وأما ما أعطيه من الملك، فنبينا- صلى الله عليه وسلم- خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا ونبيّا عبدا، فاختار- صلى الله عليه وسلم- أن يكون نبيّا عبدا. ولله در القائل: يا خير عبد على كل الملوك ولى * وأما ما أعطيه عيسى- عليه الصلاة والسلام- من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، فأعطى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه رد العين إلى مكانها بعد ما سقطت فعادت أحسن ما كانت «4» ، وفى دلائل البيهقى قصة الرجل الذى قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- لا أؤمن بك حتى تحيى لى ابنتى، وفيه أنه- صلى الله عليه وسلم- أتى قبرها فقال: «يا فلانة» ، فقالت: لبيك وسعديك يا رسول الله، الحديث «5» ، وقد مر. وروى أن امرأة معاذ بن عفراء- وكانت برصاء-

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (461) فى الصلاة، باب: الأسير أو الغريم يربط فى المسجد، ومسلم (541) فى المساجد، باب: جواز لعن الشيطان فى أثناء الصلاة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) سورة النحل: 17. (3) قلت: حديث الحمامة ضعيف كما بين ذلك الأئمة الحفاظ. (4) تقدم. (5) تقدم.

فشكت ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمسح عليها بعصا فأذهب الله البرص منها، ذكره الرازى، وأيضا قد سبح الحصى فى كفه- صلى الله عليه وسلم-، وسلم عليه الحجر، وحن لفراقه الجذع، وذلك أبلغ من تكليم الموتى لأن هذا من جنس من لا يتكلم. وأما ما أعطيه عيسى أيضا من أنه كان يعرف ما تخفيه الناس فى بيوتهم، فقد أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما لا يحصى، وسيأتى من ذلك- إن شاء الله تعالى- ما يكفى ويشفى. وأما ما أعطيه عيسى أيضا من رفعه إلى السماء، فقد أعطى نبينا- صلى الله عليه وسلم- ذلك ليلة المعراج، وزاد فى الترقى لمزيد الدرجات وسماع المناجاة والحظوة فى الحضرة المقدسة بالمشاهدات. وبالجملة: فقد خص الله تعالى نبينا- صلى الله عليه وسلم- من خصائص التكريم بما لم يعطه أحدا من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. وقد روى جابر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى، كان كل نبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل حيث كان، ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة» «1» رواه البخارى. وفى رواية: «وبعثت إلى الناس كافة» . وزاد البخارى فى روايته- فى الصلاة- عن محمد بن سنان (من الأنبياء) . وعند الإمام أحمد: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبى قبلى، ولا أقوله فخرا» وفيه: «وأعطيت الشفاعة فاخترتها لأمتى، فهى لمن لا يشرك بالله شيئا» وإسناده كما قال ابن كثير جيد.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (335) فى التيمم، باب: وقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، وأطرافه (438 و 3122) ، ومسلم (521) فى المساجد.

وليس المراد حصر خصائصه- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الخمسة المذكورة. فقد روى مسلم من حديث أبى هريرة مرفوعا: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب وجعلت لى الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون» «1» فذكر الخمسة المذكورة فى حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهما: أعطيت جوامع الكلم وختم بى النبيون، فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال. ولمسلم أيضا من حديث حذيفة: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» «2» وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وذكر خصلة أخرى. وهذه الخصلة المبهمة قد بينها ابن خزيمة والنسائى، وهى: وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، يشير إلى ما حطه الله تعالى عن أمته من الإصر وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعا. ولأحمد من حديث على «أعطيت أربعا لم يعطهن أحد من أنبياء الله تعالى قبلى أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتى خير الأمم، وذكر خصلة التراب، فصارت الخصال ثنتى عشرة خصلة» «3» . وعند البزار من وجه آخر عن أبى هريرة رفعه: «فضلت على الأنبياء، وغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر، وجعلت أمتى خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه» «4» وذكر ثنتين مما تقدم. وله من حديث ابن عباس رفعه: «فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطانى كافرا فأعاننى الله عليه فأسلم. قال: ونسيت الآخرى» «5» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (523) فى المساجد، باب: رقم (1) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (522) فيما سبق. (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 158) . (4) إسناده جيد: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 369) وقال: رواه البزار وإسناده جيد. (5) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 225) من حديث أبى هريرة وليس ابن عباس، وقال: رواه البزار وفيه إبراهيم بن صرمة، وهو ضعيف.

فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وقد ذكر أبو سعيد النيسابورى فى كتاب «شرف المصطفى» أن عدد الذى خص به- صلى الله عليه وسلم- ستون خصلة. وطريق الجمع أن يقال: لعله- صلى الله عليه وسلم- اطلع أولا على بعض ما اختص له، ثم اطلع على الباقى. ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله. وقد ذكر بعض العلماء أنه- صلى الله عليه وسلم- أوتى ثلاثة آلاف معجزة وخصيصية. وقد اختلف فى العلم بخصائصه- صلى الله عليه وسلم-، فقال الصيمرى من الشافعية: منع أبو على بن خيران الكلام فيها، لأنه أمر انقضى فلا معنى للكلام فيه. وقال إمام الحرمين: قال المحققون ذكر الاختلاف فى مسائل الخصائص خبط غير مفيد، فإنه لا يتعلق به حكم ناجز تمس إليه حاجة، وإنما يجرى الخلاف فيما لا يوجد بد من إثبات حكم فيه، فإن الأقيسة لا مجال لها، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص، وما لا نص فيه فالخلاف فيه هجوم على الغيب من غير فائدة. وقال النووى- فى الروضة والتهذيب- بعد نقله هذين الكلامين: وقال سائر الأصحاب لا بأس به، وهو الصحيح، لما فيه من زيادة العلم، فهذا كلام الأصحاب، والصواب الجزم بجواز ذلك، بل استحبابه، ولو قيل وجوبه لم يكن بعيدا، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتا فى الحديث الصحيح فعمل به أخذا بأصل التأسى، فوجب بيانها لتعرف، فلا يعمل بها، فأى فائدة أهم من هذه الفائدة، وأما ما يقع فى ضمن الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم فقليل لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتدريب ومعرفة الأدلة، وتحقيق الشىء على ما هو عليه. انتهى كلام النووى. وقد تتبعت ما شرف الله تعالى به نبينا- صلى الله عليه وسلم- من الخصائص والآيات،

خصائص النبي ص من الفضائل والكرامات

وأكرمه به من الفضائل والكرامات من كتب العلماء، كالخصائص لابن سبع، وخصائص الروضة للنووى، ومختصرها للحجازى، وشرح الحاوى لابن الملقن، وشرح البهجة لشيخ الإسلام زكريا الأنصارى، واللفظ المكرم فى خصائص النبى- صلى الله عليه وسلم- للشيخ قطب الدين الخيضرى، واستفدت منه كثيرا فى فصل المعجزات، مع ما رأيته أثناء مطالعتى لفتح البارى، وشرح مسلم للنووى، وشرح تقريب الأسانيد للعراقى وغير ذلك مما يطول ذكره، فتحصل لى من ذلك جملة. وقد قسمها غير واحد من الأئمة أربعة أقسام: [خصائص النبي ص من الفضائل والكرامات] القسم الأول: ما اختص به- صلى الله عليه وسلم- من الواجبات والحكمة فى ذلك زيادة الزلفى والدرجات، فإنه لن يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل أداء ما افترض عليهم. قال بعضهم: خص الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- بواجبات عليه لعلمه بأنه أقوم بها منهم، وقيل ليجعل أجره بها أعظم. * فاختص- صلى الله عليه وسلم- بوجوب الضحى على المذهب ، لكن قول عائشة فى الصحيح: (ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسبح سبحة الضحى) «1» يدل على ضعف أنها كانت واجبة عليه. قال الحافظ ابن حجر: ولم يثبت ذلك فى خبر صحيح. انتهى. وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى ذكر صلاة الضحى فى مقصد عباداته- صلى الله عليه وسلم-. وهل كان الواجب عليه أقل الضحى أو أكثرها، أو أدنى الكمال؟ قال الحجازى: لا نقل فيه، لكن فى مسند أحمد: «أمرت بركعتى الضحى ولم تؤمروا بهما» «2» . * ومنها الوتر وركعتا الفجر ، كما رواه الحاكم فى المستدرك وغيره، ولفظ أحمد والطبرانى: «ثلاث على فريضة وهن لكم تطوع، الوتر وركعتا

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1128) فى التهجد، باب: تحريض النبى- صلى الله عليه وسلم- على صلاة الليل والنوافل من غيره إيجاب، ومسلم (718) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى. (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 232 و 317) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 264) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

* ومنها صلاة الليل،

الفجر وركعتا الضحى» «1» . قال بعضهم: وقد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الوتر على الراحلة. قال: ولو كان واجبا لما جاز فعله على الراحلة. وتعقب: بأن فعله على الراحلة من الخصائص أيضا كما سيأتى فيما اختص به- صلى الله عليه وسلم- من المباحات، - إن شاء الله تعالى-. وأجيب بأنه يحتاج إلى دليل. وهل كان الواجب عليه أقل الوتر أم أكثره؟ أم أدنى الكمال؟ قال الحجازى: لم أر فيه نقلا. * ومنها صلاة الليل، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «2» . أى فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك، وهذا ما صححه الرافعى ونقله النووى عن الجمهور، ثم قال: وحكى الشيخ أبو حامد أن الشافعى نص على أنه نسخ وجوبه فى حقه، كما نسخ فى حق غيره. * ومنها السواك، واستدلوا له بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أبى حنظلة بن أبى عامر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق عليه ذلك أمر بالسواك لكل صلاة «3» . وفى إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس. وحجة من لم يجعله واجبا عليه، ما رواه ابن ماجه فى سننه من حديث أبى أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما جاءنى جبريل إلا أوصانى بالسواك

_ (1) موضوع: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 231) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 441) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 264) وقال: رواه أحمد بأسانيد والبزار بنحوه والطبرانى فى الكبير والأوسط وفى إسناد أحمد أبو خباب الكلبى وهو مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح، وفى بقية أسانيدها جابر الجعفى، وهو ضعيف. اه، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2561) : موضوع. (2) سورة الإسراء: 79. (3) حسن أخرجه أبو داود (48) فى الطهارة، باب: السواك، والدارمى فى «سننه» (658) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 258) ، والحديث أصله فى الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهنى.

* ومنها الأضحية،

حتى خشيت أن يفرض على وعلى أمتى» «1» ، وإسناده ضعيف. وروى أحمد فى مسنده من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على» «2» ، وإسناده حسن. والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح، قاله فى شرح تقريب الأسانيد. * ومنها الأضحية، قال الله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «3» ، وروى الدارقطنى والحاكم عن ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث هن على فرائض، وهن لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر» «4» . * ومنها المشاورة، قال الله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «5» . فظاهره الإيجاب، ويقال إنه استحباب، استمالة للقلوب، ومعناه: استخراج آرائهم، ونقل البيهقى فى «معرفة السنن والآثار» عن النص: أن المشورة غير واجبة عليه، كما نبه عليه الحجازى وغيره. واختلف فى المعنى الذى لأجله أمر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه وتتابع الوحى عليه، ووجوب طاعته على أمته. فقال بعضهم: هو خاص فى المعنى، وإن كان عاما فى اللفظ، أى: وشاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد، يدل عليه قراءة ابن عباس: وشاورهم فى بعض الأمر. وقال الكلبى: يعنى ناظرهم فى لقاء العدو، ومكائد الحرب عند الغزو. وقال قتادة ومقاتل: كانت سادات العرب إذا لم تشاور فى الأمر شق عليهم، فأمر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يشاورهم، فإن ذلك أعطف لهم

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (289) فى الطهارة، باب: السواك، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» . (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 490) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 68) وقال: رواه أحمد والطبرانى فى الكبير، وفيه ليث بن أبى سليم، وهو ثقة وقد عنعنه. (3) سورة الكوثر: 2. (4) ضعيف: وقد تقدم. (5) سورة آل عمران: 159.

* ومنها مصابرة العدو

وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم. وقال الحسن: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده. وحكى القاضى أبو يعلى، فى الذى أمر بالمشاورة فيه قولين: أحدهما: فى أمر الدنيا خاصة، والثانى: فى الدين والدنيا وهو الأصح، قاله المعافى بن زكريا فى تفسيره. والحكمة فى المشاورة فى الدين التنبيه لهم على علل الأحكام، وطريق الاجتهاد. وأخرج ابن عدى والبيهقى فى الشعب عن ابن عباس قال: لما نزلت وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتى» «1» . وعند الترمذى الحكيم من حديث عائشة، رفعته: «إن الله أمرنى بمداراة الناس، كما أمرنى بإقامة الفرائض» «2» . * ومنها مصابرة العدو وإن كثر عددهم. * ومنها تغيير المنكر إذا رآه، لكن قد يقال: كل مكلف تمكن من تغييره يلزمه، فيقال: المراد أنه لا يسقط عنه- صلى الله عليه وسلم- بالخوف بخلاف غيره. * ومنها قضاء دين من مات مسلما معسرا، روى مسلم حديث: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى وعليه دين فعلى قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته» «3» . قال النووى: كان هذا القضاء واجبا عليه- صلى الله عليه وسلم-، وقيل: تبرع منه، والخلاف وجهان لأصحابنا وغيرهم، قال: ومعنى الحديث: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا قائم بمصالحكم فى حياة أحدكم أو موته، أنا وليه فى الحالين، فإن كان

_ (1) ذكره السيوطى فى «الدر المنثور» (2/ 359) وعزاه لابن عدى والبيهقى فى الشعب. (2) ضعيف: أخرجه الحكيم الترمذى وابن عدى بسند فيه متروك، قاله السيوطى فى «الدر المنثور» (2/ 358) . (3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2297) فى الحوالة، باب: من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، ومسلم (1619) فى الفرائض، باب: من ترك مالا فلورثته، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

* ومنها تخيير نسائه - صلى الله عليه وسلم - فى فراقه،

عليه دين قضيته من عندى إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فلورثته، لا آخذ منه شيئا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين فليأتوا إلى فعلى نفقتهم ومؤنتهم» . انتهى. وفى وجوب قضائه على الإمام من مال المصالح وجهان، لكن قال الإمام: من استدان وبقى معسرا إلى أن مات لم يقض دينه من بيت المال، فإن كان ظلم بالمطل ففيه احتمال، والأولى: لا، والله أعلم. * ومنها تخيير نسائه- صلى الله عليه وسلم- فى فراقه، وإمساكهن بعد أن اخترنه فى أحد الوجهين، وترك التزوج عليهن والتبدل بهن مكافأة لهن، ثم نسخ ذلك، لتكون المنة له- صلى الله عليه وسلم- عليهن، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها «1» . الآية. واختلف فى تخييره لهن على قولين، أحدهما: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، واختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن فى الطلاق، وهذا هو قول الحسن وقتادة، والثانى: أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه، وهذا قول عائشة ومجاهد والشعبى ومقاتل. [سبب تخييره ص نساءه] واختلفوا فى السبب الذى لأجله خير- صلى الله عليه وسلم- نساءه على أقوال. أحدها: أن الله تعالى خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة على الدنيا، فاختار الآخرة وقال: «اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين» «2» ، فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكن على مثل اختياره. حكاه أبو القاسم النميرى. الثانى: لأنهن تغايرن عليه.

_ (1) سورة الأحزاب: 28. (2) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (2352) فى الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وأخرجه ابن ماجه (4126) فى الزهد، باب: مجالسة الفقراء، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1261) .

والثالث: لأن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع،

والثالث: لأن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع، فكان أولهن أم سلمة سألته سترا معلما، وسألته ميمونة حلة يمانية، وسألته زينب ثوبا مخططا وهو البرد اليمانى، وسألته أم حبيبة ثوبا سحوليّا، وسألته كل واحدة شيئا إلا عائشة. حكاه النقاش. والرابع: أن أزواجه- صلى الله عليه وسلم- اجتمعن يوما فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلى فأنزل الله تعالى آية التخيير، حكاه النقاش أيضا. وذلك أنه لما نصر الله تعالى رسوله وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود، وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر فى الحلى والحلل، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل فى أمرهن لئلا يكون لأحد منهن عليه منة فى الصبر على ما اختاره من خشونة العيش. فلما اخترنه وصبرن معه عوضهن الله على صبرهن بأمرين: أحدهما، أن جعلهن أمهات المؤمنين تعظيما لحقهن وتأكيدا لحرمتهن، وتفضيلهن على سائر النساء بقوله: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ «1» ، والثانى: أن حرم الله عليه طلاقهن والاستبدال بهن فقال تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ «2» . الآية. فكان تحريم طلاقهن مستداما، وأما تحريم التزوج عليهن فنسخ، قالت عائشة: ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أحل الله له النساء، يعنى اللاتى حرمن عليه، وقيل: الناسخ لتحريمهن قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ «3» . الآية. وقال النووى فى الروضة: لما خيرهن فاخترنه كافأهن على حسن صنيعهن بالجنة فقال: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً «4» . انتهى.

_ (1) سورة الأحزاب: 32. (2) سورة الأحزاب: 52. (3) سورة الأحزاب: 50. (4) سورة الأحزاب: 29.

* ومنها: إتمام كل تطوع شرع فيه،

وإنما اختص- صلى الله عليه وسلم- بوجوب التخيير لنسائه بين التسريح والإمساك، لأن الجمع بين عدد منهن يوغر صدورهن بالغيرة التى هى من أعظم الآلام، وهو إيذاء يكاد ينفر القلب ويوهن الاعتقاد، وكذا إلزامهن على الصبر والفقر يؤذيهن، ومهما ألقى زمام الأمر إليهن خرج عن أن يكون ضررا، فنزه عن ذلك منصبه العالى. وقيل له: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ «1» . * ومنها: إتمام كل تطوع شرع فيه، حكاه فى الروضة وأصلها، قال النووى: وهو ضعيف. وفرعه بعض الأصحاب: على أنه كان يحرم عليه- صلى الله عليه وسلم- إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يلقى العدو ويقاتل. ذكره فى تهذيب الأسماء واللغات. * ومنها: أنه كان يلزمه- صلى الله عليه وسلم- أداء فرض الصلاة بلا خلل. قاله الماوردى: قال العراقى فى شرح المهذب: إنه كان معصوما عن نقص الفرائض. انتهى، والمراد خلل لا يبطل الصلاة. * وقال بعضهم: كان يجب عليه- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى ما يعجبه أن يقول: «لبيك إن العيش عيش الآخرة» «2» ثم قال: هذه كلمة صدرت منه- صلى الله عليه وسلم- فى أنعم حالة، وهو يوم حجه بعرفة، وفى أشد حالة، وهو يوم الخندق، انتهى. * ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يؤخذ عن الدنيا حالة الوحى، ولا يسقط عنه الصوم والصلاة وسائر الأحكام، كما ذكره فى زوائد الروضة عن ابن القاص والقفال، وكذا ذكره ابن سبع. * ومنها: أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يغان على قلبه فيستغفر الله سبعين مرة. ذكره ابن القاص ونقله ابن الملقن فى الخصائص، ورواه مسلم وأبو داود من حديث الأغر المزنى بلفظ: «إنه ليغان على قلبى وإنّى لأستغفر الله فى اليوم

_ (1) سورة الأحزاب: 28. (2) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (7/ 48) من مجاهد مرسلا.

مائة مرة» «1» هذا لفظ مسلم، وقال أبو داود «فى كل يوم» ، قال الشيخ ولى الدين بن العراقى: والظاهر أن الجملة الثانية مرتبة على الأولى، وأن سبب الاستغفار: الغين، ويدل لذلك قوله فى رواية النسائى فى عمل اليوم والليلة: إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر الله كل يوم مائة مرة، وفى رواية له أيضا: فأستغفر الله. وألفاظ الحديث يفسر بعضها بعضا. ويحتمل من حيث اللفظ أن تكون الجملة الثانية كلاما برأسه غير متعلق بما قبله، فيكون- صلى الله عليه وسلم- أخبر بأنه يغان على قلبه، وبأنه يستغفر الله فى اليوم مائة مرة، انتهى. وقال أبو عبيد: أصل الغين فى هذا، ما يغشى القلب ويغطيه، وأصله: من غين السماء، وهو إطباق الغيم عليها. وقال غيره: الغين يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية، كالغيم الرقيق الذى يعرض فى الهواء فلا يمنع ضوء الشمس. قال القاضى عياض- بعد حكايته ذلك-: فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه وسهوها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق بما كان- صلى الله عليه وسلم- دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة ومعاناة الأهل، ومقاومة الولى والعدو، ومصلحة النفس، وما كلفه من أعباء أداء الرسالة وحمل الأمانة، وهو فى كل هذا فى طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان- صلى الله عليه وسلم- أرفع الخلق عند الله مكانة وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حاله عند خلوص قلبه وخلو همته، وتفرده بربه وإقباله بكليته عليه، ومقامه هناك أرفع حاليه، رأى- صلى الله عليه وسلم- حال فترته عنها، وشغله بسواها غضا على حاله، وخفضا من رفيع مقامه، فاستغفر الله من ذلك، قال: وهذا أولى وجوه الحديث وأشهرها، وإلى معنى ما أشرنا إليه مال كثير من الناس، وحام حوله فقارب ولم يرد، وقد قربنا غامض معناه، وكشفنا للمستفيد محياه، وهو مبنى على جواز الفترة والغفلات والسهو فى غير طريق البلاغ، انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2702) فى الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، وأبو داود (1515) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار.

وتعقب: بأنه لا ترضى نسبته- صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك، لما يلزم عليه من تفضيل الملائكة بعدم الفترة عن التسبيح والمشاهدة، ولقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لست أنسى ولكن أنسى لأسنّ» «1» فهذه ليست فترة وإنما هى لحكمة مقصودة يثبت بها حكم شرعى، فالأولى أن يحمل على ما جعله علة فيه، وهو ما دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، وحمل كل أعباء النبوة وحمل أثقالها. انتهى. وقيل: الغين شىء يعترى القلب مما يقع من حديث النفس، قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: وهذا أشار إليه الرافعى فى أماليه، وقال: إن والده كان يقرره. وقيل: كانت حالة يطلع فيها على أحوال أمته فيستغفر لهم. وقيل: هو السكينة التى تغشى قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية لله تعالى، والشكر لما أولاه. وقال شيخ الإسلام ابن العراقى أيضا: هذه الجملة حالية، أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه يغان على قلبه مع أن حاله الاستغفار فى اليوم مائة مرة، وهى حال مقدرة، لأن الغين ليس موجودا فى حال الاستغفار، بل إذا جاء الاستغفار أذهب ذلك الغين. قال: وعلى تقدير تعلق إحدى الجملتين بالآخرى، وأن الثانية مسببة عن الأولى، فيحتمل أن يكون هذا الغين تغطية للقلب عن أمور الدنيا، وحجابا بينه وبينها، فينجمع القلب حينئذ على الله تعالى ويتفرغ للاستغفار شكرا وملازمة للعبودية، قال: وهذا معنى ما قاله القاضى عياض، انتهى ومراده قوله فى «الشفاء» : وقد يحتمل أن تكون هذه الإغانة حالة خشية وإعظام تغشى قلبه فيستغفر حينئذ شكرا لله تعالى، وملازمة لعبوديته إلى آخر كلامه. قال الشيخ ابن العراقى: وهو عندى كلام حسن جدّا، وتكون الجملة

_ (1) ضعيف: أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 100) بلاغا، وهو أحد الأحاديث الأربعة التى قال عنها ابن عبد البر فى «التمهيد» التى لا يوجد فى غيره مسندة ولا مرسلة، انظر «التمهيد» لابن عبد البر (24/ 375) .

القسم الثانى: ما اختص به - صلى الله عليه وسلم - مما حرم عليه:

الثانية مسببة عن الأولى، لا بمعنى أنه يسعى بالاستغفار فى إزالة الغين، بل بمعنى أن الغين أصل محمود، وهو الذى تسبب عنه الاستغفار، وترتب عليه، وهذا أنزه الأقوال وأحسنها لأن الغين حينئذ وصف محمود وهو الذى نشأ عنه الاستغفار، وعلى الأول يكون «الغين» مما يسعى فى إزالته بالاستغفار، وما ترتب الإشكال وجاء السؤال إلا على تفسير الغين بذلك، وأهل اللغة إنما فسروا الغين بالغشاء، فنحمله على غشاء يليق بحاله- صلى الله عليه وسلم-، وهو الغشاء الذى يصرف القلب ويحجبه عن أمور الدنيا، لا سيما وقد رتب على الغشاء أمرا محمودا وهو الاستغفار، فما نشأ هذا الأمر الحسن إلا عن أمر حسن، انتهى. وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء الله فى كتابه «لطائف المنن» أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى النوم فسألته عن هذا الحديث «إنه ليغان على قلبى» فقال لى: «يا مبارك: ذلك غين الأنوار، لا غين الأغيار» «1» . القسم الثانى: ما اختص به- صلى الله عليه وسلم- مما حرم عليه: * فمنها: تحريم الزكاة عليه، وكذا الصدقة على الصحيح المشهور المنصوص، قال- صلى الله عليه وسلم-: «إنا لا نأكل الصدقة» «2» رواه مسلم، ومن قال بإباحتها له يقول: لا يلزم من امتناعه من أكلها تحريمها، فلعله ترك ذلك تنزها مع إباحتها له، وهذا خلاف ظاهر الحديث. قال شيخ الإسلام ابن العراقى، فى شرح التقريب: وعلى كل حال ففيه أن من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- الامتناع من أكل الصدقة إما وجوبا وإما تنزها، انتهى. والحكمة من ذلك: صيانة منصبه الشريف عن أوساخ أموال الناس.

_ (1) قلت: إن ديننا يؤخذ من الوحى، لا من المنامات، وبخاصة إذا كانت تخالف ظاهر الدين، خشية أن تكون من إلقاء الشيطان إلى النفس، وهو ما يكون غالبا، وليحذر المسلم الحقيقى من مثل هذه المنامات. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1491) فى الزكاة، باب: ما يذكر فى الصدقة للنبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (1069) فى الزكاة، باب: تحريم الزكاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

* ومنها: تحريم الزكاة على آله - صلى الله عليه وسلم -،

* ومنها: تحريم الزكاة على آله- صلى الله عليه وسلم-، وتحريم كون آله عمالا على الزكاة فى الأصح، وكذا يحرم صرف النذر والكفارة إليهم، وأما صدقة التطوع فتحل لهم فى الأصح خلافا للمالكية وهو وجه عندنا. * ومنها: أنه يحرم عليه- صلى الله عليه وسلم- أكل ما له رائحة كريهة، كثوم وبصل، لتوقع مجىء الملائكة والوحى كل ساعة. والأكل متكئا فى أحد الوجهين فيهما، والأصح فى الروضة كراهتهما، وتعقب السهيلى الاتكاء فقال: قد يكره لغيره أيضا لأنه من فعل المتعظمين، وقد تقدم مزيد لذلك. * ومنها: تحريم الكتابة والشعر، وإنما يتجه القول بتحريمهما ممن يقول إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحسنهما، والأصل أنه كان لا يحسنهما، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «1» . وقال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ «2» . أى ما هو فى طبعه، ولا يحسنه ولا تقتضيه جبلته ولا يصلح له. وأجيب: بأن المراد تحريم التوصل إليهما. وهل عدم الشعر خاص به- صلى الله عليه وسلم- أو بنوع الأنبياء؟ قال بعضهم: هو عام لقوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ لأنه لا يظهر فيه للخصوص نكتة. وتقدم فى قصة الحديبية البحث فى كونه- صلى الله عليه وسلم- هل كان يحسن الكتابة أو لا. * ومنها: نزع لأمته إذا لبسها، حتى يقاتل أو يحكم الله بينه وبين عدوه. * ومنها: المن ليستكثر، ذكره الرافعى، قال الله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «3» أى: لا تعط شيئا لتعطى أكثر منه، بل أعط لربك، واقصد به وجهه، فأدبه بأشرف الآداب، قاله أكثر المفسرين، وقال الضحاك ومجاهد: هذا كان للنبى- صلى الله عليه وسلم- خاصة، وليس على أحد من أمته، وقال قتادة: لا تعط شيئا لمجازاة الدنيا، أى أعط لربك، وعن الحسن: لا تمنن على الله

_ (1) سورة العنكبوت: 48. (2) سورة يس: 69. (3) سورة المدثر: 6.

* ومنها: مد العين إلى ما متع به الناس،

بعملك فتستكثره، وقيل: لا تمنن على الناس بالنبوة فتأخذ عليها أجرا وعوضا من الدنيا. * ومنها: مد العين إلى ما متع به الناس، قال الله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ «1» أى استحسانا له وتمنيا أن يكون لك مثله أَزْواجاً مِنْهُمْ «2» أى أشكالا وأشباها من الكفار، وهى المزاوجة بين الأشياء، وهى المشاكلة. وعن ابن عباس: أصنافا منهم، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته، فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات. * ومنها: خائنة الأعين، وهى الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يشعر به الحال، كما قيل له- صلى الله عليه وسلم- فى قصة رجل أراد قتله. هلا أومأت إلينا بقتله، فقال: «ما كان ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين» «3» . ولا يحرم ذلك على غيره إلا فى محظور، قاله الرافعى فيما نقله الحجازى فى مختصر الروضة. * ومنها: نكاح من لم تهاجر، فى أحد الوجهين: قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ «4» . أى مهورهن، سمى المهر أجرا لأن المهر أجر على البضع وتقييد الإحلال بإعطائها معجله لا يتوقف الحل عليه، بل لإيثار الأفضل له، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية فى قوله: وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ «5» . يعنى من نساء بنى زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ

_ (1) سورة الحجر: 88. (2) سورة الحجر: 88. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (2683) فى الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، و (4359) فى الحدود، باب: الحكم فيمن ارتد، من حديث سعد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) سورة الأحزاب: 50. (5) سورة الأحزاب: 50.

* ومنها: تحريم إمساك من كرهته،

مَعَكَ «1» . أى إلى المدينة، قالوا: والمراد هاجرن كما هاجرت، وإن لم تكن هجرتها فى حال هجرته- صلى الله عليه وسلم-. وظاهره يدل على أن الهجرة شرط فى التحليل، وأن من لم تهاجر من النساء لم يحل له نكاحها. وقالت أم هانئ: خطبنى- صلى الله عليه وسلم- فاعتذرت إليه بعذر فعذرنى، ثم أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ «2» . فلم أكن لأحل له، فإنى لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء «3» . وعن بعض المفسرين: أن شرط الهجرة فى التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه. وعن الماوردى قولان: أحدهما أن الهجرة شرط فى إحلال كل النساء له- صلى الله عليه وسلم- من غريبة وقريبة، والثانى: أنها شرط فى إحلال بنات عمه وبنات عماته المذكورات فى الآية وليس شرطا فى إحلال الأجنبيات، وعنه أيضا: أن المراد بالمهاجرات المسلمات. * ومنها: تحريم إمساك من كرهته، قاله الحجازى وغيره. * ومنها: نكاح الكتابية، لأن أزواجه أمهات المؤمنين وزوجات له فى الآخرة، ومعه فى درجته فى الجنة، ولأنه- صلى الله عليه وسلم- أشرف من أن يضع ماءه فى رحم كافرة، قالوا: ولو نكح كتابية لهديت إلى الإسلام كرامة له. * ومنها: نكاح الأمة المسلمة، ولو قدر نكاحه أمة كان ولده منها حرّا، ولا تلزمه قيمته لتعذر الرق. قاله القاضى حسين، وقال أبو عاصم: تلزم، نقله الحجازى، ولا يشترط فى حقه حينئذ خوف العنت ولا فقد الطول. وأما التسرى بالأمة فالأصح الحل، لأنه- صلى الله عليه وسلم- استمتع بأمته ريحانة قبل أن تسلم، وعلى هذا، فهل عليه تخييرها بين أن تسلم فيمسكها أو تقيم على دينها فيفارقها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لتكون من زوجاته فى الآخرة،

_ (1) سورة الأحزاب: 50. (2) سورة الأحزاب: 50. (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3214) فى التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 202) بسند فيه السدى، وهو ضعيف.

* ومنها: تحريم الإغارة

والثانى: لا، لأنه لما عرض على ريحانة الإسلام فأبت لم يزلها عن ملكه وأقام على الاستمتاع، وقد أسلمت بعد. * ومنها: تحريم الإغارة إذا سمع التكبير، كما ذكره ابن سبع فى الخصائص. القسم الثالث: فيما اختص به- صلى الله عليه وسلم- من المباحات. * اختص- صلى الله عليه وسلم- بإباحة المكث فى المسجد جنبا، قاله صاحب التلخيص. ومنعه القفال، قال النووى: وما قاله فى التلخيص قد يحتج له بقوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى سعيد الخدرى: «يا على لا يحل لأحد أن يجنب فى هذا المسجد غيرى وغيرك» «1» قال الترمذى: حسن غريب. وقد يعترض على هذا الحديث بأن عطية ضعيف عند الجمهور. ويجاب بأن الترمذى حكم بأنه حسن فلعله اعتضد بما اقتضى حسنه، لكن إذا شاركه- صلى الله عليه وسلم- على فى ذلك لم يكن من الخصائص. وقد غلّط إمام الحرمين وغيره صاحب التخليص فى الإباحة. واعلم أن معظم المباحات لم يفعلها- صلى الله عليه وسلم- وإن جازت له. * ومما اختص به أيضا أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعا، وفى اللمس وجهان، قال النووى: المذهب الجزم بانتقاضه به. واستدل القائلون بالأول بنحو حديث عائشة، عند أبى داود، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلى ولا يتوضأ «2» ورواه النسائى أيضا، وقال أبو داود: هو مرسل، إبراهيم التيمى لم يسمع من عائشة، وقال النسائى: ليس فى هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا. * واختص أيضا بإباحة الصلاة بعد العصر ، فقد فاتته ركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر. ثم واظب عليهما، ذكره الحجازى، وبجواز

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3727) فى المناقب، باب: مناقب على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (2) مرسل: أخرجه النسائى (1/ 104) فى الطهارة، باب: ترك الوضوء من القبلة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

* وبالقبلة فى الصوم،

صلاة الوتر على الراحلة مع وجوبه عليه، كما ذكره فى شرح المهذب وعبارته: كان من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- جواز فعل هذا الواجب الخاص به على الراحلة. وبالصلاة على الغائب عند أبى حنيفة ومالك. * وبالقبلة فى الصوم، مع قوة الشهوة، روى البخارى من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبل بعض نسائه وهو صائم، وكان أملككم لإربه) «1» قال الحافظ ابن حجر: فأشارت بذلك إلى أن الإباحة لمن يكون مالكا لنفسه دون من لا يأمن الوقوع فيما يحرم. قال: وفى رواية حماد- عند النسائى- قال الأسود: قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه قال: وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النبى- صلى الله عليه وسلم- بذلك. قاله القرطبى، قال: وهو اجتهاد منها. ويدل على أنها لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص: ما رواه مالك فى الموطأ أن عائشة بنت طلحة كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم «2» . * واختص أيضا بإباحة الوصال فى الصوم: كما سيأتى، وقال إمام الحرمين، هو قربة فى حقه- صلى الله عليه وسلم-. * وأن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج، ويجب على صاحبهما البذل. ويفدى بمهجته مهجة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «3» . ولو قصده ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه- صلى الله عليه وسلم-، كما وقاه طلحة بنفسه يوم أحد.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1927) فى الصوم، باب: المباشرة للصائم، ومسلم (1106) فى الصيام، باب: بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته. (2) صحيح: أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 292) ، والطحاوى فى «شرح معانى الآثار» (2/ 95) بسند صحيح. (3) سورة الأحزاب: 6.

وبإباحة النظر إلى الأجنبيات لعصمته،

وبإباحة النظر إلى الأجنبيات لعصمته، وسيأتى- إن شاء الله تعالى- فى القسم الرابع حكم غيره- صلى الله عليه وسلم-. وبجواز الخلوة بهن. قال فى فتح البارى: الذى وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، ويدل له قصة أم حرام بنت ملحان فى دخوله- صلى الله عليه وسلم- عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه «1» ، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية، انتهى. * ومنها نكاح أكثر من أربع نسوة، وكذلك الأنبياء، وفى الزيادة لنبينا- صلى الله عليه وسلم- على التسع خلاف. * ويجوز له النكاح بلفظ الهبة من جهة المرأة، قال الله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ «2» . وأما من جهته- صلى الله عليه وسلم- فلابد من لفظ النكاح أو التزويج على الأصح فى أصل الروضة، وحكاه الرافعى عن ترجيح الشيخ أبى حامد لظاهر قوله تعالى: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ «3» . قال البيضاوى: فى قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً الآية، أى أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا إن اتفق ذلك، ولذلك نكّرها. واختلف فى ذلك والقائل به ذكر أنها ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم، قال: وقرئ «أن» بالفتح، أى لأن وهبت، أو مدة أن وهبت، كقولك: اجلس ما دام زيد جالسا، قال: وقوله: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ «4» شرط

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2788 و 2789) فى الجهاد والسير، باب: الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء، ومسلم (1912) في الإمارة، باب: فضل الغزو فى البحر، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) سورة الأحزاب: 50. (3) سورة الأحزاب: 50. (4) سورة الأحزاب: 50.

* وكذا يجوز له - صلى الله عليه وسلم - النكاح بلا مهر

للشرط الأول فى استحباب الحل، فإن هبتها نفسها منه لا توجب له إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول، قال: والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ «النبى» - صلى الله عليه وسلم- مكررا. ثم الرجوع إليه فى قوله: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ «1» . إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاقه الكرامة لأجله. انتهى. وقال المعافى: وفى معنى «خالصة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرأة إذا وهبت نفسها له يلزمه صداقها دون غيره من المؤمنين. قاله أنس بن مالك وابن المسيب. والثانى: أن له أن ينكحها بلا ولى ولا شهود دون غيره. قاله قتادة، والثالث: خالصة لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، قال: وهذا قول الشافعى وأحمد، وعن أبى حنيفة ينعقد النكاح بلفظ الهبة لغيره- صلى الله عليه وسلم- أيضا. * وكذا يجوز له- صلى الله عليه وسلم- النكاح بلا مهر ابتداء وانتهاء، كما تقدم أن المرأة إذا وهبت نفسها له- صلى الله عليه وسلم- لا يلزمه صداقها. قال النووى: إذا وهبت امرأة نفسها له- صلى الله عليه وسلم- فتزوجها بلا مهر حل له ذلك، ولا يجب عليه بعد ذلك مهرها بالدخول، ولا بغير ذلك، بخلاف غيره فإنه لا يخلو نكاحه من وجوب مهر، إما مسمى وإما مهر المثل والله أعلم. * وكذا يجوز له النكاح فى حال الإحرام، قال النووى فى شرح مسلم: قال جماعة من أصحابنا أنه- صلى الله عليه وسلم- كان له أن يتزوج فى حال الإحرام، وهو مما خص به دون الأمة، قال: وهذا أصح الوجهين عند أصحابنا. انتهى. * وكذا يجوز له- صلى الله عليه وسلم- النكاح بغير رضى المرأة، فلو رغب فى نكاح امرأة خلية لزمها الإجابة، وحرم على غيره خطبتها، أو متزوجة وجب على زوجها طلاقها. قال الغزالى: ولعل السر فيه من جانب الزوج امتحان إيمانه بتكليف

_ (1) سورة الأحزاب: 50.

النزول عن أهله، فإنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين» «1» . ويدل لهذه الخصيصة قصة زينب بنت جحش بنت عمته- صلى الله عليه وسلم- أميمة بنت عبد المطلب، المنصوص عليها بقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ «2» . أى بنعمة الإسلام وهى أجل النعم وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أى بالإعتاق بتوفيق الله لك، وهو زيد بن حارثة الكلبى، وكان من سبى الجاهلية، فملكه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وأعتقه وتبناه وخطب له زينب فأبت هى وأخوها عبد الله، ثم رضيا لما نزل قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ «3» . الآية وكان الرجل فى الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى ولد غيره يدعوه الناس به ويرث ميراثه وتحرم عليه زوجته، فنسخ الله تعالى التبنى بقوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ «4» . وبهذه القصة يثبت الحكم بالقول والفعل، فأوحى الله إليه أن زيدا سيطلقها، وأنه- صلى الله عليه وسلم- يتزوجها، وألقى فى قلب زيد كراهتها فأراد فراقها فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال إنى أريد أن أفارق صاحبتى قال: «ما لك؟ أرابك منها شىء؟» قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم على بشرفها وتؤذينى بلسانها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ «5» ، أى فى أمرها، فلا تطلقها ضرارا وتعللا فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً «6» . ولم يبق له فيها حاجة، ولما طلقها وانقضت عدتها زوجها الله تعالى له، كما قال تعالى:

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (15) فى الإيمان، باب: حب الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، ومسلم (44) فى الإيمان، باب: وجوب محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أكثر من الأهل والوالد والولد، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) سورة الأحزاب: 37. (3) سورة الأحزاب: 36. (4) سورة الأحزاب: 5. (5) سورة الأحزاب: 37. (6) سورة الأحزاب: 37.

زَوَّجْناكَها «1» . والمعنى أنه أمره بتزويجها منه، أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد. ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن الله تولى نكاحى، وأنتن زوجكن أولياؤكن. وقيل إن زيدا كان السفير للتزويج، وفى ذلك لزيد ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه. وقد علل تعالى تزويجه إياها بقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ «2» . أى فى أن يتزوجوا زوجات من كانوا يتبنونه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم فى قوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ «3» . وأما قوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ «4» . فمعناه: علمك أنه سيطلقها وتتزوجها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر فى شىء أباحه له، بأن قال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ «5» . مع علمه أنه سيطلق، وهذا مروى عن على بن الحسين، وعليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهرى، وبكر بن العلاء، والقاضى أبى بكر بن العربى وغيرهم. والمراد بقوله: وَتَخْشَى النَّاسَ «6» . إنما هو فى إرجاف المنافقين فى تزويج نساء الأبناء، والنبى- صلى الله عليه وسلم- معصوم فى الحركات والسكنات. ولبعض المفسرين هنا كلام لا يليق بمنصب النبوة. وقيل قوله: وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ «7» . خطاب من الله تعالى، أو من الرسول- صلى الله عليه وسلم- لزيد، فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما توهم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد أن تكون من نسائه.

_ (1) سورة الأحزاب: 37. (2) سورة الأحزاب: 37. (3) سورة النساء: 23. (4) سورة الأحزاب: 37. (5) سورة الأحزاب: 37. (6) سورة الأحزاب: 37. (7) سورة الأحزاب: 37.

* وكذا يجوز له - صلى الله عليه وسلم - النكاح بلا ولى وبلا شهود.

قال جار الله: وكم من شىء مباح يتحفظ الإنسان منه ويستحى من إطلاع الناس عليه، فطموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة وغيرها غير موصوف بالقبح فى العقل ولا فى الشرع، وتناول المباح بالطريق الشرعى ليس بقبيح أيضا، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ولا طلب إليه، ولم يكن مستكرها عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه ولا مستهجنا إذا نزل عنها أن ينكحها آخر، فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة واستهم الأنصار بكل شىء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجرى، فإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته لم يكن فيه وجه من وجوه القبح. انتهى. * وكذا يجوز له- صلى الله عليه وسلم- النكاح بلا ولى وبلا شهود. قال النووى: الصحيح المشهور عند أصحابنا صحة نكاحه- صلى الله عليه وسلم- بلا ولى ولا شهود لعدم الحاجة إلى ذلك فى حقه- عليه السّلام-، وهذا الخلاف فى غير زينب أما زينب فمنصوص عليها والله أعلم. قال العلماء: إنما اعتبروا الولى للمحافظة على الكفاءة، وهو- صلى الله عليه وسلم- فوق الأكفاء، وإنما اعتبر الشهود لأمن الجحود، وهو- صلى الله عليه وسلم- لا يجحد ولو جحدت هى لم يرجع إلى قولها، بل قال العراقى فى شرح المهذب، تكون كافرة بتكذيبه. وكان له- صلى الله عليه وسلم- تزويج المرأة ممن شاء بغير إذنها وإذن وليها، وله إجبار الصغيرة من غير بناته، وزوج ابنة حمزة مع وجود عمها العباس، فيقدم على الأب. وزوجه الله تعالى بزينب، فدخل عليها بتزويج الله من غير عقد من نفسه. وعبر فى الروضة عن هذا بقوله: وكانت المرأة تحل له بتحليل الله تعالى. * وأعتق أمته صفية وجعل عتقها صداقها وقد اختلف فى معناه، فقيل إنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة، فتزوجها بها، ويؤيده: قوله فى رواية عبد العزيز بن صهيب: سمعت أنسا قال: سبى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صفية فأعتقها وتزوجها، فقال ثابت لأنس: ما

أصدقها، قال: نفسها فأعتقها «1» ؛ هكذا أخرجه البخارى فى المغازى. وفى رواية حماد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس فى حديثه قال: وصارت صفية لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها. قال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد أنت سألت أنسا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسم. فهو ظاهر جدّا فى أن المجعول مهرا هو نفس العتق. والتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى ولو كانت القيامة مجهولة، فإن فى صحة العقد بالشرط المذكور وجها عند الشافعية. وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر، ولكنه من خصائصه، وممن جزم بذلك الماوردى. وقال آخرون: قوله: «أعتقها وتزوجها» معناه: أعتقها ثم تزوجها، فلما لم يعلم أنه ساق لها صداقا قال: أصدقها نفسها، أى: لم يصدقها شيئا فيما أعلم، ولم ينف أصل الصداق، ومن ثم قال أبو الطيب الطبرى من الشافعية، وابن المرابط من المالكية ومن تبعهم: أنه قول أنس قاله ظنّا من قبل نفسه ولم يرفعه. ويعارضه ما أخرجه الطبرانى وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها قالت: أعتقنى النبى- صلى الله عليه وسلم- وجعل عتقى صداقى. وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسا قال ذلك بناء على ظنه. ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها من غير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبى- صلى الله عليه وسلم- دون غيره. ويحتمل: أنه أعتقها بغير عوض، وتزوجها بغير مهر فى الحال، ولا فى المال، قال ابن الصلاح: معناه أن العتق حل محل الصداق وإن لم يكن صداقا، قال: وهذا كقولهم الجوع زاد من لا زاد له، قال: وهذا الوجه أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النووى فى «الروضة» . وممن جزم بأن ذلك كان من الخصائص يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقى قال: وكذا نقله المزنى عن الشافعى قال: وموضع الخصوصية، أنه

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4201) فى المغازى، باب: غزوة خيبر، وأطرافه (371 و 947 و 2228 و 4200 و 5086 و 5169) .

* واختلف فى انحصار طلاقه - صلى الله عليه وسلم - فى الثلاث،

أعتقها مطلقا وتزوجها بغير مهر ولا شهود، وهذا بخلاف غيره. انتهى. وقال النووى فى شرح مسلم: الصحيح الذى اختاره المحققون، أنه أعتقها تبرعا بلا عوض ولا شرط، ثم تزوجها برضاها من غير صداق، والله أعلم. قاله الحافظ ابن حجر. * واختلف فى انحصار طلاقه- صلى الله عليه وسلم- فى الثلاث، وعلى الحصر، قيل: تحلل له من غير محلل، وقيل لا تحل له أبدا. * وفى وجوب نفقة زوجاته وجهان، قال النووى: الصحيح: الوجوب، انتهى. ولا يجب عليه القسم فيما قاله طوائف من أهل العلم، وبه جزم الاصطخرى من الشافعية، والمشهور عندهم وعند الأكثرين الوجوب. وفى حل الجمع له بين المرأة وخالتها وعمتها وجهان، لا أختها وبنتها وأمها، قالوا: ومرجع غالب هذه الخصائص إلى أن النكاح فى حقه كالتسرى فى حقنا. * وكان له- صلى الله عليه وسلم- أن يصطفى ما شاء من المغنم قبل القسمة من جارية وغيرها. * وأبيح له القتال بمكة والقتل بها، وجواز دخول مكة بغير إحرام مطلقا. ذكره ابن القاص، واستدلوا له بحديث أنس عند الستة: (دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر) «1» وذلك من كونه- صلى الله عليه وسلم- كان مستور الرأس بالمغفر، والمحرم يجب عليه كشف رأسه. ومن تصريح جابر والزهرى ومالك بأنه لم يكن محرما. وأبدى ابن دقيق العيد لستر الرأس احتمالا فقال: يحتمل أن يكون لعذر. انتهى. وتعقبه الشيخ ولى الدين ابن العراقى فقال: هذا يرده تصريح جابر وغيره: قال: وهذا الاستدلال فى غير موضع الخلاف المشهور، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان خائفا من القتال متأهبا، ومن كان كذلك فله الدخول عندنا بلا إحرام بلا خلاف عندنا، ولا عند أحد نعلمه.

_ (1) صحيح: وقد تقدم.

* ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقضى بعلمه من غير خلاف.

وقد استشكل النووى فى شرح المهذب ذلك، لأن مذهب الشافعى أن مكة فتحت صلحا خلافا لأبى حنيفة فى قوله: إنها فتحت عنوة، وحينئذ فلا خوف. ثم أجاب عنه: بأنه- صلى الله عليه وسلم- صالح أبا سفيان، وكان لا يأمن غدر أهل مكة، فدخلها صلحا وهو متأهب للقتال إن غدروا. انتهى. وقد ذكرت ما فى فتح مكة من المباحث فى قصة فتحها من المقصد الأول. ثم إن غيره- صلى الله عليه وسلم- إذا لم يكن خائفا، فقال أصحابنا: إن لم يكن ممن يتكرر دخوله، ففى وجوب الإحرام عليه قولان: أصحهما عند أكثرهم: أنه لا يجب، وقطع به بعضهم، فإن تكرر دخوله كالحطابين ونحوهم ففيه خلاف مرتب وهو أولى بعدم الوجوب وهو المذهب. وقال الحنابلة بوجوب الإحرام إلا على الخائف وأصحاب الحاجات، وأوجبه المالكية فى المشهور عندهم على غير ذوى الحاجات المتكررة، وأوجبه الحنفية مطلقا إلا من كان داخل الميقات. وقد تحرر أن المشهور من مذهب الشافعى: عدم الوجوب مطلقا. ومن مذاهب الأئمة الثلاثة الوجوب إلا فيما استثنى. * ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقضى بعلمه من غير خلاف. وأن يقضى لنفسه ولولده، وأن يشهد لنفسه ولولده. ولا تكره له الفتوى والقضاء فى حال الغضب، كما ذكره النووى فى شرح مسلم، وقد قضى للزبير بشراج الحرة «1» بعد أن أغضبه خصم الزبير. لعصمته- صلى الله عليه وسلم-، فلا يقول فى الغضب إلا كما يقول فى الرضى. * وكان له أن يدعو لمن شاء بلفظ الصلاة، وليس لنا أن نصلى إلا على نبى أو ملك. * وكان له أن يقتل بعد الأمان. وأن يلعن من شاء بغير سبب: واستبعد ذلك. * وجعل الله شتمه ولعنه قربة للمشتوم والملعون لدعائه- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) موضع معروف بالمدينة، والقصة أخرجها البخارى (2360) فى المساقاة، باب: مسكر الأنهار، ومسلم (2357) فى الفضائل، باب: وجوب اتباعه- صلى الله عليه وسلم-.

* وكان يقطع الأراضى قبل فتحها،

بذلك «1» . قاله ابن القاص، وردوه عليه، حكاه الحجازى فى مختصر الروضة عن نقل الرافعى. * وكان يقطع الأراضى قبل فتحها، لأن الله ملكه الأرض كلها. وأفتى الغزالى بكفر من عارض أولاد تميم الدارى فيما أقطعهم. وقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقطع أرض الجنة فأرض الدنيا أولى. القسم الرابع: فيما اختص به- صلى الله عليه وسلم- من الفضائل والكرامات. * منها: أنه أول النبيين خلقا «2» ، كما تقرر فى أول هذا الكتاب، وأنه كان نبيّا وآدم بين الروح والجسد، رواه الترمذى من حديث أبى هريرة. * ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق كما مر. * ومنها: أنه أول من قال: «بلى» يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ رواه أبو سهل القطان فى جزء من أماليه. * ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله «3» ، رواه البيهقى وغيره. * ومنها: أن الله كتب اسمه الشريف على العرش، وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها «4» . رواه ابن عساكر عن كعب الأحبار.

_ (1) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (2600) فى البر والصلة، باب: من لعنه النبى- صلى الله عليه وسلم- أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة من حديث عائشة- رضى الله عنها-، و (2601) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه الترمذى (3609) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وأحمد فى «المسند» (4/ 66) و (5/ 59 و 379) من حديث ميسرة الفجر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4581) بلفظ: «كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» . (3) قلت: وفى ذلك مخالفة لقول الله عز وجل وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ سورة الذاريات: 56، كما أن الأحاديث التى يستدلون بها فى هذا الأمر ضعيفة جدّا، بل وموضوعة أيضا. (4) قلت: وهو مثل ما قبله، ولو كان صحيحا لذكره أصحاب الصحاح أو السنن أو حتى أصحاب المسانيد والمعاجم.

* ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين، آدم فمن بعده، أن يؤمنوا به وينصروه

* ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين، آدم فمن بعده، أن يؤمنوا به وينصروه ، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «1» . قال على بن أبى طالب: لم يبعث الله نبيّا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد فى محمد- صلى الله عليه وسلم- لئن بعث وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على قومه. * ومنها: أنه وقع التبشير به فى الكتب السالفة كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. * ومنها: أنه لم يقع فى نسبه من لدن آدم سفاح «2» . رواه البيهقى والطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم فى الدلائل. * ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده رواه الخرائطى- فى الهواتف- وغيره. * ومنها: أنه ولد مختونا مقطوع السرة، رواه الطبرانى، وتقدم ما فيه من البحث فى أول الكتاب. * ومنها: أنه خرج نظيفا، ما به قذر، رواه ابن سعد. * ومنها: أنه وقع إلى الأرض ساجدا رافعا أصبعيه كالمتضرع المبتهل. رواه أبو نعيم من حديث ابن عباس. ورأت أمه عند ولادته نورا خرج منها أضاء له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات الأنبياء. رواه الإمام أحمد، وكان مهده- صلى الله عليه وسلم- يتحرك بتحريك الملائكة، كما ذكره ابن سبع فى الخصائص، وكان القمر يحدثه وهو فى مهده، ويميل حيث أشار إليه، رواه ابن طغر بك فى «النطق المفهوم» وغيره. وتكلم فى المهد، رواه الواقدى وابن سبع، وظللته الغمامة فى الحر، رواه أبو نعيم والبيهقى، ومال إليه فىء الشجرة إذ سبق إليه، رواه البيهقى.

_ (1) سورة آل عمران: 81. (2) حسن: والحديث أخرجه ابن سعد عن ابن عباس كما فى «صحيح الجامع» (3223) .

* ومنها: شق صدره الشريف

* ومنها: شق صدره الشريف «1» . رواه مسلم وغيره. * وغطه جبريل عند ابتداء الوحى ثلاث غطات. عدّ هذه بعضهم من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- كما نقله الحافظ ابن حجر، قال: ولم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحى. * ومنها: أن الله تعالى ذكره فى القرآن عضوا عضوا، فقلبه بقوله: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «2» . وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ «3» ، ولسانه بقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «4» ، وقوله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ* «5» . وبصره بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «6» ، ووجهه بقوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ «7» ، ويده وعنقه بقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ «8» ، وظهره وصدره بقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ

_ (1) قلت: ثبت ذلك فى أحاديث صحيحة منها ما أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة فى الإسراء، ومسلم (162) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وكان ذلك ليلة الإسراء به- صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكر العلماء مرات أخرى لشق صدره، منها ما كان وهو صغير عند حليمة مرضعته وقد ذكر العلماأ أن الشق الأول كان لنزع العلقة التى قيل له عندها هذا حظ الشيطان منك، والشق الثانى للاستعداد للتلقى الحاصل له ليلة الإسراء، كما روى الطيالسى والحارث فى مسنديهما من حديث عائشة أن الشق وقع مرة أخرى عند مجىء جبريل له بالوحى فى غار حراء، والله أعلم، ومناسبته ظاهرة لتلقى الوحى، كما روى أنه شق صدره أيضا وهو ابن عشر سنين أو نحوها فى قصة له مع عبد المطلب أخرجها أبو نعيم فى الدلائل، وروى مرة خامسة، ولكنها لا تثبت، انظر فى ذلك «فتح البارى» لابن حجر (1/ 460) . (2) سورة النجم: 11. (3) سورة الشعراء: 193، 194. (4) سورة النجم: 3. (5) سورة مريم: 97. (6) سورة النجم: 17. (7) سورة البقرة: 144. (8) سورة الإسراء: 29.

* ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبيت جائعا، ويصبح طاعما

صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ «1» . واشتق اسمه من اسم الله «المحمود» ويشهد له ما أخرجه البخارى فى تاريخه الصغير من طريق على بن زيد، قال: كان أبو طالب يقول: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وهو مشهور لحسان بن ثابت. وسمى أحمد، ولم يسم به أحد قبله «2» . رواه مسلم. ولأحمد من حديث على: أعطيت أربعا لم يعطهن أحد قبلى فذكر منها: وسميت أحمد «3» . * ومنها أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يبيت جائعا، ويصبح طاعما يطعمه ربه ويسقيه من الجنة، كما سيأتى البحث فيه- إن شاء الله تعالى- فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- من مقصد عباداته. * وكان يرى من خلفه كما يرى أمامه «4» ، رواه مسلم. ويرى فى الليل وفى الظلمة كما يرى بالنهار والضوء «5» . رواه البيهقى. * وكانت ريقه يعذب الماء الملح، رواه أبو نعيم. ويجزى الرضيع، رواه البيهقى. * ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا مشى فى الصخر غاصت قدماه فيه، كما هو مشهور قديما وحديثا على الألسنة «6» ، ونطق به الشعراء فى منظومهم، والبلغاء فى منثورهم، مع اعتضاده بوجود أثر قدمى الخليل إبراهيم- عليه السّلام- فى حجر المقام المنوه به فى التنزيل فى قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ

_ (1) سورة الشرح: 1- 3. (2) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2355) فى الفضائل، باب: فى أسمائه- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-. (3) صحيح: وقد تقدم. (4) صحيح: وقد تقدم. (5) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 70) . (6) قلت: لم يثبت ذلك فى شىء من كتب السنة أو السير.

* وكان إبطه - صلى الله عليه وسلم - لا شعر عليه،

إِبْراهِيمَ «1» . وهو البالغ تعيينه- وأنه أثره- مبلغ التواتر، القائل فيه أبو طالب: وموطئ إبراهيم فى الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل وبما فى البخارى من حديث أبى هريرة مرفوعا من معجزة تأثير ضرب موسى فى الحجر ستّا أو سبعا إذ فرّ بثوبه لما اغتسل «2» . إذ ما خص نبى بشىء من المعجزات والكرامات إلا ولنبينا- صلى الله عليه وسلم- مثله، كما نصوا عليه، مع ما يؤيد ذلك: وهو وجود أثر حافر بغلته الشريفة- على ما قيل- فى مسجد بطيبة، حتى عرف المسجد بها، بحيث يقال له مسجد البغلة، وما ذاك إلا من سره السارى فيها ليكون ذلك أقوى فى الآية. وأوضح فى الدلالة على إيتائه- صلى الله عليه وسلم- هذه الآية التى أوتيها الخليل فى حجر المقام على وجه أعلى منه. بل قال الزبير بن بكار فيما نقله المجد الشيرازى فى المغانم المطابة بعد ذكره لأثر البغلة ومسجدها: وفى غربى هذا المسجد أثر كأنه أثر مرفق يذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- اتكأ عليه ووضع مرفقه عليه، وعلى حجر آخر أثر الأصابع، والناس يتبركون بهما. وقال السيد نور الدين السمهودى فى كتاب «وفاء الوفا» بعد إيراد ذلك: قلت ولم أقف فى ذلك على أصل إلا أن ابن النجار قال فى المساجد التى أدركها خرابا بالمدينة ما لفظه: ومسجدان قرب البقيع أحدهما يعرف بمسجد الإجابة، والثانى يعرف بمسجد البغلة، فيه إسطوان واحد، وهو خراب، وحوله نشز من الحجارة، فيه أثر يقولون إنه أثر حافر بغلة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وانتهى. * وكان إبطه- صلى الله عليه وسلم- لا شعر عليه، قاله القرطبى، وكان أبيض غير متغير اللون، كما ذكره الطبرى وعده من الخصائص، وذكره بعض الشافعية،

_ (1) سورة آل عمران: 97. (2) صحيح: والقصة أخرجها البخارى (278) فى الغسل، باب: من اغتسل عريانا وحده فى الخلوة، ومسلم (339) فى الحيض، باب: جواز الاغتسال عريانا فى الخلوة، وفى الفضائل، باب: من فضائل موسى- عليه السّلام-.

* وكان - صلى الله عليه وسلم - يبلغ صوته وسمعه

لحديث أنس «1» - المتفق عليه- أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه فى الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه. وقال الشيخ جمال الدين الإسنوى فى «المهمات» إن بياض الإبط كان من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. انتهى. قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك فى شىء من الكتب المعتمدة، الخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإن الشعر إذا نتف بقى المكان أبيض، وإن بقى فيه آثار الشعر، ولذلك ورد فى حديث عبد الله بن أقرم الخزاعى، أنه صلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه إذا سجد «2» ، خرجه الترمذى، وحسنه، والنسائى وابن ماجه، وقد ذكر الهروى فى «الغريبين» ، وابن الأثير فى «النهاية» أن العفرة بياض ليس بالناصع ولكن كلون عفرة الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذى جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر. نعم الذى تعتقد فيه- صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة، بل كان نظيفا طيب الرائحة، كما ثبت فى الصحيح. * وكان- صلى الله عليه وسلم- يبلغ صوته وسمعه ما لا يبلغه صوت غيره ولا سمعه. * وكان تنام عينه ولا ينام قلبه «3» . رواه البخارى. * وما تثاءب قط. رواه ابن أبى شيبة والبخارى فى تاريخه من مرسل

_ (1) تقدم حديث أنس. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (274) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التجافى فى السجود، والنسائى (2/ 213) فى الافتتاح، باب: صفة السجود، وابن ماجه (881) فى إقامة الصلاة، باب: السجود، وأحمد فى «المسند» (4/ 35) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (3) صحيح: وقد تقدم.

* وما احتلم قط،

يزيد بن الأصم قال: ما تثاءب نبى قط، ويؤيد ذلك. أن التثاؤب من الشيطان «1» رواه البخارى. * وما احتلم قط، وكذلك الأنبياء «2» . رواه الطبرانى. وكان عرقه أطيب من المسك. رواه أبو نعيم وغيره. وإذا مشى مع الطويل طاله، رواه البيهقى، ولم يقع له ظل على الأرض، ولا رؤى له ظل فى شمس ولا قمر. ويشهد له أنه- صلى الله عليه وسلم- لما سأل الله تعالى أن يجعل فى جميع أعضائه وجهاته نورا، ختم بقوله: «واجعلنى نورا» . وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يقع على ثيابه ذباب قط. نقله الفخر الرازى، ولا يمتص دمه البعوض، كذا نقله الحجازى وغيره. وما آذاه القمل، قاله ابن سبع فى «الشفاء» والسبتى فى «أعذب الموارد» . ومنها: انقطاع الكهنة عند مبعثه، وحراسة السماء من استراق السمع، والرمى بالشهب، قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها، فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى- عليه السّلام- منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد- صلى الله عليه وسلم- منعوا من السماوات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمى بشهاب، وهو الشعلة من النار، فلا يخطئ أبدا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس فى البرارى، وهذا لم يكن ظاهرا قبل مبعث النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولم يذكره أحد قبل زمانه. وإنما ظهر فى بدىء أمره، وكان ذلك أساسا لنبوته. وقال معمر قلت للزهرى: أكان يرمى بالنجوم فى الجاهلية؟ قال: نعم.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3289) فى بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (2994) فى الزهد والرقائق، باب: تشميت العاطس وكراهة التثاؤب، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) إسناده ضعيف وقد تقدم.

ومنها أنه أتى بالبراق ليلة الإسراء مسرجا ملجما،

قلت: أفرأيت قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ «1» الآية، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد- صلى الله عليه وسلم-. وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن فى شدة الحراسة إلا بعد مبعثه، وقيل: إن النجم كان ينقض ويرمى الشياطين ثم يعود إلى مكانه. ذكره البغوى. ومنها أنه أتى بالبراق ليلة الإسراء مسرجا ملجما، قيل كانت الأنبياء إنما تركبه عريانا. ومنها أنه أسرى به- صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى المحل الأعلى، وأراه من آيات ربه الكبرى، وحفظه فى المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وأحضر الأنبياء له وصلى بهم وبالملائكة إماما. وأطلعه على الجنة والنار. وعزيت هذه للبيهقى. ومنها: أنه رأى الله تعالى بعينيه «2» ، كما يأتى فى مقصد الإسراء- إن شاء الله تعالى-، وجمع الله له بين الكلام والرؤية، وكلمه تعالى فى الرفيع الأعلى، وكلم موسى بالجبل. ومنها أن الملائكة تسير معه حيث سار يمشون خلف ظهره وقاتلت معه- كما مر- فى غزوة بدر وحنين. ومنها: أنه يجب علينا أن نصلى ونسلم عليه، لآية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «3» إلى آخرها، ولم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم. ومنها: أنه أوتى الكتاب العزيز، وهو أمى لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة.

_ (1) سورة الجن: 9. (2) قلت: لم يثبت هذا، والصحيح أنه رأى جبريل على صورته التى خلقه الله عليها مرتين، مرة حين البعثة، والآخرى ليلة الإسراء، كما قال علماء التفسير عند قول الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى سورة النجم: 13. (3) سورة الأحزاب: 56.

ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف،

ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف، حتى سعى كثير من الملحدة والمعطلة لا سيما القرامطة فى تغييره وتبديل محكمه، فما قدروا على إطفاء شىء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلمه، ولا تشكيك المسلمين فى حرف من حروفه، قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «1» الآية. وكتابه يشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب، جامعا لأخبار القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، الذى قطع عمره فى تعلم ذلك. ويسر الله تعالى حفظه لمتعلميه، وقربه على متحفظيه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ «2» وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منها، فكيف بالجم الغفير على مرور السنين عليهم، والقرآن ميسر حفظه للغلمان فى أقرب مدة. ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف «3» تسهيلا علينا، وتيسيرا وشرفا ورحمة وخصوصية لفضلنا. ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «4» أى من التحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى فى صفة القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «5» ، وقوله: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «6» .

_ (1) سورة فصلت: 42. (2) سورة القمر: 17. (3) حديث النزول على سبعة أحرف، أخرجه البخارى (4992) فى فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومسلم (818) فى صلاة المسافرين، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-. (4) سورة الحجر: 9. (5) سورة فصلت: 42. (6) سورة النساء: 82.

فإن قلت: هذه الآية تنفى الاختلاف فيه، وحديث «أنزل القرآن على سبعة أحرف» المروى فى البخارى عن عمر، يثبته. فأجاب الجعبرى فى أول شرحه للشاطبية: بأن المثبت اختلاف تغاير، والمنفى اختلاف تناقض، فموردهما مختلف. انتهى. فإن قلت: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن فى الصحف، وقد وعد الله تعالى بحفظه، وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه؟ فالجواب: - كما قال الرازى- إن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال: وقال أصحابنا: وفى هذه الآية دلالة قوية على أن البسملة آية من أول كل سورة، لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا عن التغيير، وإلا لما كان محفوظا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لوجب أيضا أن يظن بهم النقصان. وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة. واختلف فيه، كيف يحفظ القرآن؟ فقال بعضهم: حفظه بأن يجعله معجزا مباينا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان منه، لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا منه تغير نظم القرآن، فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن. وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفاده، بل قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف. وقال آخرون: المراد بالحفظ هو أن أحدا لو حاول أن يغير بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: هذا كذب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير فى حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا، ولم يتفق لشىء، من الكتب مثل هذا الكتاب، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتغيير والتحريف، وقد صان الله تعالى هذا الكتاب العزيز عن جميع التحريف، مع أن دواعى الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده، وقد انقضى الآن ثمانية وتسعون سنة وثمانمائة سنة، وهو بحمد الله فى زيادة من الحفظ.

ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - خص باية الكرسى،

ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- خص باية الكرسى، وبالمفصل وبالمثانى، وبالسبع الطوال، كما فى حديث ابن عباس بلفظ: «وأعطيت خواتيم سورة البقرة من كنوز العرش، وخصصت به دون الأنبياء، وأعطيت المثانى مكان التوراة، والمئين مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور، وفضلت بالمفصل» . رواه أبو نعيم فى الدلائل. وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «1» ، وفى البخارى من حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-: «أم القرآن هى السبع المثانى والقرآن العظيم» «2» سائرة. واختلفوا: لم سميت مثانى، فعن الحسن وابن عباس وقتادة لأنها تثنى فى الصلاة، فتقرأ فى كل صلاة، وقيل لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين، نصفها ثناء ونصفها دعاء، كما فى حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» «3» . وقيل لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وعن مجاهد: لأن الله استثناها وادخرها لهذه الأمة، فما أعطاها غيرهم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن السبع المثانى هى السبع الطوال، أولها سورة البقرة، وآخرها سورة الأنفال مع التوبة، وقال بعضهم: سورة يونس بدل الأنفال: قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثانى لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر ثنيت فيها. وقال طاووس: القرآن كله مثانى، قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «4» ، وسمى القرآن مثانى لأن القصص ثنيت فيه والله أعلم.

_ (1) سورة الحجر: 87. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4/ 47) فى التفسير، باب: قوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. (3) صحيح: أخرجه مسلم (395) فى الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة. (4) سورة الزمر: 23.

ومنها: أنه أعطى مفاتيح الخزائن

ومنها: أنه أعطى مفاتيح الخزائن «1» . قال بعضهم: وهى خزائن أجناس العالم ليخرج لهم بقدر ما يطلبونه لذواتهم، فكل ما ظهر من رزق العالم فإن الاسم الإلهى لا يعطيه إلا عن محمد- صلى الله عليه وسلم- الذى بيده المفاتيح، كما اختص تعالى بمفاتيح الغيب فلا يعلمها إلا هو، وأعطى هذا السيد الكريم منزلة الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن. ومنها: أنه أوتى جوامع الكلم، فالكلم جمع كلمة، وكلمات الله تعالى لا تنفد، فالكلمة منه كلمات، ولما علم جوامع الكلم أعطى الإعجاز بالقرآن الذى هو كلام الله تعالى، وهو المترجم عن الله تعالى، فوقع الإعجاز فى الترجمة التى هى له، فإن المعانى المجردة عن المواد لا يتصور الإعجاز بها وإنما الإعجاز ربط هذه المعانى بصور الكلم القائم من نظم الحروف، فهو لسان الحق وسمعه وبصره. ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة، قال بعضهم: وهو من الكفت، وهو الضم، قال الله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً «2» تضم الأحياء على ظهرها، والأموتا فى بطنها، كذلك ضمت شريعته- صلى الله عليه وسلم- جميع الناس، فلا يسمع به أحد إلا لزمه الإيمان به، ولما سمع الجن القرآن يتلى قالوا: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ «3» الآية، فضمت شريعته الإنس والجن، وعمت رحمته التى أرسل بها العالم، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «4» ، فمن لم تنله رحمته فما ذلك من جهته، وإنما ذلك من جهة القابل. فهو كالنور الشمسى أفاض شعاعه على الأرض، فمن استتر عنه فى كنّ أو ظل جدار فهو الذى لم يقبل انتشار النور عليه، وعدل عنه، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع. انتهى.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1344) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ومسلم (2296) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا- صلى الله عليه وسلم-، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-. (2) سورة المرسلات: 25. (3) سورة الأحقاف: 31. (4) سورة الأنبياء: 107.

فإن قلت: إن نوحا كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، فإنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه، وقد كان مرسلا إليه، وقد جاء فى حديث جابر وغيره «وكان النبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود» «1» وفى رواية «إلى الناس كافة» . أجاب الحافظ ابن حجر، - رحمه الله تعالى-: بأن هذا العموم الذى حصل لنوح- عليه السّلام- لم يكن فى أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذى وقع، وهو انحصار الخلق فى الموجودين بعد هلاك سائر الناس. وأما نبينا- صلى الله عليه وسلم- فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك. وأما قول أهل الموقف لنوح- كما صح فى حديث الشفاعة-: إنه أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى فى عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم. واستدل بعضهم لعموم بعثته: بكونه دعا على جميع من فى الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «2» ، وقد ثبت أنه أول الرسل. وأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم فى أثناء مدة نوح، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم. فأجيب: وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ فى زمن نوح غيره. ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك بقاء شريعته. انتهى. وأما قول بعض اليهود: أن نبينا محمدا- صلى الله عليه وسلم- إنما هو مبعوث إلى العرب خاصة، ففاسد. والدليل عليه أنهم- أى اليهود- سلموا أنه رسول صادق إلى العرب، فوجب أن يكون كل ما يقوله حقّا، وقد ثبت بالتواتر أنه

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (335) فى التيمم، باب: وقول الله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.... ومسلم (521) فى المساجد، باب: رقم (1) . (2) سورة الإسراء: 15.

ومنها: نصره - صلى الله عليه وسلم - بالرعب مسيرة شهر

يدعى أنه رسول إلى كل الناس، فلو كذبوه فيه لزم التناقض، أشار إليه صاحب المعالم «1» . ومنها: نصره- صلى الله عليه وسلم- بالرعب مسيرة شهر «2» ، والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط، فهو أسرع قاطع، لعموم رعبه فى قلوب أعدائه، فلا يقبل الرعب إلا عدو مقصود ليتميز السعيد من الشقى، ومفهوم هذا: أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب فى هذه المدة، ولا فى أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: «ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بينى وبينهم مسيرة شهر» «3» فالظاهر اختصاصه به مطلقا. وإنما جعل الغاية شهرا، لأنه لم يكر بين بلده- صلى الله عليه وسلم- وبين أحد من أعدائه أكثر من شهر وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى ولو كان وحده بغير عسكر، وهل هى حاصلة لأمته من بعده، فيه احتمال. ومنها: إحلال الغنائم ولم تحل لأحد قبله. وقد كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له فى الجهاد، فلم تكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته «4» . قال بعضهم: أعطى- صلى الله عليه وسلم- ما يوافق شهوة أمته، لأن النفوس لها التذاذ بها، لكونها حصلت لهم عن غير قهر منهم لتحصيلها وغلبة، فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها فى مقابلة ما قاسوه من الشدة والتعب. ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا «5» ، والمراد: موضع

_ (1) يقصد كتاب «معالم السنن» للخطابى. (2) صحيح: وقد ثبت ذلك فى حديث أخرجه مسلم (221) فى المساجد، باب: رقم (1) من حديث جابر- رضى الله عنه-. (3) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 222) ، من حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما-. (4) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (3124) فى فرض الخمس، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أحلت لكم الغنائم» ، ومسلم (1747) فى الجهاد والسير، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (5) صحيح: وهو جزء من حديث جابر المتقدم قريبا.

ومنها: أن معجزته - صلى الله عليه وسلم - مستمرة إلى يوم القيامة،

سجود، أى لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازا عن المكان المبنى للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة فى جميعها كان كالمسجد فى ذلك. وقيل المراد: جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، وجعلت لغيرى مسجدا ولم تجعل له طهورا، لأن عيسى كان يسيح فى الأرض، ويصلى حيث أدركته الصلاة، قاله ابن التين ومن قبله الداودى. وقيل: إنما أبيح لهم فى موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة فأبيح لهم فى جميع الأرض، إلا فيما تيقنوا نجاسته. والأظهر: ما قاله الخطابى، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة فى أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ «وكان من قبلى إنما كانوا يصلون فى كنائسهم» وهذا نص فى موضع النزاع فتثبت الخصوصية. ويؤيده ما رواه البزار من حديث ابن عباس، نحو حديث جابر وفيه: ولم يكن من الأنبياء أحد يصلى حتى يبلغ محرابه قاله فى فتح البارى «1» . ومنها: أن معجزته- صلى الله عليه وسلم- مستمرة إلى يوم القيامة، ومعجزات سائر الأنبياء انقرضت لوقتها، فلم يبق إلا خبرها، والقرآن العظيم لم تزل حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة. ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة. قال القاضى عياض: أما كونها كثيرة فهذا القرآن وكله معجز، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض أئمة المحققين بسورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «2» أو آية فى قدرها، وذهب بعضهم: إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة، وذهب آخرون إلى أن كل جملة منتظمة منه معجزة، وإن كانت من كلمة أو كلمتين. قال القاضى: والحق ما ذكرناه أولا، لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «3» فهو أقل ما تحداهم به، مع ما ينصر هذا القول من نظر وتحقيق

_ (1) انظر «فتح البارى» (8/ 258) . (2) سورة الكوثر: 1. (3) سورة البقرة: 23.

ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين،

يطول بسطه. وإذا كان هذا، ففى القرآن من الكلمات نحو سبع وسبعين ألف كلمة ونيف على عدد بعضهم، وعدد كلمات إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ عشر كلمات، فيتجزأ القرآن على نسبة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أزيد من سبعة آلاف جزء، فكل واحد منها معجز فى نفسه، ثم إعجازه- كما تقدم- بوجهين. طريق بلاغته، وطريق نظمه، فصار فى كل جزء من هذا العدد معجزتان فتضاعف العدد من هذا الوجه، ثم فيه وجوه إعجاز أخر، من الإخبار بعلوم الغيب، فقد يكون فى السورة الواحدة من هذه التجزئة الإخبار عن أشياء من الغيب، كل خبر منها بنفسه معجز، فتضاعفت العدد كرة أخرى. ثم وجوه الإعجاز الآخر التى ذكرناها توجب التضعيف، هذا فى حق القرآن، فلا يكاد يأخذ العدد معجزاته، ولا يحوى الحصر براهينه، انتهى. ومن ذلك انشقاق القمر وتسليم الحجر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه- صلى الله عليه وسلم-، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك، كما ذكره ابن عبد السلام وغيره، وتقدم ما فيه من المباحث. ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، قال- صلى الله عليه وسلم-: «مثلى ومثل الأنبياء قبلى كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين» «1» . رواه البخارى ومسلم. ومنها: أن شرعه مؤبد إلى يوم الدين، وناسخ لجميع شرائع النبيين، وأنه أكثر الأنبياء تابعا كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «2» . رواه الشيخان من حديث أبى هريرة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3535) فى المناقب، باب: خاتم النبيين- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2286) فى الفضائل، باب: ذكر كونه- صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4981) فى فضائل القرآن، باب: كيف نزل الوحى، ومسلم (152) فى الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس.

ومنها: أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه،

ومنها: أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه، كما سيأتى تقريره- إن شاء الله تعالى-. ومنها: أنه أرسل إلى الجن اتفاقا، والدليل على ذلك قبل الإجماع: الكتاب والسنة، قال تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «1» ، وقد أجمع المفسرون على دخول الجن فى هذه الآية، وهو مدلول لفظها، فلا يخرج عنه إلا بدليل. وإن قيل إن الملائكة خارجون من ذلك فلا يضر، لأن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين، ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة. وقال تعالى فى الأحقاف: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ «2» ، فأمر بعضهم بعضا بإجابته دليل على أنه داع لهم، وهو معنى بعثته إليهم، إلى غير ذلك من الآيات. وأما السنة، ففى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «فضلت على الأنبياء بست» فذكر منها «وأرسلت إلى الخلق كافة» «3» فإنه يشمل الإنس والجن، وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل فلا يجوز. والكلام فيه كالكلام فى آية الفرقان [1] . فإن قلت: إن قوله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «4» وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «5» ظاهر فى اختصاص رسالته- صلى الله عليه وسلم- بالإنس، واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر. فالجواب: إن هذا إنما يتمشى على مذهب الدقاق القائل بأن مفهوم اللقب حجة، و «الناس» من قبيل اللقب، فإن المسألة المترجمة فى الأصول «بمفهوم اللقب» لا تختص باللقب بل الأعلام كلها وأسماء الأجناس كلها كذلك ما لم تكن صفة. و «الناس» اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له. فهذه

_ (1) سورة الفرقان: 1. (2) سورة الأحقاف: 31. (3) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (5230) فى المساجد، باب: رقم (1) . (4) سورة الأعراف: 158. (5) سورة سبأ: 28.

الآية ليس فيها أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم إلا على مذهب الدقاق، بل ولا يتم على مذهب التمسك بهذا المفهوم أيضا لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض آخر سواه فى تخصيص ذلك الاسم، وحيث ظهر غرض لا يقول بالمفهوم، بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض فى الآية التعميم فى جميع الناس، وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم، فلا يلزم نفى الرسالة عن غيرهم، لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره. وإنما خاطب الناس لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس، والتعميم فيهم لا النفى عن غيرهم، وهذا إذا قلنا إن لفظ الناس لا يشمل الجن، فإن قلنا إنه يشملهم فواضح. والخلاف فيه مبنى على الخلاف فى اشتقاق «الناس» ، هل هو من النوس، وهو الحركة، أو من الأنس ضد الوحشة؟ فإذا قلنا بالأول أطلق على الفريقين، ولكن استعماله فى الإنس أغلب، فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم، وإذا قلنا بالثانى فلا، لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن فى الآية إما ممتنع وإما قليل فلا يحمل عليه، وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها، لكنها لا تدل على خلافه. وأما قول الضحاك ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم، لقوله تعالى: مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ «1» فهو ظاهر الآية، لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك فى هذه الملة. وإنما محل الخلاف فى ذلك فى الملل المتقدمة خاصة، وأما فى هذه الملة فنبينا محمد، - صلى الله عليه وسلم- هو المرسل إليهم وإلى غيرهم، ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقا، ولا ينبغى أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع، على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس، ولم يكن من الجن قط رسول، لكن لما جمعوا مع الجن فى الخطاب صح ذلك. ونظيره: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» وهما يخرجان من الملح دون العذب، وقيل الرسل من الجن

_ (1) سورة الأنعام: 130. (2) سورة الرحمن: 22.

ومنها: أنه أرسل الملائكة

رسل الرسل من بنى آدم إليهم لا رسل الله، لقوله تعالى: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «1» ، قاله بعض العلماء. ومنها: أنه أرسل الملائكة فى أحد القولين، ورجحه السبكى. قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «2» ولا نزاع أن المراد بالعبد هاهنا محمد- صلى الله عليه وسلم-، والعالم هو ما سوى الله تعالى، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، وبطل بذلك قول من قال: إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض، لأن لفظ «العالمين» يتناول جميع المخلوقات، فتدل الآية على أنه رسول إلى جميع الخلق. ولو قيل لمدعى «خروج الملائكة من هذا العموم» أقم الدليل عليه ربما عجز عنه، فإنه يحتمل أن يكون من الملائكة من أنذره- صلى الله عليه وسلم- إما ليلة الإسراء وإما غيرها. لكن لا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم فى شىء خاص أن يكون بالشريعة كلها. وإذا قلنا إن الملائكة هم مؤمنو الجن السماوية، فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذى قام الإجماع عليه، لزم عموم الرسالة لهم، لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ. والجمهور: على أن «العالمين» فى آية الفرقان عام مخصوص بالجن والإنس كما فسر بهما حديث «وأرسلت إلى الخلق كافة» المروى فى مسلم. وصرح الحليمى والبيهقى- فى الباب الرابع من شعب الإيمان- بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يرسل إلى الملائكة، وفى الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه. وفى تفسير الإمام فخر الدين الرازى، والبرهان للنسفى: حكاية الإجماع فى تفسير آية الفرقان على أنه لم يكن رسولا إليهم، كما حكاه العلامة الجلال المحلى والله أعلم.

_ (1) سورة الأحقاف: 29. (2) سورة الفرقان: 1.

وعبارة النسفى: ثم إنهم قالوا هذه الآية تدل على أحكام: أولها: أن قوله: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «1» يتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة. لكنا أجمعنا على أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن رسولا إلى الملائكة، بل يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعا. وهو عبارة الإمام فخر الدين أيضا. وقد تعقب الجلال المحلى العلامة كمال الدين بن أبى شريف فقال: اعلم أن البيهقى نقل ذلك عن الحليمى، فإنه قال: هذا معنى كلام الحليمى، وفى قوله هذا إشعار التبرى من عهدته، وبتقدير أن لا إشعار فيه فلم يصرح بأنه مرضى عنده. وأما الحليمى فإنه وإن كان من أهل السنة فقد وافق المعتزلة فى تفضيل الملائكة على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-، وما نقله عنه موافق لقوله بأفضلية الملائكة، فلعله بناه عليه. وأما ما ذكره من حكاية الرازى والنسفى الإجماع على أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن مرسلا إليهم، فقد وقع فى نسخ من تفسير الرازى «لكنا بيّنا» بدل «أجمعنا» ، على أن قوله: «أجمعنا» ليس صريحا فى إجماع الأمة، لأن مثل هذه العبارة تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين، بل لو صرح به لمنع، فقد قال الإمام السبكى فى قوله: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً قال المفسرون كلهم فى تفسيرها للجن والإنس، وقال بعضهم وللملائكة، انتهى. وبالجملة: فالاعتماد على تفسير الرازى والنسفى فى حكاية إجماع انفردا بحكايته أمر لا ينتهض حجة على طريقة علماء النقل، لأن مدارك نقل الإجماع من كلام الأئمة وحفاظ الأمة كابن المنذر وابن عبد البر، ومن فوقهما فى الاطلاع كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة ومن يلحق بهم فى سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان لها من الشهرة عند علماء النقل ما يغنى عن بسط الكلام فيها. واللائق بهذه المسألة التوقف عن الخوض فيها على وجه يتضمن دعوى القطع فى شىء من الجانبين، انتهى.

_ (1) سورة الفرقان: 1.

ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين،

ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» قال السمرقندى: يعنى للجن والإنس، وقيل لجميع الخلق، رحمة للمؤمن بالهداية ورحمة للمنافق بالأمان من القتل. وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبى إذا كذب أهلك الله من كذبه، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- أخر من كذبه إلى الموت أو القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة فى الدنيا والآخرة، فذاته- صلى الله عليه وسلم- كما روى- رحمة تعم المؤمن والكافر كما قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «2» وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا رحمة مهداة» «3» رواه الدارمى والبيهقى من حديث أبى هريرة، وسيأتى فى المقصد السادس مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى-. والله الموفق. * ومنها: أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم فى القرآن، فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، يا زكريا، يا يحيى، يا عيسى، ولم يخاطب هو فيه إلا ب «يا أيها الرسول» «يا أيها النبى» «يا أيها المزمل» «يا أيها المدثر» . * ومنها: أنه حرم على الأمة نداءه باسمه، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «4» أى لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبى الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت، وقيل: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا فى جواز الإعراض والمساهلة فى الإجابة. * ومنها: أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ

_ (1) سورة الأنبياء: 107. (2) سورة الأنفال: 33. (3) تقدم. (4) سورة النور: 63.

* ومنها: أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات

آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «1» . قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ «2» كان أبو بكر لا يكلم النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا كأخى السرار «3» وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- ما كان يسمع كلام عمر حتى يستفهمه مما يخفض صوته «4» . وكان ثابت بن قيس فى أذنه وقر، وكان جهوريّا، فلما نزلت تخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فتفقده ودعاه، فقال: يا رسول الله لقد أنزلت عليك هذه الآية، وإنى رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملى قد حبط، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة» «5» . قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة فى حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الانكشاف وانهزمت طائفة منهم، فقاتل حتى قتل. * ومنها: أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ «6» ، إذ العقل يقتضى حسن الأدب ومراعاة الحشمة وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ «7»

_ (1) سورة الحجرات: 2. (2) سورة الحجرات: 2. (3) ذكره الحافظ فى «الفتح» (8/ 591) وقال: وهذا مرسل، وقد أخرجه الحاكم موصولا نحوه، وأخرجه ابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبى بكر، ولم يذكر عن أبيه. (4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4845) فى التفسير، باب: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنهما-. (5) صحيح: أخرجه البخارى (3613) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (119) فى الإيمان، باب: مخافة المؤمن أن يحبط عمله، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (6) سورة الحجرات: 4. (7) سورة الحجرات: 5.

* ومنها: أنه حبيب الله، وجمع له بين المحبة والخلة،

أى لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم- الموجبين للثناء والثواب. * ومنها: أنه حبيب الله، وجمع له بين المحبة والخلة، وسيأتى تحقيق ذلك وما فيه من المباحث فى آخر المقصد السابع، - إن شاء الله تعالى-. * ومنها: أنه تعالى أقسم على رسالته وبحياته وببلده وعصره ، كما سيأتى فى المقصد السادس، - إن شاء الله تعالى-. * ومنها: أنه كلم بجميع أصناف الوحى، كما نقل عن ابن عبد السلام وسبق تحقيقه في المبعث من المقصد الأول. * ومنها: أن إسرافيل هبط عليه، ولم يهبط على نبى قبله، أخرجه الطبرانى من حديث ابن عمر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لقد هبط علىّ ملك من السماء ما هبط على نبى قبلى، ولا يهبط على أحد بعدى، وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك أمرنى أن أخبرك إن شئت نبيّا عبدا، وإن شئت نبيّا ملكا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إلى أن تواضع، فلو أنى قلت نبيّا ملكا، لسارت الجبال معى ذهبا» «1» . * ومنها: أنه سيد ولد آدم، رواه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» «2» وعند الترمذى من حديث أبى سعيد الخدرى «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر» «3» . وإنما قال ذلك إخبارا عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد، وتحدثا بنعمة الله عنده، وإعلاما لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله: «ولا فخر» أى إن هذه الفضيلة التى نلتها كرامة من الله، لم أنلها من قبل نفسى، ولا بلغتها بقوتى، فليس لى أن أفتخر بها.

_ (1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (12/ 348) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 19) وقال: وفيه يحيى بن عبد الله البابلتى، وهو ضعيف. (2) تقدم. (3) تقدم.

* ومنها: أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،

* ومنها: أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال الله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» . قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- أنه أخبره الله تعالى بالمغفرة ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، ويدل له قولهم فى الموقف: «نفسى نفسى» . وقال ابن كثير فى تفسير هذه الآية- يعنى آية الفتح- لم يشاركه فيها غيره. وقد أخرج أبو يعلى والطبرانى والبيهقى عن ابن عباس قال: إن الله فضل محمدا- صلى الله عليه وسلم- على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا: فما فضله على أهل السماء، قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «2» وقال لمحمد- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فقد كتب له براءة، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «3» وقال لمحمد: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «4» ، فأرسله إلى الإنس والجن. * ومنها: أنه أكرم الخلق على الله ، فهو أفضل من كل المرسلين، وجميع الملائكة المقربين، وسيأتى الجواب عن قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث ابن عباس، عند مسلم: «ما ينبغى لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» «5» ونحو ذلك فى المقصد السادس- إن شاء الله تعالى-. * ومنها: إسلام قرينه. رواه مسلم من حديث ابن مسعود، والبزار من حديث ابن عباس.

_ (1) سورة الفتح: 2. (2) سورة الأنبياء: 29. (3) سورة إبراهيم: 4. (4) سورة سبأ: 28. (5) صحيح: أخرجه البخارى (3396) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، ومسلم (2377) فى الفضائل، باب: فى ذكر يونس- عليه السّلام-.

* ومنها: أنه لا يجوز عليه الخطأ،

* ومنها: أنه لا يجوز عليه الخطأ، كما ذكره ابن أبى هريرة والماوردى: وقال قوم: ولا النسيان، حكاه النووى فى شرح مسلم. * ومنها: أن الميت يسأل عنه- ص فى قبره ، فعن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «وأما فتنة القبر فبى يفتنون وعنى يسألون، فإذا كان الرجل أجلس، فيقال له ما هذا الرجل الذى كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله» «1» . الحديث رواه أحمد والبيهقى. * ومنها: أنه حرم نكاح أزواجه من بعده، قال الله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «2» أى هن فى الحرمة كالأمهات، حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية، ولأنهن أزواج له فى الآخرة، وهذا فى غير المخيرات، فمن اختارت منهن الدنيا ففى حلها للأزواج طريقان: أحدهما طرد الخلاف، والثانى: القطع بالحل واختاره الإمام «3» والغزالى. وأزواجه اللاتى توفى عنهن محرمات على غيره أبدا، وفى جواز النظر إليهن وجهان: أشهرهما المنع، ويثبت لهن حكم الأمومة فى احترامهن وطاعتهن وتحريم نكاحهن، لا فى جواز الخلوة بهن والنفقة عليهن والميراث. ولا يتعدى ذلك إلى غيرهن فلا يقال بناتهن أخوات للمؤمنين على الأصح. وقيل: إنما حرمن لأنه- صلى الله عليه وسلم- حى فى قبره، ولذا حكى الماوردى أنه لا يجب عليهن عدة الوفاة. وفى التى فارقها فى الحياة- كالمستعيذة- والتى رأى بكشحها بياضا- أوجه: أحدها، يحرمن أيضا، وهو الذى نص عليه الشافعى وصححه فى الروضة، لعموم الآية، وليس المراد بمن بعده بعدية الموت بل بعدية النكاح. وقيل: لا. والثالث: وصححه إمام الحرمين والرافعى فى الصغير: تحريم المدخول بها فقط، لما روى أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة فى زمن عمر، فهم عمر برجمه فأخبر أنها لم تكن مدخولا بها فكف. وفى أمة فارقها بعد وطئها أوجه ثالثها: تحرم إن فارقها بالموت- كمارية- ولا تحرم إن باعها فى الحياة. انتهى.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 139) ، وأصله فى الصحيح. (2) سورة الأحزاب: 6. (3) يقصد: إمام الحرمين، الإمام الجوينى.

* ومنها: ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به

* ومنها: ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به وليس ذلك لغيره، قال ابن عبد السلام: وهذا ينبغى أن يكون مقصورا على النبى- صلى الله عليه وسلم-، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا فى درجته، وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته «1» ، انتهى. * ومنها: أنه يحرم رؤية أشخاص أزواجه فى الأزر، وكذا يحرم كشف وجوههن وأكفهن لشهادة أو غيرها، كما صرحه به القاضى عياض، وعبارته: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف فى الوجه والكفين، فلا يجوز كشف ذلك فى شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستقرات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز، ثم استدل بما فى الموطأ، أن حفصة لما توفى عمر- رضى الله عنه- سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها لتستر شخصها. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، فقد كن بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص. انتهى. وأما حكم نظر غير أزواجه ففى الروضة وأصلها عن الأكثرين: جواز النظر إلى وجه حرة كبيرة أجنبية وكفيها إذا لم يخف فتنة، مع الكراهة، وقوة كلام الشيخين: الرافعى والنووى تقتضى رجحانه، وصوبه فى «المهمات»

_ (1) قلت: روى الترمذى (3578) ، وابن ماجه (1385) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 138) عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله أن يعافينى. قال: «إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك» ، قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، إنى توجهت بك إلى ربى فى حاجتى هذه لتقضى لى، اللهم فشفعه فى» . ا. هـ إلا أن العلماء قد ذكروا أن هذا من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- حال حياته، لأن السائل قال: فشفعه فى، بمعنى: اقبل شفاعته (دعاءه) فى.

* ومنها: أن أولاد بناته ينسبون إليه،

لتصريح الرافعى فى الشرح بأن الأكثرين عليه، لكن نقل ابن العراقى أن شيخه البلقينى قال: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما فى المنهاج، وقد جزم به فى «التدريب» ، وقوة كلام الشرح الصغير تقتضى رجحانه، وعلله باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات. ونقلا فى «الروضة» و «أصلها» هذا الاتفاق وأقراه. وعورض: بنقل القاضى عياض عن العلماء مطلقا: أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها فى الطريق، وإنما هو سنة، وعلى الرجال غض البصر، وحكاه عنه النووى فى شرح مسلم وأقره. قاله الشيخ نجم الدين ابن قاضى عجلون فى تصحيح المنهاج والله أعلم. وكان النكاح فى حقه- صلى الله عليه وسلم- عبادة مطلقا، كما قاله السبكى، وهو فى حق غيره ليس بعبادة عندنا، بل من المباحات، والعبادة عارضة له. * ومنها: أن أولاد بناته ينسبون إليه، قال- صلى الله عليه وسلم- فى الحسن: «إن ابنى هذا سيد» «1» رواه أبو يعلى. * ومنها: أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا سببه ونسبه. قال- صلى الله عليه وسلم-: «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببى ونسبى» «2» . والنسب بالولادة والسبب بالزواج. قيل: إن أمته ينتفعون بالنسبة إليه يوم القيامة بخلاف أمة غيره. * ومنها: أنه لا يتزوج على بناته. فعن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر يقول: «إن بنى هاشم بن المغيرة استأذنونى فى أن ينكحوا ابنتهم على بن أبى طالب، فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبى طالب أن طلق ابنتى وينكح ابنتهم، فإنما ابنتى بضعة

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 153) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» ، (7/ 63 و 64 و 114) ، والطبرانى فى «الكبير» (3/ 44 و 45) ، من حديث عمر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (4527) .

منى يريا بنى ما رابها، ويؤذينى ما آذاها» «1» أخرجه الشيخان، وصححه الترمذى. وعنه (أن على بن أبى طالب خطب بنت أبى جهل، وعنده فاطمة بنت النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا على ناكح ابنة أبى جهل. قال المسور: فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- فسمعته حين تشهد قال: «أما بعد فإنى أنكحت أبا العاصى بن الربيع، فحدثنى فصدقنى، وإن فاطمة بنت محمد بضعة منى، وإنما أكره أن يفتنوها، وإنه والله لا تجتمع بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا» . قال: فترك على الخطبة) «2» : أخرجه الشيخان. واسم بنت أبى جهل هذه: جويرية، أسلمت وبايعت، وتزوجها عتاب ابن أسيد، ثم أبان بن سعيد بن العاصى. قال أبو داود: حرم الله تعالى على على أن ينكح على فاطمة فى حياتها، بقوله عز وجل: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «3» . وذكر الشيخ أبو على السنجى، فى شرح التلخيص: أنه يحرم التزوج على بنات النبى- صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون ذلك خاصّا بفاطمة- رضى الله عنها-، وقد علل- صلى الله عليه وسلم- بأن ذلك يؤذيه، وإذايته- صلى الله عليه وسلم- حرام بالاتفاق، وفى هذا تحريم أذى من يتأذى النبى- صلى الله عليه وسلم- بتأذيه، لأن إيذاء النبى- صلى الله عليه وسلم- حرام اتفاقا، قليله وكثيره. وقد جزم- صلى الله عليه وسلم- بأنه يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل من وقع منه فى حق فاطمة شىء فتأذت به فهو يؤذى النبى- صلى الله عليه وسلم- بشهادة هذا الخبر الصحيح.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5230) فى النكاح، باب: ذب الرجل عن ابنته فى الغيرة والإنصاف، ومسلم (2449) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3729) فى المناقب، باب: ذكر أصهار النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2449) فيما تقدم. (3) سورة الحشر: 7.

ومنها: أنه لا يجتهد فى محراب صلى إليه يمنة ولا يسرة،

وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة على النبى- صلى الله عليه وسلم- أقرب إلى خشية الافتتان فى الدين، ومع ذلك فكان- صلى الله عليه وسلم- يستكثر من الزوجات، وتوجد منهن الغيرة، ومع ذلك ما راعى- صلى الله عليه وسلم- ذلك فى حقهن، كما راعاه فى حق فاطمة؟ وأجيب: بأن فاطمة كانت إذ ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها ويزيل وحشتها من أم أو أخت، بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك، وزيادة عليه وهو زوجهن- صلى الله عليه وسلم- لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخواطر، بحيث إن كل واحدة منهن ترضى منه لحسن خلقه وجميل خلقه جميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قرب. ومنها «1» : أنه لا يجتهد فى محراب صلى إليه يمنة ولا يسرة، وأفتى شيخ الإسلام أبو زرعة ابن العراقى فى شخص امتنع من الصلاة إلى محراب النبى- صلى الله عليه وسلم- وقال: أنا أجتهد وأصلى، بأنه إن فعل ذلك مع الاعتراف بأنه على ما كان فى زمن النبى- صلى الله عليه وسلم- فهو ردة، وإن ذكر تأويلا بأن قال: ليس هو الآن على ما كان عليه فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- بل غير عما كان عليه، فهذا سبب اجتهادى، لم يحكم بردته، وإن لم يكن هذا التأويل صحيحا. ومنها: أن من رآه فى المنام فقد رآه حقّا فإن الشيطان لا يتمثل به. وفى رواية مسلم «من رآنى فى المنام فسيرانى فى اليقظة أو لكأنما رآنى فى اليقظة، لا يتمثل الشيطان بى» «2» . قال الحافظ ابن حجر: ووقع عند الإسماعيلى: «فقد رآنى فى اليقظة» بدل قوله «فسيرانى» ومثله عند ابن ماجه وصححه الترمذى من حديث ابن مسعود «3» . وفى رواية أبى قتادة- عند مسلم أيضا-

_ (1) ومنها هنا عائدة على خصائصه- صلى الله عليه وسلم- التى هى موضوع هذا الباب. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6993) فى التعبير، باب: من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، ومسلم (2266) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (2276) فى الرؤيا، باب: ما جاء فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» ، وابن ماجه (3900) فى تعبير الرؤيا، باب: رؤية النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

«من رآنى فقد رأى الحق» «1» . وله أيضا من حديث جابر «من رآنى فى المنام فقد رآنى، فإنه لا ينبغى للشيطان أن يتمثل فى صورتى» «2» وفى رواية «من رآنى فى المنام فقد رآنى فإنه لا ينبغى للشيطان أن يتشبه بى» . وفى حديث أبى سعيد عند البخارى «فإن الشيطان لا يتكوننى» «3» أى لا يتكون كونى، فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل. وفى حديث أبى قتادة عند البخارى «لا يتراءى بى» «4» بالراء، بوزن يتعاطى، ومعناه: لا يستطيع أن يتمثل بى، يعنى أن الله تعالى وإن أمكنه من التصور فى أى صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور فى صورة النبى- صلى الله عليه وسلم-. وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا فى الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائى على صورته التى كان عليها، ومنهم من ضيق الذرع فى ذلك حتى قال: لابد أن يراه على صورته التى قبض عليها، حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التى لم تبلغ عشرين شعرة. وعن حماد بن زيد قال: كان محمد- يعنى ابن سيرين- إذا قص عليه رجل أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: صف الذى رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تره، وسنده صحيح. وقد أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب: حدثنى أبى قال: قلت لابن عباس، رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، قال: صفه لى، قال: فذكرت الحسن بن على فشبهته به، قال: قد رأيته، وسنده جيد. لكن يعارضه: ما أخرجه ابن أبى عاصم من وجه آخر عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى، فإنى أرى فى كل

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6996) فى التعبير، باب: من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، ومسلم (2261) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2268) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» . (3) صحيح: أخرجه البخارى (6997) فى التعبير، باب: من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام. (4) صحيح: وقد تقدم حديث أبى قتادة قبل حديثين.

صورة» «1» وفى سنده ابن التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط. قال القاضى أبو بكر بن العربى: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثال. قال: وقد شذ بعض القدرية فقال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلا. قال وقوله: «فسيرانى» معناه فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق وغيب، وأما قوله «فكأنما رآنى» فهو تشبيه ومعناه: أنه لو رآنى فى اليقظة لطابق ما رآه فى المنام، فيكون الأول حقّا وحقيقة، والثانى حقّا وتمثيلا. قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة، فإن رآه على خلاف صفته فهى أمثال. فإن رآه مقبلا عليه مثلا فهو خير للرائى، وعلى العكس فبالعكس. وقال القاضى عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله «فقد رآنى» أو «فقد رأى الحق» أن من رآه على صورته المعروفة فى حياته كانت رؤياه حقّا، ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل، انتهى. وتعقبه النووى فقال: هذا ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها، انتهى. وتعقبه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فقال: لم يظهر لى من كلام القاضى عياض ما ينافى ذلك، بل ظاهر قوله أنه يراه حقيقة فى الحالين، لكن فى الأولى تكون الرؤيا مما لا يحتاج إلى تعبير، والثانية: مما يحتاج إلى التعبير. وقال بعضهم؛ معناه، أن من رآه [رآه] «2» على صورته التى كان عليها. ويلزم من قول من قال: «إنه لا تكون رؤيته إلا على صورته المعلومة» أن من

_ (1) إسناده ضعيف: ذكره الحافظ فى «الفتح» (12/ 384) وقال: وفى سنده صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط، ا. هـ. قلت: والروايات السابقة أيضا ذكرها الحافظ ابن حجر فى نفس الموضع. (2) زيادة من المصدر السابق، وهى صحيحة.

رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من أضغاث الأحلام. ومن المعلوم أنه يرى فى النوم على حالة بخلاف حالته فى الدنيا من الأحوال اللائقة به، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشىء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله: «فإن الشيطان لا يتمثل بى» فالأولى أن ننزه رؤياه، وكذا رؤيا شىء منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك، فإنه أبلغ فى الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان فى يقظته، فالصحيح فى تأويل هذا الحديث: أن مقصوده أن رؤيته فى كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثا، بل هى حق فى نفسها، ولو رؤى على غير صورته، فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان، بل هو من قبل الله، وهذا قول القاضى أبى بكر الطيب وغيره. ويؤيده قوله: «فقد رأى الحق» أشار إليه القرطبى. وقال ابن بطال: قوله: «فسيرانى فى اليقظة» يريد تصديق تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها وخروجها على الحق، وليس المراد أنه يراه فى الآخرة، لأنه سيراه يوم القيامة فى اليقظة جميع أمته، من رآه فى النوم ومن لم يره. وقال المازرى: إن كان المحفوظ «فكأنما رآنى فى اليقظة» فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ «فسيرانى فى اليقظة» احتمل أن يكون أراد أهل عصره ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذ رآه فى المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك فى اليقظة، وأوحى الله بذلك إليه- صلى الله عليه وسلم-. وقيل معناه: سيرى تأويل تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها. وأجاب القاضى عياض: باحتمال أن تكون رؤياه له فى النوم على الصفة التى عرف بها، ووصف عليها، موجبة لتكرمته فى الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، أو الشفاعة له، بعلو الدرجة ونحو ذلك من الخصوصيات. قال: ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين فى القيامة بمنع رؤية نبيه- صلى الله عليه وسلم- مدة. وحمله ابن أبى جمرة على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس أو غيره، أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى النوم، فبقى بعد اليقظة متفكرا فى هذا الحديث،

فدخل على بعض أمهات المؤمنين- لعلها خالته ميمونة- فأخرجت له المرآة التى كانت للنبى- صلى الله عليه وسلم- فنظر فيها صورة النبى- صلى الله عليه وسلم- ولم ير صورة نفسه. وقال الغزالى: ليس معنى قوله: «فقد رآنى» أنه رأى جسمى وبدنى وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذى فى نفسى إليه، وكذلك قوله: «فسيرانى فى اليقظة» ليس المراد أنه يرى جسمى وبدنى. قال: والآلة تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق. قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى فى المنام، فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهى تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك المثال آلة حقّا فى كونه واسطة فى التعريف، فيقول الرائى: رأيت الله عز وجل فى المنام، لا يعنى أنى رأيت ذات الله تعالى، كما يقول فى حق غيره. وقال الغزالى أيضا فى بعض فتاويه: من رأى الرسول- يعنى فى المنام- لم ير حقيقة شخصه المودع روضة المدينة، وإنما رأى مثاله لا شخصه، ثم قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة والشكل. وقال الطيبى: المعنى من رآنى فى المنام بأى صفة كنت فليبشر وليعلم أنه قد رآنى الرؤيا الحق، أى رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله: «فقد رآنى» فالشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الغاية فى الكمال، أى فقد رآنى رؤيا ليس بعدها شىء. والحاصل من الأجوبة: أنه على التشبيه والتمثيل ويدل عليه قوله «فكأنما رآنى فى اليقظة» . ثانيها: معناه، سيرى فى اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة. ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.

رابعها: المراد أنه فى المرآة التى كانت له إن أمكنه ذلك، قال شيخ مشايخنا الحافظ ابن حجر: وهذا من أبعد المحامل. خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من رآه حينئذ ممن لم يره فى المنام. والصواب كما قدمناه فى رؤيته- صلى الله عليه وسلم- التعميم، على أى حالة رآه الرائى بشرط أن يكون على صورته الحقيقية فى وقت ما، سواء كان فى شبابه أو رجوليته أو كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائى، كما قال بعض علماء التعبير: إن من رآه شيخا فهو غاية سلم، ومن رآه شابّا فهو غاية حرب. وقال أبو سعيد أحمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيّا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح الرائى وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسا مثلا فذلك دال على سوء حال الرائى. وقال العارف ابن أبى جمرة: من رآه فى صورة حسنة فذاك حسن فى دين الرائى، وإن كان فى جارحة من جوارحه شين أو نقص فذلك خلل فى الرائى من جهة الدين. قال: وهذا هو الحق. وقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى فى رؤياه حتى يتبين للرائى هل عنده خلل أو لا؟ لأنه- صلى الله عليه وسلم- نورانى مثل المرآة الصقيلة، ما كان فى الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها، وفى ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها، كذلك يقال فى كلامه- صلى الله عليه وسلم- فى النوم: أنه يعرض على سنته، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل فى سمع الرائى، فرؤيا الذات الكريمة حق، والخلل إنما هو فى سمع الرائى له أو بصره، قال: وهذا غير ما سمعته فى ذلك، انتهى. وقال بعضهم: ليست رؤيته- صلى الله عليه وسلم- رؤيا عين، إنما يرى بالبصائر، وذلك لا يستدعى حصر المرئى بل يرى من المشرق إلى المغرب ومن الأرض إلى العرش، كما ترى الصورة فى المرآة المحاذية لها، وليست الصورة منتقلة إلى جرم المرآة، وعين الناظر مقابلة جميع الكائنات كالمرآة.

واختلاف رؤيته- صلى الله عليه وسلم- بأن يراه بعضهم شيخا وآخر شابّا، وآخر ضاحكا وآخر باكيا، يرجع إلى حال الرائين، كاختلاف الصورة الواحدة فى مرائى مختلفة الأشكال والمقادير، ففى الكبيرة يرى وجهه كبيرا، وفى الصغيرة صغيرا، وفى المعوجة معوجّا، وفى الطويلة طويلا، إلى غير ذلك، فالاختلاف راجع إلى اختلاف أشكال المرائى، لا إلى وجه الرائى. كذلك الراؤون له- صلى الله عليه وسلم- أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة، فمن رآه متبسما إليه دل على أن الرائى متمسك بسنته، والله أعلم. وقد أجاب الشيخ بدر الدين الزركشى عن سؤال رؤية جماعة له- صلى الله عليه وسلم- فى آن واحد من أقطار متباعدة، مع أن رؤيته- صلى الله عليه وسلم- حق: بأنه- صلى الله عليه وسلم- سراج، ونور الشمس فى هذا العالم، مثال نوره فى العوالم كلها، وكما أن الشمس يراها كل من فى المشرق والمغرب فى ساعة واحدة وبصفات مختلفة فكذلك النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولله در القائل: كالبدر من أى النواحى جئته ... يهدى إلى عينيك نورا ثاقبا وأما رؤيته- صلى الله عليه وسلم- فى اليقظة بعد موته- صلى الله عليه وسلم- فقال شيخنا: لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة، ولا عن من بعدهم. وقد اشتد حزن فاطمة عليه- صلى الله عليه وسلم- حتى ماتت كمدا بعده بستة أشهر- على الصحيح- وبيتها مجاور لضريحه الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته فى المدة التى تأخرت عنه. وإنما حكى بعض الصالحين حكايات عن أنفسهم، كما هو فى «توثيق عرى الإيمان» للبارزى و «بهجة النفوس» لأبى محمد عبد الله بن جمرة، و «روض الرياحين» للعفيف اليافعى، وغيره من تصانيفه، والشيخ صفى الدين ابن أبى المنصور فى رسالته. وعبارة ابن أبى جمرة: قد ذكر عن السلف والخلف إلى هلم جرّا عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث يعنى «من رآنى فى المنام فسيرانى فى اليقظة» أنهم رأوه- صلى الله عليه وسلم- فى النوم فرأوه بعد ذلك فى اليقظة، وسألوه عن

أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التى منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص. ثم قال: والمنكر لهذا لا يخلو إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء، أو لا، فإن كان الثانى فقد سقط البحث معه، فإنه مكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وإن كان الأول فهذه منها، لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة فى أشياء فى العالمين العلوى والسفلى عديدة مع التصديق بذلك «1» . وقال الشيخ ابن أبى المنصور فى رسالته، ويقال: إن الشيخ أبا العباس القسطلانى دخل مرة على النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أخذ الله بيدك يا أحمد» . وعن الشيخ أبى السعود قال: وكنت أزور شيخنا أبا العباس وغيره من صلحاء مصر فلما انقطعت واشتغلت وفتح على، لم يكن لى شيخ إلا النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان يصافحه عقب كل صلاة. وقال الشيخ أبو العباس الحراز: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- مرة فوجدته يكتب مناشير الأولياء بالولاية، قال: وكتب لأخى محمد معهم منشورا، فقلت: يا رسول الله، ما تكتب لى كأخى؟ قال: «أتريد أن تكون فمهارا» وهذه لغة أندلسية، تعنى طريقا، وفهم عنه أن له مقاما غير هذا. وقال حجة الإسلام الغزالى فى كتابه «المنقذ من الضلال» : وهم- يعنى

_ (1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى «مجموع الفتاوى» (13/ 91) : وهذه رؤية فى المنام وأما فى اليقظة فمن ظن أن أحدا من الموتى يجىء بنفسه للناس عيانا قبل القيامة فمن جهله أتى، ومن هنا ضلت النصارى حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب- كما يظنون- أنه أتى إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم وهذا مذكور فى أناجيلهم وكلها تشهد بذلك، وذاك الذى جاء كان شيطانا قال: أنا المسيح، ولم يكن هو المسيح نفسه، ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين، كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين، ولكن ما أخبرهم المسيح قبل أن يرفع بتبليغه فهو الحق الذى يجب عليهم تبليغه، ولم يرفع حتى بلغ رسالات ربه، فلا حاجة إلى مجيئه بعد أن رفع إلى السماء. اه. قلت: وكذلك الحال مع نبينا- صلى الله عليه وسلم- لا يجىء لأحد بعد موته فى الحياة الدنيا، ولو كان ذلك حقّا لجاء إلى أناس لا خلاف على كراماتهم كأصحابه.

أرباب القلوب- فى يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد. انتهى. ورأيت فى كتاب المنح الإلهية فى مناقب السادة الوفائية عن سيدى على ابن سيدى محمد وفا أنه قال فى بعض مشاهده: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب، فأتيته يوما فرأيت إنسانا يقرأ عليه سورة الضُّحى «1» وصحبته رفيق له وهو يلوى شدقيه بالإمالة، ورفيقه يضحك إعجابا، فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقظة لا مناما وعليه قميص أبيض قطن، ثم رأيت القميص على فقال لى: اقرأ فقرأت عليه سورة وَالضُّحى وأَ لَمْ نَشْرَحْ ثم غاب عنى، فلما بلغت إحدى وعشرين أحرمت بصلاة الصبح بالقرافة فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- قبالة وجهى فعانقنى فقال لى: وأما بنعمة ربك فحدث، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت. انتهى. وأما ما حكاه الشيخ تاج الدين بن عطاء الله فى «لطائف المنن» عن الشيخ أبى العباس المرسى، أنه كان مع الشيخ أبى الحسن الشاذلى بالقيروان فى ليلة الجمعة سابع عشرى رمضان، فذهب معه إلى الجامع.. الحكاية، إلى أن قال: ورأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: «يا على طهر ثيابك من الدنس تحط بمدد الله فى كل نفس إلخ» ، فيحتمل أن يكون مناما. وكذلك قول الشيخ قطب الدين القسطلانى: كنت أقرأ على أبى عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبى بالمدينة النبوية، فجئته يوما فى وقت خلوة، وأنا يومئذ حديث السن فخرج إلى وقال لى: من أدبك بهذا الأدب؟ وعاب على، قال: فذهبت وأنا منكسر الخاطر، فدخلت المسجد وقعدت عند قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-، فبينا أنا جالس على تلك الحال، فإذا بالشيخ قد جاءنى وقال: قم، فقد جاء فيك شفيع لا يرد. ونحوه: ما حكاه السهروردى فى «عوارف المعارف» عن الشيخ

_ (1) سورة الضحى: 1.

وبالجملة:

عبد القادر الكيلانى أنه قال: ما تزوجت حتى قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تزوج» «1» . وحكى عن السيد نور الدين الإيجى، والد السيد عفيف الدين، أنه فى بعض زياراته للنبى- صلى الله عليه وسلم- سمع جواب سلامه من داخل القبر الشريف: عليك السلام يا ولدى. وقال البدر حسن بن الأهدل فى مسألة الرؤية له: إن وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار، وصار العلم بذلك قويّا، انتفى عنه الشك، ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له شبهة فيه، ولكن يقع لهم ذلك فى بعض غيبة حسّ وغموض طرف، لورود حالة لا تكاد تضبطها العبارة. ومراتبهم فى الرؤية متفاوتة، وكثيرا ما يغلط فيها رواتها، فقل ما تجد رواية متصلة صحيحة عمن يوثق به. وأما من لا يوثق به فقد يكذب، وقد يرى مناما، أو فى غيبة حس، فيظنه يقظة، وقد يرى خيالا ونورا فيظنه الرسول، وقد يلبس عليه الشيطان فيجب التحرز فى هذا الباب. وبالجملة: فالقول برؤيته- صلى الله عليه وسلم- بعد موته بعين الرأس فى اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول، لاستلزامه خروجه- صلى الله عليه وسلم- من قبره، ومشيه فى الأسواق ومخاطبته للناس ومخاطبتهم له، وخلو قبره عن جسده المقدس، فلا يبقى منه فيه شىء، وبحيث يزار مجرد القبر، ويسلم على غائب. أشار إلى ذلك القرطبى فى الرد القائل: بأن الرائى له فى المنام راء حقيقة، ثم يراه كذلك فى اليقظة. قال: وهذه جهالات لا يقول بشىء منها من له أدنى مسكة من المعقول، وملتزم شىء من ذلك مختل مخبول. وقال: القاضى أبو بكر بن العربى: وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعينى الرأس حقيقة. وقال فى

_ (1) قلت: أولم يسمع قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... الحديث» ، حتى ينتظر مثل هذا الأمر!.

فتح البارى- بعد أن ذكر كلام ابن أبى جمرة-: وهذا مشكل جدّا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة. وللشيخ مسلم شيخ الطائفة المسلمية شعر: فمن يدعى فى هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقّا فقد فاه مشتطا ولكن بين النوم واليقظة التى ... يباشر هذا الأمر مرتبة وسطا وقد جعل القاضى أبو بكر بن العربى القول بأن الرؤية فى المنام بعينى الرأس غلو وحماقة، ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين، وهو القول بأنها مدركة بعينين فى القلب، وأنه ضرب من المجاز انتهى. فلا يمتنع من الخواص، أرباب القلوب القائمين بالمراقبة والتوجه على قدم الخوف، بحيث لا يسكنون بشىء مما يقع لهم من الكرامات، فضلا عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعى فى التخلص من الكدورات، والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أنه يخرج من أهله وماله، وأنه يرى النبى- صلى الله عليه وسلم-، كالشيخ عبد القادر الكيلانى: أن يتمثل صورته- صلى الله عليه وسلم- فى خاطره، ويتصور فى عالم سره أنه يكلمه، بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإن تزلزل أو اضطراب كان لمة من الشيطان، وليس ذلك خادشا فى علو مناصبهم لعدم عصمة غير الأنبياء. فقد قال العلامة التاج ابن السبكى فى جمع الجوامع- تبعا لغيره-: وإن الإلهام ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره، وحينئذ فمن قال- ممن حكينا عنه أو غيرهم- بأن المرئى هو المثال، لا يمتنع حمله على هذا، بل حمل كل من أطلق عليه هو اللائق. وقريب منه قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنى رأيت الجنة والنار» «1» مع مزيد استبعاده هناك أن يكون المراد بالرؤية رؤية العلم.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (749) فى الأذان، باب: رفع البصر إلى الإمام فى الصلاة، ومسلم (426) فى الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوها من حديث أنس- رضى الله عنه-.

ويحكى عن الشيخ أبى العباس المرسى أنه قال: لو حجب عنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طرفة عين ما عددت نفسى من المسلمين. وعلى هذا فيكون معنى «فسيرانى فى اليقظة» أى يتصور مشاهدتى وتنزل نفسه حاضرا معى بحيث لا يخرج عن آدابه وسنته- صلى الله عليه وسلم- بل يسلك منهاجه ويمشى على شريعته وطريقته. ومنه قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه» «1» ويحمل العموم فى «من رآنى» على الموفقين، وإليه يشير قول بعض المعتمدين: أى من رآنى رؤية معظم لحرمتى ومشتاق لمشاهدتى وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه. وقريب منه قول شارح المصابيح: أو يراه فى الدنيا حالة الذوق والانسلاخ عن العوائق الجسمانية، كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه فى حالة الذوق والشوق، وقد قال الأهدل عقب الحكاية عن الشيخ أبى العباس المرسى: وهذا فيه تجوز يقع مثله فى كلام الشيوخ، وذلك أن المراد أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان لدوام المراقبة واستحضارها فى الأعمال والأقوال، ولم يرد أنه لم يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين، فذلك مستحيل، والله أعلم. انتهى. ومما اختص به- صلى الله عليه وسلم- أن التسمى باسمه ميمون ونافع فى الدنيا والآخرة. روينا عن أنس بن مالك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يوقف عبدان بين يدى الله تعالى فيؤمر بهما إلى الجنة فيقولان: ربنا بما استأهلنا الجنة ولم نعمل عملا تجازينا به الجنة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة، فإنى آليت على نفسى أن لا يدخل النار من اسمه أحمد ولا محمد» «2» .

_ (1) صحيح: وهو جزء من حديث جبريل فى سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وقد تقدم، إلا أن هذا التأويل بعيد، ولا يصح، والله أعلم. (2) موضوع: ذكره صاحب «فيض القدير شرح الجامع الصغير» وعزاه لابن سعد عن عثمان العمرى مرسلا والحديث ذكره ابن الجوزى فى «الموضوعات» (1/ 157) ، والسيوطى فى «اللآلئ المصنوعة» (1/ 55) .

وروى أبو نعيم عن نبيط بن شريط قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: «وعزتى وجلالى، لا عذبت أحدا تسمى باسمك فى النار» «1» . وعن على بن أبى طالب قال: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين، رواه أبو منصور الديلمى. وليس لأحد أن يتكنى بكنيته «أبى القاسم» سواء كان اسمه محمد أم لا، ومنهم: من كره الجمع بين الاسم والكنية، وجوز الإفراد، ويشبه أن يكون هو الأصح. قال النووى فى هذه المسألة مذاهب: الشافعى منع مطلقا، وجوزه مالك، والثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمدا، ومن جوز مطلقا خص النهى بحياته، وهو الأقرب. انتهى. ومنها أنه يستحب الغسل لقراءة حديثه والتطيب، ولا ترفع عنده الأصوات، بل تخفض، كما فى حياته إذا تكلم، فإن كلامه المأثور بعد موته فى الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف، وأن يقرأ على مكان مرتفع. روينا عن مطرف قال: كان الناس إذا أتوا مالكا- رحمه الله- خرجت إليهم الجارية فتقول: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل، فإن قالوا المسائل خرج إليهم فى الوقت، وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا وتعمم ولبس ساجه، - والساج: الطيلسان- وتلقى له منصة فيخرج ويجلس عليها، وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث. قال ابن أبى أويس: فقيل له فى ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنا. ويقال: إنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب. وقد كره قتادة ومالك وجماعة التحديث على

_ (1) لا أصل له: ذكره العلجونى فى «كشف الخفاء» (1245) : وقال: وروى أبو نعيم سنده مرفوعا فذكره وقال: كذا ذكره القارى، ولا أصل له.

ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه أن يقوم لأحد،

غير طهارة، حتى كان الأعمش إذا كان على غيرها تيمم. ولا شك أن حرمته- صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه وتوقيره بعد مماته وعند ذكره، وذكر حديثه وسماع اسمه وسيرته كما كان فى حياته والله أعلم. ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه أن يقوم لأحد، قال ابن الحاج فى «المدخل» : لأنه قلة أدب مع النبى- صلى الله عليه وسلم- وقلة احترام وعدم مبالاة أن يقطع حديثه لأجل غيره، فكيف لبدعة، وقد كان السلف لا يقطعون حديثه ولا يتحركون وإن أصابهم الضر فى أبدانهم ويتحملون المشقة التى تنزل بهم إذ ذاك احتراما لحديث نبيهم- صلى الله عليه وسلم-. وحسبك ما وقع لمالك- رحمه الله- فى لسع العقرب سبع عشرة مرة، وهو لم يتحرك، وتحمله للسعها توقيرا لجناب حديثه- صلى الله عليه وسلم- أن يكون يقرأ وهو يتحرك لضر أصابه، مع أنه معذور فيما وقع، فكيف بالحركة والقيام إذ ذاك لا لضرورة بل للبدعة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك ما لا ينبغى من الكلام المعتاد. انتهى ملخصا. ومنها أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة، وأن قراء حديثه اختصوا بالتلقيب بالحفاظ، وأمراء المؤمنين من بين سائر العلماء. ومنها: أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع به- صلى الله عليه وسلم- لحظة، بخلاف التابعى مع الصحابى، فلا تثبت إلا بطول الاجتماع معه على الصحيح عند أهل الأصول، والفرق عظم منصب النبوة ونورها، فبمجرد ما يقع بصره على الأعرابى الجلف ينطق بالحكمة. ومنها: أن أصحابه كلهم عدول، لظواهر الكتاب والسنة، فلا يبحث عن عدالة أحد منهم، كما يبحث عن سائر الرواة. قال الله تعالى خطابا للموجودين حينئذ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «1» أى عدولا، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا أصحابى، فو الذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد

_ (1) سورة البقرة: 143.

ومنها أن المصلى يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبى

ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» «1» ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «2» فى آيات كثيرة وأحاديث تقتضى القول بتعديلهم. ولذلك: أجمع من يعتد به على ذلك، سواء فى التعديل من لابس الفتنة منهم وغيره، لوجوب حسن الظن بهم، حملا للملابس على الاجتهاد، ونظرا إلى ما تمهد لهم من الماثر، من امتثال أوامره- صلى الله عليه وسلم-، وفتحهم الأقاليم، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس، ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات، مع الشجاعة والبراعة والكرم والأخلاق الحميدة التى لم تكن فى أمة من الأمم المتقدمة، ولا تكون لأحد بعدهم مثلهم فى ذلك. كل ذلك بحلول نظره- صلى الله عليه وسلم-. وأفضلهم عند أهل السنة إجماعا: أبو بكر ثم عمر، وأما بعدهما: فالجمهور على أنه عثمان ثم على. وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى المقصد السابع. ومنها أن المصلى يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبى ، ولا يخاطب غيره. ومنها أنه كان يجب على من دعاه وهو فى الصلاة أن يجيبه، ويشهد له حديث أبى سعيد بن المعلى: كنت أصلى فى المسجد، فدعانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: فلم أجبه.. الحديث، وفيه: ألم يقل الله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ «3» «4» ، فإجابته فرض، يعصى المرء بتركها.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3673) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2540) فى فضائل الصحابة، باب: تحريم سبب الصحابة- رضى الله عنهم-، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والنصيف: هو النصف. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2652) فى الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم (2533) فى فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-. (3) سورة الأنفال: 24. (4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4474) فى التفسير، باب: ما جاء فى فاتحة الكتاب.

ومنها: أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره

وهل تبطل صلاته أم لا؟ صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم: أنها لا تبطل، وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا، سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل. أما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج فليس فى الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية، والله أعلم. ومنها: أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره ، ومن كذب عليه لم تقبل روايته أبدا وإن تاب، فيما ذكره جماعة من المحدثين. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل عن سعيد بن جبير أن رجلا كذب على النبى- صلى الله عليه وسلم-، فبعث عليّا والزبير وقال: «اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه» «1» . ولهذا حكى إمام الحرمين عن أبيه أن من تعمد الكذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكفر. لكن لم يوافقه أحد من الأئمة على ذلك. والحق أنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بها إلا إن استحله. وقال النووى: لم أر له فى أصل المسألة دليلا، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا وزجرا بليغا عن الكذب عليه- صلى الله عليه وسلم- لعظم مفسدته فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة. ثم قال: وهذا الذى ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف، مخالف للقواعد الشرعية. والمختار القطع بصحة توبته وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة. قال: فهذا هو الجارى على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرا فأسلم، قال: وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الشهادة والرواية فى هذا. قال شيخنا: ويمكن أن يقال: فيما إذا كان كذبه فى وضع حديث وحمل

_ (1) مرسل: أخرجه عبد الرزاق فى «مصنفه» (9707) عن سعيد بن جبير مرسلا، كما فى إسناده رجل مجهول.

ومنها أنه معصوم من الذنوب كبيرها وصغيرها

عنه ودوّن أن الإثم غير منفك عنه بل هو لاحق له أبدا، فإن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والتوبة حينئذ متعذرة ظاهرا وإن وجد مجرد اسمها. ومنها أنه معصوم من الذنوب كبيرها وصغيرها ، عمدها وسهوها وكذلك الأنبياء. ومنها أنه لا يجوز عليه الجنون لأنه نقص، ولا الإغماء الطويل الزمن، فيما ذكره الشيخ أبو حامد فى تعليقه، وجزم به البلقينى فى حواشى الروضة، وكذلك الأنبياء. ونبه السبكى على أن إغماءهم يخالف إغماء غيرهم، وإنما هو غلبة الأوجاع للحواس الظاهرة دون القلب، لأنه قد ورد أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم، فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذى هو أخف من الإغماء، فمن الإغماء بطريق الأولى. قال السبكى: ولا يجوز عليهم العمى، لأنه نقص، ولم يعم نبى قط. وأما ما ذكر عن شعيب أنه كان ضريرا فلم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت، انتهى. قال الرازى: فى قوله تعالى وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ «1» لما قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «2» غلبه البكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء فى العين، فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقوله: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ «3» كأنه من غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول: أن تأثير الحزن فى غلبة البكاء لا فى حصول العمى، فلما حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنا، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى. ثم قال: واختلفوا، فقال بعضهم: إنه كان قد عمى بالكلية، فالله تعالى جعله بصيرا فى هذا الوقت، وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والأحزان بحيث صار يدرك إدراكا ضعيفا، فلما ألقوا القميص على

_ (1) سورة يوسف: 84. (2) سورة يوسف: 84. (3) سورة يوسف: 84.

وجهه وبشر بحياة يوسف عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوى بصره وزال النقصان عنه. انتهى. ومنها أن من سبه- صلى الله عليه وسلم- أو انتقصه قتل. واختلف هل يتحتم قتله فى الحال، أو يوقف على استتابته؟ وهل الاستتابة واجبة أم لا؟ فمذهب المالكية: يقتل حدّا لا ردة: ولا تقبل توبته ولا عذره إن ادعى سهوا أو غلطا، وعبارة شيخهم العلامة خليل فى مختصره: «وإن سبب نبيّا أو ملكا، [أو] عرض أو لعنه، أو عابه أو قذفه، أو استخف بحقه، أو غيّر صفته، أو ألحق به نقصا وإن فى [بدنه] أو خصلته أو غص من مرتبته أو وفور علمه أو زهده أو أضاف له ما لا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو قيل له: بحق رسول الله، فلعن وقال أردت العقرب قتل- ولم يستتب- حدّا، إلا أن يسلم الكافر، وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل أو سكر أو تهور» . وهذا ذكره القاضى عياض فى الشفاء وغيره، واستدلوا له بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً «1» ، واللعنة من الله هى إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله فى وبيل عقوبته، قال القاضى عياض: وإنما يستوجب اللعن من هو كافر، وحكم الكافر القتل. والأذى: هو الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررا، كذا قاله الخطابى وغيره. وإطلاق الأذى فى حقه تعالى إنما هو على سبيل المجاز لتعذر الحقيقة فيه. ويشهد لذلك الحديث الإلهى (يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى) «2» وهذا بخلاف جانب الرسول- صلى الله عليه وسلم-.

_ (1) سورة الأحزاب: 57. (2) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (2577) فى البر والصلة، باب: تحريم الظلم، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.

فالأذى فى حقه تعالى وحق رسوله كفر بشهادة هذه الآية، لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار، وكذلك العذاب الأليم. وقال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ «1» قال القاضى عياض: قال أهل التفسير: كفرتم بقولكم فى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وأما السنة فروى أبو داود والترمذى: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من لنا بابن الأشرف» وفى أخرى: «من لكعب بن الأشرف» أى من ينتدب لقتله «فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا» وفى رواية: «فإنه يؤذى الله ورسوله» «2» . قال القاضى عياض: ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل بأذاه له فدل على أن قتله إياه لغير الإشراك بل للأذى. وفى حديث مصعب بن سعد عند أبى داود: لما كان يوم الفتح أمّن- صلى الله عليه وسلم- الناس، إلا أربعة نفر فذكرهم ثم قال: «وأما ابن سرح» فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبى الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك وهو يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدى عن بيعته فيقتله» فقالوا: ما ندرى يا رسول الله ما فى نفسك، ألا أو مأت إلينا؟ قال: «إنه لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين» «3» .

_ (1) سورة التوبة: 65، 66. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2510) فى الرهن، باب: رهن السلاح، ومسلم (1801) فى الجهاد والسير، باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود، وأبو داود (2768) فى الجهاد، باب: فى العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (3) صحيح: وقد تقدم.

وفيه: أنه أمر بقتل عبد الله بن خطل، لأن ابن خطل كان يقول الشعر يهجو به النبى- صلى الله عليه وسلم- ويأمر جاريتيه أن تغنيا به، وكذلك قتل جاريتيه «1» . قالوا: فقد ثبت أنه أمر بقتل من آذاه، ومن تنقّصه، والحق له- صلى الله عليه وسلم- وهو مخير فيه، فاختار القتل لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه- صلى الله عليه وسلم-، فإنه لم يرد عنه الإذن فى ذلك. وأما الإجماع: فقال القاضى عياض: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، فقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبى- صلى الله عليه وسلم- يقتل، وممن قال ذلك: مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعى، وقال الخطابى: لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف فى وجوب قتله إذا كان مسلما. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبى- صلى الله عليه وسلم- المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك فى كفره وعذابه كفر. انتهى. ومذهب الشافعية: أن ذلك ردة، تخرج من الإسلام إلى الكفر، فهو مرتد كافر قطعا لا نزاع فى ذلك عند الجمهور من أئمتنا، والمرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وفى الاستتابة قولان: أصحهما وجوبها، لأنه كان محترما بالإسلام، وإنما عرضت له شبهة، فينبغى إزالتها، وقيل: تستحب لأنه غير مضمون الدم، فإن قلنا بالأول فتجب فى الحال ولم يؤجل كغيره. وفى الصحيح حديث «من بدل دينه فاقتلوه» «2» وفى قول: يمهل ثلاثة أيام، فإن لم يتب وأصر- رجلا كان أو امرأة- قتل، وإن أسلم صح إسلامه وترك لقوله تعالى: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ «3» الآية.

_ (1) ذكر الهيثمى فى «المجمع» (6/ 173) من حديث سعيد بن يربوع، أن إحداهما قتلت، والآخرى أقبلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلمت، وقال: رواه الطبرانى وإسناده ثقات. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6922) فى استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (3) سورة التوبة: 5.

وعن ابن عباس قال: أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهى ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل، وأيما معاهد سب الله أو سب أحدا من أنبيائه فقد نقض العهد فاقتلوه. «وأجيب» عما تقدم من أدلة المالكية. فأما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» الآية فليس فيه إلا كفر مؤذيه- صلى الله عليه وسلم-، وأما كونه يقتل بعد التوبة والإسلام فلا دلالة فيه أصلا، وأما ابن خطل فإنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى مع ما اجتمع فيه من موجبات القتل، ولأنه اتخذ الأذى ديدنا، فلا يقاس عليه من فرط منه فرطة- وقلنا بكفره بها- وتاب ورجع إلى الإسلام، فالفرق واضح. وكذلك قتل جاريتيه لأنهما جعلتا ذلك ديدنا مع ما قام بهما من صفة الكفر. وقد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبى معيط نادى: يا معشر قريش ما لى أقتل من بينكم صبرا. فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «بكفرك وافترائك على رسول الله» «2» فذكر له سببين فى تحتم قتله، وهذا فى غاية الظهور. وأما قول الخطابى وغيره: «لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف فى وجوب قتله إذا كان مسلما» فمحمول على التقييد بعدم التوبة. وأما سياق القاضى عياض لقصة الرجل الذى كذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأنه بعث عليّا والزبير ليقتلاه، فليس يفيد غرضا فى هذا المقام، لأن الظاهر أن هذا كذب، فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين، لا سيما إن كافرا، فيكون من محاربى الله ورسوله، مع السعى فى الأرض بالفساد، فيكون متحتم القتل، وإلا فليس مطلق الكذب عليه مما يوجب القتل. وكذا سياقه حديث ابن عباس: هجت امرأة من خطمة النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «من لى بها» فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله فنهض فقتلها

_ (1) سورة الأحزاب: 57. (2) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 89) وقال: رواه البزار وفيه يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان.

فأخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: «لا ينتطح فيها عنزان» «1» أى لا يجرى فيها خلف ولا نزاع، فإن فى هذه الحكاية ونظائرها نظرا واضحا لقيام الكفر بالمحكى عنهم والزيادة منهم، وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا بالإسلام، فكل منهم مهدر الدم إلا من عصم الله منهم بالإسلام. وإنما النافع له فى مقام الاستدلال ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول بكونه ردة، فرجع إلى الإسلام وتاب. هذا هو محل النزاع وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين. وأما ذكر كافر أصلى بلغته دعوة النبى- صلى الله عليه وسلم- وامتنع من إجابته وحاربه بيده ولسانه فلا نزاع فى إهدار دمه قطعا، لا سيما وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة أنها كانت تعيب الإسلام، وتؤذى النبى- صلى الله عليه وسلم- وتحرض عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعا. فقد تبين مما ساقه القاضى عياض أن أمره- صلى الله عليه وسلم- بقتل سابه إنما نقل عن الكفرة، ولم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- قتل مسلما بسببه، وإنما كان ذلك فى أهل الكفر والعناد، فلو نقل فلا يتعين كونه حدّا، لاحتمال أن يكون قتله كفرا، وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» فأعلمنا أن ما وراء الشرك فى حيز إمكان المغفرة، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «3» «4» . فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق الله تعالى لا بالنظر إلى حقوق العباد، لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة. وهذا فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم- وليس لنا أن نسقطه لأنه لم يرد إذنه فى ذلك بخلافه هو- صلى الله عليه وسلم- فإن له ذلك.

_ (1) ذكره التقى الهندى فى «كنز العمال» (35491) ، وعزاه لابن عساكر. (2) سورة النساء: 48. (3) سورة الزمر: 53. (4) قلت: قد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية كتاب مستقلا فى هذا الموضوع سماه «الصارم المسلول على شاتم الرسول- صلى الله عليه وسلم-» أحاط فيه فى هذه المسألة من كل جوانبها، فمن أراد المزيد فعليه به.

* ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخص من شاء بما شاء من الأحكام.

فالجواب: لابد لنا من نص على ذلك منه- صلى الله عليه وسلم-، كأن يقول مثلا: من سبنى فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة ولا رجوعا عن سبه، فإن نقل اتبعناه، ثم إنه من جهة النظر ينبغى إلحاق حقوق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحقوق الله، فكما أن حقوقه تعالى مبناها على المسامحة، كذلك حقوقه- صلى الله عليه وسلم-، فإنه متخلق بأخلاق الله تعالى. ومما عد من خصائصه أنه إذا قصده ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه حكاه النووى فى زيادة الروضة عن جماعة من الأصحاب. * ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يخص من شاء بما شاء من الأحكام. كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين. روى أبو داود عن عمارة بن خزيمة ابن ثابت عن عمه وكان من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن النبى- صلى الله عليه وسلم- ابتاع من أعرابى فرسا، فاستتبعه ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبى- صلى الله عليه وسلم- المشى، وأبطأ الأعرابى، فطفق رجال يعترضون الأعرابى يساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد ابتاعه، حتى زادوا على ثمنه.. الحديث فطفق الأعرابى يقول هلم شهيدا يشهد أنى قد بعتك، فمن جاء من المسلمين يقول ويلك، إن النبى- صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليقول إلا الحق، حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع المراجعة فقال: أنا أشهد، أنك قد بايعته ... الحديث. وفيه، قال: فجعل النبى- صلى الله عليه وسلم- شهادة خزيمة برجلين «1» . وفى البخارى من حديث زيد بن ثابت قال: فوجدتها مع خزيمة الذى جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادتين «2» .

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (3607) فى الأقضية، باب: إذا علم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، والنسائى (7/ 301) فى البيوع، باب: التسهيل فى ترك الإشهاد على البيع، وأحمد فى «المسند» (5/ 215) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (2807) فى الجهاد والسير، باب: قول الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ...

وعند الحارث بن أبى أسامة فى مسنده من حديث النعمان بن بشير أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اشترى من أعرابى فرسا، فجحده الأعرابى، فجاء خزيمة فقال: يا أعرابى أنا أشهد عليك أنك بعته، فقال الأعرابى إذ شهد خزيمة فأعطنى الثمن، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا خزيمة إنا لم نشهدك، كيف تشهد؟» قال: أنا أصدقك على خبر السماء، ألا أصدقك على خبر ذا الأعرابى؟! فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «شهادته بشهادة رجلين» فلم يكن فى الإسلام من تعدل شهادته شهادة رجلين غير خزيمة. قال الخطابى: هذا الحديث حمله كثير من الناس على غير محمله، وتذرع به قوم من أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصدق على كل شىء ادعاه، وإنما وجه الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- حكم على الأعرابى بعلمه، وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد لقوله، والاستظهار على خصمه، فصار فى التقدير بشهادة اثنين فى غيرها من القضايا، انتهى. ومن ذلك ترخيصه فى النياحة لأم عطية، روى مسلم عنها «قالت: لما نزلت هذه الآية يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ... وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ «1» قالت: كان منه النياحة، فقلت: يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدونى فى الجاهلية، فلا بد لى من أن أسعدهم، فقال: «إلا آل فلان» «2» قال النووى: هذا محمول على الترخيص لأم عطية فى آل فلان خاصة، وللشارع أن يخص من العموم ما شاء. ومن ذلك: ترك الإحداد لأسماء بنت عميس، أخرج ابن سعد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبى طالب، قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تسلبى ثلاثا ثم اصنعى ما شئت» «3» .

_ (1) سورة الممتحنة: 12. (2) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (936) فى الجنائز باب: التشديد فى النياحة، وأسعدونى: أى ساعدونى وعاونونى. (3) أخرجه ابن الجعد فى «مسنده» (2714) ، وتسلبى: أى البسى ثوب الحداد، وهو السلاب، والجمع سلب، وتسلبت المرأة إذا لبسته. وقيل: هو ثوب أسود تغطى به المحد رأسها.

ومن ذلك: الأضحية بالعناق «1» لأبى بردة بن نيار، رواه الشيخان من حديث البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب السنة، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم» ، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله، لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلى وجيرانى، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تلك شاة لحم» ، قال: فإن عندى عناقا جذعة هى خير من شاتى لحم فهل تجزى عنى؟ قال: «نعم ولن تجزى عن أحد بعدك» «2» . و «نيار» بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية وآخره راء. وقوله «تجزى» بفتح أوله غير مهموز، أى تقضى. و «الجذع» بالجيم والذال المعجمة. وفى هذا الحديث تخصيص أبى بردة بإجزاء الجذع من المعز فى الأضحية. ولكن وقع فى عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبى بردة، ففى حديث عقبة ابن عامر «3» - عند البيهقى-: ولا رخصة فيها لأحد بعدك. قال البيهقى: إن كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبى بردة. قال الحافظ ابن حجر: وفى هذا الجمع نظر، لأن فى كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثانى، ويحتمل أن تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثانى، ولا مانع من ذلك، لأنه لم يقع فى السياق استمرار المنع لغيره صريحا. وفى كلام بعضهم: أن الذين ثبتت لهم الرخصة اربعة أو خمسة، واستشكل الجمع وليس بمشكل، فإن الأحاديث التى وردت فى ذلك ليس فيها

_ (1) العناق: الأنثى من المعز. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (955) فى الجمعة، باب: الأكل يوم النحر، ومسلم (1961) فى الأضاحى، باب: وقتها. (3) قلت: حديث عقبة بن عامر فى الصحيحين، عند البخارى (2300) فى الوكالة، باب: وكالة الشريك فى القسمة وغيرها، ومسلم (1965) فى الأضاحى، باب: سن الأضحية.

* ومنها أنه كان يوعك كما يوعك رجلان

التصريح بالنفى إلا فى قضية أبى بردة فى الصحيح، وفى قصة عقبة بن عامر عند البيهقى، وأما ما عدا ذلك: فأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أعطاه عتودا جذعا، فقال: «ضح به» ، فقلت إنه جذع أفأضحى به؟ قال: «ضح به» «1» وفى الأوسط للطبرانى من حديث ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- أعطى سعد بن أبى وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحى به. وأخرجه الحاكم من حديث عائشة «2» ، وفى سنده ضعف. فلا منافاة بين ذلك وحديثى أبى بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك فى ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزى، واختص أبو بردة، وعقبة بالرخصة فى ذلك. وإن تعذر الجمع بين حديث أبى بردة وحديث عقبة، فحديث أبى بردة أصح مخرجا. وإن كان حديث عقبة عند البيهقى من مخرج الصحيح والله أعلم. ومن ذلك: إنكاح ذلك الرجل بما معه من القرآن «3» ، فيما ذكره جماعة، وورد به حديث مرسل أخرجه سعيد بن منصور عن أبى النعمان الأزدى، قال: زوج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- امرأة على سورة من القرآن وقال: «لا يكون لأحد بعدك مهرا» «4» . * ومنها أنه كان يوعك كما يوعك رجلان «5» لمضاعفة الأجر.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2798) فى الضحايا، باب: ما يجوز فى الضحايا من السن، وأحمد فى «المسند» (5/ 194) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 253) . (3) قلت: حديث نكاح المرأة بالقرآن ثابت فى الصحيحين، أخرجه البخارى (5149) فى النكاح، باب: التزويج على القرآن وبغير صداق، ومسلم (1425) فى النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-. (4) قلت: لم يثبت دليل الخصوصية ذلك، والحديث على عمومه لا مخصص له. (5) قلت: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (5648) فى المرضى، باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثال فالأمثل، ومسلم (2571) فى البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.

* ومنها أن جبريل أرسل إليه ثلاثا فى مرضه

* ومنها أن جبريل أرسل إليه ثلاثا فى مرضه يسأله عن حاله، ذكره البيهقى وغيره. * ومنها: أنه صلى عليه الناس أفواجا أفواجا بغير إمام ، وبغير دعاء الجنازة المعروف ذكره البيهقى وابن سعد وغيرهما، وترك بلا دفن ثلاثة أيام كما سيأتى، وفرش له فى لحده- صلى الله عليه وسلم- قطيفة «1» ، والأمران مكروهان فى حقنا، وأظلمت الأرض بعد موته كما سيأتى. * ومنها: أنه لا يبلى جسده، وكذلك الأنبياء «2» ، رواه أبو داود وابن ماجه. * ومنها: أنه لا يورث «3» ، فقيل لبقائه على ملكه، وقيل لمصيره صدقة، وبه قطع الرويانى، ثم حكى وجهين فى أنه هل يصير وقفا على ورثته؟ وأنه إذا صار وقفا هل هو الواقف؟ وجهان: قال النووى فى زيادات الروضة: الصواب الجزم بزوال ملكه، وأن ما تركه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة. انتهى. وقال فى الشرح الصغير: المشهور أنه صدقة. وذكر الرافعى فى قسم الفىء أن الخمس كان له- صلى الله عليه وسلم- ينفق منه على نفسه ومصالحه، ولم يكن يملكه ولا ينتقل إلى ورثته. وقال فى باب الخصائص: إنه ملكه، ويجمع بينهما: بأن لجهة الإنفاق مادتين: مملوكة وغير مملوكة، والخلاف جار فى إحداهما. انتهى والله أعلم.

_ (1) حديث القطيفة، ضعيف: أخرجه ابن سعد عن الحسن مرسلا، كما فى «ضعيف الجامع» (992) . (2) قلت: الحديث الدال على ذلك أخرجه أبو داود (1047) فى الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، و (1531) باب: فى الاستغفار، وابن ماجه (1085) فى إقامة الصلاة، باب: فى فضل الجمعة، و (1636) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته- صلى الله عليه وسلم-، من حديث شداد بن أوس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) سيأتى الحديث الدال على ذلك بعد قليل.

* ومنها: أنه حى فى قبره،

وعلى هذا، فيباح له أن يوصى بجميع ماله للفقراء، ويمضى ذلك بعد موته بخلاف غيره فإنه لا يمضى مما أوصى به إلا الثلث بعد موته. وكذلك الأنبياء لا يورثون، لما رواه النسائى من حديث الزبير مرفوعا: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» «1» وعلى هذا فيجاب عن قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ «2» . وقوله: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي «3» . بأن المراد إرث النبوة والعلم. * ومنها: أنه حى فى قبره، ويصلى فيه بأذان وإقامة وكذلك الأنبياء، ولهذا قيل: لا عدة على أزواجه. وقد حكى ابن زبالة «4» ، وابن النجار أن الأذان ترك فى أيام الحرة «5» ثلاثة أيام وخرج الناس، وسعيد بن المسيب فى المسجد، قال سعيد: فاستوحشت فدنوت إلى القبر فلما حضرت الظهر سمعت الأذان فى القبر فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة فى القبر لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، ورجع الناس وعاد المؤذنون فسمعت أذانهم كما سمعت الأذان فى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-، انتهى. وقد ثبت أن الأنبياء يحجون ويلبون. فإن قلت: كيف يصلون ويحجون ويلبون وهم أموات فى الدار الآخرة، وليست دار عمل؟ فالجواب: أنهم كالشهداء، بل أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6728) فى الفرائض، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لا نورث» ومسلم (1757) فى الجهاد والسير، باب: حكم الفىء، من حديث عمر- رضى الله عنه-، وله قصة. (2) سورة النمل: 16. (3) سورة مريم: 5، 6. (4) هو: محمد بن الحسن بن زبالة المخزومى المدينى، كذبوه، قاله الحافظ فى «التقريب» (5815) . (5) أيام الحرة: موقعة مشهورة، وقعت بظاهر المدينة بين أهلها وبين يزيد بن معاوية سنة 63 هـ حين خلعوه عن الخلافة.

يرزقون، فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا، أو نقول: إن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا فى استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وأن المنقطع فى الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف على سبيل التلذذ بها، ولهذا ورد أنهم يسبحون ويقرؤن القرآن، ومن هذا سجود النبى- صلى الله عليه وسلم- وقت الشفاعة. وقد قال صاحب «التلخيص» : إن ماله- صلى الله عليه وسلم- بعد موته قائم على نفقته وملكه، وعده من خصائصه. ونقل إمام الحرمين عنه أن ما خلفه بقى على ما كان فى حياته، فكان ينفق منه أبو بكر على أهله وخدمه، وكان يرى أنه باق على ملك النبى- صلى الله عليه وسلم-. فإن الأنبياء أحياء، وهذا يقتضى إثبات الحياة فى أحكام الدنيا، وذلك زائد على حياة الشهيد. والذى صرح به النووى: زوال ملكه- صلى الله عليه وسلم- وأن ما تركه صدقة على جميع المسلمين لا يختص به ورثته. فإن قلت: القرآن ناطق بموته- صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى امرؤ مقبوض» «2» وقال الصديق: فإن محمدا قد مات، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك. فأجاب الشيخ تقى الدين السبكى، بأن ذلك الموت غير مستمر، وأنه- صلى الله عليه وسلم- أحيى بعد الموت، ويكون انتقال الملك ونحوه مشروطا بالموت المستمر، وإلا فالحياة الثانية حياة أخروية، ولا شك أنها أعلى وأكمل من حياة الشهداء، وهى ثابتة للروح بلا إشكال، وقد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وعود الروح إلى الجسد ثابت فى الصحيح لسائر الموتى فضلا عن الشهداء، فضلا عن الأنبياء، وإنما النظر فى استمرارها فى البدن، وفى أن البدن يصير حيّا كحالته فى الدنيا، أو حيّا بدونها، وهى حيث شاء الله تعالى، فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادى لا عقلى، فهذا مما يجوزه العقل، فإن صح به سمع اتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء.

_ (1) سورة الزمر: 30. (2) إسناده ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 223) عن ابن مسعود وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفى إسناده من لم أعرفه.

* ومنها: أنه وكل بقبره ملك يبلغه صلاة المصلين عليه.

ويشهد له: صلاة موسى فى قبره «1» ، فإن الصلاة تستدعى جسدا حيّا، وكذلك الصفات المذكورة فى الأنبياء ليلة الإسراء، كلها صفات الأجسام، ولا يلزم من كونها حياة حقيقة أن تكون الأبدان معها كما كانت فى الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وغير ذلك من صفات الأجسام التى نشاهدها بل يكون لها حكم آخر، فليس فى العقل ما يمنع إثبات الحياة الحقيقية لهم. وما الإدراكات كالعلم والسماع فلا شك أن ذلك ثابت لهم بل ولسائر الموتى، حكاه الشيخ زين الدين المراغى، وقال: إنه مما يعز وجوده وفى مثله فليتنافس المتنافسون. * ومنها: أنه وكل بقبره ملك يبلغه صلاة المصلين عليه. رواه أحمد والنسائى والحاكم وصححه بلفظ «إن لله ملائكة سياحين فى الأرض يبلغونى عن أمتى السلام» «2» وعند الأصبهانى عن عمارة، «إن لله ملكا أعطاه الله سمع العباد كلهم، فما من أحد يصلى على إلا أبلغنيها» «3» . وتعرض أعمال أمته عليه، ويستغفر لهم، روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب «4» «ليس من يوم إلا وتعرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- أعمال أمته غدوة وعشيّا فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم» . * ومنها: أن منبره- صلى الله عليه وسلم- على حوضه «5» كما فى الحديث وفى

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2375) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 43) فى السهو، باب: السلام على النبى- صلى الله عليه وسلم-، والدارمى فى «سننه» (2774) ، وأحمد فى «المسند» (1/ 387 و 452) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (2174) . (3) حسن: أخرجه الطبرانى عن عمار بن ياسر- رضى الله عنهما-، كما فى «صحيح الجامع» (2176) . (4) سعيد بن المسيب، من كبار التابعين، وعلى ذلك فحديثه مرسل، إلا أن مراسيله من أفضل المراسيل وأقواها. (5) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1196) فى الجمعة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر، وأطرافه (1888 و 6588 و 7335) ، ومسلم (1391) فى الحج، باب: ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

* ومنها أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة،

رواية: «ومنبرى على ترعة من ترع الجنة» وأصل الترعة الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كان فى المطمئن فهى روضة. ولم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره وأنه حق محسوس موجود، فإن القدرة صالحة لا عجز فيها، وكل ما أخبر به الصادق- صلى الله عليه وسلم- من أمور الغيب فالإيمان به واجب. * ومنها أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة، رواه البخارى بلفظ «ما بين بيتى ومنبرى» وهذا يحتمل الحقيقة والمجاز. أما الحقيقة: فبأن يكون ما أخبر عنه- صلى الله عليه وسلم- بأنه من الجنة مقتطعا منها، كما أن الحجر الأسود منها «1» ، وكذلك النيل والفرات من الجنة «2» ، وكذلك الثمار الهندية من الورق التى هبط بها آدم- عليه السّلام- من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون فى هذه الدار من مياه الجنة، ومن ترابها، ومن حجرها، ومن فواكهها، حكمة حكيم جليل. وأما المجاز: فبأن يكون من إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن ملازمة ذلك المكان للصلاة والعبادة سبب فى نيل الجنة، قاله ابن أبى جمرة، وهو معنى قول بعضهم: لكون العبادة فيه تؤول إلى دخول العابد روضة الجنة. وهذا فيه نظر: إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة على غيرها. وفى كتاب «بهجة النفوس» لابن أبى جمرة أيضا حكاية قول: أن تلك البقعة تنقل بعينها فتكون من الجنة، يعنى روضة من رياضها. قال: والأظهر الجمع بين الوجهين مما يعنى احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، ويأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى فضل الزيارة من المقصد الأخير- إن شاء الله تعالى-.

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (877) فى الحج، باب: ما جاء فى فضل الحجر الأسود والركن والمقام، والنسائى (5/ 226) فى المناسك، باب: ذكر الحجر الأسود، وأحمد فى «المسند» (1/ 307 و 329 و 373) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث طويل أخرجه البخارى (3207) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

* ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - أول من ينشق عنه القبر.

* ومنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- أول من ينشق عنه القبر. وفى رواية مسلم «أنا أول من تنشق عنه الأرض» «1» . وهو أول من يفيق من الصعقة، قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدرى أفاق قبلى أم جوزى بصعقة الطور» «2» رواه البخارى. والظاهر أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن عنده علم بذلك حتى أعلمه الله تعالى، فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه- صلى الله عليه وسلم- أول من ينشق عنه القبر. وهو أول من يجوز على الصراط «3» ، رواه البخارى من حديث أبى هريرة. وأنه يحشر فى سبعين ألفا من الملائكة، كما روى عن كعب الأحبار: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألف ملك يحفون بقبره- صلى الله عليه وسلم- يضربون بأجنحتهم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج فى سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه- صلى الله عليه وسلم- «4» . الحديث رواه ابن النجار فى تاريخ المدينة. وأنه يحشر راكب البراق، رواه الحافظ السلفى، كما ذكره الطبرى. ويكسى فى الموقف أعظم الحلل من الجنة. رواه البيهقى بلفظ: «فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر» «5» ، ورواه كعب بن مالك بلفظ: «يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتى على تل، ويكسونى ربى حلة خضراء» «6»

_ (1) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (2412) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الأشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودى، ومسلم (2374) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- عليه السّلام-، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (2) صحيح: وهو ما قبله. (3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (806) فى الأذان، باب: فضل السجود، ومسلم (182) فى الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (4) كعب الأحبار، كان ممن يروى عن أهل الكتاب، فلعل هذا الأثر من كتبهم، والله أعلم. (5) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 456) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6479) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 395) ، والطبرانى فى «الكبير» (19/ 72) ، والحديث صحح إسناده الشيخ شعيب الأرناؤوط. (6) صحيح: انظر ما قبله، وهو ليس فى البخارى، كما قال، ولعله وهم.

* ومنها: أنه يعطى المقام المحمود،

رواه البخارى، وهو عند ابن أبى شيبة بلفظ: «يحشر الناس على تل، وأمتى على تل» وعند الطبرانى أيضا حديث ابن عمر فيرقى هو- يعنى محمدا- صلى الله عليه وسلم- وأمته على كوم فوق الناس، وأنه يقوم عن يمين العرش، رواه ابن مسعود عنه- صلى الله عليه وسلم- وفيه: لا يقومه غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون. * ومنها: أنه يعطى المقام المحمود، قال مجاهد: هو جلوسه- صلى الله عليه وسلم- على العرش، وعن عبد الله بن سلام، على الكرسى، ذكرهما البغوى، وسيأتى ما قيل فى ذلك فى ذكر تفضيله- صلى الله عليه وسلم- بالمقام المحمود- إن شاء الله تعالى-. * ومنها أنه يعطى الشفاعة العظمى فى فصل القضاء بين أهل الموقف، حين يفزعون إليه بعد الأنبياء، والشفاعة فى إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفى رفع درجات ناس فى الجنة «1» . كما جوز النووى اختصاص هذه والتى قبلها به. ووردت الأحاديث به فى التى قيل، وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى المقصد الأخير، والله المعين. * ومنها: أنه صاحب لواء الحمد، يوم القيامة «2» ، آدم فمن دونه تحته. رواه البزار. وأنه أول من يقرع باب الجنة. روى مسلم من حديث المختار بن فلفل عن أنس قال: قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة» «3» وعنده أيضا عن أنس قال- صلى الله عليه وسلم-: «آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن، بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك» ورواه الطبرانى بزيادة فيه، قال: فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا

_ (1) صحيح: وقد تقدم فى حديث الشفاعة. (2) ورد ذلك فى حديث أخرجه الترمذى (3148) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وابن ماجه (4308) فى الزهد، باب: ذكر الشفاعة، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1468) . (3) صحيح: أخرجه مسلم (196) فى الإيمان، باب: فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول الناس يشفع فى الجنة» .

* ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أول من يدخل الجنة،

أقوم لأحد بعدك، وهذه خصوصية أخرى له- صلى الله عليه وسلم- وهى: أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غيره- صلى الله عليه وسلم-، فقيامه له- صلى الله عليه وسلم- فيه إظهار لمزيته ومرتبته، ولا يقوم لأحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون فى خدمته وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى فى خدمة عبده ورسوله حتى مشى وفتح له الباب. * ومنها أنه- صلى الله عليه وسلم- أول من يدخل الجنة، قال- صلى الله عليه وسلم-: «وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لى فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر» «1» رواه الترمذى. * ومن خصائصه- صلى الله عليه وسلم- الكوثر «2» ، نهر فى الجنة يسيل من حوضه مجراه على الدر والياقوت، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج. ومنها الوسيلة، وهى أعلى درجة فى الجنة. [خصائص أمة النبي ص] وأما خصائص أمته- صلى الله عليه وسلم- وزادها شرفا، فاعلم أنه لما أنشأ الله سبحانه وتعالى العالم على غاية من الإتقان، وأبرز جسد نبينا- صلى الله عليه وسلم- للعيان، وظهرت عنايته بأمته الإنسانية، بحضوره وظهوره فيها، وإن كان العالم الإنسانى والنارى كله أمته، ولكن لهؤلاء خصوص وصف، فجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعلهم ورثة الأنبياء، وأعطاهم الاجتهاد فى نصب الأحكام، فيحكمون بما أدى إليه اجتهادهم. وكل من دخل فى زمان هذه الأمة من الأنبياء بعد نبيها، كعيسى- عليه السّلام-، أو قدر دخوله كالخضر، فإنه لا يحكم فى العالم إلا بما شرعه محمد- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الأمة، فإذا نزل سيدنا عيسى- عليه الصلاة والسلام- فإنما يحكم بشريعة نبينا- صلى الله عليه وسلم- بإلهام أو اطلاع على الروح المحمدى أو بما شاء الله تعالى، فيأخذ عنه ما شرع الله له أن يحكم به فى أمته، فلا يحكم

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3616) فى المناقب، باب: رقم (22) ، من حديث أنس، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (2) قلت: وقد ثبت ذلك فى القرآن، فى قول الله عز وجل إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [سورة الكوثر: 1] .

فى شىء من تحريم وتحليل إلا بما كان يحكم به نبينا- صلى الله عليه وسلم-، ولا يحكم بشريعته التى أنزلت عليه فى أوان رسالته ودولته، فهو- عليه السّلام- تابع لنبينا- صلى الله عليه وسلم-. وقد نبه على ذلك الترمذى الحكيم فى كتاب ختم الأولياء، وأعرب عنه صاحب «عنقاء مغرب» «1» ، وكذا الشيخ سعد الدين التفتازانى فى شرح عقائد النسفى وصحح أنه يصلى بالناس ويؤمهم ويقتدى به المهدى لأنه أفضل منه، فإمامته أولى. انتهى. فهو- عليه الصلاة والسلام- وإن كان خليفة فى الأمة المحمدية، فهو رسول ونبى كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتى واحدا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما ذكر من وجوب اتباعه لنبينا- صلى الله عليه وسلم- والحكم بشريعته. فإن قلت: قد ورد فى صحيح مسلم قوله- صلى الله عليه وسلم-: «ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية» «2» وأن الصواب فى معناه: أنه لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو القتل، وهذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابى إذا بذل الجزية وجب قبولها ولم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام، وإذا كان كذلك، فكيف يكون عيسى- عليه السّلام- حاكما بشريعة نبينا- صلى الله عليه وسلم-؟ فالجواب: أنه لا خلاف أن عيسى- عليه السّلام- إنما ينزل حاكما بهذه الشريعة المحمدية ولا ينزل نبيّا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة. وأما حكم الجزية وما يتعلق بها فليس حكما مستمرّا إلى يوم القيامة،

_ (1) هو كتاب «عنقاء مغرب فى معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب» للشيخ محيى الدين محمد بن على، المعروف بابن عربى، الضال المعروف. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2222) فى البيوع، باب: قتل الخنزير، ومسلم (155) فى الإيمان، باب: نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى، وقد أخبر نبينا- صلى الله عليه وسلم- بنسخه، وليس عيسى- عليه السّلام- هو الناسخ، بل نبينا- صلى الله عليه وسلم- هو المبين للنسخ، فدل على أن الامتناع فى ذلك الوقت من قبول الجزية هو شرح نبينا- صلى الله عليه وسلم-. أشار إليه النووى فى شرح مسلم. فإن قلت: ما المعنى فى تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى- عليه السّلام- فى عدم قبول الجزية؟ فأجاب ابن بطال: بأنا إنما قبلناها نحن لاحتياجنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى- عليه السّلام- عند خروجه إلى مال، لأنه يفيض فى أيامه المال حتى لا يقبله أحد، فلا يقبل إلا القتل أو الإيمان بالله وحده. انتهى. وأجاب الشيخ ولى الدين ابن العراقى: بأن قبول الجزية من اليهود والنصارى لشبهة ما بأيديهم من التوراة والإنجيل. وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم، فإذا نزل عيسى- عليه السّلام- زالت تلك الشبهة بحصول معاينته، فصاروا كعبدة الأوثان فى انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم، فعوملوا معاملتهم فى أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، والحكم يزول بزوال علته. قال: وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له. قال وهذا أولى مما ذكره ابن بطال. انتهى. وكذلك من يقول من العلماء بنبوة الخضر، وأنه باق إلى اليوم، فإنه تابع لأحكام هذه الملة. وكذلك إلياس على ما صححه أبو عبد الله القرطبى أنه حى أيضا. وليس فى الرسل من يتبعه رسول له كتاب إلا نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وكفى بهذا شرفا لهذه الأمة المحمدية زادها الله شرفا. فالحمد لله الذى خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ علينا هذه النعمة، ومنّ علينا بما عمنا به من الفضائل الجمة، ونوّه بنا فى كتابه العزيز بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «1» ، فتأمل قوله كُنْتُمْ أى فى اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم فى علم الله. فينبغى لمن هو من هذه الأمة المحمدية أن يتخلق بالأخلاق الزكية، ليثبت له ما لهذه الأمة الشريفة من الأوصاف المرضية، ويتأهل لما لها من الخيرية.

_ (1) سورة آل عمران: 110.

قال مجاهد: كنتم خير أمة أخرجت للناس إذا كنتم على الشرائط المذكورة، أى: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. وقيل: إنما صارت أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيهم أفشى. وقيل: هذا لأصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم-، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «1» وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدها. وإلى هذا ذهب معظم العلماء. وأن من صحبه- صلى الله عليه وسلم- ورآه ولو مرة من عمره أفضل من كل من يأتى بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، هذا مذهب الجمهور. وذهب أبو عمر بن عبد البر: إلى أنه قد يكون فيمن يأتى بعد الصحابة أفضل ممن كان فى جملة الصحابة، وأن قوله- صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرنى» ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه- صلى الله عليه وسلم- جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحدود، وقد روى أبو أمامة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «طوبى لمن رآنى وآمن بى، وطوبى سبع مرات لمن لم يرنى وآمن بى» «2» . وفى مسند أبى داود الطيالسى عن محمد بن أبى حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: كنت جالسا عند النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أتدرون أى الخلق أفضل إيمانا؟» قلنا: الملائكة، قال: «وحق لهم، بل غيرهم» . قلنا: الأنبياء، قال: «وحق لهم، بل غيرهم» ، قال- صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الخلق إيمانا قوم فى أصلاب الرجال يؤمنون بى ولم يرونى فهم أفضل الخلق إيمانا» «3» . وروى أن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلى بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت

_ (1) صحيح: وقد تقدم قريبا. (2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 248 و 257 و 264) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7233) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى صحيح الجامع» (3924) . (3) لم أجده فيه، ولا فى غيره.

بسيرة عمر فأنت أفضل من عمر، لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر، قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم. قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضى مع تواتر طرقها وحسنها، التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها فى فضل العمل، إلا أهل بدر والحديبية. ومن تدبر هذا الباب بان له الصواب، والله يؤتى فضله من يشاء. انتهى. وإسناد حديث أبى داود الطيالسى عن عمر ضعيف فلا يحتج به، لكن روى أحمد والدارمى والطبرانى عن أبى عبيدة- أى ابن الجراح-: يا رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: «قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بى ولم يرونى» «1» وإسناده حسن وصححه الحاكم. والحق ما عليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والدلائل على أفضلية الصحابة على غيرهم كثيرة متظاهرة لا نطيل بذكرها وسيأتى بقية مباحث ذلك فى فضل الصحابة من المقصد السابع- إن شاء الله تعالى-. وقد خص الله تعالى هذه الأمة الشريفة بخصائص لم يؤتها أمة قبلهم، أبان بها فضلهم، والأخبار والآثار ناطقة بذلك. فخرج أبو نعيم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن موسى- عليه السّلام- لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة هم الآخرون السابقون، فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة أناجيلهم فى صدورهم يقرؤنها ظاهرا فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة يأكلون الفىء فاجعلها أمّتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة يجعلون الصدقة فى بطونهم يؤجرون عليها فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة إذا همّ

_ (1) أخرجه الدارمى فى «سننه» (2744) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 106) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 95) ، والطبرانى فى «الكبير» (4/ 22 و 23) .

أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر حسنات فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة إذا همّ أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إنى أجد فى الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر، فيقتلون المسيح الدجال، فاجعلها أمتى، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب فاجعلنى من أمة أحمد، فأعطى عند ذلك خصلتين، فقال: يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى، فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين، قال: قد رضيت يا رب» «1» . وروى ابن طغر بك فى «النطق المفهوم» «2» عن ابن عباس رفعه: قال موسى: يا رب، فهل فى الأمم أكرم عليك من أمتى، ظللت عليهم الغمام، وأنزلت عليهم المنّ والسلوى، فقال: سبحانه وتعالى: يا موسى، أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر الأمم كفضلى على جميع خلقى؟ قال: يا رب فأرينهم، قال: لن تراهم، ولكن أسمعك كلامهم، فناداهم الله تعالى، فأجابوا كلهم بصوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وهم فى أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم فقال سبحانه وتعالى: صلاتى عليكم، ورحمتى سبقت غضبى، وعفوى سبق عذابى، أستجيب لكم قبل أن تسألونى، فمن لقينى منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله غفرت له ذنوبه. قال- صلى الله عليه وسلم-: «فأراد الله أن يمن على بذلك» فقال: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا «3» . أى أمتك حتى أسمعنا موسى كلامهم. ورواه قتادة، وزاد: فقال موسى: يا رب، ما أحسن أصوات أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- أسمعنى مرة أخرى. وفى الحلية لأبى نعيم، عن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أوحى

_ (1) أخرجه أبو نعيم فى «دلائل النبوة» (1/ 14) . (2) عزاه صاحب «كشف الظنون» (2/ 1959) لأبى الفرج بن الجوزى. (3) سورة القصص: 46.

الله إلى موسى، نبئ بنى إسرائيل أنه من لقينى وهو جاحد بأحمد أدخلته النار. قال: يا رب، ومن أحمد؟ قال: ما خلقت خلقا أكرم على منه، كتبت اسمه مع اسمى فى العرش قبل أن أخلق السماوات والأرض، إن الجنة محرمة على جميع خلقى حتى يدخلها هو وأمته، قال: ومن أمته؟ قال: الحمادون، يحمدون صعودا وهبوطا وعلى كل حال. يشدون أوساطهم ويطهرون أطرافهم، صائمون بالنهار، رهبان بالليل، أقبل منهم اليسير، وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله، قال: اجعلنى نبى تلك الأمة، قال: نبيها منها، قال: اجعلنى من أمة ذلك النبى، قال: استقدمت واستأخر، ولكن سأجمع بينك وبينه فى دار الجلال» «1» . وعن وهب بن منبه قال: أوحى الله إلى شعيا: إنى باعث نبيّا أميّا، أفتح به آذانا صما، وقلوبا غلقا، وأعينا عميا، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، عبدى المتوكل المصطفى المرفوع الحبيب المنتخب المختار، لا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، رحيما بالمؤمنين، يبكى للبهيمة المثقلة، ولليتيم فى حجر الأرملة، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنا، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشى على القصب الرعراع لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرا ونذيرا.. إلى أن قال: وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وتوحيدا لى، وإيمانا بى، وإخلاصا لى، وتصديقا لما جاءت به رسلى، وهم رعاة الشمس والقمر، طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التى أخلصت لى، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد، فى مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، ويصفون فى مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشى، هم أوليائى وأنصارى، أنتقم بهم من أعدائى عبدة الأوثان، يصلون لى قياما وقعودا وركعا وسجودا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتى

_ (1) انظر «الحلية» لأبى نعيم (6/ 33) .

* ومن خصائص هذه الأمة الوضوء،

ألوفا، ويقاتلون فى سبيلى صفوفا، أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان، فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم، ويدخل فى دينهم وشريعتهم فليس منى، وهو منى برىء، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطا شهداء على الناس، إذا غضبوا هللونى، وإذا تنازعوا سبحونى، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب إلى الأنصاف، ويهللون على التلال والأشراف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم فى صدورهم، رهبانا بالليل ليوثا بالنهار، طوبى لمن كان معهم، وعلى دينهم ومنهاجهم وشريعتهم، وذلك فضلى أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. رواه أبو نعيم. وقد ذكر الإمام فخر الدين: أن من كانت معجزاته أظهر يكون ثواب أمته أقل، قال السبكى: إلا هذه الأمة، فإن معجزات نبيها أظهر وثوابها أكثر من سائر الأمم. ومن خصائص هذه الأمة إحلال الغنائم، ولم تحل لأمة قبلها، وجعلت لهم الأرض مسجدا ولم تكن الأمم تصلى إلا فى البيع والكنائس، وجعل لهم ترابها طهورا وهو التيمم. وفى رواية أبى أمامة عند البخارى: «وجعلت الأرض كلها لى ولأمتى مسجدا وطهورا» «1» وفى رواية مسلم من حديث حذيفة: «وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها طهورا إذا لم نجد الماء» «2» . * ومن خصائص هذه الأمة الوضوء، فإنه لم يكن إلا للأنبياء دون أممهم، ذكره الحليمى، واستدل بحديث البخارى «إن أمتى يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء» «3» لكن قال فى فتح البارى: فيه نظر: لأنه ثبت فى البخارى قصة سارة- عليها السلام- مع الملك الذى أعطاها هاجر: أن سارة لما همّ الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلى، وفى قصة جريج

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: وقد تقدم. (3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (136) فى الوضوء، باب: فضل الوضوء، ومسلم (246) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

* ومنها مجموع الصلوات الخمس،

الراهب أيضا: أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام. فالظاهر أن الذى اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء. وقد صرح بذلك فى رواية لمسلم عن أبى هريرة مرفوعا، قال: «لكم سيما ليست لأحد غيركم» «1» أى علامة. وغاية التحجيل: استيعاب العضدين والساقين والغرة: غسل مقدمات الرأس وصفحة العنق مع الوجه. * ومنها مجموع الصلوات الخمس، ولم تجمع لأحد غيرهم، أخرج الطحاوى عن عبيد الله بن محمد بن عائشة قال: إن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين فصارت الصبح، وفدى إسحاق عند الظهر، فصلى أربع ركعات فصارت الظهر، وبعث عزيرا عند العصر، فقيل له: كم لبثت قال: يوما، فرأى الشمس فقال: أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر، وغفر لداود عند المغرب، فقام يصلى أربع ركعات فجهد فجلس فى الثالثة فصارت المغرب ثلاثا. وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا- صلى الله عليه وسلم-. وأخرج أبو داود فى سننه، وابن أبى شيبة فى مصنفه والبيهقى فى سننه عن معاذ بن جبل قال: أخر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة العتمة ليلة حتى ظن الظان أنه قد صلى ثم خرج فقال: «أعتموا بهذه الصلاة فإنكم فضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم» «2» . * ومنها الأذان والإقامة. * ومنها البسملة، قاله بعضهم فيما نقله الشيخ شهاب الدين الحلبى النحوى فى تفسيره، قال: ولم ينزلها الله على أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود، فهى مما اختصت به هذه الأمة. انتهى. * ومنها التأمين، روى الإمام أحمد من حديث عائشة قالت: بينا أنا

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (247) فيما تقدم. (2) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (421) فى الصلاة، باب: وقت العشاء الآخرى، وأحمد فى «المسند» (5/ 237) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

* ومنها الاختصاص بالركوع،

عند النبى- صلى الله عليه وسلم- إذ استأذن رجل من اليهود، فذكر الحديث وفيه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنهم لم يحسدونا على شىء كما حسدونا على الجمعة التى هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين» «1» . قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث غريب لا أعرفه بهذه الألفاظ إلا من هذا الوجه، لكن لبعضه متابع حسن فى التأمين، أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة كلاهما من رواية سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن عائشة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما حسدتنا اليهود على شىء ما حسدتنا على السلام والتأمين» «2» . * ومنها الاختصاص بالركوع، عن على- رضى الله عنه- قال: أول صلاة ركعنا فيها العصر، فقلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: «بهذا أمرت» رواه البزار والطبرانى فى الأوسط. ووجه الاستدلال منه: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى قبل ذلك الظهر، وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل، فكون الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه. قاله بعض العلماء. قال: وذكر جماعة من المفسرين فى قوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ «3» . أن مشروعية الركوع فى الصلاة خاص بهذه الأمة، وأنه لا ركوع فى صلاة بنى إسرائيل، ولذا أمرهم بالركوع مع أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-. وهذا يعارضه قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ «4» . المفسر بأنها أمرت بالصلاة فى الجماعة بذكر أركانها مبالغة فى

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 134) . (2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (856) فى إقامة الصلاة، باب: الجهر بامين، والبخارى فى «الأدب المفرد» (988) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (3) سورة البقرة: 43. (4) سورة آل عمران: 43.

* ومنها الصفوف فى الصلاة،

المحافظة عليها. قالوا: وقدم السجود قبل الركوع إما لكونه كذلك فى شريعتهم، أو للتنبيه على أن «الواو» لا توجب الترتيب. وقيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة، كقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً «1» . وبالسجود: الصلاة، لقوله: وَأَدْبارَ السُّجُودِ «2» ، وبالركوع: الخضوع والإخبات. * ومنها الصفوف فى الصلاة، كصفوف الملائكة «3» ، رواه مسلم من حديث حذيفة. * ومنها تحية الإسلام لحديث عائشة السابق. * ومنها الجمعة، قال- صلى الله عليه وسلم-: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذى فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» «4» رواه البخارى. * ومنها ساعة الإجابة التى فى الجمعة، واختلف فى تعيينها على أقوال تزيد على الثلاثين ذكرتها فى «لوامع الأنوار فى الأدعية والأذكار» «5» . * ومنها: أنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم، ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدا، وتزيين الجنة فيه، وخلوف أفواه الصائمين أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة فى كل يوم وليلة حتى يفطروا، وإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعا. رواه البيهقى بإسناد لا بأس به بلفظ: أعطيت أمتى فى شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبى قبلى..

_ (1) سورة الزمر: 9. (2) سورة ق: 40. (3) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (522) فى المساجد، باب: رقم (1) . (4) صحيح: أخرجه البخارى (876) فى الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (855) فى الجمعة، باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (5) وسيأتى فى المجلد الثالث.

* ومنها السحور

الحديث «1» ، و «تستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا» «2» . رواه البزار. و «تصفد فيه مردة الشياطين» «3» رواه أحمد والبزار. * ومنها السحور «4» ، وتعجيل الفطر «5» ، رواه الشيخان. وإباحة الأكل والشرب والجماع ليلا إلى الفجر، وكان محرما على من قبلنا بعد النوم، وكذا كان فى صدر الإسلام ثم نسخ. * ومنها: ليلة القدر، كما قاله النووى فى شرح المهذب. وهل صيام رمضان من خصائص هذه الأمة أم لا؟ إن قلنا إن التشبيه الذى دلت عليه كاف «كما» فى قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «6» على حقيقته فيكون رمضان كتب على من قبلنا. وذكر ابن أبى حاتم عن ابن عمر رفعه: «صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم» وفى إسناده مجهول. وإن قلنا المراد مطلق الصيام دون قدره ووقته فيكون التشبيه واقعا على مطلق الصوم، وهو قول الجمهور. * ومنها أن لهم الاسترجاع عند المصيبة، قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم تعط الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-

_ (1) ذكره المنذرى فى «الترغيب والترهيب» (2/ 92) وعزاه للبيهقى. (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 140) عن أبى هريرة، وقال: رواه أحمد والبزار وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ضعيف. (3) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 129) فى الصيام، باب: ذكر الاختلاف على معمر فيه، وأحمد فى «المسند» (2/ 292) ، من حديث أبى هريرة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (1923) فى الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب، ومسلم (1095) فى الصيام، باب: فى فضل السحور، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (5) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (1957) فى الصوم، باب: ما جاء فى تعجيل الإفطار، ومسلم (1098) فى الصوم، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه، من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-. (6) سورة البقرة: 183.

* ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الأصرار

مثله: إنا لله وإنا إليه راجعون. ولو أعطيت الأنبياء لأعطيه يعقوب- عليه الصلاة والسلام- إذ قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «1» . * ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الأصرار الذى كان على الأمم قبلهم، قال الله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «2» . أى: ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة، كتعيين القصاص فى العمد والخطأ وقطع الأعضاء الخاطئة، وقطع موضع النجاسة، وقتل النفس فى التوبة. وقد كان الرجل من بنى إسرائيل يذنب الذنب فيصبح قد كتب على باب بيته: إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما. وأصل الإصر الثقل: الذى بأصر صاحبه، أى يحبسه من الحراك لثقله. * ومنها أن الله تعالى أحل لهم كثيرا مما شدد على من قبلهم ، ولم يجعل عليهم فى الدين من حرج، كما قال تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» . أى ضيق بتكليف ما اشتد القيام به عليهم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم فى تركه، يعنى من لم يستطع أن يصلى قائما فليصل قاعدا، وأباح للصائم الفطر فى السفر، والقصر فيه. وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا، وفتح لهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات فى حقوقه تعالى، والأروش «4» والديات فى حقوق العباد، قاله البيضاوى. وروى عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بنى إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة. وعن كعب، أعطى الله هذه الأمة ثلاثا لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم فى الدين من حرج، وقال: ادعونى أستجب لكم.

_ (1) سورة يوسف: 84. (2) سورة الأعراف: 157. (3) سورة الحج: 78. (4) الأروش: جمع أرش، وهو دية الجراحات، ما ليس لها قدر معلوم، وسمى أرشا: لأنه من أسباب النزاع، والتأريش: التحريش، وهو حمل بعضهم على بعض.

* ومنها: أن الله رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان،

* ومنها: أن الله رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وحديث النفس «1» ، وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطئوا عجلت لهم العقوبة، فحرّم عليهم شىء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب. وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «2» رواه أحمد وابن حبان والحاكم وابن ماجه. * ومنها أن الإسلام وصف خاص بهم، لا يشركهم فيه غيرهم إلا الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-، لقوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا «3» . وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «4» . إذ لو لم يكن خاصا بهم لم يكن فى الامتنان عليهم بذلك فائدة. وقد يجاب: بأن رضى الإسلام دينا لهم، وتسمية إبراهيم أباهم بذلك، لا ينفى اتصاف غيرهم به. وفائدة ذلك: الإعلام بالإنعام عليهم بما أنعم به على غيرهم من الفضائل. وقيل: لا يختص بهم، بل يطلق على غيرهم أيضا، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعا. كما أجاب به ابن الصلاح لقوله تعالى- حكاية عن وصية يعقوب- فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «5» . فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ

_ (1) حديث رفع المؤاخذة عن الخطأ والنسيان سيأتى بعد قليل، أما رفع المؤاخذة عن حديث النفس، فصحيح: أخرجه البخارى (6664) فى الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيا فى الأيمان، ومسلم (127) فى الإيمان، باب: تجاوز الله من حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2045) فى الطلاق، باب: طلاق المكره والناسى، وابن حبان فى «صحيحه» (7219) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 216) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1731 و 1836) . (3) سورة الحج: 78. (4) سورة المائدة: 3. (5) سورة البقرة: 132.

* ومنها: أن شريعتهم أكمل من جميع شرائع الأمم المتقدمة،

مِنَ الْمُسْلِمِينَ «1» إلى غير ذلك. ولأن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب كثير من العلماء، وليس خاصا بهذه الأمة، بل يوصف به كل من دخل فى شريعة مقرّا بالله وبأنبيائه، كما قال الراغب. * ومنها: أن شريعتهم أكمل من جميع شرائع الأمم المتقدمة، وهذا لا يحتاج إلى بيانه لوضوحه. وانظر إلى شريعة موسى- عليه السّلام-، فقد كانت شريعة جلال وقهر، أمروا بقتل نفوسهم، وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم، وعجلت لهم من العقوبات ما عجل، وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم. وكان موسى- عليه السّلام- من أعظم خلق الله هيبة ووقارا وأشدهم بأسا وغضبا لله، وبطشا بأعداء الله، فكان لا يستطاع النظر إليه. وعيسى- عليه السّلام- كان فى مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس فى شريعته قتال ألبتة، والنصارى يحرم عليهم فى دينهم القتال، وهم به عصاة، فإن الإنجيل يأمر فيه: أن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ونحو هذا، وليس فى شريعتهم مشقة ولا إصر ولا أغلال. وأما النصارى فابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولم تكتب عليهم. وأما نبينا- صلى الله عليه وسلم- فكان مظهر الكمال، الجامع لتلك القوة والعدل والشدة فى الله، واللين والرأفة والرحمة فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك تأتى شريعته- صلى الله عليه وسلم- بالعدل إيجابا له وفرضا، وبالفضل ندبا إليه واستحبابا، وبالشدة فى موضع الشدة، وباللين فى موضع اللين، ووضع السيف موضعه، ووضع الندى موضعه، فيذكر الظلم ويحرمه، والعدل ويأمره به، والفضل ويندب

_ (1) سورة الذاريات: 36.

* وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة صيانة وحمية،

إليه فى بعض آية، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» . فهذا عدل فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «2» . فهذا فضل إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ «3» . فهذا تحريم للظلم. وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «4» . فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ «5» ندب إلى الفضل. * وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة صيانة وحمية، حرم عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، فتحريمه عليهم رحمة، وعلى من كان قبلهم لم يخل من عقوبة، كما أشرت إليه قريبا. وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم كيوم الجمعة، كما سأذكره- إن شاء الله تعالى- فى مقصد عباداته- صلى الله عليه وسلم-، وتقدم ما يشهد له. ووهب لهم من علمه وحلمه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه فى الأمم، كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه فى الأنبياء قبله، وكمل فى كتابهم من المحاسن ما فرقه فى الكتب قبله، وكذلك فى شريعته. فهذه الأمة هم المجتبون، كما قال إلههم: هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «6» . وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم فى ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم، أشار إليه ابن القيم. * ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة. رواه أحمد فى مسنده، والطبرانى فى الكبير، وابن أبى خيثمة فى تاريخه عن أبى بصرة الغفارى مرفوعا فى حديث «سألت ربى أن لا تجتمع أمتى على ضلالة فأعطانيها» «7»

_ (1) سورة الشورى: 40. (2) سورة الشورى: 40. (3) سورة الشورى: 40. (4) سورة النحل: 126. (5) سورة النحل: 126. (6) سورة الحج: 78. (7) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 396) من حديث أبى بصرة الغفارى- رضى الله عنه-، بسند فيه رجل لم يسم.

* ومنها: أن إجماعهم حجة وأن اختلافهم رحمة،

ورواه ابن أبى عاصم والطبرانى أيضا من حديث أبى مالك الأشعرى رفعه: «إن الله أجاركم من ثلاث» وذكر منها «وأن لا تجتمعوا على ضلالة» «1» . قال شيخنا: وبالجملة، فهو حديث مشهور [المتن] ، ذو أسانيد كثيرة وله شواهد متعددة فى المرفوع وغيره. * ومنها: أن إجماعهم حجة وأن اختلافهم رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذابا، روى البيهقى فى المدخل فى حديث من رواية سليمان بن أبى كريمة، عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «واختلاف أصحابى لكم رحمة» «2» . وجويبر: ضعيف جدّا، والضحاك عن ابن عباس: منقطع. وهو كما قال شيخ الإسلام ابن حجر: حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب فى المختصر فى مباحث القياس بلفظ: اختلاف أمتى رحمة للناس. قال: وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابى فى غريب الحديث مستطردا، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن والآخر ملحد، وهما: إسحاق الموصلى، وعمرو بن بحر الجاحظ وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، قال: ثم تشاغل الخطابى برد هذا الكلام، ولم يقع فى كلامه نص فى عزو الحديث، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده. ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، أشار إليه شيخنا فى المقاصد الحسنة.

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4253) فى الفتن والملاحم، باب: ذكر الفتن ودلائلها، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) موضوع: ذكره السيوطى فى «الجامع الصغير» (288) وعزاه لنصر المقدس فى الحجة، والبيهقى فى الرسالة الأشعرية بغير سند، وأورده الحليمى والقاضى حسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خرج فى بعض كتب لم تصل إلينا. اه، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (230) : موضوع.

* ومنها: أنهم إذا شهد اثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة

ومنها أن الطاعون لهم شهادة ورحمة، وكان على الأمم عذابا. رواه أحمد والطبرانى فى الكبير، عن حديث أبى عسيب مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ورجال أحمد ثقات ولفظه: «الطاعون شهادة لأمتى ورحمة لهم ورجز على الكافرين» «1» . * ومنها: أنهم إذا شهد اثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة «2» . وكان الأمم السالفة إذا شهد منهم مائة. * ومنها أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرا وأقصرهم أعمارا، وأوتوا العلم الأول والآخر، وآخر الأمم فافتضحت الأمم عندهم ولم يفتضحوا. * ومنها: أنهم أوتوا الإسناد، وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة. وقد روينا من طريق أبى العباس الدغولى قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف فى أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التى اتخذوها عن غير الثقات. وهذه الأمة الشريفة- زادها الله شرفا بنبيها- إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف فى زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقصر مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها وأكثر، حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدّا، فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه.

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 81) من حديث عسيب مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وطرفه الأول فى الصحيح، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (1368) فى الجنائز، باب: ثناء الناس على الميت، من حديث عمر- رضى الله عنه-.

* ومنها: أنهم أوتوا الأنساب والاعراب،

وقال أبو حاتم الرازى: لم يكن فى أمة من الأمم منذ خلق الله تعالى آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا فى هذه الأمة، انتهى. * ومنها: أنهم أوتوا الأنساب والاعراب، قال أبو بكر محمد بن أحمد: بلغنى أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد والأنساب والإعراب، انتهى. وهو مروى عن أبى على الجيانى أيضا. * ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب، ذكره بعضهم. ولا تزال طائفة منهم ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله «1» . رواه الشيخان. * ومنها: أن فيهم أقطابا وأوتادا ونجباء وأبدالا «2» . عن أنس مرفوعا: «الأبدال أربعون رجلا وأربعون امرأة، كلما مات رجل أبدل الله رجلا مكانه، وإذا ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة» «3» رواه الخلال فى «كرامات الأولياء» . ورواه الطبرانى فى الأوسط بلفظ: «لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن- عليه السّلام-، فبهم يسقون وبهم ينصرون، ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر» «4» . ورواه ابن عدى فى كامله بلفظ: «البدلاء أربعون، اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم أحد أبدل الله مكانه آخر، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة» «5» .

_ (1) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (3640) فى المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبى- صلى الله عليه وسلم- آية، فأراهم انشقاق القمر، ومسلم (1921) فى الإمارة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتى» ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-. (2) قلت: هذا كذب وافتراء، والأحاديث الدالة على ذلك إما موضوعة أو ضعيفة، ولا حجة فيها، وهى من وضع الزنادقة الذين يسيئون إلى الإسلام والمسلمين. (3) ضعيف: أخرجه الخلال فى كرامات الأولياء، والديلمى فى مسند الفردوس عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (2665) . (4) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الأوسط عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (4775) ، وفى (4776) عزاه لابن حبان فى تاريخه من حديث أبى هريرة، وقال: موضوع. (5) ضعيف: أخرجه ابن عدى فى «الكامل» (5/ 220) بسند فيه ضعيف.

وكذا يروى كما عند أحمد فى المسند، والخلال، من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: «لا يزال فى هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم خليل الرحمن، كلما مات واحد أبدل الله تعالى مكانه رجلا» «1» . وفى لفظ الطبرانى- فى الكبير-: «بهم تقوم الأرض وبهم يمطرون وبهم ينصرون» . ولأبى نعيم فى الحلية، عن ابن عمر رفعه: «خيار أمتى فى كل قرن خمسمائة، والأبدال أربعون، فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون، كلما مات رجل أبدل الله مكانه آخر، وهم فى الأرض كلها» «2» . وفى الحلية أيضا عن ابن مسعود رفعه: «لا يزال أربعون رجلا من أمتى، قلوبهم على قلب إبراهيم، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال، إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة» ، قال: فيم أدركوها يا رسول الله؟ قال: «بالسخاء والنصيحة للمسلمين» «3» . وعن معروف الكرخى «4» : من قال اللهم ارحم أمة محمد فى كل يوم كتبه الله من الأبدال. وهو فى الحلية بلفظ: «من قال فى كل يوم عشر مرات اللهم أصلح أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد كتب من الأبدال» «5» . وعن غيره قال: من علامة الأبدال أن لا يولد لهم، ويروى فى مرفوع معضل: «علامة أبدال أمتى أنهم لا يلعنون شيئا أبدا» . وقال يزيد بن هارون: الأبدال هم أهل العلم، وقال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم؟

_ (1) لم أقف عليه فى المسند ولا فى غيره بهذا اللفظ. (2) ضعيف: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (1/ 8) بسند ضعيف. (3) ضعيف جدّا: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (4/ 173) بسند ضعيف جدّا. (4) هو أحد أعلام الصوفية المعروفين، توفى ببغداد سنة (200 هـ) ، وحديثه مرسل. (5) ضعيف: أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (8/ 366) عن معروف الكرخى موقوفا عليه، وهو من طبقة تابعى التابعين.

* ومنها أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم، ويخرجون منها بلا ذنوب،

وفى تاريخ بغداد للخطيب، عن الكتانى قال: النقباء ثلاثمائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون فى الأرض، والعمد فى زوايا الأرض ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد، فإن أجيبوا وإلّا ابتهل الغوث، فلا يتم مسألته حتى تجاب دعوته، انتهى «1» . * ومنها أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم، ويخرجون منها بلا ذنوب، تمحص عنهم باستغفار المؤمنين لهم. رواه الطبرانى- فى الأوسط- من حديث أنس، ولفظه: قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمتى أمة مرحومة تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها باستغفار المؤمنين لها» «2» . * ومنها أنهم اختصوا فى الآخرة بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم. رواه أبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا بلفظ «وأنا أول من تنشق الأرض عنى وعن أمتى ولا فخر» «3» . * ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء «4» . رواه البخارى. والغرة: بياض فى وجه الفرس. والتحجيل: بياض فى قوائمه وذلك مما يكسبه حسنا وجمالا.

_ (1) قلت: هو كلام باطل، يحتوى على شرك والعياذ بالله، وهذه الألفاظ أصلا (البدلاء والأخيار والعمد والغوث) ليس لها أصل فى كتاب ولا سنة، ولا سلف صالح، بل هى بدع شركية دخلت فى هذه الأمة، كما دخلت فى الأمم من قبلهم، وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم..» الحديث، وقد فصل شيخ الإسلام فى الرد على هؤلاء الزنادقة، فانظر ذلك فى «مجموع الفتاوى» (11/ 434 و 438 و 440) ، وغير موضع من مجموع الفتاوى. (2) أخرجه الطبرانى فى الأوسط (1900) . (3) طرفه الأول صحيح: وقد تقدم. (4) صحيح: وقد تقدم قريبا.

* ومنها أنهم يكونون فى الموقف على مكان عال.

فشبه- صلى الله عليه وسلم- النور الذى يكون يوم القيامة فى أعضاء الوضوء بالغرة والتحجيل، ليفهم أن هذا البياض فى أعضاء الإنسان مما يزينه لا مما يشينه، يعنى أنهم إذا دعوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، أو كانوا على هذه الصفة. * ومنها أنهم يكونون فى الموقف على مكان عال. رواه ابن جرير وابن مردويه من حديث جابر مرفوعا بلفظ: «أنا وأمتى على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا، وما من نبى كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه» . وعند ابن مردويه من حديث كعب قال: «أنا وأمتى على تل» «1» . * ومنها: أن سيماهم فى وجوههم من أثر السجود. قال تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «2» . وهل هذه العلامة فى الدنيا أو فى الآخرة؟ قولان: أحدهما: أنها فى الدنيا، قال ابن عباس فى رواية ابن أبى طلحة: السمت الحسن. وفى رواية مجاهد: ليست بالتى ترون، هى سمت الإسلام وسيماه وخشوعه. وقيل: الصفرة فى الوجه من أثر السهر فتحسبهم مرضى وما هم بمرضى. والقول الثانى: أنه فى الآخرة يعنى أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشد بياضا يوم القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا فى الدنيا. رواه العوفى عن ابن عباس. وعن شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر، وقال عطاء الخراسانى: دخل فى هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. * ومنها أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم. رواه أحمد والبزار.

_ (1) تقدم. (2) سورة الفتح: 29.

* ومنها أن نورهم يسعى بين أيديهم

* ومنها أن نورهم يسعى بين أيديهم «1» . أخرجه أحمد بإسناد صحيح. * ومنها: أن لهم ما سعوا، وما يسعى لهم ، وليس لمن قبلهم إلا ما سعى، قاله عكرمة. وأما قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «2» . ففيها أجوبة: أحدها: أنها منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس، نسخها قوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «3» . فجعل الولد الطفل فى ميزان أبيه، ويشفع الله الآباء فى الأبناء، والأبناء فى الآباء، بدليل قوله تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً «4» . الثانى: أنها مخصوصة بالكافر، وأما المؤمن فله ما سعى غيره. قال القرطبى: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره. وفى الصحيح عن النبى- صلى الله عليه وسلم- «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» «5» وقال- صلى الله عليه وسلم- للذى حج عن غيره «حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة» «6» ، وعن عائشة أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه.

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 199) ، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 538) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) سورة النجم: 39. (3) سورة الطور: 21. (4) سورة النساء: 11. (5) صحيح: أخرجه البخارى (1952) فى الصوم، باب: من مات وعليه صوم، ومسلم (1147) فى الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (6) صحيح: أخرجه أبو داود (1811) فى المناسك، باب: الرجل يحج عن غيره، وابن ماجه (2903) فى المناسك، باب: الحج عن الميت، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3128) .

وقال سعد للنبى- صلى الله عليه وسلم-: إن أمى توفيت أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم» ، قال: فأى الصدقة أفضل؟ قال: «سقى الماء» «1» . وفى الموطأ عن عبد الله بن أبى بكر عن عمته أنها حدثته عن جدته: أنها جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس: أنها تمشى عنها. ومن المفسرين من قال: إن «الإنسان» فى الآية، أبو جهل، ومنهم من قال: عقبة بن أبى معيط، منهم من قال: الوليد بن المغيرة، ومنهم من قال: إخبار عن شرع من قبلنا، وقد دل شرعنا أن الإنسان له سعيه، وما سعى له، ومنهم من قال: الإنسان بسعيه فى الخير وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب، وأسدى لهم الخير وتودد إليهم فصار ثوابهم له بعد موته من سعيه. ومنهم من قال «الإنسان» فى الآية للحى دون الميت. ومنهم من قال: لم ينف فى الآية انتفاع الرجل بسعى غيره له، وإنما نفى ملكه لسعى غيره، وبين الأمرين فرق: فقال الزمخشرى فى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «2» . فإن قلت: أما صح فى الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه؟ قلت: فيه جوابان. أحدهما: أن سعى غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعى نفسه، وهو أن يكون مؤمنا مصدقا، كان سعى غيره كأنه سعى نفسه لكونه تبعا له، وقائما مقامه. والثانى: أن سعى غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه له فهو فى حكم الشرع كالنائب عنه، والوكيل القائم مقامه.

_ (1) حسن: والحديث أخرجه أبو داود (1679) فى الزكاة، باب: فى فضل سقى الماء، والنسائى (6/ 254) فى الخيل، باب: الاختلاف على سفيان، وأحمد فى «المسند» (5/ 284) و (6/ 7) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1113) . (2) سورة النجم: 39.

والصحيح من الأجوبة: أن قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «1» . عام مخصوص بما تقدم من الأجوبة. وقد اختلف العلماء فى ثواب القراءة، وهل يصل للميت؟. فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعى ومالك، ونقل عن جماعة من الحنفية. وقال كثير من الشافعية والحنفية: يصل، وبه قال أحمد بن حنبل- رحمه الله- بعد أن قال: القراءة على القبر بدعة، بل نقل عن الإمام أحمد: يصل إلى الميت كل شىء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر غير ذلك. وذكر الشيخ شمس الدين القطان العسقلانى: أن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبى هو الصحيح، كما تنفعه الصدقة والدعاء والاستغفار بالإجماع. وقد أفتى القاضى حسين: بأن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر جائز، كالاستئجار للأذان وتعليما لقرآن. لكن قال الرافعى وتبعه النووى: عود المنفعة إلى المستأجر شرط فى الإجارة، فيجب عود المنفعة فى هذه الإجارة إلى المستأجر أو لميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة، فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة. وذكروا له طريقين: أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة. والثانى: ذكر الشيخ عبد الكريم الشالوسى: أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، لكن لو قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينتفع الميت. قال النووى فى زيادات الروضة: ظاهر كلام القاضى حسين صحة

_ (1) سورة النجم: 39.

الإجارة مطلقا وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة. وهذا مقصود: ينتفع الميت. وقال الرافعى وتبعه النووى فى الوصية: الذى يعتاد من قراءة القرآن على رأس القبر قد ذكرنا فى باب الإجارة طريقين فى عودة فائدتها إلى الميت. وعن القاضى أبى الطيب طريق ثالث: وهو أن الميت كالحى الحاضر، فترجى له الرحمة ووصول البركة إذ أهدى الثواب له القارئ. وقال الشالوسى: إذا نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، إذ جعل ذلك قبل حصوله، وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ ثم جعل ما حصل من الثواب للميت ينفعه، إذ قد جعل من الأجر لغيره، والميت يؤجر بدعاء الغير. لكن إطلاق أن الدعاء ينفع الميت، اعترض عليه بعضهم بأنه موقوف على الإجابة. ويمكن أن يقال: الدعاء للميت مستجاب- كما أطلقوا- اعتمادا على سعة فضل الله. وقال الرافعى وتبعه النووى: يستوى فى الصدقة والدعاء، الوارث والأجنبى. قال الشافعى: وفى وسع الله أن يثب المتصدق أيضا. وقال الأصحاب: يستحب أن ينوى المتصدق الصدقة عن أبويه، فإن الله ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئا. وذكر صاحب العدة: أنه لو أنبط عينا أو حفر بئرا، أو غرس شجرا، أو وقف مصحفا فى حال حياته، أو فعل غيره بعد موته، يلحق الثواب بالميت. وقال الرافعى والنووى: إن هذه الأمور إذا صدرت عن الحى فهى صدقات جارية يلحقه ثوابها بعد الموت، كما ورد فى الخبر، ولا يختص الحكم بوقف المصحف، بل يلحق به كل وقف، وهذا القياس يقتضى جواز التضحية عن الميت، فإنها ضرب من الصدقة، لكن فى التهذيب: أنه لا تجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وكذا عن الميت إلا أن يكون أوصى به. وقد روى عن على أو غيره من الصحابة أنه كان يضحى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد موته، وعن أبى محمد بن إسحاق السراج قال: ضحيت عن النبى- صلى الله عليه وسلم- سبعين أضحية.

وأما إهداء القراءة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلا يعرف فيه خبر ولا أثر، وقد أنكره جماعة منهم الشيخ برهان الدين بن الفركاح لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم. وحكى صاحب «الروح» : أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة، قالوا: والنبى- صلى الله عليه وسلم- غنى عن ذلك، فإن له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شىء. قال الشافعى: ما من خير يعمله أحد من أمة النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا والنبى- صلى الله عليه وسلم- أصل فيه. قال فى تحقيق النصرة «1» : فجميع حسنات المسلمين وأعمالهم الصالحة فى صحائف نبينا- صلى الله عليه وسلم- زيادة على ما له من الأجر، مع مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى، لأن كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، وللرابع ثمانية وهكذا تضعيف كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-. وبهذا يعلم تفضيل السلف على الخلف. فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان للنبى- صلى الله عليه وسلم- من الأجر ألف وأربعة وعشرون، فإن اهتدى بالعاشر حادى عشر صار أجر النبى- صلى الله عليه وسلم- ألفين وثمانية وأربعون، وهكذا كلما ازداد واحد يضاعف ما كان قبله أبدا، كما قال بعض المحققين، انتهى. ولله در القائل، وهو سيدى محمد وفا: فلا حسن إلا من محاسن حسنه ... ولا محسن إلا له حسناته وبهذا يجاب عن استشكال دعاء القارئ له- صلى الله عليه وسلم- بزيادة التشريف مع العلم بكماله- عليه الصلاة والسلام- فى سائر أنواع الشرف. فكأن الداعى

_ (1) هو كتاب «تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة» لقاضيها زين الدين أبى بكر بن الحسين بن عمر العثمانى المراغى نزيل طيبة المتوفى سنة (816 هـ) ، قاله صاحب «كشف الظنون» (1/ 378) .

* ومن خصائص هذه الأمة أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم.

لحظ أن قبول قراءته يتضمن لمعلمه نظير أجره، وهكذا حتى يكون للمعلم الأول- وهو الشارع- صلى الله عليه وسلم- نظير جميع ذلك. ومن ذلك ما شرع عند رؤية الكعبة من قولهم: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما «1» ، فثمرة الدعاء بذلك عائد إلى الداعى، لاشتماله على طلب قبول القراءة، وهذا كما قالوا فى الصلاة عليه- زاده شرفا لديه- إن ثمرتها عائدة على المصلى- أشار لنحوه الحافظ ابن حجر. * ومن خصائص هذه الأمة أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم. رواه الطبرانى- فى الأوسط- من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا: «حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتى» «2» . * ومنها: أنه يدخل منهم الجنة سبعون ألفا بغير حساب «3» رواه الشيخان، وعند الطبرانى والبيهقى فى الشعب: «إن ربى وعدنى أن يدخل من أمتى الجنة سبعين ألفا لا حساب عليهم، وإنى سألت ربى المزيد فأعطانى مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا» «4» . وبالجملة: فقد اختصت هذه الأمة بما لم يعطه غيرها من الأمم تكرمة لنبيها- صلى الله عليه وسلم- وزيادة فى شرفه، وتفصيل فضلها وخصائصها يستدعى سفرا بل أسفارا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

_ (1) ضعيف: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه الطبرانى فى الكبير والأوسط، من حديث حذيفة بن أسيد- رضى الله عنه-، وفيه عاصم بن سليمان الكورى، وهو متروك، قاله الهيثمى فى «المجمع» (3/ 238) . (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 69) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه صدقة بن عبد الله السمين، وثقه أبو حاتم وغيره وضعفه جماعة فإسناده حسن. (3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو، ومسلم (220) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وفى الباب عن غيره من الصحابة- رضى الله عنهم-. (4) حسن: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (2/ 92) من حديث ثوبان- رضى الله عنه-، وذكره الحافظ فى «الفتح» (11/ 410) مع طرق أخرى وقال: فهذه طرق يقوى بعضها بعضا، وجاء فى أحاديث أخرى أكثر من ذلك، فذكرها.

المقصد الخامس الإسراء والمعراج

المقصد الخامس الإسراء والمعراج المقصد الخامس: فى تخصيصه- صلى الله عليه وسلم- بخصائص المعراج والإسراء، وتعميمه بلطائف التكريم فى حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى. اعلم- منحنى الله وإياك الترقى فى معارج السعادات، وأوصلنا به إليه فى حظائر الكرامات- أن قصة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات، وأظهر البراهين البينات، وأقوى الحجج المحكمات، وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه- صلى الله عليه وسلم- بعموم الكرامات. وقد اختلف العلماء فى الإسراء هل هو إسراء واحد فى ليلة واحدة؟ يقظة أو مناما؟ أو إسراآن كل واحد فى ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة مناما، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم مناما من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هى أربع إسراآت؟ * احتج القائلون بأنه رؤيا منام- مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء وحى- بقوله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «1» ، لأن الرؤيا مصدر الحلميّة، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريرى وغيرهما- كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشى- ورود «الرؤيا» للبصرية، ولحنوا المتنبى فى قوله: ورؤياك أحلى فى العيون من الغمض وأجيب: بأنه إنما قال «الرؤيا» لوقوع ذلك فى الليل، وسرعة تقضيه

_ (1) سورة الإسراء: 60.

كأنه منام، وبأن «الرؤيا» و «الرؤية» واحدة كقربى وقربة، ويشهد له قول ابن عباس فى الآية- كما عند البخارى-: هى رؤيا عين أريها- صلى الله عليه وسلم- ليلة أسرى به «1» . وزاد سعيد بن منصور عن سفيان فى آخر الحديث: وليس رؤيا منام ولم يصرح فى رواية البخارى بالمرئى. وعند سعيد بن منصور أيضا من طريق أبى مالك قال: هو ما أرى فى طريقه إلى بيت المقدس وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ «الرؤيا» على ما يرى بالعين فى اليقظة. وهو يرد على من خطأ المتنبى. على أنه اختلف المفسرون فى هذه الآية، فقيل: أى الرؤيا التى أريناك ليلة المعراج. قال البيضاوى ففسر الرؤيا بالرؤية. وقيل: رؤيا عام الحديبية، حين رأى أنه دخل مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس. وقيل: رؤيا وقعة بدر. وسأل ابن النقيب شيخه أبا العباس القرطبى عن الآية فقال: الصحيح أنها رؤية عين يقظة، أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبى- صلى الله عليه وسلم- الناس مصارعهم التى أراه جبريل، فتسامعت به قريش واستسخروا منه. انتهى. * واحتج القائلون بأنه رؤيا منام أيضا بقول عائشة: «ما فقدت جسده الشريف» «2» . وأجيب: بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة، لأنها لم تكن إذ ذاك زوجا، ولا فى سن من يضبط، أو لم تكن ولدت بعد على الخلاف فى الإسراء متى كان. وقال التفتازانى: أى ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والروح جميعا. انتهى. * واحتج القائلون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى «3» ، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذى وقع التعجب

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3888) فى فضائل الصحابة، باب: المعراج. (2) لم أقف عليه. (3) سورة الإسراء: 1.

به بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبى- صلى الله عليه وسلم- به، وإظهار الكرامة له بالإسراء. قالوا: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ بالمدح. وأجيب: بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له عنه على سبيل الامتحان عما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما رأى فى السماء، إذ لا عهد لهم بذلك. وقال النووى فى فتاويه: وكان الإسراء به- صلى الله عليه وسلم- مرتين: مرة فى المنام، ومرة فى اليقظة. وذكر السهيلى تصحيح هذا المذهب عن شيخه القاضى أبى بكر بن العربى، وأن مرة النوم توطئة له وتيسير عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء قد سهله الله عليه بالرؤيا، لأن هوله عظيم، فجاء فى اليقظة على توطئة وتقدمة، رفقا من الله بعبده وتسهيلا عليه. وقد جوز بعض قائلى ذلك أن تكون قصة المنام قبل المبعث، لأجل قول شريك فى رواية: «وذلك قبل أن يوحى إليه» «1» . واستشهدوا له بقول عائشة- رضى الله عنها-: أول ما بدئ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلى جاءت كفلق الصبح «2» وسيأتى البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى-. * واحتج القائلون بأنه أربع إسراآت يقظة بتعدد الروايات فى الإسراء،

_ (1) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث عند البخارى (3570) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومسلم (162) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (160) فى الإيمان، باب: بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئا ذكره الآخر. وأجيب: بأنه لا يدل على التعدد، لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه. وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الآخرى مرة على حدة فأثبت إسراآت متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب. ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف. ولو تعدد هذا التعدد لأخبر- صلى الله عليه وسلم- به أمته، ولنقله الناس على التعدد والتكرار. انتهى. وقد وقع فى رواية عبثر بن القاسم- بموحدة ثم مثلاثة بوزن جعفر- فى رواية عن حصين بن عبد الرحمن، عند الترمذى والنسائى: لما أسرى برسول الله- صلى الله عليه وسلم- جعل يمر بالنبى ومعه الواحد، الحديث. فإن كان ذلك محفوظا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأن الذى وقع بالمدينة أيضا غير الذى وقع بمكة. قال فى فتح البارى: والذى يتحرر فى هذه المسألة أن الإسراء الذى وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة، من استفتاح أبواب السماء بابا بابا، ومن التقاء الأنبياء كل واحد فى سماء، ولا المراجعة معهم، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلاة، ولا فى طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك. وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها- صلى الله عليه وسلم- فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها فى المنام والله أعلم. انتهى. وقال بعض العارفين: إن له- صلى الله عليه وسلم- أربعة وثلاثين مرة، الذى أسرى به منها إسراء واحد بجسمه، والباقى بروحه رؤيا رآها. انتهى. فالحق: أنه إسراء واحد، بروحه وجسده يقظة، فى القصة كلها. إلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغى العدول عن ذلك، إذ ليس فى العقل ما يحيله. قال الرازى: قال أهل التحقيق: الذى يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد- صلى الله عليه وسلم- وجسده

من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر: أما القرآن فهو قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «1» ، وتقرير الدليل: أن «العبد» اسم للجسد والروح، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بجميع الجسد والروح، ويدل عليه قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى «2» ولا شك أن المراد هنا مجموع الروح والجسد، وأيضا: قال سبحانه وتعالى فى سورة الجن: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ «3» ، والمراد: مجموع الروح والجسد وكذا هاهنا، انتهى. واحتجوا أيضا: بظاهر قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أسرى بى» لأن الأصل فى الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى يدل دليل على خلافه. وبأن ذلك لو كان مناما لما كان فيه فتنة للضعفاء، ولا استبعده الأغبياء. وبأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار بأنه أسرى به على البراق. فإن قلت: ما الحكمة فى كونه تعالى جعل الإسراء ليلا؟ أجيب: بأنه إنما جعله ليلا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة، لأنه تعالى اتخذه- صلى الله عليه وسلم- حبيبا وخليلا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة بالحبيب متحققة بالليل «4» . قال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانا بالغيب وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم. إذ الليل أخفى حالا من النهار، قال: ولعله لو عرج به نهارا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقى وجحد، انتهى. وفى ذلك حكمة أخرى على طريقة أهل الإشارات، ذكرها العلامة ابن مرزوق، وهى: أنه قيل لأن الله تعالى لما محا آية الليل وجعل آية النهار

_ (1) سورة الإسراء: 1. (2) سورة الجن: 9، 10. (3) سورة الجن: 19. (4) قلت: أرى أن علة ابن المنير، أولى بالترجيح.

النهار على الليل بالشمس فقيل له: لا تفتخر، إن كانت شمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود فى الليل إلى السماء. وقيل: لأنه- صلى الله عليه وسلم- سراج، والسراج إنما يوقد بالليل، وأنشد: قلت يا سيدى تؤثر اللي ... ل على بهجة النهار المنير قال لا أستطيع تغيير رسمى ... هكذا الرسم فى طلوع البدور إنما زرت فى الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نورى فإن قلت: أيما أفضل، ليلة الإسراء أو ليلة القدر؟ فالجواب: - كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش- أن ليلة الإسراء أفضل فى حق النبى- صلى الله عليه وسلم-، وليلة القدر أفضل فى حق الأمة، لأنها لهم خير من عمل فى ثمانين سنة لمن قبلهم، وأما ليلة الإسراء فلم يأت فى أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف. ولذلك لم يعينها النبى- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن ولا إلى أن تقوم الساعة فيها شىء، ومن قال فيها شيئا فإنما قاله من كيسه لمرجح ظهر له استأنس به، ولهذا تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شىء، ولو تعلق بها نفع للأمة- ولو بذرة- لبينه لهم نبيهم- صلى الله عليه وسلم-، انتهى. فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره- صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء؟ أجاب العارف عبد العزيز المهدوى: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العلية لم تكن لأحد من الأنبياء، إلا لنبينا- صلى الله عليه وسلم-. انتهى. وإنما قال تعالى: أَسْرى بِعَبْدِهِ «1» إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به، ليعلم أن الإسراء من عنده عز وجل هبة إلهية، وعناية ربانية، سبقت له- صلى الله عليه وسلم- مما لم يخطر بسره، ولا اختلج فى ضميره. وأدخل «باء» المصاحبة فى قوله تعالى: بِعَبْدِهِ «2» ليفيد أنه تعالى

_ (1) سورة الإسراء: 1. (2) سورة الإسراء: 1.

صحبه فى مسراه، صحبة بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية، ويشهد له قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أنت الصاحب فى السفر» «1» . وتأمل قوله تعالى: يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «2» ، وقوله أَسْرى بِعَبْدِهِ «3» يلح لك خصوصية مصاحبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- للحق دون عموم الخلق. وقرن سبحانه وتعالى «التسبيح» بهذا المسرى، لينفى بذلك عن قلب صاحب الوهم ومن يحكم عليه خياله من أهل التشبيه والتجسيم ما يتخيله فى حق الحق تعالى من الجهة والحد والمكان، ولذا قال: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا «4» يعنى ما رأى فى تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه تعالى يقول: ما أسريت به إلا لنريه الآيات، لا «إلى» فإنه لا يحدنى مكان، ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسرى به إلى، وأنا عنده، وأنا معه أينما كان. ولله در القائل: سبحان من أسرى إليه بعبده ... ليرى الذى أخفاه من آياته كحضوره فى غيبه وكسكره ... فى صحوه والمحو فى إثباته ويرى الذى عنه تكون سره ... فى صنعه إن شاءه وهباته ويريه ما أبدى له من جوده ... بوجوده والفقد من هيئاته سبحانه من سيد ومهيمن ... فى ذاته وسماته وصفاته وأكده تعالى بقوله: لَيْلًا «5» مع أن الإسراء لا يكون فى اللسان العربى إلا ليلا، لا نهارا، ليرتفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط، ويزيل من خاطر من يعتقد أن الإسراء ربما يكون نهارا، فإن القرآن

_ (1) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه مسلم (1342) فى الحج، باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره. (2) سورة يونس: 22. (3) سورة الإسراء: 1. (4) سورة الإسراء: 1. (5) سورة الإسراء: 1.

- وإن كان نزل بلغة العرب- فإنه خاطب به الناس أجمعين، أصحاب اللسان وغيرهم. وقال البيضاوى تبعا لصاحب الكشاف: وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء، ولذلك قرئ «من الليل» أى بعضه: كقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» وتعقبه القطب فى حاشيته على الكشاف كما نبهت عليه فى حاشية الشفاء. والمعاريج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السماوات، والثامن إلى سدرة المنتهى. والتاسع إلى المستوى الذى سمع فيه صريف الأقلام فى تصاريف الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب بالمكافحة والكشف الحقيقى. وقد وقع له- صلى الله عليه وسلم- فى سنى الهجرة العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة لهذه المعاريج العشرة، ولهذا ختمت سنى الهجرة بالوفاة، وهى لقاء الحق جل جلاله، والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق، وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهى المنزلة الرفيعة. كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس. وقد أفاد الإمام الذهبى أن الحافظ عبد الغنى جمع أحاديث الإسراء فى جزأين، ولم يتيسر لى الوقوف عليهما بعد الفحص. وقد صنف الشيخ أبو إسحاق النعمانى- رحمه الله- فى الإسراء والمعراج كتابا جامعا للأطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق، ولم أقف عليه حالة كتابتى هذا المقصد الشريف. ويرحم الله تعالى شيخ الإسلام والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلانى، فإنه قد جمع فى كتابه «الفتح» كثيرا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث، مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معانى كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه. وكل من صنف فى شىء من المنح النبوية، والمناقب

_ (1) سورة الإسراء: 79.

المحمدية لا يستغنى عن استجناء معارف اللطائف من رياض «عياض» «1» والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء «شفائه» المبرئ لمعضل الأمراض. فالله تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء هذه الأمة سجال رحمته ورضوانه ويسكننا معهم فى بحبوحة جناته. وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس، وأبى بن كعب، وجابر ابن عبد الله، وبريدة، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عمرو، وحذيفة بن اليمان، وشداد بن أوس، وصهيب، وعلى ابن أبى طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبى أمامة، وأبى أيوب، وأبى حبة، وأبى ذر، وأبى سعيد الخدرى، وأبى سفيان بن حرب، وأبى هريرة، وعائشة، وأسماء بنت أبى بكر، وأم هانئ، وأم سلمة، وغيرهم- رضى الله تعالى عنهم أجمعين-. وفى تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفى ويشفى. وبالجملة: فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة الملحدون، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «2» . وقد روى البخارى، عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبى الله- صلى الله عليه وسلم- حدثهم عن ليلة أسرى به [قال] : (بينما أنا نائم فى الحطيم- وربما قال: فى الحجر- مضطجعا، إذ أتانى آت فقدّ- قال: سمعته يقول: فشق- ما بين هذه إلى هذه. قال: فقلت للجارود وهو إلى جنبى: ما يعنى به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته. فاستخرج قلبى، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبى، ثم حشى ثم أعيد. ثم أتيت بدابة، دون البغل وفوق الحمار أبيض- فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم- يضع خطوه عند أقصى طرفه،

_ (1) يقصد القاضى عياض، صاحب كتاب «الشفا فى حقوق المصطفى» . (2) سورة الصف: 8.

فحملت عليه، فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا بك فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح. ثم صعد بى حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء ففتح لنا، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. ثم صعد بى إلى السماء الثالثة، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. ثم صعد بى حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. ثم صعد بى حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. ثم صعد بى حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال:

جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ والنبى الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكى لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتى. ثم صعد بى إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح. ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات. ثم رفع إلى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فاخترت اللبن، فقال: هى الفطرة التى أنت عليها وأمتك. ثم فرضت على الصلاة، خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: فقلت أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإنى والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس

صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربى حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. قال: فلما جاوزت نادانى مناد: أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى) «1» . وفى رواية له: (ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه فى صدرى ثم أطبقه) «2» . وفى رواية شريك: (فحشا به صدره ولغاديده) «3» وهى بلام مفتوحة وغين معجمة، أى عروق حلقه، وفى النهاية: جمع لغدوده: وهى لحمة مشرفة عند اللهاة. والشك فى قوله: «ربما قال فى الحجر» من قتادة، كما بينه أحمد عن عفان، ولفظه: (بينما أنا فى الحطيم، وربما قال قتادة: فى الحجر) . والمراد بالحطيم هنا: الحجر. ووقع عند البخارى فى أول بدء الخلق بلفظ (بينما أنا عند البيت) «4» وهو أعم. وفى رواية الزهرى عن أنس عن أبى ذر (فرج سقف بيتى وأنا بمكة) «5» . وفى رواية الواقدى بأسانيده: أنه أسرى به من شعب أبى طالب.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3887) فى المناقب، باب: المعراج، ومسلم (164) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلاة. (2) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، ومسلم (163) فيما سبق، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (7517) فى التوحيد، باب: قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً من حديث أنس- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (3207) فى بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، من حديث مالك ابن صعصعة- رضى الله عنه-. (5) صحيح: وهى رواية أبى ذر المتقدمة قبل حديثين.

وفى حديث أم هانئ- عند الطبرانى- أنه بات فى بيتها، قالت: ففقدته من الليل، فقال: «إن جبريل أتانى» «1» . والجمع بين هذه الأقوال- كما فى فتح البارى «2» - أنه بات فى بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبى طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه، فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخذه الملك فأخرجه من المسجد، فأركبه البراق. قال: وقد وقع فى مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع. فإن قيل: لم فرج سقف بيته- صلى الله عليه وسلم- ونزل منه الملك، ولم لم يدخل عليه من الباب، مع قوله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «3» . أجيب: بأن الحكمة من ذلك أن الملك انصب من السماء انصبابة واحدة، ولم يعرج على شىء سواه، مبالغة فى المفاجأة، وتنبيها له على أن الطالب وقع على غير ميعاد، كرامة له- صلى الله عليه وسلم-. وهذا بخلاف موسى- عليه الصلاة والسلام-، فكانت كرامته بالمناجاة عن ميعاد واستعداد بخلاف نبينا- صلى الله عليه وسلم- فإنه حمل عنه ألم الانتظار، كما حمل عنه ألم الاعتذار. ويؤخذ من هذا: أن مقام نبينا- صلى الله عليه وسلم- بالنسبة إلى مقام موسى- عليه السّلام- مقام المراد بالنسبة إلى مقام المريد. ويحتمل أن يكون توطئة وتمهيدا لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف ثم التأم السقف على الفور كيفية ما يصنع به، وقرب له الأمر فى نفسه بالمثال المشاهد فى بيته، لطفا فى حقه- صلى الله عليه وسلم- وتثبيتا لصبره، والله أعلم. * وقوله: (مضطجعا) زاد فى بدء الخلق (بين النائم واليقظان) وهو

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 75، 76) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه عبد الأعلى بن أبى المساور، متروك كذاب. (2) (7/ 204) . (3) سورة البقرة: 189.

محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق، استمر فى يقظته. * وأما ما وقع فى رواية شريك عنده أيضا (فلما استيقظت) فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد استيقظت: أفقت، يعنى أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوى، فالمراد: الإفاقة البشرية من الغمرة الملكية. * وقوله: (إذ أتانى آت) هو جبريل- عليه السّلام-، وفى رواية شريك (أنه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحى إليه، وهو نائم فى المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم وكانت تلك الليلة- أى كانت القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا- فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه ... ) «1» . وقد أنكر الخطابى قوله: (قبل أن يوحى إليه) وكذا القاضى عياض والنووى، وعبارة النووى: وقع فى رواية شريك- يعنى هذه- أوهام أنكرها العلماء، أحدها قوله: (قبل أن يوحى إليه) وهو غلط فلم يوافق عليه. وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل الوحى. انتهى. فقد صرح هؤلاء بأن شريكا تفرد بذلك. لكن قال الحافظ ابن حجر: فى دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس- بالمعجمة ونون مصغرا- عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموى فى كتاب المغازى له من طريقه. قال: ولم يقع التعيين بين المجيئين، فيحمل على أن المجىء الثانى كان بعد الوحى، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج. وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة أو ليالى أو عدد سنين وبهذا يرتفع الإشكال من رواية شريك، ويحصل به الوفاق أن الإسراء كان فى اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة وسقط

_ (1) صحيح: وقد تقدمت رواية شريك أكثر من مرة.

تشنيع الخطابى وغيره بأن شريكا خالف الإجماع فى دعواه أن المعراج كان قبل البعثة، وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة، قوله فى هذا الحديث نفسه: أن جبريل قال لبواب السماء إذ قال له: أبعث؟ قال: نعم، فإنه ظاهر فى أن المعراج كان بعد البعثة. * ووقع فى رواية ميمون بن سياه- عند الطبرانى-: فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا: أيهم؟ وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقال: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤوه وهم ثلاثة. وفى رواية مسلم: سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بى. والمراد بالرجلين: حمزة وجعفر وكان النبى- صلى الله عليه وسلم- نائما بينهما. * وقوله: «فقد» بالقاف والدال المهملة الثقيلة. «من ثغره» بضم المثلاثة وسكون الغين المعجمة، وهو الموضع المنخفض الذى بين الترقوتين. «إلى شعرته» بكسر الشين المعجمة، أى شعر العانة الشريفة. وفى رواية مسلم: إلى أسفل بطنه. وفى رواية البخارى: إلى مراق البطن. وفى رواية شريك- عنده-: فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته- بفتح اللام وتشديد الموحدة- وهو موضع القلادة من الصدر. وقد أنكر القاضى عياض فى «الشفاء» وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبى قبل الوحى فى بنى سعد. ولا إنكار فى ذلك- كما قاله الحافظ أبو الفضل العسقلانى- رحمه الله- فقد تواترت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم فى الدلائل، ولكل منها حكمة: فالأول: وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس: فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك «1» . وكان هذا فى زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان. ولعل هذا الشق كان سببا فى

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (161) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفرض الصلوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

إسلام قرينه المروى عند البزار من حديث ابن عباس «1» . ويحتمل أن يكون إشارة إلى حظ الشيطان المباين كالعفريت الذى أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه. وأما شق الصدر عند المبعث، فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوى على أكمل الأحوال من التطهير. وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء، فللتهيؤ للترقى إلى الملأ الأعلى، والثبوت فى المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء الأسماء الحسنى، ولهذا لما لم يتفق لموسى- عليه الصلاة والسلام- مثل هذا التهيؤ لم تتفق له الرؤية، وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل؟! ويحتمل أن تكون الحكمة فى هذا الغسل، لتقع المبالغة فى الإسباغ بحصول المرة الثالثة، كما تقرر فى شرعه- صلى الله عليه وسلم-. ثم إن جميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شىء من ذلك. قال العارف ابن أبى جمرة: فيه دليل على أن قدره الله عز وجل لا يعجزها ممكن، ولا تتوقف لعدم شىء ولا لوجوده، وليست مربوطة بالعادة إلا حيث شاءته القدرة، لأنه ما يعهد ويعرف أن البشر مهما شق بطنه كله وانجرح القلب مات ولم يعش، وهذا النبى- صلى الله عليه وسلم- قد شق بطنه المكرمة، حتى أخرج القلب فغسل، وقد شق بطنه كذلك أيضا وهو صغير وشق قلبه وأخرجت منه نزغة الشيطان. ومعلوم أن القلب هما وصل له الجرح مات صاحبه، وهذا النبى- صلى الله عليه وسلم- شق بطنه فى هاتين المرتين، ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أن أراد الله تعالى أن لا يؤثر ما أجرى به العادة، أن يؤثر موت صاحبها، فأبطل تلك العادة. وقد رمى إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- فى النار فلم تحرقه، وكانت عليه بردا وسلاما. انتهى.

_ (1) تقدم.

وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه- صلى الله عليه وسلم- بتحقيق ما أوتى من الصبر، فهو من جنس ما أكرم به إسماعيل الذبيح بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدّا وكتفا وتلّا للجبين، وإهواء بالمدية إلى المنحر فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «1» ، ووفى بما وعد الله، فأكرمه الله بالثناء على صبره إلى الأبد. ولا مرية أن الذى حصل من صبر نبينا- صلى الله عليه وسلم- على شق الصدر أشق وأجل، لأن تلك مقدمات وهذه نتيجة، وتلك معاريض وهذه حقيقة، والمنحر مقتل وما أصابه من إسماعيل إلا صورة القتل لا فعله، وشق صدر نبينا- صلى الله عليه وسلم- واستخراج قلبه ثم شقه ثم كذا ثم كذا مقاتل عديدة وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر. فإن قلت: إنما يتحقق الصبر لو كان هناك مشقة، فلعل العادة لما انخرقت فى إبقاء الحياة انخرقت فى رفع المشاق وحمل الآلام. أجيب: بأنه ورد فى حديث شق صدره: فأقبل وهو منتقع اللون أو ممتقع اللون، بالميم بدل النون، وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعاجلة المذكورة محقق. قال القاضى عياض: وأصل «انتقع» صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة. وأما قول ابن الجوزى: فشقه وما شق عليه، فيحمل على أنه صبر صبر من لا يشق عليه. انتهى. وكذلك الابتلاء أيضا من حيث السن، فإن ذلك وقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- بعيد ما فطم، وأيضا: فإنه كان منفردا عن أمه ويتيما من أبيه، واختطف من بين الأطفال، وفعل به ما فعل من الأفعال تسهيلا لما يلقاه فى المال، وتعظيما لما يناله على الصبر من الثواب والثناء، ولهذا لما شج وجرح وكسرت رباعيته

_ (1) سورة الصافات: 102.

قال: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» «1» ، زاده الله شرفا. وقوله: «ثم أتيت بطست من ذهب» إنما أتى بالطست لأنه أشهر آلات الغسل عرفا. فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام فى شرعه- صلى الله عليه وسلم- فكيف استعمل الطست الذهب هنا؟ أجاب العارف ابن أبى جمرة: بأن تحريم الذهب إنما هو لأجل الاستمتاع به فى هذه الدار، وأما فى الآخرة فهو للمؤمنين خالصا، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «هو لهم فى الدنيا وهو لنا فى الآخرة» «2» قال: ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه- صلى الله عليه وسلم- وإنما كان غيره هو السائق له والمتناول لما كان فيه حتى وضعه فى القلب المبارك. فسوقان الطست المبارك من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام فانتفى التعارض بدليل ما قررناه. انتهى. وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لا يكفى أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة، لأنه لو كان قد حرم عليه استعماله لنزه أن يستعمله غيره فى أمر يتعلق ببدنه المكرم. ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع فى تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحوال الآخرة، أو لعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب فى هذه الشريعة. ويظهر هاهنا مناسبات: منها أنه من أوانى الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، وأنه لا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب قلبه- صلى الله عليه وسلم- لأنه من أوانى أحوال الجنة، ولا تأكله النار ولا التراب، وإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولا يلحقه الصدأ، وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى وهى ثقل الوحى فيه. انتهى.

_ (1) قلت: هو عند البخارى (3477) فى أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (1792) فى الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه- قال: كأنى أنظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحكى نبيّا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «رب اغفر لقومى، فإنهم لا يعلمون» . (2) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (5426) فى الأطعمة، باب: الأكل فى إناء مفضض، ومسلم (2067) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.

قلت: قوله: «ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب فى هذه الشريعة» . قد جزم هو فى أول الصلاة من كتابه فتح البارى: بأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة. وقال السهيلى وابن دحية: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه ولكونه عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه، فلوضاءته ونقائه وصفائه. انتهى. والمراد بقوله: (ملئ حكمة وإيمانا) أن الطست جعل فيها شىء يحصل به كمال الإيمان والحكمة فسمى حكمة وإيمانا مجازا. ويحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسد المعانى جائز، كما أن سورة البقرة تجىء يوم القيامة كأنها ظلة، والموت فى صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك. وقال البيضاوى: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعانى قد وقع كثيرا، كما مثلت له- صلى الله عليه وسلم- الجنة والنار فى عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوى بالمحسوس. وقال العارف ابن أبى جمرة: فيه دليل على أن الإيمان والحكمة جواهر محسوسات لا معانى، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال عن الطست: إنه أتى به مملوآ إيمانا وحكمة، ولا يقع الخطاب إلا على ما يفهم ويعرف، والمعانى ليس لها أجسام حتى تملأ، وإنما يمتلئ الإناء بالأجسام والجواهر، وهذا نص من الشارع- صلى الله عليه وسلم- بضد ما ذهب إليه المتكلمون فى قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض. والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه، هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التى ليس للحواس فيها إدراك، ولا من النبوة إخبار عن حقيقتها غير محققة، وإنما هى غلبة ظن، لأن للعقل- بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق- حدّا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها، لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التى ذكرها الشارع- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل إلى هذه الحقيقة التى أخبر بها- صلى الله عليه وسلم-. فيكون الجمع بينهما أن يقال: ما قاله المتكلمون حق لأنه الصادر عن الجواهر وهو الذى يدرك بالعقل. والحقيقة ما ذكره- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث.

ولهذا نظائر كثيرة بين المتكلمين وآثار النبوة، ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذى قررناه وما أشبهه. ثم مثل بمجىء الموت فى هيئة كبش أملح، ثم بالأذكار والتلاوة، ثم قال: لأن ما ظهر منها هنا معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات لأنها توزن، ولا يوزن فى الميزان إلا الجواهر. قال: وفى ذلك دليل لأهل الصوفية وأصحاب المعاملات والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم جواهر محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح، ومنهم من يعاينه مثل الشمعة، ومنهم من يعاينه مثل المشعل وهو أقواها. ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققا حتى يعاين قلبه بعين بصيرته، كما يعاين كفه بعين بصره فيعرف الزيادة فيه من النقصان «1» . فإن قيل: ما الحكمة فى شق صدره الشريف ثم ملئ إيمانا وحكمة، ولم لم يوجد الله تعالى ذلك فيه من غير أن يفعل فيه ما فعل؟ أجاب العارف ابن أبى جمرة: بأنه- صلى الله عليه وسلم- لما أعطى كثرة الإيمان والحكمة وقوى التصديق إذ ذاك، أعطى برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف من جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له- صلى الله عليه وسلم- قوة الإيمان من ثلاثة أوجه: بقوة التصديق، والمشاهدة، وعدم الخوف من العادات المهلكات فكمل له- صلى الله عليه وسلم- بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل، وعدم الخوف مما سواه. ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه كان- صلى الله عليه وسلم- فى العالمين أشجعهم وأثبتهم وأعلاهم حالا ومقالا. ففى العلوى: كان- كما أخبر- صلى الله عليه وسلم- أن جبريل لما وصل معه إلى مقامه قال: ها أنت وربك، وهذا مقامى لا أتعداه، فزج فيه- أى فى النور- زجة ولم يتوان ولم يتلفت، فكان هناك فى الحضرة كما أخبر عنه ربه عز وجل بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «2» . وأما حاله- صلى الله عليه وسلم- فى هذا

_ (1) قلت: الإيمان عند أهل السنة والجماعة، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ويستشعر بذلك المؤمن مع نفسه. (2) سورة النجم: 17.

العالم: فكان إذا حمى الوطيس فى الحرب ركض بغلته فى نحر العدو، وهم شاكون فى سلاحهم، ويقول: أنا ابن عبد المطلب، أنا النبى لا كذب «1» . ثم إن العناية بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة، فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة فى أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر والفكر إنما هو القلب لا الدماغ، خلافا للمعتزلة والفلاسفة. وأما الحكمة فى غسل قلبه المقدس بماء زمزم، فقيل لأن ماء زمزم يقوى القلب ويسكن الروع. قال الحافظ الزين العراقى: ولذلك غسل به قلبه- صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء ليقوى على رؤية الملكوت. واستدل شيخ الإسلام البلقينى، بغسل قلبه الشريف به على أنه أفضل من ماء الكوثر، قال: لأنه لم يكن يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه، وإليه يومئ قول العارف ابن أبى جمرة فى كتابه «بهجة النفوس» . وأما قوله- صلى الله عليه وسلم-: «فغسل صدرى» فالظاهر أن المراد به القلب، كما فى الرواية الآخرى، وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع الجمع بأن يقال: أخبر- صلى الله عليه وسلم- مرة بغسل صدره الشريف ولم يتعرض لذكر قلبه، وأخبر مرة بغسل قلبه ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما معا مبالغة فى تنظيف المحل المقدس. ولا شك أن المحل الشريف كان طاهرا مطهرا وقابلا لجميع ما يلقى إليه من الخير، وقد غسل أولا وهو- صلى الله عليه وسلم- طفل، وأخرجت من قلبه نزعة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظاما وتأهبا لما يلقى هناك، وقد جرت الحكمة بذلك فى غير ما موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفا، لأن الوضوء فى حقه إنما هو إعظام وتأهب للوقوف بين يدى الله تعالى ومناجاته، فلذلك غسل جوفه الشريف هنا، وقد قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ «2» فكان الغسل له

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2864) فى الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره فى الحرب، ومسلم (1776) فى الجهاد والسير، باب: فى غزوة حنين، من حديث البراء ابن عازب- رضى الله عنه-. (2) سورة الحج: 32.

- صلى الله عليه وسلم- من تعظيم شعائر الله، وإشارة لأمته بالفعل بتعظيم شعائر الله، كما نص لهم عليه بالقول. وأما قوله: «ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا» وفى رواية عنده فى الصلاة «ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء» . فظاهره: أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء. قال العارف ابن أبى جمرة: أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون فى الهواء، وقد جرت العادة بأن البشر لا يمشى فى الهواء، سيما وقد كان راكبا على دابة من ذوات الأربع، لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان، فكما بسط الله تعالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشون فى الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية. وقد سئل- صلى الله عليه وسلم- حين أخبر عن الأشقياء الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة فقال- صلى الله عليه وسلم-: «الذى أمشاهم فى الدنيا على أقدامهم قادر أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم» «1» . انتهى. وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج كان فى ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليهم لم يذكر هنا. فأما المعراج ففى غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق، بل رقى فى المعراج وهو السلم، كما وقع التصريح به فى حديث عند ابن إسحاق والبيهقى فى الدلائل كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. ويمكن أن يقال: ما وقع هنا اختصار من الراوى، والإتيان ب «ثم» المقتضية للتراخى لا ينافى وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما: الانطلاق والعروج. وحاصله: أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، وثابت البنانى قد حفظ الحديث. ففى روايته عند مسلم: أنه أتى بيت المقدس فصلى فيه ثم عرج إلى السماء كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. وقد قيل: إن الحكمة فى الإسراء به راكبا، مع القدرة على طى الأرض له، إشارة إلى

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2806) فى صفة القيامة، باب يحشر الكافر على وجهه، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة، فى مقام خرق العادة، لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى من يختص به بعث إليه بمركوب سنى يحمله عليه فى وفادته إليه. وفى كلام بعض أهل الإشارات: لما كان- صلى الله عليه وسلم- ثمرة شجرة الكون ودرة صدفة الوجود، وسرّ معنى كلمة «كن» ولم يكن بد من عرض هذه الثمرة بين يدى مثمرها رفعها إلى حضرة قربه، والطواف بها على ندمان حضرته، أرسل إليه أعز خدام الملك عليه، فلما ورد عليه قادما، وافاه على فراشه نائما، فقال له قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم. قال: يا جبريل إلى أين؟ قال: يا محمد ارفع «الأين» من البين، إنما أنا رسول القدم أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة، الكل مراد لأجلك، وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة، أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعارف، أنت بدر اللطائف، ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمى ذلك الحمى إلا لوصلك، وما روّق كأس المحبة إلا لشربك. فقال- صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل فالكريم يدعونى إليه، فما الذى يفعل بى؟ قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: يا جبريل هذا لى، فما لعيالى وأطفالى؟ قال: ولسوف يعطيك ربك فترضى، قال: يا جبريل الآن طاب قلبى ها أنا ذاهب إلى ربى، ثم قال جبريل: يا محمد إنما جىء بى إليك الليلة لأكون خادم دولتك، وحاجب حاشيتك، وحامل غاشيتك، وجىء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك، لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبا أو استودعوا قريبا وأرادوا ظهور إكرامه واحترامه أرسلوا أخص خدامهم وأعز نوابهم لنقل أقدامهم، فجئناك على رسم عادة الملوك وآداب السلوك، ومن اعتقد أنه وصل إليه بالخطا فقد وقع بالخطأ، ومن ظن أنه محجوب بالغطا فقد حرم العطا. انتهى «1» . والحكمة فى كون البراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، ولم يكن على شكل الفرس، إشارة إلى أن الركوب كان فى سلم وأمن لا فى حرب

_ (1) قلت: ومنذ متى نأخذ ديننا من أهل الإشارات، أجهل الأمة بهذا الدين، والأولى العمل بأهل التصريحات الذين هم سلف هذه الأمة الصحابة والتابعون على هداهم إلى يوم الدين.

وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك فى العادة. وذكره بقوله: أبيض، باعتبار كونه مركوبا، أو عطفا على لفظ البراق. واختلف فى تسميته بذلك، فقيل: من البريق، وقال القاضى عياض: لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان فى خلال صوفها الأبيض طاقات سود، وقيل: من البرق، لأنه وصف بسرعة السير، ويحتمل أن لا يكون مشتقا. ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه- بسكون الراء وبالفاء- أى يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره. وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره فى خطوة واحدة، قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة، لأن بصر الذى فى الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السماوات فى سبع خطوات. انتهى. وفى حديث ابن مسعود عند أبى يعلى والبزار- كما أفاده فى الفتح-: إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه. وفى رواية لابن سعد عن الواقدى بأسانيده: له جناحان. قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره. وعند الثعلبى- بسند ضعيف- عن ابن عباس، فى صفة البراق: له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء. وفى رواية أبى سعد فى «شرف المصطفى» فكان الذى أمسك بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل. وفى رواية معمر عن قتادة عن أنس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتى بالبراق ليلة أسرى به مسرجا ملجما، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا، ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، قال: فارفض عرقا «1» . أخرجه الترمذى وقال: حسن غريب وصححه ابن حبان.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3131) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وأحمد فى «المسند» (3/ 164) ، وابن حبان فى «صحيحه» (46) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وذكر ابن إسحاق عن قتادة: أنه لما شمس «1» وضع جبريل- عليه السّلام- يده على معرفته وقال: أما تستحى وذكر نحوه، لكنه مرسل لأنه لم يذكر أنسا. وفى رواية وثيمة عند ابن إسحاق: نعست حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها. وفى رواية للنسائى وابن مردويه من طريق يزيد بن أبى مالك عن أنس نحوه موصولا، وزاد: وكانت تسخر للأنبياء قبله، ونحوه من حديث أبى سعيد عند ابن إسحاق. وفيه دلالة على أن البراق كان معدّا لركوب الأنبياء، خلافا لمن نفى ذلك، كابن دحية، وأوّل قول جبريل: «فما ركبك أكرم على الله منه» أى: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه؟ فيكون مثل قول امرىء القيس: على لاحب لا يهتدى لمناره فيفهم أن له منارا لا يهتدى له، وليس المراد: إلا أنه لا منار له البتة فكيف يهتدى به، فتأمله: وقد جزم السهيلى بأن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله. وقال النووى: قال صاحب مختصر العين، وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق. قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح، انتهى وقد تقدم النقل بذلك. قال فى الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: (فربطته بالحلقة التى كانت تربط بها الأنبياء) انتهى. فليتأمل فإنه ليس فيه فربطته بالحلقة التى كانت تربطه بها الأنبياء، وإنما قال: تربط بها الأنبياء وسكت عن ذكر المربوط ما هو؟ فيحتمل- كما قال ابن المنير- أن يكون غير البراق، ويحتمل أن يكون ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أى تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى، انتهى. ولكن وقع التصريح بذلك فى حديث أبى سعيد عند البيهقى ولفظه: «فأوثقت دابتى بالحلقة التى كانت الأنبياء تربطها فيها» وقد وقع عند ابن إسحاق من رواية وثيمة فى ذكر الإسراء: فاستصعب البراق وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت فى الفترة.

_ (1) شمس الفرس: منع ظهره، فهو شامس وشموس، من شمس وشمس.

وفى مغازى ابن عائذ، من طريق الزهرى عن سعيد بن المسيب قال: البراق هى الدابة التى كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل. وعلى هذا فلا يكون ركوب البراق من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. نعم قيل: ركوبه مسرجا ملجما لم يرد لغيره من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه؟ أجيب: بأنه تنبيه على أنه لم يذلل قبل ذلك، إن قلنا إنه لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد بركوبه إن قلنا إنه ركب قبله. ويحتمل أن يكون استصعابه تيها وزهوا بركوبه- صلى الله عليه وسلم-، وأراد جبريل «أبمحمد تستصعب» استنطاقه بلسان الحال أنه لم يقصد الصعوبة وإنما تاه زهوا لمكان الرسول- صلى الله عليه وسلم- منه، ولهذا قال: فارفض عرقا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبرئا من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب، ومثل هذا رجفة الجبل به حتى قال: «اثبت فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان» «1» فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب. وكذلك البراق لما قال له جبريل: اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله منه استقر وخجل من ظاهر الاستصعاب وتوجه الخطاب فعرق حتى غرق. ووقع فى حديث حذيفة عند الإمام أحمد قال: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالبراق فلم يزل على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس. وهذا لم يسنده حذيفة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد، ويحتمل أن يكون قوله: «هو وجبريل» متعلقا بمرافقته فى السير، لا فى الركوب. وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فلا مدخل لغيره فيها. وقد تعقب الحافظ ابن حجر التأويل المذكور: بأن فى صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود: أن جبريل حمله على البراق رديفا له، وفى رواية الحارث فى مسنده: أتى بالبراق فركبه خلف جبريل فسار بهما. فهذا صريح فى ركوبه معه، والله أعلم، انتهى.

_ (1) صحيح: وقد تقدم.

وقد وقع فى غير هذه الرواية بيان ما رآه فى ليلة الإسراء، فمن ذلك: ما وقع فى حديث شداد بن أوس- عند البزار والطبرانى، وصححه البيهقى فى الدلائل- أنه أول ما أسرى به مرّ بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى، فقال: صليت بيثرب، ثم مر بأرض بيضاء فقال: انزل فصل، فصلى، فقال: صليت بمدين، ثم مر ببيت لحم فقال: انزل فصل، فنزل فصلى، فقال صليت حيث ولد عيسى «1» . وفى حديث أنس عند البيهقى فى الدلائل «2» : لما جاء جبريل بالبراق إليه- صلى الله عليه وسلم- فكأنها أصرت أذنيها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فو الله ما ركبك مثله، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا هو بعجوز على جنب الطريق، فقال: «ما هذا يا جبريل؟» قال: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر، وأنه مرّ بجماعة فسلموا عليه فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: اردد عليهم السلام، فرد، الحديث. وفى آخره فقال له جبريل: أما العجوز التى رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا ما بقى من عمر تلك العجوز، والذى دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، أما لو أجبتهما لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام-، قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: فى ألفاظه نكارة وغرابة. وفى حديث: أنه مر بموسى- عليه السّلام-، وهو يصلى فى قبره «3» . قال أنس: ذكر كلمة فقال: أشهد أنك رسول الله. ولا مانع أن الأنبياء- عليهم السلام- يصلون فى قبورهم لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فهم يتعبدون بما يجدون من دواعى أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. وستأتى الإشارة إليه فى حجة الوداع- إن شاء الله تعالى-.

_ (1) أخرجه الطبرانى فى الكبير (7/ 339) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (2/ 355) . (2) (2/ 362) . (3) صحيح: وقد تقدم قريبا.

وفى حديث أبى هريرة عند الطبرانى والبزار: أنه- صلى الله عليه وسلم- مرّ على قوم يزرعون ويحصدون فى كل يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل- عليه السّلام-: ما هذا؟ فقال: هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شىء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين، ثم مرّ على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شىء، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة، ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، يأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله وما ربك بظلام للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدر، ولحم آخر نىء فى قدر خبيث، فجعلوا يأكلون النىء الخبيث، ويدعون النضيج، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال جبريل: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتى امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتى رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يريد أن يحمل عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شىء، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة، قال: ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها، ثم أتى على واد فوجد فيه ريحا طيبة باردة، وريح مسك، وسمع صوتا، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول: رب آتنى بما وعدتنى. فقد كثرت غرفى وإستبرقى وحريرى وسندسى وعبقريى ولؤلؤى ومرجانى وفضى وذهبى، وأكوابى وصحافى وأباريقى، ومراكبى، وعسلى ومائى ولبنى وخمرى، فائتنى بما وعدتنى، فقال: لك كل مسلم

ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بى وبرسلى وعمل صالحا، ولم يشرك بى شيئا، ولم يتخذ من دونى أندادا، ومن خشينى فهو آمن، ومن سألنى أعطيته، ومن أقرضنى أجزيته، ومن توكل على كفيته، إننى أنا الله، لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، قد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: رضيت، ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا منتنة فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول: رب آتنى ما وعدتنى، فقد كثرت سلاسلى وأغلالى وسعيرى وحميمى وفساقى وعذابى، وقد بعد قعرى واشتد حرى، فائتنى بما وعدتنى، قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة، وكل جبار عنيد لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: رضيت. قال: فسار حتى أتى بيت المقدس. وفى رواية أبى سعيد عند البيهقى: دعانى داع عن يمينى: انظرنى أسألك، فلم أجبه، ثم دعانى آخر عن يسارى كذلك فلم أجبه، وفيه: إذا امرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى فقالت: يا محمد انظرنى أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه أن جبريل قال له: أما الداعى الأول فهو داعى اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك. وأما الثانى فداعى النصارى، ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة فالدنيا. وفيه: أنه صعد إلى السماء الدنيا ورأى فيها آدم، وأنه رأى أخونه عليها لحم طيب ليس عليها أحد. وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون، قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام، وفيه: أنه مرّ بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خرّ، وأن جبريل قال له: هم أكلة الربا، وأنه مرّ بقوم مشافرهم كالإبل، يلتقمون حجرا، فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل قال: إن هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، وأنه مرّ بنساء تعلقن بثديهن وأنهن الزوانى، وأنه مرّ بقوم يقطع من جنوبهم اللحم فيطعمون وأنهم الغمازون «1» اللمازون «2» .

_ (1) الغمز: الإشارة بالعين والحاجب والجفن. (2) اللمز: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها.

وفى حديث أبى هريرة- عند البزار والحاكم- أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أتى هناك بأرواح الأنبياء فأثنوا على الله. وفيه قول إبراهيم: لقد فضلكم محمد. وفى رواية عبد الرحمن بن هشام عن أنس: ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة. وفى حديث أم هانئ عند أبى يعلى: ونشر لى رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وعيسى. وفى رواية أبى سلمة ثم حانت الصلاة فأممتهم «1» . أخرجه مسلم. وفى حديث أبى أمامة عند الطبرانى فى الأوسط: ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدا- صلى الله عليه وسلم-. * وفى رواية ثابت البنانى عن أنس عند مسلم قال: فربطته، يعنى البراق، بالحلقة- وهى بإسكان اللام على الأشهر- التى تربط به الأنبياء- بضمير المذكر، إعادة على معنى الحلقة وهو الشىء، والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير- قال- صلى الله عليه وسلم-: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءنى جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة «2» . أى اخترت اللبن الذى عليه بنيت الخلقة، وبه نبت اللحم ونشز العظم، أو اخترته لأنه الحلال الدائم فى دين الإسلام بخلاف الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر. وقال النووى: المراد بالفطرة هنا، الإسلام والاستقامة، قال: ومعناه- والله أعلم-: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين، سليم العاقبة، أما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة لأنواع الشر فى الحال والمال، انتهى. وقال القرطبى: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لكونه أول شىء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر فى ميل النبى- صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره لكونه مألوفا له أولا،

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (172) فى الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (162) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات، وفرض الصلوات.

انتهى. وإذا كانت الخمر مباحة- لأنها إنما حرمت بالمدينة والإسراء كان بمكة- فما وجه تعيينه- صلى الله عليه وسلم- لأحد المباحين، وما وجه عد ذلك صوابا، وعد الآخر خطأ، وهما سواء فى الإباحة؟ فيحتمل أن يكون توقاها تورعا وتعريضا بأنها ستحرم، وأنه لما وافق الصواب فى علم الله تعالى قال له جبريل، أصبت الفطرة، أو أصبت أصاب الله بك، كما روى. وإذا قلنا: بأنها كانت من خمر الجنة فيكون سبب تجنبها صورتها ومضاهاة الخمر المحرمة، أى فى علم الله تعالى، وذلك أبلغ فى الورع. ويستفاد منه: أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره، ولو ماء قراحا، وضاهى به الخمر فى الصورة وهيأه بالهيئة التى يتعاطاها أهل الشهوات من الاجتماعات والآلات فقد أتى منكرا، وإن كان لا يحد عليها. قاله ابن المنير. وينظر فيما يعمله كثير من فقراء اليمن وغيرهم بمكة المشرفة وجدة وغيرهما من ماء قشر البن ويسمونه بالقهوة، وهى اسم من أسماء الخمر. وفى حديث ابن عباس- عند أحمد-: فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلى، فلما انصرف جىء بقدحين فى أحدهما لبن، وفى الآخر عسل، فأخذ اللبن. وفى رواية البزار: بثلاثة أوانى، وأن الثالث كان خمرا، وأن ذلك وقع ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل. وفى حديث شداد بن أوس: فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذنى من العطش أشد ما أخذنى، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، ثم هدانى الله تعالى فأخذت اللبن. فقال شيخ بين يدى- يعنى لجبريل-: أخذ صاحبك الفطرة. وقد كان إتيانه بالأوانى مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. وممن صرح بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير، وعلى هذا فيكون تكرار جبريل- عليه السّلام- للتصويب حيث اختار اللبن تأكيدا للتحذير مما سواه. وقد أنكر حذيفة ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذى من حديث

حذيفة قال: يحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟ وكذا أنكر حذيفة أيضا صلاته- صلى الله عليه وسلم- ببيت المقدس «1» . وتعقبه البيهقى وابن كثير: بأن المثبت مقدم على النافى، يعنى من أثبت ربط البراق والصلاة فى بيت المقدس معه زيادة علم على من نفى، فهو أولى بالقبول. ووقع ذلك فى رواية بريدة عند البزار: لما كان ليلة أسرى به، فأتى جبريل الصخرة التى ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد بها البراق، ونحوه للترمذى. وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتى بالحلقة التى كانت الأنبياء تربطها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل واحد منا ركعتين. وفى رواية ابن مسعود نحوه، وزاد: ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل فقدمنى فصليت بهم. وفى حديث ابن مسعود أيضا- عند مسلم-: وحانت الصلاة فأممتهم «2» . وفى حديث ابن عباس، عند أحمد: فلما أتى- صلى الله عليه وسلم- الأقصى قام يصلى، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه «3» . وفى حديث أبى سعيد: ثم سار حتى أتى بيت المقدس فنزل، فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا معك؟ قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة. ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم. فقال إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: الحمد لله الذى اتخذنى خليلا، وأعطانى ملكا عظيما، وجعلنى أمة قانتا يؤتم بى، وأنقذنى من النار، وجعلها على بردا وسلاما.

_ (1) حسن: أخرج الحديث الترمذى (3147) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، وابن حبان فى «صحيحه» (45) ، والحديث حسن إسناده الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: وقد تقدم قريبا. (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 257) .

ثم إن موسى- عليه الصلاة والسلام- أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى كلمنى تكليما، واصطفانى، وأنزل على التوراة، وجعل هلاك فرعون ونجاة بنى إسرائيل على يدى، وجعل من أمتى قوما يهدون بالحق وبه يعدلون. ثم إن داود- عليه الصلاة والسلام- أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى جعل لى ملكا عظيما، وعلمنى الزبور، وألان لى الحديد، وسخر لى الجبار يسبحان معى والطير وآتانى الحكمة وفصل الخطاب. ثم إن سليمان- عليه السّلام- أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى سخر لى الرياح، وسخر لى الشياطين، يعملون ما شئت من محاريب وتماثيل، وعلمنى منطق الطير وآتانى من كل شىء فضلا، وسخر لى جنود الشياطين والإنس والجن والطير، وآتانى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى، وجعل لى ملكا طيبا ليس على فيه حساب. ثم إن عيسى- عليه السّلام- أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذى جعلنى كلمته، وجعلنى بمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وعلمنى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلنى أخلق أى أسوى من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وجعلنى أبرئ الأكمه والأبرص، وأحيى الموتى بإذن الله، ورفعنى وطهرنى وأعاذنى وأمى من الشيطان الرجيم. فلم يكن للشيطان علينا سبيل. قال: وإن محمدا- صلى الله عليه وسلم- أثنى على ربه فقال: كلكم أثنى على ربه وأنا أثنى على ربى: الحمد لله الذى أرسلنى رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علىّ الفرقان، فيه تبيان كل شىء، وجعل أمتى خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتى أمة وسطا، وجعل أمتى هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لى صدرى، ووضع عنى وزرى، ورفع لى ذكرى، وجعلنى قائما وخاتما.

فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد. ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء. ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» «1» مختصرا من حديث أبى هريرة من غير عزو. ورواه البيهقى من حديث أبى سعيد الخدرى، وهذا لفظه. وفى رواية ابن أبى حاتم فى تفسيره، عن أنس: فلما بلغ بيت المقدس، فبلغ المكان الذى يقال له: باب محمد، أتى إلى الحجر الذى به، فغمز جبريل بأصبعه فنقبه، ثم ربطها، ثم صعدا، فلما استويا فى سرحة المسجد قال جبريل: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: نعم، قال: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن، قال: فسلمت عليهن فرددن على السلام، فقلت لمن أنتن؟ فقلن: خيرات حسان، نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا، قال: ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرا، حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة، قال فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل- عليه السّلام- فقدمنى فصليت بهم، فلما انصرفت قال لى جبريل: أتدرى من صلى خلفك؟ قلت: لا، قال: صلى خلفك كل نبى بعثه الله. قال القاضى عياض: يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء جميعا فى بيت المقدس، ثم صعد منهم من ذكر أنه- صلى الله عليه وسلم- رآهم فى السماوات، ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء، فهبطوا أيضا، والأظهر أن صلاته بهم فى بيت المقدس كان قبل العروج. انتهى. وقال ابن كثير: صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن فى الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى. وقد اختلف فى هذه الصلاة، هل هى فرض أو نفل؟ وإذا قلنا إنها فرض، فأى صلاة هى؟ قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون

_ (1) (1/ 181) .

العشاء، وإنما يتأتى على قول من قال: إنه صلى بهم قبل عروجه إلى السماء، وأما على قول من قال: إنه صلى بهم بعد العروج فتكون الصبح. قال ابن كثير: ومن الناس من يزعم أنه أمهم فى السماء، والذى تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مرّ بهم فى منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا، وهو يخبره بهم، ثم قال: وهذا هو اللائق، لأنه أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوى، ليفرض الله عليه وعلى أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين، ثم أظهر شرفه عليهم بتقديمه فى الإمامة. وفى رواية ابن إسحاق: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: لما فرغت مما كان فى بيت المقدس، أتى بالمعراج ولم أر قط شيئا أحسن منه، وهو الذى يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر، فأصعدنى صاحبى فيه حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء. وفى رواية كعب: فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل. وفى «شرف المصطفى» أنه أتى بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد عن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة. وفى رواية أبى سعيد- عند البيهقى- ثم أتيت بالمعراج الذى تعرج عليه أرواح بنى آدم، فلم ير الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء، فإن ذلك عجبه بالمعراج. وقد تقدم فى حديث البخارى بالسابق، فانطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، قيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه قال: نعم. ولم يقل جبريل- عليه السّلام-: أنا، حيث قيل له: من هذا؟ إنما سمى نفسه فقال: جبريل، لأن لفظ «أنا» فيه إشعار بالعظمة. وفى الكلام السائر: أول من قال «أنا» إبليس، فشقى، وأيضا فقوله «أنا» مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهى غير كافية فى البيان. وعلى هذا فينبغى للمستأذن إذا قيل له من أنت؟ أن لا يقول: «أنا» ، بل يقول: فلان.

وفى رواية للبخارى ومسلم: فعرج، وهو بفتح العين بمعنى صعد. وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، وعليه ملك يقال له إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك. وفى رواية شريك- عند البخارى أيضا- ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء الدنيا: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا وأهلا، فيستبشر به أهل السماء «1» ، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به فى الأرض حتى يعلمهم، أى على لسان من شاء كجبريل. ووقع فى هذه الرواية أنه رأى فى سماء الدنيا النيل والفرات عنصرهما. وظاهره يخالف حديث مالك بن صعصعة فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: فإذا فى أصلها أربعة أنهار. ويجمع بينهما: بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما فى السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض. ووقع فى هذه الرواية أيضا: ثم مضى به فى سماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر، عليه قصور من لؤلؤ وزبرجد، وأنه الكوثر. وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر من الجنة، والجنة فوق السماء بالسابعة. ويحتمل أن يكون تقديره: ثم مضى فى السماء الدنيا إلى السابعة فإذا هو بنهر. ثم إن فى قوله فى الحديث «افتح» دلالة على أنه صادف أبواب السماء مغلقة، والحكمة فى ذلك- والله أعلم- التنويه بقدره- صلى الله عليه وسلم-، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتوحة لم يتحرر أنها فتحت لأجله، فلما فتحت له تحقق- صلى الله عليه وسلم- أن المحل مصون، وأن فتحه له كرامة وتبجيل. وأما قوله فى الحديث: «أرسل إليه؟» وفى رواية «بعث إليه؟» فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء، وهو الأظهر لقوله: «إليه» لأن أصل بعثته قد اشتهر فى الملكوت الأعلى.

_ (1) تقدمت رواية شريك أكثر من مرة.

وقيل: سألوه تعجبا من نعمة الله عليه بذلك، واستبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقى إلا بإذن من الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد إلا بمن أرسل إليه. وقد قيل: إن الله تعالى أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى، لأنهم قالوا: أبعث إليه؟ أو: أرسل إليه؟ فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلا؟ ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبا به ولنعم المجىء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أول دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته، ولأن هذا أجل ما يكون من حسن الخطاب والترفيع، على المعروف من عادة العرب. وأما قوله: «من معك؟» فيشعر بأنهم أحسوا به- صلى الله عليه وسلم-، وإلا لكان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟ وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوى كزيادة أنوار ونحوها. قاله الحافظ ابن حجر. ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبى جمرة، حيث قال فى «بهجته» : الثانى أن يكون سؤالهم له لما رأوا حين رأوا إقباله عليهم من زيادة الأنوار وغيرها من الماثر الحسان زيادة على ما يعهدونه منه. قال: وهذا هو الأظهر، كأنهم قالوا: من الشخص الذى من أجله هذه الزيادة معك؟ فأخبرهم بما أرادوا وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه، انتهى. وقد قال بعض العلماء: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «1» أنه رأى صورة ذاته المباركة فى الملكوت فإذا هو عروس المملكة. وأما قولهم له: «مرحبا به ولنعم المجىء جاء» فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته- صلى الله عليه وسلم- التى سبقته للسماء مبشرة بقدومه. وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: جاء فنعم المجىء مجيئه، وإنما لم يقل الخازن: مرحبا بك، بصيغة الخطاب، بل قال بصيغة الغيبة لأنه حياه قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبى- صلى الله عليه وسلم- خطاب، ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيما له، لأن «هاء» الغيبة ربما كانت أفخم من كاف الخطاب. وأما قوله فى الحديث: (فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره

_ (1) سورة النجم: 18.

أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبى الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه. فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التى عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى) «1» . فالأسودة: بوزن أزمنة، هى الأشخاص. والنسم: - بالنون والسين المهملة المفتوحتين- جمع نسمة، وهى الروح. وقد قال القاضى عياض: جاء أن أرواح الكفار فى سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة فى الجنة، يعنى: فكيف تكون مجتمعة فى سماء الدنيا؟ وأجاب: بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا، فوافق عرضها مرور النبى- صلى الله عليه وسلم-، ويدل على كونهم فى النار إنما هو فى أوقات دون أوقات، قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «2» . واعترض: بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص القرآن «3» . والجواب: ما أبداه هو احتمال أن الجنة كانت فى جهة يمين آدم، والنار فى جهة شماله: وكان يكشف له عنهما، ولا يلزم من رؤية آدم لها- وهو فى السماء- أن تفتح لهم أبواب السماء ولا تلجها. وفى حديث أبى هريرة عند البزار: فإذا عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر، وإذا نظر عن شماله حزن. وهذا- لو صح- لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم «4» ، ولكن سنده ضعيف. قاله الحافظ ابن حجر.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-. (2) سورة غافر: 46. (3) يشير إلى قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [سورة الأعراف: 40] . (4) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (1/ 69) وقال: رواه البزار ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبى العالية أو غيره فتابعيه مجهول.

وأما قوله فى الحديث: (ثم صعد بى، حتى أتى السماء الثانية، فقيل من هذا؟ قال: جبريل، ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم فقيل: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصنا إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. إلى قوله: ثم صعد بى إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به، فنعم المجىء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد السلام وقال مرحبا بالابن الصالح) «1» . فهذه الرواية موافقة لرواية ثابت عن أنس عند مسلم: أن فى السماء الأولى؛ آدم، وفى الثانية يحيى وعيسى، وفى الثالثة يوسف، وفى الرابعة إدريس، وفى الخامسة هارون وفى السادسة موسى وفى السابعة إبراهيم «2» . وخالف فى ذلك ابن شهاب الزهرى فى روايته عن أنس عن أبى ذر- كما فى أول الصلاة من البخارى أيضا- أنه لم يثبت كيف منازلهم. وقال فيه: وإبراهيم فى السماء السادسة. وفى رواية شريك عن أنس أن إدريس فى الثانية وهارون فى الرابعة، وآخر فى الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم فى السادسة وموسى فى السابعة، بتفضيل كلام الله «3» . وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم كما صرح به الزهرى. ورواية من ضبط أولى، ولا سيما فى اتفاق قتادة وثابت، وقد وافقهما يزيد بن أبى مالك عن أنس، إلا أنه خالف فى إدريس وهارون، فقال: هارون فى الرابعة، وإدريس فى الخامسة «4» . ووافقهم أبو سعيد إلا أن فى

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) صحيح: وقد تقدم.

روايته: يوسف فى الثانية، وعيسى ويحيى فى الثالثة. والمشهور فى الروايات: أن الذى فى السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك فى حديث مالك بن صعصعة «1» : بأنه كان مسندا ظهره إلى البيت المعمور. فمع التعدد: لا إشكال. ومع الاتحاد فقد جمع: بأن موسى كان حالة العروج فى السادسة وإبراهيم فى السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة. وعند الهبوط: كان موسى فى السابعة، لأنه لم يذكر فى القصة أن إبراهيم كلمه فى شىء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة، كما كلمه موسى- عليه السّلام-، والسماء السابعة هى أول شىء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها، لأنه هو الذى خاطبه فى ذلك، كما ثبت فى جمع الروايات. ويحتمل أن يكون لقى موسى فى السادسة فأصعد معه إلى السابعة تفضيلا له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك فى كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته فى الصلاة. قاله فى فتح البارى. وقال: إن النووى أشار إلى شىء من ذلك. وفى رواية شريك عن أنس فى قصة موسى: (لم أظن أن أحدا يرفع على) «2» . قال ابن بطال: فهم موسى- عليه السّلام- من اختصاصه بكلام الله تعالى له فى الدنيا دون غيره من البشر: لقوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي «3» أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلم- بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك. وفى حديث أبى سعيد قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أنى أكرم على الله، وهذا أكرم على الله منى. زاد الأموى فى روايته: ولو كان هذا وحده هان، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله.

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: وقد تقدم. (3) سورة الأعراف: 146.

وفى حديث مالك بن صعصعة: (فلما جاوزته- يعنى موسى- بكى، فنودى: ما يبكيك؟ قال: رب، هذا غلام بعثته بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتى) «1» . ولم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد فى ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان آسفا على ما فاته من الأجر الذى يترتب عليه رفع الدرجات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبى بمثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه فى العدد دون من اتبع نبينا- صلى الله عليه وسلم-، مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة. وقال العارف ابن أبى جمرة: قد جعل الله تعالى فى قلوب أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- الرأفة والرحمة لأمتهم، وركبهم على ذلك، وقد بكى نبينا- صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ما يبكيك؟ قال: «هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» «2» ، والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة فى قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم، فلأجل ما كان لموسى- عليه السّلام- من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته، لأن هذا وقت إفضال وجود وكرم، فرجا لعل أن يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة. فإن قال قائل: كيف يكون هذا، وأمته لا تخلو عن قسمين: قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذى مات على الإيمان لابد له من دخول الجنة، والذى مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدا، فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ، لأن الحكم فيهم قد مرّ ونفذ. قيل: إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرا وقدر أن ينفذ

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1284) فى الجنائز، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» ، ومسلم (923) فى الجنائز، باب: البكاء على الميت، من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.

على كل الأحوال، وقدر قدرا وقد أن لا ينفذ، ويكون رفعه بسبب دعاء أو صدقة أو غير ذلك، فلأجل ما ركب فى موسى- عليه السّلام- من اللطف والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذى قدره الله تعالى وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى، لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم، ليخلع عليه خلع القرب والفضل الجسيم، فطمع الكليم لعل أن يلحق لأمته من هذا الخير العظيم نصيبا. وقد قال نبينا- صلى الله عليه وسلم-: «إن لله نفحات فتعرضوا لنفحات الله» «1» . وهذه نفحة من النفحات فتعرض لها موسى، فكان أمرا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت القدرة بأنها فيه تؤثر، وما كان قضاء نافذا لا تؤثر فيه ولا ترده الأسباب، حتم قد لزم. وفى بكائه- عليه السّلام- وجه آخر، وهو البشارة لنبينا- صلى الله عليه وسلم- وإدخال السرور عليه، وذلك قول موسى- عليه السّلام- الذى هو أكثر الأنبياء أتباعا-: إن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يدخلها من أمتى. وأما قول موسى- عليه السّلام-: (لأن غلاما) ولم يقل غير ذلك من الصيغ، فإشارة إلى صغر سنة بالنسبة إليه. وفى القاموس: الغلام: الطار الشارب، والكهل ضده. وقال الخطابى: العرب تسمى الرجل المستجمع السن غلاما، ما دامت فيه بقية من القوة. قال فى فتح البارى: ويظهر لى أن موسى- عليه السّلام- أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا من استمرار القوة فى الكهولة إلى أن دخل فى أول سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه فى قوته نقص، حتى إن الناس فى قدومه المدينة لما رأوه مردفا أبا بكر، أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبى بكر اسم الشيخ، مع كونه فى العمر أسن من أبى بكر والله أعلم، وقد ذكر ذلك فى الهجرة من المقصد الأول.

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 231) عن أنس وقال: رواه الطبرانى وإسناد رجاله رجال الصحيح، غير عيسى بن موسى بن أياس بن البكير، وهو ثقة.

وقد وقع فى حديث أبى هريرة عند الطبرانى فى ذكر إبراهيم: فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسى «1» . وفى رواية مسلم من حديث ثابت عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم- عليه السّلام- مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وفيه: فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن «2» . وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى، وأبى هريرة عند الطبرانى: فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله: قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وهذا ظاهره أن يوسف- عليه السّلام- كان أحسن من جميع الناس، لكن روى الترمذى من حديث أنس: «ما بعث الله نبيّا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا» «3» . فعلى هذا يحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبى- صلى الله عليه وسلم-. ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل فى عموم خطابه. وحمل ابن المنير حديث الباب على أن المراد: أن يوسف أعطى شطر الحسن الذى أوتيه نبينا- صلى الله عليه وسلم-. وأما قوله فى الحديث عن إدريس: ثم قال: (مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح) فيحمل على أخوة النبوة والإسلام، لأنها تجمع الوالد والولد، وقال ابن المنير: وفى طريق شاذة: مرحبا بالابن الصالح، وهذه هى القياس، لأنه جده الأعلى. وقيل: أن إدريس الذى لقيه ليس هو الجد المشهور، ولكنه إلياس، فإن كان كذلك ارتفع الإشكال. فإن قلت: لم كان هؤلاء الأنبياء- عليهم السلام- فى السماوات دون غيرهم من الأنبياء؟ وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه؟ ولم كان فى السماء الثانية بخصوصها اثنان.

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) أخرجه ابن مردويه وأبو سعيد الأعرابى فى معجمه والخرائطى فى اعتلال القلوب، من حديث على- رضى الله عنه-، كما فى «كنز العمال» (18559) .

أجيب: عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، بأنهم أمروا بملاقات نبينا- صلى الله عليه وسلم-، فمنهم من أدركه فى أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم من فاته. وقيل: إشارة إلى ما سيقع له- صلى الله عليه وسلم- مع قومه، من نظير ما وقع لكل منهم: فأما آدم- عليه السّلام- فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض، بما سيقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه الذى خرج منه. وبعيسى ويحيى- عليهما السلام- على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغى عليه، وإرادتهم السوء به. وبيوسف، بما وقع له من إخوته على ما وقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- من قريش، من نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار- صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك يوم الفتح بقوله لقريش: «أقول لكم كما قال يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1» ، أى العتقاء. وبإدريس على رفيع منزلته عند الله تعالى. وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه. وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك- صلى الله عليه وسلم-، بقوله: «لقد أوذى موسى بأكثر من هذا فصبر» «2» . وبإبراهيم فى استناده إلى البيت المعمور بما ختم له- صلى الله عليه وسلم- فى آخر عمره من إقامة مناسك الحج، وتعظيم البيت الحرام. وأجاب العارف ابن أبى

_ (1) ضعيف: رواه ابن الجوزى فى الوفاء من طريق ابن أبى الدنيا وفيه ضعف، قاله العراقى فى «تخريج أحاديث الإحياء» (3/ 179) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (3150) فى الخمس، باب: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (1062) فى الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-.

جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء: بأن الحكمة فى كون آدم فى السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء، وهو الأصل، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة. وأما عيسى فإنما كان فى السماء الثانية لأنه أقرب الأنبياء إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا انمحت شريعة عيسى- عليه السّلام- إلا بشريعة محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولأنه ينزل فى آخر الزمان لأمة محمد- صلى الله عليه وسلم- على شريعته ويحكم بها، ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أولى الناس بعيسى» «1» فكان فى الثانية لأجل هذا المعنى. وإنما كان يحيى- عليه السّلام- معه هناك لأنه ابن خالته، وهما كالشىء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معا. وإنما كان يوسف- عليه السّلام- فى السماء الثالثة لأن على حسنه تدخل أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- الجنة، فأرى له هناك لكى يكون ذلك بشارة له- صلى الله عليه وسلم- فيسر بذلك. وإنما كان إدريس- عليه السّلام- فى السماء الرابعة لأنه هناك توفى ولم تكن له تربة فى الأرض على ما ذكر «2» . وإنما كان هارون- عليه السّلام- فى السماء الخامسة لأنه ملازم لموسى- عليه السّلام- لأجل أنه أخوه وخليفته فى قومه، فكان هناك لأجل هذا المعنى. وإنما لم يكن مع موسى فى السماء السادسة لأن لموسى مزيه وحرمة وهى كونه كليما، واختص بأشياء لم تكن لهارون فلأجل هذا المعنى لم يكن معه فى السادسة. وإنما كان موسى- عليه السّلام- فى السماء السادسة لأجل ما اختص به من الفضائل، ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء أتباعا بعد نبينا- صلى الله عليه وسلم-. وإنما كان إبراهيم- عليه السّلام- فى السماء السابعة لأنه الخليل والأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبى- صلى الله عليه وسلم- بلقياه أنس، لتوجهه بعده إلى عالم آخر،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3442) فى أحاديث الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، ومسلم (2365) فى الفضائل، باب: فضائل عيسى- عليه السّلام-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) قلت: وأين ذكر ذلك؟!.

وهو اختراق الحجب، وأيضا لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام فكان الخليل فوق الكل لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل لأجل ما اختص به بما زاد به عليهم، قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «1» فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة وهى درجة الرسالة والنبوة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة ترفيعا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول. انتهى فليتأمل. وقد اختلف فى رؤية نبينا- صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء الأنبياء- عليهم السلام-، فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى، لما ثبت من رفع جسده. وقد قيل فى إدريس أيضا ذلك. وأما الذين صلوا معه فى بيت المقدس، فيحتمل، الأرواح خاصة، ويحتمل: الأجساد بأرواحها. وقيل: يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم- عاين كل واحد منهم فى قبره فى الأرض على الصورة التى أخبر بها من الموضع الذى ذكر أنه عاينه فيه، فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة فى البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك، ويشهد له رؤيته- صلى الله عليه وسلم- الجنة والنار فى عرض الحائط وهو محتمل لأن يكون- صلى الله عليه وسلم- رآهما فى ذلك الموضع أو مثل له صورتهما فى عرض الحائط، والقدرة الصالحة لكليهما. وقيل: يحتمل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا- صلى الله عليه وسلم-، رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكراما لنبيه- صلى الله عليه وسلم- وتعظيما له حتى يحصل له من قبلهم ما أشرنا إليه من الأنس والبشارة، وغير ذلك مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن. وكل هذه الوجوه محتمل، ولا ترجيح لأحدها على الآخر إذ القدرة صالحة لكل ذلك. انتهى. وأما قوله فى الحديث: (ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل

_ (1) سورة البقرة: 253. [ (2) تقدم.]

قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: وما هذا يا جبريل، قال: أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات «2» . وفى رواية عند البخارى أيضا: (فإذا فى أصلها- أى سدرة المنتهى- أربعة أنهار) «1» . وعند مسلم: (يخرج من أصلها) «2» وعنده أيضا من حديث أبى هريرة: (أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان) «3» فيحتمل: أن تكون سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة. ووقع فى حديث شريك، كما عند البخارى فى التوحيد: أنه رأى فى السماء الدنيا نهرين يطردان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما. والجمع بينهما: أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهرى الجنة، ورآهما فى السماء الدنيا دون نهرى الجنة، وأراد ب «العنصر» عنصر انتشارهما بسماء الدنيا، كذا قاله ابن دحية. ووقع فى حديث شريك أيضا: (ومضى به إلى السماء، وإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى خبأ لك ربك) «4» . وروى ابن أبى حاتم عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- بعد أن رأى إبراهيم قال: ثم انطلق بى على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى إلى نهر عليه جام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذى أعطاك ربك، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجرى على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك. وفى حديث أبى سعيد عند البيهقى: فإذا فيها عين تجرى يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، وسيأتى مزيد لما ذكر هنا من الكوثر فى المقصد الأخير- إن شاء الله تعالى-.

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) تقدم.

وقد وقع فى حديث ثابت عن أنس عند مسلم: (ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كاذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت. فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها) «1» . وقد جاء فى حديث ابن مسعود عند مسلم أيضا بيان سبب تسميتها ب «سدرة المنتهى» ، ولفظه: (لما أسرى برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: انتهى بى إلى سدرة المنتهى، وهى فى السماء السادسة، وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض، فيقبض منها وإليها منتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها) «2» . وهو معنى قول ابن أبى جمرة: لأن إليها تنتهى الأعمال، ومن هناك ينزل الأمر والنهى وتتلقى الأحكام، وعندها تقف الحفظة وغيرهم لا يتعدونها، فكانت منتهى، لأن إليها ينتهى ما يصعد من السفلى، وما ينزل من العالم العلوى من أمر العلى. وقال النووى: لأن علم الملائكة ينتهى إليها. ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ولا يعارض قوله فى حديث ابن مسعود هذا، أنها فى السادسة، ما دل عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل فى السماء السابعة، لأنه يحمل على أن أصلها فى السماء السادسة، وأغصانها وفروعها فى السابعة، وليس فى السادسة منها إلا أصل ساقها، قاله فى فتح البارى. وجاء فى حديث أبى ذر عند البخارى فى الصلاة: (فغشيها ألوان لا أدرى ما هى) «3» . وفى حديث ابن مسعود المذكور عند مسلم، (قال الله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى «4» قال: فراش من ذهب) «5» . وفى حديث يزيد بن أبى مالك عن أنس (جراد من ذهب) . قال البيضاوى: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب حقيقة، والقدرة صالحة لذلك.

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: وقد تقدم. (3) صحيح: وقد تقدم. (4) سورة النجم: 16. (5) صحيح: وقد تقدم.

وفى حديث أبى سعيد وابن عباس (فغشيها الملائكة) . وفى حديث على (وعلى كل ورقة منها ملك) . وفى رواية ثابت عن أنس عند مسلم (فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها) «1» . وفى رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه: نحوه لكن قال: تحولت ياقوتا، ونحو ذلك. قال ابن دحية: واختيرت السدرة دون غيرها لأن فيها ثلاثة أوصاف: ظل مديد وطعم لذيذ، ورائحة زكية، فكانت بمنزلة الإيمان الذى يجمع القول والعمل والنية، فالظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول. وقال العارف ابن أبى جمرة: وهل الشجرة مغروسة فى شىء أم لا؟ يحتمل الوجهين معا، لأن القدرة صالحة لكليهما. فكما جعل الله فى هذه الدار الأرض مقرا للشجر، كذلك يجعل الهواء لتلك مقرا، وكما رجع- صلى الله عليه وسلم- يمشى فى الهواء كما كان يمشى فى الأرض، ولأن بالقدرة استقرت الأرض مع أنها على الماء، فلا مانع من أن تكون الشجرة فى الهواء، ويحتمل أن تكون مغروسة بأرض، وأن تكون من تراب الجنة، والله قادر على ما يشاء. وأما قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث: (ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: «هى الفطرة التى أتت عليها» . فيدل على أنه عرض عليه الآنية مرتين، مرة ببيت المقدس، ومرة عند وصوله سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. وأما الاختلاف فى عدد الآنية وما فيها، فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة أوان، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التى رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى.

_ (1) صحيح: وقد تقدم.

ووقع فى حديث أبى هريرة عند الطبرى: سدرة المنتهى يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى. فلعله عرض عليه من كل نهر إناء وجاء عن كعب: أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء نهر سيحان. ولنهر النيل فضائل ولطائف أفردها بالتأليف غير واحد من الأئمة. ووقع فى بعض الطرق: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء فى السماوات. وأما قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث: (ثم رفع إلى البيت المعمور) . فمعناه أنه أرى له، وقد يحتمل أن يكون المراد الرفع والرؤية معا، لأنه قد يكون بينه وبين البيت المعمور عوالم حتى لا يقدر على إدراكه، فرفع إليه وأمد فى بصره وبصيرته حتى رآه. وروى الطبرى من حديث ابن أبى عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: البيت المعمور مسجد فى السماء بحذاء الكعبة لو خرّ لخرّ عليها، يدخله سبعون ألف ملك كل يوم، إذا خرجوا منه لم يعودوا. وفى هذا دليل عظيم على قدرة الله تعالى، وأنه لا يعجزه شىء ممكن، لأن هذا البيت المعمور يصلى فيه كل يوم هذا العدد العظيم منذ خلق الله تعالى الخلق إلى الأبد، ثم طائفة هذا اليوم لا ترجع إليه أبدا. ومع أنه قد روى أنه ليس فى السماوات ولا فى الأرض موضع شبر إلا وملك واضع جبهته هناك ساجدا، ثم البحار ما من قطرة إلا وبها ملك موكل، فإذا كانت السماوات والأرض والبحار هكذا، فهؤلاء الملائكة الذين يدخلون أين يذهبون؟ هذا من عظيم القدرة التى لا يشبهها شىء. وفى هذا دليل على أن الملائكة أكثر المخلوقات، لأنه إذا كان سبعون ألف ملك كل يوم تصلى فى البيت المعمور على ما تقدم، ثم لا يعودون، مع أن الملائكة فى السماوات والأرض والبحار. وفى حديث أبى هريرة عند ابن مردويه وابن أبى حاتم: أن فى السماء

نهرا يقال له: الحيوان، يدخل جبريل كل يوم فينغمس فيه، ثم يخرج فينتفض، فيخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكا، فهم الذين يصلون فيه، أى فى البيت المعمور، ثم لا يعودون إليه. وإسناد ضعيف. وذكر الإمام فخر الدين الرازى عند تفسير قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» أنه روى عن عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة، يدخل فيه جبريل- عليه السّلام- كل سحر ويغتسل فيه، فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله، ثم ينتفض فيخلق الله من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا ثم لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. وقد روى أن ثم ملائكة يسبحون الله تعالى، فيخلق الله بكل تسبيحة ملكا. هذا ما عدا الملائكة التى للتعبد، وما عدا الملائكة الموكلين بالنبات والأرزاق، والحفظة، والملك الموكل بتصوير ابن آدم، والملائكة الذين ينزلون فى السحاب، والملائكة الذين يكتبون الناس يوم الجمعة، وخزنة الجنة، والملائكة الذين يتعاقبون، والذين يؤمنون على قراءة المصلى، والذين يقولون: ربنا ولك الحمد، والذين يدعون لمنتظر الصلاة، والذين يلعنون من هجرت فراش زوجها. وروى أن فى السماء الدنيا- وهى من ماء ودخان- ملائكة خلقوا من ماء وريح عليهم ملك يقال له الرعد، وهو ملك موكل بالسحاب والمطر، يقولون: سبحان ذى الملك والملكوت. وأن فى الثانية ملائكة على ألوان شتى، رافعين أصواتهم يقولون: سبحان ذى العزة والجبروت، وأن فيها ملكا نصف جسده من نار ونصف

_ (1) سورة النحل: 8.

جسده من ثلج، فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ النار، وهو يقول: يا من ألف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين. وأن فى الثالثة- وهى من حديد- ملائكة ذوى أجنحة شتى ووجوه شتى وأصوات شتى، رافعى أصواتهم بالتسبيح يقولون: سبحانك أنت الحى الذى لا يموت، وهم صفوف قيام كأنهم بنيان مرصوص، لا يعرف أحدهم لون صاحبه من خشية الله. وأن فى السماء الرابعة- وهى من نحاس- ملائكة يضعفون على ملائكة الثالثة، وكذلك كل سماء أكثر عددا من التى تليها، وأن ملائكة السماء الرابعة قيام وركوع وسجود على ألوان شتى من العبادة، يبعث الله الملك منهم إلى أمر من أموره، فينطلق الملك ثم ينصرف فلا يعرف صاحبه الذى إلى جنبه من شدة العبادة وهم يقولون: سبوح قدوس، ربنا الرحمن الذى لا إله إلا هو. وأن فى الخامسة- وهى من فضة- ملائكة يزيدون على ملائكة الأربع سماوات، وهم سجود وركوع لم يرفعوا أبصارهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة قالوا: ربنا، لم نعبدك حق عبادتك. وأن فى السماء السادسة- وهى من ذهب- جند الله الأعظم الكروبيون، لا يحصر عددهم إلا الله تعالى، وعليهم ملك له سبعون ألف ملك جنده، وكل ملك منهم جنوده سبعون ألف ملك، وهم الذين يبعثهم الله فى أموره إلى أهل الدنيا، رافعوا أصواتهم بالتسبيح والتهليل. وأن فى السابعة- وهى ياقوتة حمراء- من الملائكة ما يزيدون على ما تقدم، وعليهم ملك مقدم على سبعمائة ألف ملك، منهم جنود مثل قطر السماء، وتراب الثرى والرمل والسهل، وعدد الحصى والورق، وعدد كل خلق فى السماوات والأرض، ويخلق الله تعالى فى كل يوم ما يشاء، وما يعلم جنود ربك إلا هو.

وأن حملة العرش ثمانية يتجاوبون، لكل ملك منهم وجوه شتى وأعين شتى فى جسده، لا يشبه بعضها بعضا، رافعة أصواتهم بالتهليل، ينظرون إلى العرش لا يفترون، لو أن الملك منهم نشر جناحيه لطبق الدنيا بريشة من جناحه، لا يعلم عددهم إلا الله. وحملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت حسن رخيم، تقول أربعة منهم: سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، وتقول أربعة: سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك «1» . وقد روى الطبرانى من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لجبريل: «على أى شىء أنت؟» قال: على الريح والجنود، قال: «وعلى أى شىء ميكائيل؟» قال: على النبات والقطر، قال: «وعلى أى شىء ملك الموت؟» قال: على قبض الأرواح، الحديث، وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى، وقد ضعف لسوء حفظه ولم يترك. وروى الترمذى من حديث أبى سعيد مرفوعا: «وزيراى من أهل السماء: جبريل وميكائيل» الحديث. وروى النقاش أن إسرافيل أول من سجد من الملائكة، وأنه جوزى بولاية اللوح المحفوظ. وفى كتاب «العظمة» لأبى الشيخ ابن حيّان من ذلك العجب العجاب، وعندى منه الجزء الثانى. وقد وقعت فى غير رواية البخارى هنا زيادات فمنها: ما وقع فى رواية أبى سعيد الخدرى عند البيهقى فى دلائله: ثم صعدت إلى السماء السابعة فإذا إبراهيم الخليل ساند ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال، ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم على، وإذا بأمتى شطرين، شطر عليهم ثياب بيض كأنهم القراطيس، وشطر عليهم ثياب رمدة، قال: فدخلت البيت المعمور ودخل معى الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة، فصليت أنا ومن معى فى البيت المعمور.

_ (1) لم أقف عليه.

وفى رواية الطبرانى: فإذا هو برجل أشمط جالس على باب الجنة على كرسى، وعنده قوم بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم فى ألوانهم شىء، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شىء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شىء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه وخرجوا وقد خلصت ألوانهم وصارت مثل ألوان البيض الوجوه، فقال: من هذا ومن هؤلاء الذين فى ألوانهم شىء، وما هذه الأنهار التى دخلوا فيها وقد صفت ألوانهم؟ قال: هذا أبوك إبراهيم أول من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء النفر الذين فى ألوانهم شىء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار، فأولها رحمة، والثانية نعمة الله، والثالث وسقاهم ربهم شرابا طهورا. وفى رواية البخارى فى الصلاة (ثم عرج بى حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) الحديث «1» . والمستوى: المصعد. وصريف الأقلام: - بفتح الصاد المهملة- تصويتها حالة الكتابة. والمراد: ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى. والقدر المكتوب قديم، وإنما الكتابة حادثة، وظاهر الأخبار أن اللوح المحفوظ فرغ من كتابته، وجف القلم بما فيه قبل خلق السماوات والأرض، وإنما هذه الكتابة فى صحف الملائكة كالفروع المنتسخة من الأصل، وفيها الإثبات والمحو على ما ذكر فى الآية. وذكر ابن القيم: أن الأقلام اثنا عشر قلما، وأنها متفاوتة فى الرتب: فأعلاها وأجلها قدرا، قلم القدر السابق، الذى كتب الله به مقادير الخلائق، كما فى سنن أبى داود، عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن أول ما خلق الله تعالى القلم، قال له: اكتب، قال:

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.

رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شىء حتى تقوم الساعة» «1» فهذا أول قلم وأجلها، وقد قال غير واحد من أهل التفسير: إنه القلم الذى أقسم الله به. والقلم الثانى: قلم الوحى. والقلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله. والرابع: قلم طب الأبدان الذى تحفظ به صحتها. والخامس: قلم التوقيع عن الملوك ونوابهم وبه تساس الممالك. والسادس: قلم الحساب، وهو الذى تضبط به الأموال، مستخرجها ومصرفها ومقاديرها، وهو قلم الأرزاق. والسابع: قلم الحكم الذى تثبت به الحقوق وتنفذ به القضايا. والثامن: قلم الشهادة التى تحفظ به الحقوق. والتاسع: قلم التعبير، وهو كاتب وحى المنام وتفسيره وتعبيره. والعاشر: قلم تواريخ العالم ووقائعه. والحادى عشر: قلم اللغة وتفاصيلها. والثانى عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين، ودفع شبه المحرفين «2» . فهذه الأقلام التى بها انتظام مصالح العالم. قال: ويكفى فى جلالة القلم أنه لم تكتب كتب الله إلا به وأنه تعالى أقسم به فى كتابه. انتهى ملخصا من كتاب «أقسام القرآن» .

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (4700) فى السنة، باب: فى القدر، والترمذى (2155) ، فى القدر، باب: رقم (16) ، و (3319) فى التفسير، باب: ومن سورة نون والقلم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) قلت: هذا التقسيم ليس عليه دليل صحيح إلا محض الرأى.

وقد وقع فى رواية أبى ذر عند مسلم وغيره من الزيادة أيضا: (ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) الحديث «1» . والجنابذ: - بالجيم ثم النون المفتوحتين ثم ألف ثم موحدة ثم ذال معجمة- هى القباب. ويؤيده ما فى «التفسير» من البخارى من حديث قتادة عن أنس: (لما عرج به- صلى الله عليه وسلم- قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ «2» . وأما ما فى «كتاب الصلاة» من البخارى (وإذا فيها حبائل اللؤلؤ) «3» - بالمهملة والموحدة وآخره لام- فقال القاضى عياض وغيره: هو تصحيف. وفى حديث الإمام أحمد من رواية حذيفة: (فتحت لهما أبواب السماء، قال: فرأيت الجنة والنار) «4» . وفى حديث أبى سعيد: أنه عرضت عليه الجنة، وأن رمانها كأنه الدلاء، وإذا طيرها كأنه البخت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هى لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها. ووقع عند مسلم من طريق همام عن قتادة عن أنس: (بينا أنا أسير فى الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر) . وفى رواية أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن إبراهيم- عليه السّلام- قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- يا بنى، إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك فى أمتك فافعل. ووقع فى حديث أبى سعيد الخدرى، عند البيهقى: ثم صعد بى إلى السماء السابعة، قال: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تغطى هذه الأمة، وإذا فيها عين تجرى يقال لها: السلسبيل، فيشق منها نهران، أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: الرحمة، فاغتسلت فيه فغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر، ثم رفعت إلى الجنة، فاستقبلتنى جارية، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ قالت: لزيد بن حارثة. وفيه: فإذا رمانها أنه الدلاء عظاما، ثم

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (349) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات فى الإسراء، ومسلم (163) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) تقدم.

عرضت على النار، فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها، ثم أغلقت دونى. وفى الطبرانى من حديث عائشة: لما كان ليلة أسرى بى إلى السماء، أدخلت الجنة، فوقفت على شجرة من أشجار الجنة لم أر فى الجنة أحسن منها، ولا أبيض منها، ولا أطيب منها ثمرة، فتناولت ثمرة من ثمارها فأكلتها فصارت نطفة فى صلبى، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة. وهو حديث ضعيف «1» . وفيه التصريح بأن الإسراء كان قبل ولادة فاطمة، وهى ولدت قبل النبوة بسبع سنين وشىء، ولا ريب أن الإسراء كان بعد النبوة. وذكر أبو الحسن بن غالب، فيما تكلم فيه على أحاديث الحجب السبعين والسبعمائة والسبعين ألف حجاب وعزاها لأبى الربيع بن سبع فى شفاء الصدور من حديث ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال بعد أن ذكر مبدأ حديث الإسراء، كما ورد فى الأمهات: أتانى جبريل وكان السفير بى إلى ربى، إلى أن انتهى إلى مقام ثم وقف عند ذلك، فقلت: يا جبريل، فى مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ فقال: إن تجاوزته احترقت بالنور، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل، هل لك من حاجة؟ قال: يا محمد، سل الله أن أبسط جناحى على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه، قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: ثم زج بى فى النور زجا، فخرق بى إلى السبعين ألف حجاب، ليس فيها حجاب يشبه حجابا، وانقطع عنى حس كل إنسى وملك، فلحقنى عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادانى مناد بلغة أبى بكر: قف إن ربك يصلى، فبينا أنا أتفكر فى ذلك فأقول: هل سبقنى أبو بكر؟ فإذا النداء من العلى الأعلى، ادن يا خير البرية، ادن يا محمد ادن يا محمد، ليدن الحبيب، فأدنانى ربى حتى كنت كما قال تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «2» . قال: وسألنى ربى فلم أستطع أن

_ (1) قلت: بل موضوع. (2) سورة النجم: 8، 9.

أجيبه، فوضع يده بين كتفى- بلا تكييف ولا تحديد- فوجدت بردها بين ثديى، فأورثنى علم الأولين والآخرين، وعلمنى علوما شتى، فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيرى، وعلم خيرنى فيه، وعلمنى القرآن فكان جبريل- عليه السّلام- يذكرنى به، وعلم أمرنى بتبليغه إلى العام والخاص من أمتى. ولقد عاجلت جبريل- عليه السّلام- فى آية نزل بها على، فعاتبنى ربى وأنزل على وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «1» ، ثم قلت: اللهم إنه لما لحقنى استيحاش قبل قدومى عليك سمعت مناديا ينادى بلغة تشبه لغة أبى بكر فقال لى: قف إن ربك يصلى «2» ، فعجبت من هاتين، هل سبقنى أبو بكر إلى المقام؟ وإن ربى لغنى عن أن يصلى، فقال تعالى: أنا الغنى عن أن أصلى لأحد، وإنما أقول: سبحانى سبحانى، سبقت رحمتى غضبى، اقرأ يا محمد: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «3» ، فصلاتى رحمة لك ولأمتك، وأما أمر صاحبك يا محمد، فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا، فلما أردنا كلامه قلنا: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ «4» ، وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة. وكذلك أنت يا محمد، لما كان أنسك بصاحبك أبى بكر وأنك خلقت أنت وهو من طينة واحدة، وهو أنيسك فى الدنيا والآخرة، خلقنا ملكا على صورته يناديك بلغته ليزول عنك الاستيحاش، فلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك. ثم قال الله تعالى: وأين حاجة جبريل؟ فقلت: اللهم إنك أعلم، فقال: يا محمد، قد أجبته فيما سأل، ولكن فيمن أحبك وصحبك.

_ (1) سورة طه: 114. (2) حديث باطل مكذوب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان أولى بالمؤلف أن يضرب عليه، ويكتفى بما ثبت فى موضوع الإسراء عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ففيه الغنية عن كل ضعيف وموضوع. (3) سورة الأحزاب: 43. (4) سورة طه: 17، 18.

وفى رواية: فتقدمت وجبريل على أثرى، حتى انتهى بى إلى حجاب فراش الذهب فحرك الحجاب، فقيل من هذا؟ قال: أنا جبريل ومعى محمد- صلى الله عليه وسلم- فقال الملك: الله أكبر، فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملنى فوضعنى بين يديه فى أسرع من طرفة عين، وغلظ الحجاب مسيرة خمسمائة عام، فقال لى: تقدم يا محمد، فمضيت فانطلق بى الملك فى أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ، فحرك الحجاب، فقال الملك من وراء الحجاب: من هذا؟ فقال أنا فلان صاحب حجاب الذهب، وهذا محمد- صلى الله عليه وسلم- رسول رب العزة معى، فقال: الله أكبر، فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملنى حتى وضعنى بين يديه، فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب، حتى جاوزت سبعين حجابا، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، فقال لى: تقدم يا محمد، فمضيت فانطلق بى الملك، ثم دلى لى رفرف أخضر يغلب ضوؤه ضوء الشمس، فالتمع بصرى، ووضعت على ذلك الرفرف، ثم احتملت حتى وصلت إلى العرش، فأبصرت أمرا عظيما لا تناله الألسن، ثم دلى لى قطرة من العرش، فوقعت على لسانى، فما ذاق الذائقون شيئا قط أحلى منها، فأنبأنى الله بها نبأ الأولين والآخرين، ونور قلبى، وغشى نور عرشه بصرى فلم أر شيئا فجعلت أرى بقلبى ولا أرى بعينى، ورأيت من خلفى ومن بين كتفى، كما رأيت أمامى، الحديث. رواه والذى قبله فى كتاب «شفاء الصدور» كما ذكره ابن غالب والعهدة عليه فى ذلك. وتكثير الحجب لم يرد فى طريق صحيح، ولم يصح فى ذلك غير ما فى مسلم: (حجابه النور) «1» . والرفرف: البساط، وقيل إنه فى الأصل ما كان من الديباج وغيره رقيقا حسن الصنعة ثم اتسع فيه. واعلم أن ما ذكر فى هذا المحل الرفيع من الحجب فهو فى حق المخلوق، لا فى حق الخالق عز وجل، والله سبحانه وتعالى منزه عما

_ (1) صحيح: وورد ذلك فى حديث أخرجه مسلم (179) فى الإيمان، باب: فى قوله- عليه السّلام-: «إن الله لا ينام» ، وفى قوله: «حجابه النور» ، من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-.

يحجب، إذ الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس، فالخلق كلهم محجوبون عنه تعالى بمعانى الأسماء والصفات والأفعال، وسائر المخلوقات من معانى الأنوار والظلمات كل له مقام من الحجب معلوم، وحظ من الإدراك والمعرفة مقسوم، وأقرب الخلق إلى الله تعالى الملائكة الحافون والكروبيون، وهم محجوبون بنور المهابة والعظمة والكبرياء والجلال والقدس والقيومية، حجب الذات بالصفات. وهم فى الحجب عنه على طبقات مختلفات، كل على مقام معلوم ودرجات. وبالجملة، فالمخلوقات كلها ما كانت حجابا عن الخالق؟ فقوم حجبوا برؤية النعم عن المنعم، وبرؤية الأحوال عن المحول، وبرؤية الأسباب عن المسبب، وقوم حجبوا بالعلم عن المعلم وبالفهم عن المفهم، وبالعقل عن المعقل، وذلك كله من معنى حجاب النعم عن المنعم، والمواهب عن الواهب. وقوم حجبوا بالشهوات المباحة، وقوم بالشهوات المحرمات والمعاصى والسيئات، وقوم حجبوا بالمال والبنين وزينة الحياة الدنيا. اللهم لا تحجب قلوبنا عنك فى الدنيا ولا أبصارنا عنك فى الآخرة يا كريم. وقد ورد فى الصحيح عن أنس قال: (لما عرج بى جبريل إلى سدرة المنتهى. ودنا الجبار رب العزة جل جلاله فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى) «1» الحديث. وهذا الدنو والتدلى المذكور فى هذا الحديث وغيره من أحاديث المعراج غير الدنو والتدلى المذكور فى قوله تعالى فى سورة النجم: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «2» . وإن اتفقا فى اللفظ. فإن الصحيح أن المراد فى الآية جبريل، لأنه الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «3» . هكذا فسره النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث الصحيح.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (7517) فى التوحيد، باب: قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. (2) سورة النجم: 8، 9. (3) سورة النجم: 13، 14.

قالت عائشة- رضى الله عنها-: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية فقال: «ذاك جبريل لم أره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين» «1» . ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه. أحدها: أنه قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «2» . وهذا جبريل الذى وصفه بالقوة فى سورة التكوير. الثانى: أنه قال: ذُو مِرَّةٍ «3» أى حسن الخلق وهو الكريم الذى فى سورة التكوير. الثالث: أنه قال: فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى «4» وهو ناحية السماء العليا، وهذا استواء جبريل- عليه السّلام-، وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه. الرابع: أنه قال: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «5» فهذا دنو جبريل وقد نزل إلى الأرض حيث كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بها. وأما الدنو والتدلى فى حديث المعراج فرسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فوق السماوات فهناك دنى الجبار جل جلاله منه وتدلى. الخامس: أنه قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «6» والذى عند سدرة المنتهى قطعا هو جبريل، وبهذا فسره النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: ذاك جبريل. السادس: أن نفس الضمير فى قوله: وَلَقَدْ رَآهُ «7» وقوله: دَنا

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (177) فى الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. (2) سورة النجم: 5. (3) سورة النجم: 6. (4) سورة النجم: 6، 7. (5) سورة النجم: 8، 9. (6) سورة النجم: 13، 14. (7) سورة النجم: 13.

فَتَدَلَّى «1» وقوله: فَاسْتَوى «2» وقوله: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى «3» واحد، فلا يجوز أن يخالف بين المفسرين من غير دليل. السابع: أنه سبحانه وتعالى أخبر أن هذا الذى دنا فتدلى كان بالأفق الأعلى، وهو أفق السماء، بل تحتها فدنا من الأرض فتدلى من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ودنو الرب تبارك وتدليه- على ما فى حديث شريك- كان فوق العرش لا إلى الأرض. ثم نفى سبحانه وتعالى عن نبيه- صلى الله عليه وسلم- بقوله: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى «4» ما يعرض للرائى الذى لا أدب له بين يدى الملوك والعظماء من التفاته يمينا وشمالا، ومجاوزة بصره لما بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب فى ذلك المقام وفى تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانبا ولم يمد بصره إلى غير ما أرى من الآيات، وما هناك من العجائب، بل قام مقام العبد الذى أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما أريه دون التفاته إلى غيره ودون تطلعه إلى ما لم يره مع ما فى ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته، وهذا غاية الكمال. وقال فى «مدارج السالكين» : وفى هذه الآية أسرار عجيبة هى من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر، - صلوات الله وسلامه عليه-، تواطأ هناك بصره وبصيرته وتوافقا وتصادقا، فما شاهده بصره فالبصيرة مواطئة له، وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حق مشهود بالبصر، فتواطأ فى حقه، أى: ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره، ولهذا قرأها هشام وأبو جعفر ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «5» بتشديد الذال، أى لم يكذب القلب البصر بل صدقة وواطأه بصحة الفؤاد والبصر، وكون المرئى المشاهد بالبصر والبصيرة حقّا. وقرأ الجمهور ما كَذَبَ الْفُؤادُ «6» بالتخفيف، وهو متعد، و «ما رأى» مفعوله، أى: أى ما كذب قلبه ما رأت عيناه بل واطأه ووافقه.

_ (1) سورة النجم: 8. (2) سورة النجم: 6. (3) سورة النجم: 7. (4) سورة النجم: 17. (5) سورة النجم: 11. (6) سورة النجم: 11.

فلمواطأة قلبه لقالبه، وظاهره لباطنه، وبصره لبصيرته، لم يكذب الفؤاد البصر، ولم يتجاوز البصر حده، ولم يمل عن المرئى فيزيغ، بل اعتدل البصر على المرئى لم يتجاوزه ولا مال عنه لما اعتدل القلب فى الإقبال على الله بكليته والإعراض عما سواه، فإنه أقبل على الله بكليته وأعرض عما سواه، بكليته. وللقلب زيغ وطغيان، كما أن للبصر زيغا وطغيانا وكلاهما منتف عن قلبه وبصره، فلم يزغ قلبه التفاتا عن الله إلى غيره ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذى أقيم فيه، وهذا غاية الكمال والأدب مع الله تعالى الذى لا يلحقه فيه سواه، فإن عادة النفوس إذا أقيمت فى مقام عال رفيع أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه، ألا ترى إلى موسى- عليه السّلام-، لما أقيم مقام التكليم والمناجاة طلبت نفسه الرؤية، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- لما أقيم فى ذلك المقام وفاه حقه، ولم يتلفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه البتة، ولأجل هذا ما عاقه عائق، ولا وقف به مراد، حتى جاوز السماوات السبع فلم تعقه إرادة منه لشىء، ولم تقف به دون كمال العبودية همة، ولهذا كان مركوبه فى مسراه يسبق خطوه الطرف، فيضع قدمه عند منتهى طرفه، مشاكلا لحال راكبه وبعد شأوه الذى يسبق به العالم أجمع فى سيره، فكان قدم البراق لا يتخلف عن موضع نظره، كما كان قدمه- صلى الله عليه وسلم- لا يتخلف عن محل معرفته. فلم يزل- صلى الله عليه وسلم- فى خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه، وتكميل مرتبة عبوديته له، حتى خرق حجب السماوات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين، فانصبت له هناك أقسام القرب انصبابا، وانقشعت سحائب الحجب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا، وأقيم مقاما غبطه فيه الأنبياء والمرسلون. فإذا كان فى المعاد أقيم مقاما من القرب تاما، يغبطه فيه الأولون والآخرون، واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله تعالى، ما زاغ البصر وما طغى، فأقامه فى هذا العالم على أقوم صراط على الحق

والهدى، وأقسم بكلامه القديم على ذلك فى الذكر الحكيم فقال: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط، فيسأل السلامة لأتباعه وأهل سنته، حتى يجوزوا إلى جنات النعيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ثم إن ما ذكر هنا من القرب والدنو، المراد به تأكيد المحبة والقربة، ورفع المنزلة والرتبة، قال جعفر الصادق: لما قرب الحبيب من الحبيب غاية القرب، نالته غاية الهيبة، فلاطفه الحق تعالى بغاية اللطف، وذلك قوله جل جلاله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى «2» أى كان ما كان وجرى ما جرى، وقال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب للحبيب: وألطف به إلطاف الحبيب بالحبيب، فخفى السر ولم يطلع عليه أحد، ما أوحى إلا الذى أوحى. وقال غيره فى قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى «3» أبهمه لعظمه، فإن الإبهام قد يقع للتعظيم، فهو مبهم لا يطلع عليه بل يتعبد بالإيمان به. وقيل: بل هو مفسر بالأخبار الواردة، قال سعيد بن جبير: أوحى الله تعالى إليه- صلى الله عليه وسلم-، ألم أجدك يتيما فاويتك، ألم أجدك ضالا فهديتك، ألم أجدك عائلا فأغنيتك، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «4» . وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. ذكره الثعلبى والقشيرى. وقيل: أوحى الله إليه: خصصتك بحوض الكوثر، فكل أهل الجنة أضيافك بالماء، ولهم الخمر واللبن والعسل. ذكره القشيرى. وذكر أيضا: أنه أوحى إليه ما أوحى إلى الرسل لقوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ «5» . وقيل: أوحى إليه الصلوات الخمس.

_ (1) سورة يس: 1- 4. (2) سورة النجم: 10. (3) سورة النجم: 10. (4) سورة الشرح: 1- 4. (5) سورة فصلت: 43.

وفى رواية أبى سعيد الخدرى عند البيهقى: أن الله تعالى قال له- صلوات الله وسلامه عليه-: سل، فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما، وكلمات موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الإنس والجن والشياطين، وسخرت له الرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغى لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل. فقال له ربه تعالى: قد اتخذتك حبيبا، فهو مكتوب فى التوراة: حبيب الرحمن وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معى، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الأولون وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدى ورسولى، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعا من المثانى لم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشى لم أعطها نبيّا قبلك، وأعطيتك الكوثر وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجعلتك فاتحا وخاتما. وفى إسناده أبو جعفر الرازى ضعفه بعضهم، وقال أبو زرعة: إنه متهم، وقال ابن كثير: الأظهر أنه سىء الحفظ. وذكر الفخر الرازى عن والده قال: سمعت أبا القاسم سليمان الأنصارى يقول: لما وصل محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة فى المعارج، أوحى الله تعالى إليه: يا محمد بم شرفك؟ قال: يا رب، بنسبتى إليك بالعبودية. فأنزل الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «1» فسماه تعالى بهذا الاسم لتحققه- صلى الله عليه وسلم- بالاسم الأعظم واتصافه

_ (1) سورة الإسراء: 1.

بجميع صفاته، فلا يصلح هذا الاسم بالحقيقة إلا له- صلى الله عليه وسلم- وللأقطاب من بعده بتبعيته لا بالحقيقة، وإن أطلق على غيره مجازا، ويرحم الله الأديب برهان الدين القيراطى فلقد أجاد حيث قال: ودعتنى بالعبد يوما فقالوا ... قد دعته بأشرف الأسماء ولبعض أهل الإشارات: كأن الله تعالى قال له: يا محمد، قد أعطيتك نورا تنظر به جمالى، وسمعا تسمع به كلامى، يا محمد، إنى أعرفك بلسان الحال معنى عروجك إلى، يا محمد، أرسلتك إلى الناس شاهدا ومبشرا ونذيرا، والشاهد مطالب بحقيقة ما يشهد به، فأريك جنتى لتشاهد ما أعددت فيها لأوليائى، وأريك نارى لتشاهد ما أعددت فيها لأعدائى، ثم أشهدك جلالى، وأكشف لك جمالى لتعلم أنى منزه فى كمالى عن الشبيه والنظير، والوزير والمشير، فرآه- صلى الله عليه وسلم- بالنور الذى قواه من غير إدراك ولا إحاطة فردا صمدا، لا فى شىء، ولا من شىء، ولا قائما بشىء، ولا على شىء، ولا مفتقرا إلى شىء، ليس كمثله شىء «1» ، فلما كلمه شفاها، وشاهده كفاحا، فقيل له: يا محمد لا بد لهذه الخلوة من سر لا يذاع ورمز لا يشاع، فأوحى إلى عبده ما أوحى، فكان سرّا من سر، لم يقف عليه ملك مقرب ولا نبى مرسل، وأنشد لسان الحال: بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم فى الكون يحكيه سر يمازجه أنس يقابله ... نور تحير فى بحر من التيه ولما انتهى إلى العرش تمسك العرش بأذياله، وناداه بلسان حاله: يا محمد، أنت فى صفاء وقتك من مقتك أشهدك جمال أحديته، وأطلعك على جلال صمديته، وأنا الظمان إليه اللهفان عليه المتحير فيه لا أدرى من أى وجه آتيه، جعلنى أعظم خلقه، فكنت أعظمهم منه هيبة، وأكثرهم فيه حيرة، وأشدهم منه خوفا. يا محمد، خلقنى فكنت أرعد لهيبة جلاله، فكتب على قائمتى، لا إله إلا الله فازددت لهيبة اسمه ارتعادا وارتعاشا، فكتب محمد

_ (1) هذا يتنافى مع خبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه لم ير ربه فى الحياة الدنيا.

رسول الله، فسكن لذلك قلقى، وهدأ روعى، فكان اسمك لقاحا لقلبى، وطمأنينة لسرى، فهذه بركة كتابة اسمك على، فكيف إذا وقع جميل نظرك إلى، يا محمد أنت المرسل رحمة للعالمين، ولا بد لى من نصيب من هذه الرحمة، ونصيبى يا حبيبى أن تشهد لى بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلى، وتقوله أهل الغرور على، زعموا: أنى أسع من لا مثيل له، وأحيط بمن لا كيفية له. يا محمد، من لا حدّ لذاته، ولا عدّ لصفاته كيف يكون مفتقرا إلى؟ أو محمولا على؟ إذا كان الرحمن اسمه، والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته فكيف يتصل بى أو ينفصل عنى؟ يا محمد، وعزته، لست بالقريب منه وصلا، ولا بالبعيد عنه فصلا، ولا بالمطيق له حملا، أو جدنى رحمة منه وفضلا، ولو محقنى لكان حقّا منه، وعدلا، يا محمد، أنا محمول قدرته، ومعمول حكمته. فأجاب لسان حال سيدى، زاده الله فضلا وشرفا لديه، ووالى صلاته وسلامه عليه: أيها العرش إليك عنى، أنا مشغول عنك، فلا تكدر على صفوتى، ولا تشوش على خلوتى، فما أعاره- صلى الله عليه وسلم- منه طرفا، ولا أقرأه من مسطور ما أوحى إليه حرفا، ما زاغ البصر وما طغى. وقد ورد فى بعض أخبار الإسراء مما ذكره العلامة ابن مرزوق فى شرحه لبردة المديح: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما كان من ربه تعالى قاب قوسين قال: اللهم إنك عذبت الأمم بعضهم بالحجارة وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالمسخ، فما أنت فاعل بأمتى؟ قال: أنزل عليهم الرحمة وأبدل سيئاتهم حسنات، ومن دعانى منهم لبيته، ومن سألنى أعطيته، ومن توكل على كفيته، وفى الدنيا أستر على العصاة، وفى الآخرة أشفعك فيهم، ولولا أن الحبيب يحب معاتبة حبيبه لما حاسبت أمتك. ولما أراد- صلى الله عليه وسلم- الانصراف قال: يا رب، لكل قادم من سفره تحفة، فما تحفة أمتى؟ قال الله تعالى: أنا لهم ما عاشوا، وأنا لهم إذا ماتوا، وأنا لهم فى القبور، وأنا لهم فى النشور. واعلم أنه قد اختلف العلماء قديما وحديثا فى رؤيته- صلى الله عليه وسلم- لربه ليلة

الإسراء. فروى البخارى من حديث مسروق قال: (قلت لعائشة: يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعرى مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدث لهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «1» وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب، ثم قرأت وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً «3» ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «4» الآية، [ولكن] رأى جبريل فى صورته مرتين) . وفى رواية مسلم (من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية) «5» . وقولها: «قف شعرى» أى قام من الفزع، لما حصل عندها من هيبة الله، واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك. قال النووى- تبعا لغيره-: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابى إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا، انتهى. قال الحافظ أبو الفضل العسقلانى: جزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع، تبع فيه ابن خزيمة، وهو عجيب، فقد ثبت عنها فى صحيح مسلم- الذى شرحه الشيخ- فعنده من طريق داود بن أبى هند عن الشعبى عن مسروق، فى الطريق المذكورة، قال مسروق: وكنت متكئا فجلست، فقلت: ألم يقل الله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «6» .

_ (1) سورة الأنعام: 103. (2) سورة الشورى: 51. (3) سورة لقمان: 34. (4) سورة المائدة: 67. (5) صحيح: وقد تقدم. (6) سورة النجم: 13.

فقالت: أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن هذا فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: لا، إنما رأيت جبريل منهبطا. نعم، احتجاج عائشة- رضى الله عنها- بالآية، خالفها فيه ابن عباس. فأخرج الترمذى من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: (رأى محمد ربه، فقلت: أليس يقول الله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «1» قال: ويحك، ذاك إذا تجلى بنوره الذى هو نوره، وقد رأى ربه مرتين) «2» . وقال القرطبى: «الأبصار» فى الآية جمع محلى بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا فى قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «3» فيكون المراد: الكفار، بدليل قوله فى الآية الآخرى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «4» ، وإذا جازت فى الآخرة جازت فى الدنيا لتساوى الوقتين بالنسبة إلى المرئى، انتهى وهو استدلال جيد. وقال القاضى عياض: رؤية الله تعالى جائزة عقلا، وليس فى العقل ما يحيلها، والدليل على جوازها: سؤال موسى- عليه السّلام- لها، ثم قال: وليس فى الشرع دليل قاطع على استحالتها ولا امتناعها، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة، ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «5» لاختلاف التأويلات فى الآية «6» ، انتهى. وقد روى ابن أبى حاتم بسنده عن إسماعيل بن علية فى تأويل هذه الآية قال: هذا فى الدنيا. وقال آخرون: لا تدركه الأبصار، أى جميعها،

_ (1) سورة الأنعام: 103. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3279) فى التفسير، باب: ومن سورة النجم، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (3) سورة المطففين: 15. (4) سورة القيامة: 22، 23. (5) سورة الأنعام: 103. (6) قلت: وأين دخل العقل فى هذا الموضوع، ثم ثانيا: ما هو الدليل الذى اعتمد عليه فى هذا الفهم!.

وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له فى الدار الآخرة. وقال آخرون من المعتزلة، بمقتضى ما فهموا من هذه الآية: أنه لا يرى فى الدنيا ولا فى الآخرة، فخالفوا أهل السنة والجماعة فى ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-. أما الكتاب: فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» وقوله: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «2» قال الإمام الشافعى- رحمه الله-: فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى. وأما السنة: فقد تواترت الأخبار عن أبى سعيد، وأبى هريرة، وأنس وجرير، وصهيب، وبلال، وغير واحد من الصحابة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: أن المؤمنين يرون الله تبارك وتعالى فى الدار الآخرة فى العرصات، وفى روضات الجنات، جعلنا الله منهم. وقيل: المنفى فى الآية، إدراك العقول: قال الحافظ ابن كثير: وهو غريب جدّا، وخلاف ظاهر الآية. وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفى الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفى الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء فى الإدراك المنفى، ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو، وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى. وقال آخرون: المراد بالإدراك الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية: كما لا يلزم من عدم الرؤية عدم العلم. وفى صحيح مسلم (لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) «3» ولا يلزم من هذا عدم الثناء فكذلك هذا. وروى ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى

_ (1) سورة القيامة: 22، 23. (2) سورة المطففين: 15. (3) صحيح: أخرجه مسلم (486) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «1» فقال: لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا، صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا. قال ابن كثير: غريب، لا يعرف إلا من هذا الوجه ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم. ومما نسب لإمام الحرمين فى «لمع الأدلة» أنه قال: من أصحابنا من قال: إن الرب تعالى يرى ولا يدرك، لأن الإدراك يا بنى عن الإحاطة، ودرك الغاية، والرب جل جلاله تقدس عن الغاية والنهاية، ثم قال: فإن عارضوا بقوله تعالى فى جواب موسى- عليه السّلام-: لَنْ تَرانِي «2» وزعموا: أن «لن» تفيد النفى على التأبيد، قلنا: هذه الآية أوضح الأدلة على جواز الرؤية، فإنها لو كانت مستحيلة لكان معتقد جواز الرؤية ضالا وكافرا، وكيف يعتقد ما لا يجوز على الله تعالى من اصطفاه لرسالته واختاره لنبوته، وخصه بكرامته، وشرفه بتكليمه، وجعله أفضل أهل زمانه، وأيده ببرهانه، وكيف يجوز على الأنبياء الريب فى أمر يتعلق بعلم الغيب. فيجب حمل الآية على أن ما اعتقد موسى- عليه السّلام- جوازه جائز، لكن ظن أن ما اعتقد جوازه ناجز، فرجع النفى فى الجواب إلى الإنجاز، وما سأل موسى- عليه السّلام- ربه رؤيته فى المال، فصرف النفى إليه، والجواب يدل على قضية الخطاب، انتهى. وقال البيضاوى: فى هذه الآية دليل على أن رؤيته تعالى جائزة فى الجملة، لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصا ما يقتضى الجهل بالله تعالى، ولذلك رده بقوله: لَنْ تَرانِي «3» دون: لن أرى، انتهى. ونقل القاضى عياض عن أبى بكر الهذلى، فى الآية، أن المراد: ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلىّ فى الدنيا، وأنه من نظر إلىّ مات. قال: وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين ما معناه: أن رؤيته تبارك وتعالى فى الدنيا

_ (1) سورة الأنعام: 103. (2) سورة الأعراف: 143. (3) سورة الأعراف: 143.

ممتنعة لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم، وكونها متغيرة، غرضا للآفات والفناء، فلم تكن لهم قوة على الرؤية، فإذا كان فى الآخرة وركبوا تركيبا آخر، ورزقوا قوى ثابتة باقية، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم، قووا بها على الرؤية. قال: وقد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس- رحمه الله- قال: لم ير فى الدنيا لأنه باق، ولا يرى الباقى بالفانى. فإذا كان فى الآخرة رزقوا أبصارا باقية، رؤى الباقى بالباقى، وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القوة، فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع فى حقه، انتهى. والاستثناء فى قوله: «إلا من حيث ضعف القوة» ينبغى أن يكون منقطعا، على معنى: لكن من حيث ضعف القوة، وإلا فضعف القوة قصاراه أن يكون مانعا، أى امتنع من جهة ضعف القوة لا من جهة كونه مستحيلا، ويدل على هذا قوله: «فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع فى حقه» . وقد وقع فى صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة فى حديث مرفوع فيه: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) «1» . وأخرجه ابن خزيمة أيضا من حديث أبى أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت. فإن جازت الرؤية فى الدنيا عقلا فقد امتنعت شرعا، لكن من أثبتها للنبى- صلى الله عليه وسلم- له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل فى عموم كلامه. وفى كلام ابن كثير: أن فى بعض كتب الله المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى لما سأله الرؤية، يا موسى، إنه لن يرانى حى إلا مات. وقد جزم القشيرى- فى الرسالة- بأنها لا تجوز فى الدنيا على جهة الكرامة، وادعى حصول الإجماع عليه. وحكى القاضى عياض امتناعها فى الدنيا عن جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وقال القشيرى أيضا: سمعت الإمام أبا بكر بن فورك يحكى عن أبى الحسن الأشعرى فى ذلك قولين فى كتاب الرؤية الكبير: انتهى.

_ (1) صحيح: انظر «صحيح الجامع» (2312 و 2459) .

وقد ذهبت عائشة وابن مسعود إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه ليلة الإسراء. واختلف عن أبى ذر. وذهب جماعة إلى إثباتها. وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: أنه حلف أن محمدا رأى ربه. وأخرج ابن خزيمة عن عروة ابن الزبير إثباتها، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس. وجزم به كعب الأحبار والزهرى، وصاحبه معمر وآخرون وهو قول الأشعرى وغالب أتباعه. ثم اختلفوا: هل رآه بعينيه أو بقلبه؟ وجاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها، فمن ذلك، ما أخرجه النسائى بإسناد صحيح، وصححه الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد- صلى الله عليه وسلم- «1» . ومنها: ما أخرجه مسلم من طريق أبى العالية عن ابن عباس فى قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «2» وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «3» قال: رآه بفؤاده مرتين «4» وله: من طريق عطاء عن ابن عباس قال: رآه بقلبه. وأصرح من ذلك: ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعينيه وإنما رآه بقلبه. وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفى عائشة، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب. لكن روى الطبرانى فى الأوسط بإسناد رجاله رجال الصحيح، خلا جهوّر بن منصور الكوفى، وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبان فى الثقات، عن ابن عباس أنه كان يقول: إن محمدا- صلى الله عليه وسلم- رأى ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده.

_ (1) أخرجه النسائى فى «الكبير» (11539) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 133) و (2/ 309 و 509) . (2) سورة النجم: 11. (3) سورة النجم: 13. (4) صحيح: أخرجه مسلم (176) فى الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.

ثم المراد «برؤية الفؤاد» رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان عالما بالله على الدوام. بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التى حصلت له خلقت له فى قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شىء مخصوص عقلا، ولو جرت العادة بخلقها فى العين. وروى ابن خزيمة بإسناد قوى عن أنس قال: (رأى محمد ربه) وفى مسلم من حديث أبى ذر أنه سأل النبى- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: (نور أنى أراه) أى حجابه نور فكيف أراه، ومعناه: أن النور منعنى من الرؤية. وعند أحمد قال: (رأيت نورا) ومن المستحيل أن تكون ذات الله تعالى نورا، إذ النور من جملة الأعراض، والله تعالى يتعالى عن ذلك. وعند ابن خزيمة عنه، قال: (رآه بقلبه ولم يره بعينه) . وبهذا يتبين مراده فى حديث أبى ذر بذكر النور، أى أن النور حال بينه وبين رؤيته له ببصره. وجنح ابن خزيمة فى كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات، وأطنب فى الاستدلال بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤية وقعت مرتين: مرة بقلبه ومرة بعينه. ومما يعزى للأستاذ عبد العزيز المهدوى: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من سفر الإسراء، أخبر العوالم من حيث فلكهم مراتبهم، وسقى كل واحد من كأسه، وعلى قدر عقله، فخاطب الكفار، وهم آخر العوالم بما رأى فى الطريق، وما كان فى المسجد الأقصى على العيان وبما يعرفون، لأنهم فى فلك الأجسام، حتى صدقوا بالإسراء، ثم ارتقى حتى حدث عن فلك السماء، وكذلك فى كل سماء، وأخبر عما شاهد ورأى فى كل فلك وما يليق أن يحدث به- أعنى الصحابة- كلا على قدر مرتبته بلا ضيق ولا مزاحم إلى السماء السابعة، ولما وصل مقام جبريل تحدث عن الأفق المبين، وعما فوق إلى الدنو وإلى التدلى إلى موضع الإيحاء عند حضرة إسقاط الصور والخلق، فأخبر بذلك أصحابه، فمنهم من قال: رأى جبريل بالأفق المبين، وبالأفق الأعلى، وصدق، ومنهم من قال برؤية الفؤاد والبصيرة وصدق،

وهى عائشة ومن معها، ومنهم من قال: بعينى رأسه رأى وصدق. فكل أخبر بما حدثه- صلى الله عليه وسلم- من مقامه وسقاه من كأسه وما يليق به، فإذا صح هذا المعراج عرفت الأمر، ومقامات الرؤية والقائلين بذلك وقولهم الجميع الحق انتهى. وممن أثبت الرؤية لنبينا- صلى الله عليه وسلم- الإمام أحمد. فروى الخلال فى «كتاب السنن» عن المروزى: قلت لأحمد: إنهم يقولون إن عائشة قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فبأى معنى يدفع قولها؟ قال: بقول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «رأيت ربى» فقول النبى أكبر من قولها. وقد أنكر صاحب «الهدى» على من زعم أن أحمد قال: رأى ربه بعينى رأسه. قال: وإنما قال مرة: رأى محمد ربه، وقال مرة: بفؤاده. وحكى عن بعض المتأخرين: رأى بعينى رأسه. وهذا من تصرف الحاكى، فإن نصوصه موجودة انتهى. وقد رجح القرطبى فى «المفهم» قول الوقف فى هذه المسألة، وعزاه لجماعة من المحققين، وقواه: بأنه ليس فى الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به الطائفتان ظواهر متعارضة، قابلة للتأويل. قال: وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية، وإنما هى من المعتقدات فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعى. والله أعلم. وأما قوله فى الحديث: «ثم فرضت على الصلاة خمسين صلاة فى كل يوم» . ففى رواية ثابت البنانى عن أنس عند مسلم (ففرض الله على خمسين صلاة فى كل يوم وليلة) «1» . ونحوه فى رواية مالك بن صعصعة عند البخارى أيضا. ويحتمل أن يقال: ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة، وبالعكس، إلا ما استثنى من خصائصه. وفى حديث ثابت عن أنس عند مسلم (فنزلت إلى موسى، فقال: ما

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (163) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات وفرض الصلوات.

فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربى فقلت: يا رب، خفف عن أمتى، فحط عنى خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عنى خمسا، فقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: فلم أزل أرجع بين ربى وبين موسى، حتى قال: يا محمد هن خمس صلوات فى اليوم والليلة، لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة. ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة. قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقلت: لقد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه) «1» . وفى رواية النسائى عن أنس: فقال لى: إنى يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك، وذكر مراجعته مع موسى، وفيه: فإنه فرض على بنى إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما. وقال فى آخره: فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك. قال: فعرفت أنها عزمة من الله فرجعت إلى موسى فقال: ارجع، فلم أرجع. فإن قلت: لم قال موسى- عليه السّلام- لنبينا- صلى الله عليه وسلم-: إن أمتك لا يطيقون ذلك، ولم يقل: أنت وأمتك لا تطيقون ذلك؟ أجيب: بأن العجز مقصور على الأمة لا يتعداهم إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فهو لما رزقه الله تعالى من الكمال يطيق ذلك وأكثر منه، وكيف لا وقد جعلت قرة عينه فى الصلاة. قال العارف ابن أبى جمرة: والحكمة فى تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه- صلى الله عليه وسلم- لما عرج به ورأى فى تلك الليلة تعبد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله تعالى له ولأمته تلك العبادات كلها فى ركعة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص.

_ (1) هو ما قبله.

وقد وقع من موسى- عليه السّلام- من العناية بهذه الأمة فى أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك فى حديث أبى هريرة عند الطبرانى والبزار، قال- صلى الله عليه وسلم-: «كان موسى أشدهم على حين مررت، وخيرهم لى حين رجعت» . وفى حديث أبى سعيد: فأقبلت راجعا فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، فسألنى كم فرض عليك ربك؟ الحديث. قال السهيلى: وأما اعتناء موسى- عليه السّلام- بهذه الأمة، وإلحاحه على نبيها أن يشفع لها ويسأل التخفيف عنها، فكقوله- والله أعلم- حين قضى إليه الأمر بجانب الغربى، ورأى صفات أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- فى الألواح، وجعل يقول: إنى أجد فى الألواح أمة صفتهم كذا، اللهم اجعلهم أمتى، فيقال له: تلك أمة أحمد، وهو حديث مشهور وقد تقدم ذكره فى خصائص هذه الأمة. قال: فكان إشفاقه عليهم واعتناؤه بأمرهم كما يعتنى بالقوم من هو منهم لقوله اللهم اجعلنى منهم انتهى. وقال القرطبى: الحكمة فى أمر موسى بمراجعة النبى- صلى الله عليه وسلم- فى أمر الصلوات يحتمل أن تكون لكون أمة موسى- عليه السّلام- كلفت من الصلوات ما لم يكلف به غيرها من الأمم قبلها، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، ويشير إليه قوله: إنى جربت الناس قبلك. انتهى. ووقع فى كلام بعض أهل الإشارات: لما تمكنت نار المحبة من قلب موسى أضاءت له أنوار نور الطور، فأسرع إليها ليقتبس فاحتبس، فلما نودى من النادى، اشتاق إلى المنادى، فكان يطوف فى بنى إسرائيل: من يحملنى رسالة إلى ربى، ومراده أن تطول المناجاة مع الحبيب، فلما مر علينا نبينا- صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج، ردده فى أمر الصلوات ليسعد برؤية حبيب الحبيب. وقال آخر: لما سأل موسى- عليه السّلام- الرؤية، ولم تحصل له البغية، بقى الشوق يقلقه، والأمل يعلله، فلما تحقق أن سيدنا محمدا الحبيب منح الرؤية، وفتح له باب المزية، أكثر السؤال ليسعد برؤية من قد رأى. كما قيل:

واستنشق الأرواح من نحو أرضكم ... لعلى أراكم أو أرى من يراكم وأنشد من لاقيت عنكم عساكم ... تجودون لى بالعطف منكم عساكم فأنتم حياتى إن حييت وإن أمت ... فيا حبذا إن مت عبد هواكم وقال آخر: وإنما السر فى موسى يردده ... ليجتلى حسن ليلى حين يشهده يبدو سناها على وجه الرسول فيا ... لله در رسول حين أشهده وقال آخر: لما جلس الحبيب فى مقام القرب، دارت عليه كؤوس الحب، ثم عاد، وهلال ما كذب الفؤاد ما رأى بين عينيه، وسرّ فأوحى إلى عبده ملء قلبه وأذنيه، فلما اجتاز بموسى- عليه السّلام-، قال لسان حاله لنبينا- صلى الله عليه وسلم-: يا واردا من أهيل الحى يخبرنى ... عن جيرتى شنف الأسماع بالخبر ناشدتك الله يا راوى حديثهم ... حدث فقد ناب سمعى اليوم عن بصر فأجاب لسان حال نبينا- صلى الله عليه وسلم- يقول: ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سر أرق من النسيم إذا سرى وأباح طرفى نظرة أملتها ... فغدوت معروفا وكنت منكرا فكل قوم يلحظون مذهبهم، وقد علم كل أناس مشربهم، والله بفضله وإحسانه يوالى انسجام سحائب عفوه ورضوانه على العارف الربانى أبى عبد الرحمن السلمى، فلقد أجاد إذ أفاد بما أفرد من لطائف المعراج حسبما جمعه من كلام أهل الإشارات، بأقوم منهاج. وقد استدل العلماء بقوله فى الحديث (فهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر فتلك خمسون) : على عدم فرضية ما زاد على الصلوات الخمس، كالوتر. وعلى دخول النسخ قبل الفعل. قال ابن بطال وغيره: ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلى؟ ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب.

وتعقبه ابن المنير فقال: هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح وغيرهم، وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة، أو منعه كالمعتزلة. لكونهم اتفقوا جميعا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ. وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ، فهو مشكل عليهم جميعا. اه. فإن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع، وإن أراد قبل البلاغ إلى بعض الأمة فمسلّم، لكن قد يقال: ليس هو بالنسبة إليهم نسخا، لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- لأنه كلف بذلك قطعا، ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعله، فالمسألة صحيحة التصوير فى حقه- صلى الله عليه وسلم-. ولما رجع- صلى الله عليه وسلم- من سفر الإسراء، مر فى طريقه بعير لقريش تحمل طعاما، فيها جمل يحمل غرارتين: غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلما حاذى العير نفرت منه واستدارت وانصرع ذلك البعير. وفى رواية: مر بعير قد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان. قال- صلى الله عليه وسلم-: فسلمت عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم أتى مكة قبل الصبح وأخبر قومه بما رأى، وقال لهم: إن من آية ما أقول لكم أنى مررت بعيركم فى مكان كذا وكذا، وقد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان، وأن مسيرهم ينزلون بمكان كذا وكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتى إذا كان قريب من نصف النهار أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذى وصفه- صلى الله عليه وسلم-. وفى رواية البيهقى: سألوه آية، أخبرهم بقدوم العير يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتى كادت الشمس أن تغرب، فدعا الله تعالى فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف. وعن عائشة: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك، فارتد ناس كانوا آمنوا، وسعى رجال من المشركين إلى أبى بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس، قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل

أن يصبح فقال: نعم، إنى لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه فى خبر السماء فى غدوة أو روحة، فلذلك سمى الصديق «1» . رواه الحاكم فى المستدرك، وابن إسحاق: وزاد: ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس فى هذه الليلة؟ قال: نعم، فقال: يا نبى الله صفه لى فإنى قد جئته، قال الحسن: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: فرفع لى المسجد حتى نظرت إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصفه لأبى بكر، فيقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئا. وقول أبى بكر: صفه لى، لم يكن عن شك، فإنه صدقه من أول وهلة، ولكنه أراد إظهار صدقه لقومه، فإنهم كانوا يثقون بأبى بكر، فإذا طابق خبره- صلى الله عليه وسلم- ما كان يعلم أبو بكر وصدقه كان حجة ظاهرة عليهم. وفى رواية البخارى (فجلا الله لى بيت المقدس) أى كشف الحجب بينى وبينه حتى رأيته. وفى رواية مسلم: (فسألونى عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط، فرفعه الله لى أنظر إليه، ما يسألونى عن شىء إلا أنبأتهم به) . فيحتمل أن يكون حمل إلى أن وضع بحيث يراه، ثم أعيد، ففى حديث ابن عباس عند أحمد والبزار: فجىء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع عند دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه. وهذا أبلغ فى المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس فى طرفة عين. وأما ما وقع فى حديث أم هانئ عند ابن سعد: فخيل إلى بيت المقدس، وطفقت أخبرهم عن آياته، فإن ثبت احتمل أن يكون مثل قريبا منه، كما قيل فى حديث: (رأيت الجنة والنار) ويؤول قوله: جىء بالمسجد، أى جىء بمثاله.

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 65 و 81) .

وفى حديث أم هانئ المذكور: أنهم قالوا له: كم للمسجد من باب، قال: ولم أكن عددتها قال: فجعلت أنظر إليه وأعدها بابا بابا. وعند أبى يعلى: إن الذى سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عدى، والد جبير بن مطعم. وأشار ابن أبى جمرة: إلى أن الحكمة فى الإسراء إلى بيت المقدس إظهار الحق للمعاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح- حيث سألوه عن جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها، وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق أنه أسرى به إلى بيت المقدس. وإذا صح البعض لزم تصحيح الباقى، فكان ذلك سببا لقوة إيمان المؤمنين، وزيادة فى شقاء من عاند وجحد من الكافرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

المقصد السادس فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره صلى الله عليه وسلم

المقصد السادس فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره صلى الله عليه وسلم فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره- صلى الله عليه وسلم- ورفعة ذكره، وشهادته تعالى بصدق نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته، واتباع سنته، وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه، والتنويه به فى الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل وغير ذلك. اعلم أطلعنى الله وإياك على أسرار التنزيل، ومنحنا بلطفه تبصرة تهديناا إلى سواء السبيل، أنه لا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك، وما فيها من التصريح والإشارة إلى علو محله الرفيع ومرتبته، ووجوب المبالغة فى حفظ الأدب معه، وكذلك الآيات التى فيها ثناؤه تعالى عليه وإظهار عظيم شأنه لديه، وقسمه تعالى بحياته، ونداؤه ب «الرسول» وب «النبى» ولم يناده باسمه بخلاف غيره من الأنبياء، فناداهم بأسمائهم إلى غير ذلك مما يشير إلى أناقة قدره العلى عنده، وأنه لا مجد يساوى مجده. ومن تأمل القرآن العظيم وجده طافحا بتعظيم الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم-. ويرحم الله ابن الخطيب الأندلسى حيث قال: مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثنى على علياك نظم مديحى وإذا كتاب الله أثنى مفصحا ... كان القصور قصار كل فصيح وهذا المقصد- أكرمك الله- يشتمل على عشرة أنواع:

النوع الأول فى آيات تتضمن تعظيم قدره ورفعة ذكره وجليل رتبته وعلو درجته على الأنبياء وتشريف منزلته

النوع الأول فى آيات تتضمن تعظيم قدره ورفعة ذكره وجليل رتبته وعلو درجته على الأنبياء وتشريف منزلته قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ «1» . قال المفسرون: يعنى موسى- عليه السّلام-، كلمه بلا واسطة، وليس نصّا فى اختصاص موسى- عليه السّلام- بالكلام، فقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا- صلى الله عليه وسلم- أيضا كما مر. فإن قلت: إذا ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كلمه ربه وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم، كما اشتق لموسى؟ أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق كاسم الفاعل فيطرد، بمعنى أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم وجوبا، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة فلا يطرد، وحينئذ فلا يلزم فى كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضى عضد الدين، وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله الموسى سعد الدين التفتازانى. انتهى. وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «2» يعنى محمدا- صلى الله عليه وسلم- رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه: بالذات فى المعراج. وبالسيادة على جميع البشر. وبالمعجزات لأنه- صلى الله عليه وسلم- أوتى من المعجزات ما لم يؤته نبى قبله. قال الزمخشرى: وفى هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذى لا يشتبه، والمتميز الذى لا

_ (1) سورة البقرة: 253. (2) سورة البقرة: 253.

يلتبس، انتهى. وقد بينت هذه الآية وكذا قوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ «1» . أن مراتب الرسل والأنبياء متفاوتة، خلافا للمعتزلة القائلين: بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفى هاتين الآيتين رد عليهم. وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة. وتوقف بعضهم فقال: السكوت أفضل. والمعتمد الذى عليه جماهير السلف والخلف: أن الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما. قال بعض أهل العلم- فيما حكاه القاضى عياض-: والتفضيل المراد لهم هنا فى الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن تكون آياته ومعجزاته أظهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون فى ذاته أفضل وأظهر، وفضله فى ذاته راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته واختصاصه: من كلام أو خلة أو ما شاء الله من ألطافه وتحف ولايته واختصاصه، انتهى. فلا مرية أن آيات نبينا- صلى الله عليه وسلم- ومعجزاته أظهر وأبهر وأكثر وأبقى وأقوى، ومنصبه أعلى ودولته أعظم وأوفر وذاته أفضل وأظهر، وخصوصياته على جميع الأنبياء أشهر من أن تذكر، فدرجته أرفع من درجات جميع المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين. وتأمل حديث الشفاعة فى المحشر، وانتهائها إليه، وانفراده هناك بالسؤدد، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة» «2» رواه ابن ماجه. وفى حديث أنس عند الترمذى: «أنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربى ولا فخر» «3» . لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته- صلى الله عليه وسلم- على الأنبياء كلهم ضعيف. واستدل الشيخ سعد

_ (1) سورة الإسراء: 55. (2) صحيح: وقد تقدم. (3) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (3610) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

الدين التفتازانى لمطلق أفضليته- صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1» قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمة بحسب كمالهم فى الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذى يتبعونه. واستدل الفخر الرازى- فى المعالم- بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد- صلى الله عليه وسلم-: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «2» ، فأمره أن يقتدى بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبا، وإلا فيكون تاركا للأمر، وإذا أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم، فيكون أفضل منهم، وبأن: دعوته- صلى الله عليه وسلم- فى التوحيد والعبادة وصلت إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته- صلى الله عليه وسلم- أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى. وقد روى الترمذى عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» «3» . وفى حديث أبى هريرة مرفوعا- عند البخارى-: «أنا سيد الناس يوم القيامة» «4» وهذا يدل على أنه أفضل من آدم- عليه السّلام- ومن كل أولاده بل أفضل من الأنبياء، بل أفضل الخلق كلهم. وروى البيهقى فى فضائل الصحابة، أنه ظهر على بن أبى طالب من البعد، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «هذا سيد العرب» فقالت عائشة: ألست بسيد العرب؟ فقال: «أنا سيد العالمين وهو سيد العرب» «5» وهذا يدل على أنه أفضل

_ (1) سورة آل عمران: 110. (2) سورة الأنعام: 90. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (3148) فى التفسير، باب: ومن سورة بنى إسرائيل، و (3615) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) صحيح: أخرجه البخارى (4712) فى التفسير، باب: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً. (5) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 134) بنحوه.

الأنبياء، بل أفضل خلق الله كلهم. وقد روى هذا الحديث- أيضا- الحاكم فى صحيحه عن ابن عباس، لكن بلفظ: «أنا سيد ولد آدم، وعلى سيد العرب» «1» . وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه. وله شاهد من حديث عروة عن عائشة، وساقه من طريق أحمد بن عبيد عن ناصح قال: حدثنا الحسين عن علوان- وهما ضعيفان- عن هشام ابن عروة عن أبيه، عن عائشة بلفظ: «ادعوا لى سيد العرب» قالت: فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟ فقال: وذكره «2» . وكذا أورده من حديث عمر بن موسى الوجيهى- وهو ضعيف أيضا- عن أبى الزبير عن جابر مرفوعا: «ادعوا لى سيد العرب» فقالت عائشة: ألست بسيد العرب وذكره. قال شيخنا: وكلها ضعيفة. بل جنح الذهبى إلى الحكم على ذلك بالوضع. انتهى. ولم يقل- صلى الله عليه وسلم-: أنا سيد الناس عجبا وافتخارا على من دونه، حاشاه الله من ذلك، وإنما قاله- صلى الله عليه وسلم- إظهارا لنعمة الله تعالى عليه، وإعلاما للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله تعالى، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليه وعليهم. وكذا العبد إذ لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه فى كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين أنشأ له ذلك فى قلبه سحائب السرور، فإذا انبسطت هذه السحائب فى سماء قلبه وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل الطرب بما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل فطل، وحينئذ يجرى على لسانه الافتخار من غير عجيب ولا فخر، بل فرح بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «3» فالافتخار على ظاهره، والافتخار والانكسار فى باطنه، ولا ينافى أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف الربانى سيد على الوفائى فى قصيدته التى أولها:

_ (1) هو الحديث السابق. (2) انظر ما قبله. (3) سورة يونس: 58.

من أنت مولاه حاشا ... علاه أن يتلاشا والله يا روح قلبى ... لا مات من بك عاشا قوم لهم أنت ساق ... لا يرجعون عطاشا لا قص دهر جناحا ... له وفاؤك راشا بك النعيم مقيم ... لمن وهبت انتعاشا ومن بحولك يقوى ... لن يضعف الدهر جاشا عبد له بك عز ... فكيف لا يتحاشا حاشا وفاؤك يرمى ... من أنت مولاه حاشا فإن قلت: فما الجمع بين هاتين الآيتين، وبين قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «1» . والحديث الثابت فى الصحيحين، عن أبى هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودى فى قسمه: لا والذى اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم اليهودى وقال: أى خبيث، وعلى محمد؟ فجاء اليهودى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتكى على المسلم فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تفضلونى على الأنبياء» وفى رواية (لا تفضلوا بين الأنبياء) «2» . وحديث أبى سعيد الخدرى عند البخارى ومسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تخيروا بين الأنبياء» «3» . وحديث ابن عباس عند البخارى ومسلم مرفوعا (ما ينبغى

_ (1) سورة البقرة: 136. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3414) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، ومسلم (2373) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (2412) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودى، ومسلم (2374) فيما سبق.

لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) «1» . وحديث أبى هريرة عند الشيخين، (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) «2» . أجاب العلماء: بأن قوله عز وجل: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ «3» يعنى: فى الإيمان بما أنزل إليهم والتصديق بهم، والإيمان بأنهم رسل الله وأنبياؤه، والتسوية بينهم فى هذا لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض. وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة: فقال بعضهم: أن نعتقد أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض فى الجملة. ونكف عن الخوض فى تفصيل التفضيل بارائنا، قال ابن طغر بك: فإن أراد هذا القائل أن نكف عن الخوض فى تفصيل التفضيل بارائنا فصحيح، وإن أراد أنا لا نذكر فى ذلك ما فهمناه من كتاب الله وروى لنا من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسقيم. وقال آخر: تفضل من رفع درجته بخصائص الحظوة والزلفى، ولا نخوض فى تفضيل بعضهم على بعض فى سياسة المنذرين والصبر على الدين، والنهضة فى أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلّال، فإن كلا منهم قد بذل فى ذلك وسعه الذى لا يكلفه الله تعالى أكثر منه. وقال آخر- مما حكاه القاضى عياض-: إن نهيه- صلى الله عليه وسلم- عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل إذ يحتاج إلى توقيف، وإن من فضل بلا علم فقد كذب. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفى هذا نظر. انتهى. ولعل وجه النظر من جهة معرفة المتقدم تاريخا من ذلك. ثم رأيت فى تاريخ ابن كثير أن وجه النظر- من جهة- أن هذا من رواية أبى سعيد وأبى هريرة، وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر متأخرا، فيبعد أنه لم

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3416) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، ومسلم (2373) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم-. (2) صحيح: وقد تقدم حديث أبى هريرة قبل قليل. (3) سورة البقرة: 136.

يعلمه بهذا إلا بعد هذا. وقال آخر: إنما قاله- صلى الله عليه وسلم- عن طريق التواضع ونفى التكبر والعجب. قال القاضى عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض. وقيل: لا يفضل بينهم تفضيلا يؤدى إلى تنقيص بعضهم أو الغض منه. وقيل: منع التفضيل فى حق النبوة والرسالة، فإن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فيها على حد واحد، لا يتفاضل. وإنما التفاضل فى زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب، وأما النبوة فى نفسها فلا تتفاضل، وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، انتهى، وهذا قريب من القول الثانى. وقال ابن أبى جمرة فى حديث يونس: يريد بذلك نفى التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطيب الرى، لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما فى عالم الحس، لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- أسرى به إلى فوق السبع الطباق، ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وقال- صلى الله عليه وسلم-: «آدم ومن دونه تحت لوائى» وقد اختص- صلى الله عليه وسلم- بالشفاعة الكبرى التى لم تكن لغيره من الأنبياء- عليهم السلام-. فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تفضلونى على يونس بن متى» إلا بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه وتعالى والبعد، فمحمد- صلوات الله وسلامه عليه- وإن أسرى به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس- عليه الصلاة والسلام- وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى. وهو مروى عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس وعزى نحوه لإمام الحرمين. وقال ابن المنير: إن قلت إن لم يفضل على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين فى تفضيل الحق فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى على الحضيض الأدنى، فكيف لا يفضله- عليه الصلاة والسلام- على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة بلا إشكال. ثم قال: قلت لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل

مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكانى فعلى هذا يحمل جمعا بين القواعد، انتهى. واختلف هل البشر أفضل من الملائكة؟ فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بنى آدم، وهم الأنبياء، أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، والمقربون والكروبيون والروحانيون. وخواص الملائكة أفضل من عوام بنى آدم- قال التفتازانى: بالإجماع بل بالضرورة- وعوام بنى آدم أفضل من عوام الملائكة. فالمسجود له أفضل من الساجد، فإذا ثبت تفضيل الخواص على الخواص ثبت تفضيل العوام على العوام، فعوام الملائكة خدم عمال الخير، والمخدوم له فضل على الخادم، ولأن المؤمنين ركب فيهم الهوى والعقل، مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى لا سبيل للشيطان عليهم. فالإنسان- كما قاله فى شرح العقائد- يحصل الفضائل والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق والموانع من الشهوة والغضب وسنوح الحاجات الضرورية الشاغلة عن اكتساب الكمالات، ولا شك أن العبادة والكمالات مع الشواغل والصوارف أشق وأدخل فى الإخلاص فتكون أفضل. والمراد بعوام بنى آدم- هنا- الصلحاء لا الفسقة، كما نبه عليه العلامة كمال الدين بن أبى شريف المقدسى، قال: ونص البيهقى عليه فى الشعب وعبارته: قد تكلم الناس قديما وحديثا فى الملائكة والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، وأن الأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. انتهى. وذهب المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة إلى تفضيل الملائكة. وهو اختيار القاضى أبى بكر الباقلانى، وأبى عبد الله الحليمى، وتمسكوا بوجوه: الأول: أن الملائكة أرواح مجردة كاملة بالفعل مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات كالشهوة والغضب، وعن ظلمات الهيولى والصورة، قوية على الأفعال العجيبة عالمة بالكوائن ماضيها وآتيها من غير غلط.

والجواب: أن مبنى ذلك على الأصول الفلسفية دون الأصول الإسلامية. الثانى: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «1» وقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ «2» ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم. والجواب: أن التعليم من الله تعالى والملائكة إنما هم مبلغون. الثالث: أنه أطرد فى الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء، وما ذلك إلا لتقدمهم فى الشرف والرتبة. والجواب: أن ذلك لتقدمهم فى الوجود، أو لأن وجودهم أخفى فالإيمان بهم أقوى وبالتقديم أولى. الرابع: قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «3» ، فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة على عيسى، إذ القياس فى مثله الترقى من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان، ولا يقال: السلطان ولا الوزير. ثم لا قائل بالفصل بين عيسى- عليه السّلام- وغيره من الأنبياء- عليهم السلام-. والجواب: أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يترفع أن يكون عبدا من عباد الله، بل ينبغى أن يكون ابنا له، لأنه مجرد لا أب له، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بخلاف سائر العباد من بنى آدم، فرد عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك المسيح ولا من هو أعلى منه فى هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن الله على أفعال أقوى وأعجب من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى فالترقى

_ (1) سورة النجم: 5. (2) سورة الشعراء: 193، 194. (3) سورة النساء: 172.

والعلو إنما هو فى أمر التجرد وإظهار الآثار القوية لا فى مطلق الشرف والكمال، فلا دلالة على أفضلية الملائكة، انتهى. ثم الملائكة بعضهم أفضل من بعض، وأفضلهم الروح الأمين جبريل، المزكى من رب العالمين، المقول فيه من ذى العزة إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «1» فوصفه بسبع صفات، فهو أفضل الملائكة الثلاثة- الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق- وهم: ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- أفضل الأنبياء والرسل، كما تقدم. وأول الأنبياء آدم وآخرهم نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-. فأما نبوة آدم فبالكتاب الدال على أنه قد أمر ونهى، مع القطع بأنه لم يكن فى زمنه نبى آخر، فهو بالوحى لا غير، وكذا السنة والإجماع، فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرا. وقد اختلف فى عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور فى ذلك ما فى حديث أبى ذر عند ابن مردويه فى تفسيره، قال: قلت يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير» ، قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: «آدم» ثم قال: «يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيت ونوح وخنوخ» - وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم-، «وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، وأول نبى من بنى إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك» «2» ، وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان فى كتاب «الأنواع والتقاسيم» وقد وسمه بالصحيح. وخالفه ابن الجوزى فذكره فى الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام. قال الحافظ ابن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح

_ (1) سورة التكوير: 19- 21. (2) أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (1/ 167) .

والتعديل من أجل هذا الحديث، فالله أعلم. وروى أبو يعلى عن أنس مرفوعا: كان من خلى من إخوانى من الأنبياء ثمانية آلاف نبى، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص الله تعالى على أسمائهم فى القرآن: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب، وموسى وهارون ويونس، وداود وسليمان وإلياس واليسع، وزكريا ويحيى وعيسى. وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين والله أعلم. وقال الله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «1» . روى ابن جرير من حديث أبى سعيد، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أتانى جبريل عليه السلام» فقال: إن ربى وربك يقول: أتدرى كيف رفعت ذكرك؟ قلت: «الله أعلم» قال: إذا ذكرت ذكرت معى «2» . وذكره الطبرانى، وصححه ابن حبان: وروينا عن الإمام الشافعى قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبى نجيح: معناه لا أذكر إلا ذكرت معى، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، قال الإمام الشافعى يعنى- والله أعلم- ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، قال: ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية انتهى. وقيل: رفعه بالنبوة. قاله يحيى بن آدم. وعن ابن عطاء: جعلتك ذكرا من ذكرى. فمن ذكرك ذكرنى، وعنه أيضا: جعلت تمام الإيمان بذكرى معك. وعن جعفر بن محمد الصادق: لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرنى بالربوبية. قال البيضاوى: وأى رفعة مثل أن قرن اسمه باسمه فى كلمتى الشهادة، وجعل طاعته طاعته، انتهى، يشير إلى قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «3» وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «4» وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «5» وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ «6» .

_ (1) سورة الشرح: 4. (2) ضعيف: أخرجه أبو يعلى وابن حبان والضياء، كما فى «ضعيف الجامع» (71) . (3) سورة النساء: 80. (4) سورة التوبة: 62. (5) سورة النساء: 13. (6) سورة آل عمران: 132.

وقول قتادة: رفع الله ذكره فى الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، انتهى. فهو مذكور معه فى الشهادة والتشهد، ومقرون ذكره بذكره فى القرآن والخطب والآذان، ويؤذن باسمه فى موقف القيامة. وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن أبى هريرة رفعه: لما نزل آدم- عليه السّلام- بالهند استوحش فنزل جبريل- عليه السّلام- فنادى بالأذان: الله أكبر، الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين، الحديث. وكتب اسمه الشريف على العرش وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها. رواه ابن عساكر. وأخرج البزار عن ابن عمر مرفوعا: لما عرج بى إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمى مكتوبا فيها: محمد رسول الله. وفى الحلية عن ابن عباس رفعه: ما فى الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأخرج الطبرانى من حديث جابر مرفوعا: كان نقش خاتم سليمان بن داود- عليهما السلام- لا إله إلا الله محمد رسول الله. وعزاه الحافظ ابن رجب فى كتاب أحكام الخواتيم لجزء أبى على الخالدى، وقال: إنه باطل موضوع. وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسما، كما بينت ذلك فى أسمائه- صلوات الله وسلامه عليه-، وصلى عليه فى ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1» فأخبر عباده بمنزلة نبيه عنده فى الملأ الأعلى بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلى عليه، ثم أمر العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه، فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوى والسفلى جميعا.

_ (1) سورة الأحزاب: 56.

وكتبه نبيّا وآدم بين الروح والجسد «1» ، وختم به النبوة والرسالة، وأعلن بذكره الكريم فى الأولين والآخرين، ونوه بقدره الرفيع حين أخذ الميثاق على جميع النبيين، وجعل ذكره فى فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع على المنابر، وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر، ونشر ذكره فى الآفاق شرقا وغربا، برّا وبحرا، حتى فى السماوات السبع وعند المستوى وصريف الأقلام، والعرش والكرسى، وسائر الملائكة المقربين من الكروبيين والروحانيين والعلويين والسفليين، وجعله فى قلوب المؤمنين بحيث يستطيعون ذكره فترتاح أرواحهم، وربما تميل من طرب سماع اسمه أشباحهم: وإذا ذكرتكم أميل كأننى ... من طيب ذكركم سقيت الراحا كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة، فهم متمسكون فى الفريضة بأمرى، وفى السنة بأمرك، وجعلت طاعتى طاعتك، وبيعتى بيعتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معانى فرقانك، والوعاظ يبلغون بليغ وعظك، والملوك والسلاطين يقفون فى خدمتك ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق إلى أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين. وقال تعالى: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «2» . اعلم أن للمفسرين فى (طه) قولين، أحدهما: أنها من حروف التهجى، والثانى أنها كلمة مفيدة. وعلى الأولى: قيل معناها، يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادى الخلق إلى الملة، وقيل: «الطاء» فى الحساب بتسعة والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشر، ومعناه: يا أيها البدر، وهذه الأقوال لا يجب أن يعتمد عليها إذ هى،

_ (1) تقدم الحديث الدال على ذلك. (2) سورة طه: 1، 2.

كما قاله المحققون، من بدع المفسرين، ومثلها قول الواسطى، فيما حكاه القاضى عياض فى «الشفاء» ، أراد: يا طاهر يا هادى. وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان: أحدهما، أن معناه: يا رجل، وهو مروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة. قال سعيد بن جبير: بلسان النبطية، وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشية. وقال البيضاوى: إن صح إن معناه: يا رجل فلعل أصله: يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار، انتهى. وقال الكلبى «1» : لو قلت فى «عكّ» «2» يا رجل، لم يجبك حتى تقول: طه. وقال السدى: معنى طه يا فلان. وقال الزمخشرى: لعل «عكا» تصرفوا فى «يا هذا» كأنهم فى لغتهم قالبون «الياء» «طاء» فقالوا: فى «يا طاء» واختصروا هذا فاقتصروا على «ها» ، وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى فى البيت المستشهد به: إن السفاهة طه فى خلائقكم ... لا قدس الله أخلاق الملاعين قال فى البحر: وقد كان قدم أن «طه» فى لغة «عك» فى معنى يا رجل، ثم تخوض وتجرأ على «عك» بما لا يقوله نحوى، وهو أنهم قلبوا «الياء» «طاء» وهذا لا يوجد فى لسان العرب قلب «الياء» التى للنداء «طاء» وكذلك حذف اسم الإشارة فى النداء وإقرار «ها» التى للتنبيه، انتهى. وقيل: معناه يا إنسان. وقرئ (طه) بإسكان الهاء، على أنه أمر له- صلى الله عليه وسلم- بأن يطأ الأرض بقدميه. وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقوم فى تهجده على إحدى رجليه، فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا، وأن الأصل «طاء» فقلبت همزته هاء، كما قالوا «هياك» فى: «إياك» ، و «هرقت» فى: أرقت. ويجوز أن يكون الأصل من وطئ على ترك الهمزة، فيكون أصله «طا» يا

_ (1) الكلبى: ضعيف، وكذلك السدى الذى بعده. (2) هو: عك بن عدنان أخو معد، قبائل باليمن إليهما تنسب، والمقصد إذا قلت باليمن.

رجل ثم أثبتت الهاء فيها للوقف. وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل «طه» : طاها، والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية عن الأرض. لكن يرد ذلك: كتبهما على صورة الحرف. وأما قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1» فذكروا فى سبب نزولها أقوالا: أحدها: أن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدى قالوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «بل بعثت رحمة للعالمين» فأنزل الله تعالى هذه الآية ردّا عليهم، وتعريفا له- صلى الله عليه وسلم- بأن دين الإسلام والقرآن هو السلّم إلى نيل كل فوز، والسبب فى إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وثانيها: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل: أبق على نفسك، فإن لها عليك حقّا. أى ما أنزلناه عليك لتنتهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحاء. وروى أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام. وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل. وتعقب: بأنه بعيد، لأنه- صلى الله عليه وسلم- إن فعل شيئا من ذلك فلابد أن يكون قد فعله بأمر الله تعالى، وإذا فعله عن أمره فهو من باب السعادة لا من باب الشقاوة. وثالثها: قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد، لا تشق على نفسك وتعذبها بالأسف على كفر هؤلاء، فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به من آمن، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، فما عليك إلا البلاغ، وهذا كقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ «3» .

_ (1) سورة طه: 2. (2) سورة الشعراء: 3. (3) سورة لقمان: 23.

رابعها: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفى ذلك الوقت كان- صلى الله عليه وسلم- مقهورا مع أعدائه، فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة، بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقيّا، بل تصير معظما مكرما، زاده الله تعالى تعظيما وتكريما وتشريفا. وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» السورة. قال الإمام فخر الدين ابن الخطيب: فى هذه السورة كثير من الفوائد، منها: أنها كالتتمة لما قبلها من السور، وذلك لأن الله تعالى جعل سورة (والضحى) فى مدح نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وتفصيل أحواله، فذكر فى أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته وهى قوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «2» ثم ختمها كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا، وهى قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا «3» أى عن علم الحكم والأحكام فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى «4» . ثم ذكر فى سورة أَلَمْ نَشْرَحْ «5» أنه تعالى شرفه- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أشياء وهى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أى: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ «6» . أى عناءك الثقيل الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ وهكذا سورة سورة، حتى قال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «7» أى أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة التى كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها. وإذ أنعمنا عليك بهذه النعم فاشتغل بطاعتنا ولا تبال بقولهم. ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس وهو قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وإما بالمال وهو قوله: وَانْحَرْ «8» .

_ (1) سورة الكوثر: 1. (2) سورة الضحى: 3- 5. (3) سورة الضحى: 6، 7. (4) سورة الضحى: 7، 8. (5) سورة الشرح: 1. (6) سورة الشرح: 2. (7) سورة الكوثر: 1. (8) سورة الكوثر: 2.

وتأمل قوله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ «1» كيف ذكر بلفظ الماضى، ولم يقل: سنعطيك، ليدل على أن هذا الإعطاء حصل فى الزمان الماضى، قال- صلى الله عليه وسلم-: «كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» «2» ولا شك أن من كان فى الزمان الماضى عزيزا مرعى الجانب أشرف ممن سيصير كذلك، كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك فى هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا يا أيها العبد الكريم، إنا لم نعطك هذا الفضل العميم لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساسنا من غير موجب. واختلف المفسرون فى تفسير (الكوثر) على وجوه: منها: أنه نهر فى الجنة، وهذا هو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف، فروى أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: (بينا أنا أسير فى الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر) «3» رواه البخارى. وقيل: الكوثر أولاده، لأن هذه السورة إنما نزلت ردّا على من عابه- صلى الله عليه وسلم- بعدم الأولاد، وعلى هذا فالمعنى: أنه يعطيه نسلا يبقون على ممر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبى من الأنبياء غيره. وقيل: الكوثر الخير الكثير. وقيل: النبوة، وهى الخير الكثير. وقيل: علماء أمته، وقيل الإسلام، ولا ريب أنهما من الخير الكثير، فالعلماء ورثة الأنبياء «4» ، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذى، وأما «علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل» «5» فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله

_ (1) سورة الكوثر: 1. (2) صحيح: وقد تقدم. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6581) فى الرقاق، باب: فى الحوض. (4) صحيح: أخرجه أبو داود (3641) فى العلم، باب: الحث على طلب العلم، والدارمى فى «سننه» (342) ، من حديث أبى الدرداء- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6297) . (5) لا أصل له: انظر «كشف الخفاء» للعجلونى (1744) .

الدميرى والزركشى، أنه لا أصل له. نعم روى أبو نعيم فى فضل العالم العفيف بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه: أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد. وقيل: الكوثر كثرة الأتباع والأشياع. وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه: أحدها أن العلم هو الخير الكثير، والثانى: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة أو على نعم الدنيا، قال: والأول غير جائز لأنه قال: إن أعطيناك الكوثر، والجنة سيعطيها لا أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه فى الدنيا، وأشرف الأمور الواصلة إليه فى الدنيا هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم، والثالث: أنه لما قال إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» قال عقبه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «2» والشىء الذى يتقدم على العبادة هو المعرفة، ولأن «الفاء» فى قوله (فصل) للتعقيب، ومعلوم أن الموجب للعبادة ليس إلا العلم. وقيل الكوثر الخلق الحسن كما فى حديث: ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة «3» . رواه الطبرانى. وعن ابن عباس: جميع نعم الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم-. وبالجملة: فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقى، فوجب حملها على الكل، ولذا روى أن سعيد بن جبير لما روى هذا القول عن ابن عباس قال له بعضهم: إن ناسا يزعمون أنه نهر فى الجنة، فقال سعيد: النهر الذى فى الجنة من الخير الذى أعطاه الله إياه. قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «4» يقتضى أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله من النبوة والقرآن والذكر

_ (1) سورة الكوثر: 1. (2) سورة الكوثر: 2. (3) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 24) و (10/ 418) وعن أم سلمة وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير بنحوه، وفى إسنادهما سليمان بن أبى كريمة، وهو ضعيف. (4) سورة الكوثر: 1.

العظيم والنصر على الأعداء. وأما الحوض وسائر ما أعدّ له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه لأن ما ثبت بحكم وعد الله فهو كالواقع، إلا أن الحقيقة ما قدمناه، لأن ذلك وإن أعدّ له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه الكوثر فى حال نزول هذه السورة بمكة، ويحتمل أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بشىء له، يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشىء مع أن الصبى فى ذلك الحال ليس أهلا للتصرف. انتهى. وقد روينا فى صحيح مسلم من حديث أنس (بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما يضحكك أضحك الله سنك، يا رسول الله؟ قال: «نزلت على آنفا سورة فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «1» . ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربى، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتى عليه يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتى، فيقول: ما تدرى ما أحدث بعدك) «2» . وهذا تفسير صريح منه- صلى الله عليه وسلم- بأن المراد بالكوثر- هنا- الحوض، فالمصير إليه أولى، وهذا هو المشهور كما تقدم. فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه بما أفاضه عليه من نعمه الجسيمة. وقد جرت عادة الله مع أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو: يا آدَمُ اسْكُنْ «3» يا نُوحُ اهْبِطْ «4» يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «5» يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ «6» ، وأما نبينا محمد

_ (1) سورة الكوثر: 1- 3. (2) صحيح: أخرجه مسلم (400) فى الصلاة، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة. (3) سورة البقرة: 35. (4) سورة هود: 48. (5) سورة القصص: 30. (6) سورة المائدة: 110.

- صلى الله عليه وسلم- فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال فقال: (يا أيها الرسول) (يا أيها النبى) . ولله در القائل: فدعا جميع الرسل كلا باسمه ... ودعاك وحدك بالرسول وبالنبى قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا عبيده بأفضل ما أوجد لهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التى لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم، وهذا معلوم بالعرف: أن من دعى بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة فى تعظيمه واحترامه. انتهى. وانظر ما فى نحو قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» من ذكر «الرب» تعالى وإضافته إليه- صلى الله عليه وسلم-، وما فى ذلك من التنبيه على شرفه واختصاصه بخطابه، وما فى ذلك من الإشارة اللطيفة، وهى أن المقبل عليه بالخطاب، له الحظ الأعظم، والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها إذ هو فى الحقيقة أعظم خلفائه. ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه، وجعله أفضل أنبيائه، أمّ بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم فى أرضه وسمائه، وفى دار تكليفه وجزائه. وبالجملة: فقد تضمن الكتاب العزيز من التصريح بجليل رتبته، وتعظيم قدره، وعلو منصبه، ورفعة ذكره ما يقضى بأنه استولى على أقصى درجات التكريم ويكفى إخباره تعالى بالعفو عنه وملاطفته قبل ذكر العتاب فى قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2» . وتقديم ذكره على الأنبياء تعظيما له، مع تأخره عنهم فى الزمان فى قوله تعالى: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «3» وإخباره بتمنى أهل النار طاعته فى قوله تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا «4» ، وهذا بحر لا ينفد وقطر لا يعد.

_ (1) سورة البقرة: 30. (2) سورة التوبة: 43. (3) سورة الأحزاب: 7. (4) سورة الأحزاب: 66.

النوع الثانى فى أخذ الله الميثاق له على النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه

النوع الثانى فى أخذ الله الميثاق له على النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «1» الآية. أخبر تعالى أنه أخذ الميثاق على كل نبى بعثه، من لدن آدم- عليه الصلاة والسلام- إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- أن يصدق بعضهم بعضا، قاله الحسن وطاووس وقتادة. وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم. وعن على بن أبى طالب وابن عباس: ما بعث الله نبيّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد- صلى الله عليه وسلم- وهو حى- ليؤمنن به ولينصرنه. وما قاله قتادة والحسن وطاووس لا يضاد ما قاله على وابن عباس، ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه. وقيل معناه: أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد- صلى الله عليه وسلم- أن يؤمنوا به وأن ينصروه، واحتج له بأن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم- عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد- صلى الله عليه وسلم- من جملة الأموات، والميت لا يكون مكلفا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذا على الأمم. وقالوا: ويؤكد هذا، أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق بأنهم لو تولوا لكانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم. وأجاب الفخر الرازى: بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا فى الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم-. ونظيره قوله تعالى لَئِنْ

_ (1) سورة آل عمران: 81.

أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1» ، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط، ولكنه خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض، وقال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «2» وقال فى الملائكة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ «3» مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ «4» وبأنهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ «5» ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير. وإذا نزلت هذه الآية على أن الله تعالى لما أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- لو كانوا فى الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لكانوا فى زمرة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم- واجبا على أممهم من باب أولى. فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى فى تحصيل المقصود. وقال السبكى فى هذه الآية: إنه- صلى الله عليه وسلم- على تقدير مجيئهم فى زمانه يكون مرسلا إليهم. فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وبعثت إلى الناس كافة» لا يختص به الناس فى زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضا، وإنما أخذ له المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المتقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم. وفى أخذ المواثيق- وهى فى معنى الاستحلاف، ولذلك دخلت «لام» القسم فى لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ «6» لطيفة: وهى كأنها أيمان البيعة التى تؤخذ للخلفاء، ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا. فانظر إلى هذا التعظيم العظيم للنبى- صلى الله عليه وسلم- من ربه تعالى، فإذا عرف

_ (1) سورة الزمر: 65. (2) سورة الحاقة: 44- 46. (3) سورة الأنبياء: 29. (4) سورة الأنبياء: 27. (5) سورة النحل: 50. (6) سورة آل عمران: 81.

هذا فالنبى محمد- صلى الله عليه وسلم- نبى الأنبياء، ولهذا ظهر ذلك فى الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه. وفى الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه فى زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم اتباعه والإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل لهم فى حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه. وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فها هنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من ذات النبى- صلى الله عليه وسلم- الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد فى عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتى عيسى- عليه السّلام- فى آخر الزمان على شريعته، وهو نبى كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتى واحدا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلنا من اتباعه للنبى- صلى الله عليه وسلم-، وإنما يحكم بشريعة نبينا- صلى الله عليه وسلم- بالقرآن والسنة، وكل ما فيهما من أمر ونهى، فهو متعلق به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبى كريم على حاله لم ينقص منه شىء. وكذلك لو بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- فى زمانه أو فى زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم وكانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبى- صلى الله عليه وسلم- نبى عليهم ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم. وتتفق مع شرائعهم فى الأصول، لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته- صلى الله عليه وسلم- فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو: لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبى- صلى الله عليه وسلم- فى تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفى هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة الشريفة، والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات، وبهذا بان لنا معنى حديثين كانا خفيا عنا: أحدهما: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «بعثت إلى الناس كافة» «1» ، كنا نظن أنه من زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه إلى جميع الناس أولهم وآخرهم.

_ (1) صحيح: وقد تقدم.

النوع الثالث فى وصفه له ص بالشهادة وشهادته له بالرسالة

والثانى: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» «1» ، كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك، وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده- صلى الله عليه وسلم- وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهلهم لسماع كلامه لا بالنسبة إليه ولا إليهم، لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف فها هنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم وقبولهم سماع الخطاب والجسد الشريف الذى يخاطبهم بلسانه. وهذا كما يوكل الأب رجلا فى تزويج ابنته إذا وجدت كفأ، فالتوكيل صحيح وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل توقف التصرف على وجود الكفء، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح فى صحة الوكالة وأهلية الوكيل، انتهى. النوع الثالث فى وصفه له ص بالشهادة وشهادته له بالرسالة قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل- عليهما الصلاة والسلام- عند بناء البيت الحرام رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» . فاستجاب الله دعاءهما، وبعث فى أهل مكة رسولا منهم بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذى دعا مع أبيه إبراهيم- عليهما السلام- بهذا الدعاء. فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا المراد به محمد- صلى الله عليه وسلم-؟

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) سورة البقرة: 127- 129.

فالجواب من وجوه: أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة. والثانى: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى» «1» قالوا: وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى هى ما ذكر فى سورة الصف فى قوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «2» . الثالث: إن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة إلا محمدا- صلى الله عليه وسلم-. وقد امتن الله تعالى على المؤمنين يبعث هذا النبى منهم على هذه الصفة فقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ «3» الآية، فليس لله منة على المؤمنين أعظم من إرساله محمدا- صلى الله عليه وسلم- يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم، لأن النعمة به- صلى الله عليه وسلم- تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله الذى رضيه لعباده. وقوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ «4» يعنى أنه بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحى. وقرئ فى الشواذ (من أنفسهم) - بفتح الفاء- يعنى من أشرفهم، لأنه من بنى هاشم، وبنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم. ثم قيل: لفظ (المؤمنين) عام، ومعناه خاص فى العرب، لأنه ليس حى من أحياء العرب إلا وقد ولده، وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به أكثر، فالمنة عليهم أعظم.

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 223) عن العرباض بن سارية، وقال: رواه أحمد بأسانيد والبزار والطبرانى بنحوه، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان. (2) سورة الصف: 6. (3) سورة آل عمران: 164. (4) سورة آل عمران: 164.

فإن قلت: هل العلم بكونه- صلى الله عليه وسلم- بشرا، ومن العرب، شرط فى صحة الإيمان، أو هو من فروض الكفاية. أجاب الشيخ ولى الدين بن العراقى: بأنه شرط فى صحة الإيمان. قال: فلو قال شخص: أومن برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الخلق، ولكنى لا أدرى هل هو من البشر أو الملائكة، أو من الجن، أو لا أدرى أهو من العرب أو العجم، فلا شك فى كفره لتكذيبه للقرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف، وصار معلوما بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم فى ذلك خلافا. فلو كان غبيّا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره. انتهى. فإن قلت: هل هو- صلى الله عليه وسلم- باق على رسالته إلى الآن؟ أجاب أبو المعين النفسى: بأن الأشعرى قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- الآن فى حكم الرسالة، وحكم الشىء يقوم مقام أصل الشىء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى. وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية بعد موته- صلى الله عليه وسلم- حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان بعد موته، لأن المتصف بالنبوة والرسالة، والإيمان هو الروح وهى باقية لا تتغير بموت البدن. انتهى. وتعقب: بأن الأنبياء أحياء فى قبورهم، فوصف النبوة باق للجسد والروح معا. وقال القشيرى: كلام الله تعالى لمن اصطفاه: أرسلتك أن تبلغ عنى، وكلامه تعالى قديم، فهو- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوجد كان رسولا. وفى حال كونه وإلى الأبد رسولا، لبقاء الكلام وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذى هو كلام الله تعالى. ونقل السبكى فى طبقاته، عن ابن فورك أنه قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- حى فى قبره، رسول الله أبد الآباد على الحقيقة لا المجاز. انتهى. وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» .

_ (1) سورة الجمعة: 2.

والمراد بالأميين: العرب، تنبيها لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شىء من آثار النبوة، كما عند أهل الكتاب، فمنّ الله تعالى عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم وأعلمهم، وعرفوا ضلالة من ضل قبلهم من الأمم. وفى كونه- صلى الله عليه وسلم- منهم فائدتان: إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضا أميّا كأميّة المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابا قط ولم يخطه بيمينه، كما قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «1» ، ولا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم، بل لم يزل أميّا بين أمة أمية لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين، وهذه الشريعة الباهرة، وهذا الدين القيم الذى اعترف حذاق أهل الأرض ونظارها أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه، وفى هذا برهان عظيم على صدقه- صلى الله عليه وسلم-. والفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم وهم الأميون، وخصوصا أهل مكة، يعرفون نسبه وشرفه وصدقه وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفترى الكذب على الله عز وجل؟ هذا هو الباطل. ولذلك سأل هرقل عن هذه الأوصاف واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة. وقد قال الله تعالى خطابا له: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ «2» . ويروى أن رجلا قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبى- صلى الله عليه وسلم- فى العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب. ويروى أن المشركين كانوا إذا رأوه- صلى الله عليه وسلم- قالوا: إنه لنبى. وعن على: قال أبو جهل للنبى- صلى الله عليه وسلم-: إنا لا

_ (1) سورة العنكبوت: 48. (2) سورة الأنعام: 33.

نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى الآية. والمعنى: أنهم ينكرونه مع العلم بصحته. إذ الجحد هو الإنكار مع العلم. فإن قلت: فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «1» ؟ أجيب: بأنه على طريق الجحد، وهو يختلف باختلاف أحوالهم فى الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله، فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرا وعنادا كأبى جهل. فيكون المراد بقوله فإنهم لا يكذبونك، قوما مخصوصين منهم لا كلهم، وحينئذ فلا تعارض. وروى أن أبا جهل لقيه فصافحه فقيل له: أتصافحه؟ فقال: والله إنى لأعلم أنه نبى، ولكن متى كنا تبعا لبنى عبد مناف؟ فأنزل الله الآية، رواه أبو حاتم. والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته، فكيف يليق بكمال الله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده، ويعلى كلمته ويرفع شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يده من الآيات والبراهين والأدلة ما يضعف عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر ساع فى الأرض بالفساد؟؟ ومعلوم أن شهادته سبحانه وتعالى على كل شىء، وقدرته على كل شىء، وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء، ومن ظن ذلك به وجوزه عليه فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة. والقرآن كله مملوء من هذه الطريق، وهذه طريقة الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله. وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادى على ذلك ويبديه ويعيده لمن له فهم وقلب واع عن الله تعالى. قال الله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» ، أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمه يأبى أن يقرّ من

_ (1) سورة الأنعام: 34. (2) سورة الحاقة: 44- 47.

تقول عليه بعض الأقاويل، بل لابد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سننه فى المتقولين عليه. وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «1» هاهنا انتهى جواب الشرط. ثم أخبر خبرا جازما غير معلق بأنه يمحو الباطل ويحق الحق. وقال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ «2» ، فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغى ولا عظمه كما يستحق، فكيف من ظن أن الله ينصر الكاذب المفترى عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟ وهذا فى القرآن كثير يستدل تعالى بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسوله، وعلى وعده ووعيده، ويدعو عباده إلى ذلك. وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «3» ، فأخبر سبحانه أن الكتاب الذى أنزله يكفى من كل آية، ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب. ثم قال: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «4» فإذا كان سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام محيد بالمشهود به، وهو سبحانه وتعالى يذكر علمه عند شهادته وقدرته، وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده. فتأمل ورود أسمائه الحسنى

_ (1) سورة الشورى: 24. (2) سورة الأنعام: 91. (3) سورة العنكبوت: 51، 52. (4) سورة العنكبوت: 52.

فى كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب. انتهى. وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً «1» . أى شاهدا على الوحدانية، وشاهدا فى الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهدا فى الآخرة بأحوال الدنيا، وبالطاعة والمعصية والصلاح والفساد، وشاهدا على الخلق يوم القيامة كما قال تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» . كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرّف من قبلنا، إنا أرسلناك شاهدا بوحدانيتنا ومشاهدا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتحذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا، وداعيا الخلق إلينا، وسراجا يستضيئون بك، وشمسا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من اتبعك وخدمك وقدمك، فبشر بفضلنا وطولنا عليهم وإحساننا إليهم. ولما كان الله تعالى قد جعله- صلى الله عليه وسلم- شاهدا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيا، فالله تعالى لم يجعل النبى فى مسألة الوحدانية مدعيا لها، لأن المدعى من يقول شيئا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبى- صلى الله عليه وسلم- كان ادعى النبوة، فجعل الله تعالى نفسه شاهدا له فى مجازاة كونه شاهدا له تعالى فقال سبحانه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ «3» ، ومن هذا قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4» فاستشهد على رسالته بشهادة الله له. وكذلك قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «5» ، وقوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ

_ (1) سورة الأحزاب: 45، 46. (2) سورة البقرة: 143. (3) سورة المنافقون: 1. (4) سورة الرعد: 43. (5) سورة الأنعام: 19.

شَهِيداً «1» وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ «2» وقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «3» ، فهذا كله منه تعالى شهادة لرسوله قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم بكونه سبحانه شاهدا لرسوله. وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «4» . فيظهر ظهورين: ظهورا بالحجة والبيان، وظهورا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورا. ومن شهادته تعالى أيضا ما أودعه فى قلوب عباده من التصديق الجازم، واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه، فإن الله تعالى فطر القلوب على قلوب الحق والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علما ضروريّا ويقينا جازما أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «5» ، فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علما ضروريّا كسائر الأمور الوجدانية باللذة والألم أنه من عند الله، تكلم به حقّا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد- صلى الله عليه وسلم-. فهذا الشاهد فى القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصا من مدارج السالكين.

_ (1) سورة النساء: 166. (2) سورة المنافقون: 1. (3) سورة الفتح: 29. (4) سورة محمد: 24. (5) سورة الأعراف: 158.

وقال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «1» . ففى هذه الآية دلالة على أنه- صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى كافة الثقلين. وقالت العيسوية من اليهود- وهم أتباع عيسى الأصبهانى-. إن محمدا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بنى إسرائيل. ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية، لأن قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب يتناول كل الناس، ثم قال: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «2» وهذا يقتضى كونه مبعوثا إلى جميع الناس. وأيضا: فلأنا نعلم بالتواتر أنه كان يدعى أنه مبعوث إلى الثقلين. فإما أن تقول: كان رسولا حقّا، أو ما كان كذلك، فإن كان رسولا حقّا امتنع الكذب عليه، ووجب الجزم بكونه صادقا فى كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعى كونه مبعوثا إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقا، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثا إلى العرب فقط، لا إلى بنى إسرائيل. وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «3» من الناس من يقول إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك. أما الأولون فقالوا: دخله التخصيص من وجهين: الأول: أنه رسول إلى الناس إذا كانوا من جملة المكلفين، فأما إذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولا إليهم، وذلك لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» «4» رواه ابن جرير عن ابن عباس.

_ (1) سورة الأعراف: 158. (2) سورة الأعراف: 158. (3) سورة الأعراف: 158. (4) صحيح: أخرجه أبو داود (4399- 4403) فى الحدود، باب: فى المجنون يسرق أو يصيب حدّا، والترمذى (1423) فى الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، وابن ماجه (2042) فى الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغيرة والنائم، من حديث على- رضى الله عنه-، وفى الباب عن عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3512 و 3513 و 3514) .

والثانى: أنه رسول إلى من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه، حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا حصول قوم فى طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته. وعن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «والذى نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة ولا يهودى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» «1» رواه مسلم. ومفهومه: أن من لم يسمع بالنبى- صلى الله عليه وسلم- ولم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، على ما تقرر فى الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح. وفى هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا- صلى الله عليه وسلم-. وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2» . خاطب تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا خاتم النبيين الذى لا نبى بعده ولا رسول. بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ «3» أى بعد مدة متطاولة، ما بين إرساله وعيسى ابن مريم. وقد اختلفوا فى مقدار هذه الفترة كم هى؟ فقال النهدى وقتادة فى رواية عنه: ستمائة سنة. ورواه البخارى عن سلمان الفارسى. وعن قتادة: خمسمائة وستون سنة، وقال الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة، وعن الشعبى- فيما ذكره ابن عساكر- تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة، قال: وكانت هى الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بنى إسرائيل، وبين محمد آخر النبيين من بنى آدم على الإطلاق، كما فى البخارى من حديث أبى هريرة مرفوعا: «أنا أولى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (153) فى الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- إلى جميع الناس وفسخ الملل بملة. (2) سورة المائدة: 19. (3) سورة المائدة: 19.

الناس بابن مريم ليس بينى وبينه نبى» «1» وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبى يقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القضاعى وغيره. والمقصود: أن الله بعث محمدا على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم والنفع به أعم. وفى حديث عند الإمام أحمد مرفوعا: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بنى إسرائيل» «2» وفى لفظ مسلم «من أهل الكتاب» . فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدا فهدى به الخلائق، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، - صلوات الله وسلامه عليه-. وقال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» . أى: عزيز عليه عنتكم، أى إثمكم بالشرك والمعاصى، حريص عليكم أن تهتدوا. قال الحسن: عزيز عليه أن تدخلوا النار، حريص عليكم أن تدخلوا الجنة، ومن حرصه- صلى الله عليه وسلم- علينا أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، وفهمنا إياه على قدر منزلته، بل على قدر منزلتنا، وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله: لم يمتحنا بما تعيى العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم أى لم نتحير ولم نشك فيما ألقاه إلينا. وقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «4» ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم. ومن حرصه- صلى الله عليه وسلم- على هدايتنا أنه كان كثيرا ما يضرب المثل بالمحسوس ليحصل الفهم، وهذه سنة

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 162) ، وهو عند مسلم (2865) فى الجنة، باب: الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار، من حديث عياض بن حمار المجاشعى. (3) سورة التوبة: 128. (4) سورة الأنبياء: 107.

تنبيه:

القرآن، ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من ذلك العجب العجاب، ولما ساوى الله سبحانه وتعالى بين الناس فى حرص رسوله- صلى الله عليه وسلم- على إسلامهم، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم. وقال تعالى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» ولم يقل: من أرواحكم، فقيل يحتمل أن يكون مراده: أنه منا بجسده المنفس، لا بروحه المقدس، ويرحم الله القائل: إذا رمت مدح المصطفى شغفا به ... تبلد ذهنى هيبة لمقامه فأقطع ليلى ساهر الجفن مطرقا ... هوى فيه أحلى من لذيذ منامه إذا قال فيه الله جل جلاله ... رؤوف رحيم فى سياق كلامه فمن ذا يجارى الوحى والوحى معجز ... بمختلفيه نثره ونظامه تنبيه: أما قول القاضى عياض بعد ذكره الآية: «ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد كثيرة، من حرصه على هدايتهم، ورشدهم وإسلامهم، وشدة ما يعنتهم ويضربهم فى دنياهم وأخراهم، وعزته على ... » . فهو وإن كان المقصد صحيحا، ففى ظاهره شىء، لأنه يوهم أن قوله «وشدة ما يعنتهم» معطوف على متعلق المصدر الذى هو «الحرص» فيكون مخفوضا به. ومما يقوى هذا التوهم قوة إعطاء الكلام، أن الضمير الأول من قوله «وعزته عليه» عائد على النبى- صلى الله عليه وسلم-، والضمير الثانى عائد على الله عز وجل، فلا تبقى «الشدة» إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر. ولا يخفى ما فى هذا. وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف أى: وكراهة شدة ما يعنتهم، أو نحو ذلك من المضافات. والأولى- أو الصواب، إن شاء الله تعالى- أن تكون «الشدة» معطوفة على نفس المصدر الذى هو «الحرص»

_ (1) سورة التوبة: 128.

ويكون قوله «وعزته» معطوفا على «وشدة» والضمير فيه راجع إلى الموصول وهو «ما» فى قوله «ما يعنتهم» والهاء الثانية فى «عليه» عائدة على النبى- صلى الله عليه وسلم-. انتهى. وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» . يجوز أن يكون «رحمة» مفعولا له، أى لأجل الرحمة، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة فى أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أى: ذا رحمة، أو بمعنى: راحم. قاله السمين «2» . وقال أبو بكر بن طاهر- فيما ذكره القاضى عياض-: زين الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلم- بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شىء من رحمته فهو الناجى فى الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، انتهى. وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبى إذا كذب أهلك الله من كذبه. ومحمد أخّر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة فى الدنيا والآخرة. وقال السمرقندى: رحمة للعالمين يعنى: الجن والإنس. وقيل: لجميع الخلق للمؤمن رحمة بالهداية، ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافر بتأخير العذاب. فذاته- صلى الله عليه وسلم- كما قيل- رحمة تعم المؤمن والكافر، قال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «3» ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا رحمة مهداة» «4» رواه الدارمى والبيهقى فى «الشعب» من حديث أبى هريرة. وقال بعض العارفين: الأنبياء خلقوا كلهم من الرحمة، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- عين الرحمة، ولقد أحسن القائل: غنيمة عمر الكون بهجة عيشه ... سرور حياة الدهر فائدة الدهر هو النعمة العظمى هو الرحمة التى ... تجلى بها الرحمن فى السر والجهر

_ (1) سورة الأنبياء: 107. (2) هو: أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبى، أبو العباس شهاب الدين المعروف بالسمين، توفى سنة (756 هـ) . (3) سورة الأنفال: 33. (4) تقدم.

فبيانه- صلى الله عليه وسلم- ونصحه رحمة، ودعاؤه واستغفاره رحمة، فرزق ذلك من قبله، وحرمه من رده. فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟ فالجواب: من وجهين: أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف، لمن استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله تعالى: الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة، وقد قال تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً «1» ثم قد يكون سببا للفساد. وثانيهما: أن كل نبى من الأنبياء قبل نبينا إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وقد أخر الله تعالى عذاب من كذب نبينا إلى الموت، أو إلى القيامة. لا يقال: إنه تعالى قال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ «2» ، وقال تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ «3» ، لأنا نقول: تخصيص العام لا يقدح فيه. وفى «الشفاء» للقاضى عياض: وحكى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: «هل أصابك من هذه الرحمة شىء؟» قال: نعم، كنت أخشى العاقبة فأمنت، لثناء الله تعالى علىّ بقوله عز وجل: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «4» . انتهى. وذكره السمرقندى: فى تفسيره بلفظ. وذكر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل يقول الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «5» فهل أصابك من هذه الرحمة شىء؟ قال: نعم، أصابنى من هذه الرحمة شىء، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت بك، لثناء الله تعالى علىّ فى قوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «6» . وهذا يقتضى أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- أفضل من جبريل، وهو الذى عليه

_ (1) سورة ق: 9. (2) سورة التوبة: 14. (3) سورة الأحزاب: 73. (4) سورة التكوير: 20، 21. (5) سورة الأنبياء: 107. (6) سورة التكوير: 20.

الجمهور، خلافا لمن زعم أن جبريل أفضل واستدل: بأن الله تعالى وصف جبريل بسبعة أوصاف من صفات الكمال فى قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ «1» ، ووصف محمدا- صلى الله عليه وسلم- بقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «2» . ولو كان محمد- صلى الله عليه وسلم- مساويا لجبريل فى صفات الفضل أو مقاربا له لكان وصف محمدا بمثل ذلك. وأجيب: بأنا متفقون على أن لمحمد- صلى الله عليه وسلم- فضائل أخرى سوى ما ذكر فى هذه الآية، وعدم ذكر الله تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجمال، وإذا ثبت أن لمحمد- صلى الله عليه وسلم- فضائل أخر زائدة فيكون أفضل من جبريل. وبالجملة: فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل ألبتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثانى، وإذا ثبت بالدليل القرآنى أنه- صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم، والله أعلم. وقال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «3» . وهذه الآية نص فى أنه لا نبى بعده، وإذا كان لا نبى بعده فلا رسول بطريق الأولى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبى، ولا ينعكس، كما قدمنا ذلك فى أسمائه الشريفة من المقصد الثانى. وبذلك وردت الأحاديث عنه- صلى الله عليه وسلم-: فروى أحمد من حديث أبى بن كعب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «مثلى فى النبيين كمثل رجل بنى دارا، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة فلم يضعها: فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا فى النبيين موضع تلك اللبنة» «4» ورواه الترمذى عن بندار عن

_ (1) سورة التكوير: 19- 21. (2) سورة التكوير: 22. (3) سورة الأحزاب: 40. (4) صحيح: وقد تقدم.

أبى عامر العقدى، وقال: حديث حسن صحيح. وفى حديث أنس بن مالك مرفوعا: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدى ولا نبى) «1» رواه الترمذى وغيره. وفى حديث جابر مرفوعا: (مثلى ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، وأنا موضع هذه اللبنة، ختم بى الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-) «2» رواه أبو داود الطيالسى، وكذا البخارى ومسلم. وفى حديث أبى سعيد الخدرى: (فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة) «3» . رواه مسلم. وفى حديث أبى هريرة عند مسلم: (وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بى النبيون) «4» . فمن تشريف الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم- ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله فى كتابه، ورسوله فى السنة المتواترة عنه، أنه لا نبى بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تحذق وتشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات «5» ، فكلها محال وضلالة عند أولى الألباب. ولا يقدح فى هذا نزول عيسى ابن مريم- عليه السّلام- بعده، لأنه إذا نزل كان على دين نبينا- صلى الله عليه وسلم- ومنهاجه، مع أن المراد: أنه آخر من نبئ. قال أبو حيان: ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولى أفضل من النبى فهو زنديق يجب قتله والله أعلم.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (2272) فى الرؤيا، باب: ذهبت النبوة وبقيت البشرات، وأحمد فى «المسند» (3/ 267) ، والحاكم فى «المستدرك» (40/ 433) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: وقد تقدم. (3) صحيح: وقد تقدم. (4) صحيح: أخرجه مسلم (523) فى المساجد، باب: رقم (1) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (5) النيرنج: شىء كالسحر.

النوع الرابع فى التنويه به ص فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل

النوع الرابع فى التنويه به ص فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «1» . وهذا يدل على أنه لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله، لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول مقاله، فلما قال لهم- صلى الله عليه وسلم- هذا دل على أن ذلك النعت كان مذكورا فى التوراة والإنجيل. وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته. لكن أهل الكتب كما قال الله تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «2» ويُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «3» ، وإلا فهم- قاتلهم الله- قد عرفوا محمدا- صلى الله عليه وسلم- كما عرفوا أبناءهم، ووجدوه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل، لكنهم حرفوهما وبدلوهما ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. فدلائل نبوة نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى كتابيهما- بعد تحريفهما- طافحة، وأعلام شريعته ورسالته فيهما لائحة، وكيف يغنى عنهم إنكارهم، وهذا اسم النبى- صلى الله عليه وسلم- بالسريانية «مشفح» ، فمشفح، محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولن «شفحا لاها» إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد لله، وإذا كان الحمد، شفحا، فمشفح: محمد، ولأن الصفات التى أقروا بها هى وفاق لأحواله وزمانه، ومخرجه ومبعثه وشريعته- صلى الله عليه وسلم-، فليدلونا على من هذه الصفات له، ومن خرجت له الأمم من بين يديه، وانقادت له واستجابت لدعوته. ومن صاحب الجمل الذى هلكت بابل وأصنامها به؟

_ (1) سورة الأعراف: 157. (2) سورة البقرة: 146. (3) سورة المائدة: 13.

على أنا لو لم نأت بهذه الأنباء والقصص من كتبهم، ألم يك فيما أودع الله عز وجل القرآن دليل على ذلك؟ وفى تركهم جحد ذلك وإنكاره- وهو يقرعهم به- دليل على اعترافهم له؟ فإنه يقول: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «1» ويقول حكاية عن المسيح: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «2» . ويقول: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «3» ويقول: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ «4» ، وكانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا نبى قد أظل مولده، ويذكرون من صفته ما يجدون فى كتابهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدا وخوفا على الرياسة. ويحتمل أنهم كانوا يظنون أنه من بنى إسرائيل فلما بعثه الله من العرب، من نسل إسماعيل عظم ذلك عليهم، وأظهروا التكذيب، فلعنة الله على الكافرين. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم وما فى أيديهم، ويقول من علامة نبوتى وصدقى أنكم تجدونى عندكم مكتوبا وهم لا يجدونه كما ذكر؟! أو ليس ذلك مما يزيدهم عنه بعدا، وقد كان غنيّا أن يدعوهم بما ينفرهم، ويستميلهم بما يوحشهم. وقد أسلم من أسلم من علمائهم كعبد الله بن سلام، وتميم الدارى، وكعب، وقد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوى. وقد روى ابن عساكر فى تاريخ دمشق من طريق محمد بن حمزة بن عبد الله بن سلام عند جده عبد الله بن سلام: أنه لما سمع بمخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- بمكة، خرج فلقيه، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أنت ابن سلام عالم أهل يثرب؟» قال: نعم، قال: «ناشدتك الله الذى أنزل التوراة على موسى، هل

_ (1) سورة الأعراف: 157. (2) سورة الصف: 6. (3) سورة آل عمران: 71. (4) سورة البقرة: 146.

فصل

تجد صفتى فى كتاب الله» قال: انسب ربك يا محمد، فارتج النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال له جبريل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» ، فقال ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وإن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإنى لأجد صفتك فى كتاب الله: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة المعوجة، حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا وقلوبا غلفا. فصل وقوله: «ليس بفظ ولا غليظ» موافق لقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «2» ولا يعارض قوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «3» لأن النفى محمول على طبعه الكريم الذى جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة، أو النفى بالنسبة إلى المؤمنين والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين كما هو مصرح به فى نفس الآية. و «قلوبا غلفا» : أى مغشاة مغطاة، واحدها: أغلف، ومنه غلاف السيف وغيره. وأخرج البيهقى وأبو نعيم عن أم الدرداء- امرأة أبى الدرداء- قالت: قلت لكعب، كيف تجدون صفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى التوراة؟ قال: كنا نجده موصوفا فيها: محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، وأعطى المفاتيح، ليبصر الله به أعينا عورا، ويسمع به آذانا صمّا، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف. وفى البخارى: عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن

_ (1) سورة الإخلاص: 1- 4. (2) سورة آل عمران: 159. (3) سورة التوبة: 73.

العاص، فقلت: أخبرنى عن صفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: (أجل، والله إنه لموصوف فى التوراة ببعض صفته فى القرآن: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين. أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا) «1» . وعند ابن إسحاق: ولا صخب فى الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال للخنا، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به الخمالة، وأسمى به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس. وأخرج البيهقى عن ابن عباس قال: قدم الجارود فأسلم فقال: والذى بعثك بالحق لقد وجدت وصفك فى الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول. وأخرج ابن سعد قال: لما أمر إبراهيم بإخراج هاجر حمل على البراق، فكان لا يمر بأرض عذبة سهلة إلا قال: انزل ها هنا يا جبريل، فيقول: لا، حتى أتى مكة فقال جبريل: انزل يا إبراهيم، قال: حيث لا ضرع ولا زرع؟ قال: نعم، هاهنا يخرج النبى الذى من ذرية ابنك الذى تتم به الكلمة العليا. وفى التوراة- مما اختاره بعد الحذف والتبديل والتحريف، مما ذكره ابن ظفر فى «البشر» وابن قتيبة فى «أعلام النبوة» -: تجلى الله من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. و «سينا» هو الجبل الذى كلم الله فيه موسى. و «ساعير» هو الجبل الذى كلم الله فيه عيسى، وظهرت فيه نبوته.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4838) فى التفسير، باب: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً.

وجبال «فاران» هو اسم عبرانى- وليست ألفه الأولى همزة- هى جبال بنى هاشم التى كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتحنث فى أحدها وفيه فاتحة الوحى، وهو أحد ثلاثة جبال، أحدها: أبو قبيس، والمقابل له قعيقعان إلى بطن الوادى، والثالث: الشرقى فاران، ومنفتحه الذى يلى قعيقعان إلى بطن الوادى، وهو شعب بن هاشم، وفيه مولده- صلى الله عليه وسلم- على أحد الأقوال. قال ابن قتيبة: وليس بهذا غموض، لأن تجلى الله من سينا، إنزاله التوراة على موسى- عليه السّلام- بطور سيناء، ويجب أن يكون إشراقه من «ساعير» إنزاله على عيسى الإنجيل، وكان المسيح يسكن من ساعير أرض الخليل، بقرية تدعى ناصرة، وباسمها سمى من اتبعه نصارى، فكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران بإنزاله القرآن على محمد- صلى الله عليه وسلم-، وهى جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب فى ذلك اختلاف فى أن فاران هى مكة. وإن ادعى أنها غير مكة قلنا: أليس فى التوراة: إن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا: دلونا على الموضع الذى استعلن الله منه واسمه فاران، والنبى الذى أنزل عليه كتابا بعد المسيح، أو ليس «استعلن» و «علن» بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام، وفشا فى مشارق الأرض ومغاربها فشوه. وفى التوراة أيضا- مما ذكره ابن ظفر- خطابا لموسى، والمراد به الذين اختارهم لميقات ربه الذين أخذتهم الرجفة خصوصا، ثم بنى إسرائيل عموما: والله ربك يقيم نبيّا من إخوتك، فاستمع له كالذى سمعت ربك فى حوريت يوم الاجتماع حين قلت لا أعود أسمع صوت الله ربى لئلا أموت، فقال الله لى: نعم ما قالوا، وسأقيم لهم نبيّا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامى فى فمه فيقول لهم كل شىء أمرته به، وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمى فإنى أنتقم منه. قال: وفى هذا الكلام أدلة على نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم-. فقوله: «نبيّا من إخوتهم» وموسى وقومه من بنى إسحاق، وإخوتهم بنو إسماعيل، ولو كان هذا النبى الموعود به من بنى إسحاق، لكان من

أنفسهم لا من إخوتهم. وأما قوله: «نبيّا مثلك» وقد قال فى التوراة: لا يقوم فى بنى إسرائيل أحد مثل موسى، وفى ترجمة أخرى: مثل موسى لا يقوم فى بنى إسرائيل أبدا. فذهبت اليهود إلى أن هذا النبى الموعود به هو يوشع بن نون، وذلك باطل، لأن يوشع لم يكن كفؤا لموسى- عليهما السلام-، بل كان خادما له فى حياته، ومؤكدا لدعوته بعد وفاته، فتعين أن يكون المراد به محمدا- صلى الله عليه وسلم- فإنه كفؤ موسى لأنه مماثله فى نصب الدعوة، والتحدى بالمعجزة، وشرع الأحكام، وإجراء النسخ على الشرائع السالفة. وقوله تعالى: «أجعل كلامى فى فمه» فإنه واضح فى أن المقصود به محمد- صلى الله عليه وسلم- لأن معناه أوحى إليه بكلامى، فينطق به على نحو ما سمعه، ولا أنزل صحفا ولا ألواحا لأنه أمى، لا يحسن أن يقرأ المكتوب. وفى الإنجيل- مما ذكره ابن طغر بك فى «الدر المنظم» قال يوحنا فى إنجيله عن المسيح أنه قال: أنا أطلب من الأب أن يعطيكم «فار قليط» آخر يثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذى لن يطيق العالم أن يقتلوه. وهو عند ابن ظفر بلفظ: إن أحببتمونى فاحافظوا وصيتى، وأنا أطلب إلى أبى فيعطيكم «فار قليط» «1» آخر يكون معكم الدهر كله. قال: فهذا صريح بأن الله تعالى سيبعث إليهم من يقوم مقامه، فينوب عنه فى تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا، فهل هذا إلا محمد- صلى الله عليه وسلم-؟ انتهى. ولم يذكر فصول «الفارقليط» - كما أفاده ابن طغر بك- سوى يوحنا، دون غيره من نقله الأناجيل. وقد اختلف النصارى فى تفسير «الفارقليط» . فقيل هو: الحامد، وقيل: المخلص. فإن وافقناهم على أنه المخلص أفضى بنا الأمر إلى أن المخلص رسول يأتى لخلاص العالم، وذلك من غرضنا، لأن كل نبى مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح فى الإنجيل: إنى قد جئت لخلاص العالم، فإذا ثبت أن المسيح هو الذى وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذى سأل الأب أن يعطيهم «فارقليط» آخر، ففى مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتى آخر.

_ (1) كذا بالأصل، وقد شرحها المصنف بالحامد أو المخلص.

وإن تنزلنا معهم على القول بأنه: الحامد، فأى لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا؟ قال ابن ظفر: وفى الإنجيل- مما ترجموه- ما يدل على أن الفارقليط: الرسول، فإنه قال: إن هذا الكلام الذى تسمعونه ليس هو لى، بل الأب أرسلنى بهذا الكلام لكم، وأما «الفارقليط» روح القدس الذى يرسله أبى باسمى، فهو يعلمكم كل شىء، وهو يذكركم كلما قلته لكم. فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحا فى أن «الفارقليط» رسول يرسله الله، وهو روح القدس، وهو يصدق بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من الله، وليس بإله، وهو يعلم الخلق كل شىء، ويذكرهم كل ما قاله المسيح- عليه السّلام- لهم، وكل ما أمرهم به من توحيد الله. وأما قوله «أبى» فهذه اللفظة مبدلة محرفة، وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين، إشارة إلى الرب سبحانه، لأنها عندهم لفظة تعظيم، يخاطب بها المتعلم معلمه الذى يستمد منه العلم. ومن المشهور مخاطبة النصارى عظاماء دينهم بالآباء الروحانية، ولم تزل بنو إسرائيل وبنو عيصو يقولون نحن أبناء الله بسوء فهمهم عن الله تعالى. وأما قوله «يرسله أبى باسمى» فهو إشارة إلى شهادة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- له بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه عما افترى فى أمره. وفى ترجمة أخرى للإنجيل، أنه قال: «الفارقليط» إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث. وهو عند ابن طغر بك لفظ: فإذا جاء روح الحق، ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتى، وهو يمجدنى لأنه يأخذ مما هو لى ويخبركم. فقوله «ليس ينطق من عنده» وفى الرواية الآخرى: «ولا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بكل ما يسمع» أى: من الله الذى أرسله، وهذا كما قال تعالى فى حقه- صلى الله عليه وسلم-: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» .

_ (1) سورة النجم: 3، 4.

وقوله: «وهو يمجدنى» فلم يمجده حق تمجيده إلا محمد- صلى الله عليه وسلم-، لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه وبرأ أمه- عليهما السلام- مما نسب إليهما، وأمر أمته بذلك. قال ابن ظفر: فمن ذا الذى وبخ العلماء على كتمان الحق وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس، ومن ذا الذى أنذر بالحوادث وأخبر بالغيوب إلا محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولله در أبى محمد عبد الله الشقراطيسى حيث قال فى قصيدته المشهورة: توراة موسى أتت عنه فصدقها ... إنجيل عيسى بحق غير مفتعل أخبار أحبار أهل الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا فى الأعصر الأول ويعجبنى قول العارف الربانى أبى عبد الله بن النعمان: هذا النبى محمد جاءت به ... توراة موسى للأنام تبشر وكذاك إنجيل المسيح موافق ... ذكرا لأحمد معرب ومذكر ويرحم الله ابن جابر حيث قال: لمبعثه فى كل جيل علامة ... على ما جلته الكتب من أمره الجلى فجاء به إنجيل عيسى باخر ... كما قد مضت توراة موسى بأول وفى الدلائل للبيهقى عن الحاكم- بسند لا بأس به- عن أبى أمامة الباهلى عن هشام بن العاص الأموى قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر الحديث، وأنه أرسل إليهم ليلا، قال: فدخلنا عليه، فدعا بشىء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح واستخرج حريرة سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، فإذا رجل ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم- عليه السّلام-، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية، فقال: أتعرفون

هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح- عليه السّلام-، قال: ثم فتح بابا آخر وأخرج حريرة فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا فيها. والله رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله ونبينا، قال: والله إنه لهو، ثم قام قائما ثم جلس وقال: إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما والله إنه لآخر البيوت، ولكنى عجلته لكم لأنظر ما عندكم. الحديث، وفيه ذكر الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان وغيرهم. قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصور؟ فقال: إن آدم- عليه السّلام- سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل الله عليه صورهم، فكان فى خزانة آدم- عليه السّلام- عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال. وفى زبور داود- عليه السّلام-، من مزمور أربعة وأربعين: فاضت النعمة من شفتيك، من أجل هذا باركك الله إلى الأبد، تقلد أيها الجبار بالسيف، فإن شرائعك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، وجميع الأمم يخرون تحتك. فهذا المزمور ينوه بنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم-، فالنعمة التى فاضت من شفتيه هى القول الذى يقوله، وهو الكتاب الذى أنزل عليه والسنة التى سنها. وفى قوله: «تقلد سيفك أيها الجبار» دلالة على أنه النبى العربى، إذا ليس يتقلد السيوف أمة من الأمم سوى العرب، فكلهم يتقلدونها على عواتقهم. وفى قوله «فإن شرائعك وسنتك» نص صريح على أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه. و «الجبار» الذى يجبر الخلق بالسيف على الحق ويصرفهم عن الكفر جبرا. وعن وهب بن منبه قال: قرأت فى بعض الكتب القديمة، قال الله تبارك وتعالى: وعزتى وجلالى، لأنزلنّ على جبال العرب نورا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولآخرجن من ولد إسماعيل نبيّا أميّا يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بى ربّا، وبه رسولا، ويكفرون بملل آبائهم

النوع الخامس فى آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحى إليه من آياته وعلو رتبته الشريفة ومكانته

ويفرون منها، قال موسى: سبحانك وتقدست أسماؤك، لقد كرمت هذا النبى الكريم وشرفته، قال الله: يا موسى، إن أنتقم من عدوه فى الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة، وأذل من خالف شريعته، بالعدل زينته، وللقسط أخرجته، وعزتى لأستنقذن به أمما من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم وأختمها بمحمد، فمن أدركه ولم يؤمن به ولم يدخل فى شريعته فهو من الله برىء. ذكره ابن ظفر وغيره. النوع الخامس فى آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحى إليه من آياته وعلو رتبته الشريفة ومكانته وهذا النوع- أعزك الله- لخصت أكثره من كتاب أقسام القرآن للعلامة ابن القيم، مع زيادات من فرائد الفوائد. فاعلم أنه تعالى أقسم بأمور على أمور، وإنما أقسم بنفسه الموصوفة بصفاته، وآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وأقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه من عظيم آياته. ثم إنه تعالى تارة يذكر جواب القسم وهو الغالب. وتارة يحذفه. وتارة يقسم على أن القرآن حق. وتارة على أن الرسول حق. وتارة على أن الجزاء والوعد والوعيد حق. فالأول: كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «1» . والثانى: كقوله تعالى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «2» . والثالث: كقوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إلى قوله: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ «3» .

_ (1) سورة الواقعة: 75- 77. (2) سورة يس: 1- 3. (3) سورة الذاريات: 1- 6.

الفصل الأول فى قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه من الفضل العميم

وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، فمتى ثبت أن الرسول حق، ثبت أن القرآن حق، وثبت المعاد، ومتى ثبت أن القرآن حق ثبت صدق الرسول الذى جاء به، ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدق الرسول الذى جاء به. وفى هذا النوع خمسة فصول. الفصل الأول فى قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه من الفضل العميم قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» . ن «2» من أسماء الحروف ك الم «3» والمص «4» وق «5» . واختلف فيها، فقيل هى أسماء للقرآن، وقيل: أسماء للسور. وقيل: أسماء لله، ويدل عليه أن عليّا- رضى الله عنه- كان يقول: يا كهيعص «6» ، يا حم (1) عسق «7» كما قيل، ولعله أراد يا منزلهما. وقيل: إنه سر استأثر الله بعلمه، وقد روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله ورسوله، لم يقصد بها إفهام غيره، إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد. وهل المراد بقوله تعالى: «ن» اسم الحوت، وهل المراد به الجنس، أو البهموت وهو الذى عليه الأرض؟

_ (1) سورة القلم: 1- 4. (2) سورة القلم: 1. (3) سورة البقرة: 1. (4) سورة الأعراف: 1. (5) سورة ق: 1. (6) سورة مريم: 1. (7) سورة الشورى: 1، 2.

وقيل: المراد به الدواة وهو مروى عن ابن عباس، ويكون هذا قسما بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق، وتارة بالكتابة. وقيل: إن «ن» لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يأمرهم به الله. رواه معاوية بن قرة مرفوعا. والحق أنه اسم للسورة، وأقسم الله تعالى بالكتاب وآلته وهو القلم الذى هو إحدى آياته وأول مخلوقاته الذى جرى به قدره وشرعه، وكتب به الوحى، وقيد به الدين، وأثبتت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وقام فى الناس أبلغ خطيب وأفصحه وأنفعه لهم وأنصحه، وواعظا تشفى مواعظه القلوب من السقم، وطبيبا يبرئ بإذن بارئه من أنواع الألم على تنزيه نبيه ورسوله محمد المحمود فى كل أفعاله وأقواله مما غمصته أعداؤه الكفرة به، وتكذيبهم له بقوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «1» . وكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء قاطبة عن معارضته، وكلّت عن مماثلته، وعرّفهم من الحق ما لا تهتدى إليه عقولهم، بحيث أذعنت له عقول العقلاء، وخضعت له ألباب الألباء، وتلاشت فى جنب ما جاء به، بحيث لم يسعها إلا التسليم له، والانقياد والإذعان طائعة مختارة، فهو الذى كمل عقولها كما يكمل الطفل برضاع الثدى. ثم أخبر تعالى عن كمال حالتى نبيه- صلى الله عليه وسلم- فى دنياه وآخرته فقال: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ «2» أى: ثوابا غير منقطع، بل هو دائم مستمر، ونكر الأجر للعظيم، أى أجرا عظيما لا يدركه الوصف ولا يناله التعبير. ثم أثنى عليه بما منحه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «3» وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته، ولقد سئلت عائشة- رضى الله عنها- عن خلقه- صلى الله عليه وسلم- فقالت: «كان خلقه القرآن» ومن ثم قال ابن عباس وغيره: أى على دين

_ (1) سورة القلم: 2. (2) سورة القلم: 3. (3) سورة القلم: 4.

الفصل الثانى فى قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلى لديه

عظيم، وسمى الدين خلقا لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكتسب النفس بها أخلاقا هى أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها. وهذه كانت أخلاقه- صلى الله عليه وسلم- المقتبسة من القرآن، فكان كلامه مطابقا للقرآن تفصيلا وتبيينا، وعلومه علوم القرآن، وإراداته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه فى تنفيذ أوامره، فترجمت أم المؤمنين- لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن تعبيرها- عن هذا كله بقولها: «كان خلقه القرآن» ، وفهم السائل عنها هذا المعنى فاكتفى به واشتفى. ولما وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم قال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ «1» أى فسترى يا محمد وسيرى المشركون كيف عاقبة أمرك، فإنك تصير معظما فى القلوب، ويصيرون أذلاء مغلوبين، وتستولى عليهم بالقتل والنهب. الفصل الثانى فى قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلى لديه قال الله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «2» السورة. أقسم تعالى على إنعامه على رسوله- صلى الله عليه وسلم- وإكرامه له وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه فى الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد. وأقسم تعالى بايتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته ووحدانيته، وحكمته ورحمته، وهما الليل والنهار، وفسر بعضهم- كما حكاه الإمام فخر الدين- الضحى بوجهه- صلى الله عليه وسلم- والليل بشعره، قال: ولا استبعاد فيه. وتأمل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذى يوافى بعد ظلام

_ (1) سورة القلم: 5، 6. (2) سورة الضحى: 1- 3.

الليل، للمقسم عليه وهو نور الوحى الذى وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدا ربّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحى ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه. وأيضا فإن الذى اقتضت رحمته أن لا يترك عباده فى ظلمة الليل سرمدا بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم لا يتركهم فى ظلمة الجهل والغى بل يهداهم بنور الوحى والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط المقسم به بالمقسم عليه. وتأمل هذه الجزالة والرونق الذى على هذه الألفاظ، والجلالة التى على معانيها. ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيه أو قلاه، والتوديع: الترك، والقلى: البغض، أى: ما تركك منذ اعتنى بك، ولا أبغضك منذ أحبك، وحذف «الكاف» من «قلا» اكتفاء بكاف ودعك، ولأن رؤوس الآيات بالياء فأوجب اتفاق الفواصل حذفها. وهذا يعم كل أحواله، وإن كل حالة يرقيه إليها هى خير له مما قبلها، كما أن الدار الآخرة خير له مما قبلها، ثم وعده بما تقربه عينه وتفرح به نفسه، وينشرح له صدره، وهو أن يعطيه فيرضى. وهذا يعم ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر والظفر بأعدائه يوم بدر وفتح مكة، ودخول الناس فى الدين أفواجا، والغلبة على بنى قريظة والنضير، وبث عساكره وسراياه فى بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين فى أقطار الأرض من المدائن، وقذف فى قلوب أعدائه من الرعب، ونشر الدعوة، ورفع ذكره وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه فى موقف القيامة من الشفاعة والمقام المحمود، وما يعطيه فى الجنة من الوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر. وقال ابن عباس: يعطيه ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابها المسك وفيها ما يليق بها. وبالجملة: فقد دلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه- صلى الله عليه وسلم- كل ما يرضيه. وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى واحد من أمته فى النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- يرضى بما يرضى به ربه تبارك

الفصل الثالث فى قسمه تعالى على تصديقه ص فيما أتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى فى خطابه

وتعالى، وهو سبحانه يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، ثم يحد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حدّا يشفع فيهم- كما سيأتى فى المقصد الأخير- إن شاء الله تعالى- ورسوله- صلى الله عليه وسلم- أعرف به وبحقه من أن يقول: لا أرضى أن تدخل أحدا من أمتى النار أو تدعه فيها، بل ربه تبارك وتعالى يأذن له فيشفع فيمن شاء الله أن يشفع فيه، ولا يشفع فى غير من أذن له ورضيه. ثم ذكره سبحانه نعمه عليه من إيوائه بعد يتمه، فقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى «1» وذهب بعضهم إلى أن معنى اليتيم من قولهم: درة يتيمة، أى: ألم يجدك واحدا فى قريش عديم النظير فاواك إليه وأغناك بعد الفقر. ثم أمره سبحانه أن يقابل هذه النعم الثلاث بما يليق بها من الشكر فنهاه أن يقهر اليتيم، وأن ينهر السائل، وأن يكتم النعمة، بل يحدث بها، فإن من شكر النعمة الحديث بها. وقيل المراد بالنعمة النبوة، والتحدث بها: تبليغها. الفصل الثالث فى قسمه تعالى على تصديقه ص فيما أتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى فى خطابه قال الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «2» . أقسم تعالى بالنجم على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغى. واختلف المفسرون فى المراد بالنجم بأقاويل معروفة. منها: «النجم» على ظاهره، وتكون «أل» لتعريف العهد فى قول، ولتعريف الجنس فى آخر، وهى النجوم التى يهتدى بها. فقيل: الثريا إذا سقطت وغابت، وهو مروى عن ابن عباس فى رواية على بن أبى طلحة وعطية. والعرب إذا أطلقت النجم تريد به الثريا. وعن ابن عباس فى رواية

_ (1) سورة الضحى: 6. (2) سورة النجم: 1- 3.

عكرمة: النجوم التى ترمى بها الشياطين إذا سقطت فى آثارها عند استراق السمع، وهذا قول الحسن، وعن السدى الزهرى، وعن الحسن أيضا النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقيل المراد به النبت الذى لا ساق له، و «هوى» أى سقط على الأرض. وقيل: القرآن، رواه الكلبى عن ابن عباس، لأنه نزل نجوما على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو قول مجاهد ومقاتل والضحاك. وقال جعفر بن محمد بن على ابن الحسين: هو محمد- صلى الله عليه وسلم- «إذا هوى» أى نزل من السماء ليلة المعراج. وأظهر الأقوال- كما قاله ابن القيم- أنها النجوم التى ترمى بها الشياطين، ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التى نصبها الله تعالى آية وحفظا للوحى من استراق الشياطين. على أن ما أتى به رسوله حق وصدق لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه، بل قد حرس بالنجم إذا هوى رصدا بين يدى الوحى، وحرسا له، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه فى غاية الظهور. وفى المقسم به دليل على المقسم عليه. وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله: بالنجم إذا هوى، ولا تسمية نزوله هويا، ولا عهد فى القرآن بذلك، فيحمل هذا اللفظ عليه. وليس بالبين تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت. وليس بالبين أيضا القسم بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة. بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه باياته، فلا يجعله نفسه دليلا لعدم ظهوره للمخاطبين ولا سيما منكرو البعث، فإنه سبحانه إنما يستدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه، ثم إن بين المقسم به والمقسم عليه من المناسبة ما لا يخفى. فإن قلنا إن المراد النجوم التى هى للاهتداء فالمناسبة ظاهرة، وإن قلنا إن المراد الثريا فلأنه أظهر النجوم عند الرائى، لأنه لا يشتبه بغيره فى السماء، بل هو ظاهر لكل أحد، والنبى- صلى الله عليه وسلم- تميز عن الكل بما منح من الآيات البينات، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت من المغرب قرب أواخر الخريف فتقل الأمراض، والنبى- صلى الله عليه وسلم- لما ظهر قل الشرك، والأمراض القلبية.

وإن قلنا إن المراد بها القرآن فهو استدلال بمعجزته- صلى الله عليه وسلم- على صدقه وبراءته، وأنه ما ضل ولا غوى، وإن قلنا إن المراد النبات، فالنبات به نبات القوى الجسمانية وصلاحها، والقوى العقلية أولى بالصلاح، وذلك بالرسل وإيضاح السبل. وتأمل كيف قال تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ «1» ولم يقل: ما ضل محمد، تأكيدا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غى ولا ضلال، ولا ينقمون عليه أمرا واحدا قط، وقد نبه تعالى على هذا المعنى بقوله عز وجل: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ «2» . ثم نزه نطق رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يصدر عن هوى فقال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «3» ولم يقل: وما ينطق بالهوى، لأن نفى نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به، فيتضمن هو الأمرين: نفى الهوى عن مصدر النطق، ونفيه عن النطق نفسه، فنطقه بالحق ومصدره الهدى والرشاد، لا الغى والضلال. ثم قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «4» فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أى: ما نطقه إلا وحى يوحى، وهذا أحسن من جعل الضمير عائدا إلى القرآن، فإن نطقه بالقرآن والسنة، وإن كليهما وحى، قال الله تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ «5» وهما القرآن والسنة. وذكر الأوزاعى عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن يعلمه إياها. ثم أخبر تعالى فى وصف من علمه الوحى والقرآن بما يعلم أنه مضاد لأوصاف الشيطان معلم الضلال والغواية فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «6»

_ (1) سورة النجم: 2. (2) سورة المؤمنون: 69. (3) سورة النجم: 3، 4. (4) سورة النجم: 4. (5) سورة النساء: 113. (6) سورة النجم: 5.

وهو جبريل، أى قواه العلمية والعملية كلها شديدة، ولا شك أن مدح المعلم مدح للمتعلم. فلو قال: علمه جبريل ولم يصفه لم يحصل للنبى- صلى الله عليه وسلم- به فضيلة ظاهرة. وهذا نظير قوله تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «1» كما سيأتى البحث فيه- إن شاء الله تعالى-. ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه. وأن القلب صدق العين، وليس كمن رأى شيئا على خلاف ما هو به، فكذب فؤاده بصره، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك. وفى حديث قصة الإسراء مزيد لما ذكرته هنا، والله الموفق والمعين. وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ إلى قوله: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ «2» . أى: لا أقسم إذا الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم. أو: أقسم، و «لا» مزيدة للتأكيد، وهذا قول أكثر المفسرين بدليل قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «3» . قال الزمخشرى: والوجه أن يقال هى للنفى، أى أنه لا يقسم بالشىء إلا إعظاما له، فكأنه بإدخال حرف النفى يقول: إن إعظامى بإقسامى كلا إعظام، يعنى أنه يستأهل فوق ذلك. أقسم سبحانه وتعالى بالنجوم فى أحوالها الثلاثة: فى طلوعها وجريانها وغروبها، وبانصرام الليل وإقبال النهار عقيبه من غيره فصل، فذكر سبحانه وتعالى حالة ضعف هذا وإدباره، وحالة قوة هذا وتنفسه وإقباله، يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس هرب الليل وأدبر بين يديه، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته أن القرآن قول رسول كريم، وهو هنا جبريل، لأنه ذكر صفته قطعا بعد ذلك بما يعينه به. وأما رَسُولٍ كَرِيمٍ فى «الحاقة» 40 فهو محمد- صلى الله عليه وسلم-. فأضافه

_ (1) سورة التكوير: 20. (2) سورة التكوير: 15- 25. (3) سورة الواقعة: 76.

إلى الرسول الملكى تارة، وإلى البشرى أخرى، وإضافته إليهما إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء من عندهما، ولفظ «الرسول» يدل على ذلك، فإن الرسول هو الذى يبلغ كلام من أرسله، فهذا صريح فى أنه كلام من أرسل جبريل ومحمدا- صلى الله عليه وسلم-، فجبريل تلقاه عن الله، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- تلقاه عن جبريل. وقد وصف الله تعالى رسوله الملكى فى هذه السورة بأنه كريم يعطى أفضل العطايا، وهى العلم والمعرفة والهداية والبر والإرشاد، وهذا غاية الكرم. «ذو قوة» كما قال فى النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «1» فيمنع بقوته الشياطين أن يدنوا منه وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، وروى أنه رفع قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحه حتى سمع أهل السماء نباح كلابها وأصوات بنيها. عند ذى العرش مكين، أى متمكن المنزلة، وهذه العندية عندية الإكرام والتشريف والتعظيم. مطاع ثم، فى ملائكة الله المقربين، يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، أمين على وحى الله ورسالته، فقد عصمه الله من الخيانة والزلل. فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن، وأنه سماع محمد- صلى الله عليه وسلم- من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علوّا وجلالة، فقد تولى الله تزكيته بنفسه، ثم نزه رسوله البشرى وزكاه مما يقول فيه أعداؤه، فقال: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «2» وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كاذبون. ثم أخبر عن رؤيته- صلى الله عليه وسلم- لجبريل- عليه السّلام-، وهذا يتضمن أنه ملك موجود فى الخارج يرى بالعيان ويدرك بالبصر، خلافا لقوم؛ فحقيقته عندهم أنه خيال موجود فى الأذهان لا فى العيان، وهذا مما خالفوا فيه جميع الرسل وأتباعهم، وخرجوا به عن جميع الملل، ولهذا كان تقرير رؤية النبى- صلى الله عليه وسلم- لجبريل أهم من تقرير رؤيته لربه تبارك وتعالى، فإن رؤيته- صلى الله عليه وسلم- لجبريل هى

_ (1) سورة النجم: 5. (2) سورة التكوير: 22.

أصل الإيمان الذى لا يتم إلا باعتقادها، ومن أنكرها كفر قطعا، وأما رؤيته لربه تعالى فغايتها أن تكون مسألة نزاع لا يكفر جاحدها بالاتفاق. وقد صرح جماعة من الصحابة بأنه لم يره، فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب سبحانه أعظم من رؤية جبريل، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة. ثم نزه تعالى رسوليه كليهما- صلى الله عليهما وسلم-، أحدهما بطريق النطق، والثانى بطريق اللزوم عما يضاد مقصود الرسالة من الكتمان الذى هو الضنة والبخل والتبديل والتغيير الذى يوجب التهمة، فقال: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ «1» فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين: أدائها من غير كتمان وأدائها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان. والقراءتان كالآيتين، تضمنت إحداهما- وهى قراءة الضاد- تنزيهه عن البخل، فإن الضنين: البخيل، يقال: ضننت به أضن، بوزن: بخلت أبخل ومعناه، وقال ابن عباس: ليس ببخيل بما أنزل الله، وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم. وأجمع المفسرون على أن الغيب هاهنا: القرآن والوحى. قال الفراء: يقول الله تعالى: يأتيه غيب من السماء وهو منفوس فيه، فلا يضنن به عليكم. وهذا معنى حسن جدّا، فإن عادة النفوس الشح بالشىء النفيس، ولا سيما عمن لا يعرف قدره، ومع هذا فالرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يبخل عليكم بالوحى الذى هو أنفس شىء وأجله. وقال أبو على الفارسى: المعنى يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به ويظهره ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتى يأخذ عليه حلوانا. وأما قراءة من قرأ (بظنين) بالظاء فمعناه: المتهم، يقال: ظننت زيدا بمعنى اتهمته وليس هو من الظن الذى هو الشعور والإدراك، فإن ذلك يتعدى إلى مفعولين، والمعنى: وما هذا الرسول على القرآن بمتهم، بل هو أمين فيه لا يزيد فيه ولا ينقص منه. وهذا يدل على أن الضمير فيه يرجع إلى محمد

_ (1) سورة التكوير: 24.

- صلى الله عليه وسلم-، لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكى بالأمانة ثم قال وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ «1» ثم قال: وما هو: أى وما صاحبكم بمتهم وبخيل فنفى سبحانه عن رسوله- صلى الله عليه وسلم- ذلك كله، وزكى سند القرآن أعظم تزكية. والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ «2» الآية. أقسم تعالى بالأشياء كلها، ما يبصرون منها وما لا يبصرون، وهذا أعمّ قسم وقع فى القرآن، فإنه يعم العلويات والسفليات، والدنيا والآخرة، وما يرى وما لا يرى ويدخل فى ذلك الملائكة كلهم والجن والإنس والعرش والكرسى وكل مخلوق، وذلك من آيات قدرته وربوبيته، ففى ضمن هذا القسم أن كل ما يرى وما لا يرى آية ودليل على صدق رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى وهو كلامه تعالى، لا كلام شاعر ولا مجنون، ولا كاهن، وأنه حق ثابت كما أن سائر الموجودات ما يرى منها وما لا يرى حق، كما قال تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ «3» فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إن القرآن حق كما أن ما تشاهدونه من الخلق وما لا تشاهدونه حق موجود، ويكفى الإنسان من جميع ما يبصره «نفسه» ومبدأ خلقه ونشأته وما يشاهد من أحواله ظاهرا وباطنا، ففى ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب سبحانه وثبوت صفاته وصدق ما أخبر به رسوله- صلى الله عليه وسلم-، ومن لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لم يخالط بشاشة الإيمان قلبه. ثم أقام سبحانه البرهان القاطع على صدق رسوله، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله، وأنه لو تقول عليه وافترى لما أقره ولعاجله بالإهلاك، فإن كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يقر من تقول عليه وافترى عليه، وأضل عباده

_ (1) سورة التكوير: 22. (2) سورة الحاقة: 38- 40. (3) سورة الذاريات: 23.

واستباح دماء من كذبه وحريمهم وأموالهم، فكيف يليق بأحكم الحاكمين وأقدر القادرين أن يقر على ذلك، بل كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره ويظفره بهم، فيسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم وبلادهم ونساءهم قائلا إن الله أمرنى بذلك، وأباحه لى؟ بل كيف يليق به أن يصدق بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره، وبالآيات المستلزمة لصدقه، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية على انفرادها مصدقة له، ثم يقيم الدلائل القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله، فمن أعظم المحال وأبطل الباطل، وأبين البهتان أن يجوز على أحكم الحاكمين أن يفعل ذلك. والمراد بالرسول الكريم هنا محمد- صلى الله عليه وسلم- كما قدمته- لأنه لما قال: إنه لقول رسول كريم ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن، والمشركون ما كانوا يصفون جبريل- عليه السّلام- بالشعر والكهانة. ومن ذلك قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «1» . قيل المراد ب «الكتاب المكنون» اللوح المحفوظ. قال ابن القيم: والصحيح أنه الكتاب الذى بأيدى الملائكة، وهو المذكور فى قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ «2» قال مالك: أحسن ما سمعت فى هذه أنها مثل الذى فى «عبس» ، قال: ومن المفسرين من قال: إن المراد أن المصحف لا يمسه إلا طاهر، والأول أرجح لأن الآية سيقت تنزيها للقرآن أن تتنزل به الشياطين، أن محله لا تصل إليه، كما قال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ «3» وأيضا:

_ (1) سورة الواقعة: 75- 79. (2) سورة عبس: 13- 16. (3) سورة الشعراء: 210، 211.

فإن قوله لا يَمَسُّهُ «1» بالرفع، فهذا خبر لفظا ومعنى، ولو كان نهيا لكان مفتوحا. ومن حمل الآية على النهى احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهى، والأصل فى الخبر والنهى حمل كل منهما على حقيقته، وليس هاهنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهى، انتهى ملخصا. وهذا الذى قاله ابن القيم قد تمسك به جماعة منهم داود، بأنه يجوز مس المصحف للمحدث. وقد أجاب ابن الرفعة فى «الكفاية» عن أدلتهم المزخرفة فقال ما نصه: القرآن لا يصح مسه، فعلم أن المراد به الكتاب الذى هو أقرب المذكورين، ولا يتوجه النهى إلى اللوح المحفوظ لأنه غير منزل، ومسه غير ممكن، ولا يمكن أن يكون المراد بالمطهرين الملائكة،. لأنه قد نفى وأثبت فكأنه قال: يمسه المطهرون ولا يمسه غير المطهرين، والسماء ليس فيها غير مطهر بالإجماع، فعلم أن المراد: المطهرين من الآدميين، ويبين ذلك ما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى كتاب عمرو بن حزم المروى فى الدار قطنى وغيره: «ولا تمس القرآن إلا وأنت على طهر» «2» ثم قال، فإن قيل: قد قال الواحدى أن أكثر أهل التفسير على أن المراد اللوح المحفوظ، وأن المطهرين الملائكة، ثم لو صح ما قلتم لم يكن فيها دليل لأن قوله لا يَمَسُّهُ «3» بضم السين، ليس ينهى عن المراد ولو كان نهيا لكان بفتح السين، فهو إذا خبر. قلنا: أما قول «أكثر المفسرين» فهو معارض بقول الباقين، والمرجع إلى الدليل، وأما كون المراد بالآية الخبر، فجوابه: أنا نقول: اللفظ لفظ الخبر ومعناه النهى، وهو كثير فى القرآن، قال الله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها «4» ، وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ «5» . انتهى.

_ (1) سورة الواقعة: 79. (2) صحيح: أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 177) مرسلا: ووصله الدار قطنى فى «سننه» (1/ 122) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى، انظر «الإرواء» (1/ 160- 161) . (3) سورة الواقعة: 79. (4) سورة البقرة: 233. (5) سورة البقرة: 228.

الفصل الرابع: فى قسمه تعالى على تحقيق رسالته

وأجاب العلامة البساطى فى شرحه لمختصر الشيخ خليل: بأن (يمسه) مجزوم، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح به جماعة، وقالوا: إنه مذهب البصريين، ومنهم ابن الحاجب فى «شافيته» انتهى. وقد ذكر هذا العلامة شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود الحلبى الشافعى، المشهور ب «السمين» ، مع زيادة إيضاح وفوائد فقال فى «لا» هذه وجهان، الثانى: أنها ناهية، والفعل بعدها مجزوم، لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «1» ولكنه أدغم، ولما أدغم حرك آخره بالضمة لأجل «هاء» ضمير المذكور الغائب، ولم يحفظ سيبويه فى نحو هذا إلا الضم. وفى الحديث «إنا لم نردّه عليك إلا أنا حرم» «2» وإن كان القياس جواز فتحه تخفيفا. قال: وبهذا الذى ذكرته يظهر فساد رد من رد بأنه لو كان نهيا لكان يقال: (لا يمسّه) بالفتح، لأنه خفى عليه جواز ضم ما قبل الهاء فى هذا النحو، لا سيما على رأى سيبويه فإنه لا يجيز غيره. الفصل الرابع: فى قسمه تعالى على تحقيق رسالته قال الله سبحانه وتعالى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «3» الآية. اعلم أن كل سورة بدأ الله تعالى فيها بحروف التهجى كان فى أوائلها الذكر أو الكتاب أو القرآن إلا «نون» . ثم إن فى ذكر هذه الحروف فى أوائل السور أمورا تدل على أنها غير خالية عن الحكمة، لكن علم الإنسان لا يصل إليها إلا إن كشف الله له سر ذلك. واختلف المفسرون فى معنى (يس) على أقوال:

_ (1) سورة آل عمران: 174. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1825) فى الحج، باب: إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيّا حيّا لم يقبل، ومسلم (1193) فى الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، من حديث الصعب بن جثامة- رضى الله عنه-. (3) سورة يس: 1- 3.

أحدها: أنه يا إنسان، بلغة طىء، وهذا قول ابن عباس والحسن وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل: بلغة الحبشة، وقيل: بلغة كلب، وحكى الكلبى أنها بالسريانية. قال الإمام فخر الدين: وتقريره هو أن تصغير إنسان: أنيسين، وكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال (يس) ، وعلى هذا فيكون الخطاب مع محمد- صلى الله عليه وسلم- ويدل عليه قوله تعالى إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «1» . وتعقبه أبو حيان: بأن الذى نقل عن العرب فى تصغير إنسان: أنيسيان- بياء بعدها ألف- فدل على أن أصله: إنسيان، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، لا يعلم أنهم قالوا فى تصغيره أنيسين، وعلى تقدير أنه يصغر كذلك فلا يجوز ذلك إلا أن يا بنى على الضم لأنه منادى مقبل عليه، ومع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير، ويمتنع ذلك فى حق النبوة. انتهى. قال السمين: وهذا الاعتراض الأخير صحيح، فقد نصوا على أن التصغير لا يدخل فى الأسماء المعظمة شرعا، ولذلك يحكى أن ابن قتيبة لما قال فى «المهيمن» إنه مصغر من «مؤمن» والأصل: مؤتمن، فأبدلت الهمزة هاء، قيل له: هذا يقرب من الكفر، فليتق الله قائله، انتهى. وقيل معنى (يس) يا محمد، قاله ابن الحنفية والضحاك. وقيل: يا رجل، قاله أبو العالية. وقيل: هو اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وعن أبى بكر الوراق: يا سيد البشر. وعن جعفر الصادق: أنه أراد يا سيد، مخاطبة النبى- صلى الله عليه وسلم- وفيه من تعظيمه وتمجيده ما لا يخفى، وعن طلحة عن ابن عباس: أنه قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه. وعن كعب: أقسم الله به قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفى عام: يا محمد إنك لمن المرسلين. ثم قال: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «2» وهو رد على الكفار حيث قالوا: لَسْتَ مُرْسَلًا «3» فأقسم الله تعالى باسمه وكتابه:

_ (1) سورة يس: 3. (2) سورة يس: 2، 3. (3) سورة الرعد: 43.

الفصل الخامس فى قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده

إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده وعلى طريق مستقيم من إيمانه، أى طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة فى كتابه إلا له- صلى الله عليه وسلم-. الفصل الخامس فى قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» . والعمر والعمر واحد، ولكنه فى القسم يفتح لكثرة الاستعمال، فإذا أقسموا قالوا: لعمرك القسم. قال النحويون: ارتفع قوله (لعمرك) بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى: قسمى، فحذف الخبر لأن فى الكلام دليلا عليه، وباب القسم يحذف منه الفعل نحو: تالله لأفعلن، والمعنى: أحلف بالله، فتحذف «أحلف» لعلم المخاطب بأنك حالف. قال الزجاجى: من قال: لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله، ومن ثم قال المالكية والحنفية: ينعقد بها اليمين، لأن بقاء الله من صفات ذاته. وعن مالك: لا يعجبنى الحلف بذلك. وقال الإمام الشافعى وإسحاق: لا يكون يمينا إلا بالنية، وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعى. واختلف فيمن المخاطب فى الآية على قولين: أحدهما: أن الملائكة قالت للوط- عليه السّلام- لما وعظ قومه وقال: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ «2» : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «3» ، أى يتحيرون فكيف يعقلون قولك، ويلتفتون إلى نصيحتك؟! والثانى: أن الخطاب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأنه تعالى أقسم بحياته،

_ (1) سورة الحجر: 72. (2) سورة الحجر: 71. (3) سورة الحجر: 72.

وفى هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض. قال ابن عباس: ما خلق الله، وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد- صلى الله عليه وسلم-، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» يقول: وحياتك وعمرك وبقائك فى الدنيا إنهم لفى سكرتهم يعمهون. رواه ابن جرير. ومراده بقوله: «وما سمعت الله» ؛ سمعت كلامه المتلو فى الكتب المنزلة. ورواه البغوى فى تفسيره بلفظ: وما أقسم الله بحياة أحد إلا بحياته، وما أقسم بحياة أحد غيره، وذلك يدل على أنه أكرم خلق الله على الله، وعلى هذا فيكون قسمه تعالى بحياة محمد- صلى الله عليه وسلم- كلاما معترضا فى قصة لوط. قال القرطبى: وإذا أقسم الله تعالى بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا: أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وقد قال الإمام أحمد فيمن أقسم بالنبى- صلى الله عليه وسلم- ينعقد به يمينه وتجب الكفارة بالحنث، واحتج بكونه- صلى الله عليه وسلم- أحد ركنى الشهادة. وقال ابن خويز منداد: واستدل من جوز الحلف به- صلى الله عليه وسلم- بأن أيمان المسلمين جرت من عهده- صلى الله عليه وسلم- أن يحلفوا به- صلى الله عليه وسلم- حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا خاصم أحدهم صاحبه قال له: احلف لى بحق ما حواه صاحب القبر، أو بحق صاحب هذا القبر، أو بحق ساكن هذا القبر، يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم- «2» .

_ (1) سورة الحجر: 72. (2) قلت: وقد ذكر القرطبى أيضا فى موضع آخر عند تفسيره لسورة المائدة، آية: (89) ، فى معرض رده على من يجوز الحلف بغير الله فقال: وهذا يرده ما ثبت فى الصحيحين وغيرهما عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه أدرك عمر بن الخطاب فى ركب، وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بابائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وهذا حسر فى عدم الحلف بكل شىء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا، وبما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائى وغيرهما عن أبى هريرة- رضى الله عنه-، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تحلفوا بابائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله إلا وأنتم صادقون» . اه. قلت: ولا يوجد تخصيص لهذا النهى، إلا ما-

وقال الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «1» الآية. أقسم تعالى بالبلد الأمين، وهى مكة أم القرى بلده- صلى الله عليه وسلم-، وقيده بحلوله- صلى الله عليه وسلم- فيه إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. قاله البيضاوى. ثم أقسم بالوالد وما ولد، وهو فيما قيل: إبراهيم وإسماعيل، وما ولد: محمد- صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا فتتضمن السورة القسم به فى موضعين، وقيل المراد به آدم وذريته، وهو قول الجمهور من المفسرين. وإنما أقسم تعالى بهم لأنهم أعجب خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنظر واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وكل ما فى الأرض من مخلوق خلق لأجلهم، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة، ومرجع العباد إلى آدم. وقوله: وَأَنْتَ حِلٌّ «2» هو من: الحلول، ضد الظعن، فيتضمن إقسامه تعالى ببلده المشتمل على عبده ورسوله، فهو خير البقاع واشتمل على خير العباد فقد جعل الله بيته هدى للناس، ونبيه إماما وهاديا لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه. وقيل: المعنى أنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذى يأمن فيه الطير والوحش، وقد استحل فيه قومك حرمتك. وهذا مروى عن شرحبيل بن سعد. وعن قتادة: وَأَنْتَ حِلٌّ «3» أى لست باثم، وحلال لك أن تقتل بمكة

_ - ورد فى كتاب الله عز وجل أنه قسم ببعض آياته، ولو علمنا بهذه القاعدة، لجوزنا الحلف بهذه الآيات كما يجوز الحلف بذات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إلا أنا نقول ما قاله العلماء من قبلنا أن لها تأويلان: إحداهما: أن هناك محذوف مقدر، تقديره رب ثم ذكر الشىء المحلف به مثل رب الشمس، رب الضحى، رب حياتك، أو أن هذا القسم خاص بالله عز وجل فقط، حيث يجوز له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، والله أعلم. (1) سورة البلد: 1، 2. (2) سورة البلد: 2. (3) سورة البلد: 2.

من شئت. وذلك أن الله تعالى يفتح عليه مكة وأهلها، وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، فقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وغيره، وحرم دار أبى سفيان. فإن قلت: هذه السورة مكية، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «1» إخبار عن الحال، والواقعة التى ذكرت فى آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟ أجيب: بأنه قد يكون اللفظ للحال، والمعنى مستقبل، كقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» . وعلى كل حال فهذا متضمن للقسم ببلد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولا يخفى ما فيه من زيادة التعظيم، وقد روى أن عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن أقسم بحياتك دون سائر الأنبياء، ولقد بلغ من فضيلتك عنده أن أقسم بتراب قدميك فقال: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ «3» . وقال تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «4» . اختلف فى تفسير العصر على أقوال. فقيل: هو الدهر، لأنه مشتمل على الأعاجيب، لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم وغير ذلك. وقيل: ذكر العصر الذى بمضيه ينقضى عمرك، فإذا لم يكنى فى مقابلته كسب صار ذلك عين الخسران، ولله در القائل: إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى نقص من الأجل وفى تفسير الإمام فخر الدين والبيضاوى وغيرهما: أنه أقسم بزمان الرسول- صلى الله عليه وسلم-. قال الإمام الرازى: واحتجوا له بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما مثلكم

_ (1) سورة البلد: 2. (2) سورة الزمر: 30. (3) سورة البلد: 1. (4) سورة العصر: 1، 2.

النوع السادس فى وصفه تعالى له ص بالنور والسراج المنير

ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لى من الفجر إلى الظهر بقيراط، فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لى من الظهر إلى العصر بقيراط، فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لى من العصر إلى المغرب بقيراطين فعملتم، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا، فقال الله تعالى: وهل نقصت من أجركم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلى أوتيه من أشاء، فكنتم أقل عملا وأكثر أجرا» «1» رواه البخارى. قالوا: فهذا الحديث دل على أن العصر هو عصره- صلى الله عليه وسلم- الذى هو فيه، فيكون على هذا أقسم تعالى بزمانه فى هذه الآية، وبمكانه فى قوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «2» ، وبعمره فى قوله لَعَمْرُكَ «3» ، فكأنه قال: وعصرك وبلدك وعمرك، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب تعظيم الظرف فكيف حال المظروف، قال: ووجه القسم كأنه تعالى قال: ما أعظم خسرانهم إذا أعرضوا عنك. انتهى. النوع السادس فى وصفه تعالى له ص بالنور والسراج المنير اعلم أن الله تعالى قد وصف رسوله- صلى الله عليه وسلم- ب «النور» فى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ «4» ، وقيل المراد: القرآن. ووصفه- صلى الله عليه وسلم- أيضا ب «السراج المنير» فى قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً «5» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2268) فى الإجارة، باب: الإجارة إلى نصف النهار، وأطرافه (2269 و 3459 و 5021 و 7467 و 7533) ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) سورة البلد: 2. (3) سورة الحجر: 72. (4) سورة المائدة: 15. (5) سورة الأحزاب: 45، 46.

والمراد: كونه هاديا مبينا كالسراج الذى يرى الطريق ويبين الهدى والرشاد، فبيانه أقوى وأتم وأنفع من نور الشمس، وإذا كان كذلك وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم فى النورانية من الشمس، فكما أن الشمس فى عالم الأجسام تفيد النور لغيرها ولا تستفيد من غيرها فكذا نفس النبى- صلى الله عليه وسلم- تفيد الأنوار العقلية لسائر الأنفس البشرية، ولذلك وصف الله الشمس بأنها سراج حيث قال: وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً «1» . وكما وصف الله رسوله بأنه نور، وصف نفسه المقدسة بذلك فقال: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» ، فليس فيهما نور إلا الله، ونوره القدسى هو سر الوجود والحياة والجمال والكمال، وهو الذى أشرق على العالم فأشرق على العوالم الروحانية، وهم الملائكة، فصارت سرجا منيره، يستمد منها من هو دونها بجود الله تعالى، ثم سرى النور إلى عالم النفوس الإنسانية، ثم طرحته النفوس على صفحات الجسوم، فليس فى الوجود إلا نور الله السارى إلى الشىء منه بقدر قبوله ووسع استعداده ورحب تلقيه. والنور فى الأصل: كيفية يدركها الباصر أولا، وبواسطتها سائر المبصرات، كالكيفية الفائضة من النيرين- الشمس والقمر- على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف، كقولك: زيد كرم، بمعنى: ذو كرم، أو معنى منور السماوات والأرض، فإنه تعالى نورهما بالكواكب، وما يفيض عنها من الأنوار، وبالملائكة والأنبياء من قولهم للرئيس الفائق فى التدبير: نور القوم، لأنهم يهتدون به فى الأمور، ويؤيد هذا القول قراءة على بن أبى طالب وزيد بن

_ (1) سورة الفرقان: 61. (2) سورة النور: 35.

على وغيرهما (نوّر) فعلا ماضيا، و (الأرض) بالنصب. وقوله: (مثل نوره) أى: مثل هداه سبحانه وتعالى. وأضاف النور إلى السماوات والأرض إما دلالة على سعة إشراقه، وفشو إضاءته حتى تضىء له السماوات والأرض، وإما لإرادة أهل السماء والأرض، وأنهم يستضيئون به. وعن مقاتل: أى مثل الإيمان فى قلب محمد كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صدر عبد الله، والزجاجة نظير جسد محمد- صلى الله عليه وسلم-، المصباح نظير الإيمان والنبوة فى قلب محمد- صلى الله عليه وسلم-. وعن غيره: المشكاة نظير إبراهيم، والزجاجة نظير إسماعيل- عليهما السلام-، والمصباح جسد محمد- صلى الله عليه وسلم-، والشجرة: النبوة والرسالة. وعن أبى سعيد الخراز «1» : المشكاة: جوف محمد- صلى الله عليه وسلم-، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذى جعله الله فى قلب محمد- صلى الله عليه وسلم-. وعن كعب وابن جبير: النور الثانى هنا محمد- صلى الله عليه وسلم-. وعن سهل بن عبد الله: مثل نور محمد إذ كان مستودعا فى الأصلاب كمشكاة صفتها كذا وكذا، وأراد بالمصباح قلبه وبالزجاجة صدره، أى كأنه كوكب درى لما فيه من الإيمان والحكمة. توقد من شجرة مباركة، أى من نور إبراهيم، وضرب المثل بالشجرة المباركة. وقوله: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ «2» أى تكاد نبوة محمد تبين للناس قبل كلامه، حكى هذا القول الأخير القاضى أبو الفضل اليحصبى والفخر الرازى، لكنه عن كعب الأحبار.

_ (1) هو: أحمد بن عيسى الخراز، أبو سعيد، أحد مشايخ الصوفية، توفى سنة (286 هـ، وقيل 277 هـ) . (2) سورة النور: 35.

وعن الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحى. قال عبد الله ابن رواحة: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر لكن التفسير الأول فى هذه الآية هو المختار، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ «1» فإذا كان المراد بقوله (مثل نوره) أى مثل هداه كان ذلك مطابقا لما قبله. واختلفوا فى هذا التشبيه. أو هو مشبه جملة بجملة، لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء، ومقابلة شىء بشىء، أو مما قصد منه ذلك؟ أى: مثل نور الله، الذى هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق، وبراهينه الساطعة، على الجملة كهذه الجملة من النور الذى تتخذونه أنتم على هذه الصفة التى هى أبلغ صفات النور الذى بين يدى الناس، أى: مثل نور الله فى الوضوح كهذا الذى هو منتهاكم أيها البشر. وقيل: هو من التشبيه المفصل، المقابل جزء بجزء، قد رده على تلك الأقوال الثلاثة. أى: مثل نوره فى محمد- صلى الله عليه وسلم-، أو فى المؤمنين، أو فى القرآن والإيمان كمشكاة، فالمشكاة هو الرسول أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة الوحى، والملائكة رسل الله إليه، وشبه الفضل به بالزيت وهو الحجج والبراهين، والآيات التى تضمنها الوحى. وعلى قول: «المؤمنين» ، فالمشكاة صدره، والمصباح الإيمان والعلم، والزجاجة قلبه، والشجرة القرآن، وزيتها هو الحجج والحكمة التى تضمنتها.

_ (1) سورة النور: 34.

النوع السابع فى آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته

وعلى قول: «الإيمان والقرآن» ، أى مثل الإيمان والقرآن فى صدر المؤمنين وفى قلبه كمشكاة. وأما الضمير على قول المؤمنين فى قراءة أبى المذكورة فى بعض التفاسير، ففيه إشكال من حيث الإفراد، وعن أبى: هو عائد على المؤمنين، وفى قراءته: مثل نور المؤمنين، وفى رواية عنه: مثل نور من آمن به. وعن الحسن: يعود على القرآن والإيمان. النوع السابع فى آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «2» . وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ «3» . قال القاضى عياض: فجعل طاعته طاعة رسوله، وقرن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب. وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «4» . يعنى: من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو فى الحقيقة ما أطاع إلا الله، وذلك فى الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله. وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «5» فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق فإن أحدا من الخلق لا يقدر على إرشاده. وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم فى جميع الأوامر والنواهى، وفى كل ما يبلغه عن الله، لأنه لو أخطأ

_ (1) سورة الأنفال: 20. (2) سورة آل عمران: 132. (3) سورة آل عمران: 32. (4) سورة النساء: 80. (5) سورة النساء: 80.

فى شىء منها لم تكن طاعته طاعة الله تعالى، وأيضا وجب أن يكون معصوما فى جميع أفعاله، لأنه تعالى أمر بمتابعته فى قوله: وَاتَّبِعُوهُ» ، والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، فثبت أن الانقياد له فى جميع أقواله وأفعاله إلا ما خصه الدليل طاعة له، وانقياد لحكم الله تعالى. وقال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ «2» الآية. وهذا عام فى المطيعين لله من أصحاب الرسول ومن بعدهم، وعام فى المعية فى هذه الدار، وإن فاتت فيها معية الأبدان. وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية أن ثوبان، مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان شديد الحب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه، وعرف الحزن فى وجهه، فسأله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن حاله فقال: يا رسول الله، ما بى وجع، غير أنى إذا لم أرك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة بحيث لا أراك هناك، لأنى إذا دخلت الجنة فأنت تكون فى درجات النبيين، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية. وذكر ابن أبى حاتم عن أبى الضحى عن مسروق، قال أصحاب محمد: يا رسول الله ما ينبغى لنا أن نفارقك، فإنك لو قد متّ لرفعت فوقنا ولم نرك، فأنزل الله الآية. وذكر عن عكرمة مرسلا، قال: أتى فتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن لنا منك نظرة فى الدنيا ويوم القيامة لا نراك لأنك فى الجنة فى الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنت معى فى الجنة» . وذكر فيها أيضا روايات أخر ستأتى- إن شاء الله تعالى- فى مقصد محبته- صلى الله عليه وسلم-. لكن قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات، إلا أن سبب نزول

_ (1) سورة الأعراف: 158. (2) سورة النساء: 69.

هذه الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك، وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فإنا نعلم أن خصوص السبب لا يقدح فى عموم اللفظ، فهذه الآية عامة فى حق جميع المكلفين، وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عنده تعالى. ثم إن ظاهر قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ «1» أنه يكفى الاكتفاء بالطاعة الواحدة، لأن اللفظ الدال على الصفة يكفى فى جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة، لكن لابد أن يحمل على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة. قال الرازى: قد ثبت فى أصول الفقه أن الحكم المذكور عقب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ «2» أى فى كونه إلها، وطاعة الله فى كونه إلها هى معرفته والإقرار بجلالته وعزته وكبريائه وصمديته، فصارت هذه تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد: فالأول: أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراف الروح بأنوار معرفة الله، فكل من كانت هذه الأنوار فى قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى كان إلى السعادة أقرب، وإلى الفوز بالنجاة أوصل. والثانى: أن الله تعالى ذكر فى الآية السابقة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل، ثم ذكر فى هذه الآية وعدهم بكونهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل فى درجة واحدة، لأن هذا يقتضى التسوية فى الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فالمراد كونهم فى

_ (1) سورة النساء: 69. (2) سورة النساء: 69.

الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقى قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية، وقد ثبت وصح عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «المرء مع من أحب» «1» ، وثبت عنه أيضا أنه قال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا نزلتم منزلا إلا وهم معكم حبسهم العذر» «2» ، فالمعية والصحبة الحقيقية إنما هى بالسر والروح لا بمجرد البدن، فهى بالقلب لا بالقالب، ولهذا كان النجاشى معه- صلى الله عليه وسلم- ومن أقرب الناس إليه، وهو بين النصارى بأرض الحبشة، وعبد الله بن أبى من أبعد الخلق عنه، وهو معه فى المسجد، وذلك أن العبد إذا أراد بقلبه أمرا من طاعة أو معصية أو شخص من الأشخاص فهو بإرادته ومحبته معه لا يفارقه، فالأرواح تكون مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه- رضى الله عنهم-، وبينها وبينهم من المسافة الزمانية والمكانية بعد عظيم. وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «3» . وهذه الآية الشريفة تسمى: آية المحبة، قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي «4» وقال تعالى: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «5» إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم، فما لم تحصل المتابعة فلا محبة لكم حاصلة، ومحبته لكم منتفية، فجعل سبحانه اتباع رسوله- صلى الله عليه وسلم- مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود تحقق شرطه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6168 و 6169) فى الأدب، باب: علامة الحب فى الله عز وجل، ومسلم (2640) فى البر والصلة، باب: المرء مع من أحب، من حديث عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4423) فى المغازى، باب: نزول النبى- صلى الله عليه وسلم- الحجر، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) سورة آل عمران: 31. (4) سورة آل عمران: 31. (5) سورة آل عمران: 31.

فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله- صلى الله عليه وسلم- فدل على أن متابعة الرسول هى حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفى ذلك فى العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يكون شىء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان شىء عنده أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذى لا يغفر لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «1» ، فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحد منهم على معاملة الله ورسوله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بما ليس هو عليه. انتهى ملخصا من كتاب «مدارج السالكين» ، وسيأتى مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد محبته- صلى الله عليه وسلم-. وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «2» . أى إلى الصراط المستقيم، فجعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، الإيمان بالرسول واتباعه، تنبيها على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو فى الضلالة، فكل ما أتى به الرسول- صلى الله عليه وسلم- يجب علينا اتباعه إلا ما خصه الدليل. وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا «3» يعنى القرآن،

_ (1) سورة التوبة: 24. (2) سورة الأعراف: 158. (3) سورة التغابن: 8.

فالإيمان به- صلى الله عليه وسلم- واجب متعين- على كل أحد. لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً «1» أى ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين، وإنا أعتدنا للكافرين سعيرا. وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «2» الآية. معناه: فوربك، كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «3» و «لا» مزيدة للتأكيد لمعنى القسم، كما فى لِئَلَّا يَعْلَمَ «4» ولا يؤمنون جواب. أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول فى جميع أموره، ويرضى بجميع ما حكم به، وينقاد له ظاهرا وباطنا، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفهم، كما ورد فى الحديث: «والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» «5» ، وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يكون مؤمنا، وعلى أنه لابد من حصول الرضا بحكمه فى القلب، وذلك بأن يحصل الجزم والتيقن فى القلب بأن الذى يحكم به- صلى الله عليه وسلم- هو الحق والصدق، فلابد من الانقياد باطنا وظاهرا، وسيأتى مزيد بيان لذلك- إن شاء الله تعالى- فى مقصد محبته- صلى الله عليه وسلم-. ثم إن ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس، لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه، وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره. وقوله: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ «6» مشعر بذلك، لأنه متى خطر بقلبه قياس يقتضى ضد مدلول النص فهناك يحصل الحرج فى

_ (1) سورة الفتح: 13. (2) سورة النساء: 65. (3) سورة الحجر: 92. (4) سورة الحديد: 29. (5) أخرجه الحكيم الترمذى وأبو نصر السجزى فى الإبانة وقال: حسن غريب، والخطيب عن ابن عمرو، كما فى «كنز العمال» (1084) . (6) سورة النساء: 65.

النوع الثامن فيما يتضمن الأدب معه ص

النفس، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ويسلم إلى النص تسليما كليّا، قاله الإمام فخر الدين. وجوز غيره تخصيص الكتاب والسنة بالقياس، وبه صرح العلامة التاج بن السبكى فى جمع الجوامع. النوع الثامن فيما يتضمن الأدب معه ص قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «1» . فمن الأدب أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهى، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما أمر الله تعالى بذلك فى هذه الآية، وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ. فالتقدم بين يدى سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه فى حياته، لا فرق بينهما عند كل ذى عقل سليم. قال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشىء، حتى يقضيه الله تعالى على لسانه. وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى. وانظر أدب الصديق- رضى الله عنه- معه- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة، إذ تقدم بين يديه كيف تأخر وقال: ما كان لابن أبى قحافة أن يتقدم بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كيف أورثه مقامه والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه، وقد أومأ إليه أن اثبت مكانك، سعيا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطى. ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- أن لا ترفع الأصوات فوق صوته، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ «2» . قال الرازى: أفاد أنه ينبغى أن لا يتكلم المؤمن عنده- صلى الله عليه وسلم- كما يتكلم العبد عند سيده، لأن العبد أدخل فى قوله

_ (1) سورة الحجرات: 1. (2) سورة الحجرات: 2.

تعالى: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ «1» لأنه للعموم، فلا ينبغى أن يجهر المؤمن للنبى- صلى الله عليه وسلم- كما يجهر العبد للسيد، وإلا كان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض. قال: ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «2» ، والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه، حتى لو كانا فى مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبى- صلى الله عليه وسلم-، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقى نفسه فى التهلكة لإنجاء سيده، ويجب لإنجاء النبى- صلى الله عليه وسلم-، فكما أن العضو الرئيس أول بالرعاية من غيره، لأن عند خلل القلب مثلا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبى- صلى الله عليه وسلم- لهلك هو أيضا بخلاف العبد والسيد. انتهى. وإذا كان رفع الأصوات فوق صوته موجبا لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به. واعلم أن فى الرفع والجهر استخفافا قد يؤدى إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة. وروى أن أبا بكر- رضى الله عنه-، لما نزلت هذه الآية قال: والله يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخى السرار، وأن عمر- رضى الله عنه- كان إذا حدثه حدّثه كأخى السرار ما كان يسمع النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية حتى يستفهمه «3» . وقد روى أن أبا جعفر أمير المؤمنين ناظر مالكا فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك فى هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قوما فقال: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ «4» ومدح قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ «5» ، وذم قوما فقال: إِنَ

_ (1) سورة الحجرات: 2. (2) سورة الأحزاب: 6. (3) تقدم (4) سورة الحجرات: 2. (5) سورة الحجرات: 3.

الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ «1» الآية. وإن حرمته ميتا كحرمته حيّا، فاستكان لها أبو جعفر. ومن الأدب أن لا يجعل دعاؤه كدعاء بعضنا بعضا، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «2» وفيه قولان للمفسرين: أحدهما: أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا، بل قولوا: يا رسول الله، يا نبى الله، مع التوقير والتواضع، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أى دعاؤكم الرسول. والثانى: إن المعنى، لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا، إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنها ألبتة، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أى دعاءه إياكم، وقد تقدم فى الخصائص من المقصد الرابع عن مذهب الشافعى أن الصلاة لا تبطل بإجابته- صلى الله عليه وسلم-. ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد، أو رباط، لم يذهب أحد مذهبا فى حاجة له حتى يستأذنه، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ «3» . فإذا كان هذا مذهبا مقيدا لحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه، فكيف بمذهب مطلق فى تفاصيل الدين، أصوله وفروعه، دقيقه وجليله، هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه؟ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «4» . ومن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- أنه لا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء

_ (1) سورة الحجرات: 4. (2) سورة النور: 63. (3) سورة النور: 62. (4) سورة النحل: 43.

النوع التاسع فى آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه ص ترفيعا لشأنه

بقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال مخالف، يسميه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يتوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه، وهو عين الجراءة عليه. ورأس الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقى خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه صاحبه معقولا، أو يسميه شبهة، أو شكّا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحد التحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يتحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، انتهى ملخصا من «المدارج» والقرآن مملوء بالآيات المرشدة إلى الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- فلتراجع. النوع التاسع فى آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه ص ترفيعا لشأنه قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «1» لما قال المشركون: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «2» ، أجاب تعالى عنه عدوه بنفسه من غير واسطة، وهكذا سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من يسب حبيبه تولى بنفسه- منتصرا له- جوابه، فهنا تولى الحق سبحانه وتعالى جوابهم بنفسه منتصرا له، لأن نصرته تعالى أتم من نصرته وأرفع لمنزلته، ورده أبلغ من رده وأثبت فى ديوان مجده.

_ (1) سورة القلم: 1، 2. (2) سورة الحجر: 6.

فأقسم تعالى بما أقسم به من عظيم آياته على تنزيه رسوله وحبيبه وخليله مما غمصته أعداؤه الكفرة به وتكذيبهم له بقوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «1» وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيهم المفتون، هو أو هم؟ وقد علموا هم والعقلاء ذلك فى الدنيا، ويزداد علمهم به فى البرزخ، وينكشف ويظهر كل الظهور فى الآخرة بحيث يتساوى الخلق كلهم فى العلم به. وقال تعالى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» . ولما رأى العاصى بن وائل السهمى النبى- صلى الله عليه وسلم- يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بنى سهم وتحدثا، وأناس من صناديد قريش جلوس فى المسجد، فلما دخل العاصى قالوا: من ذا الذى كنت تحدث معه، قال: ذلك الأبتر، يعنى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وكان قد توفى ابن لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- من خديجة، فرد الله تعالى عليه، وتولى جوابه بقوله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «3» أى عدوك ومبغضك هو الذليل الحقير. ولما قالوا: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «4» قال الله تعالى: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ «5» . ولما قالوا: لَسْتَ مُرْسَلًا «6» أجاب الله تعالى عنه فقال: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «7» . ولما قالوا: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ «8» رد الله تعالى عليهم فقال: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ «9» فصدقه ثم ذكر

_ (1) سورة القلم: 2. (2) سورة التكوير: 22. (3) سورة الكوثر: 3. (4) سورة سبأ: 8. (5) سورة سبأ: 8. (6) سورة الرعد: 43. (7) سورة يس: 1- 3. (8) سورة الصافات: 36. (9) سورة الصافات: 37.

وعيد خصمائه فقال: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ «1» ولما قالوا: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «2» رد الله تعالى عليهم بقوله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ «3» . ولما حكى الله عنهم قولهم: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ «4» سماهم الله تعالى كاذبين بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً «5» . قال: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «6» . ولما قالوا: يلقيه إليه شيطان قال الله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ «7» الآية ولما تلا عليهم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «8» قال الله تعالى: تكذيبا لهم قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «9» . ولما قال وليد بن المغيرة: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ «10» قال الله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ «11» تسلية له- عليه الصلاة والسلام-. ولما قالوا: محمد قلاه ربه، رد الله تعالى عليهم بقوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «12» .

_ (1) سورة الصافات: 38. (2) سورة الطور: 30. (3) سورة يس: 69. (4) سورة الفرقان: 4. (5) سورة الفرقان: 4. (6) سورة الفرقان: 6. (7) سورة الشعراء: 210. (8) سورة الأنفال: 31. (9) سورة الإسراء: 88. (10) سورة المدثر: 24، 25. (11) سورة الذاريات: 52. (12) سورة الضحى: 3.

ولما قالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ «1» قال الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ «2» . ولما حسدته أعداء الله اليهود على كثرة النكاح والزوجات، وقالوا: ما همته إلا النكاح، رد الله تعالى عليهم عن رسوله ونافح عنه فقال: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً «3» . ولما استبعدوا أن يبعث الله رسولا من البشر بقولهم الذى حكى الله عنهم: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا «4» وجهلوا أن التجانس يورث التانس، وأن التخالف يورث التباين. قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «5» أى لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة، لكن لما كان أهل الأرض من البشر وجب أن يكون رسولهم من البشر. فما أجل هذه الكرامة، وقد كانت الأنبياء إنما يدافعون عن أنفسهم، ويردون على أعدائهم، كقول نوح- عليه الصلاة والسلام-: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ «6» . وقول هود لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ «7» وأشباه ذلك.

_ (1) سورة الفرقان: 7. (2) سورة الفرقان: 20. (3) سورة النساء: 54. (4) سورة الإسراء: 94. (5) سورة الإسراء: 95. (6) سورة الأعراف: 61. (7) سورة الأعراف: 67.

النوع العاشر فى إزالة الشبهات عن آيات وردت فى حقه ص متشابهات

النوع العاشر فى إزالة الشبهات عن آيات وردت فى حقه ص متشابهات قال الله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «1» . اعلم أنه قد اتفق العلماء على أنه- صلى الله عليه وسلم- ما ضل لحظة واحدة قط، وهل هو جائز عقلا على الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- قبل النبوة؟ قالت المعتزلة: هو غير جائز عقلا لما فيه من التنفير. وعند أصحابنا: أنه جائز فى العقول، ثم يكرم الله من أراد بالنبوة، إلا أن الدليل السمعى قام على أن هذا الجائز لم يقع لنبى، قال الله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى «2» قاله الإمام فخر الدين. وقال الإمام أبو الفضل اليحصبى فى «الشفاء» : والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته، والتشكك فى شىء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق أنوار المعارف، ونفحات ألطاف السعادة، ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبئ واصطفى ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك، ومستند هذا الباب النقل. ثم قال: وقد استبان لك بما قررناه ما هو الحق من عصمته- صلى الله عليه وسلم- عن الجهل بالله وصفاته، أو كونه على حالة تنافى العلم بشىء من ذلك كله جملة بعد النبوة عقلا وإجماعا، وقبلها سمعا ونقلا، ولا بشىء مما قررناه من أمور الشرع وأداه عن ربه من الوحى قطعا، عقلا وشرعا، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله وأرسله، قصدا وغير قصد، واستحالة ذلك عليه شرعا وإجماعا، نظرا وبرهانا، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعا، وتنزيهه عن الكبائر إجماعا، وعن الصغائر تحقيقا، وعن استدامة السهو والغافلة، واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته فى كل حالاته من رضى وغضب، وجد ومزح، ما يجب لك أن تتلقاه باليمين، وتشد عليه يد

_ (1) سورة الضحى: 7. (2) سورة النجم: 2.

وجوه تفسير آية ووجدك ضالا فهدى

الضنين، فإن من يجهل ما يجب للنبى- صلى الله عليه وسلم-، أو يجوز أو يستحيل عليه، ولا يعرف صور أحكامه لا يأمن أن يعتقد فى بعضها خلاف ما [هى] عليه، ولا ينزهه عما لا يجوز أن يضاف إليه، فيهلك من حيث لا يدرى، ويسقط فى هوة الدرك الأسفل من النار، إذ ظن الباطل به واعتقاد ما لا يجوز عليه يحل صاحبه دار البوار. وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر، بالمصير إلى امتثال أفعالهم واتباع آثارهم وسيرتهم مطلقا. وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب مالك والشافعى وأبى حنيفة فى غير التزام قرينة بل مطلقا عند بعضهم، وإن اختلفوا فى حكم ذلك، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يكن الاقتداء بهم فى أفعالهم، إذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده من القربة والإباحة والخطر والمعصية. انتهى. [وجوه تفسير آية وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى] واختلف فى تفسير هذه الآية على وجوه كثيرة: أحدها: وجدك ضالا عن معالم النبوة. وهو مروى عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب، ويؤيده قوله تعالى ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «1» أى ما كنت تدرى قبل الوحى أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، قاله السمرقندى، وقال بكر القاضى: ولا الإيمان الذى هو الفرائض والأحكام، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- قبل مؤمنا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التى لم يكن يدريها قبل، فازداد بالتكاليف إيمانا، وسيأتى آخر هذا النوع مزيد لذلك- إن شاء الله تعالى-. الثانى: من معنى قوله: (ضالا) ما روى مرفوعا مما ذكره الإمام فخر الدين: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ضللت عن جدى عبد المطلب وأنا صبى حتى كاد الجوع يقتلنى فهدانى الله» «2» . الثالث: يقال: ضل الماء فى اللبن إذا صار مغمورا، فمعنى الآية: كنت مغمورا بين الكفار بمكة فقواك الله حتى أظهرت دينه.

_ (1) سورة الشورى: 52. (2) لم أقف عليه.

الرابع: أن العرب تسمى الشجرة الفريدة فى الفلاة ضالة،

الرابع: أن العرب تسمى الشجرة الفريدة فى الفلاة ضالة، كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله تعالى ومعرفته إلا أنت، فأنت شجرة فريدة فى مفازة الحمد. الخامس: قد يخاطب السيد، والمراد قومه، أى وجد قومك ضالين فهداهم بك وبشرعك. السادس: أى محبّا لمعرفتى، وهو مروى عن ابن عطاء، والضال: المحب، كما قال تعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «1» أى محبتك القديمة، ولم يريدوا هاهنا: فى الدين، إذ لو قالوا ذلك فى نبى الله لكفروا. السابع: أى وجدك ناسيا فذكرك، وذلك ليلة المعراج نسى ما يجب بأن يقال بسبب الهيبة، فهداه تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال: لا أحصى ثناء عليك. الثامن: أى وجدك بين أهل ضلال فعصمك من ذلك وهداك للإيمان وإلى إرشادهم. التاسع: أى وجدك متحيرا فى بيان ما أنزل إليك، فهداك لبيانه، كقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» وهذا مروى عن الجنيد. العاشر: عن على أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما هممت بشىء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بينى وبين ما أريد، ثم ما هممت بعدهما بشىء حتى أكرمنى الله برسالته. قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى بأعلى مكة: لو حفظت لى غنمى حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت حتى أتيت أول دار من دور أهل مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذنى فنمت، فما

_ (1) سورة يوسف: 95. (2) سورة النحل: 44.

أيقظنى إلا مسّ الشمس، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك فضرب الله على أذنى فما أيقظنى إلا مسّ الشمس، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمنى الله برسالته» «1» . وأما قوله تعالى: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ «2» . فقد احتج بها جماعة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين المجوزين للصغائر على الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وبظواهر كثيرة من القرآن والحديث، إن التزموا ظواهرها أفضت بهم- كما قال القاضى عياض- إلى تجويز الكبائر، وخرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم، فكيف وكلما احتجوا به منها مما اختلف المفسرون فى معناه، وتقابلت الاحتمالات فى مقتضاه. وجاءت الأقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموه من ذلك. فإذا لم يكن مذهبهم إجماعا، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديما، وقامت الدلالة على خطأ قولهم، وصحة غيره، وجب تركه والمصير إلى ما صح، انتهى. وقد اختلف فى هذه الآية: فقال أهل اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أى صوت كصوت المحامل والرحال، وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أقداره. وقيل: المراد منه تخفيف أعباء النبوة التى يثقل الظهر القيام بأمرها، وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها، فسهل الله ذلك عليه، وحط عنه ثقلها بأن يسرها عليه حتى تيسرت له. وقيل الوزر: ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل- عليه السّلام-، وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله تعالى وقال له: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «3» . وقيل: معناه عصمناك من الوزر الذى أنقض ظهرك لو كان ذلك الذنب حاصلا، فسمى الله العصمة «وضعا» مجازا، ومن ذلك ما فى الحديث أنه

_ (1) أخرجه الحاكم عن على، كما فى «كنز العمال» (32135) . (2) سورة الشرح: 2، 3. (3) سورة النحل: 123.

- صلى الله عليه وسلم- حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة فضرب الله على أذنه فما أيقظه إلا حر الشمس من الغد. وقيل: ثقل شغل سرك وحيرتك وطلب شريعتك، حتى شرعنا لك ذلك. وقيل معناه: خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت وحفظ عليك، ومعنى (أنقض) أى كاد ينقضه. قال القاضى: فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة: اهتمام النبى- صلى الله عليه وسلم- بأمور فعلها قبل نبوته وحرمت عليه بعد النبوة فعدها أوزارا وثقلت عليه وأشفق منها. وقيل: إنها ذنوب أمته صارت كالوزر عليه، فأمنه الله تعالى من عذابهم فى العاجل بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ «1» ووعده الشفاعة فى الآجل. وأما قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2» . فقال ابن عباس: أى أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان. وقال بعضهم: أراد غفران ما وقع وما لم يقع، أى أنك مغفور لك. وقيل: المراد ما كان عن سهو وغفلة وتأويل، حكاه الطبرى واختاره القشيرى. وقيل: ما تقدم لأبيك آدم وما تأخر من ذنوب أمتك، حكاه السمرقندى والسلمى عن ابن عطاء. وقيل: المراد أمته وقيل المراد بالذنب ترك الأولى، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان فى إباحة الفعل. وقال السبكى: قد تأملتها- يعنى الآية- مع ما قبلها وما بعدها فوجدتها لا تحتمل إلا وجها واحدا، وهو تشريف النبى- صلى الله عليه وسلم- من غير أن يكون هناك ذنب، ولكنه أريد أن يستوعب فى الآية جميع أنواع النعم- من الله على عباده- الآخروية، وجميع النعم الآخروية شيئان: سلبية وهى غفران الذنوب، وثبوتية وهى لا تتناهى، أشار إليها بقوله وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «3» ، وجميع

_ (1) سورة الأنفال: 33. (2) سورة الفتح: 2. (3) سورة الفتح: 2.

النعم الدنيوية، شيئان: دينية، وأشار إليها بقوله: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «1» ، ودنيوية، وهى قوله: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً «2» ، فانتظم بذلك تعظيم قدر النبى- صلى الله عليه وسلم- بإتمام أنواع نعم الله تعالى عليه المتفرقة فى غيره، ولهذا جعل ذلك غاية للفتح المبين الذى عظمه وفخمه بإسناده إليه بنون العظمة «3» ، وجعله خاصّا بالنبى- صلى الله عليه وسلم- بقوله: (لك) وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية فقال؛ وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم تكن ذنوب ألبتة. ثم قال: وعلى تقدير الجواز لا شك ولا ارتياب أنه لم يقع منه- صلى الله عليه وسلم-، وكيف يتخيل خلاف ذلك وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «4» . وأما الفعل: فإجماع الصحابة على اتباعه والتأسى به فى كل ما يفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير لم يكن عندهم فى ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله فى السر والخلوة يحرصون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم أو لم يعلم، ومن تأمل أحوال الصحابة معه- صلى الله عليه وسلم- استحيى من الله أن يخطر بباله خلاف ذلك، انتهى. وأما قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ «5» . فلا مرية أنه- صلى الله عليه وسلم- أتقى الخلق، والأمر بالشىء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به، إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس، ولا للساكت اسكت، ولا يجوز عليه أن لا يبلغ، ولا أن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك، ولا أن يطيع الكافرين والمنافقين، حاشاه الله من ذلك، وإنما أمره الله تعالى بتقوى توجب استدامة الحضور. وأجاب بعضهم عن هذا أيضا بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يزداد علمه بالله تعالى، ومرتبته، حتى كان حاله- صلى الله عليه وسلم- فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فكان له فى كل ساعة تقوى تتجدد.

_ (1) سورة الفتح: 2. (2) سورة الفتح: 3. (3) يشير إلى قول الله عز وجل: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً سورة الفتح: 1. (4) سورة النجم: 3، 4. (5) سورة الأحزاب: 1.

وقيل: المراد دم على التقوى. فإنه يصح أن يقال للجالس: اجلس هاهنا إلى أن آتيك، وللساكت: قد أصبت فاسكت تسلم، أى دم على ما أنت عليه. وقيل: الخطاب مع النبى- صلى الله عليه وسلم- والمراد أمته، ويدل عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً «1» ، ولم يقل بما تعمل. وأما قوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «2» . فاعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار فى أمره- صلى الله عليه وسلم-، ونسبته إلى ما نسبوه إليه، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال فى أمر الدين والخلق العظيم، أتبعه بما يقوى قلبه ويدعوه إلى التشديد مع قومه، وقوى قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة الكفار، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل فقال: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «3» والمراد رؤساء الكفار من أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم، فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله تهييج للتشديد فى مخالفتهم. وأما قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «4» ، الآية فاعلم أن المفسرين اختلفوا فيمن المخاطب بهذا: فقال قوم المخاطب به النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقال آخرون: المخاطب به غيره. فأما من قال بالأول فاختلفوا على وجوه: الأول: أن الخطاب مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الظاهر والمراد غيره، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «5» وكقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «6» ، وكقوله لعيسى ابن مريم- عليهما السلام-: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «7» ومثل هذا معتاد، فإن السلطان إذا كان

_ (1) سورة الأحزاب: 2. (2) سورة القلم: 8. (3) سورة القلم: 8. (4) سورة يونس: 94. (5) سورة الطلاق: 1. (6) سورة الزمر: 65. (7) سورة المائدة: 116.

له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه إليهم، بل يوجهه إلى ذلك الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرا فى قلوبهم. الثانى: قال الفراء: علم الله تعالى أن رسوله- صلى الله عليه وسلم- غير شاك، ولكن هذا كما يقول الرجل لولده: إن كنت ابنى فبرنى، ولعبده: إن كنت عبدى فأطعنى. الثالث: أن يقال لضيق الصدر شاك، يقول: إن ضقت ذرعا بما تعانى من تعنتهم وأذاهم فاصبر واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم، وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر، فالمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما فى الكتب المتقدمة، وأن القرآن مصدق لما فيها، أو تهييج الرسول- صلى الله عليه وسلم- وزيادة تثبيته، أو يكون على سبيل الفرض والتقدير، لا إمكان وقوع الشك له، ولذلك قال- صلى الله عليه وسلم-: «لما نزلت هذه الآية: والله لا أشك ولا أسأل» . وأما الوجه الثانى- وهو أن المخاطب غيره- صلى الله عليه وسلم- فتقريره: أن الناس كانوا فى زمانه- صلى الله عليه وسلم- فرقا ثلاثة: المصدقون به، والمكذبون له، والمتوقفون فى أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: فإن كنت فى شك أيها الإنسان مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان نبينا- صلى الله عليه وسلم- فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وهذا مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «1» ويا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ «2» وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ «3» فإن المراد «بالإنسان» هنا الجنس، لا إنسان بعينه، فكذا هنا، ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك حذرهم من أن يلحقوا

_ (1) سورة الانفطار: 6. (2) سورة الانشقاق: 6. (3) سورة الزمر: 8.

بالقسم الثانى وهم المكذبون فقال: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» . وأما قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ «2» . أى فى أنهم لا يعلمون ذلك، أو يكون المراد: قل لمن امترى يا محمد، لا تكونن من الممترين فليس الخطاب له وأنه- صلى الله عليه وسلم- يخاطب به غيره. وقيل غير ذلك. وأما قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ «3» . فقال القاضى عياض: لا يلتفت إلى قول من قال: لا تكونن ممن يجهل أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى، إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفاته تعالى، وذلك لا يجوز على الأنبياء، والمقصود وعظهم أن لا يتشبهوا فى أمورهم بسمات الجاهلين، وليس فى الآية دليل على كونه على تلك الصفة التى نهاه الله عن الكون عليها، فأمره الله تعالى- صلى الله عليه وسلم- بالتزام الصبر على إعراض قومه، ولا يخرج عند ذلك فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر حكاه أبو بكر بن فورك. وقيل: معنى الخطاب لأمته- صلى الله عليه وسلم-، أى فلا تكونوا من الجاهلين. حكاه أبو محمد مكى، قال: ومثله فى القرآن كثير، وكذلك قوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ «4» فالمراد غيره، كما قال تعالى: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا «5» وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ «6» ولَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «7» وما أشبه ذلك فالمراد غيره، وأن هذه حال من

_ (1) سورة يونس: 95. (2) سورة الأنعام: 114. (3) سورة الأنعام: 35. (4) سورة الأنعام: 116. (5) سورة آل عمران: 149. (6) سورة الشورى: 24. (7) سورة الزمر: 65.

أشرك والنبى- صلى الله عليه وسلم- لا يجوز عليه هذا، والله تعالى ينهاه عما يشاء ويأمره بما يشاء، كما قال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ «1» الآية، وما طردهم- صلى الله عليه وسلم- وما كان من الظالمين. وأما قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «2» . فليس بمعنى قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ «3» ، وإنما المعنى: لمن الغافلين عن قصة يوسف، إذ لم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك قط، فلم تعلمها إلا بوحينا. وأما قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» الآية. فمعناه: يستخفّك غضب يحملك على ترك الإعراض عنهم. والنزغ: أدنى حركة تكون، كما قاله الزجاج. فأمره الله تعالى أنه متى تحرك عليه غضب على عدوه، أو رام الشيطان من إغرائه به وخواطر أدنى وساوسه ما لم يجعل له سبيل إليه أن يستعيذ به تعالى منه، فيكفى أمره، ويكون سبب تمام عصمته، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له، ولم يجعل له قدرة عليه. وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان فى صورة الملك ويلبس عليه، لا فى أول الرسالة ولا بعدها [والاعتماد فى ذلك دليل المعجزة] «5» بل لا يشك النبى أن ما يأتيه من الله هو الملك ورسوله حقيقة إما بعلم ضرورى يخلقه الله له أو ببرهان يظهر لديه كما قدمته فى المقصد الأول عند البعثة، لتتم كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته. وأما قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «6» الآية. فأحسن ما قيل فيها ما عليه جمهور المفسرين: أن التمنى المراد به هنا: التلاوة، وإلقاء الشيطان فيها إشغاله بخواطر وأذكار

_ (1) سورة الأنعام: 52. (2) سورة يوسف: 3. (3) سورة يونس: 7. (4) سورة الأعراف: 200. (5) زيادة من المصدر المنقول عنه، انظر «الشفا» للقاضى عياض (2/ 120) . (6) سورة الحج: 52.

من أمور الدنيا للتالى حتى يدخل عليه الوهم والنسيان فيما تلاه، أو يدخل غير ذلك على أفهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله الله وينسخه ويكشف لبسه ويحكم آياته. قاله القاضى عياض، وقد تقدم فى المقصد الأول مزيد لذلك. قال فى الشفاء: وأما قوله- صلى الله عليه وسلم- حين نام عن الصلاة يوم الوادى: «إن هذا واد به شيطان» «1» فليس فيه ذكر تسلطه عليه ولا وسوسته له، بل إن كان بمقتضى ظاهره فقد بين أمر ذلك الشيطان بقوله: إن الشيطان أتى بلالا، فلم يزل يهدّيه كما يهدى الصبى حتى نام، فاعلم أن تسلط الشيطان فى ذلك الوادى إنما كان على بلال الموكل بكلاءة الفجر، هذا إن جعلنا قوله «إن هذا واد به شيطان» تنبيها على سبب النوم عن الصلاة، وأما إن جعلناه تنبيها على سبب الرحيل عن الوادى وعلة لترك الصلاة به، وهو دليل مساق حديث زيد ابن أسلم فلا اعتراض به فى هذا الباب، لبيانه وارتفاع إشكاله. قال عياض: وأما قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى «2» الآية، فليس فيها إثبات ذنب له- صلى الله عليه وسلم-. بل إعلام الله له أن ذلك المتصدى له من لا يتزكى، وأن الصواب والأولى كان لو كشف له حال الرجلين لاختار الإقبال على الأعمى وفعل النبى- صلى الله عليه وسلم- لما فعل وتصديه لذلك الكافر كان طاعة لله، وتبليغا عنه، واستئلافا له، كما شرعه الله [له] لا معصية ولا مخالفة له، وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين، وتوهين أمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى «3» أى ليس عليك بأس فى أن لا يتزكى بالإسلام، أى لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم، إن عليك إلا البلاغ. وقد كان ابن أم مكتوم يستحق التأديب والزجر، لأنه- وإن فقد بصره-

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) سورة عبس: 1، 2. (3) سورة عبس: 7.

كان يسمع مخاطبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- لأولئك الكفار، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمامه- صلى الله عليه وسلم- بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه- صلى الله عليه وسلم- إيذاء له- صلى الله عليه وسلم- وذلك معصية عظيمة. فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبا ومعصية، وأن الذى فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان هو الواجب المتعين. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- مأذونا له فى تأديب أصحابه، ولكن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق به. وأما قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» الآية. فروى ابن أبى حاتم عن مسعر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة، وكذا قال مورق العجلى وغيره. وقال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم أنزل التى فى سورة النور، فرخص له فى أن يأذن لهم إن شاء فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «2» ففوض الأمر إلى رأيه- صلى الله عليه وسلم-. وقال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يؤمر فيهما بشىء: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسرى، فعاتبه الله كما تسمعون. وأما قول بعضهم إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب لأنه تعالى قال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «3» والعفو يستدعى سالفة ذنب، وقوله الآخر: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «4» استفهام بمعنى الإنكار، فاعلم: أنا لا نسلم أن قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ «5» يوجب ذنبا، ولم لا يقال إن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى فى توقيره وتعظيمه، كما يقول الرجل لغيره إذا كان عظيما عنده: عفا الله عنك، ما صنعت فى أمرى ورضى الله عنك ما جوابك عن كلامى، وعافاك الله ألا عرفت حقى، فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا

_ (1) سورة التوبة: 43. (2) سورة النور: 62. (3) سورة التوبة: 43. (4) سورة التوبة: 43. (5) سورة التوبة: 43.

زيادة التبجيل والتعظيم، وليس (عفا) هنا بمعنى: غفر، بل كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» «1» ولم تجب عليهم قط، أى لم يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيرى قال: وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لا يعرف كلام العرب، قال: ومعنى عفا الله عنك أى لم يلزمك ذنبا. وأما الجواب عن الثانى فيقال: إما أن يكون صدر من الرسول- صلى الله عليه وسلم- ذنب أم لا؟ فإن قلنا: لا، امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2» إنكارا عليه، وإن قلنا إنه قد صدر عنه ذنب- وحاشاه الله من ذلك- فقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ «3» يدل على حصول العفو، وبعد العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال: إن قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «4» يدل على كون الرسول مذنبا، وهذا جواب كاف شاف قاطع، وعند هذا يحمل قوله لم أذنت لهم على ترك الأولى والأكمل. بل لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك. قال نفطويه: ذهب ناس إلى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- معاتب بهذه الآية، وحاشاه الله من ذلك، بل كان مخيرا، فلما أذن لهم أعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فى الإذن. وأما قوله تعالى فى أسارى بدر: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ إلى قوله: عَظِيمٌ «5» . فروى مسلم من إفراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (1574) فى الزكاة، باب: فى زكاة السائحة، والترمذى (620) فى الزكاة، باب: ما جاء فى زكاة الذهب والورق، وابن ماجه (1790) فى الزكاة، باب: زكاة الورق والذهب، والدارمى فى «سننه» (1629) ، وأحمد فى «المسند» (1/ 92 و 132 و 145 و 146) ، من حديث على- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) سورة التوبة: 43. (3) سورة التوبة: 43. (4) سورة التوبة: 43. (5) سورة الأنفال: 67، 68.

هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر سبعون، استشار النبى- صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر وعليّا، فقال أبو بكر: يا نبى الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهداهم الله فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكننى من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه يعلم الله أنه ليس فى قلوبنا هوادة للمشركين، فهوى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرنى ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أبكى للذى عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى إلى قوله: عَظِيمٌ «1» » . وقوله: حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ «2» : أى يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولى أهله. وليس فى هذا إلزام ذنب للنبى- صلى الله عليه وسلم-، بل فيه بيان ما خص به وفضّل من بين سائر الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فكأنه قال: ما كان هذا لنبى غيرك. قال- صلى الله عليه وسلم-: «أحلت لى الغنائم ولم تحل لنبى قبلى» «3» . وأما قوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا «4» فقيل المراد بالخطاب من أراد ذلك منهم وتجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا علية أصحابه.

_ (1) سورة الأنفال: 67، 68. (2) سورة الأنفال: 67. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1763) فى الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر، من حديث عمر- رضى الله عنه-. (4) سورة الأنفال: 67.

بل قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال حتى خشى عمر أن يعطف عليهم العدو. ثم قال تعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ «1» فاختلف المفسرون فى معنى هذه الآية: فقيل معناها لولا أنه سبق منى أن لا أعذب أحدا إلا بعد النهى لعذبتكم، فهذا ينفى أن يكون أمر الأسرى معصية. وقيل: لولا إيمانكم بالقرآن، وهو الكتاب السابق، فاستوجبتم به الصفح لعقوبتم على الغنائم. وقيل: لولا أنه سبق فى اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعقوبتم. وهذا كله ينفى الذنب والمعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص، قال الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «2» . وقيل: بل كان- صلى الله عليه وسلم- قد خير فى ذلك، وقد روى عن على قال: جاء جبريل- عليه السّلام- إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر فقال: «خير أصحابك فى الأسارى إن شاؤوا القتل وإن شاؤوا الفداء على أن يقتل منهم فى العام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا» «3» وهذا دليل على أنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه. لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل فعوتبوا على ذلك وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم، وكلهم غير عصاة ولا مذنبين. قال القاضى بكر بن العلاء: أخبر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الآية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء، وقد كان قبل هذا فادى فى سرية عبد الله بن جحش التى قتل فيها ابن الحضرمى بالحكم بن كيسان

_ (1) سورة الأنفال: 68. (2) سورة الأنفال: 69. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (1567) فى السير، باب: ما جاء فى قتل الأسارى والفداء، وابن حبان فى «صحيحه» (4795) ، من حديث على- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وصاحبه، فما عتب الله ذلك عليهم، وذلك قبل بدر بأزيد من عام، فهذا كله يدل على أن فعل النبى- صلى الله عليه وسلم- فى شأن الأسارى كان على تأويل وبصيرة على ما تقدم قبل ذلك مثله فلم ينكره الله عليه. لكن الله تعالى أراد لعظم أمر بدر وكثرة أسرارها- والله تعالى أعلم- إظهار نعمته وتأكيد منته بتعريفهم ما كتبه فى اللوح المحفوظ من حل ذلك لا على وجه عتاب أو إنكار أو تذنيب قاله القاضى عياض «1» . وأما قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ «2» الآية. فالمعنى: لولا أن ثبتناك لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب فضلا عن أن تركن إليهم. وهو صريح فى أنه- صلى الله عليه وسلم- ما همّ بإجابتهم مع قوة الدواعى إليها، فالعصمة بتوفيق الله وحفظه، ولو قاربت لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، أى ضعف ما يعذب به فى الدارين بمثل هذا الفعل غيرك، لأن خطأ الخطير أخطر، وقد أعاذه الله من الركون إلى أعدائه بذرة من قلبه. ومما يعزى للحريرى مما يؤيد ذلك قوله: أنحوى هذا العصر ما هى لفظة ... جرت فى لسانى جرهم وثمود إذا استعملت فى صورة الجحد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود وفسر الأول وهو النفى المثبت بنحو فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «3» والثانى وهو الثبوت المنفى بنحو قوله تعالى: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ قالوا: وهو- صلى الله عليه وسلم- ثبت قلبه ولم يركن. وأما قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ

_ (1) فى «الشفا» له (2/ 159) . (2) سورة الإسراء: 74، 75. (3) سورة البقرة: 71.

(45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «1» فالمعنى: لو افترى علينا بشىء من عند نفسه لأخذنا منه باليمين وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه، وقد أعاذه الله من التقول عليه. فإن قلت: لا مرية أنه يعفى للمحب ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع ولا شك أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- هو الحبيب الأعظم ذو المحاسن والإحسان الأكبر، فما هذه العقوبة المضاعفة والتهديد الشديد الوارد إن وقع منه ما يكره، وكم من راكن إلى أعدائه ومتقول عليه من قبل نفسه لم يعبأ به كأرباب البدع ونحوهم؟ فالجواب: أنه لا تنافى بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه بالإنعام وخصه بمزيد القرب والإكرام اقتضت حالته من حفظ مرتبة القرب والولاية والاختصاص أن تراعى مرتبته عن أدنى مشوش وقاطع، فلشدة الاعتناء به، ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ونعمه عليه أكمل، فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل أو أخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضا، فيجتمع فى حقه الأمران. وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدم تناقضهما فالواقع شاهد بذلك، فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لا يسامح به من ليس فى منزلتهم، ويؤاخذهم بما لا يؤاخذ به غيرهم. وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أحدهما أحب إليك من الآخر وأقرب إلى قلبك وأعز عليك عاملته بهذين الأمرين، واجتمع فى حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه وإتمام نعمك عليه اقتضت معاملته بما لم تعامل به من هو دونه من التنبيه وعدم الإهمال. وإذا نظرت إلى محبته لك وطاعته وخدمته وكمال

_ (1) سورة الحاقة: 44- 46.

عبوديته ونصحه، وهبت له وسامحته وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره. فالمعاملتان بحسب ما بينك وبينه. وقد ظهر اعتبار هذا المعنى فى الشرع، حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزويج إذا تعداه إلى الزنا الرجم، وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد، وكذلك ضاعف الحد على الحر الذى قد ملكه نفسه وأتم عليه نعمته ولم يجعله مملوكا لغيره، وجعل حد العبد المنقوص بالرق- الذى لم يجعل له هذه النعمة- نصف ذلك. فسبحان من بهرت حكمته فى خلقه. فلله سر تحت كل لطيفة ... فأخو البصائر غائص يتعقل انتهى ملخصا. وأما قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «1» . فقيل: معناه ما كنت تدرى الإيمان على التفصيل الذى شرع لك فى القرآن. وقال أبو العالية: هو بمعنى الدعوة إلى الإيمان، لأنه كان قبل الوحى لا يقدر أن يدعو إلى الإيمان بالله تعالى. وقيل: معناه أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان فى المهد وقيل البلوغ. حكاه الماوردى والواحدى والقشيرى. وقيل: إنه من باب حذف المضاف، أى ما كنت تدرى أهل الإيمان، أى من الذى يؤمن، أبو طالب، أو العباس، أو غيرهما. وقيل: المراد به شرائع الإيمان ومعالمه وهى كلها إيمان، وقد سمى الله الصلاة بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «2» أى صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عامّا والمراد الخصوص. قاله ابن قتيبة وابن خزيمة. وقد اشتهر فى الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يوحد الله ويبغض الأوثان ويحج ويعتمر. وروى أبو نعيم وابن عساكر عن على قال: قيل للنبى- صلى الله عليه وسلم- هل عبدت وثنا قط؟ قال: «لا» ، قيل: فهل شربت خمرا قط؟ قال: «لا، وما زلت أعرف أن الذى هم عليه كفر. وما كنت أدرى ما الكتاب ولا الإيمان» .

_ (1) سورة الشورى: 52. (2) سورة البقرة: 143.

وعن عائشة: كانت قريش ومن دان دينها، وهم الحمس، يقفون بمزدلفة ويقولون: نحن أهل الحرم رواه الشيخان. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الجاهلية يقف بعرفات دونهم توفيقا من الله تعالى. رواه البيهقى وأبو نعيم من حديث جبير بن مطعم. وقد ورد أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل، كحج البيت والختان والغسل من الجنابة، وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يقرب الأوثان ويعيبها، ولا يعرف شرائع الله التى شرعها لعباده على لسانه، فذلك قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «1» ولم يرد الإيمان الذى هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون مع شركهم، والله أعلم.

_ (1) سورة الشورى: 52.

المقصد السابع فى وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه

المقصد السابع فى وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه وطريقته وفرض محبة آله وأصحابه وقرابته وعترته وحكم الصلاة والتسليم عليه زاده الله فضلا وشرفا لديه وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول فى وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته ص اعلم أن المحبة- كما قال صاحب «المدارج» - هى المنزلة التى يتنافس فيها المتنافسون، وإليها يشخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهى قوت القلوب، وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهى الحياة التى من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذى من فقده فهو فى بحار الظلمات، والشفاء الذى من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام. واللذة التى من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهى روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التى متى خلت منها فهى كالجسد الذى لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيه، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا أبدا بدونها واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق إلى مقامات لم يكونوا لولا هى داخليها، وهى مطايا القوم التى سراهم فى ظهورها دائما إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذى يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قدر الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة

على المحبين سابغة، لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون، ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم فى سيرهم واقفون. من لى بمثل سيرك المذلل ... تمشى رويدا وتحبى فى الأول أجابوا مؤذن الشوق إذ نادى بهم حى على الفلاح، فى الأول أنفسهم فى طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضا والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، ولقد حمدوا عند وصولهم مسراهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح. وقد اختلفوا فى تعريف المحبة، وعباراتهم وإن كثرت فليست فى الحقيقة ترجع إلى اختلاف مقال، وإنما هى اختلاف أحوال، وأكثرها يرجع إلى ثمرتها دون حقيقتها. وقد قال بعض المحققين: حقيقة المحبة عند أهل المعرفة، من المعلومات التى لا تحد، وإنما يعرفها من قامت به وجدانا لا يمكن التعبير عنه. وهكذا كقول صاحب مدارج السالكين- تبعا لغيره-: والمحبة لا تحد بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة. وإنما يتكلم الناس فى أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب الإدراك والمقام والحال. وقد وضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة: [الحاء] التى هى من أقصى الحلق، و «الباء» الشفهية التى هى نهايته، فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه. وقد أعطوا «الحب» حركة الضم التى هى أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة حركة مسماه وقوتها، وأعطوا «الحبّ» وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها من الضمة، وخفة المحبوب وذكره على قلوبهم وألسنتهم. فتأمل هذا اللطف والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعانى تطلعك على قدر هذه اللغة، وإن لها

حدود قيلت فى المحبة

شأنا ليس لسائر اللغات. [حدود قيلت فى المحبة] وهذا بعض رسوم وحدود قيلت فى المحبة بحسب آثارها وشواهدها، والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها. فمنها: موافقة الحبيب فى المشهد والمغيب. وهذا موجبها ومقتضاها. ومنها: محو المحب لصفاته وإثبات المحب لذاته، وهذا من أحكام الفناء فى المحبة، وهى أن تمحى صفات المحب وتفنى فى صفات محبوبه وذاته، وهذا يستدعى بيانا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه وأخذه منه. ومنها: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك، وهو لأبى يزيد، وهو أيضا من أحكامها وموجباتها وشواهدها. والمحب الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيا منه، ولو ناله من محبوبه أيسر شىء لاستكثره واستعظمه. ومنها: استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك. وهو قريب من الأول لكنه مخصوص بما من المحب. ومنها: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وهو لسهل بن عبد الله، وهو أيضا حكم المحبة وموجبها. ومنها: أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شىء. وهو لسيدنا أبى عبد الله القرشى، وهو أيضا من موجبات المحبة وأحكامها. والمراد أن تهب إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبسا فى مرضاته ومحابه، ولا تأخذ منها لنفسك إلا ما أعطاكه، فتأخذه منه له. ومنها: أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب، وكمال المحبة يقتضى ذلك، فإنه ما دامت فى القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة. ومنها: أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك. وهو للشبلى، ومراده: احتقارك لنفسك واستصغارها أن يكون مثلك ممن يحبه. ومنها: غض طرف المحب عما سوى المحبوب غيرة، وعن المحبوب هيبة، وهذا يحتاج إلى إيضاح، أما الأول فظاهر، وأما الثانى: فإن غض طرف القلب عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل، ولكن عند استيلاء سلطان المحبة يقع مثل هذا، وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم.

ومنها: ميلك إلى الشىء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك

ومنها: ميلك إلى الشىء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرّا وجهرا ثم علمك بتقصيرك فى حبه. قال الجنيد: سمعت الحارث المحاسبى يقول ذلك. ومنها: سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم السكر الذى يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشد بعضهم: فأسكر القوم دور الكأس بينهم ... لكن سكرى نشا من رؤية الساقى ومنها: سفر القلب فى طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام، أما سفر القلب فى طلبه فهو الشوق إلى لقائه، وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن من أحب شيئا أكثر من ذكره. ومنها: الميل إلى ما يوافق الإنسان، كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة وغير ذلك من الملاذ التى لا يخلو كل طبع سليم عن الميل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسته، أو يكون حبه لذلك لموافقته له من جهة إحسانه إليه وإنعامه عليه، فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، كما رواه أبو نعيم فى الحلية «1» وأبو الشيخ وغيرهما فإذا كان الإنسان يحب من منحه فى دنياه مرة أو مرتين معروفا فانيا منقطعا، أو استنقذه من هلكة أو مضرة لا تدوم، فما بالك بمن منحه منحا لا تبيد ولا تزول ووقاه من العذاب الأليم ما لا يفنى ولا يحول. وإذا كان المرء يحب غيره على ما فيه من صور جميلة وسيرة حميدة، فكيف بهذا النبى الكريم والرسول العظيم الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم، المانح لنا جوامع المكارم والفضل العميم، فقد أخرجنا الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وخلصنا به من نار الجهل إلى جنات المعارف والإيقان، فهو السبب لبقاء مهجنا البقاء الأبدى فى النعيم السرمدى، فأى إحسان أجل قدرا وأعظم خطرا من إحسانه إلينا، فلا منة- وحياته- لأحد بعد الله كما له علينا، ولا فضل لبشر كفضله لدينا.

_ (1) لا أصل له: والحديث أخرجه أبو نعيم فى «الحلية» (4/ 121) .

فكيف ننهض ببعض شكره، أو نقوم من واجب حقه بمعشار عشره، فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة، وأسبغ علينا نعمه باطنة وظاهرة، فاستحق أن يكون حظه من محبتنا له أوفى وأزكى من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأموالنا وأهلينا والناس أجمعين، بل لو كان فى منبت كل شعرة منا محبة تامة له- صلوات الله وسلامه عليه- لكان ذلك بعض ما يستحقه علينا. وقد روى أبو هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده» «1» رواه البخارى. وقدم الوالد للأكثرية، لأن كل أحد له والد، من غير عكس، وفى رواية النسائى تقديم الولد على الوالد وذلك لمزيد الشفقة، وزاد فى رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس (والناس أجمعين) ، وفى صحيح ابن خزيمة: (من أهله وماله) بدل (من والده وولده) وذكر الوالد والولد أدخل فى المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولذا لم يذكر «النفس» فى حديث أبى هريرة، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص. قال الخطابى: والمراد بالمحبة هنا، حب الاختيار لا حب الطبع. وقال النووى: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبى- صلى الله عليه وسلم- راجحا، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس. وفى كلام القاضى عياض: أن ذلك شرط فى صحة الإيمان، لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال. وتعقبه صاحب المفهم: بأن ذلك ليس مرادا، لأن اعتقاد الأعظيمة ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (14) فى الإيمان، باب: حب الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وأخرجه البخارى (15) فيما سبق، ومسلم (44) فى الإيمان، باب: وجوب محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أكثر من الأهل والولد، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

شىء مع خلوه من محبته. قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يومئ قول عمر فى الحديث الذى رواه البخارى فى «الأيمان والنذور» من حديث عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: لأنت يا رسول الله أحب إلى من كل شىء إلا نفسى التى بين جنبى، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر: والذى أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلى من نفسى التى بين جنبى، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «الآن يا عمر» » . فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظيمة فقط. فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا. وفى رواية فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا والذى نفسى بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك» قال بعض الزهاد: تقدير الكلام، لا تصدق فى حبى حتى تؤثر رضاى على هواك وإن كان فيه الهلاك. وأما وقوف عمر فى أول أمره، واستثناؤه نفسه، فلأن حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد- صلى الله عليه وسلم- منه حب الاختيار، إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. وعلى هذا فجواب عمر أولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من نفسه لكونه السبب فى نجاتها من الهلكات فى الدنيا والآخرة، فأخبره بما اقتضاه الاختيار، فذلك حصل الجواب بقوله (الآن يا عمر) أى الآن عرفت فنطقت بما يجب. وإذا كان هذا شأن نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- عبد الله ورسوله فى محبتنا له ووجوب تقديمها على محبة أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، فما الظن بمحبة الله تعالى ووجوب تقديمها على محبة ما سواه، ومحبة الله تعالى تختص عن محبة غيره فى قدرها وصفتها، وإفراده سبحانه وتعالى بها، فإن الواجب له من ذلك أن يكون أحب إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6632) فى الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبى- صلى الله عليه وسلم-.

وبصره ونفسه التى بين جنبيه، فيكون إلهه الحق، ومعبوده أحب إليه من ذلك كله. والشىء قد يحب من وجه دون وجه، وقد يحب لغيره وليس شىء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده، ولا تصلح الألوهية إلا له تعالى. والتأله هو المحبة والطاعة والخضوع. ومن علامات الحب المذكور لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يعرض الإنسان على نفسه أنه لو خير بين فقد غرض من أغراضه وفقد رؤية النبى- صلى الله عليه وسلم- أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أشد عليه من فقد شىء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ومن لا فلا. قال القرطبى: كل من آمن بالنبى- صلى الله عليه وسلم- إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شىء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من يأخذ بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقا فى الشهوات محجوبا فى الغفلات فى أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده ويبذل نفسه فى الأمور الخطيرة ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه. وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر فى قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالى الغفلات، انتهى. فكل مسلم فى قلبه محبة الله ورسوله، لا يدخل فى الإسلام إلا بها، والناس متفاوتون فى محبته- صلى الله عليه وسلم- بحسب استحضار ما وصل إليهم من جهته- عليه الصلاة والسلام- من النفع الشامل لخير الدارين والغافلة عن ذلك. ولا شك أن حظ الصحابة- رضى الله عنهم- فى هذا المعين أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم. وقد روى ابن إسحاق- كما حكاه فى الشفاء- أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: ما فعل رسول

الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: خيرا، هو بحمد الله كما تحبين، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل تعنى: صغيرة. ورواه البيهقى فى الدلائل، وذكره صاحب اللباب بلفظ: لما قيل يوم أحد قتل محمد- صلى الله عليه وسلم- وكثرت الصوارخ بالمدينة، خرجت امرأة من الأنصار، فاستقبلت بأخيها وابنها وزوجها وأبيها قتلى، لا تدرى بأيهم استقبلت، فكلما مرت بواحد منهم صريعا قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك قالت: فما فعل النبى- صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون: أمامك، حتى ذهبت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لا أبالى إذا سلمت من عطب. وكذا رواه ابن أبى الدنيا بنحوه مختصرا. وقال عمرو بن العاص ما كان أحد أحب إلى من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقال على بن أبى طالب: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة- بفتح الدال المهملة وكسر المثلاثة وتشديد النون- من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك فى أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة وأنى جالس فى أهلى. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدا من الناس يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا. وروى- مما ذكره القاضى عياض- أن رجلا أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلى من أهلى ومالى، وإنى لأذكرك فما أصبر حتى أجىء فأنظر إليك، وإنى ذكرت موتى وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنى إن دخلتها لا أراك، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1» فدعا به فقرأها عليه.

_ (1) سورة النساء: 69.

قال: وفى حديث آخر: كان رجل عند النبى- صلى الله عليه وسلم- ينظر إليه لا يطرف، فقال: «ما بالك؟» فقال: بأبى أنت وأمى، أتمتع بالنظر إليك، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله، فأنزل الله الآية. وذكره البغوى فى تفسيره بلفظ: نزلت- أى الآية- فى ثوبان مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان شديد الحب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم قد تغير لونه يعرف الحزن فى وجهه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما غير لونك؟» فقال: يا رسول الله، ما بى مرض ولا وجع غير أنى إن لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك، لأنك ترفع مع النبيين، وأنى إن دخلت الجنة كنت فى منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية وكذا ذكره الواحدى فى «أسباب النزول» ، وعزاه للكلبى عن ثوبان. وقال قتادة: قال بعض أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-: كيف يكون الحال فى الجنة وأنت فى الدرجات العلى ونحن أسفل منك فكيف نراك؟ فأنزل الله الآية. وذكره ابن ظفر فى «ينبوع الحياة» «1» بلفظ: إن عامر الشعبى قال: إن رجلا من الأنصار أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلى من نفسى ومالى وولدى وأهلى، ولولا أن آتيك فأراك لرأيت أن أموت أو قال أن سوف أموت، وبكى الأنصارى، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما أبكاك؟» قال: بكيت أن ذكرت أنك ستموت ونموت، فترفع مع النبيين، ونكون نحن إن دخلنا الجنة دونك، فلم يحر النبى- صلى الله عليه وسلم- إليه، بمعنى أى: لم يرجع إليه بقول، فأنزل الله الآية. قال: وذكر مقاتل بن سليمان مثل هذا، وقال: هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصارى الذى رأى الأذان. وذكر أيضا: أن عبد الله بن زيد هذا كان يعمل فى جنة له فأتاه ابنه فأخبره أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قد توفى فقال: اللهم أذهب بصرى حتى لا أرى بعد حبيبى محمد أحدا، فكف بصره.

_ (1) هو كتاب تفسير، لأبى عبد الله بن ظفر، محمد بن محمد الصقلى، المتوفى سنة 568 هـ.

واعلم أنه لا يمكن أن يجتمع فى القلب حبان، فإن المحبة الصادقة تقتضى توحيد المحبوب، فليختر المرء لنفسه إحدى المحبتين فإنهما لا يجتمعان فى القلب، والإنسان عند محبوبه كائنا ما كان كما قيل: أنت القتيل بأى من أحببته ... فاختر لنفسك فى الهوى من تصطفى ولبعض الحكماء: كما أن الغمد لا يتسع لعضبين فكذلك القلب لا يتسع لحبين، ولذلك لازم إقبالك على من تهواه إعراضك عن كل شىء سواه فمن داهن فى المحبة أو داجى، فقد عرض لمدى الغيرة أوداجا، فمحبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بل تقديمه فى الحب على الأنفس والآباء والأبناء- لا يتم الإيمان إلا بها، إذ محبته من محبة الله. وقد حكى عن أبى سعيد الخراز- مما ذكره القشيرى فى رسالته- أنه قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، فقلت: يا رسول الله اعذرنى فإن محبة الله شغلتنى عن محبتك، فقال لى: «يا مبارك من أحب الله فقد أحبنى» . وقيل إن ذلك وقع لامرأة من الأنصار معه- صلى الله عليه وسلم- يقظة، ولابن أبى المجد. ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منك بطيبه ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه وكذلك كل حب فى الله ولله، كما فى الصحيحين، عن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار» «1» ، فعلق ذوق الإيمان بالرضى بالله ربّا، وعلق وجدان حلاوته بما هو موقوف عليه ولا يتم إلا به، وهو كونه سبحانه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله، فمن رضى الله ربّا رضيه الله له عبدا.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (16) فى الإيمان، باب: حلاوة الإيمان، ومسلم (43) فى الإيمان، باب: بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

ومعنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات فى الدين، ويؤثر ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله تعالى تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول، قال النووى: وقال غيره: معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله أكد عليه من حق والده وولده وجميع الناس، لأن الهدى من الضلال، والخلاص من النار، إنما كان على لسان رسوله. وفى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «حلاوة الإيمان» استعارة تخييلية، فإنه شبه رغبة المؤمن فى الإيمان بشىء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشىء وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح، لأن المريض الصفراوى يجد طعم العسل مرّا، والصحيح يذوق حلاوته على ما هى، وكلما نقصت القوة شيئا ما، نقص ذوقه بقدر ذلك. وقال العارف ابن أبى حمزة: واختلف فى الحلاوة المذكورة هل هى محسوسة أو معنوية، فحملها قوم على المعنى وهم الفقهاء، وحملها قوم على المحسوس وأبقوا اللفظ على ظاهره من غير أن يتأولوه وهم أهل الصفة، أو قال الصوفة. قال: والصواب معهم فى ذلك والله أعلم، لأن ما ذهبوا إليه أبقوا لفظ الحديث على ظاهره من غير تأويل. قال: ويشهد إلى ما ذهبوا إليه أحوال الصحابة والسلف الصالح وأهل المعاملات، فإنه حكى عنهم أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة. فمن ذلك: حديث بلال حين صنع به ما صنع فى الرمضاء إكراها على الكفر، وهو يقول أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان. وكذلك أيضا عند موته، أهله يقولون: واكرباه، وهو يقول: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وهى حلاوة الإيمان. ومنها حديث الصحابى الذى سرق فرسه بليل وهو فى الصلاة، فرأى السارق حين أخذه فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له فى ذلك فقال: ما كنت فيه ألذ من ذلك، وليس ذاك إلا لحلاوة الإيمان التى وجدها محسوسة فى وقته ذلك.

ومنها حديث الصحابيين اللذين جعلهما- صلى الله عليه وسلم- فى بعض مغازيه من قبل العدو، وقد أقبل فرآهما، فكبل الجاسوس القوس ورمى الصحابى فأصابه، فبقى على صلاته ولم يقطعها، ثم رماه ثانية فأصابه فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثة فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه وقال: لولا أنى خفت على المسلمين ما قطعت صلاتى «1» . وليس ذاك إلا لشدة ما وجد فيها من الحلاوة التى أذهبت عنه ما يجد من ألم السلاح. قال: ومثل هذا حكى عن كثير من أهل المعاملات. انتهى. وحديث هذين الصحابيين ذكره البخارى فى صحيحه فى باب «من لم ير الوضوء إلا من المخرجين» بلفظ: ويذكر عن جابر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان فى غزوة «ذات الرقاع» فرمى رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى فى صلاته. وقد وصله ابن إسحاق فى المغازى فقال: حدثنى صدقة بن يسار عن عقيل عن جابر عن أبيه مطولا، وأخرجه أحمد وأبو داود والدار قطنى وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، كلهم من طريق ابن إسحاق. قال فى فتح البارى، وشيخه «صدقة» ثقة، وعقيل- بفتح العين- لا أعرف راويا عنه غير صدقة. ولهذا لم يجزم به البخارى، أو لكونه اختصره، أو للخلاف فى ابن إسحاق. وأخرجه البيهقى فى الدلائل من وجه آخر، وسمى أحدهما: عباد بن بشر الأنصارى، وعمار بن ياسر من المهاجرين، والسورة الكهف. وإنما قال: (مما سواهما) ولم يقل «ممن» ليعم من يعقل ومن لا يعقل وفى قوله: (وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله للذى خطب فقال: «ومن يعصهما» «بئس

_ (1) حسن: أخرجه البخارى تعليقا فى الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، ووصله أبو داود (198) فى الطهارة، باب: الوضوء من الدم، وأحمد فى «المسند» (3/ 343 و 359) من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

الخطيب أنت» «1» فليس بمن هذا، لأن المراد فى الخطب الإيضاح، وأما هاهنا فالمراد الإيجاز فى اللفظ ليحفظ، ويدل عليه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال فى موضع آخر: «ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه» «2» . وقيل: إنه من قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3» فأعاد (أطيعوا) الصوم، فى مقصد عباداته- عليه الصلاة والسلام-. ومن محاسن الأجوبة فى الجمع بين هذا الحديث وقصة الخطيب، أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم يرتبط بالآخرى، فمن يدعى حب الله مثلا ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «4» فأوقع متابعته مكتنفة بين قطرى محبة العباد لله، ومحبة الله للعباد. وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف فى تقدير التكوير، والأصل استقلال كل واحد من المعطوفين فى الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «5» فأعاد (أطيعوا) فى الرسول ولم يعده فى أولى الأمر، لأنهم لا استقلال لهم فى الطاعة كاستقلال الرسول. انتهى ملخصا من كلام البيضاوى والطيبى، كما فى فتح البارى. وفى الصحيح: «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربّا وبالإسلام دينا،

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (870) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث عدى بن حاتم- رضى الله عنه-. (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1097) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، و (2119) فى النكاح، باب: فى خطبة النكاح، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، إلا أن الحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (3) سورة النساء: 59. (4) سورة آل عمران: 31. (5) سورة النساء: 59.

وبمحمد رسولا» «1» . قال فى المدارج: فأخبر أن للإيمان طعما، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب. وقد عبر النبى- صلى الله عليه وسلم- عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان وحصوله للقلب ومباشرته له بالذوق تارة وبالطعام والشراب أخرى، وبوجدان الحلاوة تارة، كما قال «ذاق» . وقال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان» «2» ، ولما نهاهم عن الوصال قالوا: إنك تواصل فقال: «إنى لست كهيئتكم، إنى أطعم وأسقى» «3» وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسى للفم، وسيأتى تحقيق الكلام- إن شاء الله تعالى- فى الصوم، فى مقصد عباداته- عليه الصلاة والسلام-. والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب تكون نسبته إليه كذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك» «4» . وللإيمان طعم وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد، ولا تزول الشبه والشكوك إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحالة، فيباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة، فيذوق طعمه ويجد حلاوته. وقال العارف الكبير تاج الدين بن عطاء الله: يعنى فى هذا الحديث إشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغافلة والهوى تتنعم بملذوذات المعانى كما تتنعم النفوس بملذوذات الأطعمة، وإنما ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربّا لأنه لما رضى بالله ربّا استسلم له وانقاد لحكمه، وألقى قياده إليه،

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (34) فى الإيمان، باب: الدليل على أن من رضى بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد- صلى الله عليه وسلم- رسولا فهو مؤمن، من حديث العباس بن عبد المطلب- رضى الله عنه-. (2) صحيح: وقد تقدم قريبا. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1922) فى الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب، ومسلم (1102) في الصيام، باب: النهى عن الوصال فى الصوم، من حديث عبد الله ابن مسعود- رضى الله عنه-. (4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2639) فى الشهادات، باب: شهادة المختبى، ومسلم (1433) فى النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

أقسام محبة الله تبارك وتعالى

فوجد لذاذة العيش وراحة التفويض، ولما رضى بالله ربّا كان له الرضى من الله، وإذا كان له الرضى من الله أوجده الله حلاوة ذلك ليعلم ما منّ به عليه، وليعرف إحسانه عليه، ولما سبقت لهذا العبد العناية خرجت له العطايا من خزائن المنن، فلما واصلته أمداد الله وأنواره عوفى قلبه من الأمراض والأسقام، فكان سليم الإدراك فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته لصحة إدراكه وسلامة ذوقه. وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «وبالإسلام دينا» لأنه إذا رضى بالإسلام دينا فقد رضى به المولى، ولازم من رضى بمحمد نبيّا أن يكون له وليّا، وأن يتأدب بادابه ويتخلق بأخلاقه زهدا فى الدنيا وخروجا عنها، وصفحا عن الجناة وعفوا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقيق المتابعة قولا وفعلا، وأخذا وتركا، وحبّا وبغضا، فمن رضى بالله استسلم له، ومن رضى بالإسلام عمل له، ومن رضى بمحمد- صلى الله عليه وسلم- تابعه، ولا يكون واحد منها إلا بكلها، إذ محال أن يرضى بالله ربّا ولا يرضى بالإسلام دينا، أو يرضى بالإسلام دينا ولا يرضى بمحمد نبيّا، وتلازم ذلك بين لا خفاء فيه. انتهى ملخصا. [أقسام محبة الله تبارك وتعالى] واعلم أن محبة الله على قسمين: فرض وندب. فالفرض: المحبة التى تبعث على امتثال الأوامر والانتهاء عن المعاصى، والرضى بما يقدره، فمن وقع فى معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره فى محبة الله حيث قدم هوى نفسه، والتقصير يكون مع الاسترسال فى المباحات والاستكثار منها فيورث الغافلة المقتضية للتوسع فى الرجاء فيقدم على المعصية، أو تستمر الغافلة فيقع وهذا الثانى يسرع إلى الإقلاع مع الندم. والندب: أن يواظب على النوافل ويجتنب الوقوع فى الشبهات، والمتصف بذلك فى عموم الأوقات والأحوال نادر. وفى البخارى من حديث أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال: «ما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضته عليه- وفى رواية: بشىء أحب إلى من أداء ما افترضته عليه- ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى

إشكال

يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت فى شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته» «1» . ويستفاد من قوله: (وما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى..) أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى. [إشكال] وعلى هذا فقد استشكل كون النوافل تنتج المحبة ولا تنتجها الفرائض؟. وأجيب: بأن المراد من النوافل إذا كانت مع الفرائض، مشتملة عليها ومكملة لها، ويؤيده: أن فى رواية أبى أمامة «ابن آدم، إنك لا تدرك ما عندى إلا بأداء ما افترضته عليك» ، أو يجاب: بأن الإتيان بالنوافل لمحض المحبة لا لخوف العقاب على الترك، بخلاف الفرائض، وقال الفاكهانى: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض، وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى ذلك إلى محبة الله تعالى. [إشكال] وقد استشكل أيضا: كيف يكون البارى جل وعلا «سمع العبد وبصره» إلخ. وأجيب بأجوبة: منها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت كسمعه وبصره فى إيثاره أمرى، فهو يحب طاعتى ويؤثر خدمتى كما يحب هذه الجوارح. ومنها: أن المعنى أن كليته مشغولة بى، فلا يصغى بسمعه إلا إلى ما يرضينى، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به. ومنها: أن المعنى، كنت له فى النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله فى المعاونة على عدوه. ومنها: أنه على حذف مضاف، أى: كنت حافظ سمعه الذى يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصره كذلك إلخ. قال الفاكهانى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6502) فى الرقاق، باب: التواضع.

قال: ويحتمل معنى آخر أدق من الذى قبله: وهو: أن يكون بمعنى مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل: فلان أملى، بمعنى: مأمولى، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكرى ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابى ولا يأنس إلا بمناجاتى، ولا ينظر إلا فى عجائب ملكوتى، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاى، ورجله كذلك. وقال غيره: اتفق العلماء- ممن يعتد بقولهم- على أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه تنزل عنده منزلة الآلات التى يستعين بها، ولهذا وقع فى رواية: «فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى» . قال: والاتحادية زعموا أنه على حقيقته، وأن الحق عين العبد، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا. وقال الخطابى: عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء، والنجح فى الطلب، وذلك أن مساعى الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة. وعن أبى عثمان الجيزى- أحد أئمة الطريق- قال: معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه فى الإسماع وعينه فى النظر، ويده فى اللمس ورجله فى المشى. كذا أسنده عنه البيهقى فى «الزهد» «1» . وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه، من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات، أنه يصير فى معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة، حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، والموحد لنفسه، والمحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفا. وعلى هذه الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة، لقوله فى بقية الحديث (ولئن سألنى) ، زاد فى رواية عبد الواحد (عبدى) . انتهى ملخصا. قال العلامة ابن القيم: بتضمن هذا الحديث الشريف الإلهى- الذى حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه والمراد به- حصر أسباب

_ (1) (ص 273) .

محبته فى أمرين، أداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل، وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله، فإذا صار محبوبا لله أوجبت محبة الله له محبة أخرى منه لله فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملك عليه روحه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه ألبتة، فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكا لزمام قلبه، مستوليا على روحه استيلاء المحبوب على محبه الصادق فى محبته التى قد اجتمعت قوى محبه كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه وإن أبصر أبصر به، وإن مشى مشى به، فهو فى قلبه ونفسه، وأنيسه وصاحبه. والباء- هنا- باء المصاحبة، وهى مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حالية «1» لا علمية محضة. قال: ولما حصلت الموافقة من العبد لربه فى محابه، حصلت موافقة الرب لعبده فى حوائجه ومطالبه فقال: «ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه» أى كما وافقنى فى مرادى بامتثال أوامرى، والتقرب إلى بمحابى، فأنا أوافقه فى رغبته ورهبته فيما يسألنى أن أفعله به، وفيما يستعذ بى أن يناله. وقوى أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه فى إماتة عبده لأنه يكره الموت، والرب تعالى يكره ما يكره عبده، ويكره مساءته فمن هذه الجهة يقتضى أن لا يميته ولكن مصلحته فى إماتته، فإنه ما أماته إلا ليحييه، ولا أمرضه إلا ليصحه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة فى صلب أبيه آدم إلا ليعاد إليها على أحسن أحواله، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، انتهى. وقال الخطابى: التردد فى حق الله غير جائز، والبداء عليه فى الأمور غير سائغ، ولكن له تأويلان: أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك فى أيام عمره من داء يصيبه، أو فاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع عنه مكروهها، فيكون ذلك

_ (1) حالية: نسبة إلى حال النفس.

من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولابد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله، لأن الله تعالى قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه. والثانى: أن يكون معناه: ما رددت رسلى فى شىء أنا فاعله كترديدى إياهم فى قبض نفس عبدى المؤمن، كما روى فى قصة موسى- عليه الصلاة والسلام-، وما كان من لطمه عين ملك الموت، وتردده إليه مرة بعد أخرى «1» . قال: وحقيقة المعنى- على الوجهين- عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه.؟ وقال الكلاباذى ما حاصله: أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات، يعنى باعتبار متعلقها، أى عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب إلى أن تنتقل محبته فى الحياة إلى محبته للموت، فيقبض على ذلك. قال: وقد يحدث الله تعالى فى قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت، فضلا عن إزالة الكراهة عنه، انتهى. وبالجملة: فلا حياة للقلب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله، ولا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته، ففى القلب طاقة لا يسدها إلا محبة الله ورسوله ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم وآلام وحسرات. قال صاحب المدارج: ولن يصل العبد إلى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية حتى يعرف الله ويهتدى إليه بطرق توصله إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكليته،

_ (1) هذه القصة أخرجها البخارى (1339) فى الجنائز، باب: من أحب الدفن فى الأرض المقدسة، ومسلم (2372) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

ويزهد فى التعلقات الفانية، ويدأب فى تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، ثم يقوم حارسا على قلبه فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله تعالى، ولا بخطرة فضول لا تنفعه، فيصفو لذلك قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره، كما قال: وأخرج من بين البيوت لعلنى ... أحدث عنك النفس فى السر خاليا فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه، فإذا صدق فى ذلك رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه وأستاذه ومعلمه وشيخه وقدوته، كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديه، فيطالع سيرته ومبادى أموره، وكيفية نزول الوحى عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه وحركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، إلى غير ذلك مما منحه الله تعالى، مما ذكرت بعضه، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه، فإذا رسخ فى قلبه ذلك فتح عليه من ربه بحيث إذا قرأ السورة شاهد قلبه ماذا أنزلت فيه، وماذا أريد بها، وحظه المختص به منها، من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجهد فى التخلص منها، كما يجتهد فى تحصيل الشفاء من المرض المخوف. ولمحبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- علامات: أعظمها الاقتداء به، واستعمال سنته، وسلوك طريقته، والاهتداء بهديه وسيرته، والوقوف مع ما حدّ لنا من شريعته. قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» فجعل تعالى متابعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- آية محبة العبد ربه، وجعل جزاء العبد على حسن متابعة الرسول محبة الله تعالى إياه، وقد قال الحكيم- وهو محمود الوراق- كما أفاده المحاسبى فى كتابه «القصد والرجوع» : تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرى فى القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع

_ (1) سورة آل عمران: 31.

وهذه المحبة تنشأ من مطالعة منة الله عليه من نعمه الظاهرة والباطنة، فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة. ومن أعظم مطالعة منة الله على عبده منة تؤهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه- صلى الله عليه وسلم-، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى فى قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرقت له ذاته، فرأى فى نفسه وما أهلت له من الكمالات والمحاسن، فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت عنه ظلمات نفسه وطبعه، لأن النور والظلمة لا يجتمعان إلا ويطرح أحدهما الآخر، فوقعت الروح حينئذ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول. نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل فى الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل وبحسب هذا الاتباع توجب المحبة والمحبوبية معا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن أن تحب الله، بل الشأن أن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرا وباطنا، وصدقته خبرا، وأطعته أمرا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعا، وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم تكن كذلك فلا تتعن، فلست على شىء. وتأمل قوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» أى الشأن فى أن الله تعالى يحبكم، لا فى أنكم تحبونه، هذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب. وقال المحاسبى فى كتاب «القصد والرجوع» : وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله، والتمسك بسنن رسوله- صلى الله عليه وسلم-، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان، ووجد طعمه، ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذ يدخل حب الإيمان فى القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده فى اليوم الشديد الحر للظمان الشديد عطشه، فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه وسرورا له، وقرة عين فى حقه ونعيما لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجسمانية، فلا يجد فى أوراد العبادة كلفة.

_ (1) سورة آل عمران: 31.

وفى الترمذى عن أنس مرفوعا: (ومن أحيا سنتى فقد أحبنى، ومن أحبنى كان معى فى الجنة) «1» . وعن ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب فى أوامره ونواهيه، وأفعاله وأخلاقه. وقال أبو إسحاق الرقى- من أقران الجنيد-: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه- صلى الله عليه وسلم-. وعن غيره: ولا يظهر على أحد شىء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة. فأما من أعرض عن الكتاب والسنة، ولم يتلق العلم من مشكاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بدعواه علما لدنيّا أوتيه فهو من لدن النفس والشيطان، وإنما يعرف كون العلم لدنيّا روحانيّا بموافقته لما جاء به الرسول عن ربه تعالى، فالعلم اللدنى نوعان: لدنى رحمانى ولدنى شيطانى، والمحك هو الوحى، ولا وحى بعد الرسول- صلى الله عليه وسلم-. وأما قصة موسى مع الخضر فالتعلق بها فى تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدنى إلحاد وكفر، يخرج عن الإسلام، موجب لإراقة الدم، والفرق: أن موسى- عليه السّلام- لم يكن معبوثا إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته، ولو كان مأمورا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه. ولهذا قال له: أنت موسى نبى بنى إسرائيل؟ قال: نعم «2» ، ومحمد- صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس فى كل زمان، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه. فمن ادعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه، وليتشهد بشهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى. وإنما هو من أولياء الشيطان وحلفائه ونوابه.

_ (1) ضعيف: والحديث أخرجه الترمذى (2678) فى العلم، باب: ما جاء فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2380) فى الفضائل، باب: من فضائل الخضر- عليه السّلام-، من حديث أبى بن كعب- رضى الله عنه-، بنحوه.

والعلم اللدنى الرحمانى هو ثمرة العبودية والمتابعة لهذا النبى الكريم. - عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم-، وبه يحصل الفهم فى الكتاب والسنة بأمر يختص به صاحبه كما قال على بن أبى طالب، وقد سئل: هل خصكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشىء دون الناس؟ فقال: لا، إلا فهما يؤتيه الله عبدا فى كتابه. فهذا هو العلم اللدنى الحقيقى. فاتباع هذا النبى الكريم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض النفوس، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين. ومن علامة محبته: أن يرضى مدعيها بما شرعه، حتى لا يجد فى نفسه حرجا مما قضى. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1» ، فسلب اسم الإيمان عن من وجد فى صدره حرجا من قضائه ولم يسلم له. قال شيخ المحققين وإمام العارفين، تاج الدين بن عطاء الله الشاذلى- أذاقنا الله حلاوة مشربه-: فى هذه الآية دلالة على أن الإيمان الحقيقى لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- على نفسه قولا وفعلا وأخذا وتركا، وحبّا وبغضا، ويشتمل ذلك على حكم التكليف وحكم التعريف، والتسليم والانقياد واجب على كل مؤمن فى كليهما. فأحكام التكليف: الأوامر والنواهى المتعلقة باكتساب العباد. وأحكام التعريف: هو ما أورده عليك من فهم المراد. فتبين من هذا: أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بأمرين: الامتثال لأمره، والاستسلام لقهره. ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفى الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد الحرج فى نفسه، حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله- صلى الله عليه وسلم- رأفة وعناية وتخصيصا ورعاية، لأنه لم يقل: فلا والرب، وإنما قال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «2» ففى ذلك تأكيد بالقسم، وتأكيد

_ (1) سورة النساء: 65. (2) سورة النساء: 65.

فى القسم، علما منه سبحانه بما النفوس منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة سواء كان الحق عليها أو لها، وفى ذلك إظهار لعنايته برسوله- صلى الله عليه وسلم-، إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه، والانقياد لأمره، ولم يقبل منهم الإيمان بإلهية حتى يذعنوا لأحكام رسوله- صلى الله عليه وسلم-، لأنه كما وصفه به ربه وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» ، فحكمه حكم الله، وقضاؤه قضاء الله، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «2» وأكد ذلك بقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «3» . وفى الآية إشارة أخرى إلى تعظيم قدره، وتفخيم أمره- صلى الله عليه وسلم- وهى قوله تعالى: وَرَبِّكَ «4» فأضاف نفسه إليه، كما قال فى الآية الآخرى: كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا «5» فأضاف الحق سبحانه نفسه إلى محمد، وأضاف زكريا إليه ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين وتفاوت ما بين الرتبتين. ثم إنه تعالى لم يكتف بالتحكيم الظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج- وهو الضيق- من نفوسهم فى أحكامه- صلى الله عليه وسلم-، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها، وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار، ووجود الأغيار، فعنه يكون الحرج وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك، إن نور الإيمان ملأ قلوبهم فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع العليم، ممدودة بوجود فضله العظيم، مهيأة لواردات أحكامه مفوضة له فى نقضه وإبرامه. انتهى. وقال سهل بن عبد الله: من لم ير ولاية الرسول عليه فى جميع

_ (1) سورة النجم: 3، 4. (2) سورة الفتح: 10. (3) سورة الفتح: 10. (4) سورة النساء: 65. (5) سورة مريم: 1، 2.

الأحوال، ويرى نفسه فى ملكه لم يذق حلاوة سنته، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» «1» . وروينا عن سيدنا العارف الكبير أبى عبد الله القرشى أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شىء. انتهى. فمن آثر هذا النبى الكريم على نفسه، كشف الله له عن حضرة قدسه، ومن كان معه بلا اختيار ظهرت له خفايا حقائق أسرار أنسه. ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- نصر دينه بالقول والفعل، والذب عن شريعته، والتخلق بأخلاقه فى الجود والإيثار، والحلم والصبر والتواضع وغيرها، مما ذكرته فى أخلاقه العظيمة، وتقدم فى كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبا. فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ بالطاعات، وتحمل المشاق فى الدين، وآثر ذلك على أغراض الدنيا. لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلى حرقة الشجى، فتنوع المدعون فى الشهود، فقيل لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» ، فتأخر أكثرهم وثبت أتباع الحبيب فى أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة، بتزكية يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ «3» . فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ» ، فلما عرفوا عظمة ذلك المشترى وفضل الثمن وجلالة من أجرى على يده عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنا عظيما، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) سورة آل عمران: 31. (3) سورة المائدة: 54. (4) سورة التوبة: 111.

بالتراضى، من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم؛ قد صارت نفوسكم وأموالكم لنا، رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معها وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1» . ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- التسلى عن المصائب، فإن المحب يجد فى هذه المحبة ما ينسيه المصائب، ولا يجد فى مسها ما يجد غيره، حتى كأنه قد اكتسى طبيعة ثانية ليست طبيعة الخلق، بل يقوى سلطان المحبة حتى يلتذ بكثير من المصائب أعظم من التذاذ الخلى بحظوظه وشهواته، والذوق والوجود شاهد بذلك. فكرب المحبة موجود ممزوج بالحلاوة فإن فقد تلك الحلاوة اشتاق إلى ذلك الكرب كما قيل: تشكى المحبون الصبابة ليتنى ... نحلت بما يلقون من بينهم وحدى فكانت لقلبى لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلى محب ولا بعدى ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- كثرة ذكره، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره. ولبعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، ولآخر: ذكر المحبوب على عدد الأنفاس. ولغيره: للمحب ثلاث علامات: أن يكون كلامه ذكر المحبوب، وصمته فكرا فيه، وعمله طاعة له. وقال المحاسبى: علامة المحبين كثرة الذكر للمحبوب على طريق الدوام، لا ينقطعون ولا يملون ولا يفترون، وقد أجمع الحكماء على أن من أحب شيئا أكثر من ذكره، فذكر المحبوب هو الغالب على قلوب المحبين لا يريدون به بدلا ولا يبغون عنه حولا، ولو قطعوا عن ذكر محبوبهم لفسد عيشهم، وما تلذذ المتلذذون بشىء ألذ من ذكر المحبوب. انتهى. فالمحبون قد اشتغلت قلوبهم بلزوم ذكر المحبوب عن اللذات، وانقطعت أوهامهم عن عارض دواعى الشهوات، ورقت إلى معادن الذخائر وبغية

_ (1) سورة آل عمران: 169، 170.

الطلبات، وربما تزايد وجد المحب، وهاج الحنين وباح الأنين، وتحركت المواجيد، وتغير اللون، واستبسلت الجوارح، وفتر البدن واقشعر الجلد، وربما صاح، وربما بكى، وربما شهق وربما وله وربما سقط، ولسيدى محمد وفا: إذا أباح دم المهجور هاجره ... باح المحب بما تخفى ضمائره أيكتم الحب صب باح مدمعه ... لما جرى بالذى تخفى سرائره كأنما قلبه أجفان مقلته ... ودمعه فى أماقيه خواطره يا جيرة الجزع هل من جيرة لفتى ... عليه فى حكمه قد جار جائره آه وكم لى على خطب الهوى خطب ... من الغرام به تعلو منابره مهفهف أبلج بدر على غصن ... تخفى البدور إذا لاحت بوادره مطرز الخد بالريحان فى ضرج ... مورد آسه تزهو أزاهره مكحل الخلق ما تحصى خصائصه ... منضر الحسن قد قلت نظائره وربما زاد الوجد على المحب فقتله. أول نقد أثمان المحبة بذل الروح، فما للمفلس الجبان وسومها؟! بدم المحب يباع وصلهم، تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فينفقها بالنسيئة المعسرون، لقد أسيمت للعرض فى سوق من يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنا فدارت السلعة بينهم ووقعت فى يد أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «1» . فذكره- صلى الله عليه وسلم- جلاء قلوبنا، وشفاء صدورنا، وحلاوة ألسنتنا فى جميع الحالات، على اختلاف الأوقات والساعات، يتشرّف بذكره فى جميع العبادات، وفى الجمع والجماعات، والخطب والصلوات، وسائر التقلبات والتصرفات، حتى فى المعاطاة والمبايعات، وعقود المصالحات، واستفتاح المعاقدات والمعاهدات، وخصوصا عند الأذكار والدعوات، فإن بها ولوجها فى أبواب الإجابات.

_ (1) سورة المائدة: 54.

ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- تعظيمه عند ذكره، وإظهار الخشوع والخضوع والانكسار مع سماع اسمه، فكل من أحب شيئا خضع له، كما كان كثير من الصحابة بعده إذا ذكروه خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كان كثير من التابعين فمن بعدهم يفعلون ذلك محبة وشوقا وتهيبا وتوقيرا. قال أبو إبراهيم التجيبى. واجب على كل مؤمن متى ذكره، أو ذكر عنده، أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته، ويأخذ فى هيبته وإجلاله، بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ويتأدب بما أدبنا الله به. وكان أيوب السختيانى إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- بكى حتى نرحمه. وكان جعفر بن محمد كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- اصفر لونه. وكان عبد الرحمن بن القاسم إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى لونه كأنه قد نزف منه الدم، وقد جف لسانه فى فمه هيبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وكان عبد الله بن الزبير إذا ذكر عنده النبى- صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى فى عينيه دموع. وكان الزهرى من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبى- صلى الله عليه وسلم- فكأنك ما عرفته ولا عرفك. وكان صفوان بن سليم من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر عنده النبى- صلى الله عليه وسلم- بكى، فلا يزال يبكى حتى يقوم الناس عنه ويتركوه. وكان قتادة إذا سمع الحديث، أخذه البكاء والعويل والزويل. أشار إلى ذلك القاضى عياض. ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- كثرة الشوق إلى لقائه، إذ كل حبيب يحب لقاء حبيبه. ولبعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وعن معروف الكرخى: المحبة ارتياح الذات لمشاهدة الصفات، أو مشاهدة أسرار الصفات، فيرى بلوغ السؤل ولو بمشاهدة الرسول. ولهذا كانت الصحابة- رضى الله عنهم- إذا اشتد بهم الشوق وأزعجتهم لواعج المحبة قصدوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتفوا بمشاهدته، وتلذذوا بالجلوس معه والنظر إليه والتبرك به- صلى الله عليه وسلم-. وعن عبدة بنت خالد بن معدان: ما كان خالد يأوى إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار

يسميهم ويقول: هم أصلى وفصلى، وإليهم يحن قلبى، طال شوقى إليهم، فعجل رب قبضى إليك حتى يغلبه النوم. ولما احتضر بلال نادت امرأته، وا كرباه فقال: وا طرباه، غدا ألقى الأحبة، محمدا وصحبه. إذا ذاق المحب طعم المحبة اشتاق وتأججت نيران الحب والطلب فى قلبه، ويجد الصبر عن محبوبه من أعظم كبائره كما قيل: والصبر يحمد فى المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يحمد وعن زيد بن أسلم: خرج عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- ليلة يحرس فرأى مصباحا فى بيت فإذا عجوز تنفش صوفا وتقول: على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار قد كنت قواما بكاء بالأسحار ... يا ليت شعرى والمنايا أطوار هل تجمعنى وحبيبى الدار تعنى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فجلس عمر يبكى، ثم قام إلى باب خيمتها فقال: السلام عليكم، ثلاث مرات فقال لها: أعيدى على قولك، فأعادته بصوت حزين، فبكى وقال لها: وعمر لا تنسينه يرحمك الله، فقالت: وعمر فاغفر له يا غفار. ويحكى أنه رؤيت امرأة مسرفة على نفسها، بعد موتها، فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لى، قيل: بماذا؟ قالت: بمحبتى للنبى- صلى الله عليه وسلم- وشهوتى النظر إليه، فنوديت: من اشتهى النظر إلى حبيبنا فنستحى أن نذله بعتابنا، بل نجمع بينه وبين من يحبه. ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- حب القرآن الذى أتى به، واهتدى به وتخلق به، وإذا أردت أن تعرف ما عندك وعند غيرك من محبة الله ورسوله فانظر محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهى والغناء المطرب بسماعهم، فإنه من المعلوم أن من أحب محبوبا كان كلامه وحديثه أحب شىء إليه، كما قيل:

إن كنت تزعم حبى ... فلم هجرت كتابى أما تأملت ما في ... هـ من لذيذ خطابى ويروى أن عثمان بن عفان قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله وكيف يشبع المحب من كلام محبوبه وهو غاية مطلوبه. قال النبى- صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن مسعود: «اقرأ على» قال: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ فقال: «إنى أحب أن أسمعه من غيرى» . فاستفتح وقرأ سورة النساء حتى بلغ فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» قال: «حسبك» ، فرفع رأسه فإذا عينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تذرفان من البكاء «2» . رواه البخارى. وهذا يجده من سمع الكتاب العزيز بأذن قلبه، قال الله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ «3» . قال صاحب «عوارف المعارف» - أذاقنا الله حلاوة مشربه-: هذا السماع هو السماع الحق، الذى لا يختلف فيه اثنان من أهل الإيمان، محكوم لصاحبه بالهداية، وهذا سماع ترد حرارته على برد اليقين، فتفيض العين بالدمع، لأنه تارة يثير حزنا، والحزن حار، وتارة يثير شوقا، والشوق حار، وتارة يورث ندما، والندم حار، فإذا أثار السماع هذه الصفات، من صاحب قلب مملوء ببرد اليقين بكى وأبكى، لأن الحرارة والبرودة إذا اضطربتا عصرتا ماء، فإذا ألمّ السماع بالقلب تارة يخف إلمامه فيظهر أثره فى الجسد ويقشعر منه الجلد، قال الله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ «4» ، وتارة يعظم وقعه ويتصوب أثره- أى يقصد- نحو الدماغ فتندفق منه العين بالدمع،

_ (1) سورة النساء: 41. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (4582) فى التفسير، باب: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، ومسلم (800) فى صلاة المسافرين، باب: فضل استماع القرآن. (3) سورة المائدة: 83. (4) سورة الزمر: 23.

وتارة يتصوب أثره إلى الروح، فتموج منه الروح موجا، ويكاد يضيق عنه نطاق القالب، فيكون من ذلك الصياح والاضطراب، وهذه كلها أحوال يجدها أربابها من أصحاب الأحوال. وقد كان ابن عمر، - رضى الله عنهما-، ربما مر باية فى ورده فتخنقه العبرة ويسقط ويلزم البيت اليوم واليومين حتى يعاد ويحسب مريضا. وقد كان الصحابة إذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى الأشعرى يقولون: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون. فلمحبى السماع القرآنى من الوجد والذوق واللذة والحلاوة والسرور أضعاف ما لمحبى السماع الشيطانى، فإذا رأيت الرجل ذوقه ووجده وطربه ونشأته فى سماع الأبيات دون سماع الآيات، وفى سماع الألحان دون سماع القرآن كما قيل: نقرأ عليك الختمة وأنت جامد كالحجر، وبيت من الشعر ينشد تميل كالنشوانى، فاعلم أن هذا من أقوى الأدلة على فراغ قلبه من محبة الله ورسوله، أدام الله لنا حلاوة محبته، ولا سلك بنا فى غير سبيل سنته، بمنه ورحمته. ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- محبة سنته، وقراءة حديثه، فإن من دخلت حلاوة الإيمان فى قلبه إذا سمع كلمة من كلام الله تعالى، أو من حديث رسوله- صلى الله عليه وسلم- تشربتها روحه وقلبه ونفسه، ويقول: أشم منك نسيما لست أعرفه ... أظن لمياء جرت فيك أردانا فتعمه تلك الكلمة وتشمله، فتصير كل شعرة منه سمعا، وكل ذرة منه بصرا، فيسمع الكل بالكل ويبصر الكل بالكل ويقول: لى حبيب خياله نصب عينى ... سره فى ضمائرى مدفون إن تذكرته فكلى قلوب ... أو تأملته فكلى عيون فحينئذ يستنير قلبه، ويشرق سره، وتتلاطم عليه أمواج التحقيق عند ظهور البراهين، ويرتوى برى عطف محبوبه، الذى لا شىء أروى لقلبه من

عطفه عليه، ولا شىء أشد للهيبه وحريقه من إعراضه عنه، ولهذا كان عذاب أهل النار باحتجاب ربهم عنهم أشد عليهم من العذاب الجسمانى، كما أن نعيم أهل الجنة برؤيته تعالى وسماع خطابه ورضاه وإقباله أعظم من النعيم الجسمانى، لا حرمنا الله ذوق حلاوة هذا المشرب. ومن علامات محبته- صلى الله عليه وسلم- أن يلتذ محبه بذكره الشريف ويطرب عند سماع اسمه المنيف، وقد يوجب له ذلك سكرا يستغرق قلبه وروحه وسمعه. وسبب هذا السكر اللذة القاهرة للعقل، وسبب اللذة إدراك المحبوب- صلى الله عليه وسلم-، فإذا كانت المحبة قوية وإدراك هذا المحبوب قويّا كانت اللذة بإدراكه تابعة لقوة هذين الأمرين. فإن كان العقل قويّا مستحكما لم يتغير لذلك، وإن كان ضعيفا حدث السكر المخرج له عن حكمه. وقد حدوا السكر بأنه: سقوط التمالك فى الطرب، كأنه يبقى فى السكران بقية يلتذ بها ويطرب، فلا يتمالك صاحبها، ولا يقدر أن يفنى معها. وقد يكون سبب السكر قوة الفرح بإدراك المحبوب، بحيث يختلط كلامه وتتغير أفعاله، بحيث يزول عقله ويعربد أعظم من عربدة شارب الخمر. وربما قتله سكر هذا الفرح بسبب طبيعى، وهو انبساط دم القلب وهلة واحدة انبساطا غير معتاد، والدم هو حائل الحار الغريزى، فيبرد القلب بسبب انبساط الدم عنه فيحدث الموت. ومن هذا قول سكران الفرح- بوجود راحلته فى المفازة بعد أن استشعر الموت-: اللهم أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة فرحه «1» ، وسكرة الفرح فوق سكرة الشراب فصور فى نفسك حال فقير معدم، عاشق للدنيا أشد العشق، ظفر بكنز عظيم، فاستولى عليه آمنا مطمئنا، كيف تكون سكرته؟ أو

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2747) فى التوبة، باب: فى الحض على التوبة والفرح بها، من حديث أنس- رضى الله عنه-، إلا أن فى استخدام مصطلحات السكر شىء لا يستحب لارتباطه بالخمر التى حرمها الله عز وجل، والأولى استخدام ألفاظ أخرى تناسب مقام العبودية، والله الموفق إلى الصواب.

من غاب عنه غلامه بمال عظيم مدة سنين، حتى أضرّ به العدم، فقدم عليه من غير انتظار له بماله كله، وقد كسب أضعافه، كيف تكون سكرته؟ ومن أقوى أسباب ما نحن فيه سماع الأصوات المطربة بالإنشادات بالصفات النبوية المغربة المعربة إذا صادفت محلّا قابلا فلا تسأل عن سكرة السامع، وهذا السكر يحدث عندها من جهتين: إحداهما أنها فى نفسها توجب لذة قوية ينغمر منها العقل، الثانية: أنها تحرك النفس إلى نحو محبوبها وجهته، فتحصل بتلك الحركة والشوق والطلب مع التخيل للمحبوب وإحضاره فى النفس، وإدناء صورته إلى القلب واستيلائها على الفكرة لذة عظيمة تغمر القلب، فتجتمع لذة الألحان ولذة الأشجان، فتسكر الروح سكرا عجيبا أطيب وألذ من سكر الشراب، وتحصل له به نشأة ألذ من نشأة الشراب. وقد ذكر الإمام أحمد وغيره: أن الله تعالى يقول لداود: مجدنى بذلك الصوت الذى كنت تمجدنى به فى الدنيا، فيقول: كيف وقد أذهبته فيقول: أنا أرده عليك، فيقوم عند ساق العرش ويمجده، فإذا سمع أهل الجنة صوته استفرغ نعيم أهل الجنة. وأعظم من ذلك: إذا سمعوا كلام الرب جل جلاله وخطابه لهم، فإذا انضاف إلى ذلك رؤية وجهه الكريم الذى يغنيهم لذة رؤيته عن رؤية الجنة ونعيمها، فأمر لا تدركه العبارة ولا تحيط به الإشارة، وهذه صفة لا تلج كل أذن، وصيب لا تحيا به كل أرض، وعين لا يشرب منها كل وارد، وسماع لا يطرب عليه كل سامع، ومائدة لا يجلس عليها كل طفيلى، أشار إليه فى المدارج. فمن اتصف بهذه العلامات التى ذكرتها فهو كامل المحبة لله ورسوله، ومن خالف بعضها فهو ناقص المحبة، ولا يخرج عن اسمها بدليل قوله- صلى الله عليه وسلم- للذى حده فى الخمر- لما لعنه بعضهم وقال: ما أكثر ما يؤتى به- فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» «1» ، فيخبر أنه يحب الله

_ (1) مرسل: أخرجه عبد الرزاق فى «مصنفه» (3552 و 17082) عن زيد بن أسلم مرسلا.

فروق بين المحبة والخلة

ورسوله مع وجود ما صدر عنه. وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، لثبوت النهى عن لعنه، وثبوت الأمر بالدعاء له. وفيه أنه لا تنافى بين ارتكاب النهى وثبوت محبة الله ورسوله فى قلب المرتكب، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله. ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله فى قلب العاصى مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية، أو إذا أقيم عليه الحد، فكفر عن ذنبه المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى بتكرار الذنب أن ينطبع على قلبه حتى يسلب منه ذلك الحب، نسأل الله العفو والثبات على محبته وسلوك سنته برحمته ومنّه. تنبيه: قد اختلف العلماء، أيما أرفع درجة المحبة أو درجة الخلة؟ فحكى القاضى عياض: أن بعضهم جعلهما سواء، فلا يكون الحبيب إلا خليلا، ولا الخليل إلا حبيبا، لكنه خص إبراهيم بالخلة ومحمدا- صلى الله عليه وسلم- بالمحبة، وقال بعضهم: درجة الخلة أرفع واحتج بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر» «1» فلم يتخذه وقد أطلق المحبة لفاطمة وابنيها وأسامة. انتهى. وهذا هو الظاهر من المعنى الأخص، لأن المحبة مأخوذة من معنى الخلة، لكن يرد ما روى فى قصة الإسراء فى مناجاته- صلى الله عليه وسلم- لربه تعالى حيث قال له تعالى: يا محمد سل، فقال: يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمات موسى تكليما، فقال له تعالى: ألم أعطك خيرا من هذا. إلى قوله: واتخذتك حبيبا، أو ما فى معناه، رواه البيهقى. بنحوه، وهذا يعطى أن درجة المحبة أرفع. [فروق بين المحبة والخلة] وقد احتج من قال بتفضيل مقام المحبة على الخلة بفروق كثيرة، ذكر القاضى عياض فى الشفاء منها نقلا عن الإمام أبى بكر بن فورك عن بعض المتكلمين نبذة:

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (467) فى المساجد، باب: الخوخة والممر فى المسجد، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

منها:

منها: أن الخليل يصل بالواسطة، من قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» ، والحبيب يصل إليه به، من قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «2» . ومنها: أن الخليل قال: وَلا تُخْزِنِي «3» ، والحبيب قيل له: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ «4» . ومنها: أن الخليل قال فى المحنة: حَسْبِيَ اللَّهُ «5» والحبيب قيل له: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ «6» . ومنها: أن الخليل هو الذى تكون مغفرته فى حد الطمع، من قوله: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ «7» ، والحبيب الذى مغفرته فى حد اليقين، من قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «8» . وفى كتابى: «تحفة السامع والقارى بختم حجج البخارى» وجوه أخر غير ما حكاه القاضى عياض. [مناقشة المؤلف للفروق بين المحبة والخلة] وفى كلها نظر واضح كما بينته فى حاشية الشفاء، وذلك أن مقتضى الفرق بين الشيئين أن يكون فى حد ذاتيهما، يعنى باعتبار مدلولى «خليل» و «حبيب» وما حكاه القاضى عياض، وذكرته فى التحفة، يقتضى تفضيل ذات محمد- صلى الله عليه وسلم- ذات إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-. لا يقال باعتبار ثبوت وصف الخلة له فيلزم ذلك. لأنا نقول: كل منهما ثابت له وصف الخلة والمحبة. إذ لا يسلب عن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- وصف المحبة

_ (1) سورة الأنعام: 75. (2) سورة النجم: 9. (3) سورة الشعراء: 87. (4) سورة التحريم: 8. (5) سورة الزمر: 38، وسورة التوبة: 129. (6) سورة الأنفال: 64. (7) سورة الشعراء: 82. (8) سورة الفتح: 2.

لا سيما والخلة أخص من المحبة، ولا يسلب عن نبينا- صلى الله عليه وسلم- وصف الخلة لا سيما وقد ثبت فى حديث أبى هريرة قول الله تعالى له: (إنى اتخذتك خليلا) «1» . وقد قام الإجماع على فضل نبينا- صلى الله عليه وسلم- على جميع الأنبياء، بل هو أفضل خلق الله تعالى مطلقا. أما قوله: إن الخليل يصل بالواسطة فلا يفيد غرضا فى هذا المقام الذى هو بصدده، وليس المراد به قطعا إلا الوصول إلى المعرفة، إذ الوصول الحسى يمتنع على الله تعالى. وأما قوله: والحبيب يصل إليه به، فالوصول إلى الله تعالى لا يكون إلا به حبيبا كان أو خليلا. وأما قوله: الخليل هو الذى تكون مغفرته فى حد الطمع إلخ ... فإنه لا يصح أن يكون على جهة التفسير للخليل، ولا تعلق له بمعناه. وقصارى ما ذكره: أنه يعطى تفضيل نبينا- صلى الله عليه وسلم- على إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- فى حد ذاته من غير نظر إلى ما جعله علة معنوية فى ذلك من وصف المحبة والخلة. والحق: أن الخلة أعلى وأكمل وأفضل من المحبة. قال ابن القيم: وأما ما يظنه بعض الغالطين أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله ومحمدا حبيب الله فمن جهله. فإن المحبة عامة والخلة خاصة والخلة نهاية المحبة. قال: وقد أخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- أن الله اتخذه خليلا، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم. وأيضا فإنه تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين ويحب المحسنين ويحب المتقين ويحب المقسطين، وخلته خاصة بالخليلين. قال: وإنما هذا من قلة العلم والفهم عن الله ورسوله. انتهى. وقال الشيخ بدر الدين الزركشى فى شرحه لبردة الأبوصيرى: وزعم بعضهم أن المحبة أفضل من الخلة وقال: محمد حبيب الله وإبراهيم خليل

_ (1) تقدم.

تنبيه:

الله. وضعف: بأن الخلة خاصة، وهو توحيد المحبة، والمحبة عامة، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ «1» قال: وقد صح أن الله اتخذ نبينا خليلا فقال: إن الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. انتهى. تنبيه: والخليل مشتق من الخلة- بالفتح- وهى الحاجة، أو الخلة- بالضم- وهى المودة الحاصلة، أو من الخلل، قال ثعلب سمى خليلا لأن مودته تتخلل القلب، وأنشد: قد تخللت مسلك الروح منى ... وبدا سمى الخليل خليلا وقال الراغب: الخلة- بالفتح-: الاختلال العارض للنفس، إما لشهرتها بشىء أو لحاجتها إليه، ولهذا فسّر الخلة بالحاجة، والخلة- بالضم- إما لأنها تتخلل النفس أو تتوسطها، وإما لأنها تخل النفس فتؤثر فيها تأثير السهم فى الرمية، وإما لفرط الحاجة إليها. الفصل الثانى فى حكم الصلاة عليه والتسليم فريضة وسنة وفضيلة وصفة ومحلّا قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «2» . قال أبو العالية: معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه عند الملائكة، ومعنى صلاة الملائكة عليه الدعاء. قال فى فتح البارى: وهذا أولى الأقوال، فيكون معنى صلاة الله تعالى عليه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة. وعن ابن عباس: أن معنى صلاة الملائكة الدعاء بالبركة. وروى ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حيان قال: صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الاستغفار.

_ (1) سورة البقرة: 222. (2) سورة الأحزاب: 56.

وقال الضحاك بن مزاحم: صلاة الله رحمته، وفى رواية عنه: مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء. أخرجهما إسماعيل القاضى عنه، وكأنه يريد الدعاء بالمغفرة ونحوها. وقال المبرد: الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة رقة تبعث على استدعاء الرحمة. وتعقب: بأنه الله غاير بين الصلاة والرحمة فى قوله سبحانه وتعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ «1» ، ولذلك فهم الصحابة المغايرة من قوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «2» حتى سألوه عن كيفية الصلاة مع تقدم ذكر «الرحمة» فى تعليم السلام، حيث جاء بلفظ: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، وأقرهم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقال لهم، قد علمتم ذلك فى السلام. وجوز الحليمى أن تكون الصلاة بمعنى السلام عليه، وفيه نظر. وقيل: صلاة الله على خلقه تكون خاصة وتكون عامة، فصلاته على أنبيائه هى ما تقدم من الثناء والتعظيم، وصلاته على غيرهم الرحمة، فهى التى وسعت كل شىء. وحكى القاضى عياض: عن بكر القشيرى أنه قال: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- من الله تشريف وزيادة تكرمة، وعلى من دون النبى رحمة. وبهذا يظهر الفرق بين النبى- صلى الله عليه وسلم- وبين سائر المؤمنين حيث قال الله تعالى فى سورة الأحزاب: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «3» ، وقال قبل ذلك فى السورة المذكورة: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ «4» ، ومن المعلوم أن القدر الذى يليق بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من ذلك أرفع مما يليق بغيره. والإجماع منعقد على أن فى هذه الآية من تعظيم النبى- صلى الله عليه وسلم- والتنويه به ما ليس فى غيرها. وقال الحليمى فى «الشعب» ، معنى الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صل على محمد، عظم محمدا، والمراد تعظيمه فى الدنيا

_ (1) سورة البقرة: 157. (2) سورة الأحزاب: 56. (3) سورة الأحزاب: 56. (4) سورة الأحزاب: 43.

سؤال

بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفى الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه فى أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ «1» ادعوا ربكم بالصلاة عليه. انتهى. ولا يعكر عليه عطف آله وأزواجه وذريته عليه، فإنه لا يمتنع أن يدعى لهم بالتعظيم إذ تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به. وما تقدم عن أبى العالية أظهر، فإنه يحصل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى الله تعالى، وإلى ملائكته وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنى واحد، ويؤيده أنه لا خلاف فى جواز الترحم على غير الأنبياء: واختلف فى جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كان معنى قولنا: اللهم صل على محمد: ارحم محمدا، أو ترحم على محمد، جاز لغير الأنبياء، وكذا لو كان بمعنى البركة، وكذلك الرحمة، لسقط الوجوب فى التشهد عند من يوجبه بقول المصلى فى التشهد: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته. ويمكن الانفصال عنه بأن ذلك وقع بطريق التعبد فلابد من الإتيان به، ولو سبق الإتيان بما يدل عليه. [سؤال] فإن قلت: فى أى وقت وقع الأمر بالصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم-؟ فالجواب- كما قال أبو ذر الهروى-: أنه وقع فى السنة الثانية من الهجرة، وقيل ليلة الإسراء، وقيل: إن شهر شعبان شهر الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لأن آية الصلاة- يعنى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» نزلت فيه. والله أعلم. قال الحليمى: والمقصود بالصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- التقرب إلى الله تعالى بامتثال أمره تعالى، وقضاء حق النبى- صلى الله عليه وسلم- علينا. وتبعه ابن عبد السلام، فقال فى الباب الثامن من كتابه المسمى «بشجرة المعارف» : ليست صلاتنا على النبى- صلى الله عليه وسلم- شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من

_ (1) سورة الأحزاب: 56. (2) سورة الأحزاب: 56.

حكم الصلاة على النبي ص

أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله- لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا- إلى الصلاة عليه. وذكر نحوه عن الشيخ أبى محمد المرجانى. وقال ابن العربى: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذى يصلى عليه، لدلالة ذلك على نصوح العقيدة وخلوص النية، وإظهار المحبة، والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة- صلى الله عليه وسلم-. [حكم الصلاة على النبي ص] واختلف فى حكم الصلاة عليه- صلوات الله وسلامه عليه- على أقوال: أحدها: أنها تجب فى الجملة بغير حصر، لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة. الثانى: يجب الإكثار منها، من غير تقييد بعدد، قاله القاضى أبو بكر ابن بكير من المالكية، وعبارته- كما قاله القاضى عياض-: افترض الله تعالى على خلقه أن يصلوا على نبيه- صلى الله عليه وسلم- ويسلموا تسليما، ولم يجعل ذلك لوقت معلوم، فالواجب أن يكثر المرء منها ولا يغافل عنها. الثالث: تجب كل ما ذكر، قاله الطحاوى وجماعة من الحنفية، والحليمى، وجماعة من الشافعية، وقال ابن العربى: إنه الأحوط، وكذا قاله الزمخشرى. واستدلوا لذلك بحديث: (من ذكرت عنده فلم يصل على فمات فدخل النار فأبعده الله) «1» أخرجه ابن حبان من حديث أبى هريرة. وحديث: (رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل على) «2» رواه الترمذى من حديث أبى هريرة، وصححه الحاكم. وحديث: (شقى عبد ذكرت عنده فلم يصل على) «3» أخرجه الطبرانى من حديث جابر: لأن الدعاء: ب «الرغم

_ (1) صحيح: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (409) من حديث مالك بن الحويرث- رضى الله عنه-، و (907) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (3545) فى الدعوات، باب: قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «رغم أنف رجل» ، وأحمد فى «المسند» (2/ 254) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (2/ 246) .

الرابع: فى كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارا.

والإبعاد والشقاء» يقتضى الوعيد، والوعيد على الترك من علامات الوجوب. ومن حيث المعنى: إن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه، وإحسانه مستمر، فتتأكد إذا ذكر. واستدلوا أيضا: بقوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «1» فلو كان إذا ذكر لا يصلى عليه كان كاحاد الناس وأجاب من لم يوجب ذلك بأجوبة، منها: أنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين، فهو مخترع. ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن أن يصلى عليه، وكذا سامعه، وللزم القارئ إذا مر باية فيها ذكره- صلى الله عليه وسلم- فى القرآن، وللزم الداخل فى الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين ولكان فى ذلك من المشقة والحرج ما جاءت الشريعة السمحة المطهرة بخلافه، ولكان الثناء على الله تعالى كلما ذكر أحق بالوجوب، ولم يقولوا به. وقد أطلق القدورى وغيره من الحنفية: أن القول بوجوب الصلاة كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله، لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه خاطب النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لما تفرغ لعبادة أخرى. وأجابوا عن الأحاديث: بأنها خرجت مخرج المبالغة فى تأكيد ذلك وطلبه، وفى حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا. وبالجملة: فلا دلالة على تكرر وجوب ذلك بتكرر ذكره- صلى الله عليه وسلم- فى المجلس الواحد، انتهى ملخصا، والله أعلم. الرابع: فى كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارا. حكاه الزمخشرى. الخامس: فى كل دعاء، حكاه أيضا. السادس: أنها من المستحبات، وهو قول ابن جرير الطبرى، وادعى

_ (1) سورة النور: 63.

السابع: تجب فى العمر مرة

الإجماع على ذلك، واحتج على ذلك مع ورود صيغة الأمر بذلك، بالاتفاق من جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة، أن ذلك غير مستلزم فرضيتها حتى يكون تارك ذلك عاصيا، فدل على أن الأمر فيه للندب، ويحصل الامتثال لمن قاله ولو كان خارج الصلاة. قال فى فتح البارى: وما ادعاه من الإجماع معارض بدعوى غيره الإجماع على مشروعية ذلك فى الصلاة، إما بطريق الوجوب، وإما بطريق الندب، ولا يعرف عن- السلف لذلك مخالف، إلا ما أخرجه ابن أبى شيبة والطبرانى عن إبراهيم النخعى أنه كان يرى أن قول المصلى فى التشهد: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته مجزئ عن الصلاة، ومع ذلك: إنما ادعى إجزاء السلام عن الصلاة. السابع: تجب فى العمر مرة فى الصلاة أو غيرها، ككلمة التوحيد، قاله أبو بكر الرازى من الحنفية. الثامن: تجب فى الصلاة من غير تعيين المحل، ونقل ذلك عن أبى جعفر الباقر. التاسع: تجب فى التشهد، وهو قول الشعبى وإسحاق بن راهواه. العاشر: تجب فى القعود آخر الصلاة، بين قول التشهد وسلام التحلل، قاله الشافعى ومن تبعه. واستدل لذلك بما رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذى وابن خزيمة والحاكم عن أبى مسعود البدرى: أنهم قالوا يا رسول الله: أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلى عليك إذا نحن صلينا عليك فى صلاتنا فقال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» الحديث «1» . ومعنى قولهم: أما السلام عليك فقد عرفنا، هو الذى فى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (405) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، وأبو داود (980) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، والترمذى (3220) فى التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، والنسائى (3/ 45) فى السهو، باب: الأمر بالصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (4/ 118 و 273 و 274) .

استدلال الشافعي على وجوب الصلاة على النبي ص

التشهد، الذى كان قد علمهم إياه كما يعلمهم السورة من القرآن. وفيه: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، ورواه الشافعى فى مسنده عن أبى هريرة بمثله. وقد احتج بهذه الزيادة جماعة من الشافعية، منهم ابن خزيمة، والبيهقى، لإيجاب الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد وقبل السلام. [استدلال الشافعي على وجوب الصلاة على النبي ص] وقال الشافعى فى الأم: فرض الله الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» ولم يكن فرض الصلاة عليه فى موضع أولى منه فى الصلاة، ووجدنا الدلالة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- بذلك: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنا صفوان بن سليم عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة أنه قال: يا رسول الله، كيف نصلى عليك- يعنى فى الصلاة- قال: «تقولون اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم» الحديث «2» . أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنى سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن كعب بن عجرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول فى الصلاة: «اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» الحديث «3» . قال الشافعى: فلما روى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يعلمهم التشهد فى الصلاة، وروى أنه علمهم كيف يصلون عليه فى الصلاة، لم يجز أن نقول: التشهد فى الصلاة واجب والصلاة فيه غير واجبة «4» . [تعقيب هذا الاستدلال] وقد تعقب بعض المخالفين هذا الاستدلال من أوجه: أحدها: ضعف إبراهيم بن محمد بن أبى يحيى، والكلام فيه مشهور.

_ (1) سورة الأحزاب: 56. (2) أخرجه الشافعى فى «الأم» (1/ 117) . (3) صحيح: أخرجه الشافعى فى «الأم» (1/ 117) ، وهو عند البخارى (3370) فى أحاديث الأنبياء، باب: رقم (10) ، ومسلم (406) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد. (4) قاله الشافعى فى «الأم» (1/ 117) .

الثانى: على تقدير صحته فقوله فى الأول: يعنى فى الصلاة،

الثانى: على تقدير صحته فقوله فى الأول: يعنى فى الصلاة، لم يصرح بالقائل «يعنى» . الثالث: قوله فى الثانى: «أنه كان يقول فى الصلاة» وإن كان ظاهره أن المراد الصلاة المكتوبة، لكنه يحتمل أن يكون المراد بقوله فى الصلاة، أى فى صفة الصلاة عليه، وهو احتمال قوى، لأن أكثر الطرق عن كعب بن عجرة يدل على أن السؤال وقع عن صفة الصلاة لا عن محلها. الرابع: ليس فى الحديث ما يدل على تعيين ذلك فى التشهد، خصوصا بينه وبين السلام. وقد أطنب قوم من متأخرى المالكية وغيرهم فى التشنيع على الشافعى فى اشتراطه ذلك فى الصلاة وزعم أنه تفرد بذلك. وحكى الإجماع على خلافه جماعة، منهم أبو جعفر الطبرى والطحاوى وابن المنذر والخطابى. وحكى القاضى عياض فى الشفاء مقالاتهم. وقد عاب عليه غير واحد، وقالوا: كان ينبغى سكوته عنها، لأن مبنى تأليفه «الشفاء» على كمال المبالغة فى تعظيمه- صلى الله عليه وسلم-، وأداء حقوقه، والقول بوجوب الصلاة عليه فى الصلاة من غرض المبالغة فى تعظيمه، وقد استحسن هو القول بطهارة فضلاته، مع أن الأكثر على خلافه، لكنه استجاده لما فيه من الزيادة فى تعظيمه، وكيف ينكر القول بوجوب الصلاة عليه وهو من جنس الصلاة ومقتضياتها، وإذا شرع السلام فيها على نفس المصلى وعلى عباد الله الصالحين، فكيف لا تجب الصلاة على سيد المرسلين؟ وقد انتصر جماعة كثيرة من العلماء الأعلام للشافعى، كالحافظ عماد الدين ابن كثير، والعلامة ابن القيم، وشيخ الإسلام والحافظ أبى الفضل بن حجر، وتلميذه شيخنا الحافظ والعلامة أبى أمامة بن النقاش وغيرهم ممن يطول عدهم. واستدلوا لذلك بأدلة نقلية ونظرية، ودفعوا دعوى الشذوذ، فنقلوا القول بالوجوب عن جماعة من الصحابة، منهم ابن مسعود، وأبو مسعود

والبدرى وجابر بن عبد الله، ونقله أصحاب الشافعى عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، ومن التابعين: الشعبى، فيما رواه البيهقى كما سيأتى، وأبو جعفر الباقر، ومقاتل. وأخرج الحاكم- بسند قوى- عن ابن مسعود قال: يتشهد الرجل ثم يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم يدعو لنفسه «1» . قال الحافظ ابن حجر: وهذا أقوى شىء يحتج به للشافعى، فإن ابن مسعود ذكر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- علمهم التشهد فى الصلاة، وأنه قال: ثم ليتخير من الدعاء ما شاء، فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء، دل على أنه اطلع على زيادة ذلك بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود فى دفع ما ذهب إليه الشافعى وادعى مثل ما ذكره القاضى عياض قال: وهذا تشهد ابن مسعود الذى علمه له النبى- صلى الله عليه وسلم- ليس فيه ذكر الصلاة عليه. وفى جزء الحسن بن عرفة، وأخرج المعمرى «2» فى عمل اليوم والليلة عن ابن عمر- بسند جيد- قال: لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة علىّ. وأخرج البيهقى فى الخلافيات- بسند قوى- عن الشعبى، وهو من كبار التابعين، قال: كنا نعلم التشهد، فإذا قال: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يحمد ربه ويثنى عليه ثم يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم يسأل حاجته. وفى حديث أبى جعفر، عن ابن مسعود، مرفوعا: «من صلى صلاة لم يصل فيها على وعلى أهل بيتى لم تقبل منه» . قال الدارقطنى: والصواب أنه من قول أبى جعفر محمد بن على بن الحسين: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبى- صلى الله عليه وسلم- وعلى أهل بيته لرأيت أنها لا تتم، لكن راويه عن أبى جعفر جابر الجعفى وهو ضعيف. كذا فى الشفاء. وقد وافق الشافعى من فقهاء الأمصار أحمد فى إحدى الروايتين عنه، وعمل به أخيرا، كما حكاه عنه أبو زرعة الدمشقى، فيما ذكره الحافظ ابن

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 401) . (2) هو: الحافظ العلامة البارع، أبو على الحسن بن على بن شبيب البغدادى، وقيل له العمرى لأن جده للأم أبو سفيان العمرى صاحب معمر، مات سنة (295 هـ) .

كثير، وأوجب إسحاق بن راهواه الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان، والمشهور عن أحمد أنها تبطل بتركها عمدا أو سهوا، وعليه أكثر أصحابه، حتى إن بعض أئمة الحنابلة أوجب أن يقال فى الصلاة عليه: صلى الله عليه وسلم، كما علمهم أن يقولوا لما سألوه، كما ذكره ابن كثير، ووافق الخرقى إسحاق فى التقييد بالعمد دون السهو. والخلاف أيضا عند المالكية كما ذكره ابن الحاجب فى سنن الصلاة، ثم قال: على الصحيح، فقال شارحه ابن عبد السلام: يريد أن فى وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام الإمام ابن المواز وبه صرح عنه ابن القصار، وعبد الوهاب، كما فى الشفاء بلفظ: إنه يراها فريضة فى الصلاة كقول الشافعى، قال: وحكى أبو يعلى العبدى عن المذهب فيها ثلاثة أقوال فى الصلاة: الوجوب، والسنة، والندب. ورأيت مما يعزى للقاضى أبى بكر بن العربى فى «سراج المريدين» : قال ابن المواز والشافعى: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- من فرائض الصلاة وهو الصحيح. انتهى. وقد يلزم القائل الحنفية بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر كالطحاوى، ونقله السروجى فى شرح الهداية عن أصحاب المحيط والعقد والتحفة من كتبهم أن يقولوا بوجوبها فى التشهد لتقدم ذكره- صلى الله عليه وسلم- فى آخر التشهد فى قوله: وأشهد أن محمدا رسول الله، لكن لهم أن يلتزموا ذلك ولا يجعلونه شرطا فى صحة الصلاة. ولم يخالف الشافعى أحد من أصحابه فى ذلك. بل قال بعض أصحابنا بوجوب الصلاة على الآل، كما حكاه البندنيجى والدارمى، ونقله إمام الحرمين والغزالى قولا عن الشافعى، قال الحافظ ابن كثير: والصحيح أنه وجه، على أن الجمهور على خلافه، والقول بوجوبه ظهور للحديث. وأما مخالفة الخطابى من أصحاب الشافعى فلا يعتد به لمقتضى الآمر المحمول على الوجوب إجماعا، وأولى أحواله الصلاة ولا مانع من احتمال كونه مرادا. وأما قوله: ولا أعلم له فيها قدوة، فيقال عليه: لا ريب أن

الشافعى قدوة يقتدى به، والمقام مقام اجتهاد، فلا افتقار له فيه إلى غيره. وأما قوله فى «الشفاء» : والدليل على أنها ليست من فروض الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعى وإجماعهم عليه. ففيه نظر، لأنه إن أراد بالعمل الاعتقاد فيحتاج إلى نقل صريح عنهم بأن ذلك ليس بواجب، وأنى يوجد ذلك؟ وأما قوله: وقد شنع الناس عليه- يعنى الشافعى- فى هذه المسألة جدّا، فلا معنى له، وأى شناعة فى ذلك؟ ولم يخالف فيه نصّا ولا إجماعا ولا قياسا ولا مصلحة راجحة. بل القول بذلك من محاسن مذهبه، ولا ريب أن القائل بجواز ترك الصلاة على أفضل خلق الله فى الصلاة التى هى رأس العبادة المطلوب فيها الخضوع واستحضار شارعها والثناء عليه أولى بالتشنيع. وأما نقله الإجماع فقد تقدم ما فيه. وأما قوله: إن الشافعى اختار تشهد ابن مسعود، فلم يقل به أحد، والشافعى إنما اختار تشهد ابن عباس كما سيأتى- إن شاء الله تعالى- فى مقصد عباداته. وقد استدل للوجوب بما أخرجه أبو داود والنسائى والترمذى وصححه، وكذا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد قال: سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- رجلا يدعو فى صلاته، لم يحمد الله ولم يصل على النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «عجل هذا» ، ثم دعاه إليه فقال: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بالحمد لله والثناء عليه، ثم ليصل على النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم ليدع بما شاء» «1» . قلت: ومما يعد من كرامات إمامنا الشافعى وسره السارى، أن القاضى عياضا ساق هذا الحديث بسنده من طريق الترمذى من غير أن يطعن فى سنده بعد قوله: «فصل فى المواطن التى تستحب فيها الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1481) فى الصلاة، باب: الدعاء، والترمذى (3476) فى الدعوات، باب: جامع الدعوات عند النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (3/ 44) فى السهو، باب: التمجيد والصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (8/ 18) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

ويرغب» من ذلك: فى تشهد الصلاة، وذلك بعد التشهد وقبل الدعاء. وهذا الحديث- كما ترى- من أعظم الأدلة لنا. فإن قال قائل: ليس لكم فيه دلالة لأنه قال: سمع فيه رجلا يدعو فى صلاته، ولم يقل فى تشهده. فيجاب: بأنه يلزم على هذا أن القاضى عياضا ساقه فى غير محله، لأنه عقد الفصل- كما قدمته- لبيان مواطن استحباب الصلاة. ثم قال: ومن ذلك فى تشهد الصلاة. وفى «مصابيح» البغوى، من حديث فضالة بن عبيد هذا ما يدل على أنه كان فى التشهد، ولفظه: قال دخل رجل فقال: اللهم اغفر لى وارحمنى، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عجلت أيها المصلى، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، ثم صل علىّ، ثم ادعه» . وفى قوله: «عجلت» استلواح فوات الكمال عن الحقيقة المجزئة، إذ لو كانت مجزئة لما حسن اللوم والتعليم بصيغة الأمر، فإن قيل إنه فى مقام تعليم المستحبات إذ لو كان فى الواجبات لأمره بالإعادة، كما أمر المسىء صلاته، فيجاب: بأن فى قوله هذا غنية عن الأمر بالإعادة، لأنه حيث علمه ما هو الواجب علم قطعا أنه لم يأت به أولا فلم يكن آتيا به فوجبت إعادته، وهم أهل الفهم والعرفان. فإن قال: إن قوله «فقعدت» يحتمل أن يكون عطفا على مقدر، تقديره: إذا صليت وفرغت فقعدت للدعاء فاحمد الله. فيجاب: بأن الأصل عدمه، وإنما هو عطف على المذكور، أى: إذا كنت فى الصلاة فقعدت للتشهد فاحمد الله، أى اثن عليه بقولك، التحيات لله إلخ والله أعلم. وقال الجرجانى من الحنفية وغيره: لو كانت فرضا لما لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه- صلى الله عليه وسلم- علمهم التشهد وقال: «فليتخير من الدعاء ما شاء، ولم يذكر الصلاة عليه» . وأجيب: باحتمال أن لا تكون فرضت حينئذ. وقال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى: قد ورد هذا الصحيح بلفظ: ثم ليتخير، و «ثم»

للتراخى، فدل على أنه كان هناك شىء بين التشهد والدعاء، انتهى. وقد أطنب الشيخ أبو أمامة بن النقاش فى تفسيره فى الانتصار للشافعى فى هذه المسألة، مما يطول ذكره، فالله يثيبه على قصده الجميل. وأما صفة الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم-، (فعن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: لقينى كعب بن عجرة فقال: ألا أهدى لك هدية؟ إن النبى- صلى الله عليه وسلم- خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك فيكف نصلى عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ) «1» رواه البخارى ومسلم والترمذى وأبو داود والنسائى. فإن قلت: كيف يطابق قوله: (اللهم صل على محمد) قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) ؟. أجاب القاضى عياض: بأن «آل» مقحم، كما فى قوله- صلى الله عليه وسلم- فى أبى موسى: «إنه أعطى مزمارا من مزامير آل داود» «2» ، ولم يكن له آل مشهور بحسن الصوت. وقد روى هذا الحديث ابن أبى حاتم بلفظ: لما نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «3» قال: قلنا يا رسول الله، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى يقول: وعلينا معهم. وعن أبى حميد الساعدى: (أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلى

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5048) فى فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ومسلم (792) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن. (3) سورة الأحزاب: 56.

إشكال

عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ) «1» رواه الإمام أحمد. وعن أبى مسعود الأنصارى قال: أتانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن فى مجلس سعد بن عبادة فقال له بشر بن سعد أمرنا الله أن نصلى عليك، فكيف نصلى عليك؟ قال: فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فى العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم» «2» ، رواه مالك ومسلم وغيرهما. [إشكال] فإن قلت: ما موقع التشبيه فى قوله: (كما صليت على إبراهيم) ، مع أن المقرر أن المشبه دون المشبه به؟ والواقع هنا عكسه، لأن محمدا- صلى الله عليه وسلم- وحده أفضل من إبراهيم ومن آل إبراهيم، ولا سيما وقد أضيف إليه آل محمد، وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة له أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل لغيره. [الجواب] فقد أجاب العلماء عنه بأجوبة كثيرة: منها: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم. وقد أخرج مسلم حديث أنس: أن رجلا قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: يا خير البرية، قال: «ذاك إبراهيم» «3» . وتعقب: بأنه لو كان كذلك لغير صيغة الصلاة عليه بعد أن علم أنه أفضل. ومنها: أنه قال ذلك تواضعا، وشرع ذلك لأمته ليكتسبوا بذلك الفضيلة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3369) فى أحاديث الأنبياء، باب: رقم (10) ، ومسلم (407) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد. (2) صحيح: أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 165- 166) ، ومسلم (405) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2369) فى الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل- صلى الله عليه وسلم-.

ومنها: أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة، لا للقدر بالقدر،

ومنها: أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة، لا للقدر بالقدر، فهو كقوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ «1» ، وهو كقول القائل: أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان، ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره، ومنه قوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «2» ، ورجح هذا القول القرطبى فى «المفهم» . ومنها: أن قوله: (اللهم صل على محمد) مقطوع عن التشبيه، فيكون التشبيه متعلقا بقوله: (وعلى آل محمد) وتعقب: بأن غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء، فكيف يطلب لهم صلاة مثل الصلاة التى وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله. ويمكن الجواب عنه: بأن المطلوب الثواب الحاصل لهم، لا جميع الصفات التى كانت سببا للثواب. وقد نقل العمرانى فى «البيان» عن الشيخ أبى حامد أنه نقل هذا الجواب عن نص الشافعى. واستبعد ابن القيم صحة ذلك عن الشافعى، لأنه مع فصاحته ومعرفته بلسان العرب لا يقول هذا الكلام المستلزم هذا التركيب الركيك البعيد من كلام العرب، كذا قال. وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: ليس التركيب المذكور ركيكا، بل التقدير: اللهم صل على محمد وصل على آل محمد كما صليت إلخ، فلا يمتنع الشبيه بالجملة الثانية. ومنها: رفع المقدمة المذكورة أولا، وهى أن المشبه به يكون أرفع من المشبه، وأن ذلك ليس مطردا، بل قد يكون التشبيه بالمثل، بل بالدون، كما فى قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ «3» ، وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى؟ ولكن لما كان المراد من المشبه به أن يكون شيئا ظاهرا واضحا للسامع حسن تشبيه النور بالمشكاة، وكذا هنا: لما كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصلاة عليهم مشهورا واضحا عند جميع الطوائف حسن أن يطلب لمحمد

_ (1) سورة النساء: 163. (2) سورة القصص: 77. (3) سورة النور: 35.

وآل محمد بالصلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآل إبراهيم، ويؤيد ذلك ختم الطلب المذكور بقوله (فى العالمين) أى كما أظهرت الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فى العالمين، ولهذا لم يقع (فى العالمين) إلا فى ذكر إبراهيم دون ذكر آل محمد على ما وقع فى الحديث الذى وردت فيه، وهو حديث أبى مسعود الأنصارى الذى ذكرته. وهذا معنى قول الطيبى: وليس التشبيه المذكور من باب إلحاق الناقص بالكامل، لكن من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر. وقال النووى: أحسن الأجوبة ما نسب إلى الشافعى: أن التشبيه لأصل الصلاة أو للمجموع بالمجموع. وقال ابن القيم- بعد أن زيف أكثر الأجوبة إلا تشبيه المجموع بالمجموع-: وأحسن منه أن يقال: هو- صلى الله عليه وسلم- من آل إبراهيم، وقد ثبت ذلك عن ابن عباس فى تفسير قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ «1» قال: محمد من آل إبراهيم، فكأنه أمرنا أن نصلى على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموما، فيحصل لآله ما يليق بهم، ويبقى الباقى كله له، وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم. وتظهر حينئذ فائدة التشبيه، وأن المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من المطلوب بغيره من الألفاظ. وقال الحليمى: سبب هذا التشبيه أن الملائكة قالت فى بيت إبراهيم: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ «2» وقد علم أن محمدا وآل محمد من أهل بيت إبراهيم، فكأنه قال: قولوا اللهم أجب دعاء الملائكة الذين قالوا ذلك فى محمد وآل محمد كما أجبتها عندما قالوها فى آل إبراهيم الموجودين حينئذ، ولذلك ختم بما ختم به الآية وهو قوله إنك حميد مجيد.

_ (1) سورة آل عمران: 33. (2) سورة هود: 73.

ومما يعزى للعارف الربانى أبى محمد المرجانى أنه قال: وسر قوله- صلى الله عليه وسلم- (كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم) ولم يقل: كما صليت على موسى، لأن موسى- عليه الصلاة والسلام- كان التجلى له بالجلال، فخر موسى صعقا، والخليل إبراهيم كان التجلى له بالجمال، لأن المحبة والخلة من آثار التجلى بالجمال، فلهذا أمرهم- صلوات الله وسلامه عليه- أن يصلوا عليه كما صلى على إبراهيم، فيسألوا له التجلى بالجمال، وهذا لا يقتضى التسوية فيما بينه وبين الخليل- صلوات الله وسلامه عليهما-، لأنه إنما أمرهم أن يسألوا له التجلى بالوصف الذى تجلى به للخليل- عليه الصلاة والسلام-، فالذى يقتضيه الحديث المشاركة فى الوصف الذى هو التجلى بالجمال، ولا يقتضى التسوية فى المقامين ولا الرتبتين، فإن الحق سبحانه يتجلى بالجمال لشخصين بحسب مقاميهما، وإن اشتركا فى وصف التجلى بالجمال، فيتجلى لكل واحد منهما بحسب مقامه عنده، ورتبته منه ومكانته، فيتجلى للخليل- عليه الصلاة والسلام- بالجمال بحسب مقامه، ويتجلى لسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- بالجمال بحسب مقامه، فعلى هذا يفهم الحديث انتهى. فإن قلت: ما المراد بال محمد فى هذا الحديث؟ فالجواب: أن الراجح أنهم من حرمت عليهم الصدقة، كما نص عليه الشافعى، واختاره الجمهور، ويؤيده قوله- صلى الله عليه وسلم- للحسن بن على: «إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة» «1» وقيل: المراد بال محمد أزواجه وذريته. وقيل: المراد بهم جميع الأمة أمة الإجابة. حكاه أبو الطيب الطبرى عن بعض الشافعية، ورجحه النووى فى شرح مسلم، وقيده القاضى حسين بالانقياد منهم، وعليه يحمل كلام من أطلق، ويؤيده ما رواه تمام فى فوائده، والديلمى عن أنس قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من آل محمد؟ فقال: «كل تقى من أمة محمد» ، زاد الديلمى: ثم قرأ: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا

_ (1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 200) ، وهو عند البخارى (1491) فى الزكاة، باب: ما يذكر فى الصدقة للنبى- صلى الله عليه وسلم- وآله، ومسلم (1069) فى الزكاة، باب: تحريم الزكاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى آله، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

الْمُتَّقُونَ «1» ، وإسنادهما ضعيف، لكن ورد ما يشهد لذلك فى الصحيحين كحديث (إن آل أبى فلان ليسوا لى بأولياء، إنما وليى الله وصالح المؤمنين) «2» انتهى ملخصا. وقد استدل العلماء بتعليمه- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه هذه الكيفية بعد سؤالهم عنها، بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه، لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل. ويترتب على ذلك: أنه لو حلف أن يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- أفضل الصلاة، فطريق البر أن يأتى بذلك، هكذا صوبه النووى فى «الروضة» بعد ذكر حكاية الرافعى عن إبراهيم المروزى أنه قال: يبر إذا قال: كلما ذكره الذاكرون، وكلما سها عن ذكره الغافلون. قال النووى: وكأنه أخذ ذلك من كون الشافعى ذكر هذه الكيفية- يعنى فى خطبة «الرسالة» له- ولكن بلفظ «غفل» بدل «سها» . وقال الأذرعى: «إبراهيم» المذكور كثير النقل من تعليقة القاضى حسين، ومع ذلك فالقاضى قال فى طريق البر؛ أن يقول: اللهم صل على محمد كما هو أهله ويستحقه، وكذا نقله البغوى فى تعليقه. ولو جمع بينها فقال ما فى الحديث، وأضاف إليه أثر الشافعى، وما قاله القاضى لكان أشمل. ولو قيل: إنه يعمد إلى جميع ما اشتملت عليه الروايات الثابتة فيستعمل منها ذكرا يحصل به البر لكان حسنا. وعن ابن مسعود، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا تشهد أحدكم فى الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» «3» ، رواه الحاكم. وقد يستدل بهذا الحديث من ذهب إلى جواز

_ (1) سورة الأنفال: 34. (2) صحيح: أخرجه البخارى فى الأدب، باب: تبل الرحم ببلاها، ومسلم (215) فى الإيمان، باب: موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم، من حديث عمرو بن العاص- رضى الله عنه-. (3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 402) بسند فيه مجهول.

الترحم على النبى- صلى الله عليه وسلم-، كما هو قول الجمهور، ويعضده حديث الأعرابى الذى قال: اللهم ارحمنى وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لقد تحجرت واسعا» «1» وحكى القاضى عياض عن جمهور المالكية منعه قال: وأجازه أبو محمد بن أبى زيد. انتهى. وسيأتى ما فى ذلك من البحث- إن شاء الله تعالى- فى المقصد التاسع عند الكلام على التشهد. وعن سلامة الكندى أن عليّا كان يعلم الناس الدعاء- وفى لفظ: يعلم الناس الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيقول: اللهم داحى المدحوات، وبارئ المسموكات، اجعل شرائف صلواتك، ونوامى بركاتك، ورأفة تحننك، على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أغلق، الخاتم لما سبق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ لجيشات الأباطيل، كما حمّل فاضطلع بأمرك بطاعتك، مستوفزا فى مرضاتك، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك، حتى أورى قبسا لقابس آلاء الله، تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب، بعد خوضات الفتن والإثم، وأبهج موضحات الأعلام، ونائرات الأحكام، ومنيرات الإسلام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمة ورسولك بالحق رحمة، اللهم افسح له فى عدنك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك، مهنئات له غير مكدرات، من فوز ثوابك المحلول، وجزيل عطائك المعلول، اللهم أعل على بناء الناس بناءه، وأكرم مثواه لديك ونزله، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة، ومرضى المقالة، ذا منطق عدل، وخطة فصل، وبرهان عظيم «2» . حديث موقوف، رواه الطبرانى لكن قال الحافظ ابن كثير: فى سنده نظر،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6010) فى الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، وأبو داود (380) فى الطهارة، باب: الأرض يصيبها البول، و (882) فى الصلاة، باب: الدعاء فى الصلاة، والترمذى (147) فى الطهارة، باب: ما جاء فى البول يصيب الأرض، والنسائى (3/ 14) فى السهو، باب: الكلام فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (2/ 283) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 164) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وسلامة الكندى روايته عن على مرسلة، وبقية رجاله رجال الصحيح.

قال: وقال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزى: سلامة الكندى هذا ليس بمعروف، ولم يدرك عليّا، كذا قال: وقوله: «داحى المدحوات» : أى باسط الأرضين، وكل شىء بسطته ووسعته فقد دحوته. «وبارئ المسموكات» : أى خالق السماوات، وكل شىء رفعته وأعليته فقد سمكته. «والدافع لجيشات الأباطيل» : أى المهلك لما نجم وارتفع منها وفار. وأصل «الدمغ» من الدماغ، دمغه: أصاب دماغه، و «جيشات» من جاش إذا ارتفع. «واضطلع» : افتعل من الضلاعة، وهى القوة. «وأورى قبسا لقابس» : أى أظهر نورا من الحق لطالبه. «وآلاء الله» : نعم الله «تصل بأهله» : أى أهل ذلك القبس وهو الإسلام والحق أسبابه، وأهله المؤمنون. «وبه هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم» : أى هديت بعد الكفر والفتن لموضحات الأعلام. «ونائرات» و «المنيرات» : الواضحات، يقال: نار الشىء، وأنار إذا وضح. «وشهيدك يوم الدين» : يريد الشاهد على أمته يوم القيامة. «وبعيثك نعمة» : أى مبعوثك، فعيل بمعنى مفعول. «وافسح له» : أى وسع له. «وفى عدنك» : أى فى جنة عدن. «والمعلول» : من العلل وهو الشرب بعد الشرب، يريد أن إعطاءه مضاعف، كأنه يعل به عباده، أى: يعطيهم عطاء بعد عطاء. «وأعل على بناء الناس» وفى رواية: البانين، أى ارفع فوق أعمال العاملين عمله. «وأكرم مثواه» : أى منزله. «ونزله» : رزقه. «والخطة» : بضم الخاء المعجمة، الأمر والقصة. «والفصل» : القطع. وعن عبد الله بن مسعود قال: إذا صليتم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه، فقالوا له علمنا، قال: قولوا اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاما محمودا، يغبطه فيه الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد «1» حديث موقوف، رواه ابن ماجه.

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (906) فى إقامة الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .

مواطن الصلاة على النبي ص

وعن رويفع بن ثابت الأنصارى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى على محمد، وقال: اللهم أنزله المقعد الصدق المقرب عندك يوم القيامة، وجبت له شفاعتى» «1» . رواه الطبرانى. قال ابن كثير: وإسناده حسن ولم يخرجوه. وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبى الأمى وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد» «2» رواه أبو داود. وعن طاووس: سمعت ابن عباس يقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى، وارفع درجته العليا، وأعطه سؤله فى الآخرة والأولى، كما آتيت إبراهيم وموسى. رواه إسماعيل القاضى. قال ابن كثير: وإسناده جيد قوى صحيح. [مواطن الصلاة على النبي ص] وأما المواطن التى تشرع فيها الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم-. فمنها: التشهد الأخير، وهى واجبة فيه، كما قدمنا، وفى وجوبها فى التشهد الأول قولان، أظهرهما المنع، لبنائه على التخفيف، بل هى سنة، وفى استحباب الصلاة على الآل فى التشهد الأول القولان، وفى وجوبها فى الأخير رأيان: أصحهما المنع، بل هى سنة تابعة، وأقلها اللهم صل على محمد، وكذا: صلى الله على محمد، وأقلها على الآل: وآله. وقال فى «الكفاية» بإعادة «على» . ومنها: خطبة الجمعة، وكذا غيرها من الخطب، فلا تصح خطبتا الجمعة إلا بها، لأنها عبادة. وذكر الله فيها شرط، فوجب ذكر الرسول فيها كالأذان والصلاة، وهذا مذهب الشافعى وأحمد. ومنها: عقب إجابة المؤذن، لما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو ابن العاصى، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على صلاة واحدة صلى الله عليه بها

_ (1) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (5/ 25 و 26) . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (982) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

تنبيه:

عشرا، ثم سلوا الله لى الوسيلة، فإنها منزلة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة» «1» وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذى والنسائى من حديث كعب ابن علقمة، وذكره بلفظ «الرجاء» وإن كان متحقق الوقوع أدبا وإرشادا منه وتذكيرا بالخوف، وتفويضا إلى الله بحسب مشيئته، وليكون الطالب للشىء بين الرجاء والخوف. وقوله: «حلت عليه الشفاعة» أى وجبت، وقيل غشيته ونزلت به. تنبيه: قال شيخنا فى «المقاصد الحسنة» : حديث «الدرجة الرفيعة» المدرج فيما يقال بعد الأذان، لم أره فى شىء من الروايات، وأصل الحديث عند أحمد والبخارى والأربعة عن جابر مرفوعا: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته، حلت له شفاعتى يوم القيامة) «2» : قال وكأن من زادها اغتر بما وقع فى بعض نسخ «الشفاء» من حديث جابر المشار إليه، لكن مع زيادتها فى هذه النسخة المعتمدة علم عليها كاتبها بما يشير إلى الشك فيها، ولم يرها فى سائر نسخ الشفاء، بل فى الشفاء عقد لها فصلا فى مكان آخر ولم يذكر فيه حديثا صريحا، وهو دليل لغلطها. انتهى والله أعلم. ومنها: أول الدعاء وأوسطه وآخره، لما روى أحمد من حديث جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تجعلونى كقدح الراكب، فإن الراكب يملأ

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (384) فى الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، وأبو داود (523) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع المؤذن، والترمذى (3614) فى المناقب، باب: فى فضل النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (2/ 168) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (614) فى الأذان، باب: الدعاء عند الأذان، وأبو داود (529) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع الإقامة، والترمذى (211) فى الصلاة، باب: منه آخر، والنسائى (3/ 26- 28) فى الأذان، باب: الدعاء عند الأذان، وابن ماجه (722) فى الأذان، باب: ما يقال إذا أذن المؤذن، وأحمد فى «المسند» (3/ 354) .

ومنها: وهو من آكدها، عقب دعاء القنوت،

قدحه ثم يضعه ويرفع متاعه فإذا احتاج إلى شراب شرب، أو الوضوء توضأ، وإلا أهراقه، ولكن اجعلونى فى أول الدعاء وأوسطه وآخره» «1» . ومنها: وهو من آكدها، عقب دعاء القنوت، لما رواه أحمد وأهل السنن، وابن جرير وابن حبان والحاكم، من حديث أبى الجوزاء، عن الحسن ابن على قال: علمنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن فى الوتر: (اللهم اهدنى فيمن هديت، وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت، وقنى شر ما قضيت، فإنك تقضى ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، [ولا يعز من عاديت] «2» تباركت ربنا وتعاليت) «3» وزاد النسائى فى سننه: وصلى الله على النبى، وسيأتى فى المقصد التاسع البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى-. ومنها: أثناء تكبيرات العيدين، لما روى إسماعيل القاضى أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة، خرج عليهم الوليد بن عقبة فقال: إن هذا العيد قد دنا، فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبتدئ فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك وتصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم تدعو وتكبر، وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تقرأ ثم تكبر وتركع، ثم تقوم فتكبر وتحمد ربك وتصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تركع. فقال حذيفة وأبو موسى صدق أبو عبد الرحمن. قال ابن كثير: إسناده صحيح.

_ (1) أخرجه عبد بن حميد فى «منتخبه» (132) ، والقضاعى فى «مسند الشهاب» (2/ 89) ولم أقف عليه فى المسند. (2) زيادة من بعض المصادر، انظر «صفة صلاة النبى» للشيخ الألبانى (ص 161) . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (1425) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (464) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، والنسائى (3/ 248) في قيام الليل، باب: الدعاء فى الوتر، وابن ماجه (1178) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، وأحمد فى «المسند» (1/ 200) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (429) .

ومنها: عند دخول المسجد والخروج منه،

ومنها: عند دخول المسجد والخروج منه، لما رواه أحمد عن فاطمة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد صلى على محمد ثم قال: «اللهم اغفر لى ذنوبى وافتح لى أبواب رحمتك» ، وإذا خرج صلى على محمد ثم قال: «اللهم اغفر لى ذنوبى وافتح لى أبواب فضلك» » . ومنها: فى صلاة الجنازة، فإن السنة أن يقرأ الفاتحة بعد إحدى التكبيرات، وبعد الأولى أولى، وأن يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد الثانية، ويدعو للميت بعد الثالثة، وبعد الرابعة يقول: «اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده» «2» . وفى ذلك حديث رواه الشافعى والنسائى. ومنها: عند التلبية، لما رواه الشافعى والدار قطنى عن القاسم بن محمد ابن أبى بكر الصديق قال: كان يؤمر الرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- على كل حال. ومنها: عند الصفا والمروة، لما روى إسماعيل القاضى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعا، وصلوا عند المقام ركعتين، ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون البيت فكبروا سبع تكبيرات، تكبيرا بعد حمد الله وثناء عليه، وصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- ومسألة لنفسك، وعلى المروة مثل ذلك. قال ابن كثير: إسناده حسن جيد قوى. ومنها: عند الإجماع والتفرق، لما روى الترمذى عن أبى هريرة أن

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (314) فى الصلاة، باب: ما يقول عند دخول المسجد، وابن ماجه (771) فى المساجد، باب: الدعاء عند دخول المسجد، وأحمد فى «المسند» (6/ 282 و 283) بسند منقطع. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (3201) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، وابن ماجه (1498) فى الجنائز، باب: ما جاء فى الدعاء فى الصلاة على الجنازة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، مقتصرا على الدعاء فقط، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ومنها: عند الصباح والمساء،

رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيه إلا كان عليه ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم» «1» . وروى إسماعيل القاضى عن أبى سعيد قال: ما من قوم يقاعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبى- صلى الله عليه وسلم- إلا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب «2» . ومنها: عند الصباح والمساء، لما روى الطبرانى من حديث أبى الدرداء مرفوعا: «من صلى على حين يصبح عشرا، وحين يمسى عشرا، أدركته شفاعتى يوم القيامة» «3» . ومنها: عند الوضوء، لحديث ابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا وضوء لمن لم يصل على النبى- صلى الله عليه وسلم-» «4» . ومنها: عند طنين الأذن، لحديث أبى رافع عند ابن السنى مرفوعا: «إذا طنت أذن أحدكم فليذكرنى، وليصل على وليقل ذكر الله من ذكرنى بخير» «5» . ومنها: عند نسيان الشىء، لحديث أبى موسى المدينى، بسند فيه ضعف، عن أنس يرفعه: «إذا نسيتم شيئا فصلوا على تذكروه إن شاء الله تعالى» . ومنها: بعد العطاس، كما ذهب إليه أبو موسى المدينى وجماعة،

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3380) فى الدعوات، باب: ما جاء فى القوم يجلسون ولا يذكرون الله، وأحمد فى «المسند» (2/ 432 و 453 و 481) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) الحديث الدال على ذلك أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10243) . (3) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 120) وقال: رواه الطبرانى بإسنادين، وإسناد أحدهما جيد ورجاله وثقوا. (4) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الأوسط كما فى «ضعيف الجامع» (6316) . (5) موضوع: أخرجه الحكيم وابن السنى والعقيلى فى الضعفاء والطبرانى فى الكبير، وابن عدى فى الكامل، كما فى «ضعيف الجامع» (586) .

ومنها: عند زيارة قبره الشريف،

ونازعهم فى ذلك آخرون، وقالوا: هذا موطن يفرد فيه ذكر الله تعالى، كالأكل والشرب والوقاع ونحو ذلك. ومنها: عند زيارة قبره الشريف، لحديث أبى داود عن أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام» «1» . وروى ابن عساكر: «من صلى على عند قبرى سمعته» وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة وليلتها، فعن أوس بن أوس الثقفى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا على من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة على» ، قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت- يعنى: وقد بليت- قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» «2» ، رواه أحمد وأبو داود والنسائى. وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والدارقطنى. [الإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة] قال الحافظ ابن كثير: وقد روى البيهقى من حديث أبى أمامة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- الأمر بالإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم الجمعة، ولكن فى إسناده ضعف. فإن قلت: ما الحكمة فى خصوصية الإكثار من الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة وليلتها؟ أجاب ابن القيم بأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيد الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيام، فللصلاة عليه فيه مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى، وهى أن كل خير نالته أمته فى الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده- صلى الله عليه وسلم-، فجمع الله لأمته بين خيرى الدنيا والآخرة، وأعظم كرامة تحصل لهم فإنها تحصل لهم يوم الجمعة، فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم فى الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، وهو يوم عيدهم فى الدنيا، ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يرد سائلهم، وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (2041) فى المناسك، باب: زيارة القبور، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (5679) . (2) صحيح: وقد تقدم.

فضيلة الصلاة على النبي ص

بسببه وعلى يده، فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقه- صلى الله عليه وسلم- أن يكثر من الصلاة عليه فى هذا اليوم وليلته. [فضيلة الصلاة على النبي ص] وأما فضيلة الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- فقد ورد التصريح بها فى أحاديث قوية، لم يخرج البخارى منها شيئا، أمثلها ما أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة، عن النبى- صلى الله عليه وسلم- «من صلى على واحدة صلى الله عليه بها عشرا» «1» . وعن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاجة، فلم يجد أحدا يتبعه، فأتاه عمر بمطهرة من خلفه، فوجد النبى- صلى الله عليه وسلم- ساجدا، فتنحى عنه حتى رفع النبى- صلى الله عليه وسلم- رأسه، فقال: «أحسنت يا عمر حين وجدتنى ساجدا فتنحيت عنى، إن جبريل أتانى فقال: من صلى عليك من أمتك واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، ورفعه عشر درجات» «2» . رواه الطبرانى وقال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح قال ابن كثير: وقد اختار هذا الحديث الحافظ الضياء المقدسى فى كتابه «المستخرج على الصحيحين» . وعن أبى طلحة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء ذات يوم والسرور يرى فى وجهه، فقالوا: يا رسول الله إنا لنرى السرور فى وجهك، فقال: «إنه أتانى الملك فقال: يا محمد، أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلى عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا، قال: بلى» «3» ، رواه الدارمى وأحمد وابن حبان والحاكم والنسائى، واللفظ له.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (408) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد. (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 287) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والصغير ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبرانى محمد بن عبد الرحيم بن بحير المصرى، ولم أجد من ذكره. (3) حسن: أخرجه النسائى (3/ 44) فى السهو، باب: فضل التسليم على النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (4/ 29 و 30) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

وعن عامر بن ربيعة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى على صلاة لم تزل الملائكة تصلى عليه ما صلى على، فليقلّ عبد من ذلك أو ليكثر» «1» . رواه أحمد وابن ماجه من حديث شعبة. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: من صلى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة صلى الله عليه وملائكته بها سبعين صلاة، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر «2» ، رواه أحمد. والتخيير بعد الإعلام بما فيه الخيرة فى المختبر فيه على جهة التحذير من التفريط فى تحصيله، وهو قريب من معنى التهديد. وروى الترمذى، أن أبى بن كعب قال: يا رسول الله، إنى أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتى؟ قال: «ما شئت» ، قلت: الربع؟ قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير لك» ، قلت: فالنصف؟ قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير لك» ، قلت: فالثلثين؟ قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير لك» ، قلت: أجعل لك صلاتى كلها، قال: «إذن تكفى همك، ويغفر ذنبك» «3» . ثم قال: هذا حديث حسن. فهذا ما يتعلق بالصلاة، وأما السلام فقال النووى: يكره إفراد الصلاة عن السلام، واستدل بورود الأمر بهما معا فى الآية، يعنى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «4» . وتعقبوه: بأن النبى- صلى الله عليه وسلم- علم أصحابه التسليم قبل تعليمهم الصلاة، كما هو مصرح به فى قولهم: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلى عليك، وقوله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن علمهم الصلاة والسلام: «كما قد علمتم» ، فأفرد التسليم مدة قبل الصلاة عليه. لكن قال فى فتح البارى: إنه

_ (1) أخرجه الطيالسى عن أبى هريرة، كما فى «كنز العمال» (18902) . (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 172) . (3) حسن: أخرجه الترمذى (2457) فى صفة القيامة، باب: منه، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) سورة الأحزاب: 56.

يكره أن يفرد الصلاة ولا يسلم أصلا، أما لو صلى فى وقت، وسلم فى وقت آخر فإنه يكون ممتثلا. وقال أبو محمد الجوينى من أصحابنا: السلام بمعنى الصلاة، فلا يستعمل فى الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: على عليه السلام، سواء فى هذا الأحياء والأموات، وأما الحاضر فيخاطب به فيقال: سلام عليك، أو عليكم، أو السلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه انتهى. وقد جرت عادة بعض النساخ أن يفردوا عليّا وفاطمة- رضى الله عنهما- بالسلام، فيقولو: عليه أو عليها السلام من دون سائر الصحابة فى ذلك، وهذا وإن كان معناه صحيحا لكن ينبغى أن يساوى بين الصحابة- رضى الله عنهم- فى ذلك، فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، والشيخان وعثمان أولى بذلك منهما، أشار إليه ابن كثير. وأما الصلاة على غير النبى- صلى الله عليه وسلم- فاختلف فيها. وأخرج البيهقى بسند واه من حديث بريدة رفعه: «لا تتركن فى التشهد الصلاة على وعلى أنبياء الله» . وأخرج إسماعيل القاضى بسند ضعيف من حديث أبى هريرة: «صلوا على أنبياء الله» . وأخرج الطبرانى من حديث ابن عباس رفعه: «إذا صليتم على فصلوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثنى» «1» . وثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبى- صلى الله عليه وسلم-. أخرجه ابن أبى شيبة من طريق عثمان عن عكرمة عنه قال: «ما أعلم الصلاة تنبغى على أحد من أحد إلا على النبى- صلى الله عليه وسلم-» . وسنده صحيح. وحكى القول به عن مالك، وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز. وقال سفيان: يكره أن يصلى إلا على نبى. وعن بعض شيوخ مذهب مالك: لا يجوز أن يصلى إلا على محمد. قالوا: وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال: أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغى لنا أن نتعدى ما أمرنا به. وخالفه يحيى بن يحيى

_ (1) حسن: أخرجه ابن أبى عمر، والبيهقى فى الشعب عن أبى هريرة، والخطيب عن أنس، كما فى «صحيح الجامع» (3782) .

فقال: لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعاء بالرحمة، فلا تمنع إلا بنص أو إجماع. وأما الصلاة على غير الأنبياء، فإن كان على سبيل التبعية كما تقدم فى الحديث: اللهم صل على محمد وآل محمد ونحوه، فهو جائز بالإجماع. وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم. فقال قائلون بجواز ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ «1» وبقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ «2» ، وبقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ «3» ، وبحديث عبد الله بن أبى أوفى قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صل عليهم» ، فأتاه أبى بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبى أوفى» «4» أخرجه الشيخان. وقال الجمهور من العلماء: لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة، لأن هذا قد صار شعارا للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال أبو بكر صلى الله عليه وسلم. أو: قال على صلى الله عليه وسلم، وإن كان المعنى صحيحا، كما لا يقال: قال محمد عز وجل، وإن كان عزيزا جليلا، لأن هذا من شعار ذكر الله عز وجل. وحملوا ما ورد فى ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء لهم، ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبى أوفى. وهذا مسلك حسن. وقال آخرون: لا يجوز ذلك، لأن الصلاة على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل الأهواء، يصلون على من يعتقدون فيهم، فلا يقتدى بهم فى ذلك. ثم اختلف المانعون من ذلك: هل هو من باب التحريم، أو كراهة

_ (1) سورة الأحزاب: 43. (2) سورة البقرة: 157. (3) سورة التوبة: 103. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1498) فى الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ومسلم (1078) فى الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقته.

الفصل الثالث فى ذكر محبة أصحابه ص وقرابته وأهل بيته وذريته

التنزيه، أو خلاف الأولى؟ على ثلاثة أقوال، حكاها النووى فى كتاب «الأذكار» ، ثم قال: والصحيح الذى عليه الأكثرون، أنه مكروه كراهة تنزيه، لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم. الفصل الثالث فى ذكر محبة أصحابه ص وقرابته وأهل بيته وذريته [فى ذكر محبة آله ص وقرابته وأهل بيته وذريته] قال الطبرى: اعلم أن الله تعالى لما اصطفى نبيه- صلى الله عليه وسلم- على جميع من سواه، وخصه بما عمه به من فضله الباهر وحباه، أعلى ببركته من انتمى إليه نسبا أو نسبة، ورفع من انطوى عليه نصرة وصحبة، وألزم مودة قرباه كافة بريته، وفرض محبة جملة أهل بيته المعظم وذريته، فقال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» . ويروى أنها لما نزلت قالوا: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء؟ قال: «على وفاطمة وابناهما» . وقال تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2» . وقد اختلف فى المراد بأهل البيت فى هذه الآية. فروى ابن أبى حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت فى نساء النبى- صلى الله عليه وسلم- وروى ابن جرير عن عكرمة، أنه كان ينادى فى السوق إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «3» قال: نزلت فى نساء النبى- صلى الله عليه وسلم-. قال الحافظ ابن كثير: وهذا يعنى: ما فى الآية نص فى دخول أزواجه- صلى الله عليه وسلم- لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وقيل: المراد النبى- صلى الله عليه وسلم-.

_ (1) سورة الشورى: 23. (2) سورة الأحزاب: 33. (3) سورة الأحزاب: 33.

قال عكرمة: من شاء باهلته «1» أنها نزلت فى نساء النبى- صلى الله عليه وسلم-. فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن ففى هذا نظر فإنه قد ورد فى ذلك أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك. فروى الإمام أحمد عن واثلة ابن الأسقع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء ومعه على وحسن وحسين آخذ كل واحد منهما بيده، حتى دخل فأدنى عليّا وفاطمة وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه- أو قال: كساءه- ثم تلا هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2» وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتى، وأهل بيتى أحق» «3» . زاد فى رواية ابن جرير، فقلت: وأنا يا رسول الله من أهلك، قال: وأنت من أهلى. قال واثلة: وإنها أرجى ما أرتجى. وعن أم سلمة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فى بيتها، إذ جاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فدخلت عليه بها، فقال: «ادعى زوجك وابنيك» قالت: فجاء على وحسن وحسين فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وتحته كساء، قالت: وأنا فى الحجرة أصلى، فينزل الله عز وجل هذه الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «4» قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتى وحامتى فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» ، قالت: فأدخلت رأسى من البيت فقلت وأنا معكم يا رسول الله فقال: «إنك

_ (1) المباهلة: الملاعنة، وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا فى شىء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. (2) سورة الأحزاب: 33. (3) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (3205) فى التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، و (3787) فى المناقب، باب: مناقب أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (4/ 107) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» وهو عند الترمذى من حديث عمر بن أبى سلمة- رضى الله عنه-. (4) سورة الأحزاب: 33.

إلى خير، إنك إلى خير» «1» . رواه أحمد فى إسناده من لم يسم وبقية إسناده ثقات. وقوله: «حامتى» بالتشديد، أى خاصتى. وعن أبى سعيد قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نزلت هذه الآية فى خمسة: فىّ وفى على وحسن وحسين وفاطمة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2» » رواه ابن جرير، ورواه أحمد فى المناقب، والطبرانى. وعن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتينى رسول ربى عز وجل فأجيبه، وإنى تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله عز وجل، فيه الهدى والنور، فتمسكوا بكتاب الله عز وجل، وخذوا به» ، وحث فيه ورغب فيه ثم قال: «وأهل بيتى، أذكركم الله عز وجل فى أهل بيتى» ، ثلاث مرات. فقيل لزيد: من أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: بلى، إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل على وال جعفر وآل عقيل وآل العباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم «3» ، خرجه مسلم، و «الثقل» محركة كما فى القاموس كل شىء نفيس مصون، قال: ومنه حديث «إنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتى» «4» ، وهى بكسر المهملة وسكون المثناة الفوقية. والأخذ بهذا الحديث أحرى، وليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هن مع أهله، ولا يشك من تدبر القرآن أن نساء النبى- صلى الله عليه وسلم- داخلات فى الآية الكريمة، فإن

_ (1) صحيح: وقد تقدم فيما قبله. (2) سورة الأحزاب: 33. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2408) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (2786) فى المناقب، باب: مناقب أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم-، والطبرانى فى «الكبير» (3/ 66) من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

سياق الكلام معهن، ولهذا قال بعد هذا كله وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ» . وهذا اختيار ابن عطية بعد أن نقل أن الجمهور على أنّهم: على وفاطمة والحسن والحسين. قال: وحجة الجمهور قوله تعالى: عَنْكُمُ، وَيُطَهِّرَكُمْ «2» ب «الميم» ولو كان للنساء خاصة لقال: عنكن. وأجيب أن الخطاب بلفظ التذكير وقع على سبيل التغليب. فيكون المراد به كالمراد ب «آل» فى حديث كيفية الصلاة عليه السابق ذكره، على قول من فسره به، كما قدمته مع غيره قريبا فى الفصل السابق، والله أعلم. ولله در القائل: يا آل بيت رسول الله حبكم ... فرض من الله فى القرآن أنزله يكفيكم من عظيم الفضل أنكم ... من لم يصل عليكم لا صلاة له وأخرج أحمد عن أبى سعيد معنى حديث زيد بن أرقم السابق مرفوعا بلفظ: «إنى أوشك أن أدعى فأجيب، وإنى تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتى، وإن اللطيف الخبير أخبرنى أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا بماذا تخلفونى فيهما» «3» وعترة الرجل- كما قاله الجوهرى-: أهله ونسله، ورهطه الأدنون، أى الأقارب. وعن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- أنه قال: (يا أيها الناس ارقبوا محمدا فى أهل بيته) «4» رواه البخارى. والمراقبة للشىء: المحافظة عليه، يقول: احفظوهم فلا تؤذوهم. وقال أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- كما فى البخارى أيضا- (لقرابة رسول

_ (1) سورة الأحزاب: 34. (2) سورة الأحزاب: 33. (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 14 و 17 و 26 و 59) ، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (3713) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب قرابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

الله- صلى الله عليه وسلم- أحب إلىّ أن أصل من قرابتى) «1» وهذا قاله على سبيل الاعتذار لفاطمة من منعه إياها ما طلبته منه من تركة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقد جرى منه على موجب الإيمان، لأنه- صلى الله عليه وسلم- شرط الأحبية فيه على النفس والمال والولد، كما ذكرته فى الفصل الأول من هذا المقصد. ثم إنه- صلى الله عليه وسلم- أثبت لأقاربه ما أثبت لنفسه من ذلك فقال: «من أحبهم فبحبى أحبهم» «2» وحثنا على ذلك شفقة منه علينا- صلوات الله وسلامه عليه وعليهم-، ولقد أحسن القائل: رأيت ولائى آل طه فريضة ... على رغم أهل البعد يورثنى القربى فما طلب المبعوث أجرا على الهدى ... بتبليغه إلا المودة فى القربى وفى الترمذى- وقال: حديث حسن غريب-: «أحبوا الله لما يغذوكم به، وأحبونى بحب الله، وأحبوا أهل بيتى بحبى» «3» . وفى المناقب لأحمد: من أبغض أهل البيت فهو منافق. وروى ابن سعد: من صنع إلى أحد من أهل بيتى معروفا، فعجز عن مكافأته فى الدنيا، فأنا المكافىء له فى يوم القيامة. والمراد بالقرابة من ينتسب إلى جده الأقرب، وهو عبد المطلب، ممن صحب النبى- صلى الله عليه وسلم-، أو رآه من ذكر وأنثى، وهم: * على وأولاده: الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم من فاطمة- رضى الله عنها-. * وجعفر بن أبى طالب وأولاده: عبد الله، وعون، ومحمد، ويقال إنه كان لجعفر بن أبى طالب ابن اسمه أحمد.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3712) فيما سبق. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3862) فى المناقب، باب: رقم (59) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 87) و (5/ 54 و 57) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7256) ، إلا أن الحديث ضعفه الشيخ الألبانى «ضعيف الجامع» (1160) . (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3789) فى المناقب، باب: مناقب أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- والحاكم فى «المستدرك» (3/ 162) ، والطبرانى فى «الكبير» (3/ 46) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

* وعقيل بن أبى طالب، وولده مسلم بن عقيل. * وحمزة بن عبد المطلب، وأولاده: يعلى، وعمارة، وأمامة. * والعباس بن عبد المطلب، وأولاده الذكور العشرة، وهم: الفضل، وعبد الله، وقثم، وعبيد الله، والحارث، ومعبد، وعبد الرحمن، وكثير، وعون، وتمام، وفيه يقول العباس- رضى الله عنه-: تموا بتمام فصاروا عشرة ... يا رب فاجعلهم كراما بررة ويقال: إن لكل منهم رؤية، وكان له من الإناث: أم حبيبة، وآمنة، وصفية، وأكثرهم من لبابة أم الفضل. * ومعتب بن أبى لهب، والعباس بن أبى لهب «1» ، وكان زوج آمنة بنت العباس. * وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وأخته ضباعة، وكانت زوج المقداد بن الأسود. * وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابنه جعفر. * ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وابناه: المغيرة والحارث، ولعبد الله بن الحارث هذا رؤية. وكان يلقب «ببة» بموحدتين، الثانية ثقيلة. * وأميمة وأروى وعاتكة وصفية بنات عبد المطلب، أسلمت صفية وصحبت، وفى الباقيات خلاف، والله أعلم. وفى البخارى من حديث سعد بن أبى وقاص أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال لعلى: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبى بعدى» «2» وفى لفظ آخر (أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى) أى نازلا منى منزلة هارون من موسى. والباء زائدة.

_ (1) هو: العباس بن عتبة بن أبى لهب، وقد نسبه المصنف لجده بدلا من أبيه. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3706) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب على بن أبى طالب القرشى الهاشمى- رضى الله عنه-، ومسلم (2404) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على- رضى الله عنه-.

وقال الطيبى: معنى الحديث: أنت متصل بى نازل منى منزلة هارون من موسى. وفيه تشبيه مبهم بينه بقوله: (إلا أنه لا نبى بعدى) «1» فعرف أن الاتصال بينهما ليس من جهة النبوة، بل من جهة ما دونها وهو الخلافة، ولما كان هارون المشبه به، إنما كان خليفة فى حياة موسى، دل ذلك على تخصيص خلافة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بحياته والله أعلم. وأما ما استدل به من هذا الحديث على استحقاق على للخلافة دون غيره من الصحابة، فإن هارون كان خليفة موسى، فأجيب: بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا فى حياته لا بعد موته، لأنه مات قبل موسى باتفاق. أشار إلى ذلك الخطابى. وأما حديث الترمذى والنسائى «من كنت مولاه فعلى مولاه» «2» فقال الشافعى: يعنى بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ «3» وقول عمر: أصبحت مولى كل مؤمن، أى ولى كل مؤمن. وطرق هذا الحديث كثيرة جدّا، استوعبها ابن عقدة فى كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من آذى عليّا فقد آذانى» «4» خرجه أحمد. وأخرج المخلص الذهبى: «من أحب عليّا فقد أحبنى» . وقد ذكر النقاش: أن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «5» نزلت فى على: وقال محمد ابن الحنفية: لا تجد مؤمنا إلا وهو يحب عليّا وأهل بيته. وقال أبو حيان فى «البحر» : ومن الغريب ما أنشدنا الإمام اللغوى رضى الدين أبو عبد الله بن يوسف الأنصارى الشاطبى لزبينا بن إسحاق النصرانى الرسعنى:

_ (1) صحيح: وقد تقدم، وهى رواية مسلم السابقة. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (3713) فى المناقب، باب: مناقب على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، من حديث أبى سريحة، أو زيد بن أرقم- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6523) . (3) سورة محمد: 11. (4) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 483) ، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 133) . (5) سورة مريم: 96.

عدى وتيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء ولكنى محب لهاشم وما يعترينى فى على ورهطه ... إذا ذكروا فى الله لومة لائم يقولون ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النهى من أعرب وأعاجم فقلت لهم أنى لأحسب حبهم ... سرى فى قلوب الخلق حتى البهائم وقالت عائشة- رضى الله عنها-: كانت فاطمة أحب الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وزوجها أحب الرجال إليه «1» . رواه الترمذى. وفى البخارى: «إن فاطمة بضعة منى، فمن أغضبها أغضبنى» «2» و «البضعة» بفتح الباء الموحدة، وحكى ضمها وكسرها أيضا، وبسكون المعجمة، أى قطعة لحم. واستدل به السهيلى على أن من سبها فإنه يكفر. وفى الترمذى من حديث أسامة بن زيد- وقال حسن غريب- إنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى حسن وحسين: «اللهم إنى أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما» «3» . وخرجه مسلم من حديث أبى هريرة فى الحسن خاصة «4» ، زاد أبو حاتم فما كان أحد أحب إلى من الحسن بعد ما قال- صلى الله عليه وسلم- ما قال. وفى حديث أبى هريرة أيضا عند الحافظ السلفى قال: ما رأيت الحسن ابن على قط إلا فاضت عيناى دموعا، وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج يوما وأنا فى المسجد فأخذ بيدى واتكأ على حتى جئنا سوق قينقاع، فنظر فيه ثم رجع حتى جلس فى المسجد ثم قال: «ادع ابنى» ، قال: فأتى الحسن بن

_ (1) منكر: أخرجه الترمذى (3868) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل فاطمة بنت محمد- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 168) من حديث بريدة، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» منكر. (2) صحيح: وقد تقدم. (3) حسن: أخرجه الترمذى (3769) فى المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين- رضى الله عنهما-، وابن حبان فى «صحيحه» (6967) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5884) فى اللباس، باب: السخاب للصبيان، ومسلم (2421) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل الحسن والحسين- رضى الله عنهما-.

على يشتد حتى وقع فى حجره، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفتح فمه، ثم يدخل فمه فى فمه ويقول: «اللهم إنى أحبه فأحبه وأحب من يحبه» «1» ، ثلاث مرات. وفى الترمذى من حديث أنس، أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يشمهما ويضمهما إليه، وقال: «من أحبنى وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معى فى درجتى يوم القيامة» «2» ، رواه أحمد، وقال الترمذى: «كان معى فى الجنة» ، وقال: حديث غريب. وليس المراد بالمعية هنا المعية من حيث المقام، بل من حيث رفع الحجاب، وتقدم نحوه فى قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ «3» فى المقصد السادس. وفى حديث أبى زهير بن الأرقم عن رجل من الأزد أنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى الحسن «من أحبنى فليحبه، فيبلغ الشاهد الغائب» . وفى البخارى: «هما ريحانتاى من الدنيا» «4» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يمص لسان الحسن أو شفته «5» ، رواه أحمد. وعن عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر، وحمل الحسن وهو يقول: بأبى شبيه بالنبى، ليس شبيها بعلى. وعلى يضحك «6» . وعن محمد بن

_ (1) صحيح: وهو رواية مسلم (2421) (57) السابقة دون ذكر ثلاث مرات. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3733) فى المناقب، باب: مناقب على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، وأحمد فى «المسند» (1/ 77) من حديث على- رضى الله عنه-، وليس أنس كما ذكر المصنف، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (3) سورة النساء: 69. (4) صحيح: أخرجه البخارى (3753) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب الحسن والحسين- رضى الله عنهما-، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (5) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 93) ، من حديث معاوية- رضى الله عنه-. (6) صحيح: أخرجه البخارى (3542) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو فى «صحيح البخارى» ، بلفظ (شبيه) بدل (شبيها) على أن (ليس) حرف عطف، وهو مذهب كوفى.

سيرين عن أنس: كان- يعنى الحسين- أشبههم برسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . رواهما البخارى. وعنده عن رواية الزهرى عن أنس (لم يكن أحد أشبه بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من الحسن بن على) «2» وهذا قد يعارضه قول على فى صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لم أر قبله ولا بعده مثله» ، أخرجه الترمذى فى الشمائل كما تقدم فى المقصد الثالث، وأجيب: بأن يحمل النفى على عموم الشبه، والإثبات على معظمه. وقول أنس: (لم يكن أحد أشبه بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من الحسن بن على) قد يعارض رواية ابن سيرين عنه السابقة (كان الحسين- يعنى بالياء- أشبههم بالنبى- صلى الله عليه وسلم-) ويمكن الجمع بأن يكون أنس قال ما وقع فى رواية الزهرى فى حياة الحسن، لأنه كان يومئذ أشد شبها بالنبى- صلى الله عليه وسلم- من أخيه الحسين. وأما ما وقع فى رواية ابن سيرين فكان بعد ذلك، أو المراد بمن فضل عليه الحسين فى الشبه، كان من عدا الحسن، ويحتمل أن يكون كل منهما كان أشد شبها به فى بعض أعضائه، فقد روى الترمذى وابن حبان من طريق هانئ بن هانئ عن على قال: الحسن أشبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما بين الرأس إلى الصدر، والحسين أشبه النبى- صلى الله عليه وسلم- ما كان أسفل من ذلك «3» . وقد عدوا من كان له شبه بالنبى- صلى الله عليه وسلم- سوى الحسن والحسين جعفر بن أبى طالب، وقد قال- صلى الله عليه وسلم- لجعفر: «أشبهت خلقى وخلقى» «4» قال الترمذى: حسن صحيح. وابنه عبد الله بن جعفر. وقثم بن العباس بن عبد المطلب. وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. ومسلم بن عقيل بن

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3748) فى فضائل الصحابة، باب: مناقب الحسن والحسين- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3752) فيما سبق. (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3779) فى المناقب، باب: رقم (109) ، وأحمد فى «المسند» (1/ 99) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (4) صحيح: أخرجه الترمذى (3765) فى المناقب، باب: مناقب جعفر بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

أبى طالب. ومن غير بنى هاشم: السائب بن يزيد المطلبى، الجد الأعلى للإمام الشافعى. وعبد الله بن عامر بن كريز- بضم الكاف وفتح الراء- وكابس بن ربيعة رجل من أهل البصرة، وجه إليه معاوية، وقبله بين عينيه وأقطعه قطيعة، وكان أنس إذا رآه بكى. فهؤلاء عشرة، ونظمهم شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل ابن حجر فقال: شبه النبى لعشر سائب وأبى ... سفيان والحسنين الطاهرين هما وجعفر وابنه ثم ابن عامرهم ... ومسلم كابس يتلوه مع قثما وعدهم بعضهم: سبعة وعشرين. وممن كان يشبهه أيضا: فاطمة ابنته، وإبراهيم ولده. وولدا جعفر، عبد الله- السابق ذكره- وأخوه عون. وكان يشبهه أيضا من أهل البيت غير هؤلاء: إبراهيم بن الحسين بن الحسن بن على ابن أبى طالب. ويحيى بن القاسم بن محمد بن جعفر بن على بن الحسين ابن على، وكان يقال له: الشبيه. قال الشريف محمد بن أسعد النسابة فى الزورة الأنيسة لمشهد السيدة نفيسة أنه كان ليحيى هذا موضع خاتم النبوة شامة قدر بيضه الحمامة، تشبه خاتم النبوة، وكان إذا دخل الحمام ورآه الناس صلوا على النبى- صلى الله عليه وسلم- وازدحموا عليه يقبلون ظهره تبركا، ولذا وصف بالشبيه. والقاسم بن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبى طالب. وعلى بن على بن نجاد بن رفاعة الرفاعى، شيخ بصرى من أتباع التابعين. والمراد بالشبه هنا، الشبه فى البعض، وإلا فتمام حسنه- صلى الله عليه وسلم- منزه عن الشريك، كما قال الأبوصيرى- رحمه الله- وأجاد: منزه عن شريك فى محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم كما أشرت إليه فى أول المقصد الثالث. وقد أطلت المقال، وإنما جرنى إلى ذلك ذكر حمل الصديق للحسن على عاتقه، المشعر بالإكرام من أفضل البشر بعد النبيين، لأهل البيت المحمدى، وحملهم على الأعناق، ولا سيما مع قوله- رضى الله عنه- لقرابة رسول

الله- صلى الله عليه وسلم- أحب إلى أن أصل من قرابتى «1» ، فلما تضمن هذا الحديث ذلك الشبه الكريم جرنى الكلام إليه، وهذا وقع لى كثير فى هذا المجموع لكنه لا يخلو عن فرائد الفوائد. وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «العباس بن عبد المطلب منى وأنا منه، لا تؤذوا العباس فتؤذنى، من سب العباس فقد سبنى» «2» أخرجه البغوى فى معجمه. وقال- صلى الله عليه وسلم- للعباس أيضا: «والذى نفسى بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله» ، ثم قال: «أيها الناس، من آذى عمى فقد آذانى، فإنما عم الرجل صنو أبيه» «3» رواه الترمذى وقال: حسن صحيح. وفى قوله: «لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم» الإشارة إلى الإيمان الحقيقى المنجى، وهو التصديق القلبى، وبين المحبة والإيمان ارتباط من جهة أن المحبة ميل القلب إلى المحبوب، والإيمان التصديق القلبى، فيجتمعان فى القلب، وجعلهما متلازمين، فيلزم من نفى أحدهما نفى الآخر، ثم علل هذه المحبة بكونها لله ولرسوله، فلا عبرة بمحبة تكون لغير ذلك، ثم جعل أذاه كأذى نفسه، لأنه عضوه وعصبه، ثم عظم مقامه بتنزيله منزلة الأب، فكما أنه يجب على الولد تعظيم والده والقيام بحقوقه فكذلك عمه، فقال: «وإنما عم الرجل صنو أبيه» وهو بكسر الصاد المهملة وسكون النون، أى: مثل أبيه، قال ابن الأثير: وأصله أن تطلع نخلتان من عرق واحد، يريد أن أصل العباس وأصل أبى واحد، انتهى. وجلله- صلى الله عليه وسلم- وبنيه بكساء ثم قال: «اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبا، اللهم احفظه فى ولده» «4» رواه الترمذى وقال:

_ (1) صحيح: وقد تقدم قريبا. (2) أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس، كما فى «كنز العمال» (33407) . (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3758) فى المناقب، باب: مناقب العباس بن عبد المطلب- رضى الله عنه-، وأحمد فى «المسند» (1/ 207) و (4/ 165) والحديث ضعفه الشيخ الألبانى إلا طرفه الأخير. (4) حسن: أخرجه الترمذى (3762) فيما سبق، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

حسن غريب. وبين ابن السرى فى روايته: أن بنيه الذين جللوا بالكساء كانوا ستة: الفضل وعبد الله وعبيد الله وقثم ومعبد وعبد الرحمن. قال: وغطاهم بشملة له سوداء مخططة بحمرة وقال: «اللهم إن هؤلاء أهل بيتى وعترتى فاسترهم من النار كسترهم بهذه الشملة» قال: فلم يبق فى البيت مدرة ولا باب إلا أمن. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لعقيل بن أبى طالب: «إنى أحبك حبين، حبّا لقرابتك منى، وحبّا لما كنت أعلم من حب عمى لك» » قال الطبرى: أخرجه أبو عمر، والبغوى. وروى الدارقطنى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال يوم حنين: «أبو سفيان ابن الحارث خير أهلى، أو من خير أهلى» «2» . وأخرج الحاكم وصححه عن أبى سعيد: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار» «3» . اعلم أنه قد اشتهر استعمال أربعة ألفاظ يوصفون بها: الأولى: آله- عليه الصلاة والسلام-. والثانية: أهل بيته. والثالثة: ذوو القربى. والرابعة: عترته. فأما الأولى: فذهب قوم إلى أنهم هم أهل بيته، وقال آخرون: هم الذين حرمت عليهم الصدقة وعوضوا عنها خمس الخمس، وقال قوم: من دان بدينه وتبعه فيه. وأما اللفظة الثانية، وهى أهل بيته، فقيل من ناسبه إلى جده الأدنى، وقيل من اجتمع معه فى رحم، وقيل من اتصل به بنسب أو سبب.

_ (1) أخرجه الحاكم (3/ 667) عن أبى إسحاق مرسلا، وعن حذيفة موصولا. (2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (22/ 327) ، ولم أجده عند الدارقطنى. (3) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 162) و (4/ 392) .

وأما اللفظة الثالثة: وهى ذوو القربى، فروى الواحدى فى تفسيره بسنده عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين أمرنا الله تعالى بمودتهم؟ قال: «على وفاطمة وابناهما» . وأما اللفظة الرابعة: وهى عترته، فقيل العشيرة، وقيل الذرية، فأما العشيرة فهى الأهل الأولون، وأما الذرية: فنسل الرجل، وأولاد بنت الرجل ذريته، ويدل عليه قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ إلى قوله: وَعِيسى «2» ، ولم يتصل عيسى بإبراهيم إلا من جهة أمه مريم. فهذه الذرية الطاهرة، قد خصوا بمزايا التشريف، وعموا بواسطة السيدة فاطمة بفضل منيف، وألبسوا رداء الشرف، ومنحوا بمزيد الإكرام والتحف. وقد وقع الاصطلاح على اختصاصهم من بين ذوى الشرف كالعباسيين والجعافرة بالشطفة الخضراء، لمزيد شرفهم. والسبب فى ذلك- كما قيل- أن المأمون أراد أن يجعل الخلافة فى بنى فاطمة فاتخذ لهم شعارا وألبسهم ثيابا خضرا- لكون السواد شعار العباسيين، والبياض شعار سائر المسلمين فى جمعهم ونحوها، والأحمر مختلف فى كراهته، والأصفر شعار اليهود باخرة. ثم انثنى عزمه عن ذلك، ورد الخلافة لبنى العباس، فبقى ذلك شعار الأشراف العلويين من الزهراء، لكنهم اختصروا الثياب إلى قطعة من ثوب أخضر توضع على عمائمهم شعارا لهم ثم انقطع ذلك إلى أواخر القرن الثامن. قال فى حوادث سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة من «أنباء الغمر بأبناء العمر» : وفيها أمر السلطان الأشرف أن يمتازوا عن الناس بعصائب خضر على العمائم، ففعل ذلك بمصر والشام وغيرهما، وفى ذلك يقول الأديب أبو عبد الله بن جابر الأندلسى:

_ (1) سورة الشورى: 23. (2) سورة الأنعام: 84، 85.

فى محبة الصحابة:

جعلوا لأبناء الرسول علامة ... إن العلامة شأن من لم يشهر نور النبوة فى كريم وجوههم ... يغنى الشريف عن الطراز الأخضر وللأديب شمس الدين الدمشقى- رحمه الله-: أطراف تيجان أتت من سندس ... خضر بأعلام على الأشراف والأشرف السلطان خصهم بها ... شرفا ليفرقهم من الأطراف والأشرف السلطان هو شعبان بن حسن بن الناصر محمد بن قلاوون. فى محبة الصحابة: وأما الصحابة- رضوان الله عليهم-، فقال الله سبحانه وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «1» إلى آخر السورة. لما أخبر سبحانه وتعالى أن سيدنا محمدا- صلى الله عليه وسلم- رسوله حقّا من غير شك ولا ريب، قال: محمد رسول الله. وهذا مبتدأ وخبر. وقال البيضاوى وغيره: جملة مبينة للمشهود به، يعنى قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ إلى قوله: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «2» ، قال: ويجوز أن يكون «رسول الله» صفة، و «محمد» خبر مبتدأ محذوف انتهى. وهذه الآية مشتملة على كل وصف جميل. ثم ثنّى بالثناء على أصحابه فقال: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «3» ، كما قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «4» فوصفهم بالشدة والغلظة على الكفار، والرحمة والبر بالأخيار. ثم أثنى عليهم بكثرة الأعمال مع الإخلاص التام، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً «5» ، فمن نظر إليهم أعجبه سمتهم وهداهم، لخلوص نياتهم، وحسن أعمالهم.

_ (1) سورة الفتح: 29. (2) سورة الفتح: 28. (3) سورة الفتح: 29. (4) سورة المائدة: 54. (5) سورة الفتح: 29.

قال مالك: بلغنى أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: «والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا» وصدقوا، فإن هذا الأمة المحمدية، خصوصا الصحابة، لم يزل ذكرهم معظما فى الكتب، كما قال سبحانه وتعالى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ «1» أى أفراخه فَآزَرَهُ «2» أى شده وقواه فَاسْتَغْلَظَ «3» شب فطال فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ «4» قوته وغلظه وحسن منظره. فكذلك أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطأ مع الزرع لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ «5» . ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك- رحمه الله- فى رواية عنه- تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر، وقد وافقه على ذلك جماعة من العلماء. والأحاديث فى فضائل الصحابة كثيرة، ويكفى ثناء الله عليهم ورضاه عنهم، وقد وعدهم الله مغفرة، وأجرا عظيما، ووعد الله حق وصدق لا يخلف، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. و «من» فى قوله «منهم» لبيان الجنس وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً «6» . واختلف فى تعريف الصحابى: فقيل: من صحب النبى- صلى الله عليه وسلم- أو رآه من المسلمين. وإليه ذهب البخارى، وسبقه إليه شيخه ابن المدينى، وعبارته- كما قال شيخنا- من صحب النبى- صلى الله عليه وسلم- أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحابه. انتهى. وهذا هو الراجح. والتقييد ب «الإسلام» يخرج من صحبه أو رآه من الكفار، ولو اتفق إسلامه بعد موته.

_ (1) سورة الفتح: 29. (2) سورة الفتح: 29. (3) سورة الفتح: 29. (4) سورة الفتح: 29. (5) سورة الفتح: 29. (6) سورة الفتح: 29.

لكن يرد على التعريف: من صحبه أو رآه مؤمنا به ثم ارتد بعد ذلك، ولم يعد إلى الإسلام، كعبيد الله بن جحش، فإنه ليس بصحابى اتفاقا، وكذلك ابن خطل، وربيعة بن أمية بن خلف الجمحى وهو ممن أسلم فى الفتح وشهد حجة الوداع وحدث عن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد موته، ثم لحقه الخذلان- والعياذ بالله- فى خلافة عمر فلحق بالروم وتنصر بسبب شىء أغضبه وقد أخرج له الإمام أحمد فى مسنده «1» ، وإخراجه له مشكل ولعله لم يقف على قصة ارتداده، فينبغى أن يزاد فى التعريف: ومات على ذلك. فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام، لكنه لم يرد النبى- صلى الله عليه وسلم- ثانيا بعد عوده، فالصحيح أنه معدود فى الصحابة، لإطباق المحدثين على عد الأشعث ابن قيس ونحوه ممن وقع له ذلك، وإخراجهم أحاديثهم فى المسانيد. لكن قال الحافظ زين الدين العراقى: إن فى ذلك نظرا كبيرا، فإن الردة محبطة للعمل عند أبى حنيفة، ونص عليه الشافعى فى الأم، وإن كان الرافعى قد حكى عنه أنها إنما تحيط بشرط اتصالها بالموت، وحينئذ فالظاهر أنها محبطة للصحبة المتقدمة، أما من رجع إلى الإسلام فى حياته- صلى الله عليه وسلم- كعبد الله بن أبى سرح فلا مانع من دخوله فى الصحبة بدخوله الثانى فى الإسلام. وهل يشترط فى الرائى أن يكون بحيث يميز ما رآه، أو يكتفى بمجرد حصول الرؤية؟ قال الحافظ ابن حجر: محل نظر، وعمل من صنف فى الصحابة يدل على الثانى، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبى بكر الصديق، وإنما ولد قبل وفاة النبى- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أشهر وأيام، كما ثبت أن أمه أسماء بنت عميس ولدته فى حجة الوداع قبل أن تدخل مكة، وذلك فى أواخر ذى القعدة سنة عشرة من الهجرة. ومنهم من بالغ فكان لا يعد فى الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية. وروى عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد فى الصحابة إلا من أقام

_ (1) قلت: لم أقف له على رواية فى المسند.

مع النبى- صلى الله عليه وسلم- سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فصاعدا. والعمل على خلاف هذا القول. ومنهم من اشترط فى ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغا، وهو مردود أيضا، لأنه يخرج مثل الحسن بن على ونحوه من أحداث الصحابة. وأما التقييد بالرؤية فالمراد به عند عدم المانع منها، فإن كان كابن أم مكتوم الأعمى فهو صحابى جزما، فالأحسن أن يعبر ب «اللقاء» بدل الرؤية ليدخل فيه ابن أم مكتوم ونحوه. قال الحافظ زين الدين العراقى: قولهم فمن رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- هل المراد رآه فى حال نبوته، أو أعم من ذلك، حتى يدخل من رآه قبل النبوة ومات قبل النبوة على دين الحنيفية كزيد بن عمرو بن نفيل، فقد قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أنه يبعث أمة وحده» «1» ، وقد ذكره فى الصحابة أبو عبد الله بن منده، وكذلك لو رآه قبل النبوة ثم غاب عنه وعاش إلى بعد زمن البعثة، وأسلم ثم مات ولم يره، ولم أر من تعرض لذلك، ويدل على أن المراد: رآه بعد نبوته، أنهم ترجموا فى الصحابة لمن ولد للنبى- صلى الله عليه وسلم- كإبراهيم وعبد الله، ولم يترجموا لمن ولد قبل النبوة ومات قبلها كالقاسم، انتهى. وهل يختص جميع ذلك ببنى آدم، أم يعم غيرهم من العقلاء؟ محل نظر. أما الجن، فالراجح دخولهم لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعث إليهم قطعا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغى التردد فى ذكره فى الصحابة، وإن كان ابن الأثير عاب على أبى موسى فلم يستند فى ذلك إلى حجة، وأما الملائكة فيتوقف عدهم فى ذلك على ثبوت البعثة إليهم، فإن فيه خلافا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته، وعكس بعضهم. وهذا كله فيمن رآه فى قيد الحياة الدنيوية، أما من رآه بعد موته وقبل

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (7/ 2) عن جابر وقال: رواه أبو يعلى وفيه مجالد، وهذا مما مدح من حديث مجالد، وبقية رجاله رجال الصحيح.

دفنه «1» فالراجح أنه ليس صحابيّا، وإلا لعد من اتفق أنه رأى جسده المكرم وهو فى قبره المعظم، ولو فى هذه الأعصار، وكذلك من كشف له من الأولياء عنه- صلى الله عليه وسلم- فرآه كذلك على طريق الكرامة كما قدمت مباحث فى خصوصياته- صلى الله عليه وسلم- من المقصد الرابع، إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذا الحياة ليست دنيوية، وإنما هى أخروية لا تتعلق بها أحكام الدنيا، وأما من رآه فى المنام، وإن كان قد رآه حقّا. فذلك فيما يرجع إلى الأمور المعنوية، لا الأحكام الدنيوية، فلذلك لا يعد صحابيّا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به فى تلك الحالة. وقد أجمع جمهور العلماء من السلف والخلف على أنهم خير خلق الله، وأفضلهم بعد النبيين وخواص الملائكة المقربين، لما روى البخارى من حديث عبد الله أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» «2» وله من حديث عمران بن حصين «خير أمتى قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدرى أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا «3» . قال فى فتح البارى: والقرن أهل زمان واحد متقارب، اشتركوا فى أمر من الأمور المقصودة، ويطلق على مدة من الزمان، واختلفوا فى تحديدها، من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين، لكن لم أر من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل، وقال صاحب المحكم: هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن، وهذا أعدل الأقوال. والمراد بقرن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذا الحديث الصحابة، وتقدم فى أول المقصد الأول حديث «بعثت من خير قرون بنى آدم» «4» وفى رواية بريدة عند أحمد «خير هذه الأمة القرن الذى بعثت فيهم» «5» .

_ (1) كما وقع لأبى ذؤيب الهذلى مثلا. (2) صحيح: وقد تقدم. (3) صحيح: وقد تقدم. (4) صحيح: أخرجه البخارى (3557) فى المناقب، باب: صفة النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (5) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 357) .

وقد ضبط الأئمة من الحفاظ آخر من مات من الصحابة على الإطلاق بلا خلاف أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثى، كما جزم به مسلم، وكان موته سنة مائة على الصحيح، وقيل سنة سبع ومائة، وقيل سنة عشر ومائة، وهو الذى صححه الذهبى، وهو مطابق لقوله- صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته بشهر-: «على رأسه مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد» . وفى رواية مسلم «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه ليس من نفس منفوسة تأتى عليها مائة سنة» «1» . وأما ما ذكر أن عكراش بن ذؤيب عاش بعد يوم الجمل مائة سنة فذلك غير صحيح، وإن صح فمعناه أنه استكمل المائة بعد الجمل، لا أنه بقى بعدها مائة سنة، كما نص عليه الأئمة. وأما ما ذكر أيضا من أمر «بابارتن» «2» ونحوه فإن ذلك لا يروج على من له أدنى مسكة من العقل، كما قاله الأئمة. وأما آخر الصحابة موتا بالإضافة إلى النواحى فقد أفردهم ابن منده. وأما قوله: «ثم الذين يلونهم» فهم أهل القرن الذين بعدهم، وهم التابعون، ثم الذين يلونهم وهم أتباع التابعين. واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين. لكن هل هذه الفضيلة بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ والذى ذهب إليه ابن عبد البر هو الأول، كما قدمت ذلك فى خصائص هذه الأمة من المقصد الرابع، واحتج لذلك- سوى ما تقدم- بحديث «مثل أمتى مثل المطر، لا يدرى آخره خير أم أوله» «3» قال الحافظ ابن حجر: وهو حديث حسن، له طرق وقد يرتقى بها إلى درجة الصحة.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2537) فى فضائل الصحابة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تأتى مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم» من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) قاله الذهبى فى تجريده: رتن الهندى شيخ ظهر بعد الستمائة بالمشرق وادعى الصحبة، فسمع منه الجهلة، أو لا وجود له، بل اختلق اسمه بعض الكذابين، وإنما ذكرته تعجبا. (3) صحيح: أخرجه أحمد والترمذى عن أنس وأحمد عن عمار، وأبو يعلى عن على، والطبرانى عن ابن عمر وابن عمرو، كما فى «صحيح الجامع» (5854) .

وقد روى ابن أبى شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير- أحد التابعين- بإسناد حسن قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير، ثلاثا، ولن يخزى الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها» «1» . وروى أبو داود والترمذى من حديث أبى ثعلبة- رفعه-: «تأتى أيام للعامل فيها أجر خمسين» ، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: «بل منكم» «2» وهو شاهد لحديث «مثل أمتى مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» لكن حديث «للعامل منهم أجر خمسين منكم» لا يدل على أفضلية غير الصحابة، لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضا: الأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله فى ذلك العمل. فأما ما فاز به من شاهد النبى- صلى الله عليه وسلم- من فضيلة المشاهدة، فلا يعدله فيها أحد، ولا ريب أن من قاتل معه أو فى زمانه بأمره، أو أنفق شيئا من ماله بسببه، لا يعدله أحد فى الفضل بعده كائنا من كان، قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا «3» ، وكذلك من ضبط الشرع المتلقى عنه وبلغه لمن بعده. فمحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، وقد ظهر أنه فاز بما لم يفز به من لم يحصل له ذلك. وبهذا يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة. ثم إن الصحابة على ثلاثة أصناف: الأول: المهاجرون، الثانى: الأنصار

_ (1) مرسل: أخرجه ابن أبى شيبة فى مصنفه (4/ 206) و (7/ 414) . (2) أخرجه أبو داود (4341) فى الملاحم، باب: الأمر والنهى، والترمذى (3058) فى التفسير، باب: ومن سورة المائدة، وابن ماجه (4041) فى الفتن، باب: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ من حديث أبى ثعلبة الخشنى- رضى الله عنه-. (3) سورة الحديد: 10.

طبقات الصحابة

وهم الأوس والخزرج وحلفاؤهم ومواليهم، الثالث: من أسلم يوم الفتح. قال ابن الأثير فى «الجامع» : والمهاجرون أفضل من الأنصار، وهذا على سبيل الإجمال، وأما على سبيل التفصيل، فإن جماعة من سباق الأنصار أفضل من جماعة من متأخرى المهاجرين وإنما سباق المهاجرين أفضل من سباق الأنصار، ثم هم بعد ذلك متفاوتون، فرب متأخر فى الإسلام أفضل من متقدم عليه، مثل عمر بن الخطاب وبلال بن رباح. [طبقات الصحابة] وقد ذكر العلماء للصحابة ترتيبا على طبقات، وممن قسمهم كذلك الحاكم فى «علوم الحديث» . الطبقة الأولى: قوم أسلموا بمكة أول البعث، وهم سباق المسلمين، مثل: خديجة بنت خويلد، وعلى بن أبى طالب، وأبى بكر الصديق، وزيد ابن حارثة، وبقية العشرة، وقد تقدم الخلاف فى أول من أسلم فى المقصد الأول. الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة، بعد إسلام عمر بن الخطاب حمل النبى- صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين إلى دار الندوة، فأسلم لذلك جماعة من أهل مكة. الطبقة الثالثة: الذين هاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم من أذى المشركين أهل مكة، منهم: جعفر بن أبى طالب، وأبو سلمة بن عبد الأسد. الطبقة الرابعة: أصحاب العقبة الأولى، وهم سباق الأنصار إلى الإسلام، وكانوا ستة، وأصحاب العقبة الثانية من العام المقبل، وكانوا اثنى عشر، وقد قدمت أسماء أهل العقبتين فى المقصد الأول. الطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثالثة، وكانوا سبعين من الأنصار، منهم: البراء بن معرور، وعبد الله بن حرام، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة.

الطبقة السادسة: المهاجرون

الطبقة السادسة: المهاجرون الذين وصلوا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته وهو بقباء قبل أن يا بنى المسجد وينتقل إلى المدينة. الطبقة السابعة: أهل بدر الكبرى. قال- صلى الله عليه وسلم- لعمر فى قصة حاطب ابن أبى بلتعة: «وما يدريك، لعل الله اطلع على هذه العصابة من أهل بدر فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1» رواه مسلم. الطبقة الثامنة: الذين هاجروا بين بدر والحديبية. الطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا بالحديبية تحت الشجرة، قال- صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحد» «2» رواه مسلم. الطبقة العاشرة: الذين هاجروا بعد الحديبية وقبل الفتح، كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومثل بعضهم بأبى هريرة لكن قال الحافظ العراقى، لا يصح التمثيل به، فإنه هاجر قبل الحديبية، عقيب خيبر بل فى أواخرها. الطبقة الحادية عشر: الذين أسلموا يوم الفتح، وهم خلق كثير، فمنهم من أسلم طائعا، ومنهم من أسلم كارها ثم حسن إسلام بعضهم، والله أعلم بهم. الطبقة الثانية عشر: صبيان أدركوا النبى- صلى الله عليه وسلم- ورأوه عام الفتح وبعده فى حجة الوداع وغيرهما، كالسائب بن يزيد. ثم انقطعت الهجرة بعد الفتح على الصحيح من الأقوال. وأما عدة أصحابه- صلى الله عليه وسلم-، فمن رام حصر ذلك رام أمرا بعيدا، ولا

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3007) فى الجهاد والسير، باب: الجاسوس، ومسلم (2494) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر- رضى الله عنهم-، من حديث على- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2496) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان- رضى الله عنهم-، من حديث أم مبشر- رضى الله عنها-.

يعلم حقيقة ذلك إلا الله تعالى، لكثرة من أسلم من أول البعثة إلى أن مات النبى- صلى الله عليه وسلم-، وتفرقهم فى البلدان والبوادى. وقد روى البخارى أن كعب بن مالك قال فى قصة تخلفه عن غزوة تبوك: وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كثير لا يجمعهم كتاب حافظ «1» ، يعنى الديوان، لكن قد جاء ضبطهم فى بعض مشاهده كتبوك. وقد روى أنه سار عام الفتح فى عشرة آلاف من المقاتلة، وإلى حنين فى اثنى عشر ألفا، وإلى حجة الوداع فى تسعين ألفا، وإلى تبوك فى سبعين ألفا، وقد روى أنه قبض عن مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، والله أعلم بحقيقة ذلك. ثم إن أفضلهم على الإطلاق عند أهل السنة إجماعا أبو بكر ثم عمر- رضى الله عنهما-. عن ابن عمر قال: كنا نخير بين الناس فى زمان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان» . رواه البخارى. وفى رواية عبيد الله بن عمر عن نافع: كنا فى زمان النبى- صلى الله عليه وسلم- لا نعدل بأبى بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- فلا نفاضل بينهم «3» . رواه البخارى أيضا. وقوله: «لا نعدل بأبى بكر أحدا» أى لا نجعل له مثيلا. ولأبى داود من طريق سالم عن ابن عمر: كنا نقول- ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- حى-: أفضل أمة النبى- صلى الله عليه وسلم- بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان «4» . زاد الطبرانى فى رواية: فيسمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك فلا ينكره. وروى خيثمة بن سليمان فى «فضائل الصحابة» من طريق سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن ابن عمر: كنا نقول: إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان

_ (1) صحيح: وقصة كعب أخرجها البخارى (4418) فى المغازى، باب: حديث كعب بن مالك، ومسلم (2769) فى التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3655) فى فضائل الصحابة، باب: فضل أبى بكر بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3697) فى المناقب، باب: مناقب عثمان بن عفان- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه أبو داود (4627 و 4628) فى السنة، باب: فى التفضيل.

استوى الناس، فيسمع النبى- صلى الله عليه وسلم- ذلك فلا ينكره. وفى ذلك تقديم عثمان بعد أبى بكر وعمر. وأهل السنة على أن عليّا بعد عثمان. وذهب بعض السلف إلى تقديم على على عثمان. وممن قال به سفيان الثورى. وقيل: لا يفضل أحدهما على الآخر، ونقل ذلك عن مالك فى المدونة، وتبعه جماعة منهم يحيى بن القطان. وقال ابن معين: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وعرف على سابقته وفضله فهو صاحب سنة، ولا شك أن من اقتصر على عثمان ولم يعرف لعلى فضله فهو مذموم. وقد ادعى ابن عبد البر أن حديث الاقتصار على الثلاثة: أبى بكر وعمر وعثمان خلاف قول أهل السنة أن عليّا أفضل الناس بعد الثلاثة. وتعقب: بأنه لا يلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله عدم تفضيله، فالمقطوع به عند أهل السنة: القول بأفضلية أبى بكر ثم عمر ثم اختلفوا فيمن بعدهما، فالجمهور على تقديم عثمان، وعن مالك الوقف، والمسألة اجتهادية، ومستندها أن هؤلاء الأربعة اختارهم الله لخلافة نبيه، وإقامة دينه، فمنزلتهم عنده بحسب ترتيبهم فى الخلافة. وقال الإمام أبو منصور البغدادى: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة تمام العشرة، يعنى: طلحة والزبير وسعدا وسعيدا وعبد الرحمن بن عوف وأبى عبيدة عامر بن الجراح. وقد روى الترمذى عن سعيد بن زيد أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عشرة فى الجنة، أبو بكر فى الجنة، وعمر فى الجنة، وعثمان فى الجنة، وعلى والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبى وقاص» فعد هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر، فقال له القوم ننشدك الله، من العاشر؟ فقال: نشدتمونى بالله، سعيد بن زيد فى الجنة، يعنى نفسه «1» .

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (4649) فى السنة، باب: فى الخلفاء، والترمذى (3748) فى المناقب، باب: مناقب عبد الرحمن بن عوف الزهرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

وعن أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-، أنه خرج إلى المسجد، فسأل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: وجه هاهنا، فخرجت فى أثره حتى دخل بئر أريس «1» ، فجلست عند الباب، وبابها من جريد، حتى قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاجته، فتوضأ فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس وتوسط قفها، فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بوابا للنبى- صلى الله عليه وسلم- اليوم، فجاء أبو بكر، فدفع الباب فقلت من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت على رسلك ثم ذهبت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: هذا أبو بكر يستأذن، فقال: «ائذن له وبشره بالجنة» ، فأقبلت حتى قلت لأبى بكر: ادخل، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبشرك بالجنة، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معه فى القف ودلى رجليه فى البئر كما صنع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست، وقد تركت أخى يتوضأ ويلحقنى، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا- يريد أخاه- يأت به، فإذا بإنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ قال: عمر بن الخطاب، فقلت على رسلك، ثم جئت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: «ائذن له وبشره بالجنة» ، فقلت: ادخل وبشرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالجنة، فجلس مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى القف عن يساره ودلى رجليه فى البئر، فرجعت وقلت: إن يرد الله بفلان خيرا يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت على رسلك، وجئت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» ، فجئت فقلت: ادخل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبشرك بالجنة على بلوى تصيبك، فدخل فوجد القف قد ملئ، فجلس وجاهه من الصف الآخر «2» . قال شريك: قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم. رواه أحمد ومسلم وأبو حاتم وأخرجه البخارى.

_ (1) بئر معروفة بالمدينة. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3674) فى المناقب، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2403) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان بن عفان- رضى الله عنه-.

وأخرج أبو داود نحوه عن أبى سلمة عن نافع بن عبد الحارث الخزاعى قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حائطا من حوائط المدينة، فقال لبلال: «أمسك على الباب» ، فجاء أبو بكر فاستأذن. فذكر نحوه «1» . قال الطبرانى: وفى حديث أن نافع بن الحارث هو الذى كان يستأذن. وهذا يدل على تكرر القصة، لكن صوب الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر عدم التعدد، وأنها، عن أبى موسى، ووهّم القول بغيره. وأنشد لنفسه: لقد بشر الهادى من الصحب زمرة ... بجنات عدن كلهم فضله اشتهر سعيد زبير سعد طلحة عامر ... أبو بكر عثمان ابن عوف على عمر ولأبى الوليد بن [الشحنة] : أسماء عشر رسول الله بشرهم ... بجنة الخلد عمن زانها وعمر سعد سعيد على عثمان طلحة بو ... بكر ابن عوف ابن جراح الزبير عمر فإن قلت: من اعتقد فى الخلفاء الأربعة الأفضلية على الترتيب المعلوم، ولكن محبته لبعضهم تكون أكثر، هل يكون آثما أم لا؟ فأجاب شيخ الإسلام الولى بن العراقى: أن المحبة قد تكون لأمر دينى، وقد تكن لأمر دنيوى، فالمحبة الدينية لازمة للأفضلية، فمن كان أفضل كانت محبتنا الدينية له أكثر، فمتى اعتقدنا فى واحد منهم أنه أفضل ثم أحببنا غيره من جهة الدين أكثر كان تناقضا، نعم إن أحببنا غير الأفضل أكثر من محبة الأفضل لأمر دنيوى كقرابة وإحسان فلا تناقض فى ذلك ولا امتناع، فمن اعترف بأن أفضل الأمة بعد نبيها- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على، لكنه أحب عليّا أكثر من أبى بكر مثلا، فإن كانت المحبة المذكورة محبة دينية فلا معنى لذلك، إذ المحبة الدينية لازمة للأفضلية كما قررناه، وهذا لم يعترف بأفضلية أبى بكر إلا بلسانه، وأما بقلبه فهو مفضل لعلى لكونه أحبه

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (5188) فى الأدب، باب: الرجل يدق الباب ولا يسلم، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» حسن الإسناد.

محبة دينية زائدة على محبة أبى بكر، وهذا لا يجوز، وإن كانت المحبة المذكورة محبة دنيوية لكونه من ذرية على أو لغير ذلك من المعانى فلا امتناع والله أعلم. انتهى. وقد روى الطبرى فى «الرياض» وعزاه للملاء فى «سيرته» عن أنس مرفوعا، «إن الله افترض عليكم حب أبى بكر وعمر وعثمان وعلى كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج، فمن أنكر فضلهم فلا تقبل منه الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج» . وأخرج الحافظ السلفى فى «مشيخته» من حديث أنس مرفوعا: «حب أبى بكر واجب على أمتى» . وأخرج الأنصارى عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أبا بكر، ليت أنى لقيت إخوانى» فقال أبو بكر: يا رسول الله، نحن إخوانك، قال: «لا، أنتم أصحابى، إخوانى الذين لم يرونى، وصدقوا بى وأحبونى، حتى إنى لأحب إلى أحدهم من ولده ووالده» ، قالوا: يا رسول الله، أما نحن إخوانك؟ قال: «لا، بل أنتم أصحابى، ألا تحب يا أبا بكر قوما أحبوك بحبى إياك؟» قال: فأحبهم ما أحبوك بحبى إياك. فمحبة من أحبه الرسول- صلى الله عليه وسلم- كال بيته وأصحابه- رضى الله عنهم- علامة على محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كما أن محبته- صلى الله عليه وسلم- علامة على محبة الله تعالى، وكذلك عداوة من عاداهم وبغض من أبغضهم وسبهم. فمن أحب شيئا أحب من يحب، وأبغض من يبغض، قال الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» فحب آل بيته- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وأولاده وأزواجه من الواجبات المتعينات، وبغضهم من الموبقات المهلكات. ومن محبتهم وجوب توقيرهم، وبرهم والقيام بحقوقهم، والاقتداء بهم بأن يمشى على سنتهم وآدابهم وأخلاقهم، والعمل بأقوالهم مما ليس للعقل فيه

_ (1) سورة المجادلة: 22.

مجال، وحسن الثناء عليهم بأن يذكروا بأوصافهم الجميلة على قصد التعظيم. فقد أثنى الله تعالى عليهم فى كتابه المجيد، ومن أثنى الله عليه فهو واجب الثناء، والاستغفار لهم، قالت عائشة: (أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسبوهم) «1» رواه مسلم. وفائدة المستغفر لهم عائدة عليه. قال سهل بن عبد الله التسترى: لم يؤمن بالرسول- صلى الله عليه وسلم- من لم يوقر أصحابه ولم يعزّ أوامره. ومما يجب أيضا: الإمساك عما شجر بينهم، أى وقع بينهم من الاختلاف، والإضراب عن أخبار المؤرخين وجهلة الرواة، وضلال الشيعة والمبتدعين، القادحة فى أحد منهم، قال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا ذكر أصحابى فأمسكوا» «2» ، وأن يلتمس لهم مما نقل من ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات، ويخرج لهم أصوب المخارج، إذ هم أهل ذلك كما هو فى مناقبهم، ومعدود من ماثرهم، مما يطول إيراد بعضه. وما وقع بينهم من المنازعات والمحاربات فله محامل وتأويلات، فسبهم والطعن فيهم إذا كان مما يخالف الأدلة القطعية كفر، كقذف عائشة- رضى الله عنها-، وإلا فبدعة وفسق. قال- صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس احفظونى فى أختانى وأصهارى وأصحابى، لا يطالبنكم الله بمظلمة أحد منهم، فإنها ليست مما يوهب» «3» . رواه الخلعى. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «الله الله فى أصحابى، لا تتخذوهم غرضا من بعدى، من أحبهم فقد أحبنى، ومن أبغضهم فقد أبغضنى، ومن آذاهم فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه الله» «4» رواه المخلص

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (3022) فى التفسير. (2) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (2/ 96) عن ثوبان، و (10/ 198) عن ابن مسعود- رضى الله عنه-. (3) انظره فى «كنز العمال» (32536) . (4) ضعيف: أخرجه الترمذى (3862) فى المناقب، باب: فيمن سب أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (4/ 87) و (5/ 54 و 57) ، من حديث عبد الله بن مغافل- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

الذهبى. [أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن الذهبى] . وهذا الحديث- كما قال بعضهم- خرج مخرج الوصية بأصحابه على طريق التأكيد والترغيب فى حبهم، والترهيب عن بغضهم. وفيه إشارة إلى أن حبهم من الإيمان، وبغضهم كفر، لأنه إذا كان بغضهم بغضا له كان كفرا بلا نزاع، للحديث السابق «لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» «1» . وهذا يدل على كمال قربهم منه بتنزيلهم منزلة نفسه، حتى كأن أذاهم واقع عليه وواصل إليه- صلى الله عليه وسلم-. و «الغرض» : الهدف الذى يرمى فيه. فهو نهى عن رميهم مؤكدا ذلك بتحذيرهم الله منه، وما ذاك إلا لشدة الحرمة. وروى مرفوعا: «من سب أحدا من أصحابى فاجلدوه» «2» . خرجه تمام فى فوائده. وقال مالك بن أنس وغيره- فيما ذكره القاضى عياض-: من أبغض الصحابة فليس له فى فىء المسلمين حق. قال: ونزع باية الحشر وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ «3» الآية. وقال: من غاظه أصحاب محمد فهو كافر، قال الله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ «4» والله أعلم.

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) موضوع: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 260) عن على وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط عن شيخه عبيد الله بن محمد العمرى، رماه النسائى بالكذب، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (5616) موضوع. (3) سورة الحشر: 10. (4) سورة الفتح: 29.

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات الموضوع الصفحة المقصد الثالث الفصل الأول فى كمال خلقته وجمال صورته- صلى الله عليه وسلم- وشرفه وكرمه 5 الفصل الثانى فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية 10 الفصل الثالث فيما تدعو ضرورته إليه- صلى الله عليه وسلم- من غذائه وملبسه ومنكحه وما يلحق ذلك وفيه أربعة أنواع 142 النوع الأول فى عيشه- صلى الله عليه وسلم- فى المأكل والمشرب 142 النوع الثانى فى لباسه- صلى الله عليه وسلم- وفراشه 183 النوع الثالث فى سيرته- صلى الله عليه وسلم- فى نكاحه 220 النوع الرابع فى نومه- صلى الله عليه وسلم- 227 المقصد الرابع الفصل الأول فى معجزاته- صلى الله عليه وسلم- 235

تعريف المعجزة بالدليل 235 حديث القصعة 295 الفصل الثانى فيما خصّه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البينات 301 المقصد الخامس الإسراء والمعراج 426 المقصد السادس فيما ورد فى آى التنزيل من تعظيم قدره- صلى الله عليه وسلم- 507 النوع الأول فى آيات تتضمن تعظيم قدره ورفعة ذكره وجليل رتبته وعلو درجته على الأنبياء وتشريف منزلته 508 النوع الثانى فى أخذ الله الميثاق له على النبيين فضلا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه 528 النوع الثالث فى وصفه له- صلى الله عليه وسلم- بالشهادة وشهادته له بالرسالة 531 النوع الرابع فى التنويه به- صلى الله عليه وسلم- فى الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل 547 النوع الخامس فى آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحى إليه

من آياته وعلو رتبته الشريفة ومكانته 556 الفصل الأول فى قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه من الفضل العميم 557 الفصل الثانى فى قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلى لديه 559 الفصل الثالث فى قسمه تعالى على تصديقه فيما أوتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى فى خطابه 561 الفصل الرابع فى قسمه تعالى على تحقيق رسالته 570 الفصل الخامس فى قسمه تعالى بمدة حياته- صلى الله عليه وسلم- وعصره وبلده 572 النوع السادس فى وصفه تعالى له- صلى الله عليه وسلم- بالنور والسراج المنير 576 النوع السابع فى آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته 580 النوع الثامن فيما يتضمن الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- 586 النوع التاسع فى آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه- صلى الله عليه وسلم- ترفيعا لشأنه 589

النوع العاشر فى إزالة الشبهات عن آيات وردت فى حقه- صلى الله عليه وسلم- متشابهات 593 المقصد السابع الفصل الأول فى وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته- صلى الله عليه وسلم- 612 الفصل الثانى فى حكم الصلاة عليه والتسليم فريضة وسنة وفضيلة وصفة ومحلّا 648 الفصل الثالث فى ذكر محبة أصحابه- صلى الله عليه وسلم- وآله وقرابته وأهل بيته وذريته 678 فهرس الكتاب 709

الجزء الثالث

الجزء الثالث المقصد الثامن فى طبه ص لذوى الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات اعلم أنه لا سبيل لأحد إلى الإحاطة بنقطة من بحار معارفه، أو قطرة مما أفاضه الله تعالى عليه من سحائب عوارفه، وأنت إذا تأملت ما منحه الله تعالى به من جوامع الكلم، وخصه به من بدائع الحكم، وحسن سيره، وحكم حديثه، وإنبائه بأنباء القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى مع الخضر، ويوسف مع إخوته، وأصحاب الكهف، وذى القرنين، وأشباه ذلك، وبدء الخلق، وأخبار الدار الآخرة، وما فى التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، وإظهار أحوال الأنبياء وأممهم، وأسرار علومهم ومستودعات سيرهم، وإعلامهم بمكتوم شرائعهم، ومضمنات كتبهم وغير ذلك مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل أذعنوا لذلك فضلا عما أفاضه من العلم ومحاسن الآداب والشيم «1» ، والمواعظ والحكم، والتنبيه على طرق الحجج العقليات، والرد على فرق الأمم ببراهين الأدلة الواضحات، والإشارة إلى فنون العلوم التى اتخذ أهلها كلامه فيها قدوة، وإشاراته حجة، كاللغة والمعانى والعربية، وقوانين الأحكام الشرعية والسياسات العقلية، ومعارف عوارف الحقائق القلبية، إلى غير ذلك من ضروب العلوم، وفنون المعارف الشاملة لمصالح أمته، كالطب والعبارة «2» والحساب وغير ذلك مما لا يعد ولا يحد ... قضيت بإن مجال هذا الباب فى حقه- صلى الله عليه وسلم- ممتد، تنقطع دون نفاده الأدلاء، وإن بحر علمه ومعارفه زاخر لا تكدره الدلاء. وهذا المقصد- أعزك الله- يشتمل على ثلاثة فصول:

_ (1) الشيم: الخلق، والشيمة: الطبيعة. (2) كذا بالأصل: ولعلها العمارة.

الفصل الأول فى طبه صلى الله عليه وسلم لذوى الأمراض والعاهات

الفصل الأول فى طبه صلّى الله عليه وسلم لذوى الأمراض والعاهات اعلم أنه قد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يعود من مرض من أصحابه، حتى لقد عاد غلاما كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمه وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام، فأسلم الأول وكان يهوديّا، كما روى البخارى وأبو داود من حديث أنس: أن غلاما من اليهود كان يخدم النبى- صلى الله عليه وسلم- فمرض فعاده- صلى الله عليه وسلم- فقعد عند رأسه، فقال: «أسلم» ، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: «الحمد لله الذى أنقذه من النار» «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه، ويسأل عن حاله ويقول: «كيف تجدك؟» «2» . وفى حديث جابر عند البخارى ومسلم والترمذى وأبى داود، قال: مرضت فأتانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعودنى وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجدانى أغمى على، فتوضأ النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم صب وضوءه على فأفقت، فإذا النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعند أبى داود: فنضح فى وجهى فأفقت. وفيه: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا» «3» .

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1356) فى الجنائز، باب: إذا أسلم الصبى، وأبو داود (3095) فى الجنائز، باب: فى عيادة الذمى، وأحمد فى المسند (3/ 175، 257، 260 و 280) . (2) حسن: أخرجه الترمذى (983) فى الجنائز، باب: رقم (10) ، وابن ماجه (4261) فى الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له، وأبو يعلى فى «مسنده» (6/ 57) من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى صحيح سنن ابن ماجه، وهو فى صحيح البخارى (3926) فى فضائل الصحابة، من قول عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (2887) فى الفرائض، باب: من كان ليس له ولد وله أخوات، وأحمد فى «المسند» (3/ 372) ، وهو فى الصحيحين بدون هذه الزيادة، والرواية صححها الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

وفى حديث أبى موسى عند البخارى مرفوعا: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العانى» «1» . وعنده من رواية البراء: أمرنا- صلى الله عليه وسلم- بسبع، وذكر منها عيادة المريض «2» وعند مسلم: خمس تجب للمسلم على المسلم، فذكرها منها «3» . قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب، يعنى الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب على التواصل والألفة. وعند الطبرى: يتأكد فى حق من ترجى بركته، ويسن فيمن يراعى حاله، ويباح فيما عدا ذلك. وهو فرض كفاية عند أبى حنيفة، كما قاله أبو الليث السمرقندى «4» فى «مقدمته» . واستدل بعموم قوله: «عودوا المريض» على مشروعية العيادة فى كل مرض، واستثنى بعضهم: الأرمد، وردّ: بأنه قد جاء فى عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن الأرقم، قال: عادنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من وجع كان بعينى «5» ، رواه أبو داود وصححه الحاكم. وأما ما أخرجه البيهقى والطبرانى مرفوعا: «ثلاثة ليس لهم عيادة، الرمد والدمل والضرس» «6» ،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3046) فى الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير، وأبو داود (3105) فى الجنائز، باب: الدعاء للمريض بالشفاء عند العيادة، وأحمد فى «المسند» (4/ 394 و 406) ، وابن حبان فى «صحيحه» (3324) . (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1239) فى الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (2066) فى اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (1240) فى الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (2162) فى السلام، باب: حق المسلم للمسلم والسلام، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (4) هو: الإمام الفقيه المحدث الزاهد، أبو الليث، نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندى الحنفى، صاحب كتاب «تنبيه الغافلين» وغير ذلك، توفى سنة 375 هـ. (5) حسن: أخرجه أبو داود (3102) فى الجنائز، باب: فى العيادة فى الرمد، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 492) ، والبيهقى فى «السنن الكبرى» (3/ 381) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (6) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 300) عن أبى هريرة وقال: رواه الطبرانى فى «الأوسط» وفيه سلمة بن على الحبشى، وهو ضعيف.

فصحح البيهقى أنه موقوف على يحيى بن أبى كثير، ويؤخذ من إطلاقه عدم التقييد بزمان يمضى من ابتداء مرضه. وهو قول الجمهور، وجزم الغزالى فى «الإحياء» : بأنه لا يعاد إلا بعد ليال ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يعود مريضا إلا بعد ثلاثة «1» وهذا حديث ضعيف تفرد به مسلمة بن على، وهو متروك، وقال أبو حاتم هو حديث باطل. ولا نطيل بإيراد ما ورد فى فضل العيادة، ويكفى حديث أبى هريرة، مما حسنه الترمذى مرفوعا: «من عاد مريضا ناداه مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا» «2» وهذا لفظ ابن ماجه. وفى سنن أبى داود عن أنس مرفوعا: «من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبا، بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفا» «3» . وفى حديث أبى سعيد عند ابن حبان فى صحيحه مرفوعا: «خمس من عملهن فى يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضا وشهد جنازة وصام يوما، وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة» «4» . وعند أحمد، عن كعب مرفوعا: من عاد مريضا، خاض فى

_ (1) موضوع: أخرجه ابن ماجه (1437) فى الجنائز، باب: ما جاء فى عيادة المريض، وقال البوصيرى فى «الزوائد» : فى إسناده سلمة بن على، قال فيه البخارى وأبو حاتم وأبو زرعة: منكر الحديث، ومن منكراته (كان لا يعود مريضا إلا بعد ثلاثة أيام) قال فيه أبو حاتم: هذا منكر باطل وقال ابن عدى: أحاديثه غير محفوظة، واتفقوا على تضعيفه. اهـ. وقال عنه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4499) : موضوع. (2) حسن: أخرجه الترمذى (2008) فى البر والصلة، باب: ما جاء فى زيارة الإخوان، وابن ماجه (1443) فى الجنائز، باب: ما جاء فى ثواب من عاد مريضا، وأحمد فى «المسند» (2/ 326 و 344 و 354) ، وابن حبان فى «صحيحه» (2961) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3097) فى الجنائز، باب: فى فضل العيادة على وضوء، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (4) إسناده قوى: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (2771) ، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.

الرحمة، فإذا جلس عنده استنقع فيها «1» . زاد الطبرانى: وإذا قام من عنده فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيث خرج. ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يخص يوما من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتا من الأوقات، فترك العيادة يوم السبت المخالفة للسنة، ابتدعه يهودى طبيب لملك قد مرض وألزمه بملازمته، فأراد يوم الجمعة أن يمضى لسبته فمنعه، فخاف على استحلال سبته، ومن سفك دمه، فقال: إن المريض لا يدخل عليه يوم السبت، فتركه الملك، ثم أشيع ذلك، وصار كثير من الناس يعتمده، ومن الغريب ما نقله ابن الصلاح عن الفراوى: أن العيادة تستحب فى الشتاء ليلا. وفى الصيف نهارا، ولعل الحكمة فى ذلك أن المريض يتضرر بطول الليل فى الشتاء، وبطول النهار فى الصيف، فتحصل له بالعيادة استراحة. وينبغى اجتناب التطبب بأعداء الدين، من يهودى أو نحوه، فإنه مقطوع بغشه سيما إن كان المريض كبيرا فى دينه أو علمه، خصوصا إن كان هذا العدو يهوديّا، لأن قاعدة دينهم: أن من نصح منهم مسلما فقد خرج عن دينه، وأن من استحل السبت فهو مهدر الدم عندهم، حلال لهم سفك دمه، ولا ريب أن من خاطر بنفسه يخشى عليه أن يدخل فى عموم النهى فيمن قتل نفسه بشئ. وقد كثر الضرر فى هذا الزمن بأهل الذمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، والله تعالى يرحم القائل: لعن النصارى واليهود فإنهم ... بلغوا بمكرهم بنا الآمالا خرجوا أطباء وحسابا لكى ... يتقسموا الأرواح والأموالا» ومما كان يفعله- صلى الله عليه وسلم- ويأمر به تطييب نفوس المرضى وتقوية قلوبهم،

_ (1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 460) ، وهو عنده أيضا (3/ 304) ، وابن حبان فى «صحيحه» (2956) من حديث جابر- رضى الله عنه- بنحوه وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (2) قلت: رحم الله المسلمين الآن، فأين هم من هذه النصائح، وللأسف نجد من بيننا الآن من يدافع عنهم وعن عقائدهم الباطلة ويقربهم إلينا، ويقولون: إن العلم ليس له دين ولا وطن، وقد كذبوا فى قولهم، ولو فاقوا إلى أنفسهم لعرفوا الحق الذى لا مرية فيه.

ففى حديث أبى سعيد الخدرى، قال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخلتم على المريض فنفسوا له فى أجله، فإن ذلك يطبب نفسه» «1» ، مثل أن يقول له: لا بأس عليك، طهور إن شاء الله، ووجهك الآن أحسن، وما أشبه ذلك. وقد يكون من هذا أن يذكر له الأجور الداخلة عليه فى مرضه، وأن المرض كفارة، فربما أصلح ذلك قلبه، وأمن من خوف ذلك ونحوه. وقال بعضهم: فى هذا الحديث نوع شريف جدّا من أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذى تقوى به الطبيعة، وتنتعش به القوة، وينبعث به الحار الغريزى، ويساعد على دفع العلة أو تخفيفها الذى هو غاية تأثير الطبيب. وفى تفريج نفس المريض، وتطييب قلبه، وإدخال السرور عليه تأثير عجيب فى شفاء علته وخفتها، فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذى. وقد شاهد الناس كثيرا من المرضى تنتعش قواهم بعيادة من يحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم له، ولطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم. قال فى الهدى «2» : وكان- صلى الله عليه وسلم- يسأل المريض عن شكواه، وكيف يجد، وعما يشتهيه، فإن اشتهى شيئا وعلم أنه لا يضره أمر له به، ويضع يده على جبهته، وربما وضعها بين ثدييه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه فى علته، وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه، كما فى حديث جابر المتقدم، وربما كان يقول للمريض: لا بأس عليك، طهور إن شاء الله «3» ، وربما كان يقول: كفارة وطهور «4» . وقالت عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا عاد

_ (1) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (2087) فى الطب، باب: رقم (34) ، وابن ماجه (1438) فى الجنائز، باب: ما جاء فى عيادة المريض، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (488) . (2) يقصد كتاب (زاد المعاد فى هدى خير العباد) للعلامة ابن القيم، فانظره بتحقيقنا، فهو كتاب قيم فى بابه، جامع لأبوابه. (3) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث صحيح أخرجه البخارى (5656) فى المرضى، باب: عيادة الأعراب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنها-. (4) شاذ: وقد ورد ذلك فى حديث رواه أحمد بسند رجاله ثقات من حديث أنس- رضى الله عنه-، قال الهيثمى فى «المجمع» (2/ 299) اهـ. قلت: وسياقه هو سياق البخارى السابق إلا فى مقولة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى بها أعللت رواية أنس عند أحمد- رحمه الله-.

مريضا يضع يده على المكان الذى يألم ثم يقول: بسم الله «1» . رواه أبو يعلى بسند صحيح. وأخرج الترمذى من حديث أبى أمامة- بسند لين- رفعه: تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته فيسأله كيف هو «2» ، وعند ابن السنى بلفظ: كيف أصبحت أو كيف أمسيت؟ وإذا علمت هذا، فاعلم أن المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان. فأما طب القلوب ومعالجتها فخاص بما جاء به الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- عن ربه تعالى، لا سبيل إلى حصوله إلا من جهته، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لرضاه ومحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقى ذلك إلا من جهة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-. وأما طب الأجساد، فمنه ما جاء فى المنقول عنه- صلى الله عليه وسلم-، ومنه ما جاء عن غيره، لأنه- صلى الله عليه وسلم- إنما بعث هاديا وداعيا إلى الله وإلى جنته، ومعرفا بالله، ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها، ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم، وأخبار تخليق العالم، وأمر المبدأ والمعاد، وكيف شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك. وأما طب الأجساد فجاء من تكميل شريعته، ومقصودا لغيره، بحيث إنما يستعمل للحاجة إليه، فإذا قدر الاستغناء عنه كان صرف الهمم إلى علاج القلوب وحفظ صحتها، ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بإصلاح الجسد، وإصلاح الجسد بدون إصلاح القلب لا ينفع، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدّا، وهى مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة.

_ (1) رجاله موثقون: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 299) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله موثقون. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2731) فى الاستئذان والآداب، باب: ما جاء فى المصافحة، وأحمد فى «المسند» (5/ 259) ، والطبرانى فى «الكبير» (8/ 211) وقال الترمذى: هذا إسناد ليس بالقوى، وهو كما قال.

وإذا علمت هذا، فاعلم أن ضرر الذنوب فى القلوب كضرر السموم فى الأبدان، على اختلاف درجاتها فى الضرر. وهل فى الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصى، فللمعاصى من الآثار القبيحة المذمومة والمضرة بالقلب والبدن والدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله. فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله فى القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، وللإمام الشافعى- رضى الله عنه-: شكوت إلى وكيع سوء حفظى ... فأرشدنى إلى ترك المعاصى وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصى ومنها: حرمان الرزق، ففى المسند: وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه «1» . ومنها: وحشة يجدها العاصى فى قلبه، بينه وبين الله، لا يوازيها ولا يقاربها لذة. ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه، أو متعسرا عليه. ومنها: ظلمة يجدها فى قلبه حقيقة يحس بها، كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع فى البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، ثم تقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سوادا فيه، يراها كل أحد. ومنها: أنها توهن القلب والبدن. ومنها: حرمان الطاعة، وتقصير العمر، ومحق البركة، ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب، وقيل: بتأثير المعاصى فى محق العمر إنما

_ (1) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 277 و 280 و 282) ، وابن حبان فى «صحيحه» (872) من حديث ثوبان- رضى الله عنه-، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن. اهـ. وانظر «ضعيف الجامع» (1452) .

هو بأن حقيقة الحياة هى حياة القلب، فليس عمر المرء إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبر والتقوى والطاعات تزيد فى هذه الأوقات التى هى حقيقة عمره، ولا عمر له سواها. وبالجملة: فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصى ضاعت عليه أيام حياته الحقيقة. ومنها: أن المعصية تورث الذل. ومنها: أنها تفسد العقل، فإن للعقل نورا، والمعصية تطفئ نور العقل. ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «1» وقد أحسن القائل: إذا كنت فى نعمة فارعها ... فإن الذنوب تزيل النعم وحطها بطاعة رب العباد ... فرب العباد سريع النقم ومن عقوباتها أنها تستجلب مواد هلاك العبد فى دنياه وآخرته، فإن الذنوب هى أمراض متى استحكمت قتلت ولابد، وكما أن البدن لا يكون صحيحا إلا بغذاء يحفظ قوته، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة الأخلاط الرديئة التى متى غلبت عليه أفسدته، وحمية يمتنع بها من تناول من يؤذيه ويخشى ضرره فكذلك القلب، لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة يحفظ قوته، واستفراغ بالتوبة النصوح يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة التى متى غلبت عليه أفسدته، وحمية توجب له حفظ الصحة، وتجنب ما يضادها، وهى عبارة عن ترك استعمال ما يضاد الصحة، والتقوى اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة، فما فات منها فات من التقوى بقدره. وإذا تبين هذا فالذنوب مضادة لهذه الأمور الثلاثة، فإنها تستجلب المواد المؤذية، وتوجب التخليط المضاد للحمية، وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح.

_ (1) سورة الشورى: 30.

فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الأخلاط ومواد المرض، وهو لا يستفرغها ولا يحتمى لها، كيف تكون صحته وبقاؤه، وقد أحسن القائل: جسمك بالحمية حصنته ... مخافة من ألم طارى وكان أولى بك أن تحتمى ... من المعاصى خشية النار فمن حفظ القوة بامتثال الأوامر، واستعمل الحمية باجتناب النواهى، واستفرغ التخليط بالتوبة النصوح، لم يدع للخير مطلبا، ولا للشر مهربا، وفى حديث أنس: «ألا أدلكم على دائكم ودوائكم، ألا إن داءكم الذنوب، ودواءكم الاستغفار» «1» . فقد ظهر لك أن طب القلوب ومعالجتها لا سبيل إلى معرفته إلا من جهة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بواسطة الوحى. وأما طب الأجساد فغالبه يرجع إلى التجربة. ثم هو نوعان: نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر، بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش والبرد والتعب، وهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب. ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر، كدفع ما يحدث فى البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما حرارة أو برودة، وكل منهما: إما إلى رطوبة أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما، وغالب ما يقاوم الواحد منها بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن، وقد يقع داخله وهو من أعسرهما، والطريق إلى معرفته بتحقيق السبب والعلامة. فالطبيب الحاذق هو الذى يسعى فى تفريق ما يضر بالبدن جمعه، أو عكسه، وفى تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء: حفظ الصحة. والاحتماء عن المؤذى واستفراغ المادة الفاسدة. وقد أشير إلى الثلاثة فى القرآن: فالأول: فى قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ

_ (1) ضعيف: أخرجه الديلمى فى مسند الفردوس عن أنس، كما فى «كنز العمال» (2092) .

أَيَّامٍ أُخَرَ «1» وذلك أن السفر مظنة النصب، وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر، وكذلك القول فى المرض. والثانى: وهو الحمية، من قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد «3» ، وقال تعالى فى آية الوضوء: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «4» فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهو تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج. والثالث: من قوله تعالى: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ «5» فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذى منع منه المحرم، لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن فى الرأس تحت الشعر، لأنه إذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها. فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذى انحباسه. فقد أرشد تعالى عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده. وفى الصحيحين من حديث عطاء عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء» «6» . وأخرجه النسائى وابن حبان وصححه الحاكم عن ابن مسعود بلفظ «إن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء

_ (1) سورة البقرة: 184. (2) سورة النساء: 29. (3) كما ورد فى قصة عمرو بن العاص حينما أصبح جنبا وهو فى إحدى الغزوات فخشى من الغسل بالماء البارد فتيمم وصلى بأصحابه، والقصة أخرجها أبو داود (334 و 335) فى الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، وابن حبان فى «صحيحه» (1315) ، وانظر «الإرواء» (154) . (4) سورة النساء: 43. (5) سورة البقرة: 196. (6) صحيح: أخرجه البخارى (5678) فى الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وابن ماجه (3439) فى الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، والحديث ليس فى مسلم كما قال المصنف- رحمه الله-.

فتداووا» «1» وعند أحمد من حديث أنس: «إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا» «2» . وعند البخارى فى «الأدب المفرد» ، وأحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذى وابن خزيمة والحاكم عن أسامة بن شريك، رفعه: «تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا وهو الهرم» «3» وفى لفظ «إلا السام» - وهو بمهملة مخففة- الموت، يعنى إلا داء الموت، أى المرض الذى قدر على صاحبه الموت فيه واستثنى الهرم فى الرواية الأولى إما لأنه جعله شبيها بالموت، والجامع بينهما نقص الصحة، أو تقربه من الموت وإفضائه إليه، ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا، والتقدير: لكن الهرم لا دواء له. ولأبى داود، عن أبى الدرداء، رفعه: «إن الله جعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام» «4» . وفى البخارى: إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم «5» ، فلا يجوز التداوى بالحرام. وروى مسلم عن جابر، مرفوعا: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى فى «الكبرى» (6863- 6865) ، وابن ماجه (3438) فى الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وأحمد فى «المسند» (1/ 377 و 413 و 443 و 446 و 453) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6062 و 6075) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 218) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو كما قال. (2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 156) بسند صحيح. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (3855) فى الطب، باب: فى الحمية، والترمذى (2038) فى الطب، باب: ما جاء فى الدواء والحث عليه، وابن ماجه (3436) فى الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وأحمد فى «المسند» (4/ 278) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6064) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3874) فى الطب، باب: فى الأدوية المكروهة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (5) ضعيف: أخرجه البخارى (10/ 81) تعليقا فى الأشربة، باب: شراب الحلوى والعسل، عن ابن مسعود من قوله، ونسبه صاحب «الجامع الصغير» للطبرانى فى الكبير عن أم سلمة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1637) : ضعيف.

برئ بإذن الله تعالى» «1» . فالشفاء متوقف على إصابة الدواء بالداء بإذن الله تعالى. وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد فى الكيفية أو الكمية فلا ينجح، بل ربما أحدث داء آخر. وفى رواية على عند الحميدى فى كتابه المسمى بطب أهل البيت: ما من داء إلا وله دواء، فإذا كان كذلك بعث الله عز وجل ملكا ومعه ستر فجعله بين الداء والدواء، فكلما شرب المريض من الدواء لم يقع على الداء، فإذا أراد برأه أمر الملك فرفع الستر، ثم يشرب المريض الدواء فينفعه الله تعالى به. وفى حديث ابن مسعود رفعه: «إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله» «2» رواه أبو نعيم وغيره. وفيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد. وأما قوله «لكل داء دواء» فيجوز أن يكون على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التى لا يمكن طبيب معرفتها، ويكون الله قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليها سبيلا، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله. ولهذا علق- صلى الله عليه وسلم- الشفاء على مصادفة الدواء للداء، وقد يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من دائه بدوائه فيبرأ، ثم يعتريه بعد ذلك الداء، والدواء بعينه فلا ينجح، والسبب فى ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء، فرب مرضين تشابها، ويكون أحدهما مركبا، لا ينجح فيه ما ينجح فى الذى ليس مركبا، فيقع الخطأ من هناك، وقد يكون متحدا لكن يريد الله أن لا ينجح، وهنا تخضع رقاب الأطباء. وفى مجموع ما ذكرناه من الأحاديث الإشارة إلى إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافى التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات، والدعاء بطلب الشفاء ودفع المضار وغير ذلك. وقد سئل الحارث المحاسبى فى كتاب «القصد» من تأليفه: هل يتداوى المتوكل؟

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2204) فى السلام، باب: لكل داء دواء، واستحباب التداوى. (2) صحيح: حديث ابن مسعود قد تقدم، إلا أن صاحب الجامع الصغير عزاه للحاكم من حديث أبى سعيد، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (1809) : صحيح.

قال: نعم، قيل له من أين ذلك؟ قال: من وجود ذلك عن سيد المتوكلين، الذى لم يلحقه لا حق، ولا يسبقه فى التوكل سابق، محمد خير البرية- صلى الله عليه وسلم-. قيل له: ما تقول فى خبر النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من استرقى أو اكتوى برئ من التوكل» «1» ؟ قال: برئ من توكل المتوكلين الذين ذكرهم فى حديث آخر فقال: «يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب» «2» ، وأما سواهم من المتوكلين فمباح لهم الدواء والاسترقاء. فجعل المحاسبى التوكل بعضه أفضل من بعض. وقال فى «التمهيد» : إنما أراد بقوله: «برئ من التوكل» إذا استرقى الرقى المكروهة فى الشريعة، أو اكتوى وهو يعلق رغبته فى الشفاء بوجود الكى، وكذلك قوله «لا يسترقون» الرقى المخالفة للشريعة، «لا يكتوون» وقلوبهم معلقة بنفع الكى ومعرضة عن فعل الله تعالى وأن الشفاء من عنده. وأما إذا فعل ذلك على ما جاء فى الشريعة، وكان ناظرا إلي رب الدواء، وتوقع الشفاء من الله تعالى، وقصد بذلك استعمال بدنه إذا صح لله تعالى، وإتعاب نفسه وكدها فى خدمة ربه، فتوكله باق على حاله لا ينقص منه الدواء شيئا، استدلالا بفعل سيد المتوكلين إذ عمل بذلك فى نفسه وفى غيره انتهى. فقد تبين أن التداوى لا ينافى التوكل، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نصبها الله تعالى مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح فى نفس التوكل، كما يقدح فى الأمر والحكمة.

_ (1) أخرجه الترمذى (2055) فى الطب، باب: ما جاء فى كراهية الرقية، وابن ماجه (3489) فى الطب، باب: الكى، وأحمد فى «المسند» (4/ 249 و 253) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6087) ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (6081) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوي أو كوى غيره وفضل من لم يكتو، ومسلم (220) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

وحكى ابن القيم: أنه ورد فى خبر إسرائيلى، أن الخليل- عليه الصلاة والسلام- قال: يا رب ممن الداء؟ قال: منى، قال: فممن الدواء؟ قال: منى. قال: فما بال الطبيب؟ قال: رجل أرسل الدواء على يديه. قال: وفى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لكل داء دواء» تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب ذلك الدواء، والتفتيش عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء، وبرد من حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، وقويت نفسه وانبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التى هى حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته. انتهى. فإن قلت: ما المراد بالإنزال فى قوله فى الأحاديث السابقة «إلا أنزل له دواء» وفى الرواية الآخرى «شفاء» فالجواب: أنه يحتمل أن يكون عبر بالإنزال عن التقدير، ويحتمل أن يكون المراد إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبى- صلى الله عليه وسلم-. وأين يقع طب حذاق الأطباء، الذى غايته أن يكون مأخوذا من قياس أو مقدمات وحدس وتجربة، من الوحى الذى يوحيه الله تعالى إلى رسوله- صلى الله عليه وسلم- بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عند حذاق الأطباء من الطب إلى هذا الوحى كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاء به- صلى الله عليه وسلم-. بل هاهنا من الأدوية التى تشفى من الأمراض ما لم تهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجربتهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله تعالى والتوكل عليه والانكسار بين يديه، والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير فى الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، وقد جربت ذلك- والله- مرات، فوجدته يفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية.

النوع الأول فى طبه ص بالأدوية الإلهية

ولا ريب أن طب النبى- صلى الله عليه وسلم- متيقن البرء، لصدوره عن الوحى ومشكاة النبوة، وطب غيره أكثره حدس وتجربة، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام بالمستعمل، من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول. وأظهر الأمثلة فى ذلك القرآن، الذى هو شفاء لما فى الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره به لقصوره فى الاعتقاد والتلقى بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجسا إلى رجسه، ومرضا إلى مرضه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، والقلوب الحية. فإعراض الناس عن طب النبوة لإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الكريم الذى هو الشفاء النافع. وكان علاجه- صلى الله عليه وسلم- للمريض على ثلاثة أنواع: أحدها: بالأدوية الإلهية الروحانية. والثانى: بالأدوية الطبيعية. والثالث: بالمركب من الأمرين. النوع الأول فى طبه ص بالأدوية الإلهية اعلم أن الله تعالى لم ينزل من السماء شفاء قط أعم- ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع فى إزالة الداء- من القرآن، فهو للداء شفاء، ولصدأ القلوب جلاء، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «1» . ولفظه «من» - كما قال الإمام فخر الدين «2» - ليست للتبعيض بل للجنس، والمعنى: وننزل من هذا الجنس الذى هو القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية. أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر، وذلك لأن المرض الروحانى نوعان:

_ (1) سورة الإسراء: 82. (2) هو: الإمام العلامة، فخر الدين، محمد بن عمر بن الحسين القرشى البكرى الطبرستانى الأصولى المفسر كبير الأذكياء والحكماء المصنفين، إلا أنه بدت له فى تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفى على طريقة حميدة، له التفسير الكبير، وغير ذلك، مات بهراة سنة 606 هـ، وله بضع وستون سنة.

الاعتقادات الباطلة: وأشدها فسادا الاعتقادات الفاسدة فى الإلهية والنبوات والمعاد والقضاء والقدر، والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق فى هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة. ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ فى هذه المطالب، والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة فى هذه المذاهب الباطلة من العيوب لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحانى. وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريفها وما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة، فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض. فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية. وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته ينفع كثيرا من الأمراض. وإذا اعتبر الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التى لا يفهم منها شئ آثارا عظيمة فى تحصيل المنافع ودفع المفاسد، أفلا تكون قراءة القرآن العظيم المشتمل على ذكر جلال الله تعالى وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع فى الدين والدنيا. ويتأيد ما ذكرناه بما روى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» «1» ونقل عن الشيخ أبى القاسم القشيرى- رحمه الله- أن ولده مرض مرضا شديدا حتى أشرف على الموت، فاشتد عليه الأمر، قال: فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام فشكوت إليه ما بولدى فقال: أين أنت من آيات الشفاء؟ فانتبهت فأفكرت فيها فإذا هى فى ستة مواضع من كتاب الله، وهى قوله تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ «2» .

_ (1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «الأفراد» عن أبى هريرة، كما فى «كنز العمال» (28106) . (2) سورة التوبة: 14.

وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ «1» . يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «2» . وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «3» . وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» . قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ «5» . قال: فكتبتها ثم حللتها بالماء وسقيته إياها فكأنما نشط من عقال، أو كما قال: وانظر رقية اللديغ ب «الفاتحة» وما فيها من السر البديع والبرهان الرفيع. وتأمل قوله- صلى الله عليه وسلم- فى بعض أدعيته: «وأن تجعل القرآن ربيع قلبى وجلاء حزنى، وشفاء صدرى» «6» فيكون له بمنزلة الدواء الذى يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله. وفى حديث عند ابن ماجه مرفوعا: «خير الدواء القرآن» «7» . وها هنا أمر ينبغى أن يتفطن له، نبه عليه ابن القيم: وهو أن الآيات والأذكار والأدعية التى يستشفى بها، ويرقى بها، هى فى نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعى قبول المحل، وقوة همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء

_ (1) سورة يونس: 57. (2) سورة النحل: 69. (3) سورة الإسراء: 82. (4) سورة الشعراء: 80. (5) سورة فصلت: 44. (6) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 391 و 452) ، وابن حبان فى «صحيحه» (972) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 690) ، من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه، فإنه مختلف فى سماعه عن أبيه. ا. هـ. وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح. (7) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3501 و 3533) فى الطب، باب: الاستشفاء بالقرآن، من حديث على- رضى الله عنه-، وقال البوصيرى فى «الزوائد» : فى إسناده الحارث الأعور، وهو ضعيف، وكذا ضعفه الألبانى فى «ضعيف الجامع» (2885) .

كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المحل المنفعل، أو لمانع قوى فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك فى الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون المانع قوى يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان الدواء فى نفس فعالة، وهمة مؤثرة أثر فى إزالة الداء. وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب فى رفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه، إما لضعفه فى نفسه بأن يكون دعاء لا يجيبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغافلة والسهو واللهو، وقد روى الحاكم حديث: «واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه» «1» . ومن أنفع الأدوية الدعاء، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وإذا جمع من الدعاء حضور القلب، والجمعية بالكلية على المطلوب، وصادف وقتا من أوقات الإجابة كثلث الليل الأخير، مع الخضوع والانكسار، والذل والتضرع، واستقبال القبلة، والطهارة ورفع اليدين، والبداءة بالحمد والثناء على الله تعالى، والصلاة والتسليم على سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- بعد التوبة والاستغفار والصدقة، واللح فى المسألة، وأكثر التملق والدعاء، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتوجه إليه بنبيه- صلى الله عليه وسلم- فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا، لا سيما إن دعاه بالأدعية التى أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. ولا خلاف فى مشروعية الفزع إلى الله تعالى، والالتجاء إليه فى كل ما ينوب الإنسان.

_ (1) حسن: أخرجه الترمذى (3479) فى الدعوات، باب: فى جامع الدعوات عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 670) ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وأما الرقى «1» ، فاعلم أن الرقى بالمعوذات من أسماء الله تعالى، هو الطب الروحانى، وإذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، لكن لما عزّ هذا النوع، فزع الناس إلى الطب الجسمانى. وفى البخارى، من حديث عائشة، (أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ينفث على نفسه فى المرض الذى مات فيه بالمعوذات وهى الفلق والناس والإخلاص) «2» فيكون من باب التغليب، أو المراد الفلق والناس. وكذلك كل ما ورد فى التعويذ فى القرآن، كقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ «3» . وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى من حديث ابن مسعود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يكره عشر خصال، فذكر منها الرقى إلا بالمعوذات «4» ، ففى سنده عبد الرحمن بن حرملة، قال البخارى: لا يصح حديثه. وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن فى الرقية بالفاتحة. وأما حديث أبى سعيد عند النسائى: كان- صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فأخذ بهما وترك ما سواهما «5» ، وحسنه

_ (1) الرقى: جمع رقية، وهى العوذة، أى الاعتياذ من جنون أو مرض، وأصل العوذ: اللجوء والاعتصام ولا يكون ذلك إلا بالله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا بكلمات نافعة وردت فى كتابه أو على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم-. (2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (5735) فى الطب، باب: الرقى والقرآن والمعوذات، ومسلم (2192) فى السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) سورة المؤمنون: 97. (4) ضعيف: أخرجه أبو داود (4222) فى الخاتم، باب: ما جاء فى خاتم الذهب، والنسائى (8/ 141) فى الزينة، باب: الخضاب بالصفرة، وأحمد فى «المسند» (1/ 380) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 216) قلت: ولم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود إلا عبد الرحمن بن حرملة، ولم يرو عبد الرحمن بن حرملة إلا عن ابن أخيه القاسم بن حسان، وكلاهما جهلهما الحافظ ابن حجر فى «التقريب» ، حيث قال عند كل واحد منها: مقبول، وهى تعنى عنده الجهالة. (5) صحيح: أخرجه الترمذى (2058) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقية بالمعوذتين، والنسائى (8/ 271) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من عين الجان، وابن ماجه (3511) فى الطب، باب: من استرقى من العين، والحديث صححه الشيخ الألبانى كما فى «صحيح الجامع» (4902) .

الترمذى، فلا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما. وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا. وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: - أن تكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته. - وباللسان العربى، أو بما يعرف معناه من غيره. - وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى. واختلفوا فى كونها شرطا، والراجح أنه لا بد من اعتبارها. وفى صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك: كنا نرقى فى الجاهلية، فقلنا يا رسول الله، كيف ترى فى ذلك؟ فقال: «اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقى إذا لم يكن فيه شرك» «1» . وله من حديث جابر: (نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم، فقالوا: يا رسول الله، إنها كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، قال: «فاعرضوها على» ، قال: فعرضوا عليه، قال: «ما أرى بأسا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه» «2» وقد تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جربت منفعتها، ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدى إلى الشرك فإنه يمتنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدى إلى الشرك فيمنع احتياطا. والشرط الأخير لا بد منه. وقال قوم: لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة، لحديث عمران بن حصين: (لا رقية إلا من عين أو حمة) «3» . وأجيب: بأن معنى الحصر فيه

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2200) فى السلام، باب: لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، وأبو داود (3886) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2199) فى السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، وابن ماجه (3515) فى الطب، باب: ما رخص فيه من الرقى. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، وهو عند مسلم (220) فى الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب من حديث بريدة- رضى الله عنه-.

أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مسّ ونحو ذلك، لا شتراكهما فى كونهما ينشان عن أحوال شيطانية من إنس أو جن، ويلحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية. وقد وقع عند أبى داود من حديث أنس مثل حديث عمران وزاد: (أو دم) «1» وفى مسلم من حديث أنس أيضا (رخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الرقى من العين والحمة والنملة) «2» وفى حديث آخر (والأذن) «3» ، ولأبى داود من حديث الشفاء بنت عبد الله أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا تعلمين هذه- يعنى حفصة- رقية النملة؟» «4» . والنملة: قروح تخرج فى الجنب وغيره من الجسد. وقيل: المراد بالحصر يعنى الأفضل، أى لا رقية أنفع، كما قيل: لا سيف إلا ذو الفقار، وقال قوم: المنهى عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكر ابن عبد البر والبيهقى وغيرهما. وروى أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود، رفعه «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» «5» . والتمائم: جمع تميمة وهى خرزة أو قلادة تعلق فى الرأس، كانوا فى الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات. والتولة: بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا- شئ كانت المرأة تستجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (3889) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2196) فى السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة. (3) لم أقف على زيادة (والأذن) . (4) صحيح: والحديث أخرجه أبو داود (3887) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى، وأحمد فى «المسند» (6/ 372) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (5) صحيح: أخرجه أبو داود (3883) فى الطب، باب: ما جاء فى الرقى، وابن ماجه (3530) فى الطب، باب: تعليق التمائم، وأحمد فى «المسند» (1/ 381) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 463) ، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو كما قال.

المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل فى ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه. فقد ثبت فى الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-. ولا خلاف فى مشروعية الفزع إلى الله سبحانه وتعالى، والالتجاء إليه سبحانه فى كل ما يقع وكل ما يتوقع. وقال بعضهم: المنهى عنه من الرقى هو الذى يستعمله المعزم وغيره ممن يدعى تسخير الجن له، فيأتى بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل، يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم، والتعوذ من مردتهم، ويقال إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بنى آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذلك اللديغ إذا رقى بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربى الذى يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك. وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة. وقال القرطبى: الرقى ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان يرقى به فى الجاهلية، مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدى إلى الشرك. الثانى: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورا فيستحب. الثالث: ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذى يتضمن الالتجاء إلى الله تعالى به والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغى أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى. وقال الربيع «1» : سألت الشافعى عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله تعالى، وبما يعرف من ذكر الله تعالى. فقلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله. انتهى.

_ (1) هو: الربيع بن سليمان، أبو محمد المرادى، مولاهم المصرى، صاحب الإمام الشافعى، وناقل علمه، أفنى عمره فى العلم ونشره، مات فى شوال سنة 270 هـ.

رقية الذى يصاب بالعين:

وفى الموطأ: أن أبا بكر قال لليهودية التى كانت ترقى عائشة: ارقيها بكتاب الله «1» . قال النووى وقال القاضى عياض: واختلف قول مالك فى رقية اليهودى والنصرانى المسلم، وبالجواز قال الشافعى والله أعلم. وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط، والذى يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم. رقية الذى يصاب بالعين: روى مسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «العين حق، ولو كان شئ سابق القدر لسبقته العين» «2» . أى الإصابة بالعين شئ ثابت موجود، وهى من جملة ما تحقق كونه. قال المازرى: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى، لأن كل شئ ليس محالا فى نفسه، ولا يؤدى إلى قلب حقيقة، ولا إلى فساد دليل، فهو من مجوزات العقول. فإذا أخبر الشارع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى. وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة. وقد استشكل بعض الناس هذه الإصابة فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟ وأجيب: بأن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن فى الهواء إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال: إذا رأيت شيئا يعجبنى وجدت حرارة تخرج من عينى. ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها فى إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد. ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد. وقال المازرى: زعم بعض الطبائعيين أن العائن تنبعث من عينيه قوة

_ (1) أخرجه مالك فى «الموطأ» (2/ 943) بسند منقطع بين عمرة بنت عبد الرحمن الراوية للقصة لأنها لم تدرك أبا بكر- رضى الله عنه-، إلا أنها من أحد الثقات فى عائشة، فلعلها سمعته منها. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2188) فى السلام، باب: الطب والمرض والرقى.

سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد. وهو كإصابة السم من نظر الأفعى، وأشار إلى منع الحصر فى ذلك مع تجويزه. وإن الذى يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص آخر، وهل ثم جواهر حقيقة أو لا؟ هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه. ومن قال ممن ينتمى إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بالقطع بأن ثم جواهر لطيفة غير مرئية تنبعث من العائن فتتصل بالمعيون، وتتخلل مسام جسمه، فيخلق البارى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم فقد أخطأ بدعوى القطع، ولكنه جائز أن تكون عادة ليست ضرورية ولا طبيعية، انتهى. وهو كلام سديد. وليس المراد بالتأثير المعنى الذى تذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون. وقد أخرج البزار بسنده عن جابر رفعه: «أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس» «1» . قال الراوى: يعنى العين. وقد أجرى الله تعالى العادة بوجود كثير من القوى والخواص فى الأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى فى وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه. وكثير من الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه. وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى فى الأرواح من التأثيرات لشدة ارتباطها بالعين، وليست هى المؤثرة، وإما التأثير للروح، والأرواح مختلفة فى طبائعها وكيفياتها وخواصها، فمنها ما يؤثر فى البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة. والحاصل: أن التأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسمانى، بل يكون تارة به، وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية، وأخرى بتوجه الروح، كالذى يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى الله

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 106) وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا طالب بن حبيب بن عمرو، وهو ثقة.

تعالى، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذى يخرج من عين العائن سهم معنوى، إن صادف البدن- لا وقاية له- أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم بل ربما عاد على صاحبه كالسهم الحسى. انتهى ملخصا من فتح البارى وغيره. قال ابن القيم: والغرض العلاج النبوى لهذه العلة، فمن التعوذات والرقى: الإكثار من قراءة المعوذتين والفاتحة وآية الكرسى، ومنها التعوذات النبوية نحو: أعوذ بكلمات الله التامة من شر كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامة. ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ فى الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان «1» . وإذا كان يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه. كما قال- صلى الله عليه وسلم- لعامر بن ربيعة لما عاين سهل بن حنيف: «ألا برّكت عليه» «2» . ومما يدفع به إصابة العين: قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله «3» . ومنها رقية جبريل للنبى- صلى الله عليه وسلم- كما رواه مسلم: (بسم الله أرقيك من شر كل شئ يؤذيك، من شر كل ذى نفس أو عين حاسد. الله يشفيك،

_ (1) قلت: قد ورد هذا الدعاء مرفوعا، من حديث خالد بن الوليد، وقد رواه الطبرانى فى الأوسط وفيه زكريا بن يحيى بن أيوب الضرير المدائنى ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمى فى «المجمع» (10/ 126) ، وأورده أيضا فى (10/ 127) من حديث عبد الرحمن بن حنيش- رضى الله عنه- وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبرانى بنحوه، ورجال أحد إسنادى أحمد وأبى يعلى وبعض أسانيد الطبرانى رجال الصحيح وكذا رجال الطبرانى، وفى المصدر السابق أيضا عن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه-، وقال: رواه الطبرانى فى الصغير، وفيه من لم أعرفه. (2) صحيح: وقد ورد ذلك عند مالك فى «الموطأ» (2/ 938) فى أول كتاب العين بسند رجاله ثقات، وانظر ابن ماجه (3509) فى الطب، باب: العين. (3) لعله يشير إلى قول الرجل الصالح فى سورة الكهف: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الآية: 39.

بسم الله أرقيك) «1» . وعنده أيضا من حديث عائشة: كان جبريل يرقى النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا اشتكى: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر كل حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذى عين «2» . وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: «العين حق، ولو كان شئ سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» «3» . وظاهر الأمر الوجوب، وحكى فيه المازرى خلافا وصحح الوجوب، وقال: متى خشى الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجب بذل الطعام للمضطر، وهذا أولى. ولم يبين فى حديث ابن عباس صفة الاغتسال. قال الحافظ ابن حجر: وقد وقعت فى حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائى وصححه ابن حبان من طريق الزهرى عن أبى أمامة بن سهل «4» : أن أباه حدثه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الحرار من الجحفة، اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة «5» ، فلبط سهل- أى صرع- وسقط إلى الأرض. فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هل تتهمون من أحد؟» قالوا: عامر بن ربيعة، فدعا عامرا، فتغيظ عليه، فقال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت» . ثم قال: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره فى قدح، ثم صب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره، ثم كفأ القدح ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس «6» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2186) فى السلام، باب: الطب والمرض والرقى. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2185) فيما سبق. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2188) فيما سبق، وقد تقدم. (4) ما بين المعقوفتين مستدرك من «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (10/ 250) . (5) المخبأة: الفتاة فى خدرها، وهو كناية عن شدة بياضه. (6) صحيح: وقد تقدمت القصة، وهى عند ابن ماجه (3509) كما تقدم.

قال المازرى: المراد ب «داخلة إزاره» الطرف المتدلى الذى يلى حقوه الأيمن، قال: وظن بعضهم أنه كناية عن الفرج. انتهى. وزاد القاضى عياض: أن المراد ما يلى جسده من الإزار. وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل أراد وركه لأنه معقد الإزار. رأيت مما عزى لخط شيخنا الحافظ أبى الخير السخاوى: قال ابن بكير عن مالك: أنه كناية عن الثوب الذى يلى الجسد. وقال ابن الأثير فى النهاية: كان من عادتهم أن الإنسان إذا أصابته عين من أحد جاء للعائن بقدح فيه ماء فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه فى القدح ثم يغسل وجهه فيه، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على يده اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على يده اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب علي قدمه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره ولا يوضع القدح بالأرض، ثم يصب ذلك الماء المستعمل على رأس المصاب بالعين من خلفه صبة واحدة فيبرأ بإذن الله تعالى، انتهى. قال المازرى: وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه. وقال ابن العربى: إن توقف فيه متشرع قلنا له: قل الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة، أو متفلسف؛ فالرد عليه أظهر، لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله: الخواص. قال ابن القيم: ومن علاج ذلك والاحتراز منه، ستر محاسن من يخاف عليه العين، بما يردها عنه، كما ذكره البغوى فى كتاب شرح السنة: أن عثمان بن عفان رأى صبيّا مليحا، فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين، ثم قال فى تفسيره، ومعنى دسموا نونته: أى سودوا نونته، والنونة: النقرة التى تكون فى ذقن الصغير «1» .

_ (1) انظر ذلك فى «شرح السنة» (13/ 116) للإمام البغوى.

عقوبة العائن:

وذكر عن أبى عبد الله الساجى أنه كان فى بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة، فكان فى الرقة رجل عائن قل ما نظر إلى شئ إلا أتلفه، فقيل لأبى عبد الله: احفظ ناقتك من العائن، فقال ليس له إلى ناقتى سبيل، فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبى عبد الله، فجاء إلى رحله فنظر إلى الناقة فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله فأخبر أن العائن قد عانها وهى كما ترى. فقال: دلونى عليه، فوقف عليه فقال: بسم الله حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير. فخرجت حدقتا العائن وقامت الناقة لا بأس بها» . انتهى. وفى حديث هذا الباب من الفوائد: أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذى يعجبه الشئ يبادر إلى الدعاء للذى يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الإصابة بالعين قد تقتل. عقوبة العائن: وقد اختلف فى جريان القصاص بذلك: فقال القرطبى: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو فى ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا. انتهى. ولم تتعرض الشافعية للقصاص فى ذلك، بل منعوه وقالوا: إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا. وقال النووى فى «الروضة» : ولا دية فيه ولا كفارة، لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام، دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال مما لا انضباط لها، كيف ولم يقع منه فعل

_ (1) قلت: وقد ذكر أيضا هذه القصة ابن القيم فى «زاد المعاد» (4/ 174) بتحقيقنا، ولم يعقب عليها.

ذكر رقية النبى ص التى كان يرقى بها

أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة، وأيضا: فالذى ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه فى زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين، انتهى. قال الحافظ ابن حجر: ولا يعكر عليه إلا الحكم بقتل الساحر، فإنه فى معناه، والفرق بينهما عسر. ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم: أنه ينبغى للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس، وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذى منعه عمر من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم الذى منع الشارع أكله من حضور الجماعة. قال النووى: وهذا القول صحيح متعين لا يعرف من غيره تصريح بخلافه. ذكر رقية النبى ص التى كان يرقى بها عن عبد العزيز قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: بلى، قال: قل اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافى لا شافى إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما «1» . رواه البخارى. وقوله: «مذهب الباس» : بغير همزة للمواخاة، أصله الهمز. وفى قوله «لا شافى إلا أنت» إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوى إن لم يصادف تقدير الله وإلا فلا ينجع. وقوله «لا يغادر- بالعين المعجمة- أى لا يترك» . وفى البخارى أيضا عن مسروق عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: «اللهم رب الناس أذهب الباس، واشفه وأنت الشافى لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما» «2» . وقوله «يمسح يده» أى على الوجع. وقوله «إلا شفاؤك» بالرفع بدل من موضع: لا شفاء.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5742) فى الطب، باب: رقية النبى- صلى الله عليه وسلم-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5743) فى الطب، باب: رقية النبى- صلى الله عليه وسلم-.

ذكر طبه ص من الفزع والأرق المانع من النوم:

وعن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرقى ويقول: «امسح الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت» «1» . رواه البخارى أيضا. وفى صحيح مسلم، عن عثمان بن أبى العاص، أنه شكا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعا يجده فى جسده منذ أسلم، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ضع يدك على الذى تألم من جسدك وقل: بسم الله، ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» «2» . وإنما كرره ليكون أنجح وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة. ذكر طبه ص من الفزع والأرق المانع من النوم: عن بريدة قال: شكا خالد إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل من الأرق، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت، كن لى جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط على أحد منهم أو يبغى على، عزّ جارك، وجل ثناؤك ولا إله غيرك» «3» رواه الترمذى. ذكر طبه ص من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى: فى المسند مرفوعا: «ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرا منها، إلا آجره الله فى مصيبته وأخلف له خيرا منها» «4» . قال فى الهدى النبوى «5» : وهذه الكلمة

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5744) فيما سبق. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2203) فى السلام، باب: استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء. (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3523) فى الدعوات، باب: منه، وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوى، والحكم بن ظهير قد ترك حديثه بعض أهل الحديث ويروى هذا الحديث عن النبى- صلى الله عليه وسلم- مرسلا من غير هذا الوجه. (4) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 317 و 321) ، وهو عند مسلم (918) فى الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-. (5) يقصد «زاد المعاد فى هدى خير العباد» ، وانظر هذا النقل عنده فى (4/ 189) .

ذكر طبه ص من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب:

من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له فى عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن المصيبة: أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله الله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير. الثانى: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله [مولاه الحق] ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجئ ربه فردا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد ونهايته فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء. قال: ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسى بأهل المصائب، وأنه لو فتش العالم لم ير فيه إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وإن سرور «1» الدنيا أحلام نوم، أو ظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما أساءت دهرا، وإن متعت قليلا منعت طويلا، وما ملأت دارا حبرة «2» إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور، إلا خبأت له يوم شرور. قال ابن مسعود: لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا. ذكر طبه ص من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب: عن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب العرش الكريم» «3» . وقوله «عند الكرب» أى عند حلول الكرب. وعند مسلم: كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب. وعنده أيضا:

_ (1) فى مطبوع «زاد المعاد» (4/ 190) (شرور) وهى هنا أصوب. (2) فى مطبوع «زاد المعاد» (4/ 190) (خيرة) وهى هنا أصوب. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6345 و 6346) فى الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، ومسلم (2730) فى الذكر والدعاء، باب: دعاء الكرب.

(كان إذا حزبه أمر) - وهى بفتح المهملة والزاى وبالموحدة- أى هجم عليه أو غلبه. قال الطبرى: معنى قول ابن عباس «يدعو» ، وإنما هو تهليل وتعظم، يحتمل أمرين: أحدهما، أن المراد تقديم ذلك قبل الدعاء، كما عند عبد بن حميد «كان إذا حزبه أمر قال ... » فذكر الذكر المأثور، وزاد: ثم دعا. قال الطبرى: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب له، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة وقد سئل عن الحديث الذى فيه «أكثر ما كان يدعو به النبى- صلى الله عليه وسلم- بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» «1» الحديث. فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه دعاء، ولكن قال النبى- صلى الله عليه وسلم- عن ربه عز وجل: من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين «2» . وقال أمية ابن أبى الصلت فى مدح عبد الله بن جدعان: أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إن شبمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثناء فهذا مخلوق حين نسبه إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق. ثم إن حديث ابن عباس هذا- كما قاله ابن القيم- قد اشتمل على توحيد الإلهية والربوبية ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز، ووصفه

_ (1) ضعيف: وقد ورد ذلك فى حديث ضعيف أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 210) من حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى فى «ضعيف الجامع» (4464) : ضعيف. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2926) فى فضائل القرآن، باب: رقم (24) ، والدارمى فى «سننه» (3356) ، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

بكمال ربوبيته الشاملة للعالم العلوى والسفلى والعرش الذى هو سقف المخلوقات وأعظمها، والربوبية التامة تستلزم توحيده، وأنه الذى لا تنبغى العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه، وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه. فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسى، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى. ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمنها هذا الحديث وجدته فى غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخرج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور. وإنما يصدق هذه الأمور من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها. قال ابن بطال حدثنى أبو بكر الرازى قال: كنت بأصبهان عند أبى نعيم فقال له شيخ: إن أبا بكر بن على قد سعى به إلى السلطان فسجن، فرأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لى النبى- صلى الله عليه وسلم- قل لأبى بكر بن على يدعو بدعاء الكرب الذى فى صحيح البخارى «1» حتى يفرج الله عنه، قال: فأصبحت فأخبرته فدعا به، فلم يمكث إلا قليلا حتى أخرج. وفى حديث على عند النسائى وصححه الحاكم: لقننى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذه الكلمات وأمرنى إن نزل بى كرب أو شدة أن أقولها: «لا إله إلا الله الكريم العظيم، سبحان الله تبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين» وفى لفظ: «الحليم الكريم» فى الأولى، وفى لفظ لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم العلى العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له

_ (1) هو حديث ابن عباس المتقدم قبل قليل.

الحليم الكريم، وفى لفظ لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحانه، تبارك وتعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين «1» . أخرجها كلها النسائى. وروى الترمذى عن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أهمه أمر رفع طرفه إلى السماء فقال: «سبحان الله العظيم» وإذا اجتهد فى الدعاء قال: «يا حى يا قيوم» «2» وعنده أيضا من حديث أنس: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر قال: «يا حى يا قيوم، بك أستغيث» «3» . قال العلامة ابن القيم: وفى تأثير قوله: «يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث» فى دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإن صفة «الحياة» متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة «القيومية» متضمنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا كان اسم الله الأعظم الذى إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى هو اسم الحى القيوم، والحياة التامة تضاد جميع الآلام والأسقام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقها هم ولا غم ولا حزن ولا شئ من الآفات. فالتوسل بصفة «الحياة والقيومية» له تأثير فى إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال. فلهذا الاسم «الحى القيوم» تأثير عظيم خاص فى إجابة الدعوات وكشف الكربات. ولهذا كان- صلى الله عليه وسلم- إذا اجتهد فى الدعاء قال: يا حى يا قيوم. وروى أبو داود عن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلنى إلى نفسى طرفة

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى فى «الكبرى» (7673 و 7677 و 7678 و 8410- 8415 و 10463- 10482) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 688 و 689) و (3/ 149) وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين. اهـ. قلت: وهو فى الصحيحين بنحوه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (3436) فى الدعوات، باب: ما جاء ما يقول عند الكرب، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف جدّا. (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3524) فى الدعوات، والنسائى فى «الكبرى» (7682 و 7683 و 10448) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (6545) بسند ضعيف.

عين، وأصلح لى شأنى كله، لا إله إلا أنت» «1» . وفى هذا الدعاء- كما قاله فى زاد المعاد- من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيده، والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمر إليه والتضرع إليه أن يتولى إصلاح شأنه ولا يكله إلى نفسه، والتوسل إليه بتوحيده، مما له تأثير فى دفع هذا الداء. وكذا قوله فى حديث أسماء بنت عميس عند أبى داود أيضا مرفوعا: «كلمات الكرب: الله ربى لا أشرك به شيئا» «2» . وفى مسند الإمام أحمد من حديث ابن مسعود عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: ما أصاب عبدا همّ ولا حزن فقال: «اللهم إنى عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتى بيدك، ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك أو أعلمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبى، ونور صدرى، وجلاء حزنى، وذهاب همى، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا» «3» . وإنما كان هذا الدعاء بهذه المنزلة لاشتماله على الاعتراف بعبودية الداعى وعبودية آبائه وأمهاته، وأن ناصيته بيده، يصرفها كيف يشاء، وإثبات القدر، وأن أحكام الرب نافذة فى عبده، ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له فى دفعها، وأنه سبحانه وتعالى عدل فى هذه الأحكام غير ظالم لعبده، ثم

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (5090) فى الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، وأحمد فى «مسنده» (5/ 42) ، والبخارى فى «الأدب المفرد» (701) بسند حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» والحديث من طريق عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبى فلعل بكرة تصحفت عنده لبكر ثم أضاف من أضاف من عنده الصديق باعتباره أبى بكر الصديق، ولعل ذلك نتيجة نقله من الإمام ابن القيم فى «زاد المعاد» حيث وقع فى نفس الوهم- رحمهما الله-. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (1525) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار، والنسائى فى «الكبرى» (10484) ، وابن ماجه (2882) فى الدعاء، باب: الدعاء عند الكرب، بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) صحيح: وقد تقدم.

توسله بأسماء الرب تعالى التى سمى بها نفسه، ما علم العباد منها، وما لم يعلموا، ومنها ما استأثر به فى علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيّا مرسلا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله، وأقربها تحصيلا للمطلوب، ثم سؤاله أن يجعل القرآن لقلبه ربيعا، أى كالربيع الذى يرتع فيه الحيوان، وأن يجعله لصدره كالنور الذى هو مادة الحياة، وبه يتم معاش العباد وأن يجعله شفاء همه وغمه فيكون بمنزلة الدواء الذى يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذى يجلو الطبوع «1» والأصدية، فإذا صدق العليل فى استعما لهذا الدواء أعقبه شفاء تامّا. وفى سنن أبى داود، عن أبى سعيد الخدرى قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: «يا أبا أمامة ما لى أراك فى المسجد فى غير وقت الصلاة» فقال: هموم لزمتنى وديون يا رسول الله، فقال: «ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك، وقضى دينك» قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت، اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» قال: ففعلت ذلك فأذهب الله همى، وقضى دينى «2» . وقد تضمن هذا الحديث الاستعاذة من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان مزدوجان: فالهم والحزن أخوان، والجبن والبخل أخوان، والعجز والكسل أخوان وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان، فحصلت الاستعاذة من كل شر.

_ (1) الطبوع: جمع طبع، وهى السجية التى جبل عليها الإنسان، كما تأتى بمعنى الدنس والصدأ، ولعلها المقصودة هنا. (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1555) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة وفى إسناده غسان بن عوف، هو البصرى، قال عنه الحافظ فى «التقريب» : لين الحديث، ولذا ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

وفى سنن أبى داود- أيضا- عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» «1» . وإنما كان الاستغفار له تأثيرا فى دفع الهم والضيق لأنه قد اتفق أهل الملل وعقلاء كل ملة على أن المعاصى والفساد يوجبان الهم والغم والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب، وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام فى القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار. وعن ابن عباس عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من كثرت همومه فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله» . وثبت فى الصحيحين أنها كنز من كنوز الجنة «2» ، وفى الترمذى: أنها باب من أبواب الجنة «3» ، وفى بعض الآثار: أنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله. وروى الطبرانى من حديث أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما كربنى أمر إلا تمثل لى جبريل فقال لى: يا محمد قل توكلت على الحى الذى لا يموت، والحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك، ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا» . وفى كتاب ابن السنى من حديث أبى قتادة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ آية الكرسى وخواتيم سورة البقرة عند

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1518) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار، وابن ماجه (3819) في الأدب، باب: الاستغفار وأحمد فى «المسند» (1/ 248) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 291) ، بسند فيه الحكم بن مصعب، قال عنه الحافظ ابن حجر فى «التقريب» مجهول، وهو كما قال، وليس له إلا حديثين أحدهما ليس له أصل، والثانى مثله بهذا اللفظ، والراوى عنه الوليد بن مسلم، وهو ما فيه. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (6384) فى الدعوات، باب: الدعاء إذا علا عقبة، ومسلم (2704) فى الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (3581) فى الدعوات، باب: فى فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، وأحمد فى «المسند» (3/ 422) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 323) من حديث سعد بن عباد، - رضى الله عنه-، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. اهـ. وكذا صححه الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

الكرب أغاثه الله عز وجل» . وعنده- أيضا- من حديث سعد بن أبى وقاص، قال: قال- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه، كلمة أخى يونس: فنادى فى الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين» «1» . وعند الترمذى: «لم يدع بها رجل مسلم فى شئ قط إلا استجيب له» «2» . وروى الديلمى فى مسند الفردوس، عن جعفر بن محمد- يعنى الصادق- قال: حدثنى أبى عن جدى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا حزبه أمر دعا بهذا الدعاء: «اللهم احرسنى بعينك التى لا تنام، واكنفنى بكنفك الذى لا يرام، وارحمنى بقدرتك على فلا أهلك وأنت رجائى، فكم من نعمة أنعمت بها على قلّ لك بها شكرى، وكم من بلية ابتليتنى بها قلّ لك بها صبرى، فينا من قلّ عند نعمته شكرى فلم يحرمنى، ويا من قلّ عند بليته صبرى فلم يخذلنى، ويا من رآنى على الخطايا فلم يفضحنى، يا ذا المعروف الذى لا ينقضى أبدا، ويا ذا النعمة التى لا تحصى عددا، أسألك أن تصلى على محمد وعلى آل محمد وبك أدرأ فى نحور الأعداء والجبارين، اللهم أعنى على دينى بالدنيا، وعلى آخرتى بالتقوى واحفظنى فيما غبت عنه، ولا تكلنى إلى نفسى فيما حظرته على، يا من لا تضره الذنوب، ولا ينقصه العفو، هب لى ما لا ينقصك، واغفر لى ما لا يضرك، إنك أنت الوهاب، أسألك فرجا قريبا وصبرا جميلا، ورزقا واسعا، والعافية من البلايا، وشكر العافية- وفى رواية: وأسألك الشكر على العافية- وأسألك الغنى عن الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

_ (1) رجاله ثقات: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (7/ 68) وقال: رواه أحمد ورجال رجال الصحيح غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبى وقاص وهو ثقة. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (3505) فى الدعوات، باب: رقم (85) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 684 و 685) و (2/ 637 و 639) والحديث صححه الألبانى فى «صحيح الجامع» (3383) .

ذكر طبه ص من داء الفقر:

ذكر طبه ص من داء الفقر: عن ابن عمر: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن الدنيا أدبرت عنى وتولت، قال له: «فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبه يرزقون، قل عند طلوع الفجر: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، استغفر الله مائة مرة تأتيك الدنيا صاغرة» فولى الرجل فمكث ثم عاد فقال: يا رسول الله لقد أقبلت على الدنيا فما أدرى أين أضعها. رواه الخطيب فى رواة مالك. ذكر طبه ص من داء الحريق: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه» «1» . فإن قلت ما وجه الحكمة فى إطفاء الحريق بالتكبير، أجاب صاحب زاد المعاد: بأنه لما كان الحريق سببه النار، وهى مادة الشيطان التى خلق منها، وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله، وكان للشيطان إعانة عليه وتنفيذ له، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد، وهما هدى الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما يهلك بنى آدم، فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو فى الأرض والفساد، وكبرياء الله تعالى تقمع الشيطان وفعله، فلهذا كان تكبير الله له أثر فى إطفاء الحريق، فإن كبرياء الله تعالى لا يقوم لها شئ، فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبره فى خمود النار التى هى مادة الشيطان. وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك. انتهى. وقد جربت ذلك بطيبة فى سنة خمس وتسعين وثمانمائة فوجدت له أثرا عظيما لم أجده لغيره. ولقد شاع وذاع رؤية طيور بحريق طيبة الواقع فى ثالث عشر رمضان سنة ست وثمانين وثمانمائة معلنة بالتكبير. وفيه يقول قاضى القضاة شمس الدين السخاوى:

_ (1) ضعيف جدّا: أخرجه ابن السنى فى «عمل اليوم والليلة» (289- 292) ، وفى سنده القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمرى نسبة إلى عمر بن الخطاب، قال عنه الحافظ فى «التقريب» (5468) : متروك رماه أحمد بالكذب.

ذكر ما كان ص يطب به من داء الصرع:

فظن كلّ بأن النار تحرقه ... فما ترى من جواها غير منهزم فجاءت الطير روتها بأجنحة ... عن البيوت رآها غير متهم وقال أيضا فى قصيدة أخرى: فكل شخص تولى خائفا حذرا ... فجاءت الطير للنيران تطردها عن البيوت ولا يخفى لمن بصرا ذكر ما كان ص يطب به من داء الصرع: فى الصحيحين أن امرأة أتت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إنى أصرع، وإنى أتكشف، فادع الله لى، فقال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك» فقالت: أصبر، قالت: فإنى أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها «1» . قال ابن القيم: الصرع صرعان، صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثانى هو الذى يتكلم فيه الأطباء. فأما علاج صرع الأرواح فيكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج، فالذى من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذى قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا فى نفسه جيدا، وأن يكون الساعد قويّا. والثانى: من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا، حتى إن من المعالجين من يكتفى بقوله: اخرج منه، أو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5652) فى المرضى، باب: فصل من يصرع من الريح، ومسلم (2576) فى البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

ذكر دوائه ص من داء السحر:

قال: وقد كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «اخرج عدو الله أنا رسول الله» «1» وكان بعضهم يعالج ذلك باية الكرسى ويأمر بكثرة قراءتها للمصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين. قال: ومن حدث له الصرع وله خمسة وعشرون سنة وخصوصا بسبب دماغى أيس من برئه، وكذلك إذا استمر به إلى هذه السن. قال: فهذه المرأة التى جاء الحديث أنها تصرع وتتكشف يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها النبى- صلى الله عليه وسلم- بصبرها على هذا المرض بالجنة. ولقد جربت الإقسام بالنبى- صلى الله عليه وسلم- على الله تعالى «2» مع قوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ «3» إلى آخر سورة الفتح فى ابنتين صغيرتين صرعتا فشفيتا. ومن الغريب قصة غزالة الحبشية خادمتنا لما صرعت بدرب الحجاز الشريف واستغثت به- صلى الله عليه وسلم-» فى ذلك، فجئ إلى بصارعها فى المنام بأمره- صلى الله عليه وسلم- فوبخته وأقسم أن لا يعود إليها، فاستيقظت وما بها قلبة ومن ثم لم يعد إليها فلله الحمد. ذكر دوائه ص من داء السحر: قال النووى: السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد يكون

_ (1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 170 و 171) من حديث يعلى بن مرة- رضى الله عنه-، وهو عند ابن ماجه (3548) فى الطب، باب: الفزع والأرق وما يتعوذ منه، من حديث عثمان بن أبى العاص- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (2) قلت: الإقسام لا يكون إلا بالله عز وجل، لا بنبى مرسل، ولا ملك مقرب، لحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أراد أن يحلف فليحلف بالله» . (3) سورة الفتح: 29. (4) قلت: الاستغاثة لا تكون إلا بالله عز وجل، أو من عبد فيما يقدر عليه، كما استغاث الإسرائيلى بموسى- عليه السّلام- ضد المصرى، وذلك يكون حال حياته، أما بعد موته فلا يجوز لعدم إمكان الإغاثة فلا يبقى إلا الحى الذى لا موت، ونأسف إنه يوجد من بين علمائنا من يغالى فى ذات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويضعه فوق منزلته الشريفة، والأصل فى ذلك الاتباع، وانظر فى ذلك فى حال أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذين كان الواحد منهم يقع سوطه على الأرض وهو على الدابة، فينيخها ويأتى به ولا يسأل أحدا وهم أحياء، ومنا من يترك الأحياء، ويسأل الموتى.

كفرا، وقد لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضى الكفر كفر، وإلا فلا، وأما تعليمه وتعلمه فحرام، وإذا لم يكن فيه ما يقتضى الكفر عزر فاعله واستتيب منه، ولا يقتل عندنا، وإن تاب قبلت توبته. وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله. والمسألة مبنية على الخلاف فى قبول توبة الزنديق، لأن الساحر عنده كافر، كما ذكرناه، وعندنا: ليس بكافر «1» ، وعندنا تقبل توبة المنافق والزنديق. قال القاضى عياض: وبقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروى عن جماعة من الصحابة والتابعين. قال أصحابنا: فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص. فإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص وتجب الدية والكفارة، وتكون الدية فى ماله لا على عاقلته، لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجانى. قال أصحابنا: ولا يتصور ثبوت القتل بالسحر بالبينة، وإنما يتصور باعتراف الساحر. انتهى. واختلف فى السحر: فقيل: هو تخييل فقط، ولا حقيقة له، وهو اختيار أبى جعفر الاستراباذى من الشافعية، وأبى بكر الرازى من الحنفية وطائفة. قال النووى: والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. قال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلانى: لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، والقائلون بأن له حقيقة اختلفوا: هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض، أو ينتهى إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه، فالذى عليه الجمهور هو الأول.

_ (1) قلت: الذى أعرفه عن الإمام الشافعى- رحمه الله- أنه لا يكفر الساحر، بل يتوقف فى أمره حتى يستبين له أن ما يأتيه سحر أم لا، حيث إن بعض الدجالين يأتون بأعمال ليست من السحر، فلا يكفرون بها، أما الساحر الحقيقى فكافر كما قال مالك وأحمد- رحمهما الله- مستدلين على ذلك بقول الله تعالى ... وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ... وليس بعد كلام الله كلام.

وقال المازرى: جمهور العلماء على إثبات السحر، لأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق، أو تركيب أجسام، أو مزج قوى على ترتيب مخصوص. ونظير ذلك ما وقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده فيصير بالتركيب نافعا. وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله فى قوله: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ «1» ، لكون المقام مقام تهويل. فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره الله تعالى. وقال المازرى: والصحيح من جهة العقل أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصّا فى منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة فى ذلك. ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة، أن السحر يكون معاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدى. ونقل إمام الحرمين: الإجماع على أن السحر لا يقع إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على يد فاسق. ونقل نحوه النووى فى «زيادة الروضة» عن المتولى. وينبغى أن يعتبر حال من يقع منه الخارق، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات، فإن الذى يظهر على يديه من الخوارق كرامة وإلا فهو سحر. وقال القرطبى: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجود تركيبها وأوقاتها، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك، كما قال تعالى عن سحرة فرعون وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ «2» مع أن حبالهم وعصيهم لم يخرجوها عن كونها حبالا وعصيّا. وقال أبو بكر الرازى فى «الأحكام» : (أخبر الله تعالى أن الذى ظنه

_ (1) سورة البقرة: 102. (2) سورة الأعراف: 116.

موسى أنها تسعى لم يكن سعيّا، وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة وقد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا، فلما طرحت على ذلك الموضع وحمى الزئبق حركا، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصى صارت تتحرك بحركته، فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة، انتهى. قال القرطبى: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا فى القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفى الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكر أن ينقلب الجماد حيوانا، أو عكسه، بسحر الساحر. وقد ثبت فى البخارى من حديث عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سحر، حتى إن كان ليخيل إليه أنه يفعل الشئ وما فعله، حتى إذا كان ذات ليلة عند عائشة دعا ودعا ثم قال: «يا عائشة، أشعرت أن الله أفتانى فيما استفتيته؟ أتانى رجلان، فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلى، فقال أحدهما: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب «1» ، قال من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فى أى شئ؟ قال: فى مشط ومشاقة «2» وجف طلع «3» نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: فى بئر ذروان «4» » ، فأتاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ناس من أصحابه، فجاء فقال: «يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء «5» ، وكان رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، فقلت يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: قد عافانى الله، فكرهت أن أثور على الناس فيه شرّا، فأمر بها فدفنت» . وفى رواية للبخارى أيضا: «فأتى البئر حتى استخرجه فقال: هذه البئر التى رأيتها» ، قالت عائشة: أفلا

_ (1) مطبوب: أى مسحور. (2) المشاقة: ما يسقط من الشعر حين يمشط. (3) جف الطلعة: وعاء الطلع وغشاؤه إذا جف. (4) بئر ذروان: بئر فى المدينة فى بستان لأحد اليهود. (5) نقاعة الحناء: أى الماء الذى ينقع فيه الحناء، والحناء معروف، وهو الذى يتخذ للخضاب.

تنشرت «1» ؟ قال: «أما الله شفانى، وأكره أن أثير على الناس شرّا» «2» . وفى حديث ابن عباس عند البيهقى- بسند ضعيف- فى آخر قصة السحر الذى سحر به النبى- صلى الله عليه وسلم- أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت الفلق والناس، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة. وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس أن عليّا وعمارا لما بعثهما النبى- صلى الله عليه وسلم- لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة فذكر نحوه. وفى رواية ذكرها فى فتح البارى: فنزل رجل فاستخرجه وأنه وجد فى الطلعة تمثالا من شمع تمثال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإذا فيه أبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألما، ثم يجد بعدها راحة. وقد بين الواقدى السنة التى وقع فيها السحر، كما أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن عبد الحكم مرسلا قال: لما رجع- صلى الله عليه وسلم- من الحديبية فى ذى الحجة ودخل المحرم سنة سبع جاءت رؤوس اليهود إلى لبيد بن الأعصم، وكان حليفا إلى بنى زريق، وكان ساحرا، فقالوا: أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير. ووقع فى رواية أبى ضمرة عند الإسماعيلى: فأقام أربعين ليلة، وفى رواية وهيب عن هشام عند أحمد: ستة أشهر. ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يوما من استحكامه. وقال السهيلى: لم أقف فى شئ من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التى مكث- صلى الله عليه وسلم- فيها فى السحر، حتى ظفرت به فى جامع معمر عن الزهرى: أنه لبث سنة. قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدناه موصولا بالإسناد الصحيح، فهو المعتمد. وقال المازرى: أنكر بعض المبتدعة

_ (1) عند مسلم: أفلا أحرقته. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3268) فى بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، وأطرافه (5763 و 5765 و 5766 و 6063 و 6391) ، ومسلم (2189) فى السلام، باب: السحر.

هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة، ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا: أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحمل على هذا أنه يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثمّ، وأنه يوحى إليه بشئ ولم يوح إليه بشئ. قال المازرى: وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبى- صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته فى التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التى لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو فى ذلك عرضة لما يعرض لبشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه فى أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك فى أمور الدين، انتهى. وقال غيره: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشئ ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة. وقال القاضى عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور، أنه يظهر له من نشاطه ومن سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقور، ويكون قوله فى الرواية الآخرى «حتى كاد ينكر بصره» أى كالذى ينكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشئ يخيل إليه أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم: أنه لم ينقل عنه فى خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به. قال بعضهم: وقد سلك النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذه القصة مسلكى التفويض وتعاطى الأسباب، ففى أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه، واحتسب الأجر فى صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشى من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوى. فقد أخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: احتجم النبى- صلى الله عليه وسلم- على رأسه، يعنى حين طب، ثم جنح إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية فى الكمال.

وقال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يؤخذ من النشرة «1» مقاومة السحر الذى هو من تأثير الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والقراءة، فالقلب إذا كان ممتلئا من الله مغمورا بذكره، وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به، كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له، قال: وسلطان تأثير السحر هو فى القلوب الضعيفة، ولهذا كان غالب ما يؤثر فى النساء والصبيان والجهال، لأن الأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها، انتهى ملخصا. ويعكر عليه حديث الباب، وجواز السحر على النبى- صلى الله عليه وسلم- مع عظم مقامه، وصدق توجهه وملازمة ورده، ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذى ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به- صلى الله عليه وسلم- لبيان تجويز ذلك عليه. وأما ما يعالج به من النشرة المقاومة للسحر، فذكر ابن بطال: أن فى كتب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر «2» أخضر، فتدق بين حجرين ثم يضرب ذلك بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسى والقلاقل «3» ثم يحسو منه ثلاث حسيات ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه ما كان به، وهو جيد للرجل إذا احتبس عن أهله. وممن صرح بجواز النشرة، المزنى عن الشافعى، وأبو جعفر الطبرى وغيرهما. انتهى. وقال ابن الحاج «4» فى «المدخل» : كان الشيخ أبو محمد المرجانى أكثر تداويه بالنشرة يعملها لنفسه ولأولاده ولأصحابه فيجدون على ذلك الشفاء،

_ (1) النشرة: بضم النون، ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسّا من الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أى: يكشف ويزال، «النهاية» فى غريب الحديث، مادة (نشر) . (2) السدر: شجر النبق. (3) يقصد: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، والمعوذتين. (4) هو: الإمام العالم، أبو عبد الله، محمد بن محمد بن محمد العبدرى الفاسى المالكى الشهير بابن الحاج، كان فاضلا عارفا يقتدى به، له التاليف النافعة من أجلها هذا الكتاب المسمى «بمدخل الشرع الشريف على المذاهب» ، ذكر فيه بدع يفعلها الناس ويتساهلون فيها، وأكثرها مما ينكر وبعضها مما يحتمل، توفى بالقاهرة سنة 737 هـ.

ذكر رقية لكل شكوى:

وأخبر- رحمه الله- أن النبى- صلى الله عليه وسلم- أعطاها له فى المنام، وقال: إنه مرة رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- وقال له: ما تعلم ما عمل معك ومع أصحابك فى هذه النشرة، نقله عنه خادمه، وهى هذه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ «1» إلى آخر السورة، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «2» لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً «3» إلى آخر السورة، وسورة الإخلاص والمعوذتين، ثم يكتب: اللهم أنت المحيى وأنت المميت، وأنت الخالق البارئ وأنت المبلى، وأنت المعافى، وأنت الشافى، خلقتنا من ماء مهين، وجعلتنا فى قرار مكين إلى قدر معلوم، اللهم إنى أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، يا من بيده الابتلاء والمعافاة، والشفاء والدواء أسألك بمعجزات نبيك محمد- صلى الله عليه وسلم- حبيبك، وبركات خليلك إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، وحرمة كليمك موسى- عليه الصلاة والسلام-، اللهم اشفه. ذكر رقية لكل شكوى: عن أبى الدرداء قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من اشتكى منكم شيئا فليقل: ربنا الله الذى فى السماء تقدس اسمك، أمرك فى السماء والأرض، كما رحمتك فى السماء فاجعل رحمتك فى الأرض واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين أنزل رحمة من عندك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ بإذن الله» «4» رواه أبو داود فى سننه. رقيته ص من الصداع: روى الحميدى فى «الطب» عن يونس بن يعقوب عن عبد الله قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من الصداع، بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله

_ (1) سورة التوبة: 128. (2) سورة الإسراء: 82. (3) سورة الحشر: 21. (4) ضعيف: أخرجه أبو داود (3892) فى الطب، باب: كيف الرقى، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى ضعيف سنن أبى داود.

رقيته ص من وجع الضرس:

الكبير وأعوذ بالله العظيم من كل عرق نعار «1» ومن شر حر النار «2» . ورواه ابن السنى من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. وأصاب أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما- ورم فى رأسها، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده على ذلك من فوق الثياب فقال: «بسم الله أذهب عنها سوءه وفحشه بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك، بسم الله» صنع ذلك ثلاث مرات، وأمرها أن تقول ذلك، فقالت ثلاثة أيام. فذهب الورم «3» رواه الشيخ ابن النعمان بسنده والبيهقى. رقيته ص من وجع الضرس: روى البيهقى أن عبد الله بن رواحة شكا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وجع ضرسه، فوضع- صلى الله عليه وسلم- يده على خده الذى فيه وقال: «اللهم أذهب عنه سوء ما يجد وفحشه، بدعوة نبيك المكين المبارك عندك» سبع مرات، فشفاه الله قبل أن يبرح. وروى الحميدى أن فاطمة- رضى الله عنها- أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تشكو ما تلقى من ضربان الضرس، فأدخل سبابته اليمنى فوضعها على السن الذى تألم، فقال: «بسم الله وبالله، أسألك بعزتك وجلالك وقدرتك على كل شئ، فإن مريم لم تلد غير عيسى من روحك وكلمتك، أن تكشف ما تلقى فاطمة بنت خديجة من الضر كله، فسكن ما بها» . ومن الغريب: ما شاع وذاع عن شيخنا المحب الطبرى إمام مقام الخليل بمكة، ورأيته يفعله غير مرة، وضع يده على رأس الموجوع ضرسه، ويسأل

_ (1) قال ابن الأثير فى «النهاية» مادة (نعر) : نعر العرق بالدم، إذا ارتفع وعلا، وجرح نعار ونعور، إذا صوت دمه عند خروجه. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2075) فى الطب، باب: رقم (26) ، وابن ماجه (3526) فى الطب، باب: ما يعوذ به من الحمى، وأحمد فى «المسند» (1/ 300) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 459) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الترمذى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبى حبيبة، وإبراهيم يضعف فى الحديث، وهو كما قال. (3) أخرجه ابن أبى الدنيا فى «المرض والكفارات» (ص 124) من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وذكر فيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر عائشة بوضع يدها وأن تقول الدعاء.

رقية لعسر البول:

عن اسمه واسم أمه وعن المدة التى يريد المألوم أن لا يألمه فيها، فيقول: سبع سنين أو تسع سنين مثلا بالوتر، قالوا: فما يرفع يده إلا وقد سكن ألمه، ويمكث المدة المذكورة لا يألمه، كما أشيع ذلك واشتهر. ومما جرب أن يكتب على الخد الذى يلى الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «1» ، وإن شاء كتب وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2» . رقية لعسر البول: روى النسائى عن أبى الدرداء أنه أتاه رجل يذكر أن أخاه احتبس بوله، فأصابه حصاة البول، فعلمه رقية سمعها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ربنا الله الذى فى السماء تقدس اسمك، أمرك فى السماء والأرض، كما رحمتك فى السماء فاجعل رحمتك فى الأرض، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنت رب المتطببين فأنزل شفاء من شفائك، ورحمة من رحمتك على هذا الوجع فيبرأ. وأمره أن يرقيه بها، فرقاه بها فبرئ «3» . وقد تقدم هذا فى رقية الشكوى العامة من حديث أبى الدرداء. رقية الحمى: عن أنس قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عائشة وهى موعوكة، وهى تسب الحمى، فقال: «لا تسبيها فإنها مأمورة ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها الله عنك» قالت: علمنى، قال: «قولى اللهم ارحم جلدى الرقيق وعظمى الدقيق من شدة الحريق، يا أم ملدم «4» ، إن كنت آمنت بالله العظيم فلا تصدعى الرأس، ولا تنتنى الفم، ولا تأكلى اللحم، ولا تشربى

_ (1) سورة الملك: 23. (2) سورة الأنعام: 13. (3) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10876 و 10877) . (4) أم ملدم: كنية الحمى.

الدم، وتحولى عنى إلى من اتخذ مع الله إلها آخر» فقالتها فذهبت عنها «1» ، رواه البيهقى. وقد جرب ذلك- كما رأيته بخط شيخنا- ولفظه: اللهم ارحم عظمى الدقيق وجلدى الرقيق، وأعوذ بك من فورة الحريق، يا أم ملدم، إن كنت آمنت بالله واليوم الآخر، فلا تأكلى اللحم، ولا تشربى الدم، ولا تفورى على الفم، وانتقلى إلى من يزعم أن مع الله إلها آخر، فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. ويكتب للحمى المثلاثة- مما ذكره صاحب الهدى- على ثلاث ورقات لطاف: بسم الله فرّت، بسم الله مرّت. بسم الله قلّت، ويأخذ كل يوم ورقة ويجعلها فى فمه ويبلعها بماء. وقد رخص جماعة من السلف فى كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذى جعله الله فيه. قال ابن الحاج فى «المدخل» : وقد كان الشيخ أبو محمد المرجانى لا تزال الأوراق للحمى وغيرها على باب الزاوية، فمن كان به ألم أخذ ورقة منها فاستعملها فيبرأ بإذن الله تعالى، وكان المكتوب فيها: أزلى لم يزل، ولا يزال، يزيل الزوال، وهو لا يزال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «2» . وقال المروزى: بلغ أبا عبد الله أنى حممت فكتب لى من الحمى رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومحمد رسول الله، يا نار كونى بردّا وسلاما على إبراهيم، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، إله الحق آمين. * ومما جرب للخراج، ونقله صاحب زاد المعاد، أن يكتب عليه

_ (1) ضعيف: أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 169) بسند ضعيف. (2) سورة الإسراء: 82.

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «1» . * ومما يكتب لعسر الولادة ما روى الخلال عن عبد الله بن الإمام أحمد ابن حنبل قال: رأيت أبى يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها فى جام «2» أبيض، أو شئ نظيف، حديث ابن عباس: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها. قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزى أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله اكتب لامرأة قد عسر عليها الولادة منذ يومين فقال: قل له يجئ بجام واسع وزعفران. قال المروزى: ورأيته يكتب لغير واحد. وفى «المدخل» : يكتب فى آنية جديدة: اخرج أيها الولد من بطن ضيق إلى سعة هذه الدنيا، اخرج بقدرة الذى جعلك فى قرار مكين إلى قدر معلوم، لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، إلى آخر السورة، وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. وتشربها النفساء، ويرش منها على وجهها. قال الشيخ المرجانى: أخذته عن بعض السادة، فما كتبته لأحد إلا نجح فى وقته. انتهى. وروى عن عكرمة عن ابن عباس قال: مر عيسى- عليه السّلام- على امرأة وقد اعترض ولدها فى بطنها فقالت: يا كلمة الله ادع الله لى أن يخلصنى مما أنا فيه فقال: يا خالق النفس من النفس، ويا مخلص النفس من النفس، ويا مخرج النفس من النفس خلصها، قال: فرمت بولدها وإذا هى قائمة. قال: فإذا عسر على المرأة ولدها فاكتبه لها.

_ (1) سورة طه: 105- 107. (2) الجام: إناء أو طاسة.

ذكر ما يقى من كل بلاء:

ومما يكتب أيضا لذلك، ويكون فى إناء نظيف: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ «1» وتشرب الحامل منه وترش على بطنها. * ومما يكتب للرعاف «2» على جبهة المرعوف وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ» ، ولا يجوز كتابتها بدم الرعاف كما يفعله بعض الجهال، فإن الدم نجس فلا يجوز أن يكتب به كلام الله. * ومما يكتب لعرق النسا: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم رب كل شئ، ومليك كل شئ، وخالق كل شئ، أنت خلقتنى وخلقت عرق النسا فىّ فلا تسلطه علىّ بأذى، ولا تسلطنى عليه بقطع، واشفنى شفاء لا يغادر سقما، لا شافى إلا أنت. وأما حفيظة رمضان: لا آلاء إلا آلاؤك يا الله، إنك سميع عليم محيط به علمك كعسلهون، وبالحق أنزلناه وبالحق نزل إلى آخرها ... فقال شيخنا: اشتهرت ببلاد اليمن ومكة ومصر والمغرب وجملة بلدان أنها حفيظة رمضان، تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات، وتكتب فى آخر جمعة منه، وجمهورهم يكتبها والخطيب يخطب على المنبر، وبعضهم بعد صلاة العصر. وهذه بدعة لا أصل لها، وإن وقعت فى كلام غير واحد من الأكابر، بل أشعر كلام بعضهم إلى ورودها فى حديث ضعيف، وكان الحافظ ابن حجر ينكرها جدّا، حتى وهو قائم على المنبر فى أثناء خطبته حين يرى من يكتبها. ذكر ما يقى من كل بلاء: عن أبان بن عثمان عن أبيه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من قال بسم الله الذى لا يضر مع اسمه شئ فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات حين يمسى لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن

_ (1) سورة الانشقاق: 1- 4. (2) الرعاف: نزول الدم من الأنف. (3) سورة هود: 44.

ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء:

قالها حين يصبح لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسى» . قال: فأصاب أبان بن عثمان الفالج «1» ، فتجعل الذى سمع منه الحديث ينظر إليه، فقال: ما لك تنظر فو الله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولكن اليوم الذى أصابنى فيه ما أصابنى غضبت فنسيت أن أقولها «2» . رواه أبو داود، ورواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح. وعنده: فكان أبان أصابه طرف فالج فجعل الرجل ينظر إليه فقال له أبان: ما لك تنظر إلى، أما إن الحديث كما حدثتك ولكن لم أقله يومئذ ليمضى الله أمرا قدره. ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء: وذكر أبو محمد عبد الله بن محمد المالكى الإفريقى، فى كتابه «أخبار أفريقية» عن أنس بن مالك مرفوعا: «من قال بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم عشر مرات برئ من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وعوفى من سبعين بلاء من بلايا الدنيا، منها الجنون والجذام والبرص والريح» . ويشهد له ما رواه الترمذى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا من ذكر لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم فإنها من كنز الجنة» . قال مكحول: من قال لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، ولا ملجأ من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين بابا من الضر أدناها الفقر «3» .

_ (1) الفالج: داء معروف يرخى بعض البدن، وكذلك تباعد الأعضاء كالقدمين والأسنان. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (5088) فى الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، والترمذى (3388) فى الدعوات، باب: ما جاء فى الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى، وابن ماجه (3869) فى الدعاء، باب: ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، وأحمد فى «المسند» (1/ 62 و 66 و 72) ، وابن حبان فى صحيحه (852 و 862) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 695) ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال. (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (3601) فى الدعوات، باب: فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال الترمذى: ليس إسناده بمتصل مكحول لم يسمع من أبى هريرة، وهو كما قال إلا أن لطرفه المرفوع شواهد يصحح بها.

ذكر دواء داء الطعام:

وروى الطبرانى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من قال لا حول ولا قوة إلا بالله كان دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم» «1» . ومن ذلك فى الأمان من الفقر: عن أبى موسى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من قال لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة فى كل يوم لم يصبه فقر أبدا» . رواه ابن أبى الدنيا. وروى الطبرانى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أبطأ عليه رزقه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» «2» . وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على بن أبى طالب يرفعه: من قال كل يوم وليلة: لا إله إلا الله الملك الحق المبين، مائة مرة كان له أمانا من الفقر وأنسا من وحشة القبر، واستفتح به باب الغنى، واستقرع به باب الجنة. قال بعض رواته: لو رحلتم فى هذا الحديث إلى الصين ما كان كثيرا. ذكره عبد الحق فى كتاب الطب النبوى. ذكر دواء داء الطعام: روى البخارى فى تاريخه عن عبد الله بن مسعود: من قال حين يوضع الطعام: بسم الله خير الأسماء فى الأرض وفى السماء، لا يضر مع اسمه داء، اجعل فيه رحمة وشفاء. لم يضره ما كان «3» . ذكر دواء أم الصبيان: عن على قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من ولد له مولود فأذن فى أذنه

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 98) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه بشر بن رافع الحارثى، وهو ضعيف، وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح، إلا أن النسخة من الطبرانى الأوسط سقط منها عجلان والد محمد الذى بينه وبين أبى هريرة والله أعلم، ا. هـ. قلت: وبشر هذا ضعيف الحديث، قاله الحافظ فى «التقريب» (685) ، وعلى ذلك فالحديث ضعيف. (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 201) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط وفيه يونس بن تميم ضعفه الذهبى بهذا الحديث. (3) أخرجه البخارى فى «التاريخ الكبير» (4/ 21) .

النوع الثانى طبه ص بالأدوية الطبيعية

اليمنى وأقام فى اليسرى لم تضره أم الصبيان» «1» رواه ابن السنى، وذكره عبد الحق فى «الطب النبوى» . وأم الصبيان: هى الريح التى تعرض لهم، فربما يخشى عليهم منها. وسر التأذين- كما قاله صاحب تحفة المودود بأحكام المولود- أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التى أول ما يدخل بها فى الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها. مع ما فى ذلك من فائدة أخرى، وهى هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التى قدرها الله وشاءها، فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أو أوقات تعلقه به. النوع الثانى طبه ص بالأدوية الطبيعية ذكر ما كان ص يعالج به الصداع والشقيقة: اعلم أن الصداع ألم فى بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه فى أحد جانبى الرأس لازما سمى شقيقة- بوزن عظيمة- وسببه أبخرة مرتفعة، أو أخلاط حارة أو باردة ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذا أحدثت الصداع، فإن مال إلى أحد شقى الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك كل الرأس أحدث داء البيضة تشبيها ببيضة السلاح تشتمل على الرأس كله. وأسباب الصداع كثيرة: منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم فى المعدة أو فى عروقها، أو ريح غليظة فيها، أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقئ والاستفراغ والسهر وكثرة الكلام، ومنها ما يحدث من الأعراض النفسانية كالهم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث فى الرأس كضربة تصيبه أو ورم فى صفاق الدماغ، أو حمل شئ

_ (1) أخرجه ابن السنى فى «عمل اليوم والليلة» (617) .

ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بشئ خارج عن الاعتدال، أو بتبريده بملاقاة الهواء أو الماء فى البرد. وأما الشقيقة: فهى فى شرايين الرأس وحدها، أو تختص بالموضع الأضعف من الرأس. وعلاجها بشد العصابة. وقد أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان ربما أخذته الشقيقة فيمكث اليوم واليومين لا يخرج «1» . وفى الصحيح أنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى مرض موته: «وارأساه» «2» وأنه خطب وقد عصب رأسه «3» . فعصب الرأس ينفع فى الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس. وفى البخارى من حديث ابن عباس: احتجم- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم فى رأسه من شقيقة كانت به «4» . وقد جاءت مقيدة فى بعض طرق ابن عباس نفسه، فعند أبى داود الطيالسى فى مسنده من حديث ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- احتجم فى وسط رأسه «5» . وقد قال الأطباء إنها نافعة جدّا. وورد أنه- صلى الله عليه وسلم- احتجم أيضا فى الأخدعين والكاهل «6» . أخرجه الترمذى وحسنه، وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم. وقد قال الأطباء: الحجامة

_ (1) ذكره ابن القيم فى «زاد المعاد» (4/ 87) وعزاه لأبى نعيم فى «الطب النبوى» . (2) صحيح: وقد ورد ذلك فى حديث أخرجه البخارى (5666) فى المرضى، باب: قول المريض: إنى وجع أو وارأساه، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) ذكره ابن القيم فى «زاد المعاد» (4/ 87) وعزاه لأبى نعيم فى «الطب النبوى» . (4) أخرجه البخارى (5701) تعليقا فى الطب، باب: الحجامة من الشقيقة والصداع، وقال الحافظ فى «الفتح» (10/ 162) : وقد وصله الإسماعيلى وقد اتفقت هذه الطرق عن ابن عباس أنه احتجم- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم فى رأسه. ا. هـ. قلت: وهى رواية البخارى الموصولة دون تعيين سبب العلة. (5) قلت: بل هى عند البخارى (5700) فيما سبق. (6) صحيح: أخرجه أبو داود (3860) فى الطب، باب: ما جاء فى موضع الحجامة، والترمذى (2051) فى الطب، باب: ما جاء فى الحجامة، وابن ماجه (3483) فى الطب، باب: موضع الحجامة، وأحمد فى «المسند» (3/ 192) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6077) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» و (الأخدعان) : عرقان فى جانبى العنق، و (الكاهل) : ما بين الكتفين، وهو مقدم الظهر.

ذكر طبه ص للرمد:

على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه والأذنين والعينين والأسنان والأنف. وقد ورد فى حديث ضعيف جدّا، أخرجه ابن عدى من طريق عمر بن رباح عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رفعه: الحجامة فى الرأس تنفع فى سبع، من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين «1» . وعمر متروك، رماه الفلاس وغيره بالكذب. وروى ابن ماجة فى سننه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صدع غلف رأسه بالحناء، ويقول: إنه نافع بإذن الله من الصداع «2» . وفى صحته نظر. وهو علاج خاص بما إذا كان الصداع من حرارة ملتهبة، ولم يكن من مادة يجب استفراغها، وإذا كان كذلك نفع فيه الحناء نفعا ظاهرا. قالوا: وإذا دق وضمدت به الجبهة مع الخل سكن الصداع، وهذا لا يختص بوجع الرأس بل يعم جميع الأعضاء. وفى تاريخ البخارى وسنن أبى داود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما شكا إليه أحد وجعا فى رأسه إلا قال له «احتجم» ، ولا شكا وجعا فى رجليه إلا قال له: «اختضب بالحناء» «3» . وفى الترمذى عن على بن عبد الله عن جدته- وكانت تخدم النبى- صلى الله عليه وسلم- قالت: ما كان يكون برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرحة ولا نكتة إلا أمرنى أن أضع عليها الحناء «4» . ذكر طبه ص للرمد: وهو ورم حار يعرض فى الطبقة الملتحمة من العين، وهو بياضها،

_ (1) ضعيف جدّا: أخرجه ابن عدى فى «الكامل» (5/ 51) فى ترجمة عمر بن رباح، وضعفه. (2) ضعيف: وهو عند البزار، وليس ابن ماجه كما ذكر المصنف، وفيه الأحوص بن حكيم، وقد وثق وفيه ضعف كثير، وأبو عون، ولم أعرفه، قاله الهيثمى فى «المجمع» (5/ 95) . (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (3808) فى الطب، باب: فى الحجامة، وأحمد فى «المسند» (6/ 462) ، من حديث سلمى مولاة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وفى إسناده ضعف. (4) ضعيف: أخرجه الترمذى (2054) فى الطب، باب: ما جاء فى التداوى بالحناء، وابن ماجه (3502) فى الطب، باب: الحناء، من حديث سلمى مولاة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وسنده ضعيف.

وسببه: انصباب أحد الأخلاط أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ، فإن اندفع إلى الخياشيم «1» أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد، أو إلى اللهاة «2» والمنخرين أحدث الخنان- بالخاء المعجمة والنون-، أو إلى الصدر أحدث النزلة، أو إلى القلب أحدث الشوصة «3» ، وإن لم ينحدر وطلب نفاذا فلم يجد أحدث الصداع، كما تقدم. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يعالج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة. وفى سنن ابن ماجه عن صهيب قال: قدمت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وبين يديه خبز وتمر فقال: «ادن وكل» ، فأخذت تمرا فأكلت، فقال: «تأكل تمرا وبك رمد؟» فقلت: يا رسول الله، أمضغ من الناحية الآخرى، فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «4» . وقد روى أنه حمى عليّا من الرطب لما أصابه الرمد. وفى البخارى من حديث سعيد بن زيد قال: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين» «5» . والكمأة: نبات لا ورق لها ولا ساق، يوجد فى الأرض من غير أن يزرع. وروى الطبرانى من طريق المنكدر عن جابر قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فامتنع قوم من أكلها وقالوا: هو جدرى الأرض، فبلغه ذلك فقال: «إن الكمأة ليست جدرى الأرض، ألا إن الكمأة من المن» «6» . واختلف فى قوله: «من

_ (1) يقصد: الأنف. (2) اللهاة: اللحمة التى فى أقصى الحلق. (3) الشوصة: وجع فى البطن من ريح تنعقد تحت الأضلاع. (النهاية فى غريب الحديث) مادة (شوص) . (4) حسن: أخرجه ابن ماجه (3443) فى الطب، باب: الحمية، وقال البوصيرى فى «الزوائد» : إسناده صحيح، رجاله ثقات. (5) صحيح: أخرجه البخارى (4478) فى التفسير، باب: وقوله تعالى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، ومسلم (2049) فى الأشربة، باب: فضل الكمأة ومداواة العين بها. (6) قلت: هو عند الترمذى (2068) بنحوه فى الطب، باب: ما جاء فى الكمأة والعجوة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وقال الترمذى: هذا حديث حسن، وهو كما قال.

المن» ، فقيل: من المن الذى أنزل الله على بنى إسرائيل، وهو الطل الذى يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا، ومنه الترنجبيل فكأنه يشبه الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوا بغير علاج. وقال الخطابى: ليس المراد أنها نوع من المن الذى أنزل الله على بنى إسرائيل، فإن الذى أنزل على بنى إسرائيل كان كالترنجبيل الذى يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شئ ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقى، وإنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لأنها من الحلال المحض، الذى ليس فى اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر. وقال ابن الجوزى: فى المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنها لا تستعمل صرفا فى العين، لكن اختلفوا كيف يصنع بها على رأيين: أحدهما أن يختلط فى الأدوية التى يكتحل بها، حكاه أبو عبيد، ثانيهما: أن تؤخذ فتشق وتوضع على الجمر حتى يغلى ماؤها ثم يؤخذ الميل «1» فيجعل فى ذلك الشق وهو فاتر، فيكتحل بمائها، لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة ويبقى النافع منه، ولا يجعل الميل فى مائها وهى باردة يابسة فلا ينجع. وقال آخر: تجعل الكمأة فى قدر جديدة ويصب عليها الماء، ولا يطرح فيها ملح، ثم يؤخذ غطاء جديد نقى فيجعل على القدر، فما جرى على الغطاء من بخار الكمأة فذلك الماء الذى يكتحل به. وقال ابن واقد: إن ماء الكمأة إذا عصر وربى به الإثمد كان ذلك من أصلح الأشياء للعين إذا اكتحل به يقوى أجفانها، ويزيد الروح الباصرة قوة وحدة، ويدفع عنها نزول النوازل. وقال أيضا: إذا اكتحل بماء الكمأة وحده بميل من ذهب تبين للفاعل لذلك قوة عجيبة وحدة فى البصر كثيرة. وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسيحى وابن سينا وغيرهما، قال: والذى يزيل الإشكالات عن هذا

_ (1) الميل: العود الذى يكتحل به.

ذكر طبه ص من العذرة:

الاختلاف أن الكمأة وغيرها خلقت فى الأصل سليمة من المضار، ثم عرضت لها الآفات بأمور أخرى، من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التى أرادها الله تعالى، فالكمأة فى الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضر لنيته والعكس بالعكس والله أعلم. ذكر طبه ص من العذرة: وهى- بضم المهملة وسكون الذال المعجمة- وجع فى الحلق يعترى الصبيان غالبا، وقيل: هى قرحة تخرج بين الأذن والحلق، أو فى الخرم الذى بين الأنف والحلق، وهو الذى يسمى سقوط اللهاة، وقيل هو اسم اللهاة والمراد وجعها سمى باسمها، وقيل: هو موضع قريب من الهاة، واللهاة- بفتح اللام- اللحمة التى فى أقصى الحلق. وفى البخارى، من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية- أسد خزيمة- وهى أخت عكاشة، أنها أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بابن لها قد علقت عليه من العذرة، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق؟ عليكم بهذا العود الهندى فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب» «1» يريد الكست وهو العود الهندى. قوله: «تدغرن» خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة والدال المهملة، والدغر: غمز الحلق. وعن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عائشة وعندها صبى يسيل منخراه دما، فقال: «ما هذا؟» فقالوا: به العذرة، أو وجع فى رأسه، فقال: «ويلكن لا تقتلن أولادكن، أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع فلتأخذ قسطا هنديا فلتحله بماء ثم تسعطه إياه» فأمرت عائشة

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5693) فى الطب، باب: السعوط بالقسط الهندى، ومسلم (287) فى السلام، باب: التداوى بالعود الهندى وهو الكست.

ذكر طبه ص لداء استطلاق البطن:

فصنع ذلك للصبى فبرئ. الحديث «1» . وفى القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها، وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة، وبالعلاق: وهو شئ يعلقونه على الصبيان، فنهاهم النبى- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم. والسعوط: ما يصب فى الأنف. وقد استشكل معالجتها- أى العذرة- بالقسط الهندى مع كونه حارّا، والعذرة إنما تعرض فى زمن الحر بالصبيان، وأمزجتهم حارة، لا سيما وقطر الحجارة حار؟ وأجيب: بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفى القسط تجفيف للرطوبة وقد يكون نفعه فى هذا الداء بالخاصية، وأيضا فالأدوية الحارة قد تنفع فى الأمراض الحارة بالعرض كثيرا، بل وبالذات أيضا، وقد ذكر ابن سينا فى معالجة سقوط اللهاة بالقسط مع الشب اليمانى، على أنا لو لم نجد شيئا من التوجيهات لكان المعجز خارجا من القواعد الطبية. ذكر طبه ص لداء استطلاق البطن «2» : فى الصحيحين من حديث أبى المتوكل عن أبى سعيد الخدرى: أن رجلا أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أخى يشتكى بطنه- وفى رواية: استطلق بطنه- فقال: «اسقه عسلا» ، فسقاه فقال: إنى سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك» «3» . وفى رواية مسلم فقال له ثلاث مرات،

_ (1) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 315) وإسناده صحيح، وهو عند مسلم (2214) فى السلام، باب: التداوى بالعود الهندى بنحوه من حديث أم قيس- رضى الله عنها-. (2) أى: الإسهال. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5684) فى الطب، باب: الدواء بالعسل، ومسلم (2217) فى الطب، باب: التداوى بسقى العسل، والترمذى (2082) فى الطب، باب: ما جاء فى التداوى بالعسل، وأحمد فى «المسند» (3/ 19 و 92) ، واستدركه الحاكم (4/ 445) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

ثم جاء الرابعة فقال: «اسقه عسلا» ، فقال: سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال: «صدق الله» . وفى رواية أحمد عن يزيد بن هارون فقال فى الرابعة: «اسقه عسلا» ، قال فأظنه فسقاه فبرأ، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «صدق الله وكذب بطن أخيك» . قال الخطابى وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب فى موضع الخطأ، يقال: كذب سمعك، أى زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى: كذب بطن أخيك، أى لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه. وقال الإمام فخر الدين الرازى: لعله- صلى الله عليه وسلم- علم بنور الوحى أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه فى الحال مع كونه- صلى الله عليه وسلم- كان عالما بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك كان جاريا مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ. وقد اعترض بعض الملاحدة فقال: العسل مسهل، فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟ وأجيب: بأن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ «1» . فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف، والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع: منها الهيضة التى تنشأ عن تخمة، واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه من تخمة أصابته فوصف له- صلى الله عليه وسلم- العسل لدفع الفضول المجتمع فى نواحى المعدة من أخلاط لزجة تمنع من استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شئ فى ذلك مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم يفده أول مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية، وإن

_ (1) سورة يونس: 39.

جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررا آخر، فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا يفى بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله تعالى. وفى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وكذب بطن أخيك» إشارة إلى أن هذا الدواء نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء فى الشفاء، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها. وقال بعضهم: إن العسل تارة يجرى سريعا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضا، وتارة يبقى فى المعدة فيهيجها بلذعة لها حتى تدفع ويسهل البطن فيكون مسهلا، فإنكار وصفه بالمسهل مطلقا قصور من المنكر. وقال ابن الجوزى: فى وصفه- صلى الله عليه وسلم- العسل لهذا المسهل أربعة أقوال: أحدها: أن حمل الآية على عمومها فى الشفاء أولى، وإلى ذلك أشار بقوله: صدق الله، أى فى قوله: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «1» فلما نبه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول فشفى بإذن الله تعالى. الثانى: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوى بالعسل من الأمراض كلها. الثالث: أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة، كما تقدم تقريره. الرابعة: يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه، فإنه يعقد البلغم، فلعله شربه أولا بغير طبخ، انتهى. والثانى والرابع ضعيفان: ويؤيد الأول حديث ابن مسعود: «عليكم بالشفاءين العسل والقرآن» «2» أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعا، وأخرجه

_ (1) سورة النحل: 69. (2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3452) فى الطب، باب: العسل، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 222 و 223 و 447) ، والبيهقى فى «الكبرى» (9/ 344) وقال البيهقى: رفعه غير معروف، والصحيح موقوف، ورواه وكيع عن سفيان موقوفا. ا. هـ. قلت: ولعل ذلك هو الصواب.

ذكر طبه ص فى يبس الطبيعة بما يمشيه ويلينه:

ابن أبى شيبة والحاكم موقوفا، ورجاله رجال الصحيح. وأثر على: إذا اشتكى أحدكم فليستوهب من امرأته شيئا من صداقها فليشتر به عسلا، ثم يأخذ ماء السماء، فيجمع هنيئا مريئا مباركا، أخرجه ابن أبى حاتم فى التفسير بسند حسن. وروينا عنه- رضى الله عنه- أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله فى صحفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلا فليشربه فإنه شفاء: قال الحافظ ابن كثير، بعد أن ذكره، أى من وجوه: قال الله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» وقال: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً «2» وقال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «3» وقال فى العسل: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «4» . ذكر طبه ص فى يبس الطبيعة بما يمشيه ويلينه: روى الترمذى وابن ماجه فى سننه من حديث أسماء بنت عميس قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بماذا كنت تستمشين؟» قالت: بالشبرم، قال: «حار حار ضار ضار» ثم قالت: استمشيت بالسنا، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو أن شيئا كان فيه شفاء من الموت لكان فى السنا» «5» . قال أبو عيسى هذا حديث غريب، وقد ذكر البخارى فى تاريخه الكبير من حديث أسماء بنت عميس مثل ما ذكره الترمذى. وذكر أبو محمد الحميدى فى كتاب «الطب» له أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم والشبرم فإنه حار حار، ضار ضار،

_ (1) سورة الإسراء: 82. (2) سورة ق: 9. (3) سورة النساء: 4. (4) سورة النحل: 69. (5) ضعيف: أخرجه الترمذى (2081) فى الطب، باب: ما جاء فى السنا، وابن ماجه (3461) فى الطب، باب: دواء المشى، وأحمد فى «المسند» (6/ 369) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 224 و 448) ، والبيهقى فى «الكبرى» (9/ 346) والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

وعليكم بالسنا فتداووا به، فلو دفع الموت شئ لدفعه السنا» . وحكى عبد الحق الإشبيلى فى كتاب «الطب النبوى» له أن المحاسبى ذكر فى كتابه المسمى ب «القصد إلى الله» أن النبى- صلى الله عليه وسلم- شرب السنا بالتمر. وفى سنن ابن ماجه، من حديث إبراهيم بن أبى عبلة قال: سمعت عبد الله بن أم حرام، وكان ممن صلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى القبلتين، يقول: «عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام» ، قيل: يا رسول الله وما السام؟ قال: «الموت» «1» . قالوا: والشبرم: قشر عرق شجرة، وهو حار يابس فى الدرجة الرابعة، وهو من الأدوية التى منع الأطباء من استعمالها لخطرها وفرط إسهالها. وأما السنا: فهو نبت حجازى، وأفضله المكى، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الاعتدال، حار يابس فى الدرجة الأولى، يسهل الصفراء أو السوداء، ويقوى جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة، ومن خاصيته النفع فى الوسواس السوداوى. قال الرازى: السنا والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة وينفعان فى الجرب والحكة، قال والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم. وأما السنوت، فقيل هو العسل، وقيل: رب عكة السمن يخرج خطوطا سودا على السمن، وقيل: حب يشبه الكمون وليس به، وقيل: هو الكمون الكرمانى، وقيل: إنه الرازيانج، وقيل إنه الشبث، وقيل إنه العسل الذى يكون فى زقاق السمن. قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب، أى: يخلط السنا مدقوقا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردا، لما فى العسل والسمن من إصلاح السنا وإعانته على الإسهال.

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3457) فى الطب، باب: السنا والسنوت، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

ذكر طبه ص للمفؤود:

ذكر طبه ص للمفؤود: وهو الذى أصيب فؤاده، فهو يشتكيه كالمبطون. روى أبو داود عن سعد قال: مرضت مرضا، فأتانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعودنى، فوضع يده بين ثديىّ حتى وجدت بردها على فؤادى، وقال لى: «إنك رجل مفؤود، فائت الحارث ابن كلدة «1» من ثقيف فإنه رجل متطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلد بهن الفؤاد» «2» . وهذا الحديث من الخطاب العام الذى أريد به الخاص، كأهل المدينة ومن جاورهم. والتمر لأهل المدينة كالحنطة لغيرهم، و «اللدود» : ما يسقاه الإنسان من أحد جانبى الفم. وفى التمر خاصية عجيبة لهذا الداء، سيما أهل المدينة، ولا سيما العجوة، وفى كونها سبعا خاصية أخرى تدرك بالوحى. وفى الصحيحين «من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية لم يضره فى ذلك اليوم سم ولا سحر» «3» . ذكر طبه ص لذات الجنب: فى البخاري مرفوعا: «عليكم بهذا العود الهندى، فإن فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب» «4» . وفى الترمذى من حديث زيد بن أرقم قال: قال- صلى الله عليه وسلم-: «تداووا من ذات الجنب بالقسط البحرى والزيت» «5» . واعلم أن ذات الجنب هو ورم حار يعرض فى الغشاء المستبطن للأعضاء، وقد يطلق على ما يعرض فى نواحى الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات

_ (1) هو: أحد حكماء العرب وكان طبيبا مشهورا فى عصره، عاصر عهد النبوة. (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (3875) فى الطب، باب: فى تمرة العجوة، وإسناده ضعيف. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5445) فى الأطعمة، باب: العجوة، ومسلم (2047) فى الأشربة، باب: فضل تمر المدينة، من حديث سعد- رضى الله عنه-. (4) صحيح: وقد تقدم من حديث أم قيس- رضى الله عنه-. (5) ضعيف: أخرجه الترمذى (2079) فى الطب، باب: ما جاء فى دواء ذات الجنب، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

ذكر طبه ص لداء الاستسقاء:

والعضل الذى فى الصدر والأضلاع، فيحدث وجعا. فالأول هو ذات الجنب الحقيقى، الذى تكلم عليه الأطباء، قالوا: ويحدث بسببه خمسة أمراض: الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشارى. ويقال لذات الجنب أيضا: وجع الخاصرة، وهو من الأمراض المخوفة لأنها تحدث بين القلب والكبد، وهو من سئ الأسقام. والمراد بذات الجنب هنا الثانى، لأن القسط وهو العود الهندى هو الذى يداوى به الريح الغليظة. وقد حكى الإمام ابن القيم عن المسيحى أنه قال: العود حار يابس قايض، محبس للبطن، ويقوى الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح ويفتح السدد، ويذهب فضل الرطوبة، نافع من ذات الجنب، جيد للدماغ. قال: ويجوز أن ينفع من ذات الجنب الحقيقية أيضا إذا كانت ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما فى وقت انحطاط العلة. ذكر طبه ص لداء الاستسقاء: عن أنس قال: قدم رهط من عرينة وعكل على النبى- صلى الله عليه وسلم-، فاجتووا المدينة فشكوا ذلك إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من ألبانها وأبوالها» ، فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل، وحاربوا الله ورسوله، فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى آثارهم، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم فى الشمس حتى ماتوا «1» . رواه الشيخان. واعلم أن الاستسقاء مرض مادى، سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو بها، إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحى التى فيها تدبير الغذاء والأخلاط. وأقسامه ثلاثة: لحمى، وهو أصعبها، وهو الذى يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشو مع الدم فى

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (233) فى الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم، ومسلم (1671) فى القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين.

الأعضاء. وزقى: وهو الذى يجتمع منه فى البطن الأسفل مادة مائية رديئة يسمع لها عند الحركة خضخضة كالماء فى الزق، وهو أردأ أنواعه عند أكثر الأطباء، وطبلى: وهو الذى ينتفخ معه البطن بمادة ريحية، إذا ضربت عليه سمعت له صوتا كصوت الطبل. وإنما أمرهم- صلى الله عليه وسلم- بشرب ذلك، لأن فى لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتلطيفا وتفتيحا للسدد، إذ كان أكثر رعيها الشيح والقيصوم والبابونج والأقحوان والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء خصوصا إذا استعمل بحرارته التى يخرج بها من الضرع، مع بول الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك ما يزيد فى ملوحة اللبن وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن. وأما ضعف المعدة فذكر ابن الحاج فى المدخل: أن بعض الناس مرض بمعدته، فرأى الشيخ الجليل أبو محمد المرجانى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء، وهو أن يأخذ كل يوم على الريق وزن درهم من الورد المربى، ويكون ملتوتا بالمصطكى بعد دقها ويجعل فيها سبع حبات من الشونيز «1» ، يفعل ذلك سبعة أيام ففعله فبرئ. ومرض بعض الناس ببرد المعدة فرأى الشيخ المرجانى أيضا النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء: أوقية ونصف أوقية عسل نحل، ودر همين شونيز، ومثلها أنيسون، ونصف أوقية من النعنع الأخضر، ومن القرنفل نصف درهم، ومن القرفة نصف درهم، وشئ من قشر الليمون، مع قليل من الخل، ويعقد ذلك على النار، فاستعمله فبرئ. ومرض آخر بسلس الريح، فرأى الشيخ المرجانى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء: شونيز ثلاثة دراهم، ومن خزامى در همين ونصف، ومن الكمون الأبيض ثلاثة دراهم، ومثله من السعتر الشامى ومثله من الغليا، ووزن درهم من البلوط وهو ثمرة الفؤاد، وأوقية من الزيت المرقى تجعل فيه من عسل النحل ما يعقد به وهو ربع رطل، ويؤخذ منه غدوة النهار وزن

_ (1) الشونيز: الحبة السوداء.

در همين على الريق، وعند النوم وزن درهم ونصف، فاستعمله فبرئ. ثم إنه- صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك قال فى النوم لذلك الشخص الذى أخبره بهذا الدواء إنه ينفع لأدواء هى: الريح، وسلسل الريح، والمعدة وبرودتها، ووجع الفؤاد وألم الحيض، وألم النفاس، وتعقد الرياح. والزيت المرقى: صفته أن تأخذ شيئا من الزيت الطيب، وتجعله فى إناء نظيف وتحركه بعود، وتقرأ عليه سورة الإخلاص والمعوذتين، ولَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» إلى آخر السورة وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «2» لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «3» إلى آخر السورة. وحصل لآخر قولنج، فرأى الشيخ المرجاني النبى- صلى الله عليه وسلم- فأشار بهذا الدواء: وهو أن يأخذ ثلاثة دراهم من عسل النحل، ووزن درهم ونصف من الزيت المرقى، وإحدى وعشرين حبة من الشونيز ويخلط الجميع ثم يفطر عليه، ويفعل مثله عند النوم، يفعل ذلك حتى يبرأ، وتعمل له التلبينة ويستعملها بعد إن يفطر على ذلك، والتلبينة حساء يعمل من دقيق أو نخالة، وربما عمل فيها عسل، ويكون غذاؤه مصلوقة الدجاج أو لحم الضأن، ففعله فبرئ بعد أن أعيا الأطباء. ومرض آخر بوجع الظهر، فشكا ذلك للشيخ فرأى النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء، وهو عسل نحل وشونيز ودهن الألية والزيت المرقى، ورقيق البيضة، ويخلط ذلك كله، ويمده على الموضع ويدر عليه دقيق العدس بقشرة مع الحرمل بعدما يدق دقّا ناعما حتى يعود مثل الدقيق. ففعله فبرئ. وشكا بعض الناس الدوخة فى رأسه فرأى الشيخ النبى- صلى الله عليه وسلم- فى النوم فأشار إلى هذا الدواء: قرنفل وزنجبيل وقرفة وجوزة طيب وسنبل، من

_ (1) سورة التوبة: 128. (2) سورة الإسراء: 82. (3) سورة الحشر: 21.

ذكر طبه ص من داء عرق النسا:

كل واحد درهم ونصف، وشونيز درهمين، يدق الجميع ثم يطبخ ويعقد بعسل النحل، فإذا قرب استواؤه عصر عليه قليل ليمون، فيكون عسل النحل غالبا عليه، ففعله فبرأ، انتهى. وهذا وإن كان مناما فقد عضدته التجربة مع إرشاد الشيخ المرجانى لذلك. ذكر طبه ص من داء عرق النسا: وهو بفتح النون والمهملة، المرض الحال بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشئ إلى محله. قيل: وسمى بذلك لأن ألمه ينسى ما سواه. وهذا العرق ممتد من مفصل الورك وينتهى إلى آخر القدم وراء الكعب. وعن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق فى كل يوم جزآ» «1» رواه ابن ماجه. وهذا الدواء خاص بالعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم، وهو أنفعه لهم، لأن هذا المرض يحدث عن يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال. والألية فيها الخاصيتان: الإنضاج والتليين. وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين. وفى تعيين الشاة الأعرابية، قلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها، لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيح والقيصوم ونحوهما، وهذه إذا تغذى بها الحيوان صار فى لحمه من طبعها، بعد أن يلطفه تغذية، ويكسبها مزاجا ألطف منها ولا سيما الألية. ذكر طبه ص من الأورام والخراجات: بالبط والبزل «2» ، يذكر عن على- رضى الله عنه- قال: دخلت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رجل يعوده، بظهره ورم، فقالوا: يا رسول الله، هو بهذه مدة،

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3463) فى الطب، باب: دواء عرق النسا، وقال البوصيرى فى الزوائد: إسناده صحيح، وهو كما قال. (2) البط: هو القطع والشق، والبزل: كذلك.

ذكر طبه ص بقطع العروق والكى:

فقال: «بطوا عنه» قال على: فما برحت حتى بطت، والنبى- صلى الله عليه وسلم- شاهد «1» . ذكر طبه ص بقطع العروق والكى: روى البخارى ومسلم من حديث جابر بن عبد الله، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- بعث إلى أبى بن كعب طبيبا، فقطع له عرقا وكواه عليه «2» . وأخرج مسلم عن جابر: لما رمى سعد بن معاذ فى أكحله، حسمه النبى- صلى الله عليه وسلم- «3» . وروى الطحاوى، وصححه الحاكم عن أنس قال: كوانى أبو طلحة فى زمن النبى- صلى الله عليه وسلم- «4» . وعند الترمذى: أنه- صلى الله عليه وسلم- كوى أسعد بن زرارة من الشوكة «5» . وروى مسلم عن عمران بن حصين قال: كان يسلّم على حتى اكتويت فتركت، ثم تركت فعاد «6» . وفى رواية: إن الذى كان انقطع عنى رجع إلى، يعنى تسليم الملائكة. وروى أحمد وأبو داود والترمذى عن عمران: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الكى، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا، الحديث «7» .

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 99) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه أبو الربيع السمان، وهو ضعيف. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2207) فى السلام، باب: لكل داء دواء، والحديث ليس فى البخارى، كما قال المصنف. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2208) فيما سبق. (4) صحيح: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 463) ، والطحاوى فى «شرح معانى الآثار» (4/ 321) ، وهو عند البخارى (5719- 5721) فى الطب، باب: ذات الجنب، وأحمد فى «المسند» (3/ 139) ، إلا أنه عند البخارى لم يرفعه إلى عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بل اكتفى بقوله «كواه أبو طلحة بيده» . (5) صحيح: أخرجه الترمذى (2050) فى الطب، باب: ما جاء فى الرخصة فى ذلك من حديث أنس- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (6) صحيح: أخرجه مسلم (1226) فى الحج، باب: جواز التمتع. (7) صحيح: أخرجه أبو داود (3865) فى الطب، باب: فى الكى، والترمذى (2049) فى الطب، باب: ما جاء فى كراهية الكى، وابن ماجه (3490) فى الطب، باب: الكى، وسنده صحيح.

وإنما يستعمل الكى فى الخلط الباغى الذى لا تحسم مادته إلا به، ولهذا وصفه- صلى الله عليه وسلم- ثم نهى عنه «1» ، وإنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، ولهذا كانت العرب تقول فى أمثلتها: آخر الدواء الكى. والنهى فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى، لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه خاص بعمران لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرا فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح. وقال ابن قتيبة: الكى نوعان: كى الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذى قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى. لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع، والثانى: كى الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذى شرع التداوى له، فإن كان الكى لأمر محتمل فهو خلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق. وحاصل الجمع: أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، ولذا وقع الثناء على تاركه، وأما النهى عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقا إلى الشفاء. وقال بعضهم: إنما نهى عنه مع إثباته الشفاء فيه إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم الداء بطبعه فكرهه لذلك، ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء لظنهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذى يكتوى التعذيب بالنار لأمر مظنون. قال فى فتح البارى: ولم أر فى أثر صحيح أن النبى- صلى الله عليه وسلم- اكتوى، إلا أن القرطبى نسب إلى كتاب آداب النفوس للطبرى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- اكتوى، وذكره الحليمى بلفظ: وروى أنه أكوى للجرح الذى أصابه بأحد. قال الحافظ ابن حجر: والثابت فى الصحيح فى غزوة أحد أن فاطمة أحرقت حصيرا فحشت به جرحه. وليس هذا الكى المعهود.

_ (1) صحيح: وهو يشير إلى الحديث الذى عند البخارى (5680 و 5681) فى الطب، باب: الشفاء فى ثلاث.

ذكر طبه ص من الطاعون:

ذكر طبه ص من الطاعون: قال الخليل «1» : الطاعون الوباء، وقال ابن الأثير: الطاعون المرض العام والوباء الذى يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان، وقال القاضى أبو بكر بن العربى: الطاعون، الوجع الغالب الذى يطفئ الروح، سمى بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله، وقال أبو الوليد الباجى: وهو مرض يعم الكثير من الناس فى جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس. وقال القاضى عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة فى الجسد، والوباء عموم الأمراض فسميت طاعونا تشبيها بها فى الهلاك. وقال النووى فى تهذيبه: هو بثر وورم مؤلم جدّا ويخرج مع لهب، ويسود ما حوله أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان وقئ، ويخرج غالبا فى المراق والآباط، وقد يخرج فى الأيدى والأصابع وسائر البدن. وقال ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالا يحدث فى المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط، أو خلف الأذن، أو عند الأربية، وسببه ورم ردئ يستحيل إلى جوهر سمى يفسد العضو، ويغير ما يليه، ويؤدى إلى القلب كيفية رديئة تحدث القئ والغثيان والغشى والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع فى الأعضاء الرئيسة، والأسود منه قلّ من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر، والطواعين تكثر عن الوباء فى البلاد الوبيئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، وأما الوباء: فهو فساد جواهر الهواء الذى هو مادة الروح ومدده. والحاصل: أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم وانصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء، يسمى طاعونا بطريق المجاز، لاشتراكهما فى عموم المرض أو كثرة الموت.

_ (1) هو: الخليل بن أحمد الفراهيدى، اللغوى المشهور، عنه أخذ سيبويه علم اللغة، وإليه ينسب نشأة علم العروض.

والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء، أن الطاعون لم يدخل المدينة النبوية، وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهى أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا إلى أرض الوباء. والطاعون: من طعن الجن، وإنما لم يتعرض له الأطباء لكونه من طعن الجن، لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما عرف من الشارع، فتكلموا فى ذلك على ما اقتضته قواعدهم، وإنما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبا فى أعدل الفصول، وفى أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام فى الأرض لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، والطاعون يذهب أحيانا ويجئ أحيانا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم ممن هو فى مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع دون موضع من الجسد لا يجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضى تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا فى الغالب يقتل غالبا بلا مرض، فدل على أنه من طعن الجن. كما ثبت فى الأحاديث الواردة فى ذلك. منها حديث أحمد والطبرانى عن أبى بكر بن أبى موسى الأشعرى عن أبيه قال: سألت عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هو وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة» «1» . وقال الشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: يقع فى الألسنة، وهو فى النهاية تبعا لغريبى الهروى بلفظ «وخز إخوانكم» ولم أره بلفظ «إخوانكم» بعد التتبع الطويل البالغ فى شئ من طرق الحديث المسندة، لا فى الكتب المشهورة، ولا فى الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد الطبرانى أو كتاب الطواعين لابن أبى الدنيا، ولا وجود لذلك فى واحد منها والله أعلم. انتهى.

_ (1) أخرجه أحمد فى «المسند» (4/ 395 و 413) ، والطبرانى فى «الصغير» (351) ، و «الأوسط» (1418) .

وفى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الطاعون رجز أرسل على طائفة من بنى إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه» «1» . وقد ذكر العلماء فى النهى عن الخروج حكما: منها: أن الطاعون: فى الغالب يكون عاما فى البلد الذى يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن هو بها، فلا يفيده الفرار، لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثا فلا يليق بالعاقل. ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره ضائع المصلحة، لفقد من يتعهده حيّا وميتا. وأيضا: لو شرع الخروج. فخرج الأقوياء لكان فى ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا: إن حكمة الوعيد فى الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر، وإدخال الرعب عليه بخلافه. وقد جمع الغزالى بين الأمرين فقال: الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق، فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر فى الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير فى الباطن، فالخارج من البلد الذى يقع فيه لا يخلص غالبا مما استحكم به، وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء فى الخروج لبقى المرضى لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم. ومنها: ما ذكره بعض الأطباء: أن المكان الذى يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة فتألفها وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التى حصل تكيف بدنها بها فأفسدته فمنع من الخروج لهذه النكتة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3473) فى أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (2218) فى السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها.

ذكر طبه ص من السلعة:

ومنها: أن الخارج يقول: لو أقمت لأصبت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقع اللوم المنهى عنه. وقال العارف ابن أبى جمرة: البلاء إنما يقصد به أهل البقعة، لا البقعة نفسها، فمن أراد الله تعالى إنزال البلاء به فهو واقع به لا محالة، فأينما توجه يدركه، فأرشدنا الشارع إلى عدم النصب. وقال ابن القيم: جمع- صلى الله عليه وسلم- للأمة فى نهيه عن الدخول إلى الأرض التى هو بها، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه، كمال التحرز منه، فإن فى الدخول فى الأرض التى هو فيها تعرضا للبلاء وموافاة له فى محل سلطانه، وإعانة الإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التى أرشد الله تعالى إليها، وهى حمية من الأمكنة والأهوية المؤذية، وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه معنيان: أحدهما: حمل النفوس على الثقة بالله تعالى والتوكل عليه، والصبر على أقضيته والرضا. والثانى: ما قاله أئمة الطب أنه يجب على من كان يحترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويقلل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه، والخروج من أرض الوباء والسفر منها لا يكون إلا بحركة شديدة، وهى مضرة جدّا. هذا كلام أفضل المتأخرين من الأطباء، فظهر المعنى الطبى من الحديث النبوى، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما، انتهى. ذكر طبه ص من السلعة «1» : أخرج البخارى فى تاريخه، والطبرانى والبيهقى عن شرحبيل الجعفى قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وبكفى سلعة، فقلت يا رسول الله قد آذتنى، تحول بينى وبين قائم السيف أن أقبض عليه وعنان الدابة، فنفث فى كفى، ووضع كفه على السلعة فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها عنها وما أرى أثرها.

_ (1) السّلعة: الغدة.

ذكر طبه ص من الحمى:

ومسح- صلى الله عليه وسلم- وجه أبيض بن حمال وكان به القوباء فلم يمس من ذلك اليوم ومنها أثر «1» ، رواه البيهقى وغيره. ذكر طبه ص من الحمى: روى البخارى من حديث ابن عمر عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء البارد» «2» واختلف فى نسبتها إلى جهنم. فقيل: حقيقة، واللهب الحاصل فى جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها فى هذه الدار عبرة ودلالة. وقيل: الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى: أن حر الحمى شبيه بحر جهنم، تنبيها للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها. قوله «فأطفئوها» بهمزة قطع، أمر من: أطفأ. وروى الطبرانى «الحمى حظ المؤمن من النار» » . وفى رواية نافع عن ابن عمر، عند الشيخين: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء» بهمزة وصل والراء مضمومة على المشهور وحكى كسر الراء. وفى رواية ابن ماجه «بالماء البارد» «4» . وفى رواية أبى جمرة- بالجيم- عند البخارى، قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتنى الحمى، فاحتبست أياما، فقال: ما حبسك؟ فقلت: الحمى، قال: أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم» «5» شك.

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 176- 177) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (3264) فى بدء الخلق، باب: صفة النار، ومسلم (2209) فى السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوى. (3) أخرجه الطبرانى فى «الصغير» (314) ، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) هى عند ابن ماجه (3472) فى الطب، باب: الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء. (5) هى عند البخارى (3261) فى بدء الخلق، باب: صفة النار، وأحمد فى «المسند» (1/ 291) .

قال ابن القيم: قوله «بالماء» فيه قولان: أحدهما: أنه كل ماء، وهو الصحيح، والثانى: أنه ماء زمزم. ثم قال بعد أن روى حديث أبى جمرة هذا، وراوى هذا قد شك فيه، ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم، إذ هو متيسر عندهم، وأخبرهم بما عندهم من الماء، انتهى. وتعقب: بأنه وقع فى رواية أحمد عن عفان بن همام: «فأبردوها بماء زمزم» ولم يشك، وكذا أخرجه النسائى، وابن حبان والحاكم. وقال ابن القيم: واختلف من قال إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن أن الذى حمل من قال إن المراد به الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد فى الحمى ولم يفهم وجهه. مع أن لقوله وجها حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمان بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا، انتهى. وقال الخطابى وغيره: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث، بأن اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك، لأنه يجمع المسام، ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببا للتلف. وقد غلط بعض من ينسب إلى العلم «1» ، فانغمس فى الماء لما أصابته الحمى، فاحتنقت الحرارة فى باطن بدنه، فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه فى ذلك جهله بمعنى الحديث. والجواب: أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب فى صدق الخبر، فيقال له أولا، من أين حملت الأمر على الاغتسال، وليس فى الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل، وإنما فى الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء، فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم فى الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصده- صلى الله عليه وسلم- استعمال الماء على وجه ينفع فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل

_ (1) فى الأصل (العمل) ، والصواب ما أثبتناه، وكذا فى «فتح البارى» (10/ 186) .

الانتفاع به، وهذا كما وقع فى أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى بالماء ما صنعته أسماء بنت أبى بكر الصديق- رضى الله عنهما-: فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه، فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابى ولا سيما مثل أسماء بنت أبى بكر التى هى كانت تلازم بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- أعلم بالمراد من غيرها. وقد ذكر أبو نعيم وغيره، من حديث أنس يرفعه: «إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر» «1» . وقال المازرى: لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل حتى إن المريض يكون الشئ دواءه فى ساعة فيكون داءه فى الساعة التى تليها لعارض يعرض له من غضب يحمى مزاجه مثلا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير. فإذا فرض وجود الشفاء لشخص لشئ فى حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره فى سائر الأحوال. والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف، وقوة الطباع. ويحتمل أن يكون هذا فى وقت مخصوص فيكون من الخواص التى اطلع عليها النبى- صلى الله عليه وسلم- بالوحى، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب. وجعل ابن القيم خطابه- صلى الله عليه وسلم- فى هذا الحديث خاصّا لأهل الحجاز وما والاهم، إذ كان أكثر الحميات التى تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية، الحادثة من شدة حرارة الشمس. قال: هذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا، لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل فى القلب، وتنشر منه بتوسط الروح والدم فى العروق إلى جميع البدن وهى قسمان: عرضية وهى الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ الشديد ونحو ذلك،

_ (1) صحيح: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 223 و 447) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو كما قال.

ومرضية وهى ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهى حمى يوم، لا تقلع غالبا فى يوم ونهايتها إلى ثلاث، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهى حمى دق، وهى أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفينية، وهى بعدد الأخلاط الأربعة: أعنى صفراوية، سوداوية، بلغمية، دموية، وتحت هذا الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الأفراد والتركيب. انتهى. وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول. فإنها تسكن بالانغماس فى الماء البارد، وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره، ولا يحتاج إلى علاج آخر. وقد قال جالينوس: لو أن شابّا خشن اللحم خصب البدن ليس فى أحشائه ورم استحم بماء بارد وسبح فيه فى وقت القيظ عند منتهى الحمى لانتفع بذلك. وقد تكرر فى الحديث استعماله- صلى الله عليه وسلم- الماء البارد فى علته، كما فى الحديث: «صبوا على من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن» «1» . وفى المسند وغيره من حديث الحسن عن سمرة يرفعه «الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد» وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل «2» وصححه الحاكم، ولكن قال فى إسناده راو ضعيف. وعن أنس رفعه: «إذا حم أحدكم فليشن عليه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال» «3» أخرجه الطحاوى وأبو نعيم فى الطب. وأخرج الطبرانى من حديث عبد الرحمن بن المرقع، رفعه: «الحمى رائد الموت، وهى سجن الله فى

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب والقدح، وأحمد فى «المسند» (6/ 151) من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 447) ، هكذا وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه الزيادة، وطرفه الأول عند أحمد فى «المسند» (5/ 281) ، من حديث ثوبان- رضى الله عنه-، ولم أقف عليه فيه من حديث سمرة. (3) صحيح: وقد تقدم قبل حديثين.

ذكر طبه ص من حكة الجسد وما يولد القمل:

الأرض، فبردوا لها الماء فى الشنان وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء» «1» قال ففعلوا فذهب عنهم. وقد أخرج الترمذى من حديث ثوبان مرفوعا: «إذا أصاب أحدكم الحمى وهى قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء، يستنقع فى نهر جار، ويستقبل جريته، وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك، وصدق رسولك، بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاثة غمسات، ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله» «2» قال الترمذى: غريب، وفى سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه. ذكر طبه ص من حكة الجسد وما يولد القمل: لما كانت الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة رخص- صلى الله عليه وسلم- للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف فى لبس الحرير لحكة كانت بهما، كما فى البخارى عن قتادة أن أنسا حدثهم أن النبى- صلى الله عليه وسلم- رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير فى قميص من حرير من حكة كانت بهما. وفى رواية أن عبد الرحمن والزبير شكيا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- يعنى القمل- فأرخص لهما فى الحرير، فرأيته عليهما فى غزاة. وفى رواية رخص النبى- صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام فى الحرير. وفى رواية رخص النبى- صلى الله عليه وسلم-، أو رخص لحكة كانت بهما «3» . ويحتمل أن تكون إحدى العلتين بأحد الرجلين، أو أن الحكة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى المسبب. قال النووى: هذا

_ (1) ضعيف: أخرجه القضاعى فى مسند الشهاب (1/ 69) ، عن عبد الرحمن بن المرقع، وأخرجه ابن الدنيا فى «المرض والكفارات» (ص 73) ، والقضاعى فى مسند الشهاب (1/ 69) عن الحسن مرسلا. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2084) فى الطب، باب: ما جاء فى التداوى بالغسل، وأحمد فى «المسند» (5/ 281) ، والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (3) صحيح: وانظر هذه الروايات عند البخارى (2919- 2922) فى الجهاد والسير، باب: الحرير فى الحرب، وطرفه (5795) .

ذكر طبه صلى الله عليه وسلم - من السم الذى أصابه بخيبر:

الحديث صريح فى الدلالة لمذهب الشافعى وموافقيه: أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة، وكذا للقمل وما فى معنى ذلك. وقال مالك: لا يجوز، وهذا الحديث حجة عليه، انتهى. وتعقب قوله: «لما فيه من البرودة» بأن الحرير حار. والصواب: أن الحكمة فيه إنما هى لخاصية فيه تدفع الحكة والقمل. وقال ابن القيم: وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة فى مزاجه، مسخنا للبدن، وربما برد البدن بتسمينه إياه. وقال الرازى: الإبريسم أسخن من الكتان وأبرد من القطن، يربى اللحم، وكل لباس خشن فإنه يهزل ويصلب البشرة، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ وملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن، فثياب الكتان باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من ثياب القطن وأقل حرارة منه، ولما كانت ثياب الحرير ليس فيها من اليبس والخشونة كغيرها صارت نافعة من الحكة، لأن الحكة- كما قدمته- لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص- صلى الله عليه وسلم- لهما فى الحرير لمداواة الحكة. ذكر طبه صلى الله عليه وسلم- من السم الذى أصابه بخيبر: تقدم فى غزوتها قصة اليهودية التى أهدت إليه الشاة المسمومة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت للنبى- صلى الله عليه وسلم- شاة مصلية بخيبر، فقال: «ما هذه؟» قالت: هدية، وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل. فأكل النبى- صلى الله عليه وسلم- وأكل أصحابه، ثم قال: «أمسكوا» ثم قال للمرأة: «هل سميت هذا الشاة؟» قالت من أخبرك؟ قال: «هذا العظم، لساقها» وهو فى يده، قالت: نعم قال: «لم؟» قالت: أردت إن كنت كاذبا أن يستريح منك الناس، وإن كنت نبيّا لم يضرك. قال: فاحتجم النبى- صلى الله عليه وسلم- ثلاثا على كاهله «1» .

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (4/ 260- 261) من هذا الطريق، وهى فى «صحيح البخارى» (3169) فى الجزية والموادعة، باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بسياق آخر.

النوع الثالث فى طبه ص بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية

وقد ذكروا فى علاج السم أنه يكون بالاستفراغات وبالأدوية التى تعارض فعل السم وتبطله، إما بكيفياتها وإما بخواصها، فمن عدم الدواء فليبادر إلى الدواء الكلى، وأنفعه الحجامة، ولا سيما إذا كان البلد حارا، فإن القوة السمية تسرى فى الدم، فتبعثه فى العروق والمجارى، حتى تصل إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسموم وأخرج الدم خرجت معه تلك الكيفية السمية التى خالطته، فإن كان استفراغا تاما لم يضره السم، بل إما أن يذهب، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة فتبطل فعله، أو تضعفه. ولما احتجم- صلى الله عليه وسلم- احتجم على الكاهل، لأنه أقرب إلى القلب، فخرجت المادة السمية مع الدم، لا خروجا كليّا بل بقى أثرها مع ضعفه لما يريد الله تعالى من تكميل مراتب الفضل كلها له بالشهادة زاده الله فضلا وشرفا. النوع الثالث فى طبه ص بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية ذكر طبه ص من القرحة والجرح وكل شكوى: عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول للمريض: «بسم الله تربة أرضنا، وريقة بعضنا، يشفى سقيمنا» . وفى رواية: كان يقول فى الرقية: «بسم الله تربة أرضنا، وريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا» «1» رواه البخارى. وفى رواية لمسلم: كان إذا اشتكى الإنسان، أو كانت به قرحة أو جرح قال بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض، الحديث. وقوله: «تربة أرضنا؟» خبر مبتدأ محذوف، أى هذه تربة أرضنا. وقوله «يشفى سقيمنا» ضبط بوجهين، بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع، وبفتح أوله على أن الفاعل مقدر، وسقيمنا بالنصب على المفعولية.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5745 و 5746) فى الطب، باب: رقية النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومسلم (2194) في السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة.

قال النووى: معنى الحديث، أنه أخذ من ريق نفسه: على أصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب فعلق بها شئ منه، ثم مسح به على الموضع العليل أو الجرح قائلا الكلام المذكور فى حالة المسح. وقال القرطبى: زعم بعض الناس أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذى به الألم، ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه، مع منفعته فى تجفيف الجراح واندمالها. وقال فى الريق: إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم، ولا سيما من الصائم والجائع. وتعقبة القرطبى: بأن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق، وملازمة ذلك فى أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله- صلى الله عليه وسلم-: وأما وضع الأصبع بالأرض فلعله لخاصية فى ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. وقال البيضاوى: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا فى النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير فى حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغى للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه فى سقائه ليأمن مضرة ذلك، ثم إن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها. وقال التوربشتى كأن المراد بالتربة الإشارة إلى النطفة، كأن تضرع بلسان الحال: إنك اخترعت الأصل الأول من التراب ثم أبدعته من ماء مهين، فهين عليك أن تشفى من كانت هذه نشأته. وقال النووى: وقيل المراد «بأرضنا؟» أرض المدينة لبركتها، و «بعضنا» رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لشرف ريقه فيكون ذلك مخصوصا. وفيه نظر. وفى حديث عائشة عند أبى داود والنسائى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل على ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض، فقال: «اكشف الباس رب الناس» ، ثم أخذ

ذكر طبه - ص من لدغة العقرب:

ترابا من بطحان فجعله فى قدح ثم نفث عليه، ثم صبه عليه قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث تفرد به الشخص المرقى. ذكر طبه- ص من لدغة العقرب: عن عبد الله بن مسعود قال: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى إذ سجد فلدغته عقرب فى إصبعه، فانصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: «لعن الله العقرب، ما تدع نبيّا ولا غيره» ، ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة فى الماء والملح، ويقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1» والمعوذتين حتى سكنت «2» رواه ابن أبى شيبة فى مسنده. وقال ابن عبد البر: رقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من العقرب بالمعوذتين، وكان يمسح الموضع بماء فيه ملح. وهذا طب مركب من الطبيعى والإلهى، فإن سورة الإخلاص قد جمعت الأصول الثلاثة، التى هى مجامع التوحيد، وفى المعوذتين استعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا. ولهذا أوصى- صلى الله عليه وسلم- عقبة بن عامر أن يقرأهما عقب كل صلاة «3» . رواه الترمذى. وفى هذا سر عظيم فى استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة. وقال: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» «4» . وأما الماء والملح فهو الطب الطبيعى، فإن فى الملح نفعا لكثير من السموم ولا سيما لدغة العقرب، وفيه من القوة الجاذبة ما يجذب السموم ويحللها، ولما كان فى لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب استعمل- صلى الله عليه وسلم- الماء والملح لذلك.

_ (1) سورة الإخلاص: 1. (2) أخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (5/ 44) من حديث على- رضى الله عنه-، ولم أجده من حديث ابن مسعود، وكذا هو فى «مجمع الزوائد» (5/ 111) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير، وإسناده حسن. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (1523) فى الصلاة، باب: فى الاستغفار، والترمذى (2903) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء فى المعوذتين، والنسائى (3/ 68) فى السهو، باب: الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 155 و 201) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) صحيح: أخرجه أبو داود (1463) فى الصلاة، باب: فى المعوذتين، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ذكر الطب من النملة:

ذكر الطب من النملة: وهى بفتح النون وإسكان الميم، قروح تخرج فى الجنب، وسمى نملة لأن صاحبه يحس فى مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه. وفى حديث مسلم عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- رخص فى الرقية من الحمة والعين والنملة «1» . وروى الخلال أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقى فى الجاهلية من النملة، فلما هاجرت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- وكانت بايعته بمكة قالت: يا رسول الله إنى كنت أرقى فى الجاهلية من النملة، وأريد أن أعرضها عليك، فعرضتها فقالت: بسم الله ضلت حتى تعود من أفواهها ولا تضر أحدا، اللهم اكشف الباس رب الناس. قال: «ترقى بها على عود سبع مرات، وتقصد به مكانا نظيفا وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق وتطليه على النملة» . ذكر طبه ص من البثرة: روى النسائى عن بعض أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «عندك ذريرة؟» قلت: نعم، فدعا بها فوضعها على بثرة بين أصبعين من أصابع رجله، ثم قال: «اللهم مطفئ الكبير، ومكبر الصغير، أطفئها عنى، فطفئت» «2» . ذكر طبه ص من حرق النار: روى النسائى عن محمد بن حاطب قال: تناولت قدرا، فأصاب كفى من مائها، فاحترق ظهر كفى، فانطلقت بى أمى إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «أذهب الباس رب الناس» قال: وأحسبه قال: «واشف أنت الشافى وتفل» «3» .

_ (1) صحيح: والحديث أخرجه مسلم (2196) فى السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة. (2) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10870) ، وأحمد فى «المسند» (5/ 370) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 230) . (3) حسن: أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10015) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 418) و (4/ 259) ، و (6/ 437) ، وابن حبان فى «صحيحه» (2977) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 70) والحديث حسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط.

ذكر طبه ص بالحمية:

ذكر طبه ص بالحمية: وهى قسمان: حمية عما يجلب المرض، وحمية عما يزيده فيقف على حاله. فالأولى: حمية الأصحاء. والثانية: حمية المرضى، فإن المريض إذا احتمى وقف مرضه عن التزايد، وأخذت القوى فى دفعه. والأصل فى الحمية قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ إلى قوله: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «1» فحمى المريض من استعمال الماء لأنه يضره، كما وقعت الإشارة لذلك فى أوائل هذا المقصد. وقد قال بعض أفاضل الأطباء: رأس الطب الحمية. والحمية للصحيح عندهم فى المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه، وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض، لأن التخليط يوجب الانتكاس والانتكاس أصعب من ابتداء المرض. والفاكهة تضر الناقه من المرض، لسرعة استحالتها وضعف الطبيعة عن دفعها لعدم القوة، وفى سنن ابن ماجه عن صهيب قال: قدمت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وبين يديه خبز وتمر، فقال: «ادن وكل» فأخذت تمرا فأكلت، فقال: «أتأكل تمرا وبك رمد؟» فقلت يا رسول الله أمضغ من الناحية الآخرى، فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» . ففيه الإشارة إلى الحمية وعدم التخليط، وأن الرمد يضر به التمر. وعن أم المنذر بنت قيس الأنصارية قالت: دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه على، وهو ناقه من مرض، ولنا دوال معلقة، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأكل منها، وقام على يأكل منها، فطفق النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول لعلى: «إنك ناقه» حتى كف. قالت: وصنعت شعيرا وسلقا فجئت به فقال- صلى الله عليه وسلم- لعلى: «من هذا أصب فإنه أنفع لك» «3» رواه ابن ماجه.

_ (1) سورة النساء: 43. (2) حسن: وقد تقدم. (3) حسن: أخرجه أبو داود (3856) فى الطب، باب: فى الحمية، والترمذى (2037) فى الطب، باب: ما جاء فى الحمية، وابن ماجه (3442) فى الطب، باب: الحمية، وأحمد فى «المسند» (6/ 363 و 364) ، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ذكر حمية المريض من الماء:

وإنما منعه- صلى الله عليه وسلم- من أكله من الدوالى لأن فى الفاكهة نوع ثقل على المعدة، ولم يمنعه من السلق والشعير لأنه من أنفع الأغذية للناقه، ففى ماء الشعير التغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة. فالحمية من أكبر الأدوية للناقه قبل زوال الداء، لكى يمتنع تزايده وانتشاره. قال ابن القيم: ومما ينبغى أن يعلم أن كثيرا مما يحمى عنه العليل والناقه والصحيح إذا اشتدت الشهوة إليه، ومالت إليه الطبيعة، فتناول منه الشئ اليسير الذى لا تعجز الطبيعة عن هضمه لم يضره تناوله، بل ربما انتفع به، فإن الطبيعة والمعدة يتلقيانه بالقبول والمحبة، فيصلحان ما يخشى من ضرره، وقد يكون أنفع من تناوله ما تكرهه الطبيعة وتدفعه من الدواء. ولهذا أقر النبى- صلى الله عليه وسلم- صهيبا وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة وعلم أنها لا تضره. ففى هذا الحديث- يعنى حديث صهيب- سر طبى لطيف، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق وكان فيه ضرر ما، كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه عن جوع صادق وإن كان نافعا فى نفسه. فإن صدق شهوته ومحبة الطبيعة له تدفع ضرره، وكذلك بالعكس. ذكر حمية المريض من الماء: عن قتادة بن النعمان أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا أحب الله العبد حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمى سقيمه الماء» «1» . قال الترمذى حديث حسن غريب. وروى الحميدى مرفوعا: «لو أن الناس أقلوا من شرب الماء لاستقامت أبدانهم» . وللطبرانى فى الأوسط عن أبى سعيد مرفوعا: «من شرب الماء على الريق انتقصت قوته» وفيه محمد بن مخلد الرعينى، وهو ضعيف.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (2036) فى الطب، باب: ما جاء فى الحمية، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 344) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو كما قال.

ذكر أمره ص بالحمية من الماء المشمس خوف البرص:

ذكر أمره ص بالحمية من الماء المشمس خوف البرص: روى الدار قطنى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: «لا تغتسلوا بالماء المشمس فإنه يورث البرص» «1» . وروى الدار قطنى هذا المعنى مرفوعا من حديث عامر عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو ضعيف. وكذا خرج العقيلى نحوه عن أنس بن مالك، ورواه الشافعى عن عمر. فعلى هذا يكره استعمال الماء المشمس شرعا خوف البرص، لكنهم اشترطوا شروطا: أن يكون فى البلاد الحارة، والأوقات الحارة دون الباردة، وفى الأوانى المنطبعة على الأصح دون الحجر والخشب ونحوهما. واستثنى النقدان لصفائهما. وقال الجوينى بالتسوية، حكاه ابن الصلاح. ولا يكره المشمس فى الحياض والبرك قطعا، وأن يكون الاستعمال فى البدن لا فى الثوب، وأن يكون مستعملا حال حرارته، فلو برد زالت الكراهة فى الأصح فى الروضة وصحح فى الشرح الصغير عدم الزوال. واشترط صاحب التهذيب- كما قاله الجيلى- أن يكون رأس الإناء منسدا لتنحبس الحرارة، وفى شرح المهذب أنها شرعية يثاب تاركها وقال فى شرح التنبيه: إن اعتبرنا القصد فشرعية وإلا فإرشادية، وإذا قلنا بالكراهة فكراهة تنزيه لا تمنع صحة الطهارة. وقال الطبرى: إن خاف الأذى حرم، وقال ابن عبد السلام: لو لم يجد غيره وجب استعماله، واختار النووى فى الروضة عدم الكراهة مطلقا، وحكاه الرويانى فى البحر عن النص. ذكر الحمية من طعام البخلاء: عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «طعام البخيل داء وطعام الأسخياء شفاء» . رواه التنيسى عن مالك فى غير الموطأ، كما ذكره عبد الحق فى الأحكام.

_ (1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 39) بسند فيه مجهول وبه ضعفه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (1/ 53- 54) .

ذكر الحمية من داء الكسل:

ذكر الحمية من داء الكسل: روى أبو داود فى المراسيل عن يونس عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن: أنه رآه مضطجعا فى الشمس، قال يونس فنهانى وقال: بلغنى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنها تورث الكسل وتثير الداء الدفين» «1» . ذكر الحمية من داء البواسير: عن الحسن قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يجامعن أحدكم وبه حقن خلاء، فإنه يكون منه البواسير» «2» رواه أبو أحمد الحاكم. ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحى الذباب بانغماس الثانى: عن أبى هريرة- رضى الله عنه-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن فى أحد جناحيه شفاء وفى الآخر داء» «3» . وفى رواية أبى داود: «فإنه يتقى بجناحه الذى فيه الداء، فليغمسه كله» . وفى رواية الطحاوى: فإن يقدم السم ويؤخر الشفاء. وفى قوله «كله» دفع توهم المجاز فى الاكتفاء بالبعض. قال شيخ شيوخنا «4» : لم يقع لى فى شئ من الطرق تعيين الجناح الذى فيه الشفاء من غيره. لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقى بجناحه الأيسر. فعرف أن الأيمن هو الذى فيه الشفاء. وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا: «عمر الذباب أربعون ليلة. والذباب كله فى النار إلا النحل» «5» . وسنده لا بأس به.

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود فى «المراسيل» (473 و 474) بلاغا. (2) ضعيف: أخرجه ابن النجار عن أنس كما فى «كنز العمال» (44902) ، وأعاده برقم (45892) . ولم أجده فى «المستدرك» للحاكم. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3320) فى بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب فى شراب أحدكم فليغمسه. (4) هو شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانى. (5) صحيح: أخرج طرفه الأخير البزار وأبو يعلى فى مسنده والطبرانى فى الكبير، عن ابن عمر، والطبرانى فى الكبير عن ابن عباس وابن مسعود- رضى الله عنهما-، كما فى «صحيح الجامع» (3442) . وقد أوله بعض العلماء أن المقصود بذلك أنه ليعذب به أهل النار، لا ليعذب هو.

ذكره أمره ص بالحمية من الوباء النازل فى الإناء بالليل بتغطيته:

قال الجاحظ: كونه فى النار ليس تعذيبا له بل ليعذب أهل النار له، ويتولد من العفونة. ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس، وأكثر ما يظهر فى أماكن العفونة، ومبدأ خلقه منها ثم من التوالد، وهو أكثر الطيور سفادا، وربما بقى عامة اليوم على الأنثى. ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعى: لأى علة خلق الذباب؟ فقال: مذلة للملوك، وكان ألحت عليه ذبابة. وقال الشافعى: سألنى ولم يكن عندى جواب فاستنبطت ذلك من الهيئة الحاصلة، فرحمة الله عليه ورضوانه. ذكره أمره ص بالحمية من الوباء النازل فى الإناء بالليل بتغطيته: عن جابر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «غطوا الإناء وأوكوا السقاء، فإن فى السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا ينزل فيه من ذلك الوباء» «1» . رواه مسلم فى صحيحه. قيل: وذلك فى آخر شهور السنة الرومية. ذكر حمية الوليد من إرضاع الحمقى: روى أبو داود فى المراسيل بإسناد صحيح عن زياد السهمى قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نسترضع الحمقاء، فإن اللبن يشبه. وعند ابن حبيب: يعدى، وعند القضاعى بسند حسن من حديث ابن عباس مرفوعا: «الرضاع يغير الطباع» «2» . وعند ابن حبيب أيضا مرفوعا: «أنه نهى عن استرضاع الفاجرة» . وعن عمر بن الخطاب: «أن اللبن ينزع لمن تسترضع» . وأما الحمية من البرد فاشتهر على الألسنة: «اتقوا البرد فإنه قتل أبا

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2014) فى الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب وذكر اسم الله عليها. (2) ضعيف: أخرجه القضاعى فى «مسند الشهاب» (1/ 56) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (3156) .

الدرداء» » . لكن قال شيخ الحفاظ ابن حجر: لا أعرفه: فإن كان واردا فيحتاج إلى تأويل، فإن أبا الدرداء عاش بعد النبى دهرا. انتهى. وأما ما اشتهر أيضا: «أصل كل داء البردة» «2» ، فقال شيخنا: رواه أبو نعيم والمستغفرى معا فى الطب النبوى والدار قطنى فى العلل، كلهم من طريق تمام ابن نجيح عن الحسن البصرى عن أنس رفعه. وتمام: ضعفه الدار قطنى وغيره، ووثقه ابن معين. ولأبى نعيم أيضا من حديث ابن المبارك عن السائب بن عبد الله بن على بن زحر عن ابن عباس مرفوعا مثله. ومن حديث عمرو بن الحارث عن دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد رفعه: «أصل كل داء من البردة» «3» . وقد قال الدار قطنى عقب حديث أنس من علله: عباد بن منصور عن الحسن من قوله، وهو أشبه بالصواب. وجعله الزمخشرى فى «الفائق» من كلام ابن مسعود. قال الدار قطنى فى كتاب التصحيف: قال أهل اللغة «البردة» يعنى بإسكان الراء، والصواب «البردة» يعنى بالفتح، وهى التخمة، لأنها تبرد حرارة الشهوة، أو لأنها ثقيلة على المعدة بطيئة الذهاب. من «برد» إذا ثبت وسكن. وقد أورد أبو نعيم مضموما لهذه الأحاديث، حديث الحارث بن فضيل عن زياد بن ميناء عن أبى هريرة رفعه: «استدفئوا من الحر والبرد» . وكذا أورد المستغفرى مع ما عنده منها حديث إسحاق بن نجيح عن أبان عن أنس رفعه: «إن الملائكة لترح بفراغ البرد عن أمتى، أصل كل داء البرد» وهما ضعيفان وذلك شاهد لما حكى عن اللغويين فى كون المحدثين رووه بالسكون. انتهى.

_ (1) ضعيف: وانظر كشف الخفاء (73) للعجلونى، وقد ذكر فيه كلام الحافظ ابن حجر المذكور. (2) ضعيف جدّا: ذكره العجلونى فى كشف الخفاء (380) ، وكذا السيوطى فى «الجامع الصغير» (1087) ، وقال الألبانى فى «ضعيف الجامع» (893) : ضعيف جدّا. (3) ضعيف جدّا: وانظر المصادر السابقة. وكذا «كنز العمال» (28249) .

الفصل الثانى فى تعبيره ص الرؤيا

الفصل الثانى فى تعبيره ص الرؤيا يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف: إذا فسرتها، وعبرتها بالتشديد للمبالغة فى ذلك. وأما «الرؤيا» بوزن فعلى- وقد تسهل الهمزة- فهى ما يراه الشخص فى منامه. قال القاضى أبو بكر بن العربى: الرؤيا إدراكات يخلقها الله تعالى فى قلب العبد على يد ملك أو شيطان، إما بأسمائها، أى حقيقتها، وإما بكناها أى بعبارتها، وإما تخليطا. وذهب أبو بكر بن الطيب: إلى أنها اعتقادات، واحتج بأن الرائى قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا، لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد. قال ابن العربى: والأول أولى، والذى ذكره ابن الطيب من قبيل المثل فالإدراك يتعلق به لا بأصل الذات. وقال المازرى: كثر كلام الناس فى حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع «1» ، فاضطربت أقاويلهم، فمن ينتمى إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط، فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح فى الماء ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود فى الجو وهكذا إلى آخره، وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجرى الله العادة به لكنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة، والقطع فى موضع التجويز غلط.

_ (1) الدليل السمعى: أى الكتاب والسنة لأنهما تلقيا عن طريق السماع من الوحى، بخلاف الدليل العقلى الذى لا يستمد منهما.

ومن ينتمى إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجرى فى الأرض هى فى العالم العلوى كالنقوش، فما حاذى بعض النفوس منها انتقش فيها. قال: وهذا أشد فسادا من الأول، لكونه تحكما لا برهان عليه. والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجرى فى العالم العلوى الأعراض، والأعراض لا ينتقش فيها. قال: والصحيح ما عليه أهل السنة، أن الله تعالى يخلق فى النائم اعتقادات قل يخلقها فى قلب اليقظان فإذا خلقها جعلها علما على أمور أخرى خلقها أو يخلقها فى ثانى الحال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله تعالى خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف. وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسره، وتارة بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضره، والعلم عند الله. وأخرج الحاكم والعقيلى من رواية محمد بن عجلان عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: لقى عمر عليّا فقال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب، قال: نعم، سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذى لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التى صدق، والذى يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التى تكذب» «1» . قال الذهبى فى تلخيصه: هذا حديث منكر، ولم يصححه المؤلف. وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو: أن رؤيا المؤمن كلام يكلمه ربه به فى المنام. ووجد الحديث للترمذى «2» فى «نوادر الأصول» من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه فى الأصل الثامن والسبعين، وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبى عمر، وهو واه، وفى سنده جند بن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة.

_ (1) منكر: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 439) ، ولم يصححه، وتعقبه الذهبى قائلا: بل منكر. (2) هو: الحكيم الترمذى، صاحب نوادر الأصول وغير ذلك، وليس الإمام الترمذى صاحب السنن المعروف.

الرؤيا الصالحة جزء من النبوة:

قال الحكيم «1» : قال بعض أهل التفسير فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» أى فى المنام. ورؤيا الأنبياء وحى بخلاف غيرهم، فالوحى لا يدخله خلل لأنه محروس، بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنه قد يحضرها الشيطان. وقال الحكيم أيضا: وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بنى آدم من اللوح المحفوظ فينسخ منها، ويضرب لكل على قصته مثلا، فإذا نام مثلت له تلك الأشياء على طريق الحكمة الإلهية لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والآدمى قد يسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلبس عليه رؤياه إما بتغليطه فيها أو بغافلته عنها. الرؤيا الصالحة جزء من النبوة: وفى البخارى من حديث أنس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة» «3» . والمراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم، فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلطه عليهم. وقد استشكل كون الرؤيا جزآ من النبوة، مع أن النبوة انقطعت بموته- صلى الله عليه وسلم-. وأجيب: بأن الرؤيا إن وقعت منه- صلى الله عليه وسلم- فهى جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبى فهى جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز. وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق. وتعقب بقول مالك- كما حكاه ابن عبد البر- أنه سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب. ثم قال: الرؤية جزء من النبوة.

_ (1) هو السابق. (2) سورة الشورى: 51. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6983) في التعبير، باب: رؤيا الصالحين.

وأجيب: بأنه لم يرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغى أن تكلم فيها بغير علم، فليس المراد أن الرؤيا الصالحة نبوة، لأن المراد تشبيه الرؤية بالنبوة، وجزء الشئ لا يستلزم ثبوت وصفه، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا، وفى حديث أم كرز الكعبية عند أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان: «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات» «1» . وعند أحمد من حديث عائشة مرفوعا: «لم يبق بعدى من المبشرات إلا الرؤيا» «2» وفى حديث ابن عباس عند مسلم وأبى داود: أنه- صلى الله عليه وسلم- كشف الستارة ورأسه معصوب فى مرضه الذى مات فيه، والناس صفوف خلف أبى بكر فقال: «يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له» «3» ، والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهى صادقة يريها الله للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه. وقوله: «من الرجل الصالح» لا مفهوم له، فإن المرأة الصالحة كذلك، وحكى ابن بطال الاتفاق عليه. وقوله: «جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة» كذا فى أكثر الأحاديث. وروى مسلم من حديث أبى هريرة «جزء من خمسة وأربعين جزآ من النبوة» «4» ، وعنده أيضا من حديث ابن عمر «جزء من سبعين جزآ» «5» ، وعند الطبرانى: «جزء من ستة وسبعين» «6» ، وسنده

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3896) فى تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وأحمد فى «المسند» (6/ 381) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6047) ، ولم أجده فى الجزء المطبوع من صحيح ابن خزيمة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (2) صحيح: أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 829) بسند صحيح. (3) صحيح: أخرجه مسلم (479) فى الصلاة، باب: النهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، وأبو داود (876) فى الصلاة، باب: فى الدعاء فى الركوع والسجود. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2263) (6) فى الرؤيا. (5) صحيح: أخرجه مسلم (2265) فى الرؤيا. (6) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (10/ 223) ، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، بسند فيه الركين، هو: الربيع بن سهل الفزارى، ضعيف الحديث.

ضعيف، وعنه عن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار عن ثابت عن أنس مرفوعا: «جزء من ستة وعشرين جزآ» . ووقع فى شرح مسلم للنووى وفى رواية عبادة: «أربعة وعشرين» . والذى يتحصل من الروايات عشرة، أقلها ما عند النووى، وأكثرها: من ستة وسبعين، وأضربنا عن باقيها خوف الإطالة. قال القاضى أبو بكر بن العربى: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبى، وإنما القدر الذى أراده النبى- صلى الله عليه وسلم- أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة فى الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة. وقال المازرى: لا يلزم العالم أن يعرف كل شئ جملة وتفصيلا، فقد جعل الله للعالم حدّا يقف عنده، فمنه ما يعلم به المراد جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلمه جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل. وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبة، فنقل ابن بطال عن أبى سعيد السفاقسى أن بعض أهل العلم ذكر أن الله تعالى أوحى إلى نبيه فى المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك فى اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحى فى المنام جزء من ستة وأربعين جزآ، لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح. قال ابن بطال: هذا التأويل بعيد من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف فى قدر المدة التى بعد بعثته- صلى الله عليه وسلم-. والثانى: أنه يبقى حديث السبعين جزآ بغير معنى. وهذا الذى قاله من الإنكار فى هذه المسألة سبقه إليه الخطابى فقال: كان بعض أهل العلم يقولون فى تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام بعد الوحى ثلاثا وعشرين سنة، وكان يوحى إليه فى منامه ستة أشهر، وهى نصف سنة، فهى جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة. قال الخطابى: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب

على من قاله أن يثبت ما ادعاه خبرا، ولم نسمع فيه أثرا ولا ذكر مدعيه فى ذلك خبرا، فكأنه قاله على سبيل الظن، والظن لا يغنى من الحق شيئا. وليس كل ما خفى علينا علمه يلزمنا حجته، كأعداد الركعات وأيام الصيام، ورمى الجمرات، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك فى موجب اعتقادنا للزومها. وقد ذكروا فى المناسبات غير ذلك ما يطول ذكره. وعن أبى سعيد عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «أصدق الرؤيا بالأسحار» «1» رواه الترمذى والدارمى. وروى مسلم من حديث أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» «2» . قال الخطابى فى «المعالم» فى قوله: «إذا اقترب الزمان» قولان: أحدهما: أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار، وهو وقت استهوائهما، أيام الربيع، وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا، قال: والمعبرون يقولون: أصدق الرؤيا ما كان عند اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار. والثانى: أن اقتراب الزمان انتهاء مدته، إذا دنا قيام الساعة. وتعقب الأول: بأنه يبعده التقييد بالمؤمن، فإن الوقت الذى تعتدل فيه الطبائع لا يختص به. وجزم ابن بطال بأن الثانى هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذى من طريق معمر عن أيوب فى هذا الحديث بلفظ: فى آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن. وقيل: المراد بالزمان المذكور زمان المهدى عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه.

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (2274) فى الرؤيا، باب: قوله لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، والدارمى (2146) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 29، 68) ، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 434) ، بسند ضعيف. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2263) فى الرؤيا، وطرفه الأول عند البخارى (7017) فى التعبير، باب: القيد فى المنام.

وقال القرطبى فى «المفهم» : المراد- والله أعلم- باخر الزمان المذكور فى الحديث، زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم- عليهما السلام- بعد قتله الدجال، فأهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول. وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤياهم لا تكذب، ومن ثم قال عقب هذا: وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، وإنما كانت كذلك لأن من كثر صدقه تنور قلبه وقوى إدراكه، وانتقشت فيه المعانى على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب أحواله الصدق فى يقظته فإنه يستصحب ذلك فى نومه فلا يرى إلا صدقا، وهذا بخلاف الكاذب والمخلط، فإنه يفسد قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا وأضغاثا، وقد يندر المنام أحيانا، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. انتهى ملخصا. وعن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هى من الله، فليحمد الله عليها وليتحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هى من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها، فإنها لا تضره» «1» رواه البخارى. وفى رواية لمسلم: «ورؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا وكره منها شيئا فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان، ولا يخبر بها أحدا، فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها إلا من يحب» «2» . وقوله: «فليبشر» بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة، من البشرى. وفى حديث أبى رزين عند الترمذى: «ولا يقصها إلا على وادّ» «3» - بتشديد الدال، اسم فاعل من الود- «أو ذى رأى» وفى أخرى: «ولا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا» وفى أخرى: «لا تقص رؤياك إلا على عالم أو

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6985) فى التعبير، باب: الرؤيا من الله. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2261) فى الرؤيا، من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (5020) فى الأدب، باب: ما جاء فى الرؤيا، والترمذى (2278) فى الرؤيا، باب: ما جاء فى تعبير الرؤيا، وابن ماجه (3914) فى تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا إذا عبرت وقعت فلا يقصها إلا على وادّ، والدارمى (2148) ، وأحمد فى «المسند» (4/ 10 و 11 و 12 و 13) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ناصح» . وفى حديث أبى سعيد عند مسلم: «فليحمد الله عليها وليحدث بها» «1» . وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء: أن يحمد الله عليها، وأن يبشر بها، وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره. وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، ويتفل حين يهب من نومه، ولا يذكرها لأحد أصلا. فى البخارى من حديث أبى هريرة خامسة: وهى الصلاة، ولفظه: «فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل» «2» . لكن لم يصرح البخارى بوصله، وصرح به مسلم، وزاد مسلم سادسة: وهى التحول من جنبه الذى كان عليه فقال: عن جابر رفعه: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذى كان عليه» «3» . قال النووى: وينبغى أن تجمع هذه الروايات كلها، ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأ فى رفع ضررها كما صرحت به الأحاديث. وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لم ير فى شئ من الأحاديث الاقتصار على واحد، ثم قال: لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية فى دفع شرها. انتهى. ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله كما قاله القرطبى، لأنه إذا قام يصلى تحول عن جنبه، وبصق ونفث عند المضمضة فى الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله فى أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها. وذكر بعضهم سابعة: وهى قراءة آية الكرسى، ولم يذكر لذلك مستندا، فإن أخذه من

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6985) فى التعبير، باب: الرؤيا من الله، والحديث عند البخارى كما تقدم، وليس في مسلم، كما قال المصنف. (2) صحيح: أخرجه البخارى (7017) فى التعبير، باب: القيد فى المنام، ومسلم (2263) فى الرؤيا. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2262) فى الرؤيا.

عموم قوله فى حديث أبى هريرة: «ولا يقربك شيطان» فيتجه، قال: وينبغى أن يقرأها فى صلاته المذكورة. وحكمة التفل- كما قال القاضى عياض- أمر به طردا للشيطان الذى حضر الرؤيا المكروهة، تحقيرا له واستقذارا، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها، والتثليث للتأكيد. وقد ورد التفل والنفث والبصق، قال النووى فى الكلام على النفث على الرقية- تبعا للقاضى عياض-: اختلف فى التفل والنفث، فقيل: هما بمعنى واحد لا يكونان إلا بريق. وقال أبو عبيد: يشترط فى التفل ريق يسير، ولا يكون فى النفث، وقيل عكسه. وسئلت عائشة عن النفث فى الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة بغير قصد. قال: وقد جاء فى حديث أبى سعيد فى الرقية بفاتحة الكتاب: فجعل يجمع بزاقه. قال القاضى: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء. وقال النووى أيضا: وأكثر الروايات فى الرؤية «فلينفث» وهو النفخ اللطيف بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا. وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن المطلوب فى الموضعين مختلف، لأن المطلوب فى الرقية التبرك برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان، وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما تقدم. فالذى يجمع الثلاثة، الحمل على التفل، فإنه نفخ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له نفث، وبالنظر إلى الريق قيل له بصق. وأما قوله: «فإنها لا تضره» فمعناه- كما قاله النووى-: أن الله تعالى جعل ما ذكر سبب للسلامة من المكروه المرتب على الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال، وأما التحول، فللتفاؤل بتحول تلك الحال التى كان عليها. والحكمة فى قوله فى الرؤيا الحسنة: «ولا يخبر بها إلا من يحب» لأنه إذا حدث بها من لا يحب قد يفسرها له بما لا يحب، إما بغضا وإما حسدا، فقد تقع على تلك الصفة، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك.

وقد روى من حديث أنس مرفوعا: «الرؤيا لأول عابر» «1» . وهو حديث ضعيف، فيه يزيد الرقاشى، ولكن له شاهد أخرجه أبو داود والترمذى وابن ماجه، بسند حسن، وصححه الحاكم عن أبى رزين العقيلى رفعه: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت» «2» . وعند الدارمى بسند حسن عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف فى التجارة، فأتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن زوجى غائب، وتركنى حاملا، فرأيت فى منامى أن سارية بيتى انكسرت وأنى ولدت غلاما أعور، فقال: «خير يرجع زوجك إن شاء الله تعالى صالحا، وتلدين غلاما برّا» ، فذكرت ذلك ثلاثا، فجاءت ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- غائب، فسألتها فأخبرتنى بالمنام، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك، وتلدين غلاما فاجرا، فقعدت تبكى، فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها» «3» . وعند سعيد بن منصور بن مرسل عطاء بن أبى رباح: جاءت امرأة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إنى رأيت كأن جائزة بيتى انكسرت، وكان زوجها غائبا، قال: «رد الله عليك زوجك، فرجع سالما» «4» الحديث. قال أبو عبيد وغيره: معنى قوله: «الرؤيا لأول عابر» إذا كان العابر الأول عالما، فعبر وأصاب وجه التعبير، وإلا فهى لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب فى تعبير المنام ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضربه من المثل، فإن أصاب فلا ينبغى أن يسأل غيره، وإن لم يصب فليسأل الثانى، وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول. هكذا قال، وفيه بحث يطول ذكره.

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3915) فى تعبير الرؤيا، باب: علام تعبر به الرؤيا، من حديث أنس، وفيه يزيد بن أبان الرقاشى، وهو ضعيف. (2) صحيح: وقد تقدم، وطرفه «ولا يقصها إلا على واد» . (3) أخرجه الدارمى (2163) ، وذكره الحافظ فى «الفتح» (12/ 433) وقال: سنده حسن. (4) ذكره الحافظ فى «الفتح» (12/ 433) وقال: سنده صحيح عن عطاء.

ومن آداب المعبر، ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر أنه كتب إلى أبى موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا فقصها على أخيه فليقل: خير لنا وشر لأعدائنا. ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع. وفى حديث ابن زمل «1» عند الطبرانى والبيهقى فى الدلائل: لما قص على النبى- صلى الله عليه وسلم- رؤياه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «خير تتلقاه وشر تتوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين اقصص على رؤياك» «2» الحديث، وسنده ضعيف جدّا، ويأتى- إن شاء الله تعالى-. ومن آداب المعبر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا فى الليل، وأن لا يقصها على امرأة، لكن ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى الغداة يقول: «هل رأى أحد الليلة رؤيا» «3» ، فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، ويعبر لهم ما يقصون، وبوب عليه البخارى: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح. قالوا: وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم قال: لا تقص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس، وفيه إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير: إن المستحب أن يكون التعبير من بعد طلوع الشمس إلى الرابعة، ومن العصر إلى قبل الغروب، فإن الحديث دل على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، فلا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها فى أوقات كراهة الصلاة. قال المهلب «4» : تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات، لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها، وقبل ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه، وليعرف الرائى ما

_ (1) ذكره الحافظ فى «اللسان» (3/ 287) وقال: تابعى أرسل ولا يكاد يعرف، ليس بمعتمد، وقال ابن حبان فى الثقات، يقال له صحبة. (2) ضعيف: وهو جزء من حديث طويل أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (8/ 302) ، والبيهقى فى «الدلائل» (7/ 36- 38) . (3) الحديث أخرجه البخارى (7047) فى التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح. (4) هو: المهلب بن أحمد بن أبى صفرة الأسدى الأندلسى المريى، مصنف «شرح صحيح البخارى» ، كان أحد الأئمة الفصحاء الموصوفين بالذكاء، وتوفى سنة 435 هـ.

يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشر بالخير ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان فى الرؤيا تحذير من معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذارا لأمر فيكون له مترقبا. قال: فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أول النهار. قاله فى فتح البارى. وذكر أئمة التعبير أن من آداب الرائى أن يكون صادق اللهجة، وأن ينام على وضوء، على جنبه الأيمن، وأن يقرأ عند نومه والشمس، والليل، والتين، وسورة الإخلاص والمعوذتين وأن يقول: اللهم إنى أعوذ بك من سيئ الأحلام، وأستجير بك من تلاعب الشيطان فى اليقظة والمنام، اللهم إنى أسألك رؤيا صالحة صادقة نافعة حافظة غير منسية، اللهم أرنى فى منامى ما أحب. وأن لا يقصها على عدو ولا جاهل. إذا علمت هذا، فاعلم أن جميع المرائى تنحصر فى قسمين: * أضغاث أحلام وهى لا تنذر بشئ وهى أنواع: الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائى. كأنه يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو رأى أنه واقع فى هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك. وروى مسلم عن جابر: جاء أعرابى فقال: يا رسول الله، إنى حلمت أن رأسى قطع وأنا أتبعه، فزجره- صلى الله عليه وسلم- وقال: «لا تخبر بتلعب الشيطان بك فى المنام» «1» . الثانى: أن يرى أن بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات ونحوه من المحال عقلا. الثالث: ما يحدث به نفسه فى اليقظة أو يتمناه، فيراه كما هو فى المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته فى اليقظة، أو ما يغلب على مزاجه ويقع على المستقبل غالبا، وعن الحال كثيرا، وعن الماضى قليلا. * القسم الثانى: الرؤيا الصادقة، وهى رؤيا الأنبياء، ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور، وهى التى تقع فى اليقظة على وفق ما

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2268) فى الرؤيا، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «من رآنى فى المنام فقد رآنى» .

وقعت فى النوم، وقد وقع لنبينا- صلى الله عليه وسلم- من الرؤيا الصادقة التى كفلق الصبح ما لا يعد ولا يحد. قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» . الحديث رواه البخارى. وفى رواية: الرؤيا الصالحة. وهما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة فى حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة فى الأصل أخص. فرؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم- كلها صادقة، وقد تكون صالحة وهو الأكثر، وغير صالحة بالنسبة إلى الدنيا، كما وقع فى الرؤيا يوم أحد، فإنه- صلى الله عليه وسلم- رأى بقرا تذبح، ورأى فى سيفه ثلما، فأول البقر ما أصاب أصحابه يوم أحد، والثلم الذى فى سيفه برجل من أهل بيته يقتل، ثم كانت العاقبة للمتقين، وكان بعد ذلك النصر والفتح على الخلق أجمعين. وأما رؤيا غير الأنبياء، فبينهما عموم وخصوص إن فسرنا الصادقة بأنها التى لا تحتاج إلى تفسير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث فالصالحة أخص مطلقا. وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينورى فى «التعبير القادرى» : الرؤيا الصالحة ما يقع بعينه، أو ما يعبر فى المنام، أو يخبر به من لا يكذب، والصالحة ما فسر. واعلم أن الناس فى الرؤيا على ثلاث درجات: الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير. والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير. ومن عداهم: يقع فى رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام: مستورون، فالغالب استواء الحال فى حقهم، وفسقة فالغالب على

_ (1) صحيح: الحديث أخرجه البخارى (3) فى بدء الوحى، باب: كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق، وكفار: ويندر فى رؤياهم الصدق جدّا، ويشير إلى ذلك قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا» «1» ، أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة. وقد وقعت الصادقة من بعض الكفار كما فى رؤيا صاحبى السجن مع يوسف- عليه السّلام-، ورؤيا ملكهما وغير ذلك. وقد روى الإمام أحمد مرفوعا وصححه ابن حبان من حديث أبى سعيد: أصدق الرؤيا بالأسحار. وذكر الإمام نصر بن يعقوب الدينورى أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها، ومن النصف الثانى يسرع بتفاوت أجزاء الليل، وإن أسرعها تأويلا رؤيا السحر، ولا سيما عند طلوع الفجر، وعن جعفر الصادق أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة، وعن محمد بن سيرين: رؤيا النهار مثل رؤيا الليل، والنساء بمثل الرجال، وعن القيروانى: أن المرأة إذا رأت ما ليست له أهلا فهو لزوجها، وكذا حكم العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه. ومن مرائيه الكريمة- صلى الله عليه وسلم-: شربه اللبن وتعبره بالعلم، كما فى حديث ابن عمر عند البخارى قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه، حتى إنى لأرى الرى يخرج من أظفارى، ثم أعطيت فضلى- يعنى عمر-» ، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم» «2» . وفى رواية الكشميهنى: من أظافرى، وفى رواية صالح بن كيسان: من أطرافى. وهذه الرؤية يحتمل بأن تكون بصرية، وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون علمية، ويؤيد الأول: ما أخرجه الحاكم والطبرانى من طريق أبى بكر بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده فى هذا الحديث: «فشربت حتى رأيته

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3681) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبى حفص القرشى العدوى- رضى الله عنه-، ومسلم (2391) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-.

يجرى فى عروقى بين الجلد واللحم» «1» ، على أنه محتمل أيضا. قال بعض العارفين: الذى خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، وهو كما قال، لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم والذى ذكره قد يكون خارقا للعادة فيكون من باب الكرامة. وقال العارف ابن أبى جمرة: تأول النبى- صلى الله عليه وسلم- اللبن بالعلم اعتبارا بما بين له أول الأمر حين أتى بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن فقال له جبريل: أخذت الفطرة، انتهى. وقد جاء فى بعض الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة، كما أخرجه البزار من حديث أبى هريرة رفعه: اللبن فى المنام فطرة. وذكر الدينورى: أن اللبن المذكور فى هذا يختص بلبن الإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم، قال: ولبن البقر خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك فى الدين، وألبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللبوة مال مع عداوة لذى أمر، وفى الحديث: أن علم النبى- رضى الله عنه- بالله لا يبلغ أحد درجته فيه، لأنه شرب حتى رأى الرى يخرج من أطرافه. وأما إعطاؤه فضله لعمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله بحيث كان لا تأخذه فى الله لومة لائم، ووجه التعبير فى الحديث بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم فى كثرة النفع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدنى، والعلم للغذاء المعنوى. ومن ذلك رؤيته- صلى الله عليه وسلم- القميص وتعبيره بالدين. وعن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علىّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدى، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرّ علىّ عمر وعليه قميص يجره» . قالوا: ما أولته يا رسول الله؟ قال: «الدين» «2» ، رواه البخارى. وفى رواية الترمذى الحكيم من طريق أخرى فى هذا الحديث، فقال أبو بكر: علام تؤول هذا يا رسول الله؟

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 92) ، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 293) ، وفى «فضائل الصحابة» (1/ 253) ، من الطريق المذكور. (2) صحيح: أخرجه البخارى (23) فى الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان فى الأعمال، ومسلم (2390) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-.

و «الثدى» بضم المثلاثة وكسر الدال وتشديد الياء، جمع ثدى، بفتح ثم سكون، والمعنى: أن القميص قصير جدّا بحيث لا يستر من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها. وقوله: «ومنها ما يبلغ دون ذلك» يحتمل أن يريد به من جهة السفل، وهو الظاهر فيكون أطول، ويحتمل أن يكون دونه من جهة العلو فيكون أقصر، ويؤيد الأول ما فى رواية الترمذى الحكيم المذكورة: فمنهم من كان قميصه إلى سرته، ومنهم من كان قميصه إلى ركبته، ومنهم من كان قميصه إلى أنصاف ساقيه. ويجوز النصب فى قوله «الدين» والتقدير: أولته الدين، ويجوز الرفع. وفى رواية الحكيم المذكورة: على الإيمان. وقد قيل فى وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة فى الدنيا، والدين يسترها فى الآخرة ويحجبها عن كل مكروه، والأصل فيه قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ «1» . واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده. وقال ابن العربى: إنما أول- صلى الله عليه وسلم- القميص بالدين، لأن الدين يستر عورة الجهل، كما يستر القميص عورة البدن. قال: وأما غير عمر فالذى كان يبلغ الثدى هو الذى يستر قلبه عن الكفر ولو كان يتعاطى المعاصى، والذى كان يبلغ أسفل من ذلك وفرجه باد هو الذى لم يستر رجله عن المشى إلى المعصية، والذى يستر رجله هو الذى احتجب بالتقوى من جميع الوجوه، والذى يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص. وأشار العارف ابن أبى جمرة: إلى أن المراد بالناس فى الحديث: المؤمنون، لتأويله القميص بالدين، قال: والذى يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية، بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهى، وكان لعمر فى ذلك المقام العالى.

_ (1) سورة الأعراف: 26.

قال: ويؤخذ من هذا الحديث، أن كل ما يرى فى القميص من حسن أو غيره فإنه يعبر بدين لابسه، والنكتة فى القميص أن لابسه إذا اختار نزعه، وإذا اختار أبقاه، فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل فى ذلك سابغ الأثواب، ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان، وقد يكون بسبب نقص العمل. وفى الحديث: أن أهل الدين يتفاضلون فى الدين بالقلة والكثرة، وبالقوة والضعف، وهذا من أمثلة ما يحمد فى المنام ويذم فى اليقظة شرعا، أعنى جر القميص، لما روى من الوعيد فى تطويله. ومن ذلك رؤيته- صلى الله عليه وسلم- السوارين الذهب فى يده الشريفة وتعبيرهما بالكذابين. روى البخارى عن عبيد الله بن عبد الله قال: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم- التى ذكر فقال ابن عباس ذكر لى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «بينا أنا نائم إذ رأيت أنه وضع فى يدىّ سواران من ذهب فقطعتهما وكرهتهما، فأذن لى فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان» «1» . فقال عبيد الله: أحدهما العنسى الذى قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة. وفى رواية أبى هريرة عند الشيخين: «بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع فى يدىّ سواران من ذهب، فكبرا على وأهمانى، فأوحى إلىّ أن أنفخهما، فأولتهما الكذابين أنا بينهما، صاحب صنعاء وصاحب اليمامة» «2» . قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وإنما هى ضرب من المثل، وإنما أول النبى- صلى الله عليه وسلم- السوارين بالكذابين لأن الكذب وضع الشئ فى غير موضعه، فلما رأى فى يديه سوارين من ذهب وليسا من لبسه، لأنهما من حلية النساء، عرف أنه سيظهر من يدعى ما ليس له.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4375) فى المغازى، باب: وفد بنى حنيفة، ومسلم (2273) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (7037) فى التعبير، باب: النفخ فى المنام، ومسلم (2274) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-.

وأيضا: ففى كونهما من ذهب، والذهب منهى عن لبسه، دليل على الكذب، وأيضا: فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شئ يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له فى نفخهما فطارا، فعرف أنه ينسب إليهما أمر، وأن كلامه بالوحى الذى جاء به يزيلهما من موضعهما. وقال ابن العربى: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يتوقع بطلان أمر مسيلمة والعنسى، فأول الرؤيا عليهما ليكونا ذلك، إخراجا للمنام عليهما، فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت. ويحتمل أن يكون بوحى. والمراد ب «خزائن الأرض» التى ذكر، ما فتح على أمته من الغنائم ومن ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التى فيها الذهب والفضة. وقال القرطبى: إنما كبر عليه السواران لكون الذهب من حلية النساء، ومما حرم على الرجال، وفى طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما، ومناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا، أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانوا أسلموا، فكانوا كالساعدين للإسلام، فلما ظهر الكذابان، وبهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعاويهما الباطلة انخدع أكثرهم بذلك، فكأن اليدين بمنزلة البلدين، والسوارين بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفا، والزخرف من أسماء الذهب. وقال أهل التعبير: من رأى أنه يطير فإن كان إلى جهة السماء تعريجا ناله ضرر، فإن غاب فى السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه، وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه. ومن ذلك: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- المرأة السوداء الثائرة الرأس، تعبيرها بنقل وباء المدينة إلى الجحفة. روى البخارى من حديث عبد الله بن عمر، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة- وهى الجحفة- فأولت أن وباء المدينة نقل إليها» «1» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (7038) فى التعبير، باب: إذا رأى أنه أخرج الشئ من كورة فأسكنه موضعا آخر، وأطرافه (7039 و 7040) .

وهذا من قسم الرؤيا المعبرة، وهى مما ضرب به المثل، ووجه التمثيل أنه شق من اسم السوداء: السوء والداء، فتأول خروجها بما جمع اسمها، وتأول من ثوران شعرها أن الذى يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة. وقال القيروانى من أهل التعبير: كل شئ غلبت عليه السوداء فى أكثر وجوهها فهو مكروه، وقال غيره: ثوران الرأس يؤول بالحمى لأنها تثير البدن بالاقشعرار وبارتفاع الرأس، لا سيما من السوداء فإنها أكثر استيحاشا. ومن ذلك: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- أنه فى درع حصينة وبقرا تنحر وتعبير ذلك. عن أبى موسى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت فى المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلى إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هى المدينة يثرب، ورأيت فيه بقرا، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد، وثواب الصدق الذى أتانا الله «1» بعد يوم بدر» «2» رواه البخارى ومسلم. وروى الإمام أحمد وغيره عن جابر: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت كأنى فى درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع الحصينة بالمدينة، والبقر بقرا» «3» . وهذه اللفظة الأخيرة وهى «بقر» بفتح الموحدة، وسكون القاف مصدر بقره يبقره بقرا. ولهذا الحديث سبب جاء بيانه فى حديث ابن عباس عند أحمد أيضا والنسائى والطبرانى، وصححه الحاكم من طريق أبى الزناد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس فى قصة أحد، وإشارة النبى- صلى الله عليه وسلم- عليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج لطلب الشهادة، ولبسه اللأمة وندامتهم على ذلك، وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينبغى لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها

_ (1) سقط من الأصل، وزدناها من مصادر التخريج. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3622) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2272) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-. (3) حسن: أخرجه الدارمى (2159) ، وأحمد فى «المسند» (3/ 351) ، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد (1/ 271) ، والحاكم (2/ 141) و (3/ 41) يحسن به.

حتى يقاتل» وفيه: «إنى رأيت أنى فى درع حصينة» «1» الحديث، بنحو حديث جابر، وأتم منه، وقد تقدمت الإشارة إليه فى غزوة أحد من المقصد الأول. والمراد بقوله: «وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذى أتانا الله بعد يوم بدر» فتح خيبر ثم مكة، أى ما جاء الله به بعد بدر الثانية من تثبيت قلوب المؤمنين. قال فى فتح البارى: وفى هذا السياق إشعار بأن قوله فى الخبر «والله خير» من جملة الرؤيا. قال: والذى يظهر لى أن لفظة «والله خير» لم يتحرر إيراده، وأن رواية ابن إسحاق هى المحررة، وأنه رأى بقرا ورأى خيرا. فأول البقر على من قتل من الصحابة يوم أحد، وأول الخير على ما حصل لهم من ثواب الصدق فى القتال والصبر على الجهاد يوم بدر وبعده إلى فتح مكة، والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأحد نبه عليه ابن بطال. ومن ذلك رؤيته- صلى الله عليه وسلم- أنه أتى برطب. روى مسلم عن أنس قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «رأيت الليلة فيما يرى النائم، كأنى فى دار عقبة بن رافع، وأتيت برطب من رطب ابن طاب «2» ، فأولته بأن الرفعة لنا فى الدنيا، والعاقبة فى الآخرة، وأن ديننا قد طاب» «3» . ومن ذلك: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- سيفا يهزه، وتعبيره ما روى فى حديث أبى موسى المتقدم أنه قال: «ورأيت فى رؤياى هذه أنى هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان. فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين» «4» رواه الشيخان. وهذه أيضا من ضرب المثل، ولما كان- صلى الله عليه وسلم- يصول بالصحابة عبر عن

_ (1) حسن: وقد تقدم فى الشاهد الذى قبله. (2) رطب ابن طاب، هو نوع من أنواع تمر المدينة منسوب إلى ابن طاب، رجل من أهلها. النهاية فى غريب الحديث مادة (طيب) . (3) صحيح: أخرجه مسلم (2270) فى الرؤيا، باب: رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم-. (4) صحيح: وقد تقدم قبل حديثين.

السيف بهم، وبهزه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم، وفى الهزة الآخرى لما عاد إلى حالته من الاستواء عبر به عن اجتماعهم والفتح عليهم. وقال أهل التعبير: السيف يصرف على أوجه؛ منها أن من نال سيفا فإنه ينال سلطانا، وإما ولاية وإما وديعة، وإما زوجة، وإما ولدا، فإن سله من غمده فانثلم سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف فبالعكس، فإن سلما أو عطبا فكذلك. وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونعله بالأم وذوى الرحم، وإن جرد السيف وأراد قتل شخص فهو لسانه يجرده فى خصومة. وربما عبر السيف بسلطان جائر. وقال بعض أهل التعبير أيضا: من رأى أنه أغمد سيفا فإنه يتزوج، أو ضرب شخصا بسيف فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه، ومن رأى سيفا عظيما فهو فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره. ومن ذلك: رؤيته- صلى الله عليه وسلم- أنه على قليب. عن أبى هريرة- رضى الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «بينا أنا نائم، رأيتنى على قليب، وعليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبى قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفى نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غربا فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقريّا من الناس ينزع نزع ابن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن» «1» . وعبقرى القوم: سيدهم وكبيرهم وقويهم. وفى رواية: فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر. وفى رواية: فأتانى أبو بكر فأخذ الدلو من يدى ليريحنى. وفى رواية موسى عن سالم عن أبيه: رأيت الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفى نزعه ضعف والله يغفر له، ثم قام

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3664) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2392) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى الله عنه-.

عمر بن الخطاب فاستحالت غربا، فما رأيت من الناس يفرى فرية حتى ضرب الناس بعطن. رواه البخارى. قال النووى: قالوا هذا المنام مثال لما جرى للخليفتين، من ظهور آثارهما الصالحة، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبى- صلى الله عليه وسلم-، لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل مقام، وقرر به قواعد الدين، ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم، ثم خلفه عمر فاتسع الإسلام فى زمنه. فشبه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذى فيه حياتهم وصلاحهم، وأميرهم المستقى لهم منها، وفى قوله: «فأخذ الدلو من يدى ليريحنى» إشارة إلى خلافة أبى بكر بعد موته- صلى الله عليه وسلم-، لأن الموت راحة من كد الدنيا وتعبها، فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم. وأما قوله: «وفى نزعه ضعف» فهو إخبار عن حاله فى قصر مدة ولايته، وأما ولاية عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين، وليس فى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «والله يغفر له» نقض، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب، إنما هى كلمة كانوا يقولونها. وقوله: «فاستحالت فى يده غربا» أى تحولت الدلو غربا- بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة- أى: دلوا عظيما. وأخرج أحمد وأبو داود عن سمرة بن جندب أن رجلا قال: يا رسول الله، رأيت كأن دلوا عظيما دلى من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ فعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء على فانتشطت وانتضح عليه منها شئ. والعراقى: جمع عرقوة الدلو، وهى الخشبة المعروضة على فم الدلو، وهما عرقوتان كالصليب، وقد يقال: عرقيت الدلو إذا ركبت العرقوة فيها. وانتشطت: أى جذبت ورفعت. فهذه نبذة من مرائيه الكريمة- صلى الله عليه وسلم- مع تعبيرها. وأما ما رآه غيره فعبر- صلى الله عليه وسلم- له بما يخص ويعم من أمور الدنيا والآخرة. فقد كان- صلى الله عليه وسلم- إذا انفتل من صلاة الصبح أقبل على الصحابة

فيقول: «من رأى منكم الليلة رؤيا فليقصها على أعبرها له، فيقص الناس عليه مرائيهم» «1» . وروى البخارى والترمذى عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رأيا؟» فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وأنه قال ذات غداة: «هل رأى أحد منكم رؤيا» وقالوا: ما منا أحد رأى شيئا، قال: «لكنى أتانى الليلة آتيان، وإنهما ابتعثانى فقالا لى: انطلق، فانطلقت فأتيت على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوى بالصخرة لرأسه فتثلغ رأسه» «2» الحديث. وأقام- صلى الله عليه وسلم- يسأل أصحابه: «هل رأى منكم الليلة أحد رؤيا، ما شاء الله» ثم ترك السؤال فكان يعبر لمن قص متبرعا. واختلف النقلة فى سبب تركه السؤال: فقيل: سبب ذلك حديث أبى بكرة- عند الترمذى وأبى داود- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم: «من رأى منكم الرؤيا؟» فقال رجل: أنا يا رسول الله، رأيت كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبى بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهة فى وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. انتهى. قالوا: فمن حينئذ لم يسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحدا عن رؤيا. قال بعضهم: وسبب كراهته- صلى الله عليه وسلم- إيثاره لستر العواقب وإخفاء المراتب، فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم مبينة لفضل بعضهم على بعض فى التعيين خشى أن يتواتر ويتوالى ما هو أبلغ فى الكشف من ذلك، ولله فى ستر خلقه حكمة بالغة ومشيئة نافذة. وقال ابن قتيبة- فيما ذكره ابن المنير-: سبب تركه السؤال فى حديث ابن زمل: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الصبح قال- صلى الله عليه وسلم- وهو ثان

_ (1) صحيح: وقد تقدم من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (7047) فى التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، والترمذى (2294) فى الرؤيا، باب: ما جاء فى رؤيا النبى- صلى الله عليه وسلم- الميزان والدلو، ولكنه عند الترمذى مختصرا.

رجليه: «سبحان الله وبحمده وأستغفر الله، إن الله كان توابا، سبعين مرة» ثم يقول: «سبعون بسبعمائة، لا خير فيمن كانت ذنوبه فى يوم أكثر من سبعمائة» ثم يستقبل الناس بوجهه فيقول: «هل رأى أحد منكم شيئا؟» قال ابن زمل: فقلت ذات يوم أنا يا رسول الله، قال: «خير تتلقاه وشر تتوقاه، وخير لنا وشر لأعدائنا، والحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك» . قال: رأيت جميع الناس على طريق رحب لاحب سهل، والناس على الجادة منطلقون، فبينما هم كذلك أشفى ذلك الطريق بهم على مرج لم تر عينى مثله، يرف رفيفا، يقطر نداه، فيه من أنواع الكلأ، فكأنى بالرعلة الأولى حين أشرفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم فى الطريق فلم يضلوه يمينا وشمالا، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدهم، وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشرفوا على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم فى الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس، فلما أشرفوا على المرج كبروا وقالوا: هذا خير المنزل، فمالوا فى المرج يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتيت أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت فى أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل أقنى آدم «1» ، إذا هو تكلم يسمو، يكاد يفزع الرجال طولا، وإذا عن يسارك رجل ربعة «2» تارّ أحمر، كثير خيلان الوجه «3» ، إذا هو تكلم أصغيتم إليه إكراما له، وإذا أمام ذلك شيخ كأنكم تقتدون به، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت كأنك تبعثها يا رسول الله. قال: فانتقع لون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ساعة، ثم سرى عنه، فقال: «أما ما رأيت من الطريق الرحب اللاحب السهل، فذلك ما حملتكم عليه من الهدى، فأنتم عليه، وأما المرج الذى رأيت فالدنيا وغضارة عيشها، لم نتعلق بها ولم تردنا ولم نردها، وأما

_ (1) أقنى الأنف: ارتفاع أعلاه واحد يداب وسطه وسبوع طرفه، أو نتوء وسط القصبة، و (آدم) : أى أسمر. (2) التار: الممتلئ البدن. (3) خيلان: جمع خال، وهو الشامة فى الجسد.

الرعلة الثانية والثالثة- وقص كلامه- فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأما أنت فعلى طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقانى، وأما المنبر فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا فى آخرها ألفا، وأما الرجل الطويل الآدم فذلك موسى، نكرمه بفضل الله إياه، وأما الرجل الربعة التار الأحمر، فذلك عيسى- عليه السّلام- نكرمه بفضل منزلته من الله، وأما الشيخ الذى رأيت كأننا نقتدى به فذلك إبراهيم- عليه السّلام-، وأما الناقة العجفاء الشارف التى رأيتنى أبعثها فهى الساعة عليها، أى على الأمة تقوم، لأنه لا نبى بعدى ولا أمة بعد أمتى» . قال الراوى: فما سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد هذا أحدا عن رؤيا، إلا أن يجئ الرجل متبرعا فيحدثه بها» «1» رواه ابن قتيبة والطبرانى والبيهقى فى الدلائل، وسنده ضعيف جدّا. ومن غريب ما نقل عنه- صلى الله عليه وسلم- من التعبير، أن زرارة بن عمرو النخعى قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى وفد النخع، فقال: يا رسول الله، إنى رأيت فى طريقى هذا رؤيا، رأيت أتانا «2» تركتها فى الحى ولدت جديا أسفع أحوى، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هل لك من أمة تركتها مصرة حملا؟» قال: نعم تركت أمة أظنها قد حملت، قال: «فقد ولدت غلاما وهو ابنك» ، قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن منى» ، فدنا منه، قال: «هل بك برص تكتمه؟» قال: نعم والذى بعثك بالحق ما رآه مخلوق ولا علم به أحد، قال: «فهو ذاك» . فقال: ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان، قال: ذلك ملك العرب عاد إلى أفضل زيه وبهجته. قال: ورأيت عجوزا شمطاء تخرج من الأرض، قال: تلك بقية الدنيا. قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى يقال له عمرو، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، آكلكم وأهلكم ومالكم فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «تلك فتنة تكون

_ (1) ضعيف: وقد تقدم حديث ابن زمل. (2) الأتان: أنثى الحمار.

فى آخر الزمان» ، قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال: «يفتك الناس بإمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس» ، وخالف- صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه، يحسب المسئ أنه محسن، ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء البارد. فانظر إلى هذا التعبير البارز من مشكاة النبوة، محشوّا حلاوة الحق، مكسوّا طلاوة الصدق مجلوّا بأنوار الوحى. والأسفع: الذى أصاب جسده لون آخر. والأحوى: الأسود الذى ليس بالشديد. والمسكتان: السواران من ذهب. وأطبق الرأس: عظامه. والاشتجار: الاختلاف والاشتباك. فإن قلت: تعبيره- صلى الله عليه وسلم- السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما بالكذابين فيما مر. أجيب: بأن النعمان بن المنذر كان ملك العرب، وكان مملكا من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك ويحلونهم، وكان السواران من زى النعمان ليسا بمنكرين فى حقه، ولا موضوعين فى غير موضعهما عرفا، وأما النبى فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته فجدير أن يهمه ذلك لأنه ليس من زيه، فاستدل به على أمر يوضع فى غير موضعه، ولكن حمدت العاقبة بذهابهما، ولله الحمد. ومن ذلك: ما روى عن قيس بن عباد- بضم العين وتخفيف الموحدة- قال: كنت فى حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا، قال: سبحان الله، ما كان ينبغى لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عمود وضع فى روضة خضراء، فنصب فيها، وفى رأسها عروة، وفى أسفلها منصف- والمنصف الوصيف- فقال: ارقه، فرقيته حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى» «1» . رواه البخارى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (7010) فى التعبير، باب: الخضر فى المنام والروضة الخضراء، ومسلم (2484) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن سلام- رضى الله عنه-.

وفى رواية خرشة: بينما أنا نائم أتانى رجل فقال لى قم، فأخذ بيدى فانطلقت معه، فإذا أنا بجوادّ- بجيم ودال مشددة، جمع جادة وهى الطريق المسلوك- عن شمالى، قال: فأخذت لآخذ فيها- أى أسير فقال: لا تأخذ فيها فإنها طريق أهل الشمال. وفى رواية النسائى من طريقه: فبينا أنا أمشى إذ عرض لى طريق عن شمالى، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها. وفى رواية مسلم: فإذا منهج عن يمينى، فقال لى خذها هنا، فأتى بى جبلا فقال لى: اصعد، قال فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت، حتى فعلت ذلك مرارا. وفى رواية ابن عون: فقال تلك الروضة روضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة، العروة الوثقى، لا تزال متمسكا بالإسلام حتى تموت. وفى رواية خرشة عند النسائى وابن ماجه قال: رأيت خيرا، أما المنهج فالمحشر وأما الجبل فهو منزل الشهداء، زاد مسلم: ولن تناله. وهذا علم من أعلام نبوة نبينا- صلى الله عليه وسلم- فإن عبد الله بن سلام لم يمت شهيدا، وإنما مات على فراشه فى أول خلافة معاوية بالمدينة. وقولهم إنه من أهل الجنة، أخذوه من قوله لما ذكر طريق الشمال: إنك لست من أهلها. وإنما قال: «ما كان ينبغى لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم» «1» على سبيل التواضع وكراهية أن يشار إليه بالأصابع، خشية أن يدخله العجب، عافانا الله من سائر المكاره. وقال القيروانى: الروضة التى لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها، وتعبر أيضا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف وكتب العلم والعالم ونحو ذلك انتهى. وقال غيره من المعبرين: الحلقة والعروة المجهولة، تدل لمن تمسك بها على قوته فى دينه، وإخلاصه فيه.

_ (1) هى فى رواية مسلم السابقة.

ومن ذلك، ما رواه البخارى عن أم العلاء، وهى امرأة من نسائهم، بايعت رسول الله: وأريت لعثمان بن مظعون بعد موته فى النوم عينا تجرى، فجئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فقال: «ذاك عمله يجري له» «1» . وقد قيل: يحتمل أنه كان لعثمان شئ من عمله بقى له ثوابه جاريا كالصدقة، وأنكره مغلطاى وقال: لم يكن له شئ من الأمور الثلاثة التى ذكرها مسلم فى حديث أبى هريرة رفعه: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» «2» . وتعقبه شيخ الحفاظ ابن حجر: بأنه كان له ولد صالح شهد بدرا وما بعدها، وهو السائب، مات فى خلافة أبى بكر، فهو أحد الثلاث. قال: وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن يكون له صدقة استمرت بعد موته. وقال المهلب: العين الجارية تحتمل وجوها، فإن كان ماؤها صافيا عبرت بالعمل الصالح، وإلا فلا. وقال غيره: العين الجارية عمل جار من صدقة أو معروف لحى أو ميت. وقال آخر: عين الماء نعمة وبركة وخير، وبلوغ أمنية إن كان صاحبها مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة يبكى لها أهل داره، والله أعلم. فهذا طرف من تعبيره- صلى الله عليه وسلم-، يهدى إلى غيره مما يشبهه، وإلا فالذى نقل عنه- صلى الله عليه وسلم- من غرائب التأويل، ولطائف التعبير- كما قاله ابن المنير- لا تحصره المجلدات. وأنت إذا تأملت أن كل كرامة أوتيها واحدة من هذه الأمة فى علم أو عمل، هى من آثار معجزة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، وسر تصديقه، وبركات طريقه، وثمرات الاهتداء بهديه وتوفيقه، واستحضرت ما أوتيه الإمام محمد بن سيرين من لطائف التعبير، مما شاع وذاع، وامتلأت به الأسماع، طبق الأرض صدقا وصوابا، وعجبا عجابا، بل بحرا عبابا، قضيت بأن ما منحه- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2687) فى الشهادات، باب: القرعة فى المشكلات. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1631) فى الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.

الفصل الثالث فى إنبائه ص بالأنباء المغيبات

من العلوم والمعارف، لا تحيط به العبارات، ولا تدرك حقيقة كنهه الإشارات، وإذا كان هذا ابن سيرين واحد من أمته- صلى الله عليه وسلم- نقل عنه فى فن التعبير ما لا يعد لكثرته، فكيف به- صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه، وأفاض علينا من سحائب علومه ومعارفه، وتعطف علينا بعواطفه. الفصل الثالث فى إنبائه ص بالأنباء المغيبات اعلم أن الغيب يختص به تعالى، وما وقع منه على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم- وغيره فمن الله تعالى، إما بوحى أو إلهام، والشاهد لهذا قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1» ليكون معجزة له. واستدل به على إبطال الكرامات. وأجيب: بتخصيص الرسول بالملك، والإظهار بما يكون بغير توسطه، وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون برؤيا الملائكة، كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء، وفى حديث مرّ: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «والله إنى لا أعلم إلا ما علمنى ربى» «2» فكل ما ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به، إعلاما على ثبوت نبوته، ودلائل على صدق رسالته، وقد اشتهر وانتشر أمره- صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه بالاطلاع على الغيوب، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت فو الله لو لم يكن عندنا من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء، ويشهد له قول ابن رواحة: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع وقال حسان بن ثابت:

_ (1) سورة الجن: 26، 27. (2) تقدم.

نبى يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله فى كل مشهد فإن قال فى يوم مقالة غائب ... فتصديقها فى ضحوة اليوم أو غد وهذا الفصل ينقسم قسمين: الأول: فيما أخبر به- صلى الله عليه وسلم- مما نطق به القرآن. من ذلك: فى قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إلى قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «1» فقوله وَلَنْ تَفْعَلُوا إخبار عن غيب تقضى العادة بخلافه. ومن ذلك: قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «2» الآية، فإنه قد كان لقريش قافلتان: إحداهما ذات غنيمة دون الآخرى، فأخبر الله تعالى عما فى ضمائرهم، وأنجز ما وعد، ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشئ بعد وقوعه غير جائز. ومن ذلك: قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» ، وهذا إخبار عن المستقبل، لأن «السين» بمعنى الاستقبال، يعنى كفار قريش يوم بدر، وقد كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف، وكانوا مستعدين بالمال والسلاح، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وليس معهم إلا فرسان، إحداهما للزبير بن العوام، والآخرى للمقداد، فهزم الله المشركين ومكن المسلمين من قتل أبطالهم واغتنام أموالهم. ومن ذلك: قوله تعالى فى كفار قريش سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً «4» ، يريد ما قذف الله فى قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو سفيان: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن

_ (1) سورة البقرة: 23، 24. (2) سورة الأنفال: 7. (3) سورة القمر: 45. (4) سورة آل عمران: 151.

شاء الله» ، وقيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم، فألقى الله فى قلوبهم الرعب. ومن ذلك: قوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ إلى قوله: لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ «1» ، سبب نزول هذه الآية أن كسرى وقيصر تقاتلا فغلب كسرى قيصر، فساء المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب، ولتعظيم قيصر كتاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، وتمزيق كسرى كتابه، وفرح المشركون به، فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون فى بضع سنين، والبضع ما بين الثلاثة إلى العشر، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية، وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين «2» . ومن ذلك: قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً «3» فأخبر أنهم لا يتمنون الموت بالقلب ولا بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا، فأخبر فوجد مخبره كما أخبر، فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت لسارعوا إلى تكذيبه بالتمنى، ولو لم يعلم ذلك لخشى أن يجيبوا إليه فيقضى عليه بالكذب، قال البيضاوى: وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت لنقل واشتهر، فإن التمنى ليس من عمل القلب فيخفى. وروى مرفوعا: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات وما بقى يهودى على وجه الأرض» «4» . ومن ذلك: قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا

_ (1) سورة الروم: 1- 6. (2) قلت: عند الترمذى (3193) فى التفسير، باب: ومن سورة الروم، إلا أنه ذكر أن انتصار الفرس على الروم كان فى مكة، وانتصار الروم على الفرس كان مع بدر، فكان ذلك الفرح لأنهم أهل كتاب وأقرب إلى المسلمين من أهل الأوثان الذين هم أقرب إلى كفار قريش، ولا أظن ذلك يرجع إلى سبب معاملة كسرى وقيصر لرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لأن ذلك كان بعد غزوة بدر بكثير. (3) سورة الجمعة: 6، 7. (4) الذى فى تفسير ابن كثير، أن المقصود بتمنى الموت هنا المباهلة كما جاء فى سورة آل عمران، بمعنى أنه إن كنتم على هدى وأن محمدا وأصحابه على ضلالة فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إن كنتم صادقين فيما تزعمون.

الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «1» الآية. هذا وعد من الله لرسوله بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، وأئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تعالى ذلك ولله الحمد والمنة، فإنه لم يمت- صلى الله عليه وسلم- حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشى ملك الحبشة الذى تملك بعد أصحمة- رحمه الله-. ثم لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- فلمّ شعث ما وهى عند موته- صلى الله عليه وسلم- ووطد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ففتحوا طرفا منها، وجيشا آخر صحبة أبى عبيدة إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاص إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامى فى أيامه بصرى ودمشق ومخاليفها من بلاد حوران وما والاها. وتوفاه الله تعالى واختار له ما عنده. ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق. فقام فى الأمر بعده قياما تامّا، لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله فى قوة سيره وكمال عدله، وتم فى أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزاع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية، وأنفق أموالهما فى سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» .

_ (1) سورة النور: 55. (2) يشير إلى الحديث الصحيح الذى أخرجه البخارى (3028) فى الجهاد والسير، باب: الحرب خدعة، ومسلم (2918) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- بلفظ: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذى نفس محمد بيده، لتنفقن كنوزهما فى سبيل الله» صدقت يا رسول الله.

ثم لما كانت الدولة العثمانية «1» امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدّا، وجئ بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه للأمة على حفظ القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله. ومن ذلك: قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ «2» ، فاليهود أذل الكفار فى كل مكان وزمان كما أخبر. ومن ذلك: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «3» ، وهذا ظاهر فى العباد بأن دين الإسلام كما أخبر عال على سائر الأديان. ومن ذلك، قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «4» إلى آخرها، فكان كما أخبر، دخل الناس فى الإسلام أفواجا، فما مات- صلى الله عليه وسلم- وفى بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام. إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه. القسم الثانى: فيما أخبر به- صلى الله عليه وسلم- من الغيوب سوى ما فى القرآن العزيز فكان كما أخبر به فى حياته وبعد مماته. أخرج الطبرانى عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله قد رفع لى الدنيا، فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفى هذه» «5» .

_ (1) نسبة إلى عثمان بن عفان- رضى الله عنه-، فالسياق هنا يشير إلى ذلك. (2) سورة البقرة: 61. (3) سورة التوبة: 33. (4) سورة النصر: 1. (5) ضعيف: ذكر الهيثمى فى «المجمع» (8/ 287) وقال: رواه الطبرانى ورجاله وثقوا على ضعف كثير فى سعيد بن سنان الرهاوى.

وعن حذيقة قال: قام فينا رسول الله قائما، فما ترك شيئا يكون فى مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابه هؤلاء، وإنه ليكون منه الشئ قد نسيته فأراه فأعرفه «1» فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه «2» ثم قال حذيفة: ما أدرى أنسى أصحابى أم تناسوه، والله ما ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قائد فتنة إلى أن تنقضى الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا وقد سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته رواه أبو داود. وروى مسلم من حديث ابن مسعود فى الدجال: فيبعثن عشرة فوارس طليعة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنى لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، وهم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ» «3» . فوضح من هذا الخبر وغيره مما يأتى من الأخبار، وسنح من خواطر الأبرار الأخيار أنه- صلى الله عليه وسلم- عرفهم بما يقع فى حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه فلا سبيل إلى فوته. وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما يحرك طائر جناحه فى السماء إلا ذكرنا منه علما. ولا شك أن الله تعالى قد أطلعه على أزيد من ذلك، وألقى عليه علم الأولين والآخرين. وأما علم عوارف المعارف الإلهية فتلك لا يتناهى عددها، وإليه- صلى الله عليه وسلم- ينتهى مددها. ومن ذلك: ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشى للناس فى اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى وصف بهم وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات» «4» . وفى حديث أنس عند أحمد والبخارى:

_ (1) ليست هذه العبارة فى سنن أبى داود. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (4240) فى الفتن والملاحم، باب: ذكر الفتن ودلائلها، وهو عند البخارى (6604) فى القدر، باب: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً، ومسلم (2891) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: إخبار النبى- صلى الله عليه وسلم- فيما يكون إلى قيام الساعة، بلفظ قريب منه. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2899) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: إقبال الروم فى كثرة القتل عند خروج الدجال. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1245) فى الجنائز، باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ومسلم (951) فى الجنائز، باب: فى التكبير على الجنازة.

أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صعد أحدا، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله وقال له: «أثبت أحد، فإنما عليك نبى، وصديق وشهيدان» «1» فكان كما أخبر- صلى الله عليه وسلم-. ومن ذلك: ما رواه الشيخان من حديث أبى هريرة أنه- رضى الله عنه- قال: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذى نفسى بيده لتنفقن كنوزهما فى سبيل الله» «2» قال النووى قال الشافعى وسائر العلماء: معناه لا يكون كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، كما كان فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، فأعلمنا- صلى الله عليه وسلم- بانقطاع ملكهما من هذين الإقليمين، وكان كما قال، فأما كسرى فانقطع ملكه وزال بالكلية من جميع الأرض، وتمزق ملكه كل ممزق، واضمحل بدعوة النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأما قيصر فانهزم من الشام ودخل أقصى بلاده، فافتتح المسلمون بلاده واستقرت للمسلمين ولله الحمد، انتهى. وقد وقع ذلك فى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب كما قدمته، وقال- صلى الله عليه وسلم- لسراقة: «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟» فلما أتى بهما عمر ألبسهما إياه وقال: «الحمد لله الذى سلبهما كسرى وألبسهما سراقة» «3» . ومن ذلك: إخباره- صلى الله عليه وسلم- بالمال الذى تركه عمه العباس عند أم الفضل، بعد أن كتمه، فقال: ما علمه غيرى وغيرها وأسلم كما تقدم ذلك فى غزوة بدر من المقصد الأول. وإخباره بشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة. وبموضع ناقته حين ضلت وكيف تعلقت بخطامها فى الشجرة. ولما رجع المشركون يوم الأحزاب، قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «الآن نغزوهم

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3675) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» . (2) صحيح: وقد تقدم قريبا. (3) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقى وابن عساكر، عن الحسن مرسلا، كما فى «كنز العمال» (35752) .

ولا يغزونا» «1» ، فلم يغز- صلى الله عليه وسلم- بعدها. وبعث- صلى الله عليه وسلم- جيشا إلى مؤتة، وأمر عليهم زيد بن حارثة ثم قال: «فإن أصيب فجعفر بن أبى طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة» ، فلما التقى المسلمون بمؤتة جلس النبى- صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فكشف له حتى نظر إلى معركتهم فقال: «أخذ الراية زيد بن حارثة حتى استشهد» ، فصلى عليه ثم قال: «استغفرو له، ثم أخذ الراية جعفر بن أبى طالب حتى استشهد» ، فصلى عليه ثم قال: «استغفروا لأخيكم جعفر، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فاستشهد» فصلى عليه، ثم قال: «استغفروا لأخيكم» «2» . فأخبر أصحابه بقتلهم فى الساعة التى قتلوا فيها، ومؤتة دون دمشق بأرض البلقاء. وعن أسماء بنت عميس قالت: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صبيحة اليوم الذى قتل فيه جعفر وأصحابه فقال: «يا أسماء، أين بنو جعفر» فجئت بهم، فضمهم وشمهم ثم ذرفت عيناه بالدموع فبكى، فقلت: يا رسول الله، أبلغك عن جعفر شئ؟ قال: «نعم قتل اليوم» «3» ، رواه يعقوب الإسفراينى فى كتاب دلائل الإعجاز، وخرجه ابن إسحاق والبغوى. ومن ذلك، قوله- صلى الله عليه وسلم-: «زويت لى الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها» «4» ، فكان كذلك امتدت فى المشارق والمغارب ما بين أقصى الهند إلى أقصى المشرق إلى بحر طنجة حيث لا عمارة وراءه، وذلك ما لم تملكه أية أمة من الأمم. ومن ذلك: إعلامه قريشا بأكل الأرضة ما فى صحيفتهم التى تظاهروا

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4110) فى المغازى، باب: غزوة الخندق، وهى الأحزاب، من حديث سليمان بن حدد- رضى الله عنه-. (2) انظر القضية فى «دلائل النبوة» للبيهقى (4/ 361- 362) . (3) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (8/ 220) . (4) صحيح: أخرجه ابن ماجه (3952) فى الفتن، باب: ما يكون من الفتن، وهو عند مسلم (2889) بنحوه فى الفتن، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، من حديث ثوبان- رضى الله عنه-.

بها على بنى هاشم، وقطعوا بها رحمهم، وأنها أبقت فيها كل اسم لله، فوجدوها كما قال- صلى الله عليه وسلم-. ومن ذلك: ما رواه الطبرانى فى الكبير، والبزار من حديث ابن عمر قال: كنت جالسا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى مسجد منى، فأتى رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما ثم قالا: يا رسول الله، جئنا نسألك فقال: «إن شئتما أن أخبركما بما جئتما تسألانى عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألانى فعلت» فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفى للأنصارى: سل، فقال: أخبرنى يا رسول الله، قال: «جئتنى تسألنى عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام، ومالك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف ومالك فيهما، وعن سعيك بين الصفا والمروة ومالك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة ومالك فيه، وعن رميك الجمار ومالك فيه، وعن نحرك ومالك فيه، وعن حلاقك رأسك ومالك فيه مع الإفاضة» . فقال: والذى بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك «1» . ومن ذلك: ما روى عن واثلة بن الأسقع قال: أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهو فى نفر من أصحابه يحدثهم، فجلست وسط الحلقة، فقال بعضهم: يا واثلة قم عن هذا المجلس، فقد نهينا عنه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «دعونى وإياه فإنى أعلم بالذى أخرجه من منزله» قلت: يا رسول الله ما الذى أخرجنى؟ قال: «أخرجك من منزلك لتسأل عن البر وعن الشك» قال: قلت والذى بعثك بالحق ما أخرجنى غيره، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «البر ما استقر فى الصدر، واطمأن إليه القلب، والشك ما لم يستقر فى الصدر، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون» «2» .

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 274- 275) وقال: رواه البزار والطبرانى فى «الكبير» بنحوه، ورجال البزار موثقون. (2) قلت: القصة بنحوها عند مسلم (2553) فى البر والصلة، باب: تفسير البر والإثم، والترمذى (2389) فى الزهد، باب: ما جاء فى البر والإثم، وأحمد فى «المسند» (4/ 182) من حديث النواس بن سمعان، ولم أقف على هذه القصة عن واثلة بن الأسقع، لا صاحب الطبقات ولا صاحب الإصابة وعديد غيرهم.

ومن ذلك: قوله لفاطمة- رضى الله عنها- فى مرضه: «إنك أول أهلى لحوقا بى» «1» فعاشت بعده ثمانية أشهر، وقيل ستة أشهر. وقوله- صلى الله عليه وسلم- لنسائه: «أسرعكن بى لحوقا، أطولكن يدا» فكانت زينب بنت جحش لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق «2» . ومن ذلك، قوله- صلى الله عليه وسلم- لعلى: «أتدرى من أشقى الآخرين» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: قاتلك. أخرجه أحمد فى المناقب. وعند ابن أبى حاتم «الذى يضربك على هذا» وأشار إلى يافوخه، وعند المحاملى: قال على: عهد إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لتخضبن هذه من هذه، وأشار إلى لحيته ورأسه، وعند الضحاك: «الذى يضربك على هذه فتبتل منها هذه» وأخذ بلحيته. فضربه عبد الرحمن بن ملجم. وعند الطبرانى وأبى نعيم، من حديث جابر مرفوعا: إنك مؤمر مستخلف، وإنك مقتول، وإن هذه مخضوبة من هذه. وقال- صلى الله عليه وسلم- لمعاوية: «أما إنك ستلى أمر أمتى من بعدى، فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم» . قال معاوية: فما زلت أرجوها حتى قمت مقامى هذا «3» . رواه ابن عساكر. وأخرج ابن عساكر أيضا من حديث عروة بن رويم مرفوعا: لن يغلب معاوية أبدا، وإن عليّا قال يوم صفين: لو ذكرت هذا الحديث ما قاتلت معاوية. ومن ذلك قوله- صلى الله عليه وسلم-: «يقتل هذا مظلوما» وأشار إلى عثمان

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3624) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (2450) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى- عليهما الصلاة والسلام- من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1420) فى الزكاة، باب: أى الصدقة أفضل ومسلم (2452) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل زينب أم المؤمنين- رضى الله عنها-، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) رواه الطبرانى فى الأوسط، كما فى «مجمع الزوائد» (9/ 356) .

- رضى الله عنه- «1» . خرجه البغوى فى المصابيح من الحسان والترمذى وقال حسن غريب، وخرجه أحمد، فكان كما قال- صلى الله عليه وسلم-، فاستشهد فى الدار وبين يديه المصحف، فنضح الدم على هذه الآية فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2» . وفى الشفاء «3» أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يقتل عثمان وهو يقرأ فى المصحف، وإن الله عسى أن يلبسه قميصا، وإنهم يريدون خلعه وإنه سيقطر دمه على قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وقد أخرجه الحاكم عن ابن عباس بلفظ: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة فتقع قطرة من دمك» على قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» لكن قال الذهبى: إنه حديث موضوع. وقد روى مسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال: (هل ترون ما أرى، إنى لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر) «5» فوقعت فتنة قتلة عثمان وتتابعت الفتن إلى فتنة الحرة وكانت لثلاث بقين من ذى الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، وجرت فيها مواقع كثيرة موجودة فى كتب التواريخ. وأخرج البيهقى عن الحسن «6» قال: لما كان يوم الحرة قتل أهلى، حتى لا يكاد ينفلت منهم أحد. وأخرج أيضا عن أنس بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، منهم ثلاثمائة من الصحابة، وذلك فى

_ (1) حسن الإسناد: أخرجه الترمذى (3708) فى المناقب، باب: رقم (77) ، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما- وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال. (2) سورة البقرة: 137. (3) هو الشفاء للقاضى عياض. (4) سورة البقرة: 137. (5) صحيح: أخرجه البخارى (1878) فى فضائل المدينة، باب: آطام المدينة، ومسلم (2885) فى الفتن، باب: نزول الفتن كمواقع القطر، وقد قصر المصنف فى عزوه إلى مسلم فقط، وهو عند البخارى أيضا. و (الأطم) : هو القصد والحصن، وجمعه آطام. (6) هو: الحسن البصرى، من خيار أئمة التابعين.

خلافة يزيد. وأخرج أيضا عن مغيرة قال: انتهب أبو مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام وافتض فيها ألف عذراء. وقال- صلى الله عليه وسلم- لأبى موسى وهو قاعد على قف بئر «1» أريس، لما طرق عثمان الباب «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» «2» إشارة إلى ما تقدم من استشهاده يوم الدار بل أصرح من ذلك كله ما رواه أحمد عن ابن عمر قال ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنة، فمر رجل فقال: «يقتل فيها هذا يومئذ ظلما» ، قال: فنظرت فإذا هو عثمان «3» . وإسناده صحيح. وأخبر- صلى الله عليه وسلم- بوقعة الجمل وصفين وقتال عائشة والزبير عليّا، كما أخرجه الحاكم وصححه البيهقى عن أم سلمة قالت: ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة فقال: «انظرى يا حميراء أن لا تكونى أنت» ، ثم التفت إلى على فقال له: «إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها» «4» . وعن ابن عباس مرفوعا: «أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب «5» ، ويقتل حولها قتلى كثيرة، تنجو بعدما كادت» «6» . رواه البزار وأبو نعيم.

_ (1) قف البئر: أى حافتها. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3674) فى فضائل الصحابة، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا خليلا» ، ومسلم (2403) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان- رضى الله عنه-. (3) حسن: أخرجه الترمذى (3708) فى المناقب، باب: رقم (77) ، وأحمد فى «المسند» (2/ 115) ، وقد تقدم قريبا. (4) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 129) . (5) الحوأب: الواسع من الأودية، وهو هنا منزل بين مكة والبصرة، وهو الذى نزلته عائشة لما جاءت إلى البصرة فى وقعة الجمل. (6) رجاله ثقات: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (7/ 234) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. اهـ. قلت: وهو عند أحمد (6/ 52 و 97) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6732) ، والحاكم فى «المستدرك» (3/ 129) من حديث عائشة- رضى الله عنها- بسند صحيح.

وأخرج الحاكم وصححه البيهقى عن أبى الأسود قال: شهدت الزبير خرج يريد عليّا فقال على: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «تقاتله وأنت له ظالم» «1» ، فمضى الزبير منصرفا. وفى رواية أبى يعلى والبيهقى قال الزبير: بلى ولكن نسيت. ومن ذلك قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الحسن بن على: «إن ابنى هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» «2» رواه البخارى، فكان كما قال- صلى الله عليه وسلم-، لأنه لما قتل على بن أبى طالب بايع الحسن أكثر من أربعين ألفا، فبقى سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراء النهر من خراسان، ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه، فلما تراء الجمعان بموضع يقال له بستكين بناحية الأنبار من أرض السواد، فعلم أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الآخرى، فكتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه دون غيره على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشئ مما كان فى أيام أبيه، فأجابه معاوية إلا عشرة، فلم يزل يراجعه حتى بعث إليه برق أبيض وقال: اكتب فيه ما شئت فأنا ألتزمه، واصطلحا على ذلك، فكان الأمر كما قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . وأخرج الدولابى أن الحسن «3» قال: كانت جماجم العرب بيدى يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله تعالى وحقن دماء المسلمين. ومن ذلك: إعلامه- صلى الله عليه وسلم- بقتل الحسين بالطف، وأخرج بيده تربة وقال: فيها مضجعه، رواه البغوى فى معجمه من حديث أنس بن مالك بلفظ: استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبى- صلى الله عليه وسلم- فأذن له وكان فى يوم

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 413) ، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (6/ 415) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (2704) فى الصلح، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم- للحسن بن على- رضى الله عنهما- ابنى هذا سيد من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-. (3) الحسن هنا هو: الحسن بن على- رضى الله عنهما- الذى قيل فيه نص الحديث السابق.

أم سلمة، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا أم سلمة احفظى علينا الباب لا يدخل علينا أحد» فبينما هى على الباب إذ دخل الحسين فاقتحم فوثب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلثمه ويقبله، فقال له الملك: أتحبه؟ قال: «نعم» ، قال: إن أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك المكان الذى يقتل فيه، فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر، فأخذته أم سلمة فجعلته فى ثوبها. قال: ثابت: كنا نقول: إنها كربلاء. وخرجه أبو حاتم فى صحيحه ورواه أحمد بنحوه. والسهلة- بالكسر-: رمل خشن ليس بالدقاق الناعم. وفى رواية الملاء، قالت ثم ناولنى كفّا من تراب أحمر، وقال: إن هذا من تربة الأرض التى يقتل بها فمتى صار دما فاعلمى أن قد قتل. قالت أم سلمة: فوضعته فى قارورة عندى وكنت أقول: إن يوما يتحول فيه دما ليوم عظيم. الحديث. فاستشهد الحسين كما قال- صلى الله عليه وسلم- بكربلاء من أرض العراق، بناحية الكوفة، ويعرف الموضع بالطف، وقتله سنان بن أنس النخعى وقيل غيره، ولما قتلوه بعثوا برأسه إلى يزيد، فنزلوا أول مرحلة فجعلوا يشربون بالرأس، فبينما هم كذلك إذ خرجت عليهم من الحائط يد معها قلم من حديد فكتبت سطرا بدم: أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب فهربوا وتركوا الرأس. أخرجه منصور بن عمار وذكر أبو نعيم الحافظ فى كتاب دلائل النبوة عن نضرة الأزدية أنها قالت: لما قتل الحسين بن على أمطرت السماء دما فأصبحنا وجبابنا وجرارنا مملوءة دما. وكذا روى فى أحاديث غير هذا وقال- صلى الله عليه وسلم- لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» «1» . رواه البخارى فكان كما قال- صلى الله عليه وسلم-.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (447) فى المساجد، باب: التعاون فى بناء المسجد، ومسلم (2915) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، من حديث أبى سعيد الخدرى عن أبى قتادة الأنصارى- رضى الله عنهما-.

ومن ذلك: ما رواه أبو عمر بن عبد البر أن عبد الله بن عمر رأى رجلا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فلم يعرفه، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أرأيته؟» قال: نعم. قال: «ذاك جبريل، أما إنك ستفقد بصرك» ، فعمى فى آخر عمره. ومن ذلك: قوله- صلى الله عليه وسلم- لثابت بن قيس بن شماس: «تعيش حميدا وتقتل شهيدا» «1» رواه الحاكم وصححه، والبيهقى وأبو نعيم، فقتل يوم مسيلمة الكذاب باليمامة. ومن ذلك: قوله لعبد الله بن الزبير: «ويل لك من الناس، وويل للناس منك» «2» . فكان من أمره مع الحجاج ما كان. ومن ذلك: حديث أبى هريرة أنه- رضى الله عنه- قال: «إن هذا الدين بدأ نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا عضوضا، ثم يكون سلطانا وجبرية» «3» . وقوله: ملكا عضوضا أى يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضّا. وفى حديث سفينة عند أبى داود والترمذى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الخلافة فى أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» «4» . قال سعيد بن جمعان: أمسك خلافة أبى بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وخلافة على فوجدناها ثلاثين سنة، فقيل له: إن بنى أمية يزعمون أن الخلافة فيهم فقال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك «5» .

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 260 و 261) وصححهما. (2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 638) ، وابن أبى عاصم فى «الآحاد والمثانى» (1/ 414) ، وسكت عنه الحافظان الحاكم والذهبى. (3) أخرجه أبو يعلى فى «مسنده» (873) ، وأبو داود فى «مسنده» (228) ، والطبرانى فى «الكبير» (1/ 156) و (20/ 53) ، والبيهقى فى «الكبرى» (8/ 159) من حديث أبى عبيدة ابن الجراح ومعاذ بن جبل- رضى الله عنهما-، ولم أقف عليه من حديث أبى هريرة. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (2226) فى الفتن، باب: ما جاء فى الخلافة، وأحمد فى «المسند» (5/ 220 و 221) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3341) . (5) ذكره الترمذى عقب الحديث السابق.

وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس أن أم الفضل مرت به- صلى الله عليه وسلم- فقال: إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتنى به، قالت: فلما ولدته أتيته به فأذن فى أذنه اليمنى وأقام فى اليسرى وألبأه من ريقه وسماه عبد الله وقال: اذهبى بأبى الخلفاء فأخبرت العباس فأتاه فذكر له ذلك فقال: هو ما أخبرتك، هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدى، حتى يكون منهم من يصلى بعيسى ابن مريم. وأخرج أبو يعلى عن معاوية سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لتظهرن الترك على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم» «1» . ومن ذلك: إخباره- صلى الله عليه وسلم- بعالم المدينة، أخرج الحاكم وصححه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلم يجدوا عالما أعلم من عالم المدينة» «2» . قال سفيان بن عيينة: نرى هذا العالم مالك بن أنس، وقال عبد الرزاق: ولم يعرف بهذا الاسم غيره ولا ضربت أكباد الإبل إلى أحد مثل ما ضربت إليه، وقال أبو مصعب: كان الناس يزدحمون على باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام، يعنى لطلب العلم. وممن روى عنه من الأئمة المشهورين: محمد بن شهاب الزهرى «3» ، والسفيانان والشافعى والأوزاعى إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام «4» ، وصاحباه: أبو يوسف ومحمد ابن الحسن وعبد الرحمن بن مهدى شيخ الإمام أحمد ويحيى بن يحيى شيخ

_ (1) لم أقف عليه فيه. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (2680) بنحوه فى العلم، باب: ما جاء فى عالم المدينة، وأحمد فى «المسند» (2/ 299) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 168) ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: رجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن جريج وأبى الزبير، وهما مدلسان. (3) قلت: محمد بن شهاب الزهرى، من طبقة شيوخ مالك، فقد روى عنه مالك، كما روى عن مالك من باب رواية الأكابر عن الأصاغر، وغالبا ما يكون ذلك من باب اعتراف الشيخ بالتلميذ. (4) قلت: الإمام أبو حنيفة، أسن من الإمام مالك، كما لم يثبت عنهما أنهما التقيا، فلا أظن أنه روى عنه شيئا، وكذلك صاحباه.

البخارى، وأبو رجاء قتيبة بن سعيد شيخ البخارى، وذو النون المصرى، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم بن أدهم. كما نقله العلامة عيسى بن مسعود الزواوى فى كتابه «المنهج السالك إلى معرفة قدر الإمام مالك» . وإخباره بعالم قريش؛ عن ابن مسعود قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما» «1» . رواه أبو داود الطيالسى فى مسنده، وفيه الجارود مجهول، لكن له شواهد عن أبى هريرة فى تاريخ بغداد للخطيب وعن على وابن عباس فى المدخل للبيهقى. قال الإمام أحمد وغيره: هذا العالم هو الشافعى، لأنه لم ينتشر فى طباق الأرض من علم عالم قريش من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعى، وما كان الإمام أحمد ليذكر حديثا موضوعا يحتج أو يستأنس به فى أمر شيخه الشافعى. وأما قوله: «وروى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قالت عالم قريش» إلخ، بصيغة التمريض احتياطا للشك فى ضعفه، فإن إسناده لا يخلو من ضعف. قاله العراقى ردّا على الصغانى فى زعمه أنه موضوع، وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه فى كتابه سماه: لذة العيش فى طرق حديث الأئمة من قريش، كما أفاده شيخنا. وأخبر- صلى الله عليه وسلم- بأن طائفة من أمته لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله «2» . رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة وبأن الله تعالى يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها «3» . رواه الحاكم من حديث أبى هريرة. وبذهاب الأمثال فالأمثل رواه الحاكم وصححه

_ (1) ضعيف: أخرجه الطيالسى فى «مسنده» (309) بسند ضعيف. (2) صحيح: أخرجه البخارى (7311) فى الاعتصام، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق» . وهم أهل العلم، ومسلم (1921) فى الإمارة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتى» من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (4291) فى الملاحم، باب: ما يذكر فى الملاحم، والحاكم فى «المستدرك» (4/ 567 و 568) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

بلفظ: تذهبون الخير فالخير «1» . وبالخوارج رواه الشيخان من حديث أبى سعيد الخدرى بلفظ: بينما نحن عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة، فقال: يا رسول الله، «اعدل» فقال: «ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل، خبت وخسرت إن لم أعدل» فقال عمر: يا رسول الله دعنى أضرب عنقه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدى المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس» «2» . قال أبو سعيد: فأشهد أنى سمعت هذا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأشهد أن على بن أبى طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذى نعته. وأخبر- صلى الله عليه وسلم- أيضا بالرافضة، أخرجه البيهقى عن على قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يكون فى أمتى قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام» «3» . وأخبر أيضا بالقدرية والمرجئة وقال: هم مجوس هذه الأمة «4» ، رواه الطبرانى فى الأوسط عن أنس.

_ (1) حسن: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 480) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7225) ، والطبرانى فى «الكبير» (5/ 29) ، من حديث رويفع بن ثابت الأنصارى- رضى الله عنه-، والحديث حسنه لغيره الشيخ الأرناؤوط فى صحيح ابن حبان. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3610) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام، ومسلم (1064) فى الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، وقد ذكر البخارى ومسلم تتمة كلام أبى سعيد عقب حديثه السابق. (3) حسن: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 103) ، والبيهقى فى «الدلائل» (6/ 547) بسند فيه يحيى بن المتوكل، وهو ضعيف الحديث، إلا أن للحديث شواهد أخرجها أبو يعلى فى «مسنده» (6749) من حديث فاطمة بنت النبى- عليهما السلام-، والطبرانى فى «الكبير» (12/ 242) ، وعبد بن حميد (698) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بأسانيد حسنها الهيثمى فى «المجمع» (10/ 22) . (4) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (92) فى المقدمة، باب: فى القدر، والطبرانى فى «الصغير» (1/ 368) ، من حديث جابر- رضى الله عنه-، من طريق بقية عن الأوزاعى عن ابن جريج عن أبى الزبير عنه، وهذا إسناد ضعيف. ولم أقف عليه من حديث أنس- رضى الله عنه-، وقد رمز إليه الشيخ الألبانى بالحسن.

وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأشياء بين موته وبين الساعة وحذر من مفاجأتها، كما يحذر من حاد عن الطاعة، وأن الساعة لا تقوم حتى تظهر جملة الأمارات فى العالم، فإذا جاءت الطامة الكبرى، يطيش منها الجاهل والعالم. كما روى من رفع الأمانة والقرآن، واشتهار الخيانة وحسد الأقران وقلة الرجال، وكثرة النسوان، إلى غير ذلك مما شهدت بصحته الأخبار، وقضى بحقيقة وقوعه الاعتبار. وقد تعين أن نلمّ بذكر طرف من الآثار الصحاح والحسان: فروى البخارى من حديث أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج- وهو القتل- وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم الرجل من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذى يعرضه عليه: لا أرب لى فيه، وحتى يتطاول الناس فى البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتنى مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانهم لم تكون آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ولا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» «1» . فهذه ثلاث عشرة علامة جمعها أبو هريرة فى حديث واحد، ولم يبق بعد هذا ما ينظر من صحيح العلامات والأشراط. وقد ظهر أكثر هذه العلامات: فأما قوله: «حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة» يريد فتنة معاوية وعلى بصفين. قال القاضى أبو بكر بن العربى: وهذا أول خطب طرق الإسلام.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (7121) فى الفتن، باب: خروج النار.

وتعقبه القرطبى بأن أول أمر دهم الإسلام موت النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد موته موت عمر، لأن بموته- صلى الله عليه وسلم- انقطع الوحى وكان أول ظهور الشر ارتداد العرب وغير ذلك، وبموت عمر سل سيف الفتنة بقتل عثمان. وكان من قضاء الله وقدره ما كان وما يكون. وأما قوله: «دجالون كذابون قريب من ثلاثين» فقد جاء عددهم معينا من حديث حذيفة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يكون فى أمتى دجالون كذابون سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة. وأنا خاتم النبيين لا نبى بعدى» . أخرجه الحافظ أبو نعيم وقال: هذا حديث غريب قال القاضى عياض: هذا الحديث قد ظهر، فلو عدّ من تنب من زمن النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى الآن من اشتهر بذلك لوجد هذا العدد، ومن طالع كتب التاريخ عرف صحة هذا. وقوله: «حتى يقبض العلم» فقد قبض ولم يبق إلا رسمه. وأما: «الزلازل» فوقع منها شئ كثير، وقد شاهدنا بعضها. وأما قوله: «حتى يكثر فيكم المال فيفيض وحتى يهم رب المال من يقبل صدقته» فهذا مما لم يقع. وقوله: «حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتنى مكانه» لما يرى من عظيم البلاء ورياسة الجهلاء وخمول العلماء وغير ذلك، مما ظهر كثير منه. وفى حديث أبى هريرة عند الشيخين أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز تضئ لها أعناق الإبل ببصرى» «1» . وقد خرجت نار عظيمة على قرب مرحلة من المدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة فى ليلة الأربعاء بعد العشاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، وفى يوم الثلاثاء اشتدت حركتها، وعظمت رجفتها، وتتابعت حطمتها، وارتجت الأرض بمن عليها، وعجت الأصوات لباريها، ودامت الحركة إثر الحركة، حتى أيقن أهل المدينة بوقوع الهلكة، وزلزلوا زلزالا شديدا، من جملة ثمانية عشر حركة فى يوم واحد دون ليلته.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (7118) فى الفتن، باب: خروج النار، ومسلم (2902) فى الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز.

قال القرطبى: وكان يأتى المدينة ببركته- صلى الله عليه وسلم- نسيم بارد، وشوهد من هذه النار غليان كغليان البحر، وانتهت إلى قرية من قرى اليمن فأحرقتها. قال: وقال لى بعض أصحابنا: ولقد رأيتها صاعدة فى الهواء من مسيرة خمسة أيام. قال: وسمعت أنها رؤيت من مكة ومن جبال بصرى. وقال الشيخ قطب الدين القسطلانى: أقامت اثنين وخمسين يوما، وكان انطفاؤها فى السابع والعشرين من رجب ليلة الإسراء والمعراج به- صلى الله عليه وسلم-. وبالجملة فاستيفاء الكلام على هذه النار يخرج عن المقصود، وقد نبه عليه القرطبى فى التذكرة، وأفردها بالتأليف قطب الدين القسطلانى فى كتاب سماه «جمل الإيجاز فى الإعجاز بنار الحجاز» فأتى فيه من دقائق الحقائق بالعجب العجاب، والله الموفق للصواب.

المقصد التاسع وفيه: * فى لطيفة من عباداته.

المقصد التاسع فى لطيفة من عباداته

المقصد التاسع فى لطيفة من عباداته قال الله تعالى مخاطبا له- صلى الله عليه وسلم-: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1» . فأمره تعالى بعبادته حتى يأتيه الموت، وهو المراد ب «اليقين» ، وإنما سمى الموت باليقين لأنه أمر متيقن. فإن قلت: ما الفائدة فى قوله: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» وكان قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ «3» كافيا فى الأمر بالعبادة؟ أجاب القرطبى تبعا لغيره: بأنه لو قال: وَاعْبُدْ رَبَّكَ «4» مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا، ولما قال: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «5» أى اعبد ربك فى جميع زمان حياتك ولا تمل ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من هذه العبادة. كما قال العبد الصالح: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا «6» . وهذا مصير منه إلى أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، وهى مسألة معروفة فى الأصول اختلف فيها. وهى: هل الأمر المطلق يفيد التكرار، أو المرة الواحدة، أو لا يفيد شيئا منها؟ على مذاهب: الأول: أنه لا يفيد التكرار ولا ينافيه، بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به من غير إشعار بالمرة أو المرات، لكن المرة ضرورية لأجل تحقيق الامتثال، إذ

_ (1) سورة الحجر: 97- 99. (2) سورة الحجر: 99. (3) سورة الحجر: 99. (4) سورة الحجر: 99. (5) سورة الحجر: 99. (6) سورة مريم: 31.

لا توجد الماهية بأقل منها، وهذا مختار الإمام «1» مع نقله له على الأقلين، ورجحه الآمدى وابن الحاجب وغيرهما. الثانى: أنه يفيد التكرار مطلقا، كما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراينى وأبو حاتم القزوينى، فإن عيّن للتكرار أمدا استوعبه، وإلا استوعب زمان العمر، لكن بحسب الإمكان، فلا يستوعب زمن قضاء الحاجة والنوم وغيرهما من الضروريات. الثالث: أنه يدل على المرة، حكاه الشيخ أبو إسحاق فى شرح «اللمع» عن أكثر أصحابنا وأبى حنيفة وغيرهم. وإن علق بشرط أو صفة اقتضى التكرار بحسب تكرار المعلق به، نحو وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «2» والزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «3» ، انتهى ملخصا من شرح العلامة أبى الحسن الأشمونى لنظمه جمع الجوامع للعلامة ابن السبكى. وقد روى جبير بن نفير «4» مرسلا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أوحى إلىّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إلى أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» «5» . رواه البغوى فى شرح السنة وأبو نعيم فى الحلية عن أبى مسلم الخولانى «6» . وقد أمر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الآية بأربعة أشياء: التسبيح والتحميد والسجود والعبادة. واختلف العلماء فى أنه كيف صار الإقبال على مثل هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن.

_ (1) يقصد إمام الحرمين، الإمام الجوينى- رحمه الله-. (2) سورة المائدة: 6. (3) سورة النور: 2. (4) ممن أسلم قديما، إلا أنه لم يهاجر إلا فى زمن عمر بن الخطاب، ولذلك فروايته عن النبى- صلى الله عليه وسلم- مرسلا، لأنها لا تكون إلا بواسطة. (5) أخرجه الحاكم فى تاريخه، عن أبى ذر، كما فى «كنز العمال» (6374) . (6) كالذى قبله، أسلم قديما، إلا أنه لم يدرك زمن النبى- صلى الله عليه وسلم-، حيث أنه لما رحل إليه، وجده قد مات، فعلى ذلك فحديثه مرسل أيضا.

فحكى الإمام فخر الدين الرازى عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها، فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب على عبادتك سواء أعطيتنى الخيرات أو ألقيتنى فى المكروهات. وقال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ «1» . فأمره تعالى- صلى الله عليه وسلم- بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف فى الإنذار والإبلاغ. فإن قلت: لم لم يقل: واصبر على عبادته، بل قال: وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ «2» . فالجواب: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن فى قولك للمحارب: اصطبر لقرنك أى: اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه. والمعنى: أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها قاله الفخر الرازى وكذا البيضاوى. وقال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ «3» . فأول درجات السير إلى الله عبودية الله تعالى، وآخرها التوكل عليه، وإذا كان العبد لا يزال مسافرا إلى ربه لا ينقطع سيره إليه ما دام فى قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة لا يستغنى عنه البتة، ولو أتى بأعمال الثقلين جميعا، وكلما كان العبد إلى ربه أقرب كان جهاده إلى الله أعظم، قال تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ «4» ولهذا كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق اجتهادا «5» وقياما بوظائف العبادة، ومحافظته عليها إلى أن توفاه الله تعالى. وتأمل أصحابه- رضى الله عنهم- فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب مقاما عظم جهادهم واجتهادهم.

_ (1) سورة مريم: 65. (2) سورة مريم: 65. (3) سورة هود: 123. (4) سورة الحج: 78. (5) لعل الصواب: جهادا.

ولا يلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف حيث قال: «القرب الحقيقى ينقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة ويريح الجسد والجوارح من كد العمل» . زاعما بذلك سقوط التكليف عنه. وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التى هى أمانى النفس وخدع الشيطان. فلو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة ما دام قادرا عليه. وقد اختلف العلماء: هل كان- صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أم لا؟ فقال جماعة: لم يكن متعبدا بشئ، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأنه لو كان كذلك لنقل، ولما أمكن كتمه وستره فى العادة، إذ كان من مهم أمره، وأولى ما اهتبل به من سيرته، ولفخر به أهل تلك الشريعة ولا حتجوا به عليه، ولم يؤثر بشئ من ذلك. وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا. والتعليل الأول المستند إلى النقل أولى. وذهب آخرون إلى الوقف فى أمره- صلى الله عليه وسلم- وترك قطع الحكم عليه بشئ من ذلك، إذ لم يحل الوجهين منها العقل، وهذا مذهب الإمام أبى المعالى إمام الحرمين وكذا الغزالى والآمدى. وقال آخرون: كان عاملا بشرع من قبله. ثم اختلفوا: هل يتعين ذلك الشرع أم لا؟ فوقف بعضهم عن التعيين وأحجم، وجسر بعضهم على التعيين وصمم، ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع فقيل نوح، وقيل إبراهيم، وقيل موسى، وقيل عيسى. فهذه جملة المذاهب فى هذه المسألة. والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضى أبو بكر، وأبعدها مذاهب التعيين، إذ لو كان شئ من ذلك لنقل- كما قدمناه- ولم يخف جملة، ولا حجة لهم فى أن عيسى- عليه السّلام- آخر الأنبياء

فلزمت شريعته من جاء بعده، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى، بل الصحيح أنه لم يكن لنبى دعوة عامة إلا لنبينا- صلى الله عليه وسلم-. انتهى ملخصا من كلام القاضى عياض، وهو كلام حسن بديع، لكن قوله: فهذه جملة المذاهب، فيه نظر، لأنه بقى منها شئ، فقد قيل شريعة آدم أيضا، وهو محكى عن ابن برهان، وقيل جميع الشرائع. حكاه صاحب «المحصول» من المالكية. وأما قول من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته- صلى الله عليه وسلم- إحياء شرع إبراهيم، وعول فى إثبات مذهبه على قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «1» فهذا قول ساقط مردود، لا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع. وإنما المراد بهذه الآية الاتباع فى التوحيد، لأنه لما وصف إبراهيم- عليه السّلام- فى هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: إِنْ أَتَّبِعُ «2» كان المراد منه ذلك. ومثله قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «3» وقد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث ولم يكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب. على قول من يقول إنه ليس برسول «4» . وقد سمى الله تعالى جماعة منهم فى هذه الآية وشرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها، فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى. فإن قيل: النبى- صلى الله عليه وسلم- إنما نفى الشرك وثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله: إِنْ أَتَّبِعُ «5» على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التى يصح حصول المتابعة فيها.

_ (1) سورة النحل: 123. (2) سورة النحل: 123. (3) سورة الأنعام: 90. (4) وذلك على اعتبار من يفرق بين (الرسول) و (النبى) على أن الرسول من أوحى إليه بشئ وأمر بتبليغه، والنبى من جاء بإحياء شريعة رسول سبقته. (5) سورة النحل: 123.

أجاب الفخر الرازى: بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته فى كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة، على ما هو الطريقة المألوفة فى القرآن. وقد قال صاحب الكشاف «1» : لفظة «ثم» فى قوله: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «2» تدل على تعظيم منزلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإجلال محله، فإن أشرف ما أوتى خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتى من النعمة اتباع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ملته، من قبل أن هذه اللفظة دلت على تباعد النعت فى المرتبة على سائر المدائح التى مدحه الله بها، انتهى. ومراده بالمدائح: المذكورة فى قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «3» . وقال ابن العراقى فى شرح تقريب الأسانيد: وليت شعرى كيف تلك العبادة؟ وأى أنواعها هى؟ وعلى أى وجه فعلها؟ يحتاج ذلك لنقل. ولا أستحضره الآن. انتهى. وقال شيخ الإسلام البلقينى فى شرح البخارى: لم تجئ فى الأحاديث التى وقفنا عليها كيفية تعبده- صلى الله عليه وسلم-، لكن روى ابن إسحاق وغيره أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى حراء فى كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه، وكان من تنسك قريش فى الجاهلية أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة، وحمل بعضهم التعبد على التفكر.

_ (1) هو: الإمام المعتزلى الكبير، أبو القاسم، محمود بن عمر الزمخشرى الخوارزمى، الذى ولد بها، كان رأسا فى البلاغة والعربية والمعانى والبديع، كما كان داعيا إلى الاعتزال- سامحه الله-، مات ليلة عرفة سنة 538 هـ. (2) سورة النحل: 123. (3) سورة النحل: 120- 122.

النوع الأول فى الطهارة وفيه فصول:

قال «1» : وعندى أن هذا التعبد يشتمل على أنواع: وهى الانعزال عن الناس، كما صنع إبراهيم- عليه السّلام- باعتزاله قومه والانقطاع إلى الله تعالى، فإن «انتظار الفرج عبادة» «2» ، كما رواه على بن أبى طالب مرفوعا، وينضم إلى ذلك الأفكار، وعن بعضهم: كانت عبادته- صلى الله عليه وسلم- فى حراء التفكر. انتهى. وقد آن أن أشرع فيما قصدته على النحو الذى أردته. وقد اقتصرت من عباداته على سبعة أنواع: النوع الأول فى الطهارة وفيه فصول: الفصل الأول: فى ذكر وضوئه ص وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به اعلم أن الوضوء، بالضم: الفعل، وبالفتح: الماء الذى يتوضأ به، على المشهور فيهما، وهو مشتق من الوضاءة، وسمى به لأن المصلى يتنظف به فيصير وضيئا. وقد استنبط بعض العلماء- كما حكاه فى فتح البارى- إيجاب النية فى الوضوء من قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا «3» لأن التقدير: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها. ومثله قوله: إذا رأيت الأمير فقم، أى، لأجله. وقال ابن القيم: لم يرو أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى أول وضوئه نويت رفع الحدث ولا غيرها، لا هو ولا أصحابه البتة، ولم يرو عنه لا بسند صحيح ولا ضعيف. انتهى.

_ (1) القال هنا: شيخ الإسلام البلقينى أحد شراح البخارى. (2) ضعيف: أخرجه ابن أبى الدنيا فى الفرج، وابن عساكر عن على، كما فى «ضعيف الجامع» (1331) وانظر رقمى (1329 و 1330) . (3) سورة المائدة: 6.

قال: أما التلفظ بالنية فلا نعلم أنه روى عنه- صلى الله عليه وسلم-، وأما كونه أتى بها فقد قال الإمام فخر الدين الرازى فى «المعالم» : اعلم أنا إذا أردنا أن نقول فى أمر من الأمور: هل فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم-؟ قلنا فى إثباته طرق: الأول: أنا إذا أردنا أن نقول إنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ مع النية والترتيب، قلنا: لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضرورى حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوى، ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العارى عن النية والترتيب، والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوى، فوجب أن يجب علينا مثله. والطريق الثانى: أن نقول: لو أنه- صلى الله عليه وسلم- ترك النية والترتيب وجب علينا تركه للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله. وفى الصحيحين وغيرهما من حديث عمر مرفوعا «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» «1» . قال البخارى: «فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام» . وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لم يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعى وأبى حنيفة وغيرهما. وحجتهم: أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة. ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية. واستدل الجمهور على اشتراط النية فى الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه فلا بد من قصد يميزه ليحصل الثواب الموعود به. وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» ليس المراد منه نفى ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفى أحكامها كالصحة والكمال. ولكن الحمل على نفى الصحة أولى لأنه أشبه بنفى الشئ نفسه، ولأن اللفظ دل على نفى الذات بالصريح وعلى نفى الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفى الذات بقيت دلالته على نفى الصفات مستمرة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1) فى بدء الوحى، باب: بدء الوحى، ومسلم (1907) فى الإمارة، باب: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنية» .

قال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية، قدروا: صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا: كمال الأعمال. ورجح الأول لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى. وفى هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية، وليس الخلاف بينهم فى ذلك إلا فى الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم فى اشتراط النية لها. ومن ثم خالف الحنفية فى اشتراطها للوضوء كما تقدم، وخالف الأوزاعى فى اشتراطها فى التيمم أيضا. نعم بين العلماء اختلاف فى اقتران النية بأول العمل كما هو معروف فى مبسوطات الفقه. وأما قوله- أى البخارى- «فدخل فيه الإيمان» ، فتوجيه دخول النية فى الإيمان على طريقة البخارى: أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب، من خشية الله وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة لله فلا تحتاج إلى نية تميزها، لأن النية إنما تميز العمل لله عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحمية. وقوله أيضا: «والأحكام» أى المعاملات التى يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فتشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وكل صورة لم تشترط فيها النية فذلك لدليل خاص. وقد ذكر ابن المنير ضابطا- لما تشترط فيه النية مما لا تشترط فيه- فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتقاضته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب. قال: وإنما اختلف العلماء فى بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة. قال: وأما ما كان من المعانى المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويّا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلى.

وأما الأقوال، فتحتاج إلى النية فى ثلاثة مواطن: أحدها: التقرب إلى الله تعالى فرارا من الرياء، والثانى: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود. والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى، ذكره الحافظ ابن حجر فى فتح البارى. وقد اختلف العلماء فى الوقت الذى وجب فيه الوضوء: فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «1» الآية. ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه- صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة، كما افترضت الصلاة، وأنه لم يصل قطّ إلا بوضوء، وقال: وهذا مما لا يجهله عالم. وقال الحاكم فى المستدرك: أهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة- رضى الله عنها- على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهى تبكى فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: «ائتونى بوضوء فتوضأ» «2» . قال الحافظ ابن حجر: وذا يصلح أن يكون ردّا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الجهم المالكى بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة. ورد عليه بما أخرجه ابن لهيعة فى المغازى التى يرويها عن أبى الأسود عن عروة أن جبريل- عليه السّلام- علم النبى- صلى الله عليه وسلم- الوضوء عند نزوله عليه بالوحى. وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن قال: عن الزهرى عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهرى نحوه،

_ (1) سورة المائدة: 6. (2) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 268) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الحاكم: حديث صحيح ولا أعلم له علة. قلت: إن مولد ابن عباس- رضى الله عنهما- كان فى الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، فمتى تحمل رواية هذا الخبر فى مكة قبل الهجرة!.

لكن لم يذكر زيد بن حارثة فى السند، وأخرجه الطبرانى فى الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا. ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. وعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة. قيل له: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث «1» . رواه البخارى وأبو داود والترمذى. وعن عثمان- رضى الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ لكل صلاة. رواه الدارمى. وروى مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى صلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئا لم تكن تفعله، فقال: «عمدا فعلته يا عمر» «2» يعنى لبيان الجواز. وفى رواية أحمد وأبى داود، من حديث عبد الله بن أبى عامر الغسيل، أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة» ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. واختلف العلماء فى موجب الوضوء: فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا. وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معا، ورجحه جماعة من الشافعية. وقيل: بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس مرفوعا: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة. وقد تمسك بحديث عبد الله بن أبى عامر هذا من قال بوجوب السواك عليه- صلى الله عليه وسلم-، لكن فى إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (214) فى الوضوء، باب: الوضوء من غير حدث، وأبو داود (171) فى الطهارة، باب: الرجل يصلى الصلوات بوضوء واحد، والترمذى (60) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء لكل صلاة. (2) صحيح: أخرجه مسلم (277) فى الطهارة، باب: جواز الصلوات كلها بوضوء واحد. (3) حسن: أخرجه أبو داود (48) فى الطهارة، باب: السواك، والدارمى (658) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 258) والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

وأخرج الطبرانى فى الأوسط والبيهقى فى السنن عن عائشة مرفوعا: «ثلاث هن علىّ فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل» «1» . وقد روى أحمد فى مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على» «2» . وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا. لكن حكى عن بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة ونوزع فيه. واتفقوا على أنه مستحب مطلقا، ويتأكد بأحوال: منها: عند الوضوء وإرادة الصلاة. ومنها: عند القيام من النوم، لما ثبت فى الصحيحين من حديث حذيفة أنه- صلى الله عليه وسلم- (كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) «3» لكن قد يقال: المراد، قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك للصلاة وعند الوضوء. ومنها: قراءة القرآن، كما جزم به الرافعى. ومنها: تغير الفم، سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان، كما ذكره الرافعى. ومنها: دخول المنزل، جزم به النووى فى زيادة الروضة، لما روى مسلم وأبو داود والنسائى وابن ماجه، من حديث عائشة، أنه- صلى الله عليه وسلم- (كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك) «4» .

_ (1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (1/ 231) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 441) ، والدار قطنى فى «سننه» (2/ 21) ، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 468) و (9/ 264) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، بسند فيه أبو جناب الكلبى، اسمه يحيى بن أبى حية، ضعيف الحديث، ولم يتابع عليه. (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 490) ، والطبرانى فى «الكبير» (22/ 76) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 98) وقال: وفيه ليث بن أبى سليم، وهو ثقة مدلس، وقد عنعنه. (3) صحيح: أخرجه البخارى (246) فى الوضوء، باب: السواك، ومسلم (255) فى الطهارة، باب: السواك. (4) صحيح: أخرجه مسلم (253) فى الطهارة، باب: السواك.

ومنها: إرادة النوم، كما ذكره الشيخ أبو حامد «1» فى «الرونق» «2» ، وروى فيه ما رواه ابن عدى فى الكامل من حديث جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يستاك إذا أخذ مضجعه «3» . وفيه: حرام بن عثمان، متروك. ومنها: الانصراف من صلاة الليل، لما روى ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد صحيح قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك «4» . ويجزئ بكل خشن، ولو بأصبع غيره الخشنة، وقد جزم النووى فى شرح المهذب ودقائق المنهاج أنه يجزئ بها قطعا. قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما أدرى ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره وكونه جزآ منه لا يظهر منه ما يقتضى منعه، بل كونها أصبعه أبلغ فى الإزالة، لأنه يتمكن بها أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم. قال النووى فى شرح المهذب: المختار أجزاؤه مطلقا. قال: وبه قطع القاضى حسين والمحاملى فى اللباب والبغوى واختاره فى البحر. انتهى. ولقد أطبق أصحاب الشافعى على استحباب «الأراك» فروى الطبرانى من حديث أبى خيرة الصنابحى- وله صحبة- حديثا قال فيه: ثم أمر لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأراك فقال: «استاكوا بهذا» «5» .

_ (1) هو: الشيخ أبو حامد الإسفرايينى الفقيه الشافعى المعروف، المتوفى سنة 406 هـ. (2) الرونق: مختصر فى فروع الشافعية على طريقة اللباب للمحاملى، وقد اختلف فى مؤلفه، قيل إنه منسوب إلى الشيخ أبى حامد الإسفرايينى، وقيل إنه من تصانيف أبى حاتم القزوينى كذا فى طبقات السبكى، قال ابن السبكى: وهذا غير مستبعد فإن أبا حاتم قرأ على المحاملى والرونق أشبه شئ بكلام المحاملى فى اللباب، انظر كشف الظنون (1/ 934) . (3) ضعيف: لضعيف راويه. (4) صحيح: أخرجه ابن ماجه (288) فى الطهارة، باب: السواك، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح الجامع» (4961) . (5) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (5/ 61- 62) وقال: رواه الطبرانى، وفيه جماعة لم أعرفهم.

وفى مستدرك الحاكم من حديث عائشة فى دخول أخيها عبد الرحمن ابن أبى بكر فى مرضه- صلى الله عليه وسلم- ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة فطيبته ثم أعطته رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستاك به «1» . والحديث فى الصحيح وليس فيه ذكر الأراك. وفى بعض طرقه عند البخارى: ومعه سواك من جريد النخل. وقد روى أبو نعيم فى كتاب السواك، من حديث عائشة قالت: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يستاك عرضا «2» ، وروى البيهقى أيضا من حديث ربيعة بن أكثم قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستاك عرضا الحديث. قال أصحابنا: والمراد بقوله «عرضا» : عرض الأسنان فى طول الفم. وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم بيمينه، لحديث: كان يعجبه التيمن فى ترجله وتنعله وطهره وسواكه. وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطيب، أو من باب إزالة القاذورات. فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمنى، وإن قلنا بالثانى فبشماله لحديث عائشة: كانت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اليمين لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى «3» . رواه أبو داود بإسناد صحيح. قال فى شرح تقريب الأسانيد: وما استدل به على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن فى الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى فى التطهير، والبداءة بالجانب الأيمن فى الاستياك، وأما كونه يفعل ذلك بيمينه فيحتاج إلى نقل، والظاهر أنه من باب إزالة الأذى

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 8) ، وهو فى صحيح البخارى (890) فى الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره، بدون ذكر (الأراك) ورواية (جريد النخل) عند البخارى (4451) . (2) ضعيف: أخرجه البغوى وابن قانع والطبرانى فى الكبير وابن السنى وأبو نعيم فى الطب عن بهز، والبيهقى فى السنن عن ربيعة بن أكثم، كما فى «ضعيف الجامع» (4552) . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (33 و 34) فى الطهارة، باب: كراهية مس الذكر باليمين فى الاستبراء، وأحمد فى «المسند» (6/ 156 و 170 و 265) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

كالامتخاط ونحوه فيكون باليسرى. وقد صرح بذلك أبو العباس أحمد القرطبى فقال فى «المفهم» حكاية عن مالك: أنه لا يتسوك فى المساجد لأنه من باب إزالة القذر والله أعلم. وأما مقدار ما كان- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ أو يغتسل به من الماء: فعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد، وفى رواية: كان يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود وعنده: يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع. ورواه الترمذى وعنده: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «يجزئ فى الوضوء رطلان من الماء» «2» . وعن عائشة قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد «3» . رواه أبو داود. وعن ابن عباس، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد «4» . والصاع: خمسة أرطال وثلث، برطل بغداد، وهو على ما قاله النووى مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. وحذر- صلى الله عليه وسلم- أمته من الإسراف فيه. ومر بسعد وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السرف يا سعد؟» قال: أفى الوضوء سرف؟ قال: «نعم، وإن كنت على نهر جار» «5» ، رواه أحمد بإسناد لين، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (201) فى الوضوء، باب: الوضوء بالمد، ومسلم (325) فى الحيض، باب: القدر المستحب من الماء فى غسل الجنابة، وأبو داود (95) فى الطهارة، باب: ما يجزئ من الماء من الوضوء. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (609) فى الجمعة، باب: قدر ما يجزئ من الماء فى الوضوء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (92) فى الطهارة، باب: ما يجزئ من الماء فى الوضوء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) صحيح: أخرجه البخارى (253) فى الغسل، باب: الغسل بالصاع ونحوه، ومسلم (322) فى الحيض، باب: القدر المستحب من الماء فى غسل الجنابة. (5) ضعيف: أخرجه أحمد فى «المسند» (2/ 221) ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنه-، بسند فيه ضعف.

الفصل الثانى فى وضوئه ص مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا

وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء» «1» . رواه الترمذى من حديث أبى بن كعب. الفصل الثانى فى وضوئه ص مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرة مرة «2» . رواه البخارى وأبو داود وغيرهما. وهو بيان لمجمل قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا «3» الآية. إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد، فبين الشارع أن المرة الواحدة، للإيجاب، وما زاد عليها للاستحباب. وأما حديث أبى بن كعب أنه- صلى الله عليه وسلم- دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» «4» ، ففيه بيان القول والفعل معا، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة، كما قال فى فتح البارى. وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توضأ مرتين مرتين وقال: «نور على نور» «5» ذكره رزين، وعن عثمان- رضى الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (57) فى الطهارة، باب: ما جاء فى كراهية الإسراف فى الوضوء بالماء، وابن ماجه (421) فى الطهارة، باب: ما جاء فى القصد فى الوضوء وكراهة التعدى فيه، وأحمد فى «المسند» (5/ 136) ، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (157) فى الوضوء، باب: الوضوء مرة مرة. (3) سورة المائدة: 6. (4) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (420) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، والدار قطنى في «سننه» (1/ 81) ، وقال البوصيرى فى الزوائد. فى إسناده زيد هو العمى، ضعيف، وكذا الراوى عنه، ورواه الإمام أحمد فى مسنده عن أبى إسرائيل عن زيد العمى عن نافع عن ابن عمر. (5) صحيح دون طرفه الأخير: والحديث أخرجه البخارى (158) فى الوضوء، باب: الوضوء مرتين مرتين، ولم أقف على زيادة «نور على نور» .

توضأ ثلاثا ثلاثا «1» . رواه أحمد ومسلم. وعنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا وقال: «هذا وضوئى ووضوء الأنبياء من قبلى ووضوء إبراهيم» «2» . ذكره رزين، وضعفه النووى فى شرح مسلم كما حكاه فى مشكاة المصابيح. ولم يأت فى شئ من الأحاديث المرفوعة فى صفة وضوئه- صلى الله عليه وسلم- أنه زاد على ثلاث، بل روى عنه أنه نهى عن الزيادة على الثلاث. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» «3» ، رواه أبو داود بإسناد جيد، لكن عده مسلم فى جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب، لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة. وأجيب: بأنه أمر نسبى، والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة، وقيل: فيه حذف تقديره: من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه أبو نعيم عن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعا: «الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من واحدة أو زاد على الثلاث فقد أخطأ» «4» وهو مرسل رجاله ثقات. وأجيب عن الحديث أيضا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم يقتصر على قوله: فمن زاد فقط، كذا رواه ابن خزيمة فى صحيحه. قال الشافعى: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد أكرهه، أى لم أحرمه، لأن قوله: لا أحب، يقتضى الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره كراهة تنزيه.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (230) فى الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه. (2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (419) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 79- 81) ، من حديث ابن عمر، ولم أجده من حديث عثمان، وقال البوصيرى فى «الزوائد» فى الإسناد زيد العمى وهو ضعيف، وعبد الرحيم متروك، بل كذاب، ومعاوية بن قرة لم يلق ابن عمر، قاله أبو حاتم فى العلل وصرح به الحاكم فى المستدرك. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (135) فى الطهارة، باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا. (4) المطلب بن حنطب، مختلف فى صحبته بين من أثبتها وبين من نفاها، وعلى ذلك فمن الممكن أن يكون حديثه موصولا.

الفصل الثالث فى صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم

وحكى الدارمى من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء، كالزيادة فى الصلاة، وهو قياس فاسد. وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث. وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم. ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق. الفصل الثالث فى صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان- رضى الله عنه- أنه دعا بإناء فأفرغ على يديه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه فى الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا إلى المرفقين، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من توضأ نحو وضوئى هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» «1» رواه البخارى. وقد استدل بعضهم بقوله: «ثم أدخل يمينه» على عدم اشتراط نية الاغتراف. ولا دلالة فيه نفيّا ولا إثباتا، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس فى هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها. قال الغزالى: مجرد الاغتراف لا يصيّر الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع فى المغترف منه. وبهذا قطع البغوى. وقد ذكروا فى حكمة تأخير غسل الوجه، أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح بالأنف. فقدمت المضمضة والاستنشاق قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة. وقال النووى فى قوله: «نحو وضوئى» ، إنما لم يقل- صلى الله عليه وسلم-: مثل، لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره. لكن تعقبه فى «فتح البارى» بأنه ثبت

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (160) فى الوضوء، باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا.

التعبير بها فى رواية البخارى فى الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران بن عثمان ولفظه: «من توضأ مثل وضوئى هذا» . وفى الصيام من رواية معمر: «من توضأ وضوئى هذا» ، قال: وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة، لأنها تطلق على المثلية مجازا، ولأن «مثل» وإن كانت تقتضى المساواة ظاهرا، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود، انتهى. وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصارى، أنه قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فدعا بإناء، فأكفأ على يديه فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فتمضمض واستنشق من كف واحد ففعل ذلك ثلاثا «1» . ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا. ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح رأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وفى رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذى بدأ منه «2» . رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى. وفى رواية لأبى داود: ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصابعه فى صماخى أذنيه. وفى رواية أبى داود والترمذى والنسائى عن عبد خير، أبى عمارة بن زيد بن خولى- بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء- الهمدانى،

_ (1) زيادة من مصادر التخريج. (2) صحيح: أخرجه البخارى (185) فى الوضوء، باب: مسح الرأس كله، ومسلم (235) فى الطهارة، باب: وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأبو داود (118- 120) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (32) فى الطهارة، باب: ما جاء فى مسح الرأس أنه يبدأ بمقدم الرأس إلى مؤخره، والنسائى (1/ 71) فى الطهارة، باب: حد الغسل، وباب: صفة مسح الرأس، وابن ماجه (434) فى الطهارة، باب: ما جاء فى مسح الرأس، ومالك (1/ 18) فى الطهارة، باب: العمل فى الوضوء.

من كبار أصحاب على بن أبى طالب، قال: أتانا على وقد صلى، فدعا بطهور، فقلنا ما يصنع بالطهور وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا، فأتى بإنا فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر ثلاثا، فمضمض ونثر من الكف الذى يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده اليمنى فى الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله اليسرى ثلاثا، وقال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو هذا «1» . وقال ابن القيم: والصحيح أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكرر مسح رأسه، انتهى. وقال النووى: والأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة وفى بعضها الاقتصار على قوله: مسح. واحتج الشافعى بحديث عثمان- رضى الله عنه- فى صحيح مسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا، وبالقياس على باقى الأعضاء، انتهى. وأجيب: بأنه مجمل مبين فى الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب ويخص بالمغسول، وبأن المسح مبنى على التخفيف فلا يقاس على الغسل الذى المراد منه المبالغة فى الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر فى المسح لصار فى صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء. واحتج الشافعية أيضا بما رواه أبو داود فى سننه عن عثمان من وجهين، صحح أحدهما ابن خزيمة: أنه- صلى الله عليه وسلم- مسح رأسه ثلاثا «2» . وفى رواية أبى داود والترمذى من حديث الربيع بنت معوذ: فغسل كفيه ثلاثا، ووضأ وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة، ووضأ يديه ثلاثا، ومسح رأسه مرتين بدأ

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (116) مختصرا فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (48) فى الطهارة، باب: ما جاء فى وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (1/ 70) فى الطهارة، باب: عدد غسل اليدين، وأحمد فى «المسند» (1/ 127) بسند حسن. (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (110) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، بسند فيه عامر بن شقيق بن جمرة، ضعيف الحديث.

بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه كليهما ظهورهما وبطونهما، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا» . وقد أجاب العلماء عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه. وقال ابن السمعانى- كما حكاه فى فتح البارى- اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا، فليس في رواية مسح مرة حجة على منع التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول، لأن الوضوء طهارة حكمية، ولا فرق فى الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح. قال «2» : ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد، الحديث المشهور الذى صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاصى فى صفة الوضوء بعد أن فرغ: «من زاد على هذا فقد أساء وظلم» «3» فإن فى رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة فى مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث فى تثليث المسح، إن صحت- على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس، جمعا بين الأدلة. انتهى. وفى حديث عبد الله بن زيد- عند البخارى- الذى ذكرته قبل: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. وفى رواية: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما فى المكان الذى بدأ منه. وزاد ابن الطباع بعد قوله: «ثم مسح رأسه» كله، كما هو فى رواية ابن خزيمة. وفى رواية غيره- كما

_ (1) أخرجه أبو داود (126- 131) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، والترمذى (33) فى الطهارة، باب: ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس، وابن ماجه (390) فى الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، و (438) باب: ما جاء فى مسح الرأس، وأحمد فى «المسند» (6/ 379) بسند فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال مشهور، ولا سيما إذا عنعن. (2) القائل هنا: هو الحافظ ابن حجر صاحب فتح البارى. (3) تقدم: وفيه ضعف بهذه الزيادة.

قدمته-: «برأسه» بزيادة الباء، موافقة لقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «1» . قال البيضاوى: «الباء» أى فى الآية مزيدة، وقيل: للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك، مسحت المنديل وبالمنديل، ووجه أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فلكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم، وذلك لا يقتضى الاستيعاب، بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، انتهى. وقال الشافعى: احتمل قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «2» جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ، والفرق بينه وبين قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ «3» فى التيمم، أن المسح فيه بدل عن الغسل، ومسح الرأس أصل فافترقا. ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجل، لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع. وقد روى من حديث عطاء أنه- صلى الله عليه وسلم- توضأ، فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه، وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس «4» ، وفى إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، لكن اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة وهذا مثال لما ذكره الشافعى من أن المرسل يعضد بمرسل آخر أو مسند. وفى الباب أيضا عن عثمان فى صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه،

_ (1) سورة المائدة: 6. (2) سورة المائدة: 6. (3) سورة المائدة: 6. (4) حديث أنس أخرجه أبو داود (147) فى الطهارة، باب: المسح على العمامة وابن ماجه (564) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على العمامة، والحديث فى إسناده أبو معقل الراوى عن أنس مجهول، والراوى عنه عبد العزيز بن مسلم مقبول الحديث، قاله الحافظ فى «التقريب» (4123) .

أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبى مالك مختلف فيه. وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك قاله ابن حزم. قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره. انتهى. واختلف فى القدر الواجب فى مسح الرأس، فذهب الشافعى وجماعة إلى أن الواجب ما ينطلق عليه الاسم ولو شعرة واحدة أخذا باليقين. وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب استيعابه أخذا بالاحتياط. وقال أبو حنيفة فى رواية: الواجب ربعه، لأنه- صلى الله عليه وسلم- مسح على ناصيته وهو قريب من الربع. والله أعلم. وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق «1» . رواه أبو داود. وعنه أيضا قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توضأ، فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد «2» . رواه ابن ماجه. وفى حديث مسلم أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه فى الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات. وفى حديث عبد الله بن زيد عند البخارى: ثم غسل ومضمض واستنشق من كف واحد ثم قال: هكذا وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» . قال النووى: فيه أن السنة فى المضمضة والاستنشاق، أن يأخذ الماء لهما بيمينه، قال: وفى الأفضل فى كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه:

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (139) فى الطهارة، باب: فى الفرق بين المضمضة والاستنشاق، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 51) وقال: قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: أن ابن عيينة كان ينكره ويقول: أيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده. (2) قلت: هو عند ابن ماجه (404) فى الطهارة، باب: المضمضة والاستنشاق من كف واحد، من حديث على- رضى الله عنه-، وذكر حديثان معه فى نفس الباب ليس فيها أحد من طريق طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده. (3) تقدم حديثى عثمان وعبد الله بن زيد- رضى الله عنهما-.

الأصح: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق. والثانى: يجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا. والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق. والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من إحداهما ثلاثا، ثم يستنشق من الآخرى ثلاثا. والخامس: يفصل بست غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات. قال: والصحيح الأول: وبه جاءت الأحاديث الصحيحة. وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى وجوب الاستنشاق، وهو أن يبلغ الماء إلى خياشمه، مستدلين بقوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى هريرة: «إذا توضأ أحدكم فليجعل فى أنفه ماء ثم ليستنثر» «1» لظاهر الأمر. وحمله الجمهور ومالك والشافعى وأهل الكوفة على الندب، لقوله- صلى الله عليه وسلم- للأعرابى: «توضأ كما أمر الله» «2» ، وليس فى الآية المائدة: 6 ذكر الاستنشاق، والله أعلم. وعند أبى داود: كان- صلى الله عليه وسلم- يمسح الماقين «3» . وعن عثمان أنه- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (162) فى الوضوء، باب: الاستجمار وترا، ومسلم (237) فى الطهارة، باب: الإيتار فى الاستنثار والاستجمار. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (861) فى الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود، من حديث رفاعة بن رافع- رضى الله عنه-، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (134) فى الطهارة، باب: صفة وضوء النبى- صلى الله عليه وسلم-، وابن ماجه (444) فى الطهارة، باب: الأذنان من الرأس، وأحمد فى «المسند» (5/ 258 و 264) ، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والراوى عنه شهر بن حوشب، وفيه مقال مشهور.

كان يخلل لحيته «1» ، رواه الترمذى وابن ماجه. وعنده من حديث ابن عمر: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ عرك «2» عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها «3» . وعن أنس كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ أخذ كفّا من ماء فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: «بهذا أمرنى ربى عز وجل» «4» رواه أبو داود. وعن أبى رافع: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ حرك خاتمه «5» . رواه ابن ماجه والدار قطنى وضعفه. وعن المستورد بن شداد: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره «6» ، رواه الترمذى وأبو داود وابن ماجه. وعن عائشة: كانت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اليمنى لطهوره وطعامه. وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى «7» . وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سفر، وأنه ذهب لحاجة له وأن المغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ «8» . رواه

_ (1) حسن: أخرجه الترمذى (31) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، وابن ماجه (430) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح. (2) عرك: أى دلك. (3) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (432) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل اللحية، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» . (4) صحيح: أخرجه أبو داود (145) فى الطهارة، باب: تخليل اللحية، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (5) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (449) فى الطهارة، باب: تخليل الأصابع، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 83) وقال البوصيرى فى «الزوائد» : إسناده ضعيف، لضعف معمر وأبيه محمد بن عبيد الله. (6) حسن: أخرجه أبو داود (148) فى الطهارة، باب: غسل الرجلين، والترمذى (40) فى الطهارة، باب: ما جاء فى تخليل الأصابع، وابن ماجه (446) فى الطهارة، باب: تخليل الأصابع، وأحمد فى «المسند» (4/ 229) ، وقال الترمذى: حديث حسن غريب، وهو كما قال. (7) صحيح: وقد تقدم. (8) صحيح: أخرجه البخارى (182) فى الطهارة، باب: الرجل يوضئ صاحبه، ومسلم (274) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.

البخارى ومسلم. وعن صفوان بن عسال: صببت على النبى- صلى الله عليه وسلم- الماء فى السفر والحضر فى الوضوء «1» . رواه ابن ماجه. وفى ذلك جواز استعانة الرجل بغيره فى صب الماء فى الوضوء من غير كراهة، وكذا إحضار الماء من باب أولى، ولا دليل فى هذين الحديثين لجواز الإعانة المباشرة. وقد روى الحاكم فى المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بوضوء فقال: «أمسكى» ، فمسكت عليه. وهذا أصرح فى عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه فى الحضر، ولكونه بصيغة الطلب، والله أعلم. وفى الترمذى، من حديث معاذ بن جبل: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه «2» . وعن عائشة: كانت له- صلى الله عليه وسلم- خرقة ينشف بها بعد الوضوء «3» . قال الترمذى: هذا الحديث ليس بالقائم، وأبو معاذ الراوى ضعيف عند أهل الحديث. وقد احتجم- صلى الله عليه وسلم- ولم يتوضأ، ولم يزد، على غسل محاجمه «4» ، رواه الدار قطنى. وأكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ «5» . رواه البخارى ومسلم. وللنسائى: قال كان آخر الأمرين من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (391) فى الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، وفى إسناده حذيفة بن أبى حذيفة، لم يعرف إلا بهذا الحديث، ولذا قال عنه الحافظ فى «التقريب» (1155) : مقبول، أى: عند المتابعة. (2) إسناده ضعيف: أخرجه الترمذى (54) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المنديل بعد الوضوء، وقال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : إسناده ضعيف. (3) ضعيف: أخرجه الترمذى (53) فيما سبق، وقال الترمذى: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذا الباب شئ، وهو كما قال. (4) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 151، 152) وضعفه. (5) صحيح: أخرجه البخارى (207) فى الوضوء، باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، ومسلم (354) فى الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار، من حديث عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما-.

الفصل الرابع فى مسحه ص على الخفين

مما غيرت النار «1» . وشرب- صلى الله عليه وسلم- لبنا ولم يتمضمض ولم يتوضأ وصلى «2» . رواه أبو داود، وأتى بالسويق فأمر به فثرى فأكل منه، ثم قام إلى المغرب فتمضمض «3» . رواه البخارى ومالك والنسائى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام من النوم ربما توضأ، وربما لم يتوضأ، لأن عينه تنام ولا ينام قلبه «4» كما فى البخارى وغيره. وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره. قال الخطابى: وإنما منع قلبه النوم ليعى الوحى الذى يأتيه فى منامه. الفصل الرابع فى مسحه ص على الخفين اعلم أنه قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه قد روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وقد أشار الشافعى فى الأم إلى إنكار ذلك على المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا،

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (192) فى الطهارة، باب: فى ترك الوضوء مما مست النار، والنسائى (1/ 108) فى الطهارة، باب: ترك الوضوء مما غيرت النار، من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) حسن: أخرجه أبو داود (197) فى الطهارة، باب: الرخصة فى ذلك، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» وهو فى الصحيحين عن ابن عباس بلفظ: «ثم دعا بماء فتمضمض» . (3) صحيح: أخرجه البخارى (209) فى الوضوء، باب: من مضمض من السويق ولم يتوضأ، والنسائى (1/ 108) فى الطهارة، باب: المضمضة من السويق، ومالك فى «الموطأ» (1/ 26) ، من حديث سويد بن النعمان- رضى الله عنه-. (4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (3569) فى المناقب، باب: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- تنام عيناه ولا ينام قلبه، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وثانيهما: للمسافر دون المقيم، وهذا الثانى مقتضى ما فى «المدونة» ، وبه جزم ابن الحاجب. وقال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل، المسح على الخفين أو نزعهما وغسل الرجلين؟ والذى اختاره: أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض. وقال النووى: مذهب أصحابنا أن الغسل أفضل لكونه الأصل، لكن بشرط أن لا يترك المسح. وقد تمسك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ «1» عطفا على وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «2» . فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين، وحكى عن ابن عباس فى رواية ضعيفة، والثابت عنه خلافه. وعن عكرمة والشعبى وقتادة: الواجب الغسل أو المسح. وعن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما. وحجة الجمهور: الأحاديث الصحيحة من فعله- صلى الله عليه وسلم- كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-، فإنه بيان للمراد، وأجابوا عن الآية بأجوبة. منها: أنه قرئ وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب عطفا على أيديكم. وقيل: إنه معطوف على محل بِرُؤُسِكُمْ «4» ، كقوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «5» بالنصب. وقيل: المسح فى الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة «الجر» على مسح الخفين، وقراءة «النصب» على غسل الرجلين. وجعل البيضاوى «الجر» على الجوار، قال: ونظيره فى القرآن كقوله

_ (1) سورة المائدة: 6. (2) سورة المائدة: 6. (3) سورة المائدة: 6. (4) سورة المائدة: 6. (5) سورة سبأ: 10.

تعالى: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ «1» وَحُورٌ عِينٌ «2» بالجر فى قراءة حمزة والكسائى. وقولهم «جحر ضب خرب» وللنحاة باب فى ذلك. وفائدته: التنبيه على أنه ينبغى أن يقتصد فى صب الماء عليهما ويغسلا غسلا يقرب من المسح. انتهى. وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غزوة تبوك، فتبرز رسول الله قبل الغائط فحملت معه إداوة- قبل الفجر- فلما رجع أخذت أهريق على يديه من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يده من تحت الجبة؛ وألقى الجبة على منكبيه وغسل ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: «دعهما فإنى أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما، ثم ركب وركبت» «3» . الحديث رواه مسلم. وعند الترمذى من حديث المغيرة أيضا أنه- صلى الله عليه وسلم- مسح على الخفين على ظاهرهما «4» . وعند أبى داود من حديثه أيضا: ومسح- عليه الصلاة والسلام- على الجوربين والنعلين «5» . وعنه قال: مسح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الخفين، فقلت: يا رسول الله، نسيت، فقال: «بل أنت نسيت، بهذا أمرنى ربى عز وجل» «6» . رواه أبو داود وأحمد. وعن عمرو بن أمية

_ (1) سورة هود: 26. (2) سورة الواقعة: 22. (3) صحيح: أخرجه البخارى (363) فى الصلاة، باب: الصلاة فى الجبة الشامية، ومسلم (274) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (98) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على الخفين ظاهرهما، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (5) صحيح: أخرجه أبو داود (159) فى الطهارة، باب: المسح على الجوربين، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (6) ضعيف: أخرجه أبو داود (156) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين، وأحمد فى «المستدرك» (4/ 253) من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

الفصل الخامس فى تيممه صلى الله عليه وسلم

الضمرى قال: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يمسح على عمامته وخفيه «1» . رواه البخارى. وقال على بن أبى طالب: جعل- صلى الله عليه وسلم- المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم «2» . رواه مسلم. الفصل الخامس فى تيممه صلى الله عليه وسلم اعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو من خصائص هذه الأمة. وأجمعوا على أن التيمم لا يكون إلا فى الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أكبر، أو عن حدث أصغر، وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها. واختلفوا فى كيفيته: فمذهبنا ومذهب الأكثرين، أنه لا بد من ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين «3» . وعن حذيفة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» «4» رواه مسلم. وفى رواية أبى أمامة عند البخارى: «جعلت الأرض كلها لى ولأمتى مسجدا وطهورا» «5» . وهذا

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (205) فى الوضوء، باب: المسح على الخفين، وابن ماجه (562) فى الطهارة، باب: ما جاء فى المسح على العمامة، وأحمد فى «المسند» (1/ 204 و 205) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (276) فى الطهارة، باب: التوقيت فى المسح على الخفين. (3) قال الألبانى فى «الإرواء» (1/ 185) ، واعلم أنه قد روى هذا الحديث عن عمار بلفظ ضربتين، كما وقع فى بعض طرقه إلى المرفقين، وكل ذلك معلول لا يصح، قال الحافظ فى «التلخيص» (1/ 153) : وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روى عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وقد جمع البيهقى طرق حديث عمار فأبلغ. (4) صحيح: أخرجه مسلم (522) فى المساجد، باب: رقم (1) . (5) قلت: الحديث عند أحمد فى «المسند» (5/ 248) ، وليس فى البخارى كما قال المصنف، والحديث صححه الألبانى فى «الإرواء» (152) .

الفصل السادس فى غسله صلى الله عليه وسلم

عام، وحديث حذيفة خاص، فينبغى أن يحمل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب. ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ «التربة» على خصوصية التيمم بالتراب، بأن قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب: بأنه ورد فى الحديث بلفظ التراب، أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفى حديث على «وجعل لى التراب طهورا» أخرجه أحمد والبيهقى بإسناد حسن. وعن عمار: قال رجل لعمر بن الخطاب: إنى أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا فى سفر، أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنما كان يكفيك هكذا» ، وضرب النبى- صلى الله عليه وسلم- بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه «1» رواه البخارى ومسلم. واستدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب، وسقوط استحباب التكرار فى التيمم لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف. وعن أبى الجهيم بن الحارث بن الصمة قال: مررت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد على، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد على، رواه البغوى فى شرح السنة وقال: حديث حسن. وهذا محمول على أن الجدار كان مباحا، أو مملوكا لإنسان كان يعرف رضاه. الفصل السادس فى غسله صلى الله عليه وسلم والغسل- بضم الغين- اسم للاغتسال. وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح، حكاه ابن سيده وغيره. وقيل: المصدر بالفتح، والاغتسال بالضم. وقيل: الغسل- بالفتح-: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذى يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (338) فى التيمم، باب: المتيمم هل ينفخ فيهما، ومسلم (368) فى الحيض، باب: التيمم.

كالإشنان. وحقيقة الغسل: جريان الماء على الأعضاء. وحقيقة الاغتسال: غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية. ووجوب الغسل على الجنب مستفاد من قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «1» وقوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا «2» . ففى الآية الأولى إجمال، وهو قوله تعالى: فَاطَّهَّرُوا «3» بينه قوله فى الآية الثانية: حَتَّى تَغْتَسِلُوا «4» . ويؤيده قوله تعالى فى الحائض: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ «5» المفسر ب «اغتسلن» . اتفاقا. وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطوف على نسائه بغسل واحد «6» . رواه مسلم من حديث أنس. وعن أبى رافع: طاف- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: قلت له: يا رسول الله، ألا تجعله غسلا واحدا آخرا، قال: «هذا أزكى وأطيب وأطهر» «7» . رواه أحمد وأبو داود والنسائى. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجب الغسل بين الجماعين وأما الوضوء

_ (1) سورة المائدة: 6. (2) سورة النساء: 43. (3) سورة المائدة: 6. (4) سورة النساء: 43. (5) سورة البقرة: 222. (6) صحيح: أخرجه مسلم (309) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (7) حسن: أخرجه أبو داود (219) فى الطهارة، باب: الوضوء لمن أراد أن يعود، والنسائى فى «الكبرى» كما فى «التحفة» (9/ 206) ، وابن ماجه (590) فى الطهارة، باب: فيمن يغتسل عند كل واحدة غسلا، وأحمد فى «المسند» (6/ 8) ، قلت: وقد رد البعض هذا الحديث بحديث أنس السابق، والأمر أنه ليس بينه وبين حديث أنس اختلاف، بل كان يفعل هذا مرة وذاك أخرى، ليدل الحديث على استحباب الغسل قبل المعاودة ولا خلاف فى ذلك.

فاستحبه الجمهور، وقال أبو يوسف إنه لا يستحب، وأوجبه ابن حبيب من المالكية، وأهل الظاهر، لحديث: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوآ» «1» رواه مسلم. وحمله بعضهم على الوضوء اللغوى، فقال: المراد به غسل الفرج، انتهى. وقالت عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه فى الماء فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جسده كله «2» . رواه البخارى. ويحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم. ويدل عليه زيادة ابن عيينة فى هذا الحديث عن هشام «قبل أن يدخلهما فى الإناء» «3» رواه الشافعى والترمذى وزاد أيضا: «ثم يغسل فرجه» «4» وكذا لمسلم وأبى داود. وهى زيادة جليلة، لأن تقديم غسله يحصل به الأمن من مسه فى أثناء الغسل. ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد، ويحتمل أن يكتفى بغسلها فى الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة فى أول عضو. وإنما قدم أعضاء الوضوء تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى. ونقل ابن بطال: الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل. وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (308) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (248) فى الغسل، باب: الوضوء قبل الغسل، ومسلم (316) فى الحيض، باب: صفة غسل الجنابة. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (104) فى الطهارة، باب: ما جاء فى الغسل من الجنابة. (4) صحيح: أخرجه مسلم (316) فى الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، والنسائى (1/ 133) فى الطهارة، باب: ذكر عدد غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء.

وقوله: «فيخلل بها أصول الشعر» أى شعر رأسه، ويدل عليه رواية حماد بن سملة عن هشام- عند البيهقى-: يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك. وقال القاضى عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية فى الغسل. إما لعموم قوله: «أصول الشعر» وإما بالقياس على شعر الرأس. وفائدة التخليل، إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء، وهذا التخليل غير واجب اتفاقا، إلا إن كان الشعر متلبدا بشئ يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله. واختلف فى وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر. ونقل عن مالك والمزنى: وجوبه، واحتج له ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك فى الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما. وتعقب: بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد فى الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطل الإجماع وانتفت الملازمة. وفى قوله فى هذا الحديث: «ثلاث غرفات» استحباب التثليث فى الغسل. قال النووى: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما انفرد به الماوردى، فإنه قال: لا يستحب التكرار فى الغسل. قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى- ومنه لخصت ما ذكرته- قلت: وكذا قال الشيخ أبو على السنجى وكذا قال القرطبى. وقالت ميمونة: وضعت له- صلى الله عليه وسلم- ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثا، ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه «1» . رواه البخارى. ولم يقيد فى هذه الرواية بعدد، فيحمل على أقل مسمى الغسل، وهو مرة واحدة لأن الأصل عدم الزيادة عليها. وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق فى غسل الجنابة، لقوله: «ثم مضمض واستنشق» وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما. وتعقب: بأن الفعل

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (257) فى الغسل، باب: الغسل مرة واحدة.

المجرد لا يدل على الوجوب، إلا إذا كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك. وعنها (توضأ- صلى الله عليه وسلم- وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء ثم نحى رجليه فغسلهما) «1» رواه البخارى. وفيه التصريح بتأخير الرجلين فى وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة. ويمكن الجمع بينهما، إما بحمل رواية عائشة على المجاز، وإما بحمله على حالة أخرى. وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء. فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين. وعن مالك: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية: فى الأفضل قولان، قال النووى: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه. قال: ولم يقع فى شئ من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس فى هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن الوضوء للغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفى عنه بغسلها. وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما أنا فأفيض على رأسى ثلاثا، وأشار بيديه كلتيهما» «2» رواه البخارى. وفيه عن أبى هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما قام فى مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: «مكانكم» ، ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه «3» . وقوله: «ذكر» أى تذكر، لا أنه قال ذلك لفظا، وعلم

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (249) فى الغسل، باب: الوضوء قبل الغسل، من حديث ميمونة- رضى الله عنها-، وهو رواية للحديث السابق. (2) صحيح: أخرجه البخارى (254) فى الغسل، باب: من أفاض على رأسه ثلاثا، ومسلم (327) فى الحيض، باب: استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثا، واللفظ للبخارى، ولعله اقتصر فى العزو للبخارى فقط لذلك. (3) صحيح: أخرجه البخارى (275) فى الغسل، باب: إذا ذكر فى المسجد أنه جنب، ومسلم (605) فى المساجد، باب: متى يقوم الناس للصلاة.

الراوى ذلك من قرائن، أو بإعلامه له بعد ذلك. وظاهر قوله: «فكبر» الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول فى الصلاة. وعنده أيضا من حديث ميمونة: وضعت للنبى- صلى الله عليه وسلم- غسلا وسترته بثوب، وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فتمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته ثوبا فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه «1» . وقد استدل بعضهم بقولها: «فناولته ثوبا فلم يأخذه» على كراهة التنشيف بعد الغسل. ولا حجة فيه، لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة أو غير ذلك. قال المهلب «2» : يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة بلل الماء، وللتواضع، أو لشئ رآه فى الثوب من حرير أو وسخ. وقد وقع عند أحمد فى هذا الحديث عن الأعمش قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعى فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال التيمى فى شرحه: فى هذا الحديث دليل على أنه كان ينشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة فى التنشيف لأن كلّا منهما إزالة. وقال النووى: اختلف أصحابنا فيه على خمسة أوجه، أشهرها: أن المستحب تركه، وقيل مكروه، وقيل مباح، وقيل مستحب، وقيل مكروه فى الصيف مباح فى الشتاء. وفي هذا الحديث جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا ماء الوضوء، ولكن فيه حديث ضعيف أورده الرافعى وغيره، ولفظه: «تنفضوا أيديكم فى الوضوء فإنها مراوح الشيطان» قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووى. وقالت عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (266) فى الغسل، باب: من أفرغ بيمينه على شماله فى الغسل. (2) هو: المهلب بن أحمد بن أبى صفرة، وقد تقدمت ترجمته.

النوع الثانى فى ذكر صلاته ص

فرجه وتوضأ للصلاة» . رواه البخارى. وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف. وقوله: «وتوضأ للصلاة» أى وضوآ كما للصلاة، أى وضوآ شرعيّا لا لغويّا، وليس المراد أنه توضأ لأداء الصلاة. والحكمة فيه أنه يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبى شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابى قال: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة. وقيل: الحكمة فيه أنه أحد الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه، وقد روى البيهقى بإسناد حسن عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أجنب وأراد أن ينام توضأ أو تيمم. ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، وقيل غير ذلك. انتهى ملخصا من فتح البارى. النوع الثانى فى ذكر صلاته ص اعلم أن بالصلاة يحصل تحقيق العبودية، وأداء حق الربوبية وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة. وقد جمع الله تعالى للمصلين فى كل ركعة ما فرق على أهل السموات، فلله ملائكة فى الركوع منذ خلقهم الله تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود والقيام والقعود. واجتمع فيها أيضا من العبوديات ما لم يجتمع فى غيرها، منها: الطهارة والصمت واستقبال القبلة، والاستفتاح بالتكبير، والقراءة والقيام

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (288) فى الغسل، باب: الجنب يتوضأ ثم ينام، ومسلم (305) فى الحيض، باب: جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له.

والركوع والسجود، والتسبيح فى الركوع، والدعاء فى السجود، إلى غير ذلك. فهى مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة، والقراءة بمجردها عبادة وكذا كل فرد فرد. وقد أمر الله تعالى نبيه بالصلاة فى قوله سبحانه: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ «1» ، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «2» . وفى ذلك- كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير «3» : أمدنا الله بمدده- إشارة إلى أن فى الصلاة تكليفا للنفوس شاقّا عليها، لأنها تأتى فى أوقات ملاذّ العباد وأشغالهم، فيطالبون بالخروج عن ذلك كله إلى القيام بين يديه، والفراغ مما سوى الله تعالى، فلذلك قال تعالى: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «4» . قال: ومما يدل على أن فى القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية، قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «5» . فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج فى الصلاة إلى الصبر، صبر على ملازمة أوقاتها، وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها، وصبر يمنع القلوب فيها من غفلاتها، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «6» فأفرد الصلاة بالذكر ولم يفرد الصبر، إذ لو كان كذلك لقال: وإنه لكبير، فذلك يدل على ما قلنا، أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر، كما قال تعالى فى الآية الآخرى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «7» . انتهى ملخصا. ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام:

_ (1) سورة العنكبوت: 45. (2) سورة طه: 132. (3) هو: كتاب «التنوير فى إسقاط التدبير» لابن عطاء الله الإسكندرانى المتوفى سنة (709 هـ) . انظر كشف الظنون لحاجى خليفة (1/ 502) . (4) سورة طه: 132. (5) سورة البقرة: 45. (6) سورة البقرة: 45. (7) سورة التوبة: 62.

القسم الأول فى الفرائض وما يتعلق بها وفيه أبواب

[القسم الأول] فى الفرائض وما يتعلق بها وفيه أبواب الباب الأول فى الصلوات الخمس وفيه فصول: الفصل الأول فى فرضها عن أنس قال: فرضت على النبى- صلى الله عليه وسلم- ليلة أسرى به خمسون صلاة، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نادى: يا محمد إنه لا يبدل القول لدى، وإن لك بهذه الخمس خمسين «1» . رواه الترمذى هكذا مختصرا، ورواه البخارى ومسلم من حديث طويل تقدم فى مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث. وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين، وفى الخوف ركعة «2» . رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقوله: «فى الخوف ركعة» محمول على أن المراد ركعة مع الإمام وينفرد بالآخرى. وعن عائشة: فرض الله الصلاة- حين فرضها- ركعتين ركعتين، ثم أتمها فى الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى «3» . رواه

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) ، وأبو داود (1247) فى الصلاة، باب: من قال يصلى بكل طائفة ركعة ولا يقضون، والنسائى (3/ 118) فى أول كتاب تقصير الصلاة فى السفر. (3) صحيح: أخرجه البخارى (350) فى الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة فى الإسراء، وأطرافه (1090 و 3935) ، ومسلم (685) فى أول صلاة المسافرين.

الفصل الثانى فى ذكر تعيين الأوقات التى صلى فيها - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس

البخارى. وعنده- فى كتاب الهجرة- من طريق معمر عن الزهرى، عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر- صلى الله عليه وسلم- ففرضت أربعا. فعيّن فى هذه الرواية أن الزيادة فى قوله فى الحديث الذى قبله «وزيد فى صلاة الحضر» وقعت بالمدينة. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية، وبنوا عليه: أن القصر فى السفر عزيمة لا رخصة. واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ «1» ، لأن نفى الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شئ أطول منه، ويدل على أنه رخصة أيضا قوله- عليه الصلاة والسلام-: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» «2» رواه مسلم. وأما خبر: فرضت الصلاة ركعتين، أى فى السفر فمعناه: لمن أراد الاقتصار عليهما، جمعا بين الأخبار. قاله فى المجموع. الفصل الثانى فى ذكر تعيين الأوقات التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس عن جابر: أن جبريل- عليه الصلاة والسلام- أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل ظل شخصه، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصلى العصر، ثم أتاه جبريل حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى المغرب، ثم تاه جبريل حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلفه، والناس خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصلى الغداة.

_ (1) سورة النساء: 101. (2) صحيح: أخرجه مسلم (685) فى أول صلاة المسافرين، من حديث عمر- رضى الله عنه-.

ثم أتاه فى اليوم الثانى حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثلى شخصه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة. ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت «1» . رواه النسائى. وفى رواية قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفئ قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفئ قدر الشراك، وظل الرجل مثله، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين الفجر، ثم صلى الغداة- أى الظهر- حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل- شك أحد رواته- ثم صلى الفجر فأسفر. وعن ابن عباس: قال- صلى الله عليه وسلم-: «أمّنى جبريل عند البيت مرتين، فصلى بى الظهر فى الأولى حين كان الفئ مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم» «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (150) فى الصلاة، باب: ما جاء فى مواقيت الصلاة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، والنسائى (1/ 251- 252) فى المواقيت، باب: أول وقت العصر، و (1/ 255- 256) ، باب: آخر وقت العصر، و (1/ 261) باب: آخر وقت المغرب، و (1/ 263) باب: أول وقت العشاء، وأحمد فى «المسند» (3/ 330 و 351) ، والحديث صححه الألبانى فى «الإرواء» (250) . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (393) فى الصلاة، باب: فى المواقيت، والترمذى (149) فى الصلاة، باب: ما جاء فى مواقيت الصلاة عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأحمد فى «المسند» (1/ 333) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (249) .

وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شئ مثله كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثليه، ثم صلى المغرب كوقت الأولى، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إلى جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين، رواه الترمذى وغيره. وقوله: «صلى بى الظهر حين كان ظل كل شئ مثله» أى فرغ منها حينئذ، كما شرع فى العصر فى اليوم الأول، وحينئذ فلا اشتراك بينهما فى وقت، ويدل له حديث مسلم «وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم تحضر العصر» . وقوله فى حديث جابر «فصلى الظهر حين زالت الشمس» يقتضى جواز فعل الظهر إذا زالت الشمس، ولا ينتظر بها وجوبا ولا ندبا مصير الفئ، مثل الشراك، كما اتفقت عليه أئمتنا ودلت عليه الأخبار الصحيحة، وأما حديث ابن عباس فالمراد به أنه حين زالت الشمس كان الفئ حينئذ مثل الشراك، لا أنه أخر إلى أن صار مثل الشراك. ذكره فى المجموع. وقد بيّن ابن إسحاق فى المغازى أن صلاة جبريل به- صلى الله عليه وسلم- كانت صبيحة الليلة التى فرضت الصلاة فيها، وهى ليلة الإسراء. ولفظه: قال نافع ابن جبير وغيره: لما أصبح- صلى الله عليه وسلم- من الليلة التى أسرى به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت «الأولى» - أى صلاة الظهر- فأمر فصيح بأصحابه: «الصلاة جامعة» ، فاجتمعوا فصلى به جبريل وصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه فذكر الحديث. وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبى- صلى الله عليه وسلم-. وإنما دعاهم بقوله: «الصلاة جامعة» لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ. واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره. ويجاب عنه بما يجاب عن قصة أبى بكر فى صلاته خلف النبى- صلى الله عليه وسلم- وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط، كما سيأتى تقريره- إن شاء الله تعالى-.

وقد صلى- صلى الله عليه وسلم- العصر والشمس فى حجرة عائشة لم يظهر الفئ من حجرتها «1» . رواه البخارى ومسلم. وقال أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالى فيأتيهم والشمس مرتفعة «2» ، وبعض العوالى من المدينة على أربعة أميال. رواه البخارى. وفى ذلك دليل على تعجيله- صلى الله عليه وسلم- بصلاة العصر، لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضى مسافة أربعة أميال، والمراد بالشمس ضوؤها وعن سلمة بن الأكوع أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب «3» . رواه البخارى ومسلم والترمذى. وعن رافع بن خديج: كنا نصلى المغرب معه- صلى الله عليه وسلم- فينصرف أحدنا، وإنه ليرى مواقع نبله «4» . رواه البخارى ومسلم. والنبل- بفتح النون-: السهام العربية: أى يبصر مواقع سهامه إذا رمى بها، ومقتضاه المبادرة بالمغرب فى أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باق. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل «5» . رواه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (545) فى المواقيت، باب: وقت العصر، ومسلم (611) فى المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس. (2) صحيح: أخرجه البخارى (548 و 550 و 551) فى المواقيت، باب: وقت العصر، ومسلم (621) فى المساجد، باب: استحباب التبكير بالعصر. (3) صحيح: أخرجه البخارى (561) فى المواقيت، باب: وقت المغرب، ومسلم (636) فى المساجد، باب: بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس، وأبو داود (417) فى الصلاة، باب: فى وقت المغرب، والترمذى (164) فى الصلاة، باب: ما جاء فى وقت المغرب، وابن ماجه (688) فى الصلاة، باب: وقت صلاة المغرب. (4) صحيح: أخرجه البخارى (559) فى المواقيت، باب: وقت المغرب، ومسلم (637) فى المساجد، باب: بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس. (5) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 248) فى المواقيت، باب: تعجيل الظهر فى البرد، وللبخارى نحوه أخرجه برقم (560) من حديث جابر- رضى الله عنه-.

النسائى من حديث أنس. ويؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية «1» . رواه أبو داود من رواية على بن شيبان. وقال- عليه الصلاة والسلام-: «إذا قدّم العشاء فابدؤوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم» «2» ، رواه البخارى ومسلم. وعند أبى داود: «ولا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره» «3» . واعتم- صلى الله عليه وسلم- بالعشاء ليلة، حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما ينتظرها من أهل الأرض أحد غيركم» ، قال: ولا تصلى يومئذ إلا بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول «4» . زاد فى رواية: وذلك قبل أن يفشوا الإسلام. وفى رواية: فخرج ورأسه تقطر ماء يقول: «لولا أن أشق على أمتى، أو على الناس، لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة» «5» . رواه البخارى ومسلم. وفى رواية أبى داود من حديث أبى سعيد: فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: «خذوا مقاعدكم» ، فأخذنا مقاعدنا، فقال: «إن الناس قد صلوها وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتم الصلاة،

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (408) فى الصلاة، باب: فى وقت صلاة العصر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى ضعيف سنن أبى داود. (2) صحيح: أخرجه البخارى (672) فى الأذان، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم (557) فى المساجد، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذى يريد أكله فى الحال، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود عن جابر كما فى «ضعيف الجامع» (6182) . (4) صحيح: أخرجه البخارى (566) فى المواقيت، باب: فضل العشاء، وأطرافه (569 و 862 و 864) ، ومسلم (638) فى المساجد، باب: وقت العشاء وتأخيرها، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (5) صحيح: أخرجه البخارى (7239) فى التمنى، باب: ما يجوز من اللهو، ومسلم (639) فى المساجد، باب: وقت العشاء وتأخيرها، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

الفصل الثالث فى ذكر كيفية صلاته ص وفيه فروع:

ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لآخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل» «1» . وفى حديث أبى هريرة: «لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» «2» ، صححه الترمذى. فعلى هذا: من وجد به قوة على تأخيرها ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمورين فالتأخير فى حقه أفضل. وقد قرر النووى ذلك فى شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية وغيرهم. وقال الطحاوى: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعى فى الجديد. وقال فى القديم: التعجيل أفضل. وكذا قال فى «الإملاء» وصححه النووى فى جماعة، وقالوا: إنه مما يفتى به على القديم. وتعقب: بأنه ذكره فى «الإملاء» وهو من كتبه الجديدة. والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، قاله فى فتح البارى. الفصل الثالث فى ذكر كيفية صلاته ص وفيه فروع: الفروع الأول: فى صفة افتتاحه صلى الله عليه وسلم روى أبو داود أنه- عليه الصلاة والسلام- سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال: «أقامها الله وأدامها» «3» . وكان- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (422) في الصلاة، باب: فى وقت العشاء الآخرة، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه الترمذى (167) فى الصلاة، باب: ما جاء فى تأخير صلاة العشاء الآخرة، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهو كما قال. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (528) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع الإقامة، والبيهقى فى «الكبرى» (1/ 411) من حديث أبى أمامة أو بعض أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، بسند فيه محمد بن ثابت العبدى، ضعيف الحديث، وشهر بن حوشب وقد تكلم فيه غير واحد، وكذا الرجل الذى بينهما مجهول، وانظر «الإرواء» (241) .

يفتتح الصلاة بالتكبير. رواه عبد الرزاق من حديث عائشة. وروى البخارى عن ابن عمر قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- افتتح التكبير فى الصلاة «1» . واستدل بهما على تعيين لفظ «التكبير» دون غيره من ألفاظ التعظيم، وهو قول الجمهور، ووافقهم أبو يوسف. وعن الحنفية: تنعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم. وقد روى البزار بإسناد صحيح، على شرط مسلم، عن على أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام إلى الصلاة قال: «الله أكبر» . ولأحمد والنسائى من طريق واسع بن حبان أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: الله أكبر كلما وضع ورفع «2» . وليعلم أن تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل شرط، وهو مذهب الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل سنة، قال ابن المنذر: ولم يقل به أحد غير الزهرى. ولم يختلف أحد فى إيجاب النية فى الصلاة. قال البخارى- فى أواخر الإيمان-: باب ما جاء فى قوله- صلى الله عليه وسلم- الأعمال بالنية، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة «3» . وقال ابن القيم فى الهدى النبوى: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر، ولم يقل شيئا قبلها، ولا تلفظ بالنية، ولا قال: أصلى صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما، ولا أداء ولا قضاء، ولا فرض الوقت. قال: وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة البتة، بل ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحبه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة. وقال الشافعى: «إنها ليست كالصيام فلا يدخل أحد فيها إلا بذكر» أى تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعى أمرا لم يفعله- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة واحدة، ولا أحد من أصحابه. انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (739) فى الأذان، باب: رفع اليدين إذا قام من الركعتين. (2) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 62) فى السهو، باب: كيف السلام على اليمين، وأحمد فى «المسند» (2/ 71 و 152) ، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (3) انظر الباب رقم (39) ، من كتاب الإيمان.

وعبارة الشافعى فى كتاب المناسك: «ولو نوى الإحرام بقلبه، ولم يلب أجزأة، وليس كالصلاة، لأن فى أولها نطقا واجبا» ، هذا نصه. وقد قال الشيخ أبو على السنجى فى شرح التلخيص، وابن الرفعة فى المطلب، والزركشى فى الديباج وغيرهم: إنما أراد الشافعى بذلك تكبيرة الإحرام فقط، انتهى. وبالجملة: فلم ينقل أحد أنه- صلى الله عليه وسلم- تلفظ بالنية، ولا علّم أحدا من أصحابه التلفظ بها، ولا أقره على ذلك. بل المنقول عنه فى السنن أنه قال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» «1» . وفى الصحيحين أنه- صلى الله عليه وسلم- لما علم المسئ صلاته قال له: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» » فلم يأمره بالتلفظ بشئ قبل التكبير. نعم اختلف العلماء فى التلفظ بها: فقال قائلون: هو بدعة لأنه لم ينقل فعله. وقال آخرون: هو مستحب، لأنه عون على استحضار النية القلبية، وعبادة للسان، كما أنه عبودية للقلب، والأفعال المعنوية عبودية الجوارح. وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقى الدين السبكى والحافظ عماد الدين بن كثير. وأطنب ابن القيم- فى غير الهدى- فى رد الاستحباب، وأكثر فى الاستدلال بما فى ذكره طول يخرجنا عن المقصود، لا سيما والذى استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها. وقاسه بعضهم على ما فى الصحيحين، من حديث أنس: أنه سمع

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (61) فى الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذى (3) فى الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (275) فى الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، وأحمد فى «المسند» (3/ 203) من حديث على- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (301) . (2) صحيح: وحديث المسئ صلاته عند البخارى (757) فى الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام المأموم، وأطرافه (793 و 6251 و 6667) ، ومسلم (397) فى الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة فى كل ركعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبى بالحج والعمرة جميعا، يقول: «لبيك عمرة وحجّا» «1» وفى البخارى من حديث عمر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول- وهو بوادى العقيق-: «أتانى الليلة آت من ربى فقال: صل فى هذا الوادى المبارك وقل: عمرة فى حجة» «2» . وهذا تصريح باللفظ، والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس. ولكن تعقب هذا بأنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك فى ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك، وامتثالا للأمر الذى جاءه من ربه تعالى فى ذلك الوادى، ولقد صلى- صلى الله عليه وسلم- أكثر من ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال: نويت أصلى صلاة كذا وكذا، وتركه سنة، كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوى بين ما فعله وتركه، فنأتى من القول فى الموضع الذى تركه بنظير ما أتى به فى الموضع الذى فعله، والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما على الآخر. انتهى ما قاله هذا المتعقب فليتأمل. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، فإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك. وفى رواية: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا، وقال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» . وفى أخرى: نحوه وقال: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع من السجود «3» . رواه البخارى ومسلم.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1551) فى الحج، باب: التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإحلال، ومسلم (1251) فى الحج، باب: إحلال النبى- صلى الله عليه وسلم- وهديه، واللفظ له. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1534) فى الحج، باب: قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «العقيق واد مبارك» . (3) صحيح: أخرجه البخارى (735) فى الأذان، باب: رفع اليدين فى التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، وأطرافه (736 و 738 و 739) ، ومسلم (390) فى الصلاة، باب: استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

وعند أبى داود من حديث علقمة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام من سجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح «1» . وهو قطعة من حديث رواه أيضا الترمذى. وكان يكبر فى كل خفض ورفع. رواه مالك. وقال النووى: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها: فقال الشافعى وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة: يستحب أيضا رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه. وهو رواية عن مالك. وللشافعى قول: أنه يستحب رفعهما فى موضع رابع وهو: إذا قام من التشهد الأول. وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يفعله «2» . رواه البخارى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يضع يده اليمنى على اليسرى «3» ، رواه أبو داود. ومذهب الشافعى والأكثرين: أن المصلى إذا وضع يديه حطهما تحت صدره فوق سرته. وقال أبو حنيفة وبعض الشافعية: تحت سرته. وكان- صلى الله عليه وسلم- يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة، فقال له أبو هريرة: يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، إسكاتتك بين التكبير وبين القراءة ما تقول؟ قال: «أقول اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقنى من خطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياى بالماء والثلج والبرد» «4» . رواه البخارى ومسلم.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (730) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، والترمذى (304) فى الصلاة، باب: منه، من حديث أبى حميد الساعدى- رضى الله عنه-، ولم أقف على حديث علقمة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: وقد تقدم حديث ابن عمر قبل حديث. (3) صحيح: أخرجه مسلم (401) فى الصلاة، باب: وضع اليد اليمنى على اليسرى، وأبو داود (723) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الصلاة، وأطرافه (726 و 727 و 957) من حديث وائل بن حجر- رضى الله عنه- (4) صحيح: أخرجه البخارى (744) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام.

وعن على: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة- وفى رواية: إذا افتتح الصلاة- كبر، ثم قال: «وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربى وأنا عبدك، ظلمت نفسى، واعترفت بذنبى فاغفر لى ذنوبى جميعا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدنى لأحسن الأخلاق، لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عنى سيئها، لا يصرف عنى سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله فى يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» «1» ، الحديث رواه مسلم. وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا افتتح الصلاة قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» «2» . رواه الترمذى وأبو داود. وعن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى صلاة قال: «الله أكبر كبيرا ثلاث مرات «3» ، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا،

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (771) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه. (2) أخرجه أبو داود (776) فى الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، والترمذى (243) فى الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، وابن ماجه (806) فى إقامة الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، بسند رجاله ثقات إلا أنه منقطع حيث إن الراوى عن عائشة أبو الجوزاء، لم يسمع منها شيئا على الراجح، وهو عند مسلم (399) فى الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة، عن عمر موقوفا عليه، إلا أن الراوى عنه عبدة بن أبى لبابة، لا يعرف له سماع عنه أيضا، وإنما سمع من ابنه عبد الله بن عمر، ويقال رأى عمر رؤية، ولذلك قال الشوكانى فى «النيل» (2/ 280) : ولا يخفى أن ما صح عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أولى بالإيثار والاختيار. وأصح ما روى فى الاستفتاح حديث أبى هريرة المتقدم ثم حديث على، وأما حديث عائشة فقد عرفت ما فيه من المقال. ا. هـ. (3) زيادة من مصدر التخريج.

الفرع الثانى: فى ذكر قراءته ص البسملة فى أول الفاتحة

أعوذ بالله من الشيطان، من نفخه ونفثه وهمزه» «1» . قال عمرو «2» : نفخه الكبر، ونفثه الشعر، وهمزه الموتة «3» . رواه أبو داود. وعن محمد بن مسلمة «4» قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام يصلى تطوعا قال: «الله أكبر، وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» «5» . وذكر الحديث مثل حديث جابر إلا أنه قال: وأنا من المسلمين، ثم قال: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك» ، ثم يقرأ. رواه النسائى. الفرع الثانى: فى ذكر قراءته ص البسملة فى أول الفاتحة روى عن ابن عباس قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يفتتح الصلاة ببسم الله

_ (1) ضعيف مرفوعا: أخرجه أبو داود (764) فى الصلاة، باب: ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وابن ماجه (807) فى إقامة الصلاة، باب: الاستعاذة فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 80) بسند فيه عاصم العنزى، قال البخارى: لا يصلح، قاله الحافظ فى «التهذيب» (5/ 48) إلا أنه عند مسلم (601) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام عن ابن عمر قال: بينما نحن نصلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من القائل كلمة كذا وكذا» ، قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. قال: «عجبت لها فتحت لها أبواب السماء» . قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك. (2) فى الأصل: (ابن عمر) ، والصواب عمرو، وهو عمرو بن برة أحد رواة الحديث. (3) الموتة: بضم الميم، ضرب من الجنون. (4) هو الصحابى الجليل، محمد بن مسلمة الأوسى الأنصارى الحارثى، أبو عبد الرحمن المدنى حليف بنى عبد الأشهل، أسلم قديما على يد مصعب بن عمير، شهد المشاهد كلها بدرا وما بعدها إلا غزوة تبوك وتخلف عنها بإذن النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان من فضلاء الصحابة، وممن اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، كان عمر يرسله فى المعضلات لبيان الأمر، كما حدث فى قصة سعد بن أبى وقاص حين بنى القصر بالكوفة، مات سنة 43 هـ بالمدينة، وله 77 سنة. (5) أخرجه الطبرانى فى «الكبير» (19/ 221) .

الرحمن الرحيم «1» . رواه أبو داود. وقال الترمذى: ليس إسناده بذاك. ورواه الحاكم عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم «2» . ثم قال: صحيح. وفى صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرأ البسملة أول الفاتحة فى الصلاة، وعدها آية «3» ، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخى، وفيه ضعف عن ابن جريج عن ابن أبى مليكة عنها. وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه فى تفسيره عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله رب العالمين سبع آيات، بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهى السبع المثانى والقرآن العظيم، وهى أم الكتاب» ورواه الدار قطنى عن أبى هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله «4» ، وقال: رواته كلهم ثقات. وروى البيهقى عن على وابن عباس وأبى هريرة أنهم فسروا قوله سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «5» بالفاتحة، وأن البسملة هى الآية السابعة منها «6» . وعن شعبة عن قتادة عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «7» «8» . رواه البخارى، أى كانوا

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (245) فى الصلاة، باب: من رأى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال: ليس إسناده بذاك، وهو كما قال. (2) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 326) ، وهو مخالف لما فى الصحيحين. (3) إسناده ضعيف: لضعف عمر بن هارون البلخى، كما ذكر المصنف. (4) ضعيف مرفوعا: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 312) وقال: قال أبو بكر الحنفى: ثم لقيت نوحا فحدثنى عن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبى هريرة بمثله، ولم يرفعه. ا. هـ. قلت: والذى رفعه عبد الحميد بن جعفر، صدوق له أوهام، ولعل ذلك منها. (5) سورة الحجر: 87. (6) انظر سنن البيهقى «الكبرى» (2/ 45) . (7) سورة الفاتحة: 1. (8) صحيح: أخرجه البخارى (743) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (399) فى الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة.

يفتتحون بالفاتحة. وفى رواية مسلم: فلم أسمع أحدا منهم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم «1» . كذا أخرجه مسلم وغيره. لكنه معلول أعله الحفاظ، كما هو فى كتب علوم الحديث. وفى شرح ألفية العراقى لشيخنا الحافظ أبى الخير السخاوى- أمتع الله بوجوده- فى باب العلل ما نصه: وعلة المتن القادحة فيه كحديث نفى قراءة البسملة فى الصلاة المروى عن أنس، إذ ظن راو من رواته حين سمع قول أنس: صليت خلف النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان- رضى الله عنهم- فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، نفى البسملة، فنقله مصرحا بما ظنه وقال: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول القراءة ولا فى آخرها. وفى لفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. وصار بمقتضى ذلك حديثا مرفوعا. والراوى لذلك مخطئ فى ظنه «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (399) (50) فيما سبق. (2) قلت: قال الحافظ الزيلعى فى معرض رده على من يردون رواية أنس التى فى صحيح مسلم حيث يقول فى «نصب الراية» (1/ 330- 331) : كيف يجوز العدول عنه- أى رواية مسلم- بغير موجب ويؤكده قوله فى رواية مسلم لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا فى آخرها، لكنه محمول على نفى الجهر، لأن أنسا إنما ينفى ما يمكنه العلم بانتفائه، فإنه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا، وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه، إلا إذا لم يكن بين التكبير والقراءة سكوت يمكن فيه القراءة سرّا، ولهذا استدل بحديث أنس هذا على عدم قراءتها من لم ير هنا سكوتا كمالك وغيره لكن ثبت فى الصحيحين من أبى هريرة أنه قال: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: «أقول كذا وكذا إلى آخره» ، وفى السنن عن سمرة وأبى وغيرهما أنه كان يسكت قبل القراءة وأنه كان يستعيذ وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسا أن ينفى قراءتها فى ذلك السكوت فيكون نفيه للذكر والاستفتاح والسماع مرادا به الجهر، بذلك يدل عليه قوله: «فكانوا لا يجهرون» وقوله فلم أسمع أحدا منهم يجهر، ولا تعرض فيه للقراء، سرّا ولا على نفيها إذ لا علم لأنس بها حتى يثبتها أو ينفيها، وكذلك قال لمن سأله إنك تسألنى عن شئ ما أحفظه، فإن العلم بالقراءة السرية إنما يحصل بإخبار أو سماع عن قرب، وليس فى الحديث شئ منها، ورواية من روى «فكانوا يسرون» كأنها مروية بالمعنى من لفظ «لا يجهرون» والله أعلم، وأيضا عمل الافتتاح بالحمد لله رب العالمين على السورة لا الآية مما تستبعده القريحة وتمجه الأفهام-

ولذا قال الشافعى- رحمه الله- فى الأم، ونقله عنه الترمذى فى جامعه: المعنى أنهم يبدؤون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، لا أنهم يتركون البسملة أصلا. ويتأيد بثبوت تسمية أم القرآن بجملة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» فى صحيح البخارى، وكذا بحديث قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: كانت مدّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد «بسم الله» ويمد «الرحمن» ويمد «الرحيم» «2» . كذا أخرجه البخارى فى

_ - الصحيحة لأن هذا من العلم الظاهر الذى يعرفه العام والخاص كما يعلمون أن الفجر ركعتان وأن الظهر أربع، وأن الركوع قبل السجود، والتشهد بعد الجلوس إلى غير ذلك، فليس فى نقل مثل هذا فائدة، فكيف يجوز أن أنسا قصد تعريفهم بهذا وأنهم سألوه عنه وإنما مثل هذا مثل من يقول: فكانوا يركعون قبل السجود أو فكانوا يجهرون فى العشاءين والفجر ويخافتون فى صلاة الظهر والعصر والله أعلم، وأيضا فلو أريد الافتتاح بسورة الحمد لقيل كانوا يفتتحون القراءة بأم القرآن أو بفاتحة الكتاب أو بسورة الحمد، هذا هو المعروف فى تسميتها عندهم وأما تسميتها بالحمد لله رب العالمين فلم ينقل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد يحتج بقوله، وأما تسميتها بالحمد فقط فعرف متأخر، يقولون فلان قرأ الحمد، وأين هذا من قوله «فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين» فإن هذا لا يجوز أن يراد به السورة إلا بدليل صحيح، وأن للمخالف ذلك. ا. هـ ومما سبق يتبين أن رواية مسلم صحيحة، وليست بمعلولة، وأن الصحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أنه ما كان يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم، وكذا الخلفاء من بعده، ثم لا ينتشر فى المدينة موطن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو فى مكة موطن الحج. (1) سورة الفاتحة: 1. (2) صحيح: أخرجه البخارى (5046) فى فضائل القرآن، باب: مد القراءة، وقد علق الحافظ فى «الفتح» (8/ 710) على من يستدل بذلك على رد حديث أنس بنفى الجهر بالبسملة وقراءتها فى أول الفاتحة حيث قال: وفى الاستدلال بحديث الباب نظر، وقد أوضحته فيما كتبته من النكت على علوم الحديث لابن الصلاح، وحاصله أنه لا يلزم من وصفه بأنه كان إذا قرأ البسملة يمد فيها أن يكون قرأ البسملة فى أول الفاتحة فى كل ركعة، ولأنه إنما ورد بصورة المثال فلا تتعين البسملة، والعلم عند الله تعالى. ا. هـ. قلت: ومن الممكن أن يحمل ذلك على قراءته خارج الصلاة، كما أن هذا الحديث عام ويقابله حديث أنس الآخر الذى يخصص القراءة فى الفاتحة بعدم الجهر بالبسملة فيقدم عليه، والله أعلم.

صحيحه، وكذا صححه الدار قطنى والحازمى وقال: إنه لا علة له، لأن الظاهر- كما أشار إليه أبو شامة- أن قتادة لما سأل أنسا عن الاستفتاح فى الصلاة بأى سورة وأجابه ب «الحمد لله» ، سأله عن كيفية قراءته فيها، وكأنه لم ير إبهام السائل مانعا من تعيينه بقتادة خصوصا وهو السائل أولا. وقد أخرج ابن خزيمة فى صحيحه، وصححه الدار قطنى أن أبا مسلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا: أكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستفتح ب الْحَمْدُ لِلَّهِ أو ب بِسْمِ اللَّهِ؟ فقال: لا أحفظ فيه شيئا. قال: وهذا مما يتأيد به خطأ النافى «1» . ولكن قد روى هذا الحديث عن أنس جماعة منهم حميد وقتادة، والتحقيق أن المعل رواية حميد خاصة، إذ رفعها وهم من الوليد بن مسلم عن مالك عنه، بل ومن بعضه أصحاب حميد عنه، فإنها فى سائر الموطات عن مالك: صليت وراء أبى بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، لا ذكر للنبى- صلى الله عليه وسلم- فيه، وكذا الذى عند سائر حفاظ أصحاب حميد عنه، إنما هو فى الوقف خاصة. وبه صرح ابن معين عن ابن أبى عدى حيث قال: إن حميدا كان إذا رواه عن أنس لم يرفعه، وإذا قال فيه: عن قتادة عن أنس رفعه. وأما رواية قتادة، وهى من رواية الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعى: أن قتادة كتب إليه ليخبره أن أنسا حدثه قال: صليت ... فذكره بلفظ: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم لا فى أول قراءة ولا فى آخرها، فلم يتفق أصحابه عنه على هذا اللفظ، بل أكثرهم لا ذكر عندهم للنفى فيه، وجماعة منهم بلفظ: فلم يكونوا يجهرون ب بسم الله الرحمن الرحيم. وممن اختلف عليه فيه من أصحابه شعبة، فجماعة منهم «غندر» لا ذكر عندهم فيه للنفى، وأبو داود الطيالسى فقط حسبما وقع من طريق غير واحد عنه بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ب «بسم الله» وهى موافقة للأوزاعى.

_ (1) تقدم الرد على هذا الحديث فى الهامش قبل السابق.

وأبو عمر الدورى وكذا الطيالسى وغندر أيضا بلفظ: فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ب «بسم الله» . بل كذا اختلف غير قتادة من أصحاب أنس، فإسحاق بن أبى طلحة وثابت البنانى باختلاف عليهما، ومالك بن دينار ثلاثتهم عن أنس بدون نفى، وإسحاق وثابت أيضا ومنصور بن زاذان وأبو قلابة وأبو نعامة كلهم عنه باللفظ النافى للجهر خاصة. ولفظ إسحاق منهم: يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين فيما يجهر فيه. وحينئذ فطريق الجمع بين هذه الروايات- كما قال شيخنا، يعنى شيخ الإسلام ابن حجر- رحمه الله- ممكن بحمل نفى القراءة على نفى السماع، ونفى السماع على نفى الجهر. ويؤيده: أن لفظ رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة بسم الله. وأصرح منها رواية الحسن عن أنس- كما عند ابن خزيمة- كانوا يسرون ببسم الله. وبهذا الجمع زالت دعوى الاضطراب. كما أنه ظهر أن الأوزاعى- الذى رواه عن قتادة مكاتبة مع أن قتادة ولد أكمه، وكاتبه مجهول لعدم تسميته- لم ينفرد به، وحينئذ فيجاب عن قول أنس: «لا أحفظه» بأن المثبت مقدم على النافى، خصوصا وقد تضمن النفى عدم استحضار أنس- صلى الله عليه وسلم- لأهم شئ يستحضره. وبإمكان نسيانه حين سؤال أبى مسلمة له وتذكره له بعد، فإنه ثبت أن قتادة أيضا سأله: أيقرأ الرجل فى الصلاة بسم الله؟ فقال: صليت وراء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله. ويحتاج إذا استقر محصل حديث أنس على نفى الجهر إلى دليل له، وإن لم يكن من مباحثنا. وقد ذكر له الشارح دليلا، وأرشد شيخنا- يعنى الحافظ ابن حجر- لما يؤخذ منه ذلك. بل قال: إن قول نعيم المجمر «صليت وراء أبى هريرة فقرأ ب بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين، وقال الناس: آمين، وكان كلما سجد وإذا قام من الجلوس فى الاثنتين يقول الله

أكبر، ويقول إذا سلم: والذى نفسى بيده إنى لأشبهكم صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» » ، أصح حديث ورد فيه، ولا علة له. وممن صححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه النسائى والحاكم، وقد بوب عليه النسائى: الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم. ولكن تعقب الاستدلال به، لاحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله «أشبهكم» فى معظم الصلاة لا فى جميع أجزائها، لا سيما وقد رواه عنه جماعة غير نعيم بدون ذكر البسملة. وأجيب: بأن نعيما ثقة، فزيادته مقبولة، والخبر ظاهر فى جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصه. ومع ذلك فيطرقه أن يكون سماع نعيم لها من أبى هريرة حال مخافتته لقربه منه. وقد قال الإمام فخر الدين الرازى فى تصنيف له فى الفاتحة: روى الشافعى بإسناده وكذا رواه الحاكم فى مستدركه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية سرقت الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم، أين التكبير عند الركوع والسجود، فأعاد الصلاة مع التسمية والتكبير «2» . ثم قال الشافعى: وكان معاوية سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية والتكبير كان كالأمر المقرر عن كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب تركه. انتهى. وهو حديث حسن أخرجه الحاكم فى صحيحه والدار قطنى وقال: إن رجاله ثقات.

_ (1) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (2/ 134) الافتتاح، باب: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وابن حبان فى «صحيحه» (1797 و 1801) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (499 و 688) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 305) قلت: وهو فى الصحيحين من طريق آخر عن أبى هريرة ليس فيه هذه الزيادة، والحديث ضعف إسناده الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 357) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 311) بسند حسن، إلا أنه عند الحاكم «أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التى بعد أم القرآن» وعلى ذلك فلا حجة فيه.

ثم قال الإمام بعد: وقد بينا أن هذا- يعنى الإنكار المتقدم- يدل على أن الجهر بهذه الكلمة كالأمر المتواتر فيما بينهم. وكذا قال الترمذى عقب إيراده، بعد أن ترجم بالجهر بالبسملة حديث معتمر بن سليمان عن إسماعيل بن حماد بن أبى سليمان عن أبى خالد الوالبى الكوفى عن ابن عباس قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يفتتح الصلاة ب بسم الله الرحمن الرحيم «1» . ووافقه على تخريجه الدار قطنى، وأبو داود وضعفه. بل وقال الترمذى: ليس إسناده بذاك. والبيهقى فى المعرفة، واستشهد له بحديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم يمد بها صوته الحديث «2» ، وهو عند الحاكم فى مستدركه أيضا، ما نصه: وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- منهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، ومن بعدهم من التابعين رووا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وبه يقول الشافعى، انتهى «3» . وقال الشيخ أبو أمامة بن النقاش: والذى يروم تحقيق هذه المسألة ينبغى أن يعرف أن هذه المسألة بعلم القراآت أمس، وذلك أن من القراء الذين صحت قراءتهم وتواترت عن النبى- صلى الله عليه وسلم- من كان يقرأ بها آية من الفاتحة وهم: حمزة وعاصم والكسائى وابن كثير وغيرهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من لا يعدها آية من الفاتحة كابن عامر، وأبى عمرو، ونافع فى رواية عنه. وحكم قراءتها فى الصلاة حكم قراءتها خارجها، فمن قرأ على قراءة من جعلها من أم القرآن لزمه فرضا أن يقرأ بها. ومن قرأ على قراءة من لم

_ (1) ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذى (245) فى الصلاة، باب: من رأى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 304) ، وقال الترمذى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وهو كما قال. (2) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 303) بسند فيه أبو الصلت الهروى، هو عبد السلام بن صالح، ضعيف الحديث. (3) هذا الكلام قاله الترمذى عقب حديثه السابق.

يرها من أم القرآن فهو مخير بين القراءة والترك. فحينئذ الخلاف فيها كالخلاف فى حرف من حروف القرآن، وكلا القولين صحيح ثابت لا مطعن على مثبته ولا على منفيه. ولا ريب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- تارة قرأ بها، وتارة لم يقرأ بها، هذا هو الإنصاف. ثم قال: والمستيقن الذى يجب المصير إليه، أن كلّا من العملين ثابت، لأنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام أن هذه القراآت السبع كلها حق مقطوع بها من عند الله، وليست هذه أول كلمة ولا أول حرف اختلف فى إثباته وحذفه، وقلّ سورة من القرآن ليس فيها ذلك، كلفظ «هو» فى سورة الحديد لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «1» ، ولفظ «من» فى سورة التوبة، فى قوله تعالى: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «2» ، وألفات عديدة، وواوات، وهاآت كذلك، وكل هذا من نتيجة كون القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهذا هو الذى يدلك على بطلان قول من لم يجعلها من الفاتحة لموضع اختلاف الناس فيها، وقوله: إن الاختلاف لا يثبت معه قرآن «3» ، فما أدرى ما هذا الظن. وهذا الذى ذكرناه هو الذى يريحك من تلك التقريرات من الجانبين. ثم قال: ولا ريب أن الواقع من النبى- صلى الله عليه وسلم- كلا الأمرين، من الجهر والإسرار، فجهر وأسر، غير أن إسراره كان أكثر من جهره، وقد صح فى الجهر أحاديث، لا مطعن فيها لمنصف نحو ثلاثة أحاديث، كما أنه قد صح فى الإسرار بها أحاديث لا مطعن فيها لعار من العصبية، ولا يلتفت لمن يقول: إن الواقع من النبى- صلى الله عليه وسلم- كان الجهر فقط، انتهى. وقيل لبعض العارفين: بماذا ترى ظهر اسم الإمام الشافعى وغلب ذكره؟ أرى ذلك بإظهار اسم الله فى البسملة لكل صلاة. انتهى.

_ (1) سورة الحديد: 24. (2) سورة التوبة: 72. (3) يشير إلى أبى بكر بن العربى، صاحب تفسير أحكام القرآن.

الفرع الثالث: فى ذكر قراءته ص الفاتحة وقوله آمين بعدها

الفرع الثالث: فى ذكر قراءته ص الفاتحة وقوله آمين بعدها كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا قرأ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ «1» قال: «آمين» ، ومد بها صوته، وفى رواية: وخفض بها صوته «2» ، رواه الترمذى. وفى رواية أبى داود: ورفع بها صوته، وفى رواية له: جهر بامين. وقال ابن شهاب: وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قال: وَلَا الضَّالِّينَ «3» جهر بامين، أخرجه السراج. ولابن حبان من رواية الزبيدى عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن، رفع صوته وقال: «آمين» . وللحميدى من طريق سعيد المقبرى عن أبى هريرة بنحوه بلفظ: إذا قال: وَلَا الضَّالِّينَ «4» ولأبى داود، وصححه ابن حبان من حديث وائل بن حجر نحو رواية الزبيدى. وفيه رد على من أومأ إلى النسخ فقال: إنما كان- صلى الله عليه وسلم- يجهر بامين فى ابتداء الإسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حجر إنما أسلم فى أواخر الأمر. الفرع الرابع: فى ذكر قراءته ص بعد الفاتحة فى صلاة الغداة عن أبى برزة: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى صلاة الغداة ما بين الستين إلى المائة «5» . رواه النسائى. وعن عمرو بن حريث: أنه سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- يقرأ

_ (1) سورة الفاتحة: 7. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (932) فى الصلاة، باب: التأمين وراء الإمام، والترمذى (248) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التأمين، وأحمد فى «المسند» (4/ 316 و 317) ، من حديث وائل بن حجر، - رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) سورة الفاتحة: 7. (4) سورة الفاتحة: 7. (5) قلت: بل هو عند البخارى (771) فى الأذان، باب: القراءة فى الفجر، ومسلم (461) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح، و (647) فى المساجد، باب: استحباب التبكير بالصبح فى أول وقتها. وقوله (صلاة الغداة) : هى الفجر.

فى الفجر وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ «1» «2» رواه مسلم. وفى رواية النسائى: أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ فى الفجر إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ «3» «4» وعن جابر بن سمرة كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الفجر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «5» ونحوها، وكانت قراءته بعد تخفيفا «6» . رواه مسلم. وعن عبد الله بن السائب قال: صلى- صلى الله عليه وسلم- الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى- شك الراوى، أو اختلف عليه- أخذت النبى- صلى الله عليه وسلم- سعلة فركع. الحديث «7» رواه مسلم. قال النووى: فيه جواز قطع القراءة، وجواز القراءة ببعض السورة. وكرهه مالك. انتهى. وتعقب: بأن الذى كرهه مالك أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر فى أنه كان للضرورة فلا يرد عليه. وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا من قوله: حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى، لأن كلّا من الموضعين يقع فى وسط آية، نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل. وأدلة الجواز كثيرة: وفى حديث زيد بن ثابت أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ الأعراف فى الركعتين «8» ، وأمّ أبو بكر بالصحابة فى صلاة الصبح بسورة البقرة قرأها

_ (1) سورة التكوير: 17. (2) صحيح: أخرجه مسلم (456) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (3) سورة التكوير: 1. (4) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 257) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الصبح ب إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، من حديث عمرو بن حريث- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (5) سورة ق: 1. (6) صحيح: أخرجه مسلم (458) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (7) صحيح: أخرجه مسلم (455) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (8) صحيح: أخرجه البخارى (764) فى الأذان، باب: القراءة فى المغرب، بلفظ: «كان يقرأ بطولى الطوليين» ، وقد حصل الاتفاق على تفسير الطولى بالأعراف.

فى الركعتين. وهذا إجماع منهم. وقرأ فى الصبح إِذا زُلْزِلَتِ «1» فى الركعتين كلتيهما، قال الراوى: فلا أدرى أنسى أم قرأ ذلك عمدا «2» . رواه أبو داود. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى صبح الجمعة الم (1) تَنْزِيلُ «3» ، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ «4» «5» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى من حديث أبى هريرة. وإنما كان يقرؤهما كاملتين، وقراءة بعضهما خلاف السنة. وإنما كان يقرأ بهما لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنار، وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك يقع يوم الجمعة. ذكره ابن دحية فى «العلم المشهور» وقرره تقريرا حسنا، كما أفاده ابن حجر. قال: وقد ورد فى حديث ابن مسعود التصريح بمداومته- صلى الله عليه وسلم- على قراءتهما فى صبح الجمعة «6» . أخرجه الطبرانى، ولفظه «يديم ذلك» وأصله فى ابن ماجه لكن بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبو حاتم إرساله.

_ (1) سورة الزلزلة: 1. (2) حسن: أخرجه أبو داود (816) فى الصلاة، باب: الرجل يعيد سورة واحدة فى الركعتين، من حديث رجل من جهينة سمع النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا يضر جهالته لعدالة الصحابة، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) سورة السجد: 1، 2. (4) سورة الإنسان: 1. (5) صحيح: أخرجه البخارى (891) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الفجر يوم الجمعة، ومسلم (880) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، والنسائى (2/ 159) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الصبح يوم الجمعة، وابن ماجه (823) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة الفجر يوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وهو ليس عند أبى داود والترمذى كما ذكر المصنف، إلا أنه عندهما ولكن من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (6) صحيح: أخرجه ابن ماجه (824) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة الفجر يوم الجمعة، بنحوه، بسند رجاله ثقات.

قال: وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه فقال فى الكلام على حديث الباب: «ليس فى الحديث ما يقتضى فعل ذلك دائما اقتضاء قويّا» ، وهو كما قال بالنسبة لحديث الباب، فإن الصيغة ليست نصّا فى المداومة، لكن الزيادة المذكورة نص فى ذلك، ولهذه الزيادة شاهد من حديث ابن عباس بلفظ: «كل جمعة» أخرجه الطبرانى فى الكبير. وأما تعيين السورة للركعة فورد من حديث على- عند الطبرانى- بلفظ: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة الم (1) تَنْزِيلُ «1» ، وفى الركعة الثانية هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ «2» . وقد اختلف تعليل المالكية لكراهة قراءة السجدة فى الصلاة. فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود فى الفرض. قال القرطبى: وهو تعليل فاسد، بشهادة هذا الحديث. وقيل لخشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية والسرية، لأن الجهرية يؤمن معها التخليط لكن صح من حديث ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة فيها سجدة فى صلاة الظهر فسجد بهم فيها «3» . رواه أبو داود والحاكم، فبطلت التفرقة. ومنهم من علل الكراهة بخشية اعتقاد العوام أنها فرض. قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهية مطلقا فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغى أن تترك أحيانا لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهو يحصل بالترك فى بعض الأوقات. انتهى. وقال صاحب «المحيط» من الحنفية: يستحب قراءتها فى صبح يوم

_ (1) سورة السجدة: 1، 2. (2) سورة الإنسان: 1. (3) لعله يشير إلى الحديث الذى أخرجه أبو داود (1411) في الصلاة، باب: فى الرجل يسمع السجدة وهو راكب وفى غير الصلاة، وابن خزيمة فى «صحيحه» (556) ، والحاكم فى «المستدرك» (798) إلا أنه فيه أن قرأ عام الفتح سجدة، ولم أقف على رواية صلاة الظهر هذه.

الفرع الخامس: فى ذكر قراءته - صلى الله عليه وسلم - فى صلاتى الظهر والعصر

الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر فى شئ من الطرق التصريح بأنه- صلى الله عليه وسلم- سجد لما قرأ سورة الم (1) تَنْزِيلُ «1» فى هذا المحل، إلا فى كتاب «الشريعة» لابن أبى داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غدوت على النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة فى صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد، الحديث، وفى إسناده من ينظر فى حاله. انتهى. وعن على عند الطبرانى فى الأوسط: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سجد فى الصبح يوم الجمعة فى الم (1) تَنْزِيلُ «2» ، وهذه الزيادة حسنة تدفع احتمال أن يكون قرأ السورة ولم يسجد. الفرع الخامس: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- فى صلاتى الظهر والعصر عن أبى قتادة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الظهر فى الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفى الركعتين الآخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول فى الركعة الأولى ما لا يطول فى الركعة الثانية، وهكذا فى العصر، وهكذا فى الصبح «3» . رواه البخارى ومسلم. قال الشيخ تقى الدين السبكى: كأن السبب فى تطويله الأولى على الثانية أن النشاط فى الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف فى الثانية حذرا من الملل. انتهى. وروى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى فى آخر هذا الحديث: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. وعن أبى سعيد الخدرى قال: كنا نحزر أى نقدر- قيام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الظهر والعصر، فحزرنا قيامه فى الركعتين الأوليين من الظهر قدر الم (1) تَنْزِيلُ «4» ، وفى

_ (1) سورة السجدة: 1، 2. (2) سورة السجدة: 1، 2. (3) صحيح: أخرجه البخارى (759) فى الأذان، باب: القراءة فى الظهر، ومسلم (451) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر. (4) سورة السجدة: 1، 2.

رواية: فى كل ركعة قدر ثلاثين آية، وحزرنا قيامه فى الآخريين قدر النصف من ذلك، وحزرناه فى الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه فى الآخريين من الظهر، وفى الآخريين من العصر على النصف من ذلك «1» . رواه مسلم. وعن جابر بن سمرة: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الظهر بالليل إذا يغشى، وفى رواية ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «2» وفى العصر نحو ذلك «3» . الحديث رواه مسلم. وعنه: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الظهر والعصر بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق «4» ، رواه أبو داود والترمذى. وعن البراء: كنا نصلى خلفه- صلى الله عليه وسلم- الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من لقمان والذاريات «5» . رواه النسائى. قال ابن دقيق العيد: فيه جواز الاكتفاء بظاهر الحال فى الأخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة فى السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان فى الجهرية. وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على باقيها. ويحتمل أن يكون الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدّا. انتهى. وعن أنس: قرأ- صلى الله عليه وسلم- فى الظهر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «6»

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (452) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر. (2) سورة الأعلى: 1. (3) صحيح: أخرجه مسلم (459) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (4) صحيح: أخرجه أبو داود (805) فى الصلاة، باب: قدر القراءة فى صلاة الظهر والعصر، والترمذى (307) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى الظهر والعصر، وقال الترمذى: حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح، وهو كما قال. (5) ضعيف: أخرجه النسائى (2/ 163) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الظهر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (6) سورة الأعلى: 1.

الفرع السادس: فى ذكر قراءته ص فى صلاة المغرب

وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «1» «2» رواه النسائى. وعن أبى سعيد: كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته، ثم يأتى أهله فيتوضأ ويدرك النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الركعة الأولى «3» . رواه مسلم. الفرع السادس: فى ذكر قراءته ص فى صلاة المغرب عن أم الفضل بنت الحارث قالت: سمعته- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى المغرب بالمرسلات عرفا «4» رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى وصرح عقيل فى روايته عن ابن شهاب: أنها آخر صلاته- صلى الله عليه وسلم- ولفظه: ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله تعالى. أورده البخارى فى باب الوفاة. وعنده فى باب «إنما جعل الإمام ليؤتم به» من حديث عائشة: أن الصلاة التى صلاها النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه فى مرض موته كانت الظهر. وجمع بينهما: بأن الصلاة التى حكتها عائشة كانت فى المسجد، والتى حكتها أم الفضل كانت فى بيته، كما رواه النسائى. لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب فى هذا الحديث بلفظ: خرج إلينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو عاصب رأسه فى مرضه فصلى المغرب. الحديث رواه الترمذى. ويمكن حمل قوله: «خرج إلينا» أى من مكانه الذى هو راقد فيه إلى من فى البيت فصلى بهم فتلتئم الروايات.

_ (1) سورة الغاشية: 1. (2) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (2/ 163) فى الافتتاح، باب: القراءة فى الظهر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (3) صحيح: أخرجه مسلم (454) فى الصلاة، باب: القراءة فى الظهر والعصر. (4) صحيح: أخرجه مالك (1/ 78) فى الصلاة، باب: القراءة فى المغرب والعشاء، والبخارى (763) فى الأذان، باب: القراءة فى المغرب، ومسلم (462) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح، وأبو داود (810) فى الصلاة، باب: قدر القراءة فى المغرب، والترمذى (308) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القراءة فى المغرب، والنسائى (2/ 168) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب بالمرسلات.

وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى المغرب بالطور «1» . رواه البخارى ومسلم. زاد مسلم فى «الجهاد» : وكان جبير بن مطعم جاء فى أسارى بدر. وزاد الإسماعيلى: وهو يومئذ مشرك. وللبخارى فى «المغازى» : وذلك أول ما وقر الإيمان فى قلبى. وللطبرانى: وأخذنى من قراءته الكرب، ولسعيد بن منصور: فكأنما صدع قلبى. وفى قوله: «سمعته- صلى الله عليه وسلم-» دليل على الجهر بها، والله أعلم. وعن مروان بن الحكم قال: قال لى زيد بن ثابت: ما لك تقرأ فى المغرب بقصار المفصل؟ وقد سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقرأ بطولى الطوليين «2» . رواه البخارى. زاد أبو داود: قلت وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف. وفى رواية النسائى من حديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها فى ركعتين «3» . وعن عبد الله بن عتبة: قرأ- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة المغرب ب «حم» الدخان «4» . رواه النسائى. وهذه الأحاديث فى القراءة مختلفة المقادير، لأن «الأعراف» من السبع الطوال، و «الطور» من طوال المفصل، و «المرسلات» من أوساطه قال الحافظ ابن حجر: ولم أر حديثا مرفوعا فيه التنصيص على القراءة فيها بشئ من قصار المفصل، إلا حديثا فى ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص «5» . ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدار قطنى: أخطأ بعض رواته فيه،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (765) فى الأذان، باب: الجهر فى المغرب، وأطرافه (3050 و 4023 و 4854) ، ومسلم (463) فى الصلاة، باب: القراءة فى الصبح. (2) صحيح: وقد تقدم. (3) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 170) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب- «المص» . والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) ضعيف: أخرجه النسائى (2/ 169) فى الافتتاح، باب: القراءة فى المغرب ب «حم الدخان» ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (5) شاذ: أخرجه ابن ماجه (833) فى إقامة الصلاة، باب: القراءة فى صلاة المغرب، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» : شاذ والمحفوظ أنه كان يقرأ بهما فى سنة المغرب.

وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعد بن السماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما فى الركعتين بعد المغرب. واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبى هريرة قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- من فلان، قال سليمان: فكان يقرأ فى الصبح بطوال المفصل، وفى المغرب بقصار المفصل «1» . رواه النسائى، وصححه ابن خزيمة وغيره. وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن فى الاستدلال به نظر، نعم حديث رافع أنهم كانوا ينتضلون «2» بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها. وطريق الجمع بين هذه الأحاديث: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان أحيانا يطيل القراءة فى المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس فى حديث جبير دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبى- صلى الله عليه وسلم- واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرد زيد منه- فيما يظهر- المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبى- صلى الله عليه وسلم-. وفى حديث أم الفضل إشعاره بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ فى الصحة بأطول من المرسلات، لكونه كان فى حال شدة مرضه، وهو مظنة التخفيف. وهو يرد على أبى داود ادعاء نسخ التطويل فى المغرب، لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ فى المغرب بالقصار قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد ولم يبين وجه الدلالة. وكيف تصح دعوى النسخ وأم

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 167) فى الافتتاح، باب: تخفيف القيام والقراءة، باب: القراءة فى المغرب بقصار المفصل، وأحمد فى «المسند» (2/ 532) ، وابن حبان (1837) ، وابن خزيمة (520) فى «صحيحيهما» بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) ينتضلون: أى يلعبون بالنضال، وهى السهام، وفى رواية «يتنضلون» ، ورجح الزرقانى فى الشرح الرواية الأولى.

الفرع السابع: فى ذكر ما كان ص يقرأ فى صلاة العشاء

الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات. قال ابن خزيمة فى صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلى أن يقرأ فى المغرب وفى الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما أستحب له أن يخفف القراءة. انتهى. والراجح عند النووى: أن المفصل من الحجرات إلى آخر القرآن، والله أعلم. الفرع السابع: فى ذكر ما كان ص يقرأ فى صلاة العشاء عن البراء: كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى العشاء وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ «1» فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه- صلى الله عليه وسلم- «2» . رواه البخارى ومسلم. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أتى على آية عذاب وقف وتعوذ «3» ، رواه الترمذى من حديث حذيفة. وكان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «4» قال: سبحان ربى الأعلى «5» ، رواه أحمد وأبو داود من رواية ابن عباس. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ منكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فانتهى إلى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ «6» فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ

_ (1) سورة التين: 1. (2) صحيح: أخرجه البخارى (767) فى الأذان، باب: الجهر فى العشاء، ومسلم (464) فى الصلاة، باب: القراءة فى العشاء. (3) صحيح: أخرجه مسلم (772) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل، وأبو داود (871) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، والترمذى (262) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التسبيح فى الركوع والسجود. (4) سورة الأعلى: 1. (5) أخرجه أبو داود (883) فى الصلاة، باب: الدعاء فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (1/ 232) ، وأعله أبو داود بالوقف عن ابن عباس- رضى الله عنهما-. (6) سورة التين: 1- 8.

الفرع الثامن: فى ذكر صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى قوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى «1» فليقل: بلى، ومن قرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «2» فليقل: آمنا بالله» «3» رواه أبو داود، والترمذى إلى قوله «وأنا على ذلك من الشاهدين» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة وعنها سأله أبو هريرة «4» ، ويسكت بعد الفاتحة، ويسكت ثالثة بعد قراءة السورة، وهى سكتة لطيفة جدّا حتى يترادّ إليه النفس، ولم يكن يصل القراءة بالركوع. وأما السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح، وأما الثانية فلأجل قراءة المأموم الفاتحة، فينبغى تطويلها بقدرها. ذكره فى زاد المعاد. وعن سمرة بن جندب: سكتتان حفظتهما من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إذا دخل فى صلاته، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قرأ وَلَا الضَّالِّينَ «5» قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يترادّ إليه نفسه «6» . رواه الترمذى. الفرع الثامن: فى ذكر صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم عن أبى حميد الساعدى: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة

_ (1) سورة القيامة: 1- 40. (2) سورة المرسلات: 1- 50. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (887) فى الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود، والترمذى (3347) فى التفسير، باب: ومن سورة التين، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بسند فيه مجهول. (4) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (744) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام والقراءة. (5) سورة الفاتحة: 7. (6) أخرجه الترمذى (251) فى الصلاة، باب: ما جاء فى السكتتين فى الصلاة، وهو عند أبى داود (777) ، وابن ماجه (844 و 845) ، وقال الترمذى: حديث سمرة حديث حسن. ا. هـ. قلت: إن سلم من صحة سماع الحسن منه، فهو كما قال.

الفرع التاسع: فى مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم

رفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، فذكر الحديث، إلى أن قال: ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصوب رأسه ولا يقنع «1» رواه أبو داود والدارمى. الفرع التاسع: فى مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم عن ابن جبير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشبه صلاة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- من هذا الفتى- يعنى عمر بن عبد العزيز- قال: فخررنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات «2» . رواه أبو داود. وعن البراء: كان ركوع النبى- صلى الله عليه وسلم- وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع، ما خلا القيام والقعود، قريبا من السواء «3» . رواه البخارى ومسلم. قال النووى: هذا حديث محمول على بعض الأحوال، وإلا فقد ثبت فى الحديث تطويل القيام، فإنه كان يقرأ فى الصبح بالستين آية إلى المائة، وفى الظهر ب الم السجدة، وأنه كانت تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته ثم يرجع إلى أهله فيتوضأ ثم يأتى المسجد فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون، وأنه قرأ فى المغرب بالطور والمرسلات. وفى البخارى: بالأعراف «4» ، فكل هذا يدل أنه كانت فى إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات. انتهى. وقال ابن القيم: مراد البراء أن صلاته- صلى الله عليه وسلم- كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال القيام والركوع والسجود، وإذا خفف خفف الركوع والسجود، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام، وهديه- صلى الله عليه وسلم- الغالب تعديل الصلاة وتناسبها. انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (730) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، بسند صحيح. (2) أخرجه أبو داود (888) فى الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود بسند رجاله ثقات. (3) صحيح: أخرجه البخارى (792) فى الأذان، باب: حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، ومسلم (471) فى الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها فى التمام. (4) تقدمت الأحاديث الدالة على ذلك.

الفرع العاشر: فى ذكر ما كان ص يقوله فى الركوع والرفع منه

الفرع العاشر: فى ذكر ما كان ص يقوله فى الركوع والرفع منه عن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول فى ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لى، يتأول القرآن «1» . رواه البخارى ومسلم. ومعنى «يتأول القرآن» : يعمل بما أمر به فى قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً «2» فكان- صلى الله عليه وسلم- يقول هذا الكلام البديع فى الجزالة المستوفى ما أمر به فى الآية. وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى ركوعه: سبوح قدوس رب الملائكة والروح «3» . رواه البخارى. وعن حذيفة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى ركوعه: سبحان ربى العظيم، وفى سجوده سبحان ربى الأعلى، وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد «4» . رواه مسلم. قال النووى: يبدأ- يعنى المصلى- بقوله: «سمع الله لمن حمده» حين الشروع فى الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع فى ذكر الاعتدال وهو: ربنا ولك الحمد إلخ. قال: وفى هذا الحديث دلالة للشافعى وطائفة: أنه يستحب لكل مصل من إمام ومأموم ومنفرد أن يجمع بين «سمع الله لمن حمده» و «ربنا ولك الحمد» فى حال انتصابه فى الاعتدال. لأنه ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- فعلهما جميعا. وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» «5» رواه البخارى. انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (7 8) فى الأذن، باب: التسبيح والدعاء فى السجود، ومسلم (484) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود. (2) سورة النصر: 3. (3) صحيح: أخرجه مسلم (487) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، والحديث ليس في البخارى كما قال المصنف، بل عند مسلم. (4) صحيح: أخرجه مسلم (772) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل. (5) صحيح: أخرجه البخارى (631) فى الأذان، باب: الأذان للمسافر، من حديث مالك ابن الحويرث- رضى الله عنه-.

وقال ابن القيم: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا استوى قائما قال: ربنا ولك الحمد، وربما قال: وربنا لك الحمد، وربما قال: اللهم ربنا لك الحمد. صح عنه ذلك كله، وأما الجمع بين «اللهم» و «الواو» فلم يصح. انتهى. قلت: وقع فى صحيح البخاري من حديث أبى هريرة- فى رواية الأصيلى- مرفوعا: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد» «1» فجمع بين «اللهم» و «الواو» وهو يرد على ابن القيم كما ترى. وقال الشيخ تقى الدين فى شرح العمدة: كأن إثبات «الواو» دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير: ربنا استجب، أو ما قارب ذلك، ولك الحمد، فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء، ومعنى الخبر، وإذا قيل بإسقاط «الواو» دل على أحد هذين. انتهى. وقال ابن العراقى: إسقاط «الواو» حكاه عن الشافعى ابن قدامة وقال: لأن «الواو» للعطف، وليس هنا شئ يعطف عليه. وعن مالك وأحمد فى ذلك خلاف. وقال النووى: كلاهما جاءت به روايات كثيرة، والمختار أنه على وجه الجواز وأن الأمرين جائزان، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر. انتهى. وعن أبى سعيد الخدرى قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع قال: «اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد- وكلنا لك عبد- اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» «2» رواه مسلم. قوله: «ملء السماوات وملء الأرض» : أى حمدا لو كان أجساما لملأ السماوات والأرض.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (734) فى الأذان، باب: إيجاب التكبير. (2) صحيح: أخرجه مسلم (477) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.

الفرع الحادى عشر: فى ذكر صفة سجوده ص وما يقول فيه

ومعنى سمع الله لمن حمده» أى أجاب، يعنى: أن من حمد الله تعالى متعرضا لثوابه استجاب الله له، فأعطاه ما تعرض له، فأنا أقول ربنا لك الحمد ليحصل ذلك. وقوله «أهل» : منصوب على النداء. وقوله: «وكلنا لك عبد» بالواو، يعنى: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت إلخ. واعترض بينهما قوله: «وكلنا لك عبد» ، ومثل هذا الاعتراض قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى «1» على قراءة من قرأ «وضعت» بفتح العين وإسكان التاء. و «الجد» بفتح الجيم، الغنى أى: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة، وقيل غير ذلك والله أعلم. وفى رواية ابن أبى أوفى- عند مسلم-: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول بعد قوله «من شئ» : «اللهم طهرنى بالثلج والبرد والماء البارد» «2» . الفرع الحادى عشر: فى ذكر صفة سجوده ص وما يقول فيه كان- صلى الله عليه وسلم- إذا انتهى من ذكر قيامه عن الركوع يكبر، ويخرّ ساجدا، ولا يرفع يديه. وقد روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه أيضا، وصححه بعض الحفاظ كابن حزم، والذى غره أن الراوى غلط من قوله: «كان يكبر فى كل خفض ورفع» إلى قوله: «كان يرفع يديه فى كل خفض ورفع» وهو ثقة، ولم يفطن لسبب غلطه، ووهم فصححه. نبه عليه فى زاد المعاد. وكان- صلى الله عليه وسلم- يضع يديه قبل ركبتيه «3» . رواه أبو داود، ثم جبهته

_ (1) سورة آل عمران: 36. (2) صحيح: أخرجه مسلم (476) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (840) فى الصلاة، باب: كيف يضع ركبتيه قبل يديه، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (2/ 78) .

وأنفه. وقال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين» «1» . رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عباس. قال النووى: فينبغى للساجد أن يسجد على هذه الأعضاء كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا، فأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض، ويكفى بعضها، والأنف مستحب، فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز، هذا مذهب الشافعى ومالك والأكثرين، وقال أبو حنيفة عليهما معا لظاهر الحديث، وقال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما فى حكم عضو واحد، لأنه قال فيه «سبعة» فلو جعلا عضوين لصارت ثمانية. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا سجد فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه «2» . رواه الشيخان. وقالت ميمونة: جافى بين يديه، حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت «3» . رواه مسلم. ولم يذكر عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه سجد على كور عمامته، ولم يثبت عنه ذلك فى حديث صحيح ولا حسن، ولكن روى عبد الرزاق فى المصنف عن أبى هريرة: كان- صلى الله عليه وسلم- يسجد على كور عمامته «4» ، وهو من رواية عبد الله بن محرز، وهو متروك. وذكر أبو داود فى المراسيل أنه- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا يصلى فسجد بجبينه وقد اعتم فحسر- صلى الله عليه وسلم- عن جبهته «5» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى سجوده: «اللهم اغفر لى ذنبى كله، دقه وجله، أوله وآخره، علانيته وسره» «6» رواه مسلم من حديث أبى هريرة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (809 و 810) فى الأذان، باب: السجود على سبعة أعظم، ومسلم (490) فى الصلاة، باب: أعضاء السجود، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (390) فى الصلاة، باب: يبدى ضبعيه ويجافى فى السجود، ومسلم (495) فى الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، من حديث عبد الله بن بحينة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (496) في الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة. (4) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق فى «مصنفه» (1564) بسند فيه متروك كما قال المصنف. (5) ضعيف: أخرجه أبو داود فى «المراسيل» (83) عن صالح بن حيوان السبانى مرسلا. (6) صحيح: أخرجه مسلم (483) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

وقوله: «دقه وجله» بكسر أولهما، أى قليله وكثيره. وعن عائشة قالت: فقدت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدى على بطن قدميه وهو فى السجود، وهما منصوبتان، وهو يقول: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «1» رواه مسلم. قال الخطابى: فى هذا الحديث معنى لطيف، وذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمعاقبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله تعالى استعاذ به منه، ومعناه: الاستغفار من التقصير فى بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه. وقوله: «لا أحصى ثناء عليك» أى لا أطيقه ولا آتى عليه، وقيل: لا أحيط به، وقال مالك: لا أحصى نعمتك وإحساناتك والثناء بهما عليك وإن اجتهدت فى الثناء عليك. وقوله: «أنت كما أثنيت على نفسك» اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، فإنه لا يقدر على بلوغ حقيقته، ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والإحصاء والتعيين، فوكل ذلك كله لله تعالى المحيط بكل شئ جملة وتفصيلا، وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع للمثنى عليه، فكل شئ أثنى به عليه- وإن كثر وطال وبولغ فيه- فقدر الله أعظم وسلطانه أعز، وصفاته أكثر وأكبر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ. انتهى. وهاهنا فائدة لطيفة ذكرها بعض المحققين، فى نهيه- صلى الله عليه وسلم- عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود «2» ، وهى أن القرآن أشرف الكلام، وحالتا الركوع

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (486) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود. (2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه مسلم (479) فى الصلاة، باب: النهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

الفرع الثانى عشر: فى ذكر جلوسه ص للتشهد

والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله تعالى أن لا يقرأ فى هاتين الحالتين، وتكون حالة القيام والانتصاب أولى به والله أعلم. وروى أبو داود: أنه- صلى الله عليه وسلم- سجد على الماء والطين «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يرفع رأسه من السجود مكبرا غير رافع يديه، ثم يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يجلس للاستراحة جلسة لطيفة، بحيث تسكن جوارحه سكونا بينا، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، كما فى صحيح البخارى «2» وغيره. قال النووى: ومذهبنا استحبابها عقب السجدة الثانية من كل ركعة يقوم عنها، ولا تستحب فى سجود التلاوة فى الصلاة. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول بين السجدتين: «اللهم اغفر لى وارحمنى واهدنى وعافنى وارزقنى» «3» . رواه أبو داود والدارمى من حديث ابن عباس. الفرع الثانى عشر: فى ذكر جلوسه ص للتشهد كان- صلى الله عليه وسلم- إذا جلس للتشهد يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى «4» . رواه مسلم. قال النووى: معناه يجلس مفترشا، وفيه حجة لأبى حنيفة ومن وافقه: أن الجلوس فى الصلاة يكون مفترشا سواء فيه جميع الجلسات. وعند مالك: يسن متوركا بأن يخرج رجله اليسرى من تحته ويفضى بوركه إلى الأرض.

_ (1) قلت: بل هو عند البخارى (669) فى الأذان، باب: هل يصلى الإمام بمن حضر، ومسلم (1167) فى الصيام، باب: فضل ليلة القدر، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (2) يشير إلى الحديث الذى أخرجه البخارى (823) فى الأذان، باب: من استوى قاعدا فى وتر من صلاته ثم نهض، من حديث مالك بن الحويرث- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (850) فى الصلاة، باب: الدعاء بين السجدتين، والترمذى (284) فى الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، وابن ماجه (898) فى إقامة الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، ولم أقف عليه عند الدارمى، وسنده صحيح. (4) صحيح: أخرجه مسلم (498) فى الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وقال الشافعى- رحمه الله-: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا الجلسة التى يعقبها السلام. والجلسات عند الشافعى أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة فى كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير، والجميع يسن مفترشا إلا الأخيرة، ولو كان على المصلى سجود سهو فالأصح أن يجلس مفترشا فى تشهده فإذا سجد سجدتى السهو تورك ثم سلم. هذا تفصيل مذهب الشافعى. واحتج أبو حنيفة: بإطلاق حديث عائشة هذا. واحتج الشافعى: بحديث أبى حميد الساعدى فى صحيح البخارى، وفيه التصريح بالافتراش فى الجلوس الأول والتورك فى آخر الصلاة، وحمل حديث عائشة هذا على الجلوس فى غير التشهد الأخير ليجمع بين هذه الأحاديث. انتهى. فليتأمل مع قول ابن القيم فى الهدى: إنه لم ينقل أحد عنه- صلى الله عليه وسلم- أن هذا كان صفة جلوسه فى التشهد الأول، ولا أعلم أحدا قال به. انتهى. وقال أبو حميد الساعدى فى عشرة من أصحابه- صلى الله عليه وسلم-: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قالوا: فاعرض.. فذكر الحديث إلى أن قال: حتى إذا كانت السجدة التى فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر ثم سلم، قالوا صدقت هكذا كان يصلى «1» ، رواه أبو داود والدارمى. وفى رواية لأبى داود: فإذا قعد فى الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا كان فى الرابعة أفضى بوركه إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة. الحديث «2» . وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قعد فى التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (730) فى الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، والدارمى فى «سننه» (1356) بسند صحيح. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (731) فيما سبق. (3) أخرجه البزار عن ابن عمر، كما فى «كنز العمال» (22348) .

الفرع الثالث عشر: فى ذكر تشهده صلى الله عليه وسلم

وفى رواية مسلم: وضع يديه على ركبتيه، ورفع أصبعه اليمنى التى تلى الإبهام ويدعو بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها «1» . وفى حديث ابن الزبير عنده أيضا: كان يشير بها ولا يحركها. الحديث «2» . وعند أبى داود من حديث وائل بن حجر: مد مرفقه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها ويدعو. وكان- صلى الله عليه وسلم- يستقبل بأصابعه القبلة فى رفع يديه وركوعه وفى سجوده وفى التشهد، ويستقبل بأصابع رجليه القبلة فى سجوده «3» . الفرع الثالث عشر: فى ذكر تشهده صلى الله عليه وسلم كان- صلى الله عليه وسلم- يتشهد دائما فى هذه الجلسة الأخيرة، ويعلم أصحابه أن يقولوا: «التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» «4» رواه مسلم من رواية ابن عباس. وهو الذى اختاره الشافعى لزيادة «المباركات» لا تشهد ابن مسعود «5» ، وإن قاله القاضى عياض- رحمه الله تعالى- وعبارة الشافعى فيما أخرجه البيهقى بسنده إلى الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعى جوابا لمن سأله بعد ذكر حديث ابن عباس: «فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبى- صلى الله عليه وسلم-، فروى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (580) فى المساجد، باب: صفة الجلوس فى الصلاة، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (579) فيما سبق، من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (726) فى الصلاة، باب: رفع اليدين في الصلاة، بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) صحيح: أخرجه مسلم (403) فى الصلاة، باب: التشهد فى الصلاة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (5) صحيح: أخرجه البخارى (831) فى الأذان، باب: التشهد فى الآخرة، ومسلم (402) فى الصلاة، باب: التشهد فى الصلاة.

ابن مسعود خلاف هذا، فساق الكلام إلى أن قال: فلما رأيته واسعا وسمعته- يعنى حديث ابن عباس- صحيحا، ورأيته أكثر لفظا من غيره- يعنى من المرفوعات- أخذت به غير معنف لمن أخذ بغيره «هذا آخر كلامه، وليس فيه تصريح بالأفضلية، والعلم عند الله. وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود أفضل لأنه عند المحدثين أشد صحة. وقال مالك- رحمه الله- تشهد عمر بن الخطاب «1» الموقوف عليه أفضل، لأنه علمه للناس على المنبر ولم ينازعه أحد فدل على تفضيله، ومذهب الشافعى أن التشهد الأول سنة والثانى واجب. وجمهور المحدثين: أنهما واجبان. وقال أحمد: الأول واجب يجبر تركه بالسجود، والثانى ركن تبطل الصلاة بتركه. وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان. وعن مالك رواية بوجوب الأخير. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يأتى بالتشهدين. وفى الغيلانيات عن القاسم بن محمد قال: علمتنى عائشة قالت: هذا تشهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وهو مثل حديث ابن مسعود سواء. رواه البيهقى بإسناد جيد. قال النووى: فى هذا الحديث فائدة حسنة وهى أن تشهده- صلى الله عليه وسلم- بلفظ تشهدنا «2» . انتهى.

_ (1) صحيح موقوفا: الحديث أخرجه مالك فى «الموطأ» (1/ 90) ، وعنه الشافعى فى «مسنده» (ص 237) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 398) ، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 139 و 142) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 351) بسند ضعيف مرفوعا، والصحيح أنه موقوف عليه، وإن كان لنا فيه أسوة حسنة لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى» ، وفى رواية: «اقتدوا باللذين من بعدى، أبى بكر وعمر» . (2) أى يقول: (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) بدلا من (وأشهد أنى رسول الله) .

قال الحافظ ابن حجر: وكأنه «1» يشير إلى رد ما وقع فى الرافعى: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى التشهد: «وأشهد أنى رسول الله» ، وتعقبوه بأنه لم يرو كذلك صريحا. نعم وقع فى البخارى من حديث سلمة بن الأكوع قال: خفّت أزواد القوم فذكر الحديث وفيه: فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله» «2» . ومن لطائف التشهد ما قاله البيضاوى: علمهم أن يفردوه- صلى الله عليه وسلم- بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، فإن قيل: كيف يشرع هذا اللفظ، وهو خطاب لبشر مع كونه منهيّا عنه فى الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. فإن قلت: ما الحكمة فى العدول عن الغيبة إلى الخطاب فى قوله: «السلام عليك أيها النبى» مع أن لفظ الغيبة هو الذى يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبى، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبى، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين؟. أجاب الطيبى بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذى علمه للصحابة. ويحتمل أن يقال على طريق أهل المعرفة بالله: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات، أذن لهم فى الدخول فى حريم الحى الذى لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة، فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبى الرحمة وبركة متابعته، فالتفتوا (فإذا الحبيب فى حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته. انتهى) . وقال الترمذى الحكيم: فى قوله: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» : من أراد أن يحظى بهذا السلام الذى يسلمه الخلق فى صلاتهم فليكن عبدا صالحا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم.

_ (1) الضمير عائد إلى الإمام النووى- رحمه الله-. (2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (2484) فى الشركة، باب: الشركة فى الطعام.

وقال القفال فى فتاويه: وترك الصلاة يضر جميع المسلمين، لأن المصلى يقول: اللهم اغفر لى وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول فى التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيكون التارك للصلاة مقصرا فى خدمة الله وفى حق رسوله، وفى حق نفسه، وفى حق كافة المسلمين. ولذلك عظمت المعصية بتركها. واستنبط منه السبكى: أن فى الصلاة حقّا للعباد مع حق الله تعالى، وأن من تركها أخل بجميع حق المؤمنين، من مضى ومن يجئ إلى يوم القيامة، لوجوب قوله فيها: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» . انتهى. وتقدم الكلام على وجوب الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد الأخير، وما فى ذلك من المباحث فى فضل الصلاة- صلى الله عليه وسلم-. وعن الطبرانى مرفوعا، عن سهل بن سعد: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه» «1» وكذا عن ابن ماجه والدار قطنى. وعن أبى مسعود الأنصارى- عند الدار قطنى-: «من صلى صلاة لم يصل فيها علىّ وعلى أهل بيتى لم تقبل منه» «2» . وعن ابن مسعود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا تشهد أحدكم فى الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» «3» . رواه الحاكم. واغتر قوم بتصحيحه فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق، وهو مجهول عن رجل مبهم، وبالغ ابن العربى فى إنكار ذلك فقال: حذار مما ذكره ابن أبى زيد من زيادة وترحم، فإنه قريب من

_ (1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 355) ، والبيهقى فى «الكبرى» (2/ 379) وقال الدار قطنى: عبد المهيمن- أحد رواته- ليس بالقوى. (2) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (1/ 355) من حديث أبى مسعود الأنصارى، وليس ابن مسعود كما فى النسخ، والتصويب من المصدر السابق، وقال الدار قطنى جابر- أحد رواته- ضعيف، وقد اختلف عنه. (3) ضعيف: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 402) ، من حديث ابن مسعود، وليس أبى مسعود، كما فى النسخ، والتصويب من المصدر السابق، وفى سنده جهالة، وضعف.

البدعة، لأنه- صلى الله عليه وسلم- علمهم كيفية الصلاة بالوحى، ففى الزيادة على ذلك استدراك عليه. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وابن أبى زيد ذكر ذلك فى الرسالة فى صفة التشهد، لما ذكر ما يستحب فى التشهد، ومنه: اللهم صل على محمد وآل محمد، فزاد: وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد إلخ. فإن كان إنكاره ذلك لكونه لم يصح فمسلم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال: وارحم محمدا، مردودة لثبوت ذلك فى عدة أحاديث أصحها فى التشهد: «السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته» . قال: ثم وجدت لابن أبى زيد مستندا، فأخرج الطبرى فى تهذيبه «1» ، من طريق حنظلة بن على عن أبى هريرة رفعه: «من قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة وشفعت له» ورجال سنده رجال الصحيح، إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاصى، الراوى له عن حنظلة بن على فإنه مجهول، وهذا كله فيما يقال مضموما إلى السلام أو الصلاة. وقد وافق ابن العربى الصيدلانى من الشافعية على المنع. ونقل القاضى عياض عن الجمهور الجواز مطلقا، وقال القرطبى فى «المفهم» : إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره. ففى «الذخيرة» من كتب الحنفية عن محمد: يكره ذلك لإيهامه النقص، لأن الرحمة غالبا إنما تكون لفعل ما يلام عليه. وجزم ابن عبد البر بمنعه، فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يقول: رحمه الله، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى على» ولم يقل: من

_ (1) هو كتاب «تهذيب الآثار» لابن جرير الطبرى، لو تم لكان من خير ما كتب فى بابه، حيث أن ابن جرير كان إماما مجتهدا مستقلا لم يتقيد بمذهب معين فكان سيكون كتابه فقها مستقلا قائما على الكتاب والسنة الصحيحة.

ترحم على، ولا من دعا لى، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص بهذا اللفظ تعظيما له، فلا يعدل عنه إلى غيره. انتهى. وأخرج أبو العباس السراج عن أبى هريرة: أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلى عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم، وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وفى حديث بريدة رفعه: «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» . ووقع فى حديث ابن مسعود عند أبى داود والنسائى: «على محمد النبى الأمى» «1» . وفى حديث أبى سعيد: «على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم» «2» ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم. وعند أبى داود من حديث أبى هريرة: «اللهم صل على محمد النبى وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته» «3» . ووقع فى آخر حديث ابن مسعود: «فى العالمين إنك حميد مجيد» «4» . قال النووى فى شرح المهذب: ينبغى أن يجمع ما فى الأحاديث الصحيحة، فيقول: اللهم صل على محمد النبى الأمى وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك ... مثله، ويزيد فى آخره: فى العالمين. وقال فى «الأذكار» مثله، وزاد: عبدك ورسولك بعد قوله: محمد فى «صل» ولم يزدها فى «بارك» . وقال فى «التحقيق والفتاوى» مثله، إلا أنه أسقط النبى الأمى.

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (981) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، من حديث عقبة بن عمر، ولم أقف على هذه الرواية من حديث ابن مسعود، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (4798) فى التفسير، باب: رقم (282) . (3) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (982) فى الصلاة، باب: الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (4) صحيح: وقد تقدم تخريجه.

وقد تعقبه الإسنوى فقال: لم يستوعب ما ثبت فى الأحاديث مع اختلاف كلامه. وقال الأذرعى: لم يسبق إلى ما قاله، والأظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتى بأكمل الروايات، ويقول- كما ثبت- هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة فى التشهد لم ترد مجموعة، وسبقه إلى معنى ذلك ابن القيم. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يدعو فى الصلاة: «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم وأعوذ بك من المأثم والمغرم» . فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف» «1» . رواه البخارى ومسلم من رواية عائشة. قال ابن دقيق العيد: «فتنة المحيا» : ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها- والعياذ بالله تعالى- أمر الخاتمة عند الموت، و «فتنة الممات» : يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يكون المراد بها: فتنة القبر: ولا يكون مع هذا الوجه متكررا مع قوله: «عذاب القبر» ، لأن العذاب مرتب على الفتنة، والسبب غير المسبب. وروى الحكيم الترمذى فى «نوادر الأصول» عن سفيان الثورى: أن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه، إنى أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له حين يسأل. وقد استشكل دعاؤه- صلى الله عليه وسلم- بما ذكر مع أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأجيب بأجوبة، منها أن قصد التعليم لأمته، ومنها: أن المراد السؤال منه لأمته، فيكون المعنى هنا: أعوذ بالله لأمتى، ومنها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية والتزام خوف الله، وإعظامه والافتقار إليه، وامتثال أمره فى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (832) فى الأذان، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (589) فى المساجد، باب: ما يستعاذ منه فى الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرير الطلب مع تحقيق الإجابة، لأن فى ذلك تحصيل الحسنات، ورفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك، لأنه إذا كانت مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال، مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يتحقق عدم إدراكه ويدل عليه قوله فى الحديث الآخر عند مسلم: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه» «1» ، الحديث، والله أعلم. وعن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول بعد التشهد: «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الدجال الأعور، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» «2» . رواه أبو داود. وعن على بن أبى طالب: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقول ما بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» «3» . رواه مسلم وغيره. وفى رواية له: وإذا سلم قال: «اللهم اغفر لى ما قدمت» ... إلخ. ويجمع بينهما: بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام، لأن مخرج الطريقين واحد. وأورده ابن حبان بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وهذا ظاهر فى أنه بعد السلام، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده، وسيأتى الجواب عما استشكل فى دعائه- صلى الله عليه وسلم- بهذا الدعاء فى أدعيته- صلى الله عليه وسلم- إن شاء الله تعالى-. وحاصل ما ثبت عنه- صلى الله عليه وسلم- من المواضع التى كان يدعو بها فى داخل صلاته ستة مواطن:

_ (1) صحيح: وهو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (2937) فى الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفة ما معه، من حديث النواس بن سمعان- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (590) فى المساجد، باب: ما يستعاذ منه فى الصلاة. (3) صحيح: أخرجه مسلم (771) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه.

الفرع الرابع عشر: فى ذكر تسليمه ص من الصلاة

الأول: عقب تكبير الإحرام، كما فى حديث أبى هريرة فى الصحيحين: «اللهم باعد بينى وبين خطاياى» «1» الحديث ونحوه. الثانى: فى الركوع، كما فى حديث عائشة عند الشيخين: كان يكثر أن يقول فى ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لى» «2» . الثالث: فى الاعتدال من الركوع، كما فى حديث ابن أبى أوفى عند مسلم: أنه كان يقول بعد قوله: «من شئ بعد» «اللهم طهرنى بالثلج والبرد والماء البارد» «3» . الرابع: فى سجوده، وهو أكثر ما كان يدعو فيه، وأمر به. الخامس: بين السجدتين: «اللهم اغفر لى» «4» ... إلخ. السادس: فى التشهد. وكان أيضا يدعو فى القنوت، وفى حال القراءة إذا مر باية رحمة سأل، وإذا مر باية عذاب استعاذ، وتقدم كل ذلك، والله أعلم. الفرع الرابع عشر: فى ذكر تسليمه ص من الصلاة كان- صلى الله عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده «5» . رواه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (744) فى الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598) فى المساجد، باب: ما يقال بعد تكبيرة الإحرام والقراءة. (2) صحيح: أخرجه البخارى (794) فى الأذان، باب: الدعاء فى الركوع، ومسلم (484) فى الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود. (3) صحيح: أخرجه مسلم (476) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (4) صحيح: أخرجه أبو داود (874) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، وقد تقدم فى الصلاة. (5) صحيح: أخرجه مسلم (582) فى المساجد، باب: السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها، والنسائى (3/ 61) فى السهو، باب: السلام، من حديث عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-، وليس عبد الله بن عامر بن ربيعة كما ذكر المصنف، ولعله تصحيف.

مسلم والنسائى من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه. وفى حديث ابن مسعود: كان- صلى الله عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن يساره، السلام عليكم ورحمة الله «1» . رواه الترمذى، وزاد أبو داود: حتى يرى بياض خده، وفى رواية النسائى: حتى يرى بياض خده من هاهنا، وبياض خده من هاهنا. الحديث. وهذا كان فعله الراتب. رواه عنه خمسة عشر صحابيّا، وهم: عبد الله ابن مسعود، وسعد بن أبى وقاص، وسهل بن سعد، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعرى، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعرى، وطلق بن على، وأوس بن أوس، وأبو ثور، وعدى بن عمرو. هذا مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأحمد والجمهور. ومذهب مالك فى طائفة: المشروع تسليمه. ودليل مذهبنا ما تقدم. وأما ما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه «2» ، فلم يثبت من وجه صحيح، وأجود ما فى ذلك حديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة، السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا «3» ، وهو حديث معلول، وهو فى السنن، لكنه فى قيام الليل، والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شاهدوا فى الفرض والنفل، وحديث عائشة ليس هو صريحا فى الاقتصار على تسليمة واحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها، ولم تنف الآخرى بل سكتت عنها، وليس سكوتها عنها مقدما

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (996) فى الصلاة، باب: فى السلام، والترمذى (295) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التسليم فى الصلاة، والنسائى (3/ 63) فى السهو، باب: كيف السلام على الشمال، وقال الترمذى: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وهو كما قال. (2) أخرجه الترمذى (296) فى الصلاة، باب: منه أيضا، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وأشار إلى تضعيفه. (3) أخرجه أبو داود (1346 و 1347) فى الصلاة، باب: فى صلاة الليل، بسند فى رجاله كلام.

على رواية من حفظها وضبطها، وهم أكثر عددا وأحاديثهم أصح، والله أعلم. واختلف فى التسليم: فقال مالك والشافعى وأحمد، وجمهور العلماء: إنه فرض لا تصح الصلاة إلا به. وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى: سنة، لو ترك صحت صلاته، وقال أبو حنيفة: لو فعل منافيا للصلاة من حدث أو غيره فى آخرها صحت صلاته، واحتج بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يعلمه الأعرابى حين علمه واجبات الصلاة. واحتج الجمهور بحديث أبى داود (مفتاح الصلاة الطهور وتحليلها التسليم) «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا قام فى الصلاة طأطأ رأسه. رواه أحمد. وكان لا يجاوز بصره إشارته «2» . وكان قد جعل الله قرة عينه فى الصلاة كما قال: «وجعلت قرة عينى فى الصلاة» «3» رواه النسائى. ولم يكن يشغله- صلى الله عليه وسلم- ما هو فيه عن مراعاة أحوال المأمومين، مع كمال إقباله وقربه من ربه وحضور قلبه بين يديه. وكان يدخل فى الصلاة فيريد إطالتها فيسمع بكاء الصبى فيتجوز فى صلاته مخافة أن يشق على أمه «4» . رواه البخارى وأبو داود والنسائى. وكان يؤم الناس وهو حامل أمامة بنت أبى العاص بن الربيع على

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (61) فى الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذى (3) فى الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (275) فى الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «الإرواء» (301) . (2) أى: أصبع السبابة الذى يشير به. (3) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 61) فى عشرة النساء، باب: حب النساء، من حديث أنس- رضى الله عنه-، بسند صحيح. (4) صحيح: أخرجه البخارى (707) فى الأذان، باب: من أخف الصلاة عند بكاء الصبى، وأبو داود (789) فى الصلاة، باب: تخفيف الصلاة للأمر يحدث، والنسائى (2/ 95) فى الإمامة، باب: ما على الإمام من التخفيف، من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-، وهو فى الصحيحين من حديث أنس- رضى الله عنه-.

عاتقه «1» . رواه مسلم وغيره. قال النووى: وهذا يدل لمذهب الشافعى- رحمه الله- ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبى والصبية وغيرهما من الحيوان فى صلاة الفرض والنفل للإمام والمأموم والمنفرد. وحمله أصحاب مالك- رحمه الله- على النافلة، ومنعوا جواز ذلك فى الفريضة. وهذا التأويل فاسد، لأن قوله: «يؤم الناس» صريح أو كالصريح فى أنه كان فى الفرض. وادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه خاص به- صلى الله عليه وسلم-، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكلها مردودة ولا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح فى جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف الشرع، لأن الآدمى طاهر، وما فى جوفه من النجاسة معفو عنها لكونه فى معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال فى الصلاة لا تبطلها إذا قلّت أو تفرقت، وفعله- صلى الله عليه وسلم- للجواز، وتنبيها على هذه القواعد التى ذكرتها. وهذا يرد ما ادعاه أبو سليمان الخطابى: أن هذا الفعل يشبه أن يكون بغير تعمد لحملها فى الصلاة، لكنها كانت تتعلق به- صلى الله عليه وسلم- فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه، قال: ولا يتوهم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى، لأنه عمل كثير، ويشغل القلب، وإذا كان علم الخميصة شغله «2» فكيف لا يشغله هذا؟ هذا كلام الخطابى، وهو باطل، ودعوى مجردة، ومما يرده قوله فى صحيح مسلم: «فإذا قام حملها، وإذا رفع من السجود أعادها» وقوله فى رواية غير مسلم: «خرج حاملا أمامة وصلى» وذكر الحديث. وأما قصة

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (543) فى المساجد، باب: جواز حمل الصبيان فى الصلاة، وهو فى الصحيحين أيضا بلفظ: كان يصلى وهو حامل أمامة، ورواية «يؤم» عند مسلم كما ذكرنا. (2) صحيح: وحديث الخميصة أخرجه البخارى (373) فى الصلاة، باب: إذا صلى فى ثوب له أعلام، ومسلم (556) فى المساجد، باب: كراهة الصلاة فى ثوب له أعلام، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

الخميصة فإنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد، وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة. والصواب الذى لا يعدل عنه أن الحديث كان للبيان والتنبيه على هذه القواعد، فهو جائز لنا وشرع مستمر إلى يوم القيامة، والله أعلم انتهى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فيجئ الحسن أو الحسين فيركب على ظهره، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره. وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو فى الصلاة. قال جابر: بعثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاجة، فأدركته وهو يصلى فسلمت عليه، فأشار إلى «1» ، رواه مسلم. وقال عبد الله ابن مسعود: لما قدمت من الحبشة أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلى، فسلمت عليه، فأومأ برأسه «2» ، رواه البيهقى. وكان يصلى وعائشة معترض بينه وبين القبلة، فإذا سجد غمزها بيده فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما «3» . رواه البخارى. وكان- صلى الله عليه وسلم- لا يلتفت فى صلاته. وفى البخارى عن عائشة قالت: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الالتفات فى الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» «4» . وروى أبو داود من حديث سهل بن الحنظلية: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال يوم حنين: «من يحرسنا الليلة» ؟ قال أنس بن أبى مرثد الغنوى: أنا يا رسول الله، قال: «اركب» ، فركب فرسا له، فقال: «استقبل هذا الشعب حتى تكون فى أعلاه» ، فلما أصبحنا توّب «5» بالصلاة، فجعل- صلى الله عليه وسلم- يصلى وهو

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (540) فى المساجد، باب: تحريم الكلام فى الصلاة. (2) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (2/ 260) مرسلا ومسندا، وقال عن المرسل: هو المحفوظ. (3) صحيح: أخرجه البخارى (382: 384) فى الصلاة، باب: الصلاة على الفراش، ومسلم (512) فى الصلاة، باب: الاعتراض بين يدى المصلى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (751) فى الأذان، باب: الالتفات فى الصلاة. (5) أى: نودى.

يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة قال: «أبشروا قد جاء فارسكم» «1» . فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد فى الصلاة، وهو يدخل فى مداخل العبادات، كصلاة الخوف، وقريب منه قول عمر- رضى الله عنه- إنى لأجهز الجيش وأنا فى الصلاة، فهذا جمع بين الصلاة والجهاد، ونظيره التفكير فى معانى القرآن واستخراج كنوز العلم منه. وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فعرض له الشيطان ليقطع عليه صلاته، فأخذه وخنقه حتى سال لعابه على يديه «2» . وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلى، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل «3» ، يعنى يبكى، وفى رواية: ولصدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. رواه أحمد. ولم يكن- صلى الله عليه وسلم- يغمض عينيه فى صلاته. وعن أنس قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أميطى عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لى فى صلاتى» «4» . رواه البخارى. ولو كان يغمض عينيه لما عرضت له فى صلاته، وقد اختلف الفقهاء فى كراهيته، والحق أن يقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع كأن يكون فى قبلته زخرفة أو غيرها

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2501) فى الجهاد، باب: فضل الحرس فى سبيل الله تعالى، والحاكم فى «المستدرك» (2/ 93) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو كما قال. (2) رجاله ثقات: أخرجه أحمد فى «المسند» (3/ 82) ، من حديث أبى سعيد الخدرى بسند رجاله ثقات، وهو فى الصحيحين بنحوه. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (904) فى الصلاة، باب: البكاء فى الصلاة، والنسائى (3/ 13) فى السهو، باب: البكاء فى الصلاة، وأحمد فى «المسند» (4/ 25) بسند صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) صحيح: أخرجه البخارى (374) فى الصلاة، باب: إن صلى فى ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

مما يشغل قلبه فلا يكره التغميض قطعا بل ينبغى أن يكون مستحبّا فى هذه الحالة. وقد كانت صلاته- صلى الله عليه وسلم- متوسطة، عارية عن الغلو كالوسوسة فى عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التى شرعت سرّا، وتطويل ما السنة تخفيفه، كالتشهد الأول، إلى غير ذلك مما يفعله كثير ممن ابتلى بداء الوسوسة، عافانا الله منها. وهى نوع من الجنون، وصاحبها بلا ريب مبتدع مستنبط فى أفعاله وأقواله شيئا لم يفعله النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من أصحابه. وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «إن خير الهدى هدى محمد- صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها» «1» وعنه: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار» «2» . ومما نسب لإمام الحرمين: الوسوسة نقص فى العقل، أو جهل بأحكام الشرع. ومن غرائب ما يقع لهؤلاء الموسوسين، أن بعضهم يشتغل بتكرير الطهارة حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ومنهم من يشتغل بالنية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما تفوته ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أن لا يزيد على هذه التكبيرة ثم يكذب. ثم من العجب أن بعضهم يتوسوس فى حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشى فوات الركوع كبر سريعا وأدركه، فمن لم يحصل له النية فى القيام الطويل حال فراغ باله، فكيف حصلت له فى الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة. ومنهم من يكثر التلفظ بالتكبير، حتى يشوش على غيره من المأمومين، ولا ريب أن ذلك مكروه، ومنهم من يزعج أعضاءه، ويحنى جبهته، ويقيم

_ (1) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه مسلم (867) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (46) فى المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، وللحديث شواهد من حديث العرباض بن سارية أخرجه أصحاب السنن.

الفرع الخامس عشر: فى ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم

عروق عينيه، ويصرح بالتكبير كأنه يكبر على العدو ومنهم من يغسل عضوه غسلا يشاهده ويبصره، ويكبر ويقرأ بلسانه، ويسمع بأذنه، ويعلمه بقلبه، ومع ذلك يصدق الشيطان فى إنكاره يقين نفسه وجحده لما رآه ببصره، وسمعه بأذنه. وقد سأل رجل أبا الوفاء بن عقيل فقال: إنى أكبر وأقول ما كبرت، وأغسل العضو فى الوضوء وأقول ما غسلته، فقال ابن عقيل: دع الصلاة فإنها لا تجب عليك، فقال له: كيف ذلك؟ فقال لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «رفع القلم عن المجنون حتى يفيق» «1» ، ومن يكبر ثم يقول ما كبرت فليس بعاقل، والمجنون لا تجب عليه الصلاة. فمن أراد التخلص من هذه البلية فليتبع سنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- السنية، ويقتدى بملته الحنيفية، فإن غلبه الأمر وضاقت عليه المسالك فليتضرع إلى الله ويبتهل إليه فى كشف ذلك. الفرع الخامس عشر: فى ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم ليعلم أن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء والتسبيح، والخضوع. كما قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ «2» وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً «3» الآية. وقال تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ «4» . والمراد به هنا: الدعاء فى محل مخصوص من القيام.

_ (1) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (4399) فى الحدود، باب: فى المجنون يسرق أو يسب أحدا من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) سورة الروم: 26. (3) سورة الزمر: 9. (4) سورة التحريم: 12.

وعن أنس قال: بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- سبعين رجلا يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من سليم، رعل وذكوان، عند بئر يقال لها بئر معونة فقتلوهم، فدعا عليهم النبى- صلى الله عليه وسلم- شهرا فى صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت، قال عبد العزيز بن صهيب: فسأل رجل أنسا عن القنوت أبعد الركوع أو عند فراغ القراءة؟ قال: بل عند فراغ القراءة «1» . وفى أخرى: قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب «2» وفيأخرى قنت شهرا بعد الركوع في الصلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان، ويقول: «عصية عصت الله ورسوله» «3» . وفى أخرى: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سرية يقال لهم: «القراء» فأصيبوا، فما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجد على شئ ما وجد عليهم. فقنت شهرا فى صلاة الفجر «4» . هذه روايات البخارى ومسلم. وللبخارى: كان القنوت فى المغرب والفجر «5» . وفى رواية أبى داود والنسائى: قنت فى صلاة الصبح بعد الركوع «6» ، وفى أخرى: قنت شهرا ثم تركه «7» . وفى أخرى للنسائى: قنت شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان «8» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4088) فى المغازى، باب: غزوة الرجيع، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 184) والنسائى (2/ 203) فى التطبيق باب: اللعن فى القنوت من حديث أنس- رضى الله عنه- والحديث صححه الألبانى فى «صحيح النسائى» . (3) صحيح: أخرجه مسلم (677) فى المساجد، باب: استحباب القنوت فى جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، والنسائى (2/ 200) فى التطبيق، باب: القنوت بعد الركوع. (4) صحيح: أخرجه البخارى (6394) فى الدعوات، باب: الدعاء على المشركين، وانظر ما قبله. (5) صحيح: أخرجه البخارى (798) فى الأذان، باب: فضل اللهم ربنا لك الحمد، وانظر ما قبله. (6) تقدم. (7) صحيح: أخرجه أبو داود (1445) فى الصلاة، باب: القنوت فى الصلاة من حديث أنس وقد تقدم. والحديث صححه الألبانى فى «صحيح: سنن أبى داود» . (8) تقدم.

وعن ابن عباس: قنت- صلى الله عليه وسلم- شهرا متتابعا، فى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، فى دبر كل صلاة، إذا قال «سمع الله لمن حمده» من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه «1» . رواه أبو داود. وعن ابن عمر: أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع فى الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا» ، بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» فأنزل الله عليه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، إلى قوله: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «2» «3» رواه البخارى. وعن أبى هريرة: لما رفع- صلى الله عليه وسلم- رأسه من الركعة الثانية، قال: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» «4» . وفى رواية: فى صلاة الفجر «5» . وفى رواية: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ «6» «7» رواه البخارى ومسلم. وعن البراء: كان- صلى الله عليه وسلم- يقنت فى الصبح والمغرب «8» . رواه مسلم

_ (1) ضعيف منكر: أخرجه أبو داود (1231) فى الصلاة، باب القنوت فى الصلوات، وقال الألبانى: ضعيف منكر. (2) سورة آل عمران: 128. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3762) فى المغازى، باب: ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (4194) فى التفسير، باب: ليس لك من الأمر شئ من حديث أبى هريرة. (5) تقدم قبله. (6) سورة آل عمران: 128. (7) تقدم. (8) تقدم فى الذى قبله.

والترمذى. ولأبى داود: فى صلاة الصبح ولم يذكر المغرب «1» . وعن أبى مالك الأشجعى قال: قلت لأبى: يا أبت، قد صليت خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى بن أبى طالب- هاهنا بالكوفة خمس سنين- أكانوا يقنتون؟ قال: أى بنى، محدث «2» . رواه الترمذى. وعن سعيد ابن جبير قال: أشهد أنى سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت فى صلاة الفجر بدعة. رواه الدار قطنى «3» . قال بعض العلماء «4» : والصواب أنه- صلى الله عليه وسلم- قنت وترك، وكان تركه للقنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم فجاؤا تائبين، وكان قنوته لعارض. فلما زال العارض ترك القنوت. ولم يكن مختصّا بالفجر، بل كان يقنت فى صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخارى فى صحيحه عن أنس، وذكره مسلم عن البراء، وصح عن أبى هريرة أنه قال: والله لأنا أقربكم صلاة من صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنه كان يقنت فى الركعة الأخيرة من الصبح بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده» «5» ،

_ (1) ضعيف: قال أبو داود (1229) فى الصلاة، باب: القنوت فى الصلوات، حدثنا أبو الوليد ومسلم بن إبراهيم وحفص بن عمر، وحدثنا ابن معاذ حدثنى أبى قالوا كلهم حدثنا شعبة عن عمرو بن مرّة عن ابن أبى ليلى عن البراء أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقنت فى صلاة الصبح زاد ابن معاذ وصلاة المغرب. والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (244) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ترك القنوت من حديث أبى مالك الأشجعى عن أبيه- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) ضعيف أخرجه الترمذى (244) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ترك القنوت من حديث أبى مالك الأشجعى عن أبيه- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (3) أخرجه البيهقى فى «الكبرى» (2/ 213) وقال: إنه لا يصح وأبو ليلى الكوفى متروك وقد روينا عن ابن عباس أنه قنت فى صلاة الصبح. (4) هو ابن القيم- رحمه الله تعالى- ذكر ذلك فى «زاد المعاد» (1/ 272) تحت فصل ذكر فيه هديه- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة. (5) صحيح: أخرجه البخارى (689) فى الأذان، باب: اللهم ربنا لك الحمد، ومسلم (392) فى الصلاة، باب: إتيان التكبير فى كل خفض ورفع فى الصلاة إلا رفعه من الركوع فيقول سمع الله لمن حمده.

وقال ابن أبى فديك: ولا ريب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك ثم تركه. فهذا رد على القائل بكراهة القنوت فى الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها ويقولون هو منسوخ وفعله بدعة. وأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه، ويقولون فعله سنة، وتركه سنة، ولا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفا للسنة، من قنت فقد أحسن ومن ترك فقد أحسن. انتهى. ومذهب الشافعى- رحمه الله تعالى- أن القنوت مشروع فى صلاة الصبح دائما، فى الاعتدال من ثانية صلاة الصبح، لما رواه أنس: ما زال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقنت فى الفجر حتى فارق الدنيا «1» . رواه أحمد وغيره. قال ابن الصلاح: قد حكم بصحته غير واحد من الحفاظ، منهم الحاكم والبيهقى وأبو عبد الله محمد بن على البلخى، وفى البيهقى العمل بمقتضاه عن الخلفاء الأربعة. وقال بعضهم: أجمعوا على أنه- صلى الله عليه وسلم- قنت فى الصبح، ثم اختلفوا: هل تركه؟ فيتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه. انتهى. وأما حديث ابن أبى فديك عن عبد الله بن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبيه عن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع فى الركعة الثانية من صلاة الصبح يرفع يديه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم اهدنى فيمن هديت» إلخ ... فقال ابن القيم- فى زاد المعاد- ما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحا أو حسنا، ولكن لا يحتج بعبد الله هذا، وإن كان الحاكم صحح حديثه فى القنوت، انتهى. وهذا الحديث رواه الحاكم وصححه، وردّ عليه، كما قاله ابن القيم، وقد اتفقوا على ضعف عبد الله بن سعيد.

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 162) ، والدار قطنى (1/ 171) من حديث أنس- رضى الله عنه-.

وعن ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يقنت فى صلاة الصبح وفى وتر الليل بهؤلاء الكلمات: «اللهم اهدنى فيمن هديت» ، أخرجه محمد بن نصر فى كتاب قيام الليل. والصحيح: أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص، بل يحصل بكل دعاء. وفيه وجه أنه لا يحصل إلا بالدعاء المشهور وهو: «اللهم اهدنى فيمن هديت وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت، وقنى شر ما قضيت، فإنك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تبارك ربنا وتعاليت» رواه أبو داود والترمذى والنسائى من حديث الحسن بن على قال: علمنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن فى الوتر فذكره «1» . وإسنادهم صحيح، قال البيهقى: قد صح أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت صلاة الصبح وقنوت الوتر، انتهى. وقوله: «فإنك تقضى» بالفاء. وبالواو فى قوله: «وإنه لا يذل» «وربنا» قبل و «تعاليت» إلا أن الفاء لم تقع فى رواية أبى داود. وزاد البيهقى بعد قوله: «إنه لا يذل من واليت» : ولا يعز من عاديت. وزاد ابن أبى عاصم فى كتاب التوبة: نستغفرك اللهم ونتوب إليك. وتسن الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى آخره، لأن النسائى قد رواه من حديث الحسن بسند صحيح أو حسن، كما قاله فى شرح «المهذب» ولفظه- أى النسائى- وصلى الله على النبى. وجزم فى «الأذكار» باستحباب الصلاة على الآل والسلام. وخالفه صاحب «الإقليد» فقال: أما ما وقع فى كتب أصحابنا من زيادة «وسلم» وما يعتاده الأئمة الآن من ذكر الآل والأزواج والأصحاب فكل ذلك لا أصل له. قلت: وعبارة النووى فى «الأذكار» : يستحب أن يقول عقب هذا

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1425) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (464) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. فقد جاء فى حديث النسائى بإسناد حسن، وصلى الله على النبى. انتهى. وتعقب: بأن لفظ الدعوى خلاف الدليل، ويزيد عليه ذكر الآل والتسليم. نعم وقعت الزيادة عند «الرافعى» و «الرويانى» معزوة لحديث الحسن ابن على، عند النسائى لكنها ليست عنده فى رواية أحد من الرواة عنه، على أن لفظ «وصلى الله على النبى» زائد على رواية الترمذى، وهى زيادة غريبة غير ثابتة لأجل عبد الله بن على، أحد رواته، لأنه غير معروف، وعلى تقدير أن يكون هو عبد الله بن على بن الحسن بن على، فهو منقطع، لأنه لم يسمع من جده الحسن بن على، فقد تبين أنه ليس من شرط «الحسن» لانقطاعه أو لجهالة راويه، ولم تجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذ فقد تبين شذوذها على ما لا يخفى. نعم: أصل الحديث إلى آخر «وتعاليت» حسن لاعتضاده برواية الترمذى وغيره، بخلاف الزيادة، إذ لم تجئ فى غيره، وحيث سننا الصلاة على الآل على ما جزم به النووى فينبغى عدها فى القنوت بعضا. قال فى «المجموع» عن البغوى: ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، وهو ظاهر على ما صححه فيه، وفى تحقيقه فى باب «سجود السهو» من أن الاعتدال ركن طويل، أما على ما صححه فيهما فى «صلاة الجماعة» من أنه قصير، وهو ما فى «المنهاج» و «الروضة» فقد يقال القياس البطلان، لأن تطويل الركن القصير عمدا مبطل. ويجاب: يحمل ذلك على غير محل القنوت، إذ البغوى نفسه القائل بكراهة الإطالة قائل بأن تطويل الركن القصير مبطل عمده. ويسن للمنفرد والإمام برضى المحصورين، الجمع فى قنوت الوتر بين القنوت السابق وبين قنوت عمر، وهو: «اللهم إنا نستعينك» «1» إلخ، والأولى تأخيره عن القنوت السابق. ويسن رفع يديه، رواه البيهقى بإسناد جيد.

_ (1) أخرجه اليبهقى (2/ 210) فى الكبرى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.

الفصل الرابع فى سجوده ص للسهو فى الصلاة

قال فى «المجموع» : وفى سن مسح وجهه بهما وجهان: أشهرهما: نعم، وأصحهما، لا، قال البيهقى: ولا أحفظ فى مسحه هنا عن أحد من السلف شيئا. وإن روى عن بعضهم فى الدعاء خارج الصلاة. ومسح غير الوجه كالصدر مكروه. وقال النووى فى «الأذكار» : اختلف أصحابنا فى رفع اليدين فى القنوت، ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه: أصحها: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه، والثانى: يرفع ويمسح، والثالث: لا يمسح ولا يرفع، واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا ذلك مكروه. انتهى. ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت وإن كانت الصلاة سرية للاتباع. رواه البخارى. قال الماوردى: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة، فإن سمعه المأموم أمن كما كانت الصحابة يؤمنون خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك. رواه أبو داود بإسناد حسن. ويوافقه فى الثناء سرّا أو يسكت، لأنه ثناء أو ذكر لا يليق به التأمين، والدعاء يشمل الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم- فيؤمن فيها: صرح به الطبرى. وإن لم يسمع المأموم قنوت الإمام قنت معه سرّا كبقية الأذكار والدعوات، ولا قنوت لغير وتر وصبح، إلا لنازلة من خوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحوها، فيستحب أن يقنت فى مكتوبة غير الصبح. لا منذورة، وصلاة جنازة ونافلة. وفى البخارى من حديث أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم-. جهر بالقنوت فى النازلة. انتهى ملخصا من شرح البهجة لشيخ الإسلام أبى يحيى زكريا الأنصارى، مع زيادة من غيره، والله أعلم. الفصل الرابع فى سجوده ص للسهو فى الصلاة اعلم أن السهو هو الغافلة عن الشئ، وذهاب القلب إلى غيره، قاله

الأزهرى. وفرق بعضهم- فيما حكاه القاضى عياض- بين السهو والنسيان من حيث المعنى، وزعم أن السهو جائز فى الصلاة على الأنبياء، - عليهم الصلاة والسلام-، بخلاف النسيان، قال: لأن النسيان غفلة وآفة، والسهو إنما هو شغل، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يسهو فى الصلاة ولا يغافل عنها، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما هو فى الصلاة شغلا بها لا غفلة عنها، انتهى. قال ابن كيكلدى: وهو ضعيف من جهة الحديث ومن جهة اللغة، أما من جهة الحديث فلما ثبت فى الصحيحين من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» «1» ، وأما من جهة اللغة فقول الأزهرى الماضى، ونحوه قول الجوهرى وغيره. وقال فى النهاية: السهو فى الشئ: تركه من غير علم، والسهو عنه: تركه مع العلم، وهو فرق حسن دقيق، وبه يظهر الفرق بين السهو الذى وقع من النبى- صلى الله عليه وسلم- غير مرة، والسهو عن الصلاة الذى ذم الله فاعله. وقد كان سهوه- صلى الله عليه وسلم- من إتمام نعم الله تعالى على أمته، وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذى فى الموطأ- الآتى التنبيه عليه إن شاء الله تعالى- إنما أنسى أو أنسى لأسن «2» ، فكان- صلى الله عليه وسلم- ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجرى على سهو أمته إلى يوم القيامة. واختلف فى حكمه: فقال الشافعية والمالكية: مسنون كله، وعن المالكية قول آخر: السجود للنقص واجب دون الزيادة. وعن الحنابلة: التفصيل بين الواجبات، فيجب لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (401) فى الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (572) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له. (2) أخرجه مالك فى الموطأ (225) فى السهو، باب: العمل فى السهو.

وعن الحنفية: واجب كله، وحجتهم قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث ابن مسعود عند البخارى «ليسجد سجدتين» «1» والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله- صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله فى الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولا سيما مع قوله- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» «2» انتهى. وقد ورد عنه- صلى الله عليه وسلم- السجود على قسمين: الأول: السجود قبل التسليم. فعن الأعرج عن عبد الله بن مالك بن بحينة أنه قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم «3» . رواه البخارى. وهو رواية له عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن بحينة أيضا أنه قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قام من اثنتين من الظهر، لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك. وفى روايته أيضا عن الأعرج عنه، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قام فى صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسى من الجلوس. ورواه مسلم أيضا. وزاد الضحاك عن الأعرج- عند ابن خزيمة- بعد قوله: «ثم قام فلم يجلس» فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته. وفى رواية الترمذى: قام فى الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم.

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه البخارى (631) فى الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كان جماعة، والدارمى (1253) فى الصلاة، باب: من أحق بالإمامة. من حديث مالك بن الحويرث- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1225) فى الجمعة، باب: ما جاء فى السهو إذا قام من ركعتى الفريضة، ومسلم (570) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث عبد الله بن بحينة- رضى الله عنه-.

وفى هذا: مشروعية سجود السهو، وأنه سجدتان. فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شئ، أو عامدا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة. وأنه يكبر لهما كما يكبر فى غيرهما من السجود. واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام، ولا حجة فيه، فى كون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية. واستدل به أيضا على أن المأمون يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسه المأموم. وأن سجود السهود لا تشهد بعده، وأن محله آخر الصلاة، فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من يوجب التشهد الأخير وهم الجمهور. وفيه أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة، ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به- صلى الله عليه وسلم- كما فى رواية ابن خزيمة- فلم يرجع، فلو تعمد المصلى الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعى. عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر أو العصر، فسلم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله أنقصت؟ فقال النبى- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «أحق ما يقول هذا؟» قالوا: نعم. فصلى ركعتين أخراوين ثم سجد سجدتين. قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ثم صلى ما بقى منها، وسجد سجدتين وقال: هكذا فعل النبى- صلى الله عليه وسلم-. رواه البخارى. وقوله: «صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» ظاهر فى أن أبا هريرة حضر القصة. وحمله الطحاوى على المجاز، فقال المراد به: صلى بالمسلمين. وسبب ذلك قول الزهرى: إن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وقبل إسلام أبى هريرة بأكثر من خمس سنين. لكن اتفق أئمة الحديث- كما نقله ابن عبد البر وغيره- على أن الزهرى وهم فى ذلك، وسببه أنه جعل القصة لذى الشمالين، وذو الشمالين هو الذى قتل ببدر، وهو خزاعى، واسمه عمير، وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-

بمدة لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- كما أخرجه الطبرانى وغيره، وهو سلمى، واسمه الخرباق، كما سيأتى، فلما وقع عند الزهرى بلفظ «فقام ذو الشمالين» وهو يعرف أنه قتل ببدر، قال لأجل ذلك: إن القصة وقعت قبل بدر. وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذى الشمالين وذى اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما، وهو قصة ذى الشمالين، وشاهد الآخرى وهى قصة ذى اليدين، وهذا محتمل فى طريق الجمع. وروى البخارى أيضا عن ابن سيرين عن أبى هريرة قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتى العشى- قال محمد بن سيرين: وأكثر ظنى العصر- ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة فى مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا قصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبى- صلى الله عليه وسلم- ذا اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: «لم أنس، ولم تقصر» ، فقال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه فكبر وسجد، فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر «1» . وعن ابن عمران بن حصين أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى العصر فسلم من ثلاثة ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان فى يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: «أصدق هذا؟» قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم «2» . رواه مسلم وهو من أفراده لم يروه البخارى. ورواه أحمد وأبو داود.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (482) فى الصلاة، باب: تشبيك الأصابع، وفى الجمعة، باب: من يكبر فى سجدتى السهو، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (574) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، وأبو داود (1018) فى الصلاة باب: السهو فى السجدتين، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.

و «الخرباق» بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحدة، وآخره قاف، هو اسم ذى اليدين، كما ذهب إليه الأكثر، وطول يديه يمكن أن يحمل على الحقيقة، أو كناية عن طولهما بالعمل أو البذل. قال الحافظ ابن حجر: الظاهر فى نظرى توحد حديث أبى هريرة، وإن كان قد جنح ابن خزيمة ومن تبعه إلى تعدد هذه القصة، والحامل لهم على ذلك الخلاف الواقع فى السياقين، ففى حديث أبى هريرة أن السلام وقع من اثنتين، وأنه- صلى الله عليه وسلم- قام إلي خشبة فى المسجد، وفى حديث عمران هذا: أنه سلم من ثلاث، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة. فأما الأول فقد حكى كيكلدى العلائى أن بعض شيوخه حمله على المراد به أنه سلم فى ابتداء الركعة الثالثة، واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذى اليدين فى كل مرة استفهم النبى- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، واستفهم النبى- صلى الله عليه وسلم- الصحابة عن صحة قوله. وأما الثانى: فلعل الراوى لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله، لكون الخشبة كانت فى جهة منزله، فإن كان كذلك وإلا فرواية أبى هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعى وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة. انتهى. وعن معاوية بن حديج- بضم الحاء المهملة آخره جيم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى يوما فانصرف وقد بقى من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال: نسيت من الصلاة ركعة؟ فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أو تعرف الرجل؟ قلت: لا، إلا أن أراه، فمر بى فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله «1» . رواه أبو داود والبيهقى فى سننهما، وابن خزيمة فى صحيحه، وعين الصلاة المغرب.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1023) فى الصلاة، باب: إذا صلى خمسا، والنسائى (2- 12) فى الأذان، باب الإقامة لمن نسى ركعة من الصلاة، من حديث معاوية بن حديج- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

وقال ابن خزيمة: وهذه القصة غير قصة ذى اليدين، لأن المعلم للنبى- صلى الله عليه وسلم- فى هذه القصة طلحة بن عبيد الله، ومخبره فى تلك القصة ذو اليدين، والسهو منه- صلى الله عليه وسلم- فى قصة ذى اليدين إنما كان فى الظهر أو العصر، وفى هذه القصة إنما كان السهو فى المغرب لا فى الظهر ولا فى العصر. وعن محمد بن سيرين عن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أصدق ذو اليدين؟» فقال الناس. نعم، فقام- صلى الله عليه وسلم- فصلى اثنتين أخريين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده للصلاة أو أطول، ثم رفع. وفى رواية سلمة بن علقمة، قلت لمحمد- يعنى ابن سيرين- فى سجدتى السهو تشهد؟ فقال: ليس فى حديث أبى هريرة. رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى. قال الحافظ ابن حجر: لم يقع فى غير هذه الرواية لفظ «القيام» وقد استشكل بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان قائما. وأجيب: بأن المراد بقوله: «فقام» أى اعتدل، لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما أمر. وقد يفهم من قول محمد بن سيرين عن التشهد: «ليس فى حديث أبى هريرة» أنه ورد فى حديث غيره. وهو كذلك: فقد رواه أبو داود والترمذى وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبى قلابة أبى المهلب عن عمران بن حصين أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى بهم، فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم. قال الترمذى: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، وضعفه البيهقى وابن عبد البر وغيرهما. ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فرواية أشعث شاذة.

لكن قد ورد فى التشهد فى سجود السهو عن ابن مسعود عند أبى داود والنسائى، وعن المغيرة عند البيهقى، وفى إسنادهما ضعف. فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة فى التشهد باجتماعها ترتقى إلى درجة الحسن، قال العلائى: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبى شيبة. انتهى ملخصا من فتح البارى. وفى رواية أبى سفيان عن أبى هريرة عند مسلم: صلى لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر، فسلم فى ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كل ذلك لم يكن» ، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله. وفى رواية أبى داود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبى هريرة فى هذا الحديث قال: فكبر ثم كبر وسجد للسهو. وهذا يؤيد من قال لا بد من تكبيرة الإحرام فى سجود السهو بعد السلام، والجمهور على الاكتفاء بتكبيرة السجود، وهو ظاهر غالب الأحاديث. وقال أبو داود: لم يقل أحد: «كبر ثم كبر» إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة. ويحتمل أن تكون الخشبة المذكورة فى هذا الحديث الجذع الذى كان- صلى الله عليه وسلم- يستند إليه قبل اتخاذ المنبر. وإنما وقع الاستفهام «هل قصرت الصلاة؟» لأن الزمان كان زمان النسخ. وقوله: فقال: «لم أنس ولم تقصر» صريح فى نفى النسيان ونفى القصر. وفيه تفسير للمراد بقوله فى رواية أبى سفيان المتقدمة «كل ذلك لم يكن» ، وتأييد لما قاله أصحابه المعانى بأن لفظة «كل» إذا تقدمت وعقبها النفى كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كل ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين فى رواية أبى سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه فى هذه الرواية بقوله: «بلى قد نسيت» لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه فى الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر.

وهو حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فيما طريقه التشريع. قال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبى السهو، وهذا الحديث يرد عليهم- يعنى حديث ابن مسعود- فإن فيه «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» . وإن كان القاضى عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو فى الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال. لكنهم تعقبوه. نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه، بل يقع له بيان ذلك، إما متصلا بالفعل أو بعده، كما وقع فى هذا الحديث من قوله: «لم أنس ولم تقصر» ثم تبين أنه نسى. ومعنى قوله: «لم أنس» أى فى اعتقادى، لا فى نفس الأمر، ويستفاد منه: أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة السهو فى مثل ذلك بيان الحكم الشرعى إذا وقع مثله لغيره. وأما من منع السهو مطلقا، فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة: فقيل: قوله «لم أنس» نفى للنسيان، ولا يلزم منه نفى السهو، وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم تضعيفه، ويكفى فيه قوله فى هذه الرواية: «بلى قد نسيت» وأقره على ذلك. وقيل: قوله: «لم أنس» على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول. وتعقب: بحديث ابن مسعود عند البخارى ومسلم بلفظ «صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزاد أو نقص، شك بعض الرواة، والصحيح أنه زاد، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث فى الصلاة شئ؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا: صليت كذا وكذا، قالوا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: «إنه لو حدث فى الصلاة شئ لنبأتكم به، ولكن

إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون. فإذا نسيت فذكرونى، وإذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين» «1» . ففيه: إثبات العلة قبل الحكم، بقوله: «إنما أنا بشر مثلكم» ولم يكتف بإثبات وصف النسيان له، حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا فقال: «كما تنسون» . وبهذا الحديث أيضا يرد قول من قال: «معنى قوله لم أنس» إنكار اللفظ الذى نفاه عن نفسه حيث قال: «إنى لأنس أو أنسّى لأسن» «2» وإنكار للفظ الذى أنكره على غيره حيث قال: «بئسما لأحدكما أن يقول نسيت آية كذا وكذا» «3» . وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث «لا أنسى» لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التى لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وهى أربعة، قاله ابن عبد البر. وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شئ، فإن الفرق بينهما واضح جدّا. وقيل: إن قوله «لم أنس» راجع إلى السلام، أى سلمت قصدا بانيا على اعتقادى أنى صليت أربعا، وهذا جيد، وكأن ذا اليدين فهم العموم فقال: «بلى قد نسيت» ، وكأن هذا القول أوقع شكّا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين. وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذى اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغايرا لما فى اعتقاده.

_ (1) تقدم. (2) أخرجه ملك فى الموطأ (225) فى السهو، باب: العمل فى السهو. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5032) فى فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعهده، بلفظ (نسيت آية كيت وكيت) ، ومسلم (790) فى صلاة المسافرين، باب: الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.

وبهذا يجاب من قال: إن من أخبر بأمر حسى بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حامل لهم على السكوت، ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به. وفيه: أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا، وامتنع فى العادة غفلتهم عن ذلك أنه لا يقبل خبره. وفيه: جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافى سهوا. وقال سحنون: إنما يا بنى من سلم من ركعتين كما فى قصة ذى اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر فيه على مورد النص. وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتى العشى، فيمنعه مثلا فى الصبح، والذين قالوا بجواز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل. وفيه: أن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة، خلافا للحنفية، واستدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها. وتعقب: بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يتكلم إلا ناسيا، وأما قول ذى اليدين له: «بلى قد نسيت» وقول الصحابة له: «صدق ذو اليدين» فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ فى وقت يمكن وقوعه، فتكلموا ظنّا أنهم ليسوا فى صلاة. كذا قيل، وهو فاسد، لأنهم تكلموا بعد قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لم تقصر» . وأجيب: بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومؤوا، كما عند أبى داود فى رواية ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابى، وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ، بخلاف عكسه، فينبغى رد الروايات التى فيها التصريح بالقول إلى هذه الرواية، وهو قوى، أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق وبعضهم قال بالإشارة. لكن يقول قول ذى اليدين: «بلى قد نسيت» . ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا: بأن كلامهم كان

جوابا للنبى- صلى الله عليه وسلم-، وجوابه لا يقطع الصلاة. وتعقب: بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة. وأجيب: بأنه ثبتت مخاطبته فى التشهد، وهو حى، بقولهم: السلام عليك أيها النبى، ولم تفسد الصلاة، والظاهر: أن ذلك من خصائصه. وعن عبد الله أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد فى الصلاة؟ فقال: «وما ذاك؟» قالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم. رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى بهذا اللفظ، إلا أن مسلما لم يقل فيه: «بعد ما سلم» وعبد الله هذا هو ابن مسعود. ففى هذه الأحاديث السجود بعد السلام. وقد اختلف فى ذلك. فقال مالك والمزنى، وأبو ثور- من الشافعية- بالتفرقة إذا كان السهو بالنقصان أو بالزيادة، فى الأول يسجد قبل السلام، وفى الزيادة يسجد بعده. وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره، للجمع بين الخبرين، قال: وهو موافق للنظر، لأنه فى النقص جبر، فينبغى أن يكون من أصل الصلاة، وفى الزيادة ترغيم للشيطان، فيكون خارجها. وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها فيعم الحكم جميع محالها فلا يتخصص إلا بنص. وتعقب بأن كون السجود فى الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص فى المعنى. وقال الخطابى: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضا فقصة ذى اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهى عن نقصان. وأما قول النووى: أقوى المذاهب قول مالك ثم أحمد، فقد قال غيره: بل طريق أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما يرد فيه، وما لم يرد فيه شئ يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما روى عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك لرأيت كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعل قبل التسليم. وعند

إمامنا الشافعى: سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية: كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود هذا. وتعقب: بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد فى الصلاة، وقد اتفق العلماء فى هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة لتجويزهم الزيادة فى الصلاة، لأنه كان زمان توقع النسخ. وأجاب بعضهم: بما وقع فى حديث ابن مسعود من الزيادة. وهى: «إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين» «1» . وأجيب: بأنه معارض بحديث أبى سعيد عند مسلم، ولفظه: «إذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» «2» . وبه تمسك الشافعية. وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، ورجح البيهقى طريقة التخيير فى سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردى الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف فى الأفضل، وكذا أطلق النووى. وتعقب: بأن إمام الحرمين نقل فى «النهاية» الخلاف فى الإجزاء عن المذهب: واستبعد القول بالجواز. ويمكن أن يقال: الإجماع الذى نقله الماوردى والنووى قبل هذه الآراء فى المذاهب المذكورة والله أعلم، قاله الحافظ ابن حجر- رحمه الله-. ولو سها سهوين فأكثر، كفاه عند الشافعى ومالك وأبى حنيفة وأحمد سجدتان للجميع. والجمهور: أنه يسجد للسهو فى التطوع كالفرض.

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه مسلم (571) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث أنس- رضى الله عنه-.

الفصل الخامس فيما كان ص يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدها

الفصل الخامس فيما كان ص يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدها عن ثوبان: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» «1» رواه مسلم. ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك. وقد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى أقبل على أصحابه. فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقول بعد أن يقبل على أصحابه بوجهه الشريف، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يسرع الانفتال إلى المأمومين، وكان ينفتل عن يمينه وعن شماله. وقال ابن مسعود: رأيته- صلى الله عليه وسلم- كثيرا ينصرف عن يساره «2» ، رواه الشيخان. وقالت أم سلمة: كان إذا سلم مكث فى مكانه يسيرا «3» ، قالت «4» : فنرى- والله أعلم- لكى ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. رواه البخارى. وقالت عائشة: كان لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: «اللهم أنت السلام

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (591) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته من حديث ثوبان وعائشة، والترمذى (298) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سلم من الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (852) فى الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، ومسلم (707) فى صلاة المسافرين، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (850) فى الأذان، باب: مكث الإمام فى مصلاه بعد الصلاة، وابن ماجه (932) فى إقامة الصلاة، باب: الانصراف من الصلاة من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-. (4) القائل هو الزهرى وليست أم سلمة كما ذكر المصنف.

ومنك السلام تبارك يا ذا الجلال والإكرام» «1» . رواه مسلم. وهذا الحديث يتمسك به من قال إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع. والجواب: إن المراد بالنفى المذكور نفى استمراره- صلى الله عليه وسلم- جالسا على هيئته قبل السلام إلا بمقدار أن يقول ما ذكر. وكان يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» «2» . رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة. وكان يقول بأعلى صوته: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن الجميل، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» «3» ، رواه مسلم من حديث عبد الله بن الزبير. وعن سعد أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات ويقول: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ بهن دبر الصلوات «اللهم إنى أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر» «4» رواه البخارى.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (592) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والترمذى (298) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا سلم من الصلاة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (844) فى الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة، من حديث المغيرة ابن شعبة- رضى الله عنه-، ومسلم (477) فى الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (594) فى المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والنسائى (1340) فى السهو، باب: عدد التهليل والذكر بعد التسليم، من حديث عبد الله بن الزبير- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (2822) فى الجهاد، باب: ما يتعوذ من الجبن، والترمذى (3567) فى الدعوات، باب: دعاء النبى وتعوذه فى دبر كل صلاة، من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-.

وعن زيد بن أرقم: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول دبر كل صلاة: «اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة، اللهم ربنا ورب كل شئ، اجعلنى مخلصا لك وأهلى فى كل ساعة فى الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب، الله أكبر الله أكبر، الله نور السموات والأرض، الله أكبر حسبى الله ونعم الوكيل، الله أكبر الله أكبر» «1» . رواه أبو داود وأحمد. ورأيت فى كتاب «الهدى» لابن القيم: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، سواء للمنفرد والإمام والمأموم، فلم يكن ذلك من هدى النبى- صلى الله عليه وسلم- أصلا، ولا روى عنه بإسناد صحيح، ولا حسن، وخصص بعضهم بصلاتى الفجر والعصر، ولم يفعله النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا عن السنة بعدهما. قال: وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، قال: وهذا هو الأليق بحال المصلى، فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله فى حال مناجاته والقرب منه وهو مقبل عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه. ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد أن يفرغ منها، ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهى الذكر الوارد بعد المكتوبة، لا لكونه دبر المكتوبة، انتهى. وقد كان فى خاطرى من دعواه «النفى مطلقا» شئ لما سيأتى، ثم رأيت شيخ مشايخنا إمام الحفاظ أبا الفضل ابن حجر تعقبه فقال:

_ (1) ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 369) ، وأبو داود (1508) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم، من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

وما ادعاه من النفى مطلقا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال له: «يا معاذ والله إنى لأحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» «1» . أخرجه أبو داود والنسائى. وحديث زيد بن أرقم: سمعته- صلى الله عليه وسلم- يدعو فى دبر الصلاة: «اللهم ربنا ورب كل شئ» «2» . أخرجه أبو داود والنسائى. وحديث صهيب رفعه: كان يقول إذا انصرف من الصلاة: «اللهم أصلح لى دينى» «3» . أخرجه النسائى وصححه ابن حبان. وغير ذلك. ثم قال: فإن قيل: المراد بدبر الصلاة قرب آخرها وهو التشهد، قلنا: قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه، وقد أخرج الترمذى من حديث أمامة: قيل يا رسول الله أى الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات» «4» ، وقال: حسن، وأخرج الطبرانى من رواية جعفر بن محمد الصادق قال: «الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة، كفضل المكتوبة على النافلة» .

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1522) فى الصلاة، باب: الاستغفار، من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه-، وصححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1508) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم. من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (3) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (3/ 73) فى السهو، باب: نوع آخر من الدعاء عند الانصراف من الصلاة، من طريق عطاء بن أبى مروان عن أبيه قال: وحدثنى كعب أن صهيبا حلف أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- كان يقولهن عند انصرافه من صلاته، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى إسناده فى «ضعيف سنن النسائى» . (4) حسن: أخرجه الترمذى (3499) فى الدعوات، باب: ما جاء فى عقد التسبيح باليد، من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، وقال الترمذى: حديث حسن، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

قال: وفهم كثير من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفى الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلى القبلة، وإيراده عقب السلام، وأما إذا انفتل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. انتهى. وكان- صلى الله عليه وسلم- حين تقام الصلاة فى المسجد إذا رآهم قليلا جلس، وإذا رآهم جماعة صلى. رواه أبو داود. وقال أبو مسعود البدرى: كان- صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا فى الصلاة ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلنى منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم» «1» رواه مسلم. وقال ابن عباس: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى فقمت عن يساره، فأخذ بيدى من وراء ظهره فعدلنى كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن «2» . رواه البخارى ومسلم. قال أنس: سقط- صلى الله عليه وسلم- عن فرس، فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا، فصلينا وراءه قعودا، فلما قضى الصلاة قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا» ، حتى قال: «وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون» «3» . زاد بعض الرواة: وإذا صلى قائما فصلوا قياما. رواه البخارى ومسلم. قال الحميدى: ومعانى سائر الروايات متقاربة وزاد البخارى: قوله:

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (432) فى الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، وأبو داود (674) فى الصلاة، باب: من يستحب أن يلى الإمام فى الصف وكراهية التأخير. والنسائى (2/ 87) فى الإمامة، باب: من يلى الإمام ثم الذى يليه، من حديث أبى مسعود وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (117) فى العلم، باب: السمر فى العلم، ومسلم (763) فى صلاة المسافرين، فى الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (688) فى الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، من حديث عائشة- رضى الله عنهما-، ومسلم (411) فى الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام من حديث أنس- رضى الله عنه-.

الباب الثانى فى ذكر صلاته ص الجمعة

«وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا» «1» هو فى مرضه القديم. وقد صلى فى مرضه الذى مات فيه جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمره- صلى الله عليه وسلم- انتهى. وقال الشافعى وأبو حنيفة وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلى خلف القاعد إلا قائما، واحتجوا بأنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى مرض موته بعد هذا قاعدا، وأبو بكر والناس خلفه قياما. وإن كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر- رضى الله عنه- كان هو الإمام، والنبى- صلى الله عليه وسلم- مقتد به، لكن الصواب أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان هو الإمام. الباب الثانى فى ذكر صلاته ص الجمعة عن أنس بن مالك قال: أتى جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- بمرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما هذا؟» فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، الناس لكم فيها تبع- اليهود والنصارى- ولكم فيها خير، ولكم فيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا جبريل: وما يوم المزيد؟» فقال: إن ربك اتخذ فى الفردوس واديا أقبح فيه كثيب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزمرد عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله تعالى: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدى، فسلونى أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم ما تمنيتم ولدى مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم ربهم فيه من الخير، وفيه استوى ربك على العرش «2» . رواه الشافعى فى مسنده.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (689) وقد تقدم فى الذى قبله. (2) أخرجه الشافعى فى «مسنده» (70) من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.

وروى مسلم من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا فى يوم الجمعة» «1» . وروى البيهقى فى الدعوات من حديث أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل رجب قال: «اللهم بارك لنا فى رجب وشعبان وبلغنا رمضان» «2» ، وكان يقول ليلة الجمعة: «ليل أغر ويوم الجمعة يوم أزهر» . وليوم الجمعة من الخواص ما يبلغ العشرين، ذكرها ابن القيم فى «الهدى النبوى» لا أطيل بذكرها سيما وليس من غرضى. وهو أفضل أيام الأسبوع، كما أن يوم عرفة أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر وليلة الجمعة، ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام. وقال أبو أمامة بن النقاش: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام، قال: وغير هذا لا يسلم قائله من اعتراض يعجز عن دفعه. انتهى. وعن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتو الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذى فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا تبع: اليهود غدا، والنصارى بعد غد» «3» ، رواه البخارى. وفى رواية ابن عيينة عن أبى الزياد عند مسلم: «نحن الآخرون ونحن السابقون» . أى الآخرون زمانا، والأولون منزلة. والمراد باليوم: يوم الجمعة.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (854) فى الجمعة، باب: فضل الجمعة، والترمذى (488) فى الجمعة، باب: ما جاء فى فضل يوم الجمعة، وقال حسن صحيح، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) أخرجه أحمد (1/ 259) من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (876) فى الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (855) فى الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

وقوله: «بيد» - بفتح الباء الموحدة، وإسكان المثناة من تحت وفتح الدال المهملة- أى: غير. وإذا عرف هذا، فقوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ «1» أى على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم فى السبت كان اختلافا على نبيهم فى ذلك اليوم لأجله. فإن قيل: هل فى العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت والأحد، وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم فى ستة أيام، وبدأ الخلق والتكوين فى يوم الأحد، وتم يوم الجمعة، فكان الفراغ يوم السبت، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا فى ترك الأعمال، فعينوا السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا عيدا لنا، فهذان اليومان معقولان، فما الوجه فى جعل يوم الجمعة عيدا؟ فالجواب: إن يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام، وحصول الكمال والتمام يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه والله أعلم. قال ابن بطال: وليس المراد فى الحديث أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله تعالى عليه وهو مؤمن، وإنما يدل- والله أعلم- أنه فرض عليهم يوم الجمعة، ووكل إلى اختيارهم ليقوموا فيه بشريعتهم فاختلفوا فيه ولم يهتدوا ليوم الجمعة. كذا قال، لكن قد روى ابن أبى حاتم عن السدى التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، فأبوا، ولفظه: «إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم» . وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم فى قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ «2» وهم القائلون سَمِعْنا وَعَصَيْنا «3» .

_ (1) سورة النحل: 124. (2) سورة البقرة: 58. (3) سورة البقرة: 93.

ويحتمل قوله «فهدانا الله له» بأن نص لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد، ويشهد الثانى ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلى ونشكره، فجعلوه يوم العزوبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «1» «2» . وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من حديث كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة أسعد بن زرارة «3» . فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن النبى- صلى الله عليه وسلم- علمه بالوحى وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها ثمّ، ولذلك جمّع بهم أول ما قدم المدينة. انتهى وقال ابن إسحاق: لما قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة أقام بقباء، فى بنى عمرو بن عوف، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة فى بنى سالم، فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة وذلك قبل تأسيس مسجده. وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى الجمعة حين تميل الشمس. رواه البخارى من حديث أنس، وفى رواية: إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد

_ (1) سورة الجمعة: 9. (2) رواه عبد بن حميد فى تفسيره عن ابن سيرين. هكذا قال الحافظ فى «التلخيص» (2/ 56) . (3) حسن: أخرجه أبو داود (1069) فى الصلاة، باب: الجمعة فى القرى، وابن ماجه (82) فى إقامة الصلاة، باب: فى فرض الجمعة، من حديث كعب بن مالك- رضى الله عنه- والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

بالصلاة- يعنى الجمعة- وفى رواية سهل بن سعد عند البخارى ومسلم: كنا نصلى معه- صلى الله عليه وسلم- الجمعة ونقيل بعد الجمعة. ثم أعلم أن الخطبة شرط فى انعقاد الجمعة، لا تصح إلا بها، وقال سعيد بن جبير: هى بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذا تركها وصلى الجمعة فقد ترك ركعتين من صلاة الظهر. ولم يكن يؤذن فى زمانه- صلى الله عليه وسلم- على المنار، وبين يديه، وإنما كان بلال يؤذن وحده بين يديه- صلى الله عليه وسلم- إذا جلس على المنبر، كما صرح به أئمة الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم. وعبارة البرهان المرغينانى من الحنفية فى هدايته: وإذا صعد الإمام المنبر جلس، وأذن المؤذن بين يدى المنبر، بذلك جرى التوارث، ولم يكن على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا هذا الأذان. وعبارة ابن الحاجب من المالكية: ويحرم السعى عند آذان جلوس الخطبة، وهو المعهود، فلما كان عثمان وكثروا أمر بأذان قبله على الزوراء، ثم نقله هشام إلى المسجد، وجعل الآخر بين يديه. انتهى. ونحوه قال ابن عبد الحق فى «تهذيب الطالب» . وأما قول ابن أبى زيد فى رسالته: وهذا الأذان الثانى أحدثه بنو أمية. فقال شارحوه- الفاكهانى وغيره-: يعنى الأذان الثانى فى الإحداث وهو الأول فى الفعل، قال: وكان بعض شيوخنا يقول: الأول هو الثانى، والثانى هو الأول ومنشؤه ما تقدم. انتهى. وعبارة الزركشى- كغيره من الشافعية-: ويجلس الإمام على المستراح يستريح من تعب الصعود، ثم يؤذن المؤذن بعد جلوسه، فإن التأذين كان حين يجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن قبله أذان، فلما كان زمن عثمان وكثر الناس، أمرهم بالتأذين ثانيا، ثم يديم الجلوس إلى فراغ المؤذن، انتهى. وعن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام

على المنبر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء «1» ، رواه البخارى وقال: الزوراء موضع بالسوق بالمدينة. وفى رواية له أيضا: أن التأذين الثانى يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد، وهو يفسر بما فسر به قول أبى زيد السابق. وعند ابن خزيمة: كان الأذان على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر أذانين يوم الجمعة «2» . قال ابن خزيمة: قوله «أذانين» يريد: الأذان والإقامة تغليبا أو لاشتراكهما فى الإعلام. وللنسائى: كان بلال يؤذن إذا جلس النبى- صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فإذا نزل أقام «3» . وفى رواية وكيع عن ابن أبى ذئب فأمر عثمان بالأذان الأول «4» ، ونحوه للإمام الشافعى من هذا الوجه. قال فى فتح البارى: ولا منافاة بينهما، لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا، وباعتبار كونه مقدما على الأذان والإقامة يسمى أولا. وأما قوله فى رواية «البخارى: إن التأذين الثانى» فمتوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقى لا الإقامة. وقال الشيخ خليل فى «التوضيح» : واختلف النقل: هل كان يؤذن بين يديه- صلى الله عليه وسلم-، أو على المنار؟ الذى نقله أصحابنا أنه كان على المنار، نقله ابن القاسم عن مالك فى «المجموعة» . ونقل ابن عبد البر فى «كافيه» عن مالك أن الأذان بين يدى الإمام ليس من الأمر القديم. وقال غيره: هو أصل الأذان

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (912) فى الجمعة، باب: الأذان يوم الجمعة، والترمذى (516) فى الجمعة، باب: ما جاء فى أذان الجمعة، وقال: هذا حديث حسن صحيح، من حديث السائب بن يزيد- رضى الله عنه-. (2) أخرجه ابن خزيمة (1774) عن السائب بن يزيد- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 101) فى الجمعة، باب: الأذان للجمعة، من حديث السائب بن يزيد، وأصل الحديث فى الصحيح كما تقدم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) تقدم فى الذى قبله، وهو من طريق ابن أبى ذئب عن الزهرى، عن السائب بن يزيد.

فى الجمعة، وكذلك نقل صاحب «تهذيب الطالب» والمازرى. وفى «الاستذكار» : إن هذا اشتبه على بعض أصحابنا، فأنكر أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدى الإمام كان فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر، وأن ذلك حدث فى زمن هشام. قال: وهذا قول من قل علمه، ثم استشهد بحديث السائب بن يزيد المروى فى البخارى السابق، ثم قال: وقد رفع الإشكال فيه ابن إسحاق عن الزهرى عن السائب بن يزيد، قال: كان يؤذن بين يدى النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا جلس على المنبر يوم الجمعة وأبى بكر وعمر. انتهى. والحكمة فى جعل الأذان فى هذا المحل ليعرف الناس بجلوس الإمام على المنبر فينصتون له إذا خطب. قاله المهلب. قال فى فتح البارى: وفيه نظر، فإن فى سياق محمد بن إسحاق عند الطبرانى وغيره فى هذا الحديث: أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد، فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات. والذى يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان فى جميع البلاد إذ ذاك، لكونه كان حينئذ خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهانى أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد. وفى تفسير جويبر عن الضحاك عن معاذ: أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس الجمعة خارج المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان فى عهد النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين. وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت، وقد تواردت الأخبار أن عثمان هو الذى زاده فهو المعتمد. وقد روى عبد الرزاق ما يقوى هذا الأثر عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى: أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلا، إنما كان يدعو الناس ولا يؤذن غير أذان واحد. انتهى.

لكن عطاء لم يدرك عثمان بن عفان، فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره. ويمكن الجمع: بأن الذى كان فى زمن عمر بن الخطاب استمر على عهد عثمان، ثم رأى أن يجعله أذانا وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان يفعله عمر لكونه مجرد إعلام. وروى ابن أبى شيبة عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة. فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، وأن يكون أراد به: لم يكن فى زمنه- صلى الله عليه وسلم-، لأن كل ما لم يكن فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون غير ذلك. ثم إن فعل عثمان- رضى الله عنه-، كان إجماعا سكوتيّا لأنهم لم ينكروه عليه. انتهى. وأول جمعة جمعها النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه- كما قدمناه فى حديث الهجرة- فى بنى سالم بن عوف، فى بطن واد لهم، فخطبهم وهى أول خطبة خطبها بالمدينة وقال فيها: «الحمد لله أحمده، وأستعينه وأستغفره، وأستهديه وأومن به ولا أكفره، وأعادى من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة والحكمة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، واحذروا ما حذركم الله من نفسه، فإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عون وصدق على ما يبتغون من الآخرة، ومن يصل الذى بينه وبين الله من أمره فى السر والعلانية لا ينوى به إلا وجه الله يكن له ذكرا فى عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوف ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله

نفسه والله رؤف بالعباد، هو الذى صدق وأنجز وعده لا خلف له فإنه يقول: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1» . فاتقوا الله فى عاجل أمركم وآجله، فى السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله توقى مقته وتوقى عقوبته وسخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه وترضى الرب، وترفع الدرجة، فخذوا بحظكم ولا تفرطوا فى جنب الله، فقد علمكم كتابه ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا فى الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى عن بينة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضى على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم» . ذكر هذه الخطبة القرطبى فى تفسيره، وغيره. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يخطب متوكئا على قوس أو عصا. وفى سنن ابن ماجه: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا خطب فى الحرب خطب على قوس، وإذا خطب فى الجمعة خطب على عصا «2» ، وعند أبى داود بإسناد حسن: أنه- صلى الله عليه وسلم- قام متوكئا على قوس أو عصا «3» .

_ (1) سورة ق: 29. (2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1107) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فى الخطبة يوم الجمعة، وتفرد به؛ قال: حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمار ابن سعد حدثنى أبى عن أبيه عن جده أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فذكره والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» . (3) حسن: أخرجه أبو داود (1096) فى الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس، من حديث الحكم بن حزن الكلفى- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

قالوا: والحكمة فى التوكؤ على نحو السيف، الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، ولهذا قبضه باليسرى كعادة مريد الجهاد. ونازع فيه العلامة ابن القيم فى «الهدى النبوى» وقال: إن الدين لم يقم إلا بالقرآن والوحى كذا قاله، والله أعلم «1» . وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صعد المنبر سلم «2» . رواه ابن ماجه. وكان- صلى الله عليه وسلم- يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما «3» ، رواه مسلم من رواية جابر بن سمرة. وفى رواية له: كانت له- صلى الله عليه وسلم- خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس «4» . وفى حديث ابن عمر عند أبى داود: كان- صلى الله عليه وسلم- يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب «5» . قال ابن المنذر: الذى عليه أهل العلم من علماء الأمصار: الخطبة قائما. ونقل غيره عن أبى حنيفة: أن القيام فى الخطبة سنة وليس بواجب. وعن مالك رواية أنه واجب، فإن تركه أساء وصحت الخطبة. وعن الباقين: أن القيام شرط، يشترط للقادر كالصلاة، واستدلوا بحديث جابر بن سمرة، وبمواظبته- صلى الله عليه وسلم- على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعا فى الخطبتين ما احتيج إلى الفصل

_ (1) انظر «زاد المعاد» لابن القيم (1/ 190 و 429) . (2) حسن: أخرجه ابن ماجه (1109) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الخطبة يوم الجمعة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (3) صحيح: أخرجه مسلم (862) فى الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، وأبو داود (1093) فى الصلاة، باب الخطبة قائما، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-. (4) تقدم فى الذى قبله. (5) صحيح: أخرجه أبو داود (1092) فى الصلاة، باب: الجلوس إذا صعد المنبر، من حديث ابن عمر، وأصله فى الصحيح وقد تقدم، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

بالجلوس. ولأن الذى نقل عنه الجلوس، وهو معاوية، كان معذورا، فعند ابن أبى شيبة من طريق الشعبى: أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه «1» . واستدل الشافعى لوجوب الجلوس بين الخطبتين بما تقدم، وبمواظبة النبى- صلى الله عليه وسلم- على ذلك، مع قوله: صلوا كما رأيتمونى أصلى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول بعد الثناء: «أما بعد» «2» كما قاله البخارى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبحكم ومساكم» ويقول: «بعثت وأنا والساعة كهاتين» ، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد- صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» ثم يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلىّ وعلىّ» «3» . رواه مسلم والنسائى من حديث جابر. وفى رواية: كانت خطبته- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة: يحمد الله ويثنى عليه، ثم يقول على أثر ذلك، وقد علا صوته، وذكر نحوه «4» .

_ (1) أخرجه ابن أبى شيبة فى مصنفه (5193) ، من كان يخطب قائما قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبى قال: إنما خطب معاوية قاعدا حيث كثر شحم بطنه ولحمه، وله بنحوه عن طاووس، وذكره الهيثمى فى المجمع (2، 187) فى باب الخطبة قائما والجلوس بين الخطبتين، قال: وعن موسى بن طلحة قال: شهدت عثمان يخطب على المنبر قائما وشهدت معاوية يخطب قاعدا فقال: أما إنى لم أجهل السنة ولكنى كبرت سنّى، ورقّ عظمى، وكثرت حوائجكم، فأردت أن أقضى بعض حوائجكم قاعدا ثم أقوم فاخذ نصيبى من السنة رواه الطبرانى فى الكبير وفيه قيس بن الربيع وقد وثقه شعبة والثورى وضعفه غيرهما. (2) صحيح: أخرجه البخارى (923) فى الجمعة، باب: من قال فى الخطبة بعد الثناء أما بعد، من حديث عمرو بن تغلب- رضى الله عنه-، وفى باب: قول الإمام فى خطبة الكسوف أما بعد من حديث أسماء- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (867) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، وابن ماجه (45) فى المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. (4) صحيح: تقدم فى الذى قبله.

وفى أخرى: كان يخطب الناس يحمد الله ويثنى عليه بما هو أهله ثم يقول: «من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وخير الحديث كتاب الله» «1» . ثم ذكر نحو ما تقدم. وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «2» إلا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس «3» . رواه مسلم. وعن الحكم بن حزن الكلفى قال: قدمت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فلبثنا عنده أياما، شهدنا فيها الجمعة، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متوكئا على قوس، أو قال: عصا، فحمد الله وأثنى عليه، كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: «يا أيها الناس، إنكم لن تفعلوا أو لن تطيقوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا وأبشروا» «4» . رواه أحمد ومسلم. وعن يعلى بن أمية قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ على المنبر وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «5» «6» . رواه البخارى ومسلم. وعن أبى الدرداء قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة فقال: «توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا، وصلوا الذى بينكم وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا، يا أيها الناس إن أكيسكم

_ (1) صحيح: تقدم فى الذى قبله. (2) سورة ق: 1. (3) صحيح: أخرجه مسلم (873) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، وأبو داود (1102) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، من حديث أم هشام بنت حارثة ابن النعمان- رضى الله عنها-. (4) حسن: أخرجه أبو داود (1096) وقد تقدم وعزوه لمسلم خطأ. (5) سورة الزخرف: 77. (6) صحيح: أخرجه البخارى (4819) فى التفسير، باب: قوله ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك، ومسلم (871) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة. من حديث يعلى بن أمية- رضى الله عنه-.

أكثركم ذكرا للموت، وأكرمكم أحسنكم استعدادا له، ألا وإن من علامات العقل التجافى عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكن القبور، والتأهب ليوم النشور» . ورواه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله مختصرا بنحوه «1» . وفى مراسيل أبى داود عن الزهرى قال: كان صدر خطبة النبى- صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدى الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى» «2» . نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه. وعنده أيضا عنه قال: بلغنا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول إذا خطب: «كل ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، يريد الله أمرا، ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله، لا يكون شئ إلا بإذن الله عز وجل» . وقال جابر: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم الجمعة يقول بعد أن يحمد الله ويصلى على أنبيائه: «أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن العبد المؤمن بين مخافتين، أجل قد مضى لا يدرى ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله صانع فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، والذى نفسى بيده، ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، أقول قولى هذا وأستغفر الله العظيم لى ولكم» .

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1081) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: فى فرض الجمعة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1097) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

وعن عمرو أن النبى- صلى الله عليه وسلم- خطب يوما فقال: «ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق يقضى فيها ملك قادر، ألا وإن الخير كله بحذافيره فى الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره فى النار، ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذره خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره» . رواه الشافعى، وعند أبى نعيم فى الحلية نحوه. واختلف: هل يجب الإنصات، ويمنع من جميع أنواع الكلام حال الخطبة، أم لا. وعن الشافعى فى المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف فى أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم، لا على الثانى، والثانى هو الأرجح عندهم، فمن ثم أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام، حتى شنع من شنع عليهم من المخالفين. وعن أحمد أيضا روايتان. وعنهما أيضا: التفرقة بين من يسمع الخطبة وبين من لا يسمعها. وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعهما إلا عن قليل من التابعين. ودخل سليك الغطفانى، وهو- صلى الله عليه وسلم- يخطب، فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «صليت؟» قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود. واستدل به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد. وتعقب: بأنها واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله فى حديث أبى سعيد- عند أهل السنن-: جاء رجل- والنبى- صلى الله عليه وسلم- يخطب- فى هيئة بذة، فقال له: «أصليت؟» قال: لا، قال: «صل

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (930) فى الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلى، ومسلم (875) فى الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب. من حديث جابر بن عبد الله، وليس فيه اسم الرجل الذى دخل، قال النووى فى الإشارات: قال الخطيب: الرجل: سليك الغطفانى، وقيل: النعمان بن قوقل.

ركعتين» ، وحض الناس على الصدقة الحديث «1» ... فأمره بأن يصلى ركعتين ليراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه، وورد أيضا ما يؤيد الخصوصية، وهو ما أخرجه ابن حبان وهو قوله- صلى الله عليه وسلم- لسليك فى آخر الحديث: «لا تعودن لمثلها» «2» ، ومما يضعف الاستدلال به على جواز التحية فى تلك الحالة أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس. فهذا ما اعتل به من طعن فى الاستدلال بهذه القصة على جواز التحية، وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه- صلى الله عليه وسلم- قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجيزون التطوع لعلة التصدق. قال ابن المنير: لو ساغ ذلك لساغ مثله فى التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة، ولا قائل به. ومما يدل على أن أمره بالصلاة لم ينحصر فى قصد التصدق، معاودته- صلى الله عليه وسلم- بأمره بالصلاة فى الجمعة الثانية بعد أن حصل له فى الجمعة الأولى ثوبان تصدق بهما عليه، فدخل بهما فى الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. أخرجه النسائى وابن خزيمة من حديث أبى سعيد أيضا. ولأحمد وابن حبان: أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات فى ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة، لا علة كاملة. وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس، فقد حكى النووى فى شرح مسلم عن المحققين: أن ذلك فى حق العامد العالم، أما الجاهل والناسى فلا، وحال هذا الداخل محمولة فى المرة الأولى على أحدهما، وفى المرتين الأخيرتين على النسيان. والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض

_ (1) متفق عليه: أخرجه البخارى (930) فى الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلى، ومسلم (875) فى الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. (2) حسن: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (2504) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوى.

للأمر بالإنصات والاستماع للخطبة. وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن ذلك وغيره من أدلة المانعين بما يطول ذكره، ثم قال: وهذه الأجوبة التى قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى قتادة: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين» «1» متفق عليه. قال: وورد أخص منه فى حال الخطبة، ففى رواية شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، أو قد خرج فليصل ركعتين» «2» متفق عليه. ولمسلم من طريق أبى سفيان عن جابر أنه قال ذلك فى قصة سليك ولفظه بعد قوله: «فاركعهما وتجوز» ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» «3» . قال النووى: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحا فيخالفه. وقال العارف أبو محمد بن أبى جمرة: هذا الذى أخرجه مسلم نص فى الباب لا يحتمل التأويل. انتهى. وقد قال قوم: إنما أمره- صلى الله عليه وسلم- بسنة الجمعة التى قبلها ومستندهم قوله- صلى الله عليه وسلم- فى قصة سليك- عند ابن ماجه- «أصليت ركعتين قبل أن تجئ؟» لأن ظاهره: قبل أن تجئ من البيت، ولهذا قال الأوزاعى: إن كان صلى فى البيت قبل أن يجئ فلا يصلى إذا دخل المسجد. وتعقب: بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا، ويحتمل أن يكون معنى قوله: «قبل أن تجئ» أى إلى الموضع الذى أنت فيه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1167) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التطوع مثنى مثنى، ومسلم (714) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما وأنها مشروعة فى جميع الأوقات من حديث أبى قتادة بن ربعى الأنصارى- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1170) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التطوع مثنى مثنى، ومسلم (875) فى الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنه-. (3) تقدم فى الذى قبله.

الآن، وفائدة الاستفهام، احتمال أن يكون صلاهما فى مؤخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة، ويؤيده: أن فى رواية مسلم «أصليت الركعتين؟» بالألف واللام، وهى للعهد، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد، وأما سنة الجمعة التى قبلها فيأتى الكلام فيها- إن شاء الله تعالى-. وكانت صلاته- صلى الله عليه وسلم- الجمعة قصدا، وخطبته قصدا «1» . رواه مسلم والترمذى من رواية جابر بن سمرة. زاد فى رواية أبى داود: يقرأ بايات من القرآن ويذكر الناس «2» . وله فى أخرى: كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هى كلمات يسيرات «3» . وعن عمرو بن حريث أنه- صلى الله عليه وسلم- خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه «4» . رواه مسلم. قال ابن القيم فى الهدى «5» : وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا اجتمع الناس خرج إليهم وحده من غير شاوش يصيح بين يديه، ولا لبس طيلسان ولا طرحة ولا سواد، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ثم يجلس. ويأخذ بلال فى الأذان، فإذا فرغ منه قام- صلى الله عليه وسلم- فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبر ولا غيره، ولم يكن

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (866) فى الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، والترمذى (507) فى الجمعة، باب: ما جاء فى قصد الخطبة، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (862) فى الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، ولفظه (يقرأ القرآن ويذكر الناس) ، وأبو داود (1101) فى الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس، من حديث جابر بن سمرة، وقد تقدم فى الذى قبله. (3) حسن: أخرجه أبو داود (1107) فى الجمعة، باب: إقصار الخطب، من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) صحيح: أخرجه مسلم (1359) فى الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام، من حديث عمرو بن حريث، والترمذى (1735) فى اللباس، باب: ما جاء فى العمامة السوداء، من حديث جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام- رضى الله عنهما-، وقال الترمذى: حديث جابر حسن صحيح. (5) (1/ 429) .

يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان يأمر الناس بالدنو منه، ويأمرهم بالإنصات. انتهى. وينظر فى قوله: «ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس، أو عصا قبل أن يتخذ المنبر» . وكان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ بسورة الجمعة فى الركعة الأولى، وإِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ «1» فى الثانية «2» . رواه مسلم والترمذى وأبو داود. والحكمة فى قراءته- صلى الله عليه وسلم- بسورة الجمعة، اشتمالها على وجوب الجمعة وغير ذلك، مما فيه من القواعد، والحث على التوكل والذكر وغير ذلك، وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيه من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون فى مجلس أكثر من اجتماعهم فيها. وفى حديث النعمان بن بشير عند مسلم: وكان يقرأ فى العيدين وفى الجمعة ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3» وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «4» «5» . وقد اختلف فى العدد الذى تنعقد بهم الجمعة، وللعلماء فيه خمسة عشر قولا: أحدها: تصح من الواحد، نقله ابن حزم. الثانى: اثنان كالجماعة، وهو قول النخعى وأهل الظاهر. الثالث: اثنان مع الإمام، عند أبى يوسف ومحمد والليث. الرابع: ثلاثة معه، عد أبى حنيفة وسفيان الثورى.

_ (1) سورة المنافقون: 1. (2) صحيح: أخرجه مسلم (877) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، والترمذى (1124) فى الصلاة، باب: ما يقرأ به فى الجمعة من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) سورة الأعلى: 1. (4) سورة الغاشية: 1. (5) صحيح: أخرجه مسلم (878) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى صلاة الجمعة، وأبو داود (1122) فى الصلاة، باب: ما يقرأ به فى الجمعة، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-.

الخامس: سبعة، عند عكرمة. السادس: تسعة، عند ربيعة. السابع: اثنا عشر، عند ربيعة أيضا فى رواية. الثامن: مثله غير الإمام، عند إسحاق. التاسع: عشرون فى رواية ابن حبيب عن مالك. العاشر: ثلاثون، كذلك. الحادى عشر: أربعون بالإمام عند إمامنا الشافعى، واشتراط كونهم أحرارا، بالغين عقلاء، مقيمين لا يظعنون صيفا ولا شتاء إلا لحاجة، وأن يكونوا حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة. وحجة الشافعى: ما رواه الدار قطنى وابن ماجه والبيهقى فى الدلائل عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبى حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبى أمامة واستغفر له، قال فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان فى الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت له: يا أبت، استغفارك لأبى أمامة كلما سمعت أذان الجمعة ما هو؟ قال: يا بنى، هو أول من جمّع بالمدينة، قال: قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا «1» . وقال جابر بن عبد الله: مضت السنة أن فى كل ثلاثة إماما، وفى كل أربعين فما فوق ذلك جمعة «2» . خرجه الدار قطنى. وروى البيهقى عن ابن مسعود. أنه- صلى الله عليه وسلم- جمّع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا «3» . قال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى- نفع الله بوجوده- قال فى «المجموع» : قال أصحابنا: وجه الدلالة أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، والأصل الظهر، فلا تصح

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (1069) فى الصلاة، باب: الجمعة فى القرى، وابن ماجه (1082) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب فى فرض الجمعة، من حديث كعب بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) أخرجه الدار قطنى (2/ 3) من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. (3) أخرجه البيهقى (3/ 180) من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.

الباب الثالث فى ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه

الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت (صلوا كما رأيتمونى أصلى) ، ولم يثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا يجوز بأقل منه. قال: وأما خبر انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر، فليس فيه أن ابتداءها كان باثنى عشر، بل يحتمل عودهم، أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة. وفى مسلم: «انفضوا فى الخطبة» وفى رواية البخارى «انفضوا فى الصلاة» وهى محمولة على الخطبة جمعا بين الأخبار. انتهى. الثانى عشر: أربعون غير الإمام عند الشافعى أيضا، وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة. الثالث عشر: خمسون، عند أحمد فى رواية، وحكيت عن عمر بن عبد العزيز وطائفة. الرابع عشر: ثمانون، حكاه الرازى. الخامس عشر: جمع كثر بغير حصر. ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل. قاله فى فتح البارى. الباب الثالث فى ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «1» أى بالقرآن، والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن. والهجود فى اللغة: النوم، وعن أبى عبيدة: الهاجد: النائم، والهاجد: المصلى بالليل، وعن الأزهرى: الهاجد: النائم، وقال المازرى: التهجد: الصلاة بعد الرقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، قال: وهكذا كانت صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

_ (1) سورة الإسراء: 79.

وقوله: (نافلة لك) أى عبارة زائدة فى فرائضك، ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله: (فتهجد) أمر، وصيغة الأمر للوجوب، فوجب كون هذا التهجد واجبا، وروى الطبرى عن ابن عباس أن النافلة للنبى- صلى الله عليه وسلم- خاصة، لأنه أمر بقيام الليل، وكتب عليه دون أمته «1» ، وإسناده ضعيف. وقيل معناه: زيادة لك خاصة، لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب، وتطوعه هو- صلى الله عليه وسلم- يقع خالصا له لكونه لا ذنب عليه، فكل طاعة يأتى بها- صلى الله عليه وسلم- سوى المكتوبة إنما تكون لزيادة الدرجات، وكثرة الحسنات، ولهذا سمى نافلة بخلاف الأمة، فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات، فهذه الطاعات يحتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات «2» . وروى مسلم من طريق سعد بن هشام عن عائشة قالت: إن الله افترض قيام الليل فى هذه السورة، تعنى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «3» فقام نبى الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حولا، حتى أنزل فى آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة «4» . وروى محمد بن نصر فى قيام الليل من طريق سماك عن ابن عباس شاهدا لحديث عائشة فى أن بين الإيجاب والنسخ سنة. وحكى الشافعى عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل إلا ما تيسر منه، ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس. وروى محمد ابن نصر من حديث جابر أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبى عبيدة فى جيش الخبط، وكان ذلك بعد الهجرة لكن فى إسناده على بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. فوجوب قيام الليل قد نسخ فى حقنا. وهل نسخ فى حقه- صلى الله عليه وسلم-؟ أكثر الأصحاب: لا، والصحيح: نعم، ونقله الشيخ أبو حامد عن النص.

_ (1) قاله الحافظ ابن حجر فى «فتح البارى» (3/ 3) . (2) انظر ما قبله. (3) سورة المزمل: 1. (4) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين قصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، وأحمد (1) من حديث عائشة.

وقالت عائشة: قام- صلى الله عليه وسلم- حتى تورمت قدماه، وفى رواية: حتى تفطرت قدماه، فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» قالت: فلما بدن وكثر شحمه- صلى الله عليه وسلم- صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع «1» . رواه البخارى ومسلم. والفاء فى قوله: «أفلا أكون» للسببية، وهى عن محذوف تقديره: أأترك تهجدى؟ فلا أكون عبدا شكورا، والمعنى: إن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا، فكيف أتركه؟ قال ابن بطال: فى هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة فى العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لا يعلم، فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار. انتهى. ومحل ذلك- كما قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى- ما لم يفض ذلك إلى الملال، لأن حال النبى- صلى الله عليه وسلم- كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه، وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «وجعلت قرة عينى فى الصلاة» «2» كما أخرجه النسائى من حديث أنس، فأما غيره- صلى الله عليه وسلم- فإذا خشى الملل ينبغى له أن لا يكد نفسه، وعليه يحمل قوله- صلى الله عليه وسلم-: «خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» «3» انتهى. لكن ربما دست النفس أو الشيطان على المجتهد فى العبادة بمثل ما ذكر،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4837) فى التفسير، باب: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك، ومسلم (2820) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد فى العبادة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 61) فى عشرة النساء، باب: حب النساء. من حديث أنس ابن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (3) صحيح: أخرجه البخارى (5862) فى اللباس، باب: الجلوس على الحمير ونحوه، ومسلم (782) فى الصيام، باب: صيام النبى فى غير رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

خصوصا إذا كبر، فيقول: قد ضعفت وكبرت فأبق على نفسك لئلا ينقطع عملك بالكلية، وهذا وإن كان ظاهره جميلا لكن فيه دسائس، فإنه إن أطاعه فقد يكون استدراجا يئول به إلى ترك العمل شيئا فشيئا، إلى أن ينقطع بالكلية، وما ترك سيد المرسلين، المغفور له، شيئا من عمله بعد كبره. نعم كان يصلى بعض ورده جالسا بعد أن كان يقوم حتى تفطرت قدماه، فكيف بمن أثقلت ظهره الذنوب والأوزار، ولا يأمن عذاب النار، أن يغافل حال شيبته، ويتوانى عند ظهور شيبه فينبغى للإنسان أن يستعد قبل حلول مشيبه. «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك» «1» فإن من شاب فقد لاح صبح سواد ليل شعره، وقد قال تعالى منذرا لمن يدخل فى الصباح: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ «2» فكيف بقرب من دخل فى الصباح، وظهر كوكب نهاره فى أفق رأسه ولاح؟! قال القرطبى: ظن من سأله- صلى الله عليه وسلم- عن سبب تحمله المشقة فى العبادة أنه إنما يعبد الله خوفا من الذنوب، وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم أن هناك طريقا آخر للعبادة، وهو الشكر على المغفرة، وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك سمى شكورا، ومن ثم قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «3» . وفيه: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- عليه من الاجتهاد فى العبادة والخشية من ربه عز وجل، قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف لعلمهم بعظيم نعمة الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم فى عبادته ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، والله أعلم، انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه الحاكم فى المستدرك، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن ابن عباس، وأحمد فى الزهد، وأبو نعيم فى الحلية، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن عمرو بن ميمون مرسلا، كما فى «صحيح الجامع» (1077) . (2) سورة هود: 81. (3) سورة سبأ: 13.

ذكر سياق صلاته ص بالليل

ذكر سياق صلاته ص بالليل عن شريح بن هانئ قالت عائشة- رضى الله عنها-: ما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العشاء قط فدخل بيتى إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات «1» . رواه أبو داود. وكان يقوم إذا سمع الصارخ «2» . رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة. وهو يصرخ فى النصف الثانى. وقالت: كان- صلى الله عليه وسلم- ينام أول الليل ويقوم آخره، فيصلى ثم يرجع إلى فراشه فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج «3» . رواه الشيخان. وقالت أيضا: كان- صلى الله عليه وسلم- ربما اغتسل فى أول الليل، وربما اغتسل فى آخره، وربما أوتر فى أول الليل، وربما أوتر فى آخره، وربما جهر بالقراءة، وربما خفت «4» . وقالت أم سلمة: كان يصلى بنا ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلى قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح «5» . رواه أبو داود والترمذى والنسائى. وفى رواية للنسائى: كان يصلى العتمة، ثم يسبح ثم يصلى بعدها ما شاء من

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1353) فى الصلاة، باب: بعد صلاة العشاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1132) فى الجمعة، باب: من نام عند السحر، ومسلم (741) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (علي 1146) فى الجمعة، باب: من نام أول الليل وأحيا آخره، ومسلم (739) فى صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) أخرجه أحمد (6/ 256) ، وأبو داود (236) فى الطهارة، باب الجنب يؤخر الغسل من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى: حسن إلا قول أم سليم المرأة ترى ... إلخ. (5) ضعيف: أخرجه أبو داود (1466) فى الصلاة باب: استحباب الترتيل فى القراءة، والترمذى (2923) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبى، من حديث أم سلمة زوج النبى- صلى الله عليه وسلم-، وليس فيه (صلى بنا) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

الليل ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى ثم يستيقظ من نومه فيصلى مثل ما نام، وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح «1» . وعن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه «2» . رواه النسائى. وكان إذا استيقظ من الليل قال: «لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك لذنبى، وأسألك رحمتك، اللهم زدنى علما ولا تزغ قلبى إذ هديتنى، وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» «3» رواه أبو داود من حديث عائشة. وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا هب من الليل كبر الله عشرا، وحمد الله عشرا، وقال سبحان الله وبحمده عشرا، وقال سبحان الملك القدوس عشرا، واستغفر الله عشرا، وهلل عشرا، ثم قال: «اللهم إنى أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا» ، ثم يفتتح الصلاة «4» . رواه أبو داود. وقد روى حديث قيامه بالليل ووتره عائشة وابن عباس. قال ابن القيم: وإذا اختلف ابن عباس وعائشة فى شئ من أمر قيامه- صلى الله عليه وسلم- بالليل، فالقول قول عائشة، لكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل.

_ (1) ضعيف: أخرجه النسائى (3/ 214) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر صلاة رسول الله بالليل، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1141) فى الجمعة، باب: قيام النبى بالليل من نومه وما نسخ من قيام الليل، والترمذى (769) فى الصوم، باب: ما جاء فى سرد الصوم من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (5061) فى الأدب، باب: ما يقول الرجل إذا تعار من الليل، من حديث عائشة- رضى الله عنها- ولفظه (لا إله إلا أنت سبحانك اللهم أستغفرك لذنبى وأسألك رحمتك، اللهم زدنى علما ولا تزغ قلبى بعد إذ هديتنى وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (4) ضعيف: أخرجه أبو داود (5085) فى الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

انتهى. فأما حديث ابن عباس، فرواه البخارى ومسلم بلفظ: بت عند خالتى ميمونة ليلة والنبى- صلى الله عليه وسلم- عندها، فتحدث النبى- صلى الله عليه وسلم- مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو نصفه قعد ينظر إلى السماء فقرأ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها «2» ، ثم صب فى الجفنة «3» ، ثم توضأ وضوآ حسنا بين الوضوءين «4» لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلى، فقمت وتوضأت فقمت عن يساره، فأخذ بأذنى فأدارنى عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فاذنه بلال الصلاة فصلى ولم يتوضأ. وكان يقول فى دعائه: «اللهم اجعل فى قلبى نورا، وفى بصرى نورا، وفى سمعى نورا، وعن يمينى نورا، وعن يسارى نورا، وفوقى نورا وتحتى نورا، وأمامى نورا وخلفى نورا، واجعل لى نورا» «5» ، وزاد بعضهم: وفى لسانى نورا، وذكر: عصبى ولحمى ودمى وشعرى وبشرى «6» . وفى رواية: فصلى ركعتين خفيفتين، قلت قرأ فيها بأم الكتاب فى كل ركعة، ثم سلم، ثم صلى إحدى عشر ركعة بالوتر ثم نام، فأتاه بلال فقال: الصلاة يا رسول الله، فقام فركع ركعتين ثم صلى للناس «7» . وفى رواية: فقام فصلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه فى كل ركعة

_ (1) سورة آل عمران: 190. (2) القربة: إناء من جلد لحفظ الماء والشناق رباط القربة وما تشد به. (3) الجفنة: القصعة وهى إناء يسع ما يشبع عشرة. (4) قوله (وضوآ بين وضوءين) وقال ابن حجر: قد فسره بقوله (لم يكثر وقد أبلغ) وهو يحتمل أن يكون قلل الماء مع التثليث أو اقتصر على دون الثلاث. (5) صحيح: أخرجه البخارى (6316) فى الدعوات، باب: الدعاء إذا انتبه من الليل، ومسلم (763) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (6) تقدم فى الحديث الذى قبله. (7) صحيح: أخرجه مسلم (763) فى صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء فى صلاة الليل وقيامه، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

بقدر يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «1» . وفى رواية: فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمانى ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس فيهن. وفى رواية النسائى: أنه صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام حتى استثقل فرأيته ينفخ فأتاه بلال، الحديث. وفى أخرى له: فتوضأ واستاك وهو يقرأ هذه الآية حتى فرغ منها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» ثم صلى ركعتين. ثم عاد فنام حتى سمعت نفخه، ثم قام فتوضأ واستاك ثم صلى ركعتين ثم نام ثم قام فتوضأ واستاك وصلى ركعتين وأوتر بثلاث. ولمسلم: فاستيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ وهو يقرأ هذه الآيات، ثم أوتر بثلاث «4» . وأما حديث عائشة فعن سعد بن هشام قال: انطلقت إلى عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، انبئينى عن خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: كان خلقه القرآن، قلت: يا أم المؤمنين، أنبئينى عن وتر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقالت: كنا نعد له- صلى الله عليه وسلم- سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلى تسع ركعات ولا يجلس فيها إلا فى الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم فيصلى التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعو، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بنى، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع فى الركعتين مثل صنيعه

_ (1) سورة المزمل: 1. (2) سورة البقرة: 164. (3) سورة البقرة: 164. (4) صحيح: أخرجه مسلم (763) وقد تقدم.

فى الأول، فتلك تسع يا بنى «1» . رواه مسلم. وللنسائى: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيستاك ويتوضأ ويصلى تسع ركعات، ولا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، ويحمد الله تعالى ويصلى على نبيه ويدعو بينهن ولا يسلم، ثم يصلى ويقعد ويحمد الله تعالى ويصلى على نبيه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين وهو قاعد- زاد فى أخرى: فتلك إحدى عشرة ركعة يا بنى «2» - فلما أسن- صلى الله عليه وسلم- وأخذه اللحم أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما سلم، فتلك تسع، أى بنى «3» . وفى رواية له: فصلى ست ركعات يخيل إلىّ أنه سوى بينهن فى القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة، ثم يصلى ركعتين وهو جالس ثم يضع جنبه. وعن عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين «4» . رواه مسلم وأحمد. وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، ويسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة فى ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين لنا الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة «5» ، رواه أبو داود. وعنها قالت: كان يصلى ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس فى شئ إلا فى آخرها «6» . رواه البخارى ومسلم.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، والنسائى (1601) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: قيام الليل، وهو جزء من حديث سعد بن هشام أنه لقى ابن عباس فسأله عن الوتر، فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: نعم، قال عائشة ائتها فسلها ... الحديث. (2) تقدم فى الذى قبله. (3) تقدم فى الذى قبله. (4) صحيح: أخرجه مسلم (767) وتقدم فى الذى قبله. (5) صحيح: أخرجه البخارى (994) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الوتر، وأبو داود (1336) فى الصلاة، باب: صلاة الليل، من حديث عائشة واللفظ لأبى داود. (6) صحيح: أخرجه البخارى (1164) فى الجمعة، باب: ما يقرأ فى ركعتى الفجر، ومسلم (737) فى صلاة المسافرين، باب. صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل من حديث عائشة واللفظ لمسلم.

وفى البخارى عن مسروق: سألت عائشة عن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة، سوى ركعتى الفجر «1» . وعنده أيضا، عن القاسم بن محمد، عنها: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر «2» . قال القرطبى: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم، حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب. وهذا إنما يتم لو كان الراوى عنها واحدا، وأخبرت عن وقت واحد. والصواب: أن كل شئ ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة، وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، انتهى. وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله. قيل: والحكمة فى عدم الزيادة على إحدى عشرة: أن التهجد، والوتر مختص بصلاة الليل، وفرائض النهار: الظهر وهى أربع، والعصر وهى أربع، والمغرب وهى ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار فى العدد جملة وتفصيلا، وأما مناسبة «ثلاث عشرة» فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها. انتهى. وعن زيد بن خالد الجهنى أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الليلة، قال: فصلى ركعتين خفيفتين، ثم ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة «3» . رواه مسلم.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1139) فى الجمعة، باب: كيف كان صلاة النبى وكم كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى من الليل، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1140) فى الجمعة، باب: كيف كان صلاة النبى وكم كان النبى- صلى الله عليه وسلم- من الليل، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (765) فى صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (1366) فى الصلاة، باب: فى صلاة الليل، من حديث زيد بن خالد الجهنى- رضى الله عنه-.

وقوله: «ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما» أربع مرات، هكذا فى صحيح مسلم وموطأ مالك وسنن أبى داود وجامع الأصول لابن الأثير. فقد كان قيامه- صلى الله عليه وسلم- بالليل أنواعا. أحدها: ست ركعات، يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بثلاث، كما فى حديث ابن عباس، عند مسلم. ثانيها: أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم يتم ورده إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بركعة. رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة. ثالثها: ثلاث عشرة، كذلك رواه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهنى. رابعها: ثمانى ركعات، يسلم من كل ركعتين، ثم يوتر بخمس سردا متوالية، لا يجلس إلا فى آخرهن. رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عباس. خامسها: تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا فى الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعو، ثم ينهض ولا يسلم فيصلى التاسعة، ثم يقعد فيحمده ويدعوه ثم يسلم، ثم يصلى ركعتين بعد ما يسلم قاعدا. رواه مسلم من حديث عائشة. سادسها: يصلى سبعا كالتسع، ثم يصلى بعدها ركعتين جالسا. رواه مسلم أيضا من حديثها. سابعها: كان يصلى مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن. رواه أحمد عنها. ثامنها: ما رواه النسائى عن حذيفة أنه صلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان، فركع فقال فى ركوعه: «سبحان ربى العظيم» مثل ما كان قائما، ثم

جلس يقول: «رب اغفر لى، رب اغفر لى» ، فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة «1» . ورواه أبو داود، ولفظه: أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى من الليل فكان يقول: «الله أكبر، ثلاثا، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» ، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول فى ركوعه: «سبحان ربى العظيم» ، ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: «لربى الحمد» ، ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه، فكان يقول فى سجوده: «سبحان ربى الأعلى» ، ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: «رب اغفر لى» ، فصلى أربع ركعات، فقرأ فيهم البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام، شك شعبة «2» . ورواه البخارى ومسلم بلفظ: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلى بها فى ركعة، فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر باية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: «سبحان ربى العظيم» ، فكان ركوعه نحو قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده» - زاد فى رواية: «ربنا لك الحمد» - ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: «سبحان ربى الأعلى» ، فكان سجوده قريبا من قيامه «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 226) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: تسوية القيام والركوع والقيام بعد الركوع والسجود، من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-، قال النسائى: هذا حديث عندى مرسل، وقال الألبانى فى «صحيح النسائى» صحيح. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (874) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل فى ركوعه وسجوده، من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) صحيح: أخرجه مسلم (772) فى صلاة المسافرين باب: استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل، من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-.

وزاد النسائى: لا يمر باية تخويف أو تعظيم لله عز وجل إلا ذكره «1» . وقد كانت هيئة صلاته- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة: أحدها: أنه كان أكثر صلاته قائما: فعن حفصة قالت: ما رأيته- صلى الله عليه وسلم- صلى فى سبحته قاعدا «2» ، حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلى فى سبحته قاعدا، الحديث رواه أحمد ومسلم والنسائى وصححه الترمذى. الثانى: كان يصلى قاعدا ويركع قاعدا. رواه البخارى ومسلم وغيرهما من حديث عائشة بلفظ: وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد «3» . الثالث: كان يقرأ قاعدا، فإذا بقى يسير من قراءته قام فركع قائما. رواه مسلم من حديث عائشة ولفظه: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى جالسا، ويقرأ وهو جالس فإذا بقى من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين آية قام وقرأ وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، ثم يفعل فى الركعة الثانية مثل ذلك «4» . وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى متربعا «5» . رواه الدار قطنى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يصلى ركعتين بعد الوتر جالسا تارة، وتارة يقرأ فيهما وهو جالس

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 224) فى التطبيق، باب: نوع آخر، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (733) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا، والترمذى (373) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الرجل يتطوع جالسا، والنسائى (1658) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: صلاة القاعد فى النافلة، من حديث حفصة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (730) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا، والترمذى (373) وقد تقدم فى الذى قبله من حديث حفصة. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1119) فى الجمعة، باب: إذا صلى قاعدا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقى، ومسلم (731) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (5) أخرجه النسائى (3/ 224) فى قيام الليل والتطوع بالنهار، باب: كيف صلاة القاعد، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، قال النسائى: لا أعلم أحدا روى هذا الحديث غير أبى داود وهو ثقة ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ، قال الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» : صحيح.

فإذا أراد أن يركع قام فركع «1» . قالت عائشة: كان يوتر بواحدة، ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع «2» . رواه ابن ماجه. وعن أبى أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما إِذا زُلْزِلَتِ «3» والْكافِرُونَ «4» . رواه أحمد: واختلف فى هاتين الركعتين فأنكرهما مالك وكذا النووى فى المجموع. وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعه. انتهى. والصواب: أنه إنما فعلهما بيانا لجواز الصلاة بعد الوتر، وجواز الصلاة جالسا، ولفظة «كان» لا تفيد دواما ولا أكثرية هنا. وغلط من ظنهما سنة راتبة، فإنه- صلى الله عليه وسلم- ما داومهما، ولا تشبه السنة بالفرض حتى يكون للوتر صلاة بعده. وأما قيامه- صلى الله عليه وسلم- ليلة النصف من شعبان، فعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك فرجعت، فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته، قال: «يا عائشة، أو يا حميراء، أظننت أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قد خاس بك» ، قلت: لا والله يا رسول الله، ولكنى ظننت أنك قد قبضت لطول سجودك، فقال: «أتدرين أى ليلة هذه؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «هذه ليلة النصف من شعبان، إن الله عز وجل يطلع على

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1195) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الركعتين بعد الوتر جالسا، من حديث أم سلمة، ولفظه: (أن النبى- صلى الله عليه وسلم-، كان يصلى بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1196) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الركعتين بعد الوتر جالسا، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (3) سورة الزلزلة: 1. (4) سورة الكافرون: 1.

عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد كما هم» ، رواه البيهقى من طريق العلاء بن الحارث عنها، وقال: هذا مرسل جيد، يعنى أن العلاء لم يسمع من عائشة. وقد ورد فى فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث كثيرة، لكن ضعفها الأكثرون، وصحح ابن حبان بعضها وخرجه فى صحيحه، ومن أمثلها- كما نبه عليه الحافظ ابن رجب- حديث عائشة قالت: فقدت النبى- صلى الله عليه وسلم- فخرجت فإذا هو بالبقيع، رافع رأسه إلى السماء، فقال: «أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله» ، فقلت: يا رسول الله قد ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: «إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب» «1» . رواه أحمد، وقال الترمذى: إن البخارى ضعفه. وفى سنن ابن ماجه: بإسناد ضعيف، عن على مرفوعا: «إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر» «2» . وقد كان التابعون من أهل الشام، كخالد بن معدان، ومكحول يجتهدون ليلة النصف من شعبان فى العبادة، وعنهم أخذ الناس تعظيمها، ويقال: إنه بلغهم فى ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم اختلف الناس، فمنهم من قبله منهم، وقد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء، وابن أبى مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (739) فى الصوم عن رسول الله، باب: ما جاء فى ليلة النصف من شعبان، وابن ماجه (1389) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى ليلة النصف من شعبان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، قال الترمذى: حديث حسن صحيح، وهو كما قال. (2) ضعيف جدّا: أخرجه ابن ماجه (1388) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فى ليلة النصف من شعبان، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، قال الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» : ضعيف جدّا أو موضوع.

أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة. واختلف علماء أهل الشام فى صفة إحيائها على قولين: أحدهما: إنه يستحب إحياؤها جماعة فى المساجد، وكان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون فى المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهواه على ذلك، وقال فى قيامها فى المساجد جماعة ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرمانى فى مسائله. الثانى: أنه يكره الاجتماع لها فى المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلى الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعى إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم. ولا يعرف للإمام أحمد كلام فى ليلة النصف من شعبان، ويتخرج فى استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه فى قيام ليلتى العيد، فإنه فى رواية لم يستحب قيامها جماعة، لأنه لم ينقل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه فعلها، واستحبها فى رواية لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود لذلك، وهو من التابعين، وكذلك قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شئ عن النبى- صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه، إنما ثبت عن جماعة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام. انتهى ملخصا من اللطائف. وأما قوله تعالى فى سورة الدخان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «1» فالمراد بها إنزاله تعالى القرآن فى ليلة القدر، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2» وكان ذلك فى شهر رمضان، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «3» . قال الحافظ ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، كما روى

_ (1) سورة الدخان: 3. (2) سورة القدر: 1. (3) سورة البقرة: 185.

عن عكرمة، فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها فى رمضان. وأما الحديث الذى رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهرى، أخبرنى عثمان بن محمد بن المغيرة: أن الأخنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تقطع الأجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد وقد أخرج اسمه فى الموتى» «1» . فهو حديث مرسل، ومثله لا تعارض به النصوص. انتهى. وأما قيامه- صلى الله عليه وسلم- فى شهر رمضان، وهو الذى يسمى بالتراويح: جمع روحية، وهى المرة الواحدة من الراحة، وسميت بذلك لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. فعن عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر «2» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. ولمسلم: قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- يجتهد فى رمضان ما لا يجتهد فى غيره، وفى العشر الأخير منه ما لا يجتهد فى غيره «3» . وفى رواية الترمذى: كان يجتهد فى العشر الأواخر منه ما لا يجتهد فى غيره «4» . وعنها: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذى صنعتم، ولم

_ (1) أخرجه ابن زنجويه، والديلمى عن عثمان بن محمد الأخنس كما فى «كنز العمال» (42780) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (2024) فى صلاة التراويح، باب: العمل فى العشر الأواخر من رمضان، ومسلم (1174) فى الاعتكاف، باب: الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1175) فى الاعتكاف، باب: الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، والترمذى (796) فى الصوم، باب: منه من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) تقدم فى الذى قبله.

يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم» ، وذلك فى رمضان «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود. وفى رواية للبخارى ومسلم، أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج من جوف الليل فصلى فى المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج- صلى الله عليه وسلم- فى الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كان فى الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليه- صلى الله عليه وسلم-، فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلا يخرج إليهم، حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد فقال: «أما بعد؛ إنه لم يخف على شأنكم الليلة، ولكنى خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليلة فتعجزوا عنها» «2» . وفى رواية بنحوه ومعناه مختصرا: قال: وذلك فى رمضان. قال فى فتح البارى: ظاهر الحديث أنه- صلى الله عليه وسلم- توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجود المواظبة عليها، وفى ذلك إشكال بناه بعض المالكية على قاعدتهم: فى أن الشروع ملزم، وفيه نظر. وأجاب المحب الطبرى: أنه يحتمل أن يكون الله عز وجل أوحى إليه: إنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم. وقيل: خشى أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب، قال القرطبى: أى يظنوه فرضا، فيجب على من ظن ذلك، كما إذا ظن المجتهد حل شئ أو تحريمه فإنه يجب عليه العمل به.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1129) فى الجمعة، باب: تحريض النبى على صلاة الليل والنوافل، ومسلم (761) فى صلاة المسافرين، باب: الترغيب فى قيام رمضان وهو التراويح، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2012) فى صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان ومسلم وقد تقدم فى الذى قبله.

وقد استشكل الخطابى أصل هذه الخشية، مع ما ثبت فى حديث الإسراء، من أن الله تعالى قال: (هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدى) فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة، وهذا يدفع فى صدور الأجوبة المتقدمة. وقد أجاب عنه الخطابى: بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه- صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها- يعنى عند المواظبة- فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك فى الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به، لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر، فتجب عليه ولا يلزم من ذلك زيادة فرض فى أصل الشرع. قال: وفيه احتمال آخر، وهو أن الله تعالى فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمها بشفاعة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم- صلى الله عليه وسلم- منه، لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضا عليهم. قال الحافظ ابن حجر: وقد تلقى هذين الجوابين عن الخطابى جماعة كابن الجوزى، وهو مبنى على أن قيام الليل كان واجبا على النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفى كل من الأمرين نزاع. ثم أجاب منه بثلاثة أجوبة: أحدها: أنه يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد فى المسجد جماعة شرطا فى صحة التنفل بالليل، قال: ويومئ إليه قوله فى حديث زيد بن ثابت: «حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس فى بيوتكم» «1» فمنعهم من التجمع فى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (731) فى الأذان، باب صلاة الليل، والنسائى (1599) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الحث على الصلاة فى البيوت والفضل فى ذلك من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه-.

المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه فى المواظبة على ذلك فى بيوتهم من افتراضه عليهم. وثانيها: أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائدا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم فى العيد ونحوها. وثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع فى حديث الباب أن ذلك كان فى رمضان، وفى حديث سفيان بن حسين «خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر» «1» ، قال: فعلى هذا يرتفع الإشكال لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم فى السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس، وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة فى نظرى الأول. وعن النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، وكانوا يسمونه السحور «2» . رواه النسائى. واختلف العلماء: هل الأفضل فى صلاة التراويح أن تصلى جماعة فى المسجد، أو فى البيوت فرادى؟ فقال الشافعى وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة، كما فعل عمر بن الخطاب والصحابة، واستمر عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد. فإن قلت: قد ذكرت أن الحافظ ابن حجر حمل قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (761) وقد تقدم أكثر من مرة ولفظه خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها. (2) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 203) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب قيام شهر رمضان، من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

خشيت أن تفرض عليكم» على التجميع فى المسجد، وقال: إنه أقوى الأوجه. فالجواب: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما مات حصل الأمن من ذلك، ورجح عمر التجميع لما فى الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحدة أنشط لكثير من المصلين. وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل صلاتها فرادى فى البيوت، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الصلاة صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة» «1» ، قالوا: وإنما فعلها- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد لبيان الجواز، أو لأنه كان معتكفا. وأما عدد الركعات التى كان- صلى الله عليه وسلم- يصليها فى رمضان، فعن أبى سلمة أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان؟ قالت: ما كان يزيد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى ثلاثا، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: «يا عائشة، إن عينى تنامان ولا ينام قلبى» «2» . رواه البخارى ومسلم. وأما ما رواه ابن أبى شيبة من حديث ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فى رمضان عشرين ركعة والوتر «3» ، فإسناده ضعيف. وقد عارضه حديث عائشة هذا، وهى أعلم بحال النبى- صلى الله عليه وسلم- ليلا من غيرها.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (731) فى الأذان، باب: صلاة الليل، ومسلم (781) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة النافلة فى بيته وجوازها فى المسجد، من حديث زيد بن ثابت- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2013) فى صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان، ومسلم (738) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل. (3) صحيح: أخرجه البخارى (2010) فى صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان، ومالك فى الموطأ (252) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى قيام رمضان، عن عبد الرحمن بن عبد القارى أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب فى رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون ... فذكره.

وقد كان الأمر فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- استمر على أن كل واحد يقوم فى رمضان فى بيته منفردا، حتى انقضى صدر من خلافة عمر. وفى البخارى: أن عمر خرج ليلة فى رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط، فقال عمر: إنى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أجمع، ثم عزم فجمعهم على أبى بن كعب، ثم خرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه، والتى تنامون عنها أفضل من التى تقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله. وإنما اختار أبيّا لأنه كان أقرأهم، كما قال عمر. وروى سعيد بن منصور من طريق عروة: أن عمر جمع الناس على أبى ابن كعب، فكان يصلى بالرجال، وكان تميم الدارى يصلى بالنساء. وفى الموطأ: أمر عمر أبى بن كعب وتميما الدارى أن يقوما للناس فى رمضان «1» . وروى البيهقى بإسناد صحيح أن الناس كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب فى شهر رمضان بعشرين ركعة. قال الحليمى: والسر فى كونها عشرين ركعة أن الرواتب فى غير رمضان عشر ركعات، فضوعفت لأنه وقت جد وتشمير. وفى الموطأ: بثلاث وعشرين «2» . وجمع البيهقى بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث. وفى الموطأ: عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة «3» ، وعند عبد العزيز: إحدى وعشرين. والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة يقل الركعات وبالعكس.

_ (1) أخرجه مالك فى «الموطأ» (254) . (2) أخرجه مالك فى «الموطأ» (255) . (3) أخرجه مالك فى «الموطأ» (253) .

وقد روى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس، قال: أدركت الناس فى إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز- يعنى بالمدينة- يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث. وقال مالك: هو الأمر القديم عندنا. وعن الزعفرانى عن الشافعى: رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، وليس فى شئ من ذلك ضيق. وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلى. انتهى. وهل يجوز لغير أهل المدينة صلاتها ستّا وثلاثين، قال النووى: قال الشافعى: لا يجوز ذلك لغيرهم، لأن لأهلها شرفا بهجرته- صلى الله عليه وسلم- ومدفنه، ويخالفه قول الحليمى: ومن اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين فحسن أيضا. وينبغى أن يسلم من كل ركعتين، فلو صلى أربعا بتسليمة واحدة لم يصح وفاقا للقاضى حسين فى فتاويه، ولو صلى سنة الظهر أو العصر أربعا بتسليمة واحدة جاز، والفرق: أن التراويح بمشروعية الجماعة أشبهت الفرائض، قاله النووى فى فتاويه، وصرح به فى «الروضة» . وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يطيل القراءة فى رمضان بالليل أكثر من غيره. وقد صلى معه حذيفة ليلة فى رمضان، قال: فقرأ بالبقرة ثم بالنساء ثم آل عمران، لا يمر باية تخويف إلا وقف وسأل، قال: فما صلى الركعتين حتى جاءه بلال فاذنه بالصلاة «1» . أخرجه أحمد وأخرجه النسائى. وعنده أيضا: أنه ما صلى إلا أربع ركعات «2» . وكان للشافعى فى رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة.

_ (1) تقدم. (2) تقدم.

الباب الرابع فى صلاته ص الوتر

الباب الرابع فى صلاته ص الوتر قد صح عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه أوتر بخمس لم يجلس فى آخرها «1» . لكن أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا. واحتج الحنفية لما ذهبوا إليه- من تعيين الوصل-، والاقتصار على ثلاث- بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما زاد أو نقص، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه. وتعقبه محمد بن منصور المروزى، بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبى هريرة مرفوعا وموقوفا «لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب» «2» وقد صححه الحاكم، وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث فى الوتر وقال: لا يشبه التطوع بالفرض. انتهى. لكن قد روى الحاكم من حديث عائشة أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يوتر بثلاث لا يقعد إلا فى آخرهن «3» ، وروى النسائى من حديث أبى بن كعب نحوه، ولفظه: (يوتر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «4» وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «5» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «6» ولا يسلم إلا فى آخرهن) «7» وبين فى عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات.

_ (1) تقدم. (2) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 446) . (3) سورة الأعلى: 1. (4) سورة الكافرون: 1. (5) سورة الإخلاص: 1. (6) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 447) . (7) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 235) فى قيام الليل، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أبى بن كعب فى الوتر، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهى عن التشبيه بصلاة المغرب، أن يحمل النهى على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضا. وروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض إلى الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة: أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا فى آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن. وكان ابن عمر يسلم من الركعة والركعتين فى الوتر. حتى يأمر ببعض حاجته، وهذا ظاهره أنه كان يصلى الوتر موصولا، فإن عرضت له حاجة فصل ثم بنى على ما مضى. وفى هذا رد على من قال: لا يصح الوتر إلا موصولا. وأصرح من ذلك ما روى الطحاوى من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يفعله، وإسناده قوى. وقد استدل بعضهم على فضل الفصل بأنه- صلى الله عليه وسلم- أمر به وفعله، وأما الوصل فورد من فعله فقط وقد حمل المخالف من الحنفية كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرا من الأحاديث ظاهر فى الفصل، كحديث عائشة «يسلم من كل ركعتين» «1» فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص فى موضع النزاع. وقد حمل الطحاوى هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك فى دعوى ذلك إلا بالنهى عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شئ، وهو أعم من أن يكون مع الوصل والفصل. وقد اختلف السلف فى أمرين: أحدهما: فى مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس. والثانى: فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل فى الليل، هل يكتفى بوتره الأول

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (736) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الليل.

ويتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل؟ ثم إذا فعل هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟ أما الأول: فوقع عند مسلم من طريق أبى سلمة عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى ركعتين بعد الوتر وهو جالس «1» . وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، وجعلوا الأمر فى قوله: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» «2» مختصّا بمن أوتر آخر الليل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن بالركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر. وحمله النووى على أنه- صلى الله عليه وسلم- فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسا. وأما الثانى: فذهب الأكثر إلى أنه يصلى شفعا ما أراد ولا ينقض وتره، عملا بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا وتران فى ليلة» «3» وهو حديث حسن أخرجه النسائى وابن خزيمة من حديث طلق بن على، وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر. واختلف السلف أيضا فى مشروعية قضاء الوتر، فنفاه الأكثر، وفى مسلم عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة «4» . وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى شئ من الأخبار

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه البخارى (998) فى الجمعة، باب ليجعل آخر صلاته وترا، ومسلم (751) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 229) فى قيام الليل، باب: نهى النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الوترين فى ليلة، وأحمد فى «المسند» (4/ 23) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، والترمذى (445) فى الصلاة، باب: إذا نام عن صلاته بالليل صلى بالنهار، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه، وعن عطاء والأوزاعى: يقضى ولو طلعت الشمس إلى الغروب، وهو وجه عند الشافعى حكاه النووى فى شرح مسلم، وعن سعيد بن جبير: يقضى من القابلة، وعن الشافعية: يقضى مطلقا وقالت عائشة: أوتر- صلى الله عليه وسلم- من كل الليل، من أوله وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى. والمراد بأوله: بعد صلاة العشاء. ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر أوله لعله كان وجعا، وحيث أوتر فى وسطه لعله كان مسافرا، وأما وتره فى آخره فكان غالب أحواله لما عرف من مواظبته على الصلاة آخر الليل والسحر قبيل الصبح. وحكى الماوردى أنه السدس الأخير، وقيل أوله الفجر الأول. وفى رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس، عند ابن خزيمة: فلما انفجر الفجر قام- صلى الله عليه وسلم- فأوتر بركعة، قال ابن خزيمة والمراد به: الفجر الأول. وروى أحمد من حديث معاذ مرفوعا: «زادنى ربى صلاة وهى الوتر، وقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» «2» . وفى إسناده ضعف، وكذا فى حديث خارجة بن حذافة فى السنن، وهو الذى احتج به من قال بوجوب الوتر، وليس صريحا فى الوجوب. وأما حديث بريدة رفعه: «الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا- وأعاد ذلك ثلاثا-» «3» . ففى سنده أبو المنيب، وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (996) فى الجمعة، باب: ساعات الوتر، ومسلم (745) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل إن أوتر، والترمذى (456) واللفظ له، فى الصلاة، باب: ما جاء فى الوتر من أول الليل وآخره من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) أخرجه أحمد (5/ 242) بسند فيه ضعف. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1419) فى الصلاة، باب: فيمن لم يوتر من حديث بريدة بن الحصيب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظة «حق» بمعنى واجب فى عرف الشارع، وأن لفظة «واجب» بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد، والله أعلم. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى وعائشة راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظها فتوتر «1» ، كما فى البخارى. وهذا يدل على استحباب الوتر فى آخر الليل، سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره. واستدل به على وجوب الوتر، لكونه- صلى الله عليه وسلم- سلك به مسلك الواجب، حيث لم يدعها نائمة للوتر، وأبقاها للتهجد. وتعقب: بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب، نعم يدل على تأكيد أمره بالوتر، وأنه فوق غيره من النوافل الليلية. وفيه: استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة، ولا يختص ذلك بالمفروضة ولا بخشية خروج الوقت، بل يشرع ذلك لإدراك الجماعة، وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات. قال القرطبى: ولا يبعد أن يقال: إنه واجب فى الواجب، مندوب فى المندوب، لأن النائم وإن لم يكن مكلفا لكن مانعه سريع الزوال، فهو كالغافل، وتنبيه الغافل واجب والله أعلم. وعن على: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ فى كل ركعة بثلاث سور آخرهن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» رواه الترمذى. وعن ابن عباس: كان يقرأ فى الوتر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3» وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «4» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «5» فى كل ركعة «6» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (512) فى الصلاة، باب: الصلاة خلف النائم، ومسلم (512) فى الصلاة، باب: الاعتراض بين يدى المصلى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (460) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الوتر بثلاث، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: ضعيف جدّا. (3) سورة الأعلى: 1. (4) سورة الكافرون: 1. (5) سورة الإخلاص: 1. (6) صحيح: أخرجه الترمذى (462) فى الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ به فى الوتر، والنسائى (3/ 236) فى الصلاة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وعن عائشة: كان يقرأ فى الأولى ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» وفى الثانية ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «2» وفى الثالثة ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «3» و «المعوذتين» «4» . رواه أبو داود والترمذى. ولأبى داود: وكان إذا سلم قال: «سبحان الملك القدوس» . وعند النسائى: ثلاثا يطيل فى آخرهن «5» ، وفى رواية: «ويرفع صوته بالثالثة «6» . وعن على: كان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى آخر وتره: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «7» . رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه. قال ابن تيمية: سنة الفجر تجرى مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته، وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى سنة الفجر وفى الوتر بسورتى الإخلاص والكافرون، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «8» متضمنة لتوحيد الاعتقاد

_ (1) سورة الأعلى: 1. (2) سورة الكافرون: 1. (3) سورة الإخلاص: 1. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (463) فى الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ به فى الوتر، وابن ماجه (1173) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الوتر، من حديث عائشة قال الترمذى: حسن غريب، قال الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» : صحيح. (5) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 245) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الدعاء فى الوتر من حديث عبد الرحمن بن أبزى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (6) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 244) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الدعاء فى الوتر من حديث عبد الرحمن بن أبزى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (7) صحيح: أخرجه أبو داود (1427) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (3566) فى الدعوات، باب: فى دعاء الوتر، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (8) سورة الإخلاص: 1.

والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذى لا يلحقه نقص، ونفى الولد والوالد والكفؤ، المتضمن لنفى الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت إثبات كل كمال ونفى كل نقص عنه، ونفى كل شبيه، وهذه هى مجامع التوحيد العملى والاعتقادى، فلذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر ونهى وإباحة، والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمى، كما خلصته سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» من الشرك العملى. قاله ابن القيم. وأما القنوت فى الركعة الأخير من الوتر، فى النصف الأخير من شهر رمضان، فقال النووى فى «الأذكار» باستحبابه، ولم يذكر لذلك دليلا. وقد أخرج أبو داود بإسنادين رجالهما ثقات، لكن أحدهما منقطع، وفى الآخر راو لم يسم: أن عمر لما جمع الناس على أبى بن كعب كان لا يقنت إلا فى النصف الأخير من رمضان. وعن الحسن بن على قال: علمنى جدى كلمات أقولهن فى الوتر: «اللهم اهدنى فيمن هديت، وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت وقنى شر ما قضيت، إنك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل ما واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت» «2» . وهذا لفظ رواية شريك رواه الطبرانى وغيره.

_ (1) سورة الكافرون: 1. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (1425) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (464) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، من حديث الحسن بن على- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

الباب الخامس فى ذكر صلاته ص الضحى

الباب الخامس فى ذكر صلاته ص الضحى وهى معدودة من خصائصه، اختلف الرواة هل صلاها النبى- صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فمنهم المثبت ومنهم النافى. فمن العلماء من رجح رواية المثبت على النافى، جريا على القاعدة المعروفة، لأنها تتضمن زيادة علم خفيت على النافى، قالوا: وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا. قال الحاكم: وفى الباب عن أبى سعيد، وأبى ذر الغفارى، وزيد بن أرقم، وأبى هريرة، وبريدة الأسلمى، وأبى الدرداء، وعبد الله بن أبى أوفى، وعتبان بن مالك، وعتبة بن عبد السلمى، ونعيم بن همار الغطفانى، وأبى أمامة الباهلى، وعائشة بنت أبى بكر، وأم هانئ، وأم سلمة. كلهم شهدوا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى الضحى. انتهى. فأما حديث أبى سعيد فأخرجه الحاكم والترمذى عن عطية العوفى عنه قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها «1» . وقال الترمذى: حسن غريب، لكن قال النووى: عطية ضعيف، فلعله اعتضد. وأما حديث أبى ذر الغفارى، فرواه البزار فى مسنده. وأما حديث زيد بن أرقم، فرواه مسلم بلفظ «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى من الضحى» «2» الحديث. وأما حديث أبى هريرة فرواه البزار فى مسنده بلفظ: «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان لا يترك الضحى فى سفر ولا فى

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (477) فى الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة الضحى، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حسن غريب، وقال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف. (2) صحيح: أخرجه مسلم (748) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، من حديث زيد بن أرقم- رضى الله عنه-، ولفظه أن زيد بن أرقم رأى قوما يصلون من الضحى فقال: أما لقد علموا أنّ الصلاة فى غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال.

غيره «1» . وإسناده ضعيف، فيه يوسف بن خالد السمتى ضعيف جدّا. وأما حديث بريدة الأسلمى فرواه ... » وأما حديث أبى الدرداء فرواه الطبرانى. وأما حديث ابن أبى أوفى، فرواه ابن عدى والحاكم بلفظ: قال رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبى جهل «2» . قال بعض العلماء النافين لرواية المثبتين: هذا الحديث إن كان صحيحا فهو صلاة شكر وقعت وقت الضحى، كشكره يوم فتح مكة. وأما حديث عتبان بن مالك، فرواه أحمد من رواية محمود بن الربيع عنه، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى فى بيته سبحة الضحى. وأما حديث عتبة بن عبد فرواه ... وأما حديث نعيم بن همار فرواه ... وأما حديث أبى أمامة فرواه ... وأما حديث عائشة فرواه مسلم وأحمد وابن ماجه، قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله «3» . وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة، هل كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى قالت: لا إلا أن يجئ من مغيبه «4» .

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 238، 239) وقال: رواه البزار، وفيه يوسف ابن خالد السمتى، وهو ضعيف. (2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1391) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الصلاة السجدة عند الشكر، والدارمى (1462) فى الصلاة، باب: فى سجدة الشكر، من حديث ابن أبى أوفى، ولفظه صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الضحى ركعتين، حين بشر بالفتح أو برأس أبى جهل. ولفظ ابن ماجه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بشّر برأس أبى جهل فصلى ركعتين كلاهما عن الشعثاء عن ابن أبى أوفى، والحديث ضعفه الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» . (3) صحيح: أخرجه مسلم (719) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وابن ماجه (1381) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة الضحى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) أخرجه أحمد (6/ 171) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وأما حديث أم هانئ، فرواه البخارى ومسلم، قالت: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمانى ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. قالت فى رواية أخرى: وذلك ضحى «1» . ولمسلم: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى بيتها عام الفتح ثمانى ركعات فى ثوب واحد، وقد خالف بين طرفيه «2» . وللنسائى: أنها ذهبت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة تستره بثوب. فسلمت فقال: «من هذه؟» قلت: أنا أم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمانى ركعات ملتحفا فى ثوب واحد «3» . ولأبى داود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثمانى ركعات يسلم من كل ركعتين «4» . وقد استدل بحديث البخارى ومسلم على استحباب تخفيف صلاة الضحى، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الضحى فطول فيها، أخرجه ابن أبى شيبة من حديث حذيفة. وأما حديث أم سلمة فرواه الحاكم من طريق إسحاق بن بشر المحاربى، قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى صلاة الضحى ثنتى عشرة ركعة «5» . قلت: وروى عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه: أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى ست ركعات «6» . رواه الحاكم أيضا. وعن أنس بن مالك قال: رأيت

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1176) فى الجمعة، باب: صلاة الضحى فى السفر، ومسلم (336) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان. (2) صحيح: أخرجه البخارى (3171) فى الجزية، باب: أمان النساء وجوارهن، ومسلم (336) فى الحيض، باب: ستر المغتسل بثوب ونحوه. (3) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 126) فى الطهارة، باب: ذكر الاستتار عند الاغتسال، من حديث أم هانئ، ولفظه فى ثوب ملتحفا به والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1290) فى الصلاة، باب: صلاة الضحى، من حديث أم هانئ- رضى الله عنها- والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (5) لم أجده فيه. (6) لم أجده فيه.

رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى السفر سبحة الضحى ثمانى ركعات «1» . رواه أحمد، وصححه ابن خزيمة والحاكم. وعن على: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى من الضحى «2» ، رواه النسائى فى سننه الكبرى وأحمد وأبو يعلى، وإسناده جيد. وعن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان لا يصلى من الضحى إلا يومين، يوم يقدم مكة ويوم يقدم المدينة. وعن أبى بكرة عند ابن عدى فى الكامل من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن عن أبى بكرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى الضحى، فجاء الحسن وهو غلام فلما سجد ركب ظهره. الحديث، وعمرو بن عبيد متروك. وعن جابر بن عبد الله أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ست ركعات رواه الحاكم. قال الشيخ ولى الدين العراقى: وقد ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال محمد بن جرير الطبرى: إنها بلغت حد التواتر. وقال ابن العربى: وهى كانت صلاة الأنبياء قبل محمد- صلوات الله وسلامه عليه وعليهم-، قال الله تعالى مخبرا عن داود: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «3» فأبقى الله تعالى من ذلك فى دين محمد «العصر» ونسخ صلاة الإشراق. واحتج القائلون بالنفى بحديث عائشة: إن كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم- وما سبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سبحة الضحى فقط، وإنى لأسبحها «4» ، رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود. وبحديث مورق العجلى قال: قلت لابن عمر، أتصلى الضحى؟ قال: لا، قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟

_ (1) أخرجه أحمد (6/ 343) من حديث أم هانئ- رضى الله عنها-. (2) تقدم من حديث زيد بن أرقم. (3) سورة ص: 18. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1128) فى الجمعة، باب: تحريض النبى على صلاة الليل والنوافل، ومسلم (718) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، من حديث عائشة وقد تقدم.

قال: لا، قلت: فالنبى- صلى الله عليه وسلم- قال: لا إخاله «1» . رواه البخارى. وقوله: «لا إخاله» أى لا أظنه، وهو بكسر الهمزة وتفتح أيضا، والخاء معجمة. وقول الشعبى: سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى. وروى عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة، فإذا الناس فى المسجد يصلون صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم فقال بدعة. وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال بدعة ونعمت البدعة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم عن أبيه قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئا أحب إلى منها. وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث، بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على أمته فيعجزوا عنها، وكان يفعلها كما صرحت به عائشة كما تقدم، وكما ذكرته أم هانئ وغيرها. وقول عائشة: «ما رأيته صلاها» لا يخالف قولها: «كان يصليها» لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان لا يكون عندها فى وقت الضحى إلا فى النادر من الأوقات، لأنه قد يكون مسافرا، وقد يكون حاضرا، وفى الحضر قد يكون فى المسجد، وقد يكون فى بيت من بيوت زوجاته، أو غيره، وما رأته صلاها فى تلك الأوقات النادرة، فقالت: ما رأيته، وعلمت بغير رؤية أنه كان يصليها بإخباره- صلى الله عليه وسلم- أو بإخبار غيره، فروت ذلك. وقول ابن عمر: «لا إخاله» فتوقف، وكأن سبب توقفه أنه بلغه عن غيره أنه صلاها ولم يثق بذلك عمن ذكره. وأما قوله: «إنها بدعة» فمؤولة على أنه لم تبلغه الأحاديث المذكورة، أو أراد أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يداوم عليها، أو أن إظهارها فى المساجد ونحوها بدعة، وإنما هى سنة نافلة فى البيوت والله أعلم.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1175) فى الجمعة، باب: صلاة الضحى فى السفر، من حديث مورق العجلى عن ابن عمر- رضى الله عنهما-.

وبالجملة: فليس فى أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى، لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع فى نفس الأمر، أو الذى نفاه صفة مخصوصة كما قدمناه. وقد روى ابن أبى شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قوما يصلونها فأنكر عليهم وقال: إن كان ولا بد ففى بيوتكم. وذهب آخرون إلى استحباب فعلها غبا، فتصلى فى بعض الأيام دون بعض، وكان ابن عباس يصليها يوما ويدعها عشرة أيام. وذهب آخرون: إلى أنها تفعل لسبب من الأسباب، وأنه- صلى الله عليه وسلم- إنما صلاها يوم الفتح من أجل الفتح، وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح. متمسكين بما قاله القاضى عياض وغيره: أن حديث أم هانئ ليس بظاهر فى أنه- صلى الله عليه وسلم- قصد سنة الضحى، وإنما فيه أنها أخبرت عن وقت صلاته فقط، قال: وقد قيل إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها. وتعقبه النووى: بأن الصواب صحة الاستدلال به، لما رواه أبو داود من طريق كريب عن أم هانئ أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى سبحة الضحى «1» . ولمسلم: فى كتاب الطهارة من طريق أبى مرة عن أم هانئ فى قصة اغتساله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، ثم صلى ثمانى ركعات سبحة الضحى «2» . وروى ابن عبد البر فى «التمهيد» من طريق عكرمة بن خالد عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة فصلى ثمانى ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: «هذه صلاة الضحى» «3» . واستدل به على أن أكثر الضحى ثمان ركعات. واستبعده السبكى. ووجّه بأن الأصل فى العبادة التوقف، وهذا أكثر ما ورد من فعله- صلى الله عليه وسلم-. وقد ورد من فعله دون ذلك كحديث ابن أبى أوفى: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ركعتين، أخرجه ابن عدى.

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) أخرجه ابن عبد البر فى «التمهيد» (8/ 136) .

وأما ما ورد من قوله- صلى الله عليه وسلم- مما فيه زيادة على ذلك كحديث أنس مرفوعا: «من صلى الضحى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له قصرا فى الجنة» «1» . أخرجه الترمذى واستغربه وليس فى إسناده من أطلق عليه الضعف. ومن ثم قال الرويانى: أكثرها ثنتا عشرة ركعة. وقال النووى فى شرح المهذب: فيه حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس، لكن إذا ضم إليه حديث أبى الدرداء رفعه، وفيه «ومن صلى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بيتا فى الجنة» «2» . رواه الطبرانى وحديث أبى ذر عند البزار، وفى إسناده ضعف أيضا، قوي وصلح للاحتجاج به. ونقل الترمذى عن أحمد: أن أصح شئ ورد فى الباب حديث أم هانئ، وهو كما قال، ولهذا قال النووى فى الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة. ففرق بين الأكثر والأفضل. وأجاب القائلون بأنها لا تفعل إلا لسبب عن قول أبى هريرة المروى فى البخارى (أوصانى خليلى- صلى الله عليه وسلم- بثلاث، لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى) «3» الحديث، بأنه قد روى أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل، ولهذا أمره أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا سائر الصحابة. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وهذه الوصية لأبى هريرة ورد مثلها لأبى الدرداء

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (473) فى الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة الضحى، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث غريب، وقال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف. (2) صحيح: أخرجه مسلم (728) فى صلاة المسافرين، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، من حديث أم حبيبة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1178) فى الجمعة، باب: صلاة الضحى فى الحضر، ومسلم (721) فى صلاة المسافرين، استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

فيما رواه مسلم، ولأبى ذر فيما رواه النسائى، قال: والحكمة فى الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل فى الواجب منهما بانشراح، ولينجبر ما لعله يقع فيه من نقص. ومن فوائد صلاة الضحى أنها تجزئ عن الصدقة التى تصبح على مفاصل الإنسان فى كل يوم وهى الثلاثمائة وستون مفصلا، كما أخرجه مسلم من حديث أبى ذر، قال فيه: ويجزى عن وذلك ركعتا الضحى. وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووى فى شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها فى الفضل بين الرواتب والضحى. وحكى الحافظ أبو الفضل العراقى فى شرح الترمذى: أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى، فصار كثير من الناس يتركها أصلا لذلك، وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير، لا سيما ما وقع فى حديث أبى ذر واقتصر فى الوصية للثلاثة المذكورين على الثلاثة المذكورة فى الحديث، لأن الصلاة والصيام أشرف العبادات البدنية، ولم يكن المذكورون من أصحاب الأموال فكان يجزيهم من الصدقة على السلامى، كما فى الحديث والله أعلم. وروى الحاكم من طريق أبى الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نصلى الضحى بسور منها: وَالشَّمْسِ وَضُحاها «1» وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ «2» «3» ومناسبة ذلك ظاهرة جدّا والله أعلم. تنبيه: قال شيخ الإسلام والحفاظ أبو الفضل ابن حجر: قول عائشة فى الصحيح «ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسبح سبحة الضحى» يدل على ضعف ما روى عنه- صلى الله عليه وسلم- أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه. وقد عدها جماعة من العلماء من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. ولم يثبت ذلك فى خبر صحيح.

_ (1) سورة الشمس: 1. (2) سورة الضحى: 1، 2. (3) لم أجده فيه.

وقول الماوردى فى «الحاوى» إنه- صلى الله عليه وسلم- واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات. يعكر عليه ما رواه مسلم من حديث أم هانئ: «أنه لم يصلها قبل ولا بعد» ولا يقال إن نفى أم هانئ لذلك يلزم منه العدم، لأنا نقول: يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة، لأن عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته، فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوب عليه، انتهى. وقال ابن العربى فى «عارضة الأحوذى» : أخبرنا أبو الحسن الأزدى أخبرنا طاهر، أخبرنا على، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن عبد الرحمن العسكرى، حدثنا الحسين الختنى، حدثنا أبو غسان حدثنا قيس عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها» «1» . رواه الدار قطنى.

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 317) والدار قطنى (4/ 282) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

القسم الثانى فى صلاته ص النوافل وأحكامها وفيه بابان:

القسم الثانى فى صلاته ص النوافل وأحكامها وفيه بابان: الباب الأول فى النوافل المقرونة بالأوقات وفيه فصلان: الفصل الأول فى رواتب الصلوات الخمس والجمعة الفرع الأول: فى أحاديث جامعة لرواتب مشتركة عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى قبل الظهر، ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين فى بيته، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وكان لا يصلى بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلى فى بيته ركعتين «1» . قال: وأخبرتنى حفصة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح، وبدا له الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة «2» . رواه البخارى. فهذه عشر ركعات، لأن الركعتين بعد الجمعة لا يجتمعان مع الركعتين بعد الظهر، إلا لعارض، بأن يصلى الجمعة وسنتها التى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (885) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة وقبلها، ومسلم (1461) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (583) فى الأذان، باب: الأذان بعد الفجر، ومسلم (1184) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما، من حديث حفصة- رضى الله عنها-.

الفرع الثانى: فى ركعتى الفجر

بعدها، ثم يتبين له فسادها فيصلى الظهر ويصلى بعدها سنتها كما نبه عليه الشيخ ولى الدين العراقى. واختلف فى دلالة «كان» على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه، قال: وهذا استفدناه من قولهم: كان حاتم يقرى الضيف، وصحح الإمام فخر الدين فى «المحصول» أنها لا تقتضيه، لا لغة ولا عرفا، وقال النووى فى شرح مسلم، إنه المختار الذى عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين. وذكر ابن دقيق العيد أنها تقتضيه عرفا. فعلى هذا: ففى الحديث دلالة على تكرار هذه النوافل من النبى- صلى الله عليه وسلم- وأنه كان دأبه وعادته. وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى فى بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج فيصلى بالناس، ثم يدخل فيصلى ركعتين، وكان يصلى بالناس المغرب ثم يدخل فيصلى ركعتين، ثم يصلى بالناس العشاء ويدخل بيتى فيصلى ركعتين، الحديث، وفى آخره: وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين «1» . رواه مسلم، فهذه ثنتا عشرة ركعة. وعنها: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة «2» . وفى رواية: لم يكن يتركهما سرّا وعلانية، فى سفر ولا حضر ركعتان قبل الصبح وركعتان بعد العصر «3» . رواه البخارى ومسلم. الفرع الثانى: فى ركعتى الفجر قالت عائشة: لم يكن- صلى الله عليه وسلم- على شئ من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتى الفجر «4» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1201) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1110) فى الجمعة، باب: الركعتين قبل الظهر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (592) فى مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، ومسلم (835) فى صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليها النبى بعد العصر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1162) فى الجمعة، باب: تعاهد ركعتى الفجر ومن سماهما تطوعا، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ولمسلم «لهما أحب إلىّ من الدنيا جميعا» «1» وكان يصليهما إذا سكت المؤذن بعد أن يستنير الفجر ويخففهما «2» . رواه الشيخان وهذا لفظ النسائى. واختلف فى حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح فى أول الوقت، وبه جزم القرطبى، وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين، كما كان يصنع فى صلاة الليل كما تقدم، ليدخل فى الفرض أو ما شابهه فى الفضل بنشاط واستعداد تام. وقد ذهب بعضهم إلى إطالة القراءة فيهما، وهو قول أكثر الحنفية، ونقل عن الشعبى، وأورد البيهقى فيه حديثا مرفوعا من مرسل سعيد بن جبير، وفى سنده راو لم يسم، وخص بعضهم ذلك بمن فاته شئ من قراءته فى صلاة الليل، فيستدركها فى ركعتى الفجر، وأخرجه ابن أبى شيبة بسند صحيح عن الحسن البصرى. كان كثيرا ما يقرأ فى الأولى منهما قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا «3» الآية التى فى البقرة، وفى الآخرة قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إلى قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «4» «5» . رواه مسلم وأبو داود والنسائى من رواية ابن عباس. وفى رواية أبى داود، من حديث أبى هريرة قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا «6» فى الركعة الأولى، وبهذه الآية رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (725) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما، والترمذى (416) فى الصلاة، باب: ما جاء فى ركعتى الفجر من الفضل، وقال: حديث عائشة: حديث حسن صحيح. (2) صحيح: أخرجه مسلم (724) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) سورة البقرة: 136. (4) سورة آل عمران: 64. (5) صحيح: أخرجه مسلم (727) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى الفجر والحث عليهما، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (6) سورة البقرة: 136.

فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «1» أو إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ «2» قال أبو داود: شك الراوى «3» . وقال أبو هريرة: قرأ فى ركعتى الفجر قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «4» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «5» «6» رواه مسلم وأبو داود والترمذى. وقد روى ابن ماجه بإسناد قوى، عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى ركعتين قبل الفجر، وكان يقول: «نعم السورتان يقرأ بهما فى ركعتى الفجر قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «7» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «8» «9» » . ولابن أبى شيبة من طريق ابن سيرين عن عائشة: كان يقرأ فيهما بهما. وللترمذى والنسائى من حديث ابن عمر: رمقت النبى- صلى الله عليه وسلم- شهرا فكان يقرأ بهما «10» .

_ (1) سورة آل عمران: 53. (2) سورة البقرة: 119. (3) حسن: أخرجه أبو داود (1260) فى الصلاة، باب: فى تخفيفهما، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، قال الألبانى: حسن وأخرجه البيهقى دون قوله: أو إنا أرسلناك. (4) سورة الكافرون: 1. (5) سورة الإخلاص: 1. (6) صحيح: أخرجه مسلم (726) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتى سنة الفجر والحث عليهما، والنسائى (945) فى الافتتاح، باب: القراءة فى ركعتى الفجر بقل يا أيها الكافرون، وابن ماجه (1448) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الركعتين قبل الفجر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (7) سورة الكافرون: 1. (8) سورة الإخلاص: 1. (9) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1150) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الركعتين قبل الفجر، من حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (10) صحيح: أخرجه الترمذى (417) فى الصلاة، باب: ما جاء فى تخفيف ركعتى الفجر-

وقد استدل بعضهم بهذا على الجهر بالقراءة فى ركعتى الفجر، ولا حجة فيه، لاحتمال أن يكون ذلك عرف بقراءته بعض السورة، ويدل على ذلك فى رواية ابن سيرين المذكورة: «يسر فيهما القراءة» وصححه ابن عبد البر. واستدل بعضهم أيضا بهذه الأحاديث المذكورة، على أنه لا تتعين الفاتحة، لأنه لم يذكرها مع سورتى الإخلاص. وأجيب: بأنه ترك الفاتحة لوضوح الأمر فيها. انتهى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى ركعتى الفجر اضطجع على شقه الأيمن «1» . رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة. لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يحب التيمن، وقد قيل: الحكمة فيه أن القلب من جهة اليسار فلو اضطجع عليه لاستغرق نوما، لكونه أبلغ فى الراحة، بخلاف اليمين فيكون القلب معلقا فلا يستغرق، وهذا إنما يصح بالنسبة إلى غيره- صلى الله عليه وسلم- كما لا يخفى. وأما ما روى أن ابن عمر رأى رجلا يصلى ركعتى الفجر ثم اضطجع فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أردت أن أفصل بين صلاتى فقال له: وأى فصل أفضل من السلام، قال: فإنها سنة، قال: بل بدعة. رواه ابن الأثير فى جامعه عن رزين. وكذا ما روى من إنكار ابن مسعود، ومن قول إبراهيم النخعى: إنها ضجعة الشيطان، كما أخرجهما ابن أبى شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهم الأمر بفعله.

_ وما كان النبى يقرأ فيهما، وابن ماجه (1149) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الركعتين قبل الفجر. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، وقال الترمذى: حديث حسن. وقال الألبانى: صحيح فى «صحيح سنن الترمذى» . (1) صحيح: أخرجه البخارى (636) فى الأذان، باب: من انتظر الإقامة، ومسلم (736) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وأرجح الأقوال مشروعيته للفصل، لكن لم يداوم- صلى الله عليه وسلم- عليها، ولذا احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك عند أبى داود وغيره على الاستحباب. وفائدة ذلك: الراحة والنشاط لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للتهجد. وبه جزم ابن العربى. ويشهد لهذا ما رواه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح. وفيه راو لم يسم. وقيل: فائدتها الفصل بين ركعتى الفجر وصلاة الصبح، وعلى هذا فلا اختصاص. ومن ثم قال الشافعى: إن السنة تتأدى بكل ما يحصل به الفصل من مشى وكلام وغيره، حكاه البيهقى. وقال النووى: المختار أنه سنة لظاهر حديث أبى هريرة، وقد قال أبو هريرة راوى الحديث: إن الفصل بالمشى إلى المسجد لا يكفى. وأفرط ابن حزم فقال: يجب على كل أحد، وجعله شرطا لصحة صلاة الصبح، فرد عليه العلماء بعده، حتى طعن ابن تيمية فى صحة الحديث لتفرد عبد الواحد بن زياد به، وفى حفظه مقال، والحق: أنه تقوم به الحجة. وذهب بعض السلف إلى استحبابها فى البيت دون المسجد، وهو محكى عن ابن عمر. وقواه بعض شيوخنا، بأنه لم ينقل عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه فعله فى المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله فى المسجد، أخرجه ابن أبى شيبة. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «من لم يصل ركعتى الفجر، فليصلهما بعد ما تطلع الشمس» «1» رواه الترمذى من رواية أبى هريرة.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (423) فى الصلاة، باب: ما جاء فى إعادتها بعد طلوع الشمس، وعند ابن ماجه (1155) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن فاتته الركعتان قبل صلاة الفجر، ولفظه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نام عن ركعتى الفجر فقضاهما بعد ما طلعت الشمس وكلاهما من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث لا نعرفه، قال الألبانى: فى «صحيح سنن الترمذى» : صحيح.

الفرع الثالث: فى راتبة الظهر

الفرع الثالث: فى راتبة الظهر عن ابن عمر: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها «1» . رواه البخارى ومسلم والترمذى. وعن عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل صلاة الغداة «2» . رواه البخارى أيضا: فإما أن يقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى فى بيته صلى أربعا، وإذا صلى فى المسجد صلى ركعتين، وهذا أظهر. وإما أن يقال: كان يفعل هذا وهذا، فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده، والحديثان صحيحان لا مطعن فى واحد منهما. وقال أبو جعفر الطبرى: الأربع كانت فى كثير من أحواله، والركعتان فى قليلها. انتهى. وقد يقال: إن الأربع التى قبل الظهر لم تكن سنة الظهر، بل هى صلاة مستقلة، كان يصليها بعد الزوال. وروى البزار من حديث ثوبان: إنه- صلى الله عليه وسلم- كان يستحب أن يصلى بعد نصف النهار، فقالت عائشة: يا رسول الله، أراك تستحب الصلاة هذه الساعة، قال: «تفتح فيها أبواب السماء، وينظر الله تعالى إلى خلقه بالرحمة، وهى صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى» . وعن عبد الله بن السائب: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى أربعا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: «إنها ساعة تفتح لها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لى فيها عمل صالح» «3» . رواه الترمذى. وروى الترمذى أيضا حديث

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (1253) فى الصلاة، باب: تفريغ أبواب التطوع وركعات السنة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) أخرجه الترمذى (478) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة عند الزوال، من حديث عبد الله بن السائب- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث عبد الله بن السائب حديث حسن غريب. قال الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : حسن الإسناد.

الفرع الرابع فى سنة العصر

«أربع قبل الظهر وبعد الزوال تحسب بمثلهن فى السحر وما من شئ إلا وهو يسبح الله تعالى تلك الساعة» ثم قرأ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ «1» «2» . فهذه- والله أعلم- هى الأربع التى أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن. وأما سنة الظهر فالركعتان التى قال ابن عمر. ويوضح هذا أن سائر الصلوات سنتها ركعتان، وعلى هذا فتكون هذه الأربع وردا مستقلا، سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. وسر هذا- والله أعلم- أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس، ويحصل النزول الإلهى بعد انتصاف الليل، فهما وقت قرب رحمة، هذا فيه تفتح أبواب السماء، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى عن حركة الأجسام. الفرع الرابع فى سنة العصر عن على: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى قبل العصر ركعتين «3» . رواه أبو داود. وعن على أيضا: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين «4» . رواه الترمذى. وروى مرفوعا أيضا حديث «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا» «5» .

_ (1) سورة النحل: 48. (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3128) فى تفسير القرآن، باب: ومن سورة النحل. من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، قال الترمذى: حديث غريب، قال الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» : ضعيف. (3) أخرجه أبو داود (1272) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، قال الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» : حسن لكن بلفظ أربع ركعات. (4) حسن: أخرجه الترمذى (429) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الأربع قبل العصر، والنسائى (874) فى الإمامة، باب: الصلاة قبل العصر. من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه- قال الترمذى: حديث حسن. وقال الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : حسن. (5) أخرجه أبو داود (1371) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، والترمذى (430) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الأربع قبل العصر، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. قال الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» : صحيح لكن البخارى جعل قوله: فتوفى رسول الله.. من كلام الزهرى.

وقالت عائشة: ما كان- صلى الله عليه وسلم- يأتينى فى يومى بعد العصر إلا صلى ركعتين «1» ، وفى رواية: ما ترك ركعتين بعد العصر عندى قط «2» . رواه البخارى ومسلم. ولمسلم: أن أبا سلمة سألها عن السجدتين اللتين كان يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما ونسيهما فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعنى داوم عليها «3» . ولأبى داود، قالت: كان يصلى بعد العصر ركعتين وينهى عنهما، ويواصل وينهى عن الوصال «4» . وقال ابن عباس: إنما صلى- صلى الله عليه وسلم- ركعتين بعد العصر، لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه عن الركعتين اللتين بعد الظهر فقضاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما «5» . رواه الترمذى. وقالت أم سلمة: سمعته- صلى الله عليه وسلم- ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم سألته عنهما فقال: «إنه أتانى من عبد القيس بالإسلام فشغلونى عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان» ، الحديث. وفيه: أن ابن عباس قال: كنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنهما «6» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (593) فى مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت، من حديث عائشة وتقدم أكثر من مرة. (2) صحيح: أخرجه مسلم (835) فى صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبى بعد العصر. من حديث عائشة وقد تقدم فى الذى قبله. (3) تقدم فى الذى قبله. (4) صحيح: أخرجه أبو داود (1380) فى الصلاة، باب: من رخص فيها إذا كانت الشمس مرتفعة، من حديث عائشة وقد تقدم فى الذى قبله. قال الألبانى فى «صحيح أبى داود» : حسن صحيح. (5) أخرجه الترمذى (184) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة بعد العصر، من حديث ابن عباس. قال الترمذى: حديث حسن، قال الألبانى فى ضعيف الترمذى ضعيف الإسناد وقوله: ثم لم يعد لهما منكر. (6) صحيح: أخرجه البخارى (1233) فى الجمعة، باب: إذا كلم وهو يصلى فأشار بيده واستمع، ومسلم (834) فى صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبى بعد العصر. من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.

الفرع الخامس فى راتبة المغرب

قال ابن القيم: قضاء السنن الرواتب فى اوقات النهى عام له ولأمته، وأما المداومة على تلك الركعتين فى وقت النهى فخاص به، قال: وقد عد هذا من خصائصه. انتهى. والدليل عليه رواية عائشة: كان يصلى ركعتين بعد العصر وينهى عنهما ويواصل وينهى عن الوصال. لكن قال البيهقى: الذى اختص به- صلى الله عليه وسلم- المداومة على ذلك، لا أصل القضاء. وأما رواية ابن عباس عند الترمذى: أنه إنما صلاهما بعد العصر لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه. فهو من رواية جرير عن عطاء، وقد سمع منه بعد اختلاطه، وإن صح فهو شاهد لحديث أم سلمة، لكن ظاهر قوله: «ثم لم يعد» معارض لحديث عائشة المذكور فى الباب، فيحمل النفى على نفى علم الراوى، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافى. وكذا ما رواه النسائى من طريق أبى سلمة، عن أم سلمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى فى بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة «1» ، الحديث، وفى رواية له عنها: لم أره يصليهما قبل ولا بعد. فيجمع بين الحديثين بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصليهما إلا فى بيته، فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة فى رواية: «وكان لا يصليهما فى المسجد مخافة أن يثقل على أمته» «2» . ومراد عائشة بقولها: «ما كان فى يومى بعد العصر إلا صلى ركعتين» من الوقت الذى شغل عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما. ولم ترد أنه كان يصلى بعد العصر من أول ما فرضت الصلوات مثلا إلى آخر عمره، والله أعلم. الفرع الخامس فى راتبة المغرب عن ابن مسعود قال: ما أحصى ما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 281) فى المواقيت، باب: الرخصة فى الصلاة بعد العصر، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (590) فى مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

الركعتين بعد المغرب، وفى الركعتين قبل صلاة الفجر ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» «3» رواه الترمذى. وعن ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يطيل القراءة فى الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد «4» ، رواه أبو داود. وكان أصحابه- عليه السّلام- يصلون ركعتين قبل المغرب قبل أن يخرج إليهم- صلى الله عليه وسلم- «5» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود من حديث أنس. وفى رواية أبى داود، قال أنس: رآنا- صلى الله عليه وسلم- فلم يأمرنا ولم ينهنا «6» . وقال عقبة: كنا نفعله على عهده، - صلى الله عليه وسلم-. رواه البخارى ومسلم. وظاهره: أن الركعتين بعد الغروب وقبل صلاة المغرب كان أمرا قرر أصحابه عليه، وعملوا به، وهذا يدل على الاستحباب، وأما كونه- صلى الله عليه وسلم- لم يصلهما فلا ينفى الاستحباب، بل يدل على أنهما ليسا من الرواتب، وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث. وعن ابن عمر: ما رأيت أحدا يصليهما على عهده- صلى الله عليه وسلم-. وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما. فادعى بعض المالكية نسخهما، وتعقب:

_ (1) سورة الكافرون: 1. (2) سورة الإخلاص: 1. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (431) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الركعتين بعد المغرب والقراءة فيهما، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. قال الترمذى: حديث غريب، وقال الألبانى فى «صحيح الترمذى» : حسن صحيح. (4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1301) فى الصلاة، باب: ركعتى المغرب أين تصليان. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (5) صحيح: أخرجه البخارى (625) فى الأذان، باب: كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، ولفظه: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- يبتدرون السوارى حتى يخرج النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة شئ. (6) صحيح: أخرجه مسلم (836) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، وأبو داود (1282) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل المغرب. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.

بأن دعوى النسخ لا دليل عليها، ورواية المثبت- وهو أنس- تقدم على رواية النافى- وهو ابن عمر. وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين. وعن مالك قول آخر باستحبابها، وهو عند الشافعية وجه رجحه النووى ومن تبعه، وقال فى شرح مسلم: قول من قال: «إن فعلهما يؤدى إلى تأخير المغرب عن أول وقتها» خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء» «1» . خشية أن يتخذها الناس سنة. رواه أبو داود. قال المحب الطبرى: لم يرد نفى استحبابهما، لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابهما. ومعنى قوله: «سنة» أى شريعة وطريقة لازمة. وكأن المراد انحطاط مرتبتهما عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يعدهما أكثر الشافعية فى الرواتب، واستدركهما بعضهم. وتعقب: بأنه لم يثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- واظب عليهما. وقال- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة بعد المغرب: «هذه صلاة البيوت» «2» ، رواه أبو داود والنسائى من حديث كعب بن عجرة. وعنه- صلى الله عليه وسلم-: «من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم رفعت صلاته فى عليين» . رواه رزين.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1183) فى الجمعة، باب: الصلاة قبل المغرب، وأبو داود (1281) فى الصلاة، باب: الصلاة قبل المغرب. من حديث عبد الله المزنى- رضى الله عنه-. (2) حسن: أخرجه أبو داود (1300) فى الصلاة، باب: ركعتى المغرب أين تصليان، والترمذى (604) فى الجمعة، باب: ما ذكر بعد صلاة المغرب أنه فى البيت أفضل، والنسائى (1600) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الحث على الصلاة فى البيوت والفضل فى ذلك. من حديث كعب بن عجرة- رضى الله عنه- والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح أبى داود» .

الفرع السادس فى راتبة العشاء

الفرع السادس فى راتبة العشاء قالت عائشة: ما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العشاء قط فدخل بيتى إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات «1» . رواه أبو داود. وفى مسلم قالت عائشة: ثم يصلى بالناس العشاء فيدخل بيتى فيصلى ركعتين «2» . وكذا فى حديث ابن عمر عند الشيخين. وتقدما أول هذا القسم، والله أعلم. الفرع السابع فى راتبة الجمعة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين فى بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلى بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلى ركعتين «3» . رواه البخارى ولم يذكر شيئا فى الصلاة قبل صلاة الجمعة. قال ابن المنير- كما حكاه فى فتح البارى-: كأنه يقول الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل دليل على خلافه، لأن الجمعة بدل الظهر. وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد ذكر الظهر من أجل أنه كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى سنة الجمعة فى بيته بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها فى المسجد خشية أن يظن أنها التى حذفت. انتهى.

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1303) فى الصلاة، باب: الصلاة بعد العشاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (730) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (937) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة وقبلها من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، ومسلم (729) فى صلاة المسافرين، باب: فضل السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وعلى هذا فينبغى أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها فى المسجد لهذا المعنى. وقد روى أبو داود وابن حبان من طريق أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلى بعدها ركعتين فى بيته، ويحدث أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك، وقد احتج به النووى فى «الخلاصة» على إثبات سنة الجمعة التى قبلها. وتعقب: بأن قوله: «كان يفعل ذلك» عائد على قوله: «ويصلى بعد الجمعة ركعتين فى بيته» ، ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله: أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين فى بيته ثم قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك. رواه مسلم. وأما قوله: «كان يطيل الصلاة قبل الجمعة» فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التى قبلها، بل هو تنفل مطلق. وقد أنكر جماعة كون الجمعة لها سنة قبلها، وبالغوا فى الإنكار منهم: الإمام شهاب الدين أبو شامة، لأنه لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه- صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر، فلم يكن يصليها، وكذلك الصحابة لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة. قال ابن العراقى: ولم أر فى كلام الفقهاء من الحنفية والمالكية استحباب سنة الجمعة التى قبلها. انتهى. وقد ورد فى سنة الجمعة التى قبلها أحاديث أخرى ضعيفة، منها عن أبى هريرة، رواه البزار، ولفظه: كان يصلى قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا. وأقوى ما يتمسك به فى مشروعية الركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا: «ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان» «1» . قاله فى فتح البارى.

_ (1) ذكره ابن حجر فى «الفتح» (2/ 427) وعزاه لابن حبان فى صحيحه من حديث عبد الله ابن الزبير- رضى الله عنهما-.

الفصل الثانى فى صلاته ص العيدين

وعن عطاء قال: كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين ثم يتقدم فيصلى أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فيصلى ركعتين ولم يصل فى المسجد، فقيل له: فقال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعله «1» . رواه أبو داود. وفى رواية الترمذى: قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين ثم صلى بعد ذلك أربعا «2» . وعن ابن عمر أيضا قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى بعد الجمعة ركعتين «3» . رواه النسائى، وفى رواية أنه كان يصلى بعد الجمعة ركعتين فى بيته «4» . وفى أخرى: أن ابن عمر كان يصلى بعد الجمعة ركعتين يطيل فيهما ويقول: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعله «5» . وتقدم حديث دخول سليك الغطفانى يوم الجمعة، وهو- صلى الله عليه وسلم- يخطب، وقوله- صلى الله عليه وسلم- له: «صليت؟» قال: لا، قال: «قم فاركع ركعتين» . مع ما فيه من المباحث فى صلاة الجمعة. الفصل الثانى فى صلاته ص العيدين وفيه فروع:

_ (1) أخرجه أبو داود (1127) فى الصلاة، باب: الصلاة بعد الجمعة، والنسائى (3/ 113) فى الجمعة، باب: إطالة الركعتين بعد الجمعة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى فى «صحيح أبى داود» : صحيح المرفوع منه. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (523) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الصلاة قبل الجمعة وبعدها، عن عطاء عن ابن عمر- رضى الله عنهما-. قال الترمذى: حسن صحيح. وقال الألبانى فى «صحيح الترمذى» : صحيح. (3) صحيح: أخرجه مسلم (882) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. من حديث ابن عمر وقد تقدم. (4) صحيح: أخرجه مسلم (882) فى الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. وقد تقدم. (5) تقدم.

الفرع الأول فى عدد الركعات

الفرع الأول فى عدد الركعات عن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء وبلال معه، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تتصدق بخرصها «1» وسخابها «2» «3» . وفى رواية: خرج يوم أضحى أو فطر «4» . وفى أخرى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى يوم الفطر ركعتين «5» . الحديث رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى. الفرع الثانى فى عدد التكبير عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يكبر فى الفطر والأضحى، فى الأولى سبع تكبيرات، وفى الثانية: خمس تكبيرات «6» . زاد فى رواية: سوى تكبير الإحرام والركوع «7» . وعن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كبر فى

_ (1) الخرص: القرط بحبة واحدة وقيل هى الحلقة من الذهب والفضة. انظر لسان العرب (4/ 63) مادة (خرص) . (2) السخاب: قلادة تتخذ من قرنفل ومسك ومحلب ليس فيها من اللؤلؤ والجوهر شئ: قال ابن الأثير: السخاب: هو خيط ينظم فيه خرز تلبسه الصبيان والجوارى. انظر لسان العرب (2/ 201) مادة (سخب) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (164) فى الجمعة، باب: الخطبة بعد العيد، عن ابن عباس- رضى الله عنهما-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (304) فى الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-. (5) صحيح: أخرجه البخارى (964) فى الجمعة، وقد تقدم. (6) أخرجه مالك فى الموطأ (434) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى التكبير والقراءة فى صلاة العيدين. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (7) أخرجه البيهقى (3/ 289) عن أبى موسى وحذيفة بلفظ سوى تكبيرة الافتتاح والركوع.

الفرع الثالث فى الوقت والمكان

العيدين، فى الأولى سبعا قبل القراءة، وفى الآخرى خمسا قبل القراءة «1» . رواه الترمذى وابن ماجه والدارمى. الفرع الثالث فى الوقت والمكان عن أبى سعيد الخدرى قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شئ يبدأ به الصلاة «2» . الحديث رواه البخارى ومسلم. وفى هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من صلاتها فى المسجد، لمواظبته- صلى الله عليه وسلم- على ذلك، مع فضل مسجده، وعلى هذا عمل الناس فى الأمصار. وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا فى المسجد من الزمن الأول. ولأصحابنا الشافعية وجهان: أحدهما: الصحراء أفضل لهذا الحديث، والثانى: وهو الأصح عند أكثرهم، المسجد أفضل إلا أن يضيق، قالوا: وإنما صلى أهل مكة فى المسجد لسعته، وإنما خرج النبى- صلى الله عليه وسلم- لضيق المسجد، فدل على أن المسجد أفضل إذا اتسع، والمراد بالمصلى المذكور، الذى على باب المدينة الشرقى. قال ابن القيم: ولم يصل العيد بمسجده إلا مرة واحدة، أصابهم مطر فصلى بهم العيد فى المسجد، إن ثبت الحديث، وهو فى سنن أبى داود وابن ماجه. انتهى. ولفظ أبى داود: عن أبى هريرة قال: أصابنا مطر فى يوم فطر فصلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد. زاد رزين: ولم يخرج بنا إلى المصلى «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (536) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التكبير فى العيدين، وابن ماجه (1277) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى كم يكبر الإمام فى صلاة العيدين. من حديث سعد بن عائذ ولقبه القرظ، وصححه الألبانى. (2) صحيح: أخرجه البخارى (956) فى الجمعة، باب: الخروج إلى المصلى بغير منبر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1160) فى الصلاة، باب: يصلى بالناس فى المسجد إذا كان يوم مطر، وابن ماجه (1313) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة العيد فى المسجد إذا كان مطر، والحديث ضعيف إسناده الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

الفرع الرابع فى الأذان والإقامة

الفرع الرابع فى الأذان والإقامة عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة «1» . رواه مسلم وأبو داود والترمذى. وعن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى العيد بلا أذان ولا إقامة «2» . رواه أبو داود. الفرع الخامس فى قراءته ص فى صلاة العيدين عن أبى واقد الليثى قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى الأضحى والفطر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «3» واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «4» «5» . رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذى. وعن النعمان بن بشير قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى العيدين وفى الجمعة ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «6» وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «7» . وربما اجتمعا فى يوم واحد فقرأ بهما «8» . رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (887) فى صلاة العيدين، والترمذى (532) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة العيدين بغير أذان ولا إقامة. من حديث جابر بن سمرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (885) فى صلاة العيدين، من حديث جابر بن عبد الله، وأبو داود (1147) فى الصلاة، باب: ترك الأذان فى العيد. من حديث ابن عباس. (3) سورة ق: 1. (4) سورة القمر: 1. (5) صحيح: أخرجه أبو داود (1154) فى الصلاة، باب: ما يقرأ فى الأضحى والفطر، ومالك فى الموطأ (433) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى التكبير والقراءة فى صلاة العيدين، من حديث أبى واقد الليثى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (6) سورة الأعلى: 1. (7) سورة الغاشية: 1. (8) صحيح: أخرجه أبو داود (1125) فى الصلاة، باب: ما يقرأ به فى الجمعة. من حديث النعمان بن بشير- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

الفرع السادس فى خطبته ص وتقديمه صلاة العيدين عليها

الفرع السادس فى خطبته ص وتقديمه صلاة العيدين عليها عن ابن عمر: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة «1» . رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى. وعن جابر: أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة «2» . وفى رواية: قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه تلقى فيه النساء الصدقة «3» . وفى أخرى، قال: شهدت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: «تصدقن، فإن أكثر كن حطب جهنم» ، فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: «لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير» . قال: فجعلن يتصدقن من حليهن ويلقين فى ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن «4» . رواه البخارى ومسلم. وفى رواية أبى سعيد الخدري عند البخارى: فأول شئ يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشئ أمر به، ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (963) فى الجمعة، باب: الخطبة بعد العيد، ومسلم (888) فى صلاة العيدين. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (9580) فى الجمعة، باب: المشى والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة، ومسلم (885) فى صلاة العيدين. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (961) فى الجمعة، باب: المشى والركوب إلى العيد، ومسلم (884) فى صلاة العيدين. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. (4) تقدم فى الذى قبله.

الفرع السابع فى أكله ص يوم الفطر قبل خروجه إلى الصلاة

وهو أمير المدينة فى أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه، فقلت له: غيرتم والله. الحديث «1» . ولابن خزيمة: خطب- صلى الله عليه وسلم- يوم عيد على رجليه «2» . وهذا يشعر بأنه لم يكن فى المصلى فى زمانه- صلى الله عليه وسلم- منبر، ويدل على ذلك قول أبى سعيد: «فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان» ومقتضاه أن أول من اتخذه مروان. ووقع فى المدونة للإمام مالك: أن أول من خطب الناس فى المصلى على منبر عثمان بن عفان، كلمهم على منبر من طين بناه كثير بن الصلت، لكنه معضل، وما فى الصحيحين أصح، فقد رواه مسلم من طريق داود بن قيس نحو رواية البخارى. ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان ولم يطلع على ذلك أبو سعيد. قاله شيخ الإسلام ابن حجر- رحمه الله تعالى-. الفرع السابع فى أكله ص يوم الفطر قبل خروجه إلى الصلاة عن أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات «3» . رواه البخارى وقال: مرجأ بن رجاء حدثنى عبيد الله حدثنى أنس عن النبى- صلى الله عليه وسلم-: ويأكلهن وترا «4» . ورواه الحاكم من رواية عتبة بن حميد

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (956) فى الجمعة، باب: الخروج إلى المصلى بغير منبر، من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1288) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الخطبة فى العيدين. من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (3) صحيح: أخرجه البخارى (953) فى الجمعة، باب: الأكل يوم الفطر قبل الخروج. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (4) تقدم فى الذى قبله.

عنه بلفظ: ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات، ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا «1» . قال المهلب: الحكمة فى الأكل قبل الصلاة، أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلى العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة. وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، أشار إلى ذلك ابن أبى جمرة. وقيل: لأن الشيطان الذى يحبس فى رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد فاستحب تعجيل الفطر بدارا إلى السلامة من وسوسته. والحكمة فى استحباب التمر لما فى الحلو من تقوية البصر الذى يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به فى المنام، ويرق القلب، ومن ثم استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقا كالعسل. رواه ابن أبى شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما. وفى الترمذى والحاكم من حديث بريدة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلى «2» ، ونحوه عند البزار عن جابر بن سمرة. وروى الطبرانى والدار قطنى من حديث ابن عباس قال: من السنة أن لا يخرج يوم الفطر حتى يخرج الصدقة ويطعم شيئا قبل أن يخرج «3» . وفى كل من الأسانيد الثلاثة مقال. وقد أخذ أكثر الفقهاء بما دلت عليه، قال ابن المنير: وقع أكله- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) أخرجه أحمد (3/ 162) بلفظ يأكلهن إفرادا، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (542) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الأكل يوم الفطر قبل الخروج. من حديث بريدة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) أخرجه الدار قطنى (2/ 153) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

فى كل من العيدين فى الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها، فاجتمعا من جهة، وافترقا من أخرى. وقال الشافعى فى الأم: بلغنا عن الزهرى قال: ما ركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عيد ولا جنازة قط «1» . وفى الترمذى عن على قال: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا «2» ، وفى ابن ماجه عن سعد القرظى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى العيد ماشيا «3» ، وفيه عن أبى رافع نحوه، وأسانيد الثلاثة ضعاف. وعن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يوم العيد فى طريق رجع فى غيره «4» . رواه الترمذى. وقد اختلف فى معنى ذلك على أقوال كثيرة، قال الحافظ ابن حجر: اجتمع لى منها أكثر من عشرين، وقد لخصتها وبينت الواهى منها. فمن ذلك: أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل: سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوى بينهما فى مزية الفضل بمروره وفى التبرك، أو ليشم رائحة المسك من الطريق التى يمر بها لأنه كان معروفا بذلك. وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين، فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها. وهذا يحتاج إلى دليل. وقيل: لإظهار شعائر الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله، وقيل:

_ (1) قاله الشافعى فى «الأم» (1/ 233) ، ونقله عنه الحافظ فى «الفتح» (2/ 451) . (2) حسن: أخرجه الترمذى (530) فى الجمعة، باب: ما جاء فى المشى يوم العيد، من حديث على ولفظه من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيا ... الحديث. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) حسن: أخرجه ابن ماجه (1294) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى الخروج إلى العيد ماشيا. من حديث سعيد بن عائظ ولقبه القرظ. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى صحيح ابن ماجه. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (541) فى الجمعة، باب: ما جاء فى خروج النبى إلى العيد فى طريق ورجوعه فى طريق. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ليغيظ المنافقين أو اليهود، وقيل حذرا من كيد الطائفتين أو إحداهما، وقيل ليعمهم بالسرور به أو التبرك بمروره والانتفاع به فى قضاء حوائجهم فى الاستفتاء أو التعليم والاقتداء، والاسترشاد والسلام عليهم أو غير ذلك، وقيل ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضا، وقيل: كان يتصدق فى ذهابه فإذا رجع لم يبق معه شئ فيرجع فى طريق آخر لئلا يرد من يسأله. وهذا ضعيف جدّا مع احتياجه إلى دليل. وقيل: فعل ذلك لتخفيف الزحام، وهذا رجحه الشيخ أبو حامد، وقيل كان طريقه التى يتوجه منها أبعد من التى يرجع فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطا فى الذهاب، وأما فى الرجوع فيسرع إلى منزله، وهذا اختيار الرافعى. وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطا فى الرجوع أيضا، كما ثبت فى حديث أبى بن كعب عند الترمذى وغيره، وقيل: لأن الملائكة تقف فى الطرقات فأراد أن يشهد له فريقان منهم. وقال ابن أبى جمرة: هو فى معنى قول يعقوب لبنيه: لا تدخلوا من باب واحد، فأشار إلى أنه فعل حذر إصابة العين. انتهى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور والحيض فى العيدين، فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين. قالت إحداهن: يا رسول الله إحدانا لم يكن لها جلباب، قال: «فلتعرها أختها من جلابيبها» «1» . رواه البخارى ومسلم والترمذى واللفظ له. ولا دلالة فيه على وجوب صلاة العيد، لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف، فظهر أن القصد منه إظهار شعائر الإسلام بالمبالغة فى الاجتماع، ولتعم الجميع البركة.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (539) فى الجمعة، باب: ما جاء فى خروج النساء فى العيدين. من حديث أم عطية- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وفيه: استحباب خروج النساء إلى شهود العيد، سواء كن شواب أم لا، أو ذوات هيئات أم لا، لكن نص الشافعى فى الأم يقتضى استثناء ذوات الهيئات. قال: وأحب شهود العجائز غير ذوات الهيئات الصلاة. وأما شهودهن الأعياد فأشد استحبابا. وادعى بعضهم النسخ فيه، وقال الطحاوى: وأمره- صلى الله عليه وسلم- بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون فى أول الإسلام، والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو. وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك. وتعقب: بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد صرح فى حديث أم عطية بعلة الحكم، وهى شهودهن الخير ودعوة المسلمين، ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبى- صلى الله عليه وسلم- بمدة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها فى ذلك. وأما قول عائشة: «لو رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء لمنعهن المساجد» «1» فلا يعارض ذلك لندوره، إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها أفتت بخلافه، مع أن الدلالة منه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة. وفى قول الطحاوى: «إرهابا للعدو» نظر، لأن الاستنصار بالنساء والتكثير بهن فى الحرب دال على الضعف. والأولى: أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة، فلا يترتب على حضورها محظور، ولا تزاحم الرجال فى الطرق ولا فى المجامع، قاله فى فتح البارى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يخرج العنزة يوم الفطر والأضحى يكرزها فيصلى إليها «2» . رواه النسائى وغيره.

_ (1) أخرجه مالك فى الموطأ (468) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى خروج النساء إلى المساجد، وأحمد (6/ 91) عن عائشة- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (973) فى الجمعة، باب: حمل العنزة أو الحربة بين يدى الإمام يوم العيد، ومسلم (501) فى الصلاة، باب: سترة المصلى. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

وإذا علمت هذا فاعلم أن للمؤمنين فى هذه الدار ثلاثة أعياد، عيد يتكرر كل أسبوع، وعيدان يأتيان فى كل عام مرة من غير تكرار فى السنة. فأما العيد المتكرر فهو يوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع، وهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات من الله تعالى فشرع لهم فيه عيدا. وأما العيدان اللذان لا يتكرران فى كل عام، وإنما يأتى كل واحد منهما فى العام مرة واحدة. فأحدهما: عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مرتب على إكمال صيام رمضان، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون صيام شهر رمضان المفروض عليهم استوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار، فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنب، وآخره عتق من النار يعتق الله فيه من النار من استحقها بذنوبه، فشرع الله تعالى لهم عقب صيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله تعالى وذكره وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم فى ذلك العيد الصلاة والصدقة، وهو يوم الجوائز يستوفى فيه الصائمون أجر صيامهم ويرجعون بالمغفرة. والعيد الثانى عيد النحر: وهو أكبر العيدين وأفضلهما، وهو مرتب على إكمال الحج وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم، وإنما يكمل الحج بيوم عرفة، فإن الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلك صار اليوم الذى يليه عيدا لجميع المسلمين فى جميع أمصارهم، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهد، لاشتراكهم فى العتق والمغفرة يوم عرفة، وشرع للجميع التقرب إليه تعالى بالنسك بإراقة دماء ضحاياهم، فيكون ذلك اليوم شكرا منهم لهذه النعمة، والصلاة والنحر الذى يجتمع فى عيد النحر أفضل من الصلاة والصدقة فى عيد الفطر، ولهذا أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر أن يصلى لربه وينحر. وقد ضحى- صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر.

رواه البخارى من حديث أنس، قال: ورأيته واضعا قدميه على صفاحهما، يقول: «بسم الله والله أكبر» «1» . وعن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بكبش يطأ فى سواد «2» ، ويبرك فى سواد «3» ، فأتى به ليضحى به، قال: «يا عائشة، هلمى المدية» ، ثم قال: «اشحذيها بحجر» ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، قال: «بسم الله اللهم تقبل عن محمد وآل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحى به «4» . رواه مسلم. وعن جابر: ذبح النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين «5» ، فلما وجههما قال: «إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض، على ملة إبراهيم حنيفا، وما أنا من المشركين، إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر» ثم ذبح «6» . رواه البخارى وأبو داود وابن ماجه والدارمى. وفى رواية لأحمد والترمذى: ذبح بيده وقال: «بسم الله والله أكبر، اللهم إن هذا عنى وعمن لم يضح من أمتى» «7» . فهذه أعياد المسلمين فى

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (1521) فى الأضاحى، باب: العقيقة بشاة، من حديث جابر ابن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) يطأ فى سواد: أى قوائمه سود. (3) يبرك فى سواد: أى أن ملاقى محل بروكه على الأرض من بدنه أسود. (4) صحيح: أخرجه مسلم (1967) فى الأضاحى، باب: استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل، وأبو داود (2792) فى الضحايا، باب: ما يستحب من الضحايا. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (5) موجوءين: يعنى منزوع الخصيتين. (6) ضعيف: أخرجه أبو داود (2795) فى الضحايا، باب: ما يستحب من الضحايا، من حديث جابر بن عبد الله وأصله فى الصحيح من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (7) صحيح: أخرجه أحمد (3/ 356) ، والترمذى (1521) فى الأضاحى، باب: العقيقة بشاة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

الباب الثانى فى النوافل المقرونة بالأسباب

الدنيا، وكلها عند إكمال طاعات مولاهم الملك الوهاب، وحيازتهم لما وعدهم من جزيل الأجر والثواب، فليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، وليس العيد لمن تجمل باللباس والمركوب، وإنما العيد لمن غفرت له الذنوب، فى ليلة العيد تفرق خلع العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شئ فهو له عيد، وإلا فهو مطرود بعيد. وأما أعياد المؤمنين فى الجنة، فهى أيام زيارتهم ربهم عز وجل، فيزورونه ويكرمهم غاية الإكرام، ويتجلى لهم فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك وهو الزيارة، فليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه. إن يوما جامعا شملى بهم ... ذاك عيدى ليس لى عيد سواه الباب الثانى فى النوافل المقرونة بالأسباب وفيه أربعة فصول: الفصل الأول فى صلاته ص الكسوف الكسوف لغة التغير إلى السواد، يقال: كسفت الشمس: إذا اسودت وذهب شعاعها. عن قبيصة بن المخارق قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت، ثم قال: «إنما هذه الآية يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا» «1» . رواه أبو داود والنسائى.

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1185) فى الصلاة، عن قبيصة الهلالى وأصله فى الصحيح من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

وفى قوله: - صلى الله عليه وسلم- «يخوف الله بها عباده» رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادى لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن فى ذلك تخويف. وقد رد عليهم ابن العربى وغيره، بما فى حديث أبى موسى عند البخارى، حيث قال فيه: «فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة» قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة معنى، يعنى كما فى حديث أسماء عند البخارى «لقد أمر النبى- صلى الله عليه وسلم- بالعتاقة فى كسوف الشمس» «1» وكما عنده أيضا من حديث عائشة مرفوعا: «فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا» «2» فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كلما ذكر من أنواع الطاعات يرجى أن يندفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف. ومما نقض به ابن العربى وغيره أنهم يزعمون: أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة وإنما يحول القمر بينها وبين أهل الأرض عند اجتماعهما فى العقدتين. فقال: «هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر فى الجرم فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله؟ أم كيف يظلم الكثير بالقليل لا سيما وهو من جنسه؟ وكيف تحجب الأرض نور الشمس. وقد وقع فى حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعم أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائى وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، بلفظ: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله إذا تجلى بشئ من خلقه خشع له» «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1054) فى الجمعة، باب: من أحب العتاقة فى كسوف الشمس، من حديث أسماء- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1044) فى الجمعة، باب: الصدقة فى الكسوف. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1063) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف القمر، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وليس فيها وأن الله إذا تجلى لشىء من خلقه خشع له.

وقد استشكل الغزالى هذه الزيادة، وقال: أنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة. وقال ابن بزبزة: وهذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كرى الشكل، وظاهر الشرع يعطى خلاف ذلك والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق فى هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقيف على سبب أو ربط باقتران، والحديث الذى رده الغزالى قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا، لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسى، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا «1» ، انتهى. ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت، وقال: هى أخوف لله منا. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذى يذكره أهل الحساب ينافى قوله: «يخوف الله به عباده» ، وليس بشئ، لأن لله تعالى أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم فى عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شئ غريب، حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجرى عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها. وحاصله: أن الذى يذكره أهل الحساب إن كان حقّا فى نفس الأمر لا ينافى كون ذلك مخوفّا لعباد الله تعالى. قاله فى فتح البارى. وعن ابن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) سورة الأعراف: 143.

فقام قياما طويلا، نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون قيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله» ، فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا فى مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟ قال: «إنى رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء» ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن» ، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط» «1» . رواه البخارى ومسلم. وقوله: «ورأيت الجنة والنار» قال القاضى عياض: يحتمل أنه رآهما رؤية عين، كشف الله له عنهما، وأزال الحجاب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه، ويكون قوله- صلى الله عليه وسلم-: «فى عرض هذا الحائط» - كما فى رواية-: فى جهته وناحيته، ويحتمل أن تكون رؤية علم وعرض وحى باطلاعه وتعريفه من أمورهما مفصلا ما لم يعرفه قبل ذلك اليوم. قال القاضى: والأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث، لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله العنقود، وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار. انتهى. واستشكل قوله: «ولو أصبته» مع قوله: «تناولت» . وأجيب: بحمل «التناول» على تكلف الأخذ، لا حقيقة الأخذ، وقيل: المراد تناولته لنفسى ولو أخذته لكم، حكاه الكرمانى، قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، وقيل: المراد بقوله تناولت: وضعت يدى عليه، بحيث كنت قادرا على

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1052) فى الجمعة، باب: صلاة الكسوف جماعة، ومسلم (907) فى الكسوف، باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الكسوف. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

تحويله، لكن لم يقدر لى قطفه، ولو أصبته، أى لو تمكنت من قطفه، ويدل عليه من قوله فى حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة «أهوى بيده ليتناول شيئا» وفى حديث أسماء عند البخارى «حتى لو اجترأت عليه» وكأنه لم يؤذن له فى ذلك فلم يجترئ عليه. قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. انتهى. وفى حديث أسماء بنت أبى بكر، عند البخارى ومسلم ومالك والنسائى قال: ما من شئ كنت لم أره إلا رأيته فى مقامى هذا حتى الجنة والنار، ولقد أوحى إلىّ أنكم تفتنون فى قبوركم، مثل أو قريبا- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- من فتنة المسيح الدجال. يؤتى أحدكم فى قبره فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثا، فيقال: نم صالحا، قد علمنا إن كنت لموقنا، وأما المنافق أو المرتاب- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: لا أدرى، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وفى رواية: فرأى امرأة تخدشها هرة، ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا. وفى رواية: فرأى عمرو بن مالك يجر قصبه فى النار، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج يعذب «1» . قوله: «قصبه» بضم القاف وسكون الصاد، أى أمعاءه. وفى رواية عائشة: ثم قال: «يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ألا هل بلغت» «2» . أى لو تعلمون من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1053) فى الجمعة، باب: صلاة النساء مع الرجال فى الكسوف، من حديث أسماء بنت أبى بكر، - رضى الله عنهما-. (2) صحيح: وقد تقدم.

القيامة ما أعلم، وما بعدها. كما علمت وترون النار كما رأيت فى مقامى هذا وفى غيره لبكيتم كثيرا، ولقلّ ضحككم لتفكركم فيما علمتوه. وفى حديث عائشة عند البخارى. فخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، فكبرنا فاقترأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم قال: «سمع الله لمن حمده» فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة، وهى أدنى من القراءة الأولى، وزاد فى رواية: «ربنا ولك الحمد» «1» . واستدل به على استحباب الذكر المشروع فى الاعتدال فى أول القيام الثانى من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخرى الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع فى كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكى خالف فيه. والجواب: إن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- فعله فيها كان مشروعا، لأنها أصل برأسها. وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة، حتى منع من زيادة الركوع فيها، فصلاة الكسوف أشبه شئ بصلاة العيد ونحوها، مما يجمع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، فكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالآخذ به جامع بين العملين بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به. وقد تبين أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة فى القيام وغيره، ومن زيادة ركوع فى كل ركعة، وقد وردت زيادة فى ذلك من طرق أخر، فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن فى كل ركعة ثلاث ركوعات «2» ، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس: أن فى كل ركعة أربع ركوعات، ولأبى داود من حديث أبى بن كعب، والبزار من

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) أخرجه مسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، و (904) باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الكسوف من أمر الجنة.

حديث على: أن فى كل ركعة خمس ركوعات ولا يخلو إسناد منها من علة «1» . ونقل ابن القيم فى «الهدى» عن الشافعى وأحمد والبخارى: أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين فى كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم- عليه السّلام- وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح. وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابى وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك. وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووى فى شرح مسلم. وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة فى الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء فى أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد فى الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد فى ذلك. وتعقبه النووى وغيره: بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم فى أول الحال، ولا فى الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع فى الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود فى نفسه، منوى من أول الحال. انتهى ملخصا من فتح البارى. وعند الإمام أحمد: أنه لما سلم حمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبد الله ورسوله، ثم قال: «يا أيها الناس، أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أنى قصرت عن شئ من تبليغ رسالات ربى لما أخبرتمونى ذلك» فقام رجل فقال: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذى عليك، ثم قال: «وايم الله لقد رأيت منذ قمت أصلى ما أنتم لاقون من أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور الدجال، من تبعه لم ينفعه صالح من عمله» «2» .

_ (1) انظره فى «فتح البارى» (2/ 532) . (2) أخرجه أحمد (5/ 19) قال: حدثنا أبو كامل حدثنا زهير حدثنا الأسود بن قيس حدثنا ثعلبة بن عباد العبدى من أهل البصرة قال: شهدت يوما خطبة لسمرة بن جندب فذكر فى خطبته حديثا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: بينا أنا وغلام من الأنصار نرمى فى غرضين

وفى البخارى: وقالت عائشة وأسماء: خطب النبى- صلى الله عليه وسلم-. وقد اختلف فى الخطبة فيه، فاستحبها الشافعى وإسحاق وأكثر أهل الحديث. وقال ابن قدامة لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية من الحنفية ليس فى الكسوف خطبة لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهى ذات كثرة. والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة لها، مع أن مالكا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم: بأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يقصد بها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس. وتعقب: بما فى الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل، انتهى. وعن المغيرة بن شعبة عند البخارى: كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا الله» «1» . وإبراهيم هو ابن النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات

_ لنا على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كانت قيد رمحين أو ثلاثة فى عين الناظر اسودت حتى آضت كأنها تنومة قال: فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد فو الله ليحدثن شأن هذه الشمس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أمته حدثا قال: فدفعنا إلى المسجد فإذا هو بارز، قال: ووافقنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين خرج إلى الناس فاستقدم فقام بنا كأطول ما قام بنا فى صلاة قط لا نسمع له صوتا ثم ركع كأطول ما ركع بنا فى صلاة قط لا نسمع له صوتا ثم فعل فى الركعة الثانية مثل ذلك فوافق تجلى الشمس جلوسه فى الركعة الثانية: قال زهير حسبته قال: فسلّم فحمد الله وأثنى عليه ... الحديث. (1) صحيح: أخرجه البخارى (1043) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف الشمس، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-.

فى السنة العاشرة من الهجرة، فقيل فى ربيع الأول، وقيل فى رمضان، وقيل فى ذى الحجة، والأكثر على أنها وقعت فى عاشر الشهر، وقيل فى رابعه وقيل فى رابع عشره، ولا يصح شئ منها على قول ذى الحجة، لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إذ ذاك بمكة فى الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته، وكانت بالمدينة بلا خلاف. نعم قيل إنه مات سنة تسع، فإن ثبت فيصح، وجزم النووى بأنها كانت سنة الحديبية فلعل ذلك كان فى آخر ذى القعدة حين رجع منها. وفى هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب فى الأرض. قال الخطابى: كانوا فى الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير فى الأرض، من موت أو ضرر، فأعلم النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان فى غيرهما، ولا قدرة للدفع عن أنفسهما. وعن عبد الله بن عمرو قال: لما كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نودى: أن الصلاة جامعة «1» . رواه البخارى: وقوله: «أن» بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهى المفسرة. وفى رواية له ولمسلم، من حديث عائشة: بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- مناديا فنادى: الصلاة جامعة «2» . قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك. وقد أجمعوا على أنه لا يؤذن له ولا يقام. وروى ابن حبان أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم «3» ، وأخرجه الدار قطنى أيضا. وفيه: رد

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1045) فى الجمعة، باب: النداء بالصلاة جامعة فى الكسوف، ومسلم (910) فى الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1066) فى الجمعة، باب: الجهر بالقراءة فى الكسوف، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 146) فى الكسوف، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

على من أطلق- كابن رشيد- أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصل فى كسوف القمر، ومنهم من أول قوله: «صلى» أى أمر بالصلاة، جمعا بين الروايتين. وقال ابن القيم فى «الهدى» : لم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى فى كسوف القمر فى جماعة، لكن حكى ابن حبان فى السيرة له: أن القمر خسف فى السنة الخامسة، فصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف فى الإسلام، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور. وقد جزم به مغلطاى فى سيرته المختصرة، وتبعه الحافظ زين الدين العراقى فى نظمها. وفى البخارى من حديث عائشة: جهر النبى- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة الخسوف بقراءته. فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، فإذا فرغ من الركعة قال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» ثم يعاود القراءة فى صلاة الكسوف، أربع ركعات وأربع سجدات «1» . واستدل به على الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر. قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، لأن الإسماعيلى روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ كسفت الشمس فى عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وفى مسند أبى داود الطيالسى أنه- صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة فى صلاة الكسوف «2» . وقد ورد فيها عن على مرفوعا وموقوفا. أخرجه ابن خزيمة وغيره. وقال به صاحبا أبى حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثى الشافعية وابن العربى من المالكية. وقال الطبرى: يخير بين الجهر والإسرار. وقال الأئمة الثلاثة: يسر فى الشمس ويجهر فى القمر.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1047) فى الجمعة، باب: هل يقول كسفت الشمس أو خسفت، وأبو داود (1180) فى الصلاة، باب: من قال أربع ركعات. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) أخرجه أبو داود الطيالسى (1466) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

الفصل الثانى فى صلاته ص صلاة الاستسقاء

واحتج الشافعى بقول ابن عباس: «قرأ نحوا من سورة البقرة» «1» لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير. وقد روى الشافعى تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الكسوف فلم يسمع منه حرفا «2» ، ووصله البيهقى من ثلاثة طرق أسانيدها واهية. وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى. قال ابن العربى: الجهر عندى أولى، لأنها صلاة جماعة ينادى لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء. انتهى ملخصا والله أعلم. الفصل الثانى فى صلاته ص صلاة الاستسقاء اعلم أن الاستسقاء طلب السقيا من الله تعالى عند الحاجة إليها، كما تقول: استعطى: أى طلب العطاء. ولم يخالف أحد من العلماء فى سنية الصلاة فى الاستسقاء إلا أبو حنيفة محتجا بأحاديث الاستسقاء التى ليس فيها صلاة. واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة فى الصحيحين وغيرهما: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الاستسقاء ركعتين «3» . وأما الأحاديث التى ليس فيها الصلاة، فبعضها محمول على نسيان الراوى، وبعضها كان فى الخطبة للجمعة، وتعقبه صلاة الجمعة فاكتفى بها، ولو لم تصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف فى جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة لأن فيها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، والاستسقاء أنواع: الأول: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين، ويتأهب قبله بصدقة وصيام

_ (1) تقدم. (2) أخرجه أحمد (1/ 293) من حديث ابن عباس ولفظه قال صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفا من القرآن. (3) تقدم.

وتوبة، وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. قال ابن عباس: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى، فرقى المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما صلى فى العيد «1» . رواه الترمذى وغيره. وفى حديث عبد الله بن زيد المازنى، قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المصلى ليستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه، ثم صلى «2» . رواه البخارى ومسلم. وفى رواية: خرج بالناس إلى المصلى ليستسقى فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة واستقبل يدعو، ورفع يديه وحول رداءه حين استقبل القبلة «3» . وفى رواية؛ قال: وحول رداءه وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله «4» .

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (1165) فى الصلاة من حديث ابن عباس ولفظه خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى زاد عثمان فرقى على المنبر ثم اتفقا ولم يخطب خطبكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيد. والترمذى (558) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء، عن ابن عباس أيضا، وابن ماجه (1266) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء عن ابن عباس أيضا. واللفظ للترمذى. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (6343) فى الدعوات، باب: الدعاء مستقبل القبلة، ومسلم (894) فى صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء. من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه- واللفظ للبخارى. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (556) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) حسن: أخرجه الترمذى (1165) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها. عن محمد بن مسلم بإسناده. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف فى شئ من طرق حديث عبد الله بن زيد على سبب ذلك ولا على صفته- صلى الله عليه وسلم- حال الذهاب إلى المصلى، ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك فى حديث عائشة عند أبى داود وابن حبان قالت: شكا الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قحط المطر، فأمر بمنبر فوضع له فى المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد الله، ثم قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، الذى لا إله إلا هو، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله الذى لا إله إلا أنت الغنى ونحن الفقراء، اللهم أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين» ، ثم رفع يديه حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب- أو حول- رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابا، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: «أشهد أن الله على كل شئ قدير، وأنى عبد الله ورسوله» «2» . وقد حكى ابن المنذر الاختلاف فى وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين، وهل تصنع بالليل؟ استنبط بعضهم من كونه- صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة فيها بالنهار، أنها نهارية كالعيد، وإلا فلو كانت تصلى بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل كمطلق النوافل. ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى فى وقت الكراهة. وأفاد ابن حبان أن خروجه- صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى للاستسقاء كان فى شهر رمضان سنة

_ (1) سورة الفاتحة: 1- 5. (2) حسن: أخرجه أبو داود (1173) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث حسنه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ست من الهجرة. وذكر الواقدى: أن طول ردائه- صلى الله عليه وسلم- كان ستة أذرع فى ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين فى ذراعين وشبر، كان يلبسهما فى الجمعة والعيدين. وقد روى أبو داود عن عباد: استسقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه «1» . وقد استحب الشافعى فى الجديد فعل ما همّ به- صلى الله عليه وسلم- من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف. وزعم القرطبى تبعا لغيره أن الشافعى اختار فى الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذى فى الأم ما ذكرته. والجمهور على استحباب التحويل فقط. ولا ريب أن الذى استحبه الشافعى أحوط. وعن أبى حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شئ من ذلك. واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد فى هذا الحديث بلفظ: «وحول الناس معه» «2» . وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده. واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب فى حقهن. واختلف فى حكمة هذا التحويل فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هى عليه. وتعقبه ابن العربى بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له حول رداءك ليتحول حالك. وتعقب بأن الذى جزم به يحتاج إلى نقل، والذى رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدار قطنى والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن على عن أبيه عن جابر. ورجح الدار قطنى إرساله. وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1164) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، والنسائى (1507) فى الاستسقاء، باب: الحال التى يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج. من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) أخرجه أحمد (4/ 39 و 41) .

واستدل بقوله فى حديث عائشة: «ثم صلى ركعتين» بعد قوله: «فقعد على المنبر» على أن الخطبة فى الاستسقاء قبل الصلاة، وهى مقتضى حديث ابن عباس، لكن وقع عند أحمد فى حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا فى حديث أبى هريرة عند ابن ماجه، حيث قال: فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة «1» ، والمرجح عند الشافعية والمالكية الثانى. ولم يقع فى شئ من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدار قطنى من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما ب سَبِّحِ «2» وهَلْ أَتاكَ «3» «4» . وفى إسناده مقال. لكن أصله فى السنن بلفظ: ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيدين. فأخذ بظاهره الشافعى فقال يكبر فيهما. الثانى: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- فى خطبة الجمعة. عن أنس: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، قال أنس: ولا والله ما نرى فى السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين «سلع» من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب فى الجمعة المقبلة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1274) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة العيدين، من حديث ابن عباس وليس أبى هريرة. (2) سورة الأعلى: 1. (3) سورة الغاشية: 1. (4) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 66) .

الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» ، قال: فانقطعت وخرجنا نمشى فى الشمس. قال شريك: فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدرى «1» . رواه مسلم. وفى رواية قال: فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت، حتى رأيت المدينة مثل الجوبة، وسال وادى قناة شهرا. ولم يجئ أحدا من ناحية إلا أخبر بجود «2» . وقوله: «يغيثنا» بفتح أوله، يقال: غاث الله البلاد يغيثها، إذا أرسل عليها المطر. وقوله: «من باب كان نحو دار القضاء» هى دار عمر بن الخطاب وسميت بذلك لأنها بيعت فى قضاء دينه. وقوله: «هلكت الأموال» ، وفى رواية كريمة وأبى ذر عند الكشميهنى: هلكت المواشى، وهى المراد بالأموال هنا: وفى رواية البخارى: هلك الكراع- بضم الكاف- وهو يطلق على الخيل وغيرها، وفى البخارى أيضا: هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، وهو من ذكر العام بعد الخاص. والمراد بهلاكهم: عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. وانقطعت السبل: لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد فى طريقها من الكلأ ما يقيم أودها. و «الآكام» بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمد: جمع «أكمة» - بفتحات-: التراب المجتمع، وقيل: الجبل الصغير، وقيل؛ ما ارتفع من الأرض. و «الظراب» بكسر المعجمة، جمع «ظرب» - بكسر الراء-: الجبل المنبسط العالى. وقوله: «مثل الجوبة» بفتح الجيم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، هى الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا: الفرجة فى السحاب. و «الجود» : المطر الغزير. وقوله: «قناة شهرا» : أى جرى فيه المطر من الماء شهرا. وفى هذا دليل على عظم معجزته- صلى الله عليه وسلم-، وهو أن سخرت السحاب

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (933) فى الجمعة، باب: الاستسقاء فى الخطبة يوم الجمعة، ومسلم (897) فى الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) تقدم فى الذى قبله.

له كلما أشار إليها امتثلت أمره بالإشارة دون كلام، لأن كلامه- صلى الله عليه وسلم- مناجاة للحق تعالى، وأما السحاب فبالإشارة، فلولا الأمر لها بالطاعة له- صلى الله عليه وسلم- لما كان ذلك، لأنها أيضا- كما جاء- مأمورة حيث تسير، وقدر ما تقيم، وأين تقيم. ورحم الله الشقراطيسى فلقد أحسن حيث قال: دعوت للخلق عام المحل مبتهلا ... أفديك بالخلق من داع ومبتهل صعّدت كفيك إذ كفّ الغمام فما ... صوبت إلا بصوب الواكف الهطل أراق بالأرض ثجا صوب ريقه ... فحل بالروض نسجا رائق الحلل زهر من النور حلت روض أرضهم ... زهرا من النّور صافى النبت مكتمل من كل غصن نضير مورق خضر ... وكل نور نضيد مونق خضل تحية أحيت الأحياء من مضر ... بعد المضرة تروى السبل بالسبل دامت على الأرض سبعا غير مقلعة ... لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل وقوله فى الحديث «سبتا» : أى من السبت إلى السبت. وقوله: «ثم دخل رجل» الظاهر أنه غير الأول، لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وفى رواية ابن إسحاق: فقام الرجل أو غيره، وفى رواية لمسلم: فتقشعت عن المدينة فجعلت تمطر حواليها وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفى مثل الإكليل- وهو بكسر الهمزة وسكون الكاف: كل شئ دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به، وهو من ملابس الملوك كالتاج-. وفى رواية له أيضا: فألف الله بين السحاب ومكثت حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتى أهله، وفى رواية له أيضا: فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى. والملاء: بضم الميم والقصر وقد تمد، جمع ملاءة وهى ثوب معروف. واستدل بهذا الحديث على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء ليس فيه صلاة. فأما الأول فقال به الشافعى، وأما الثانى

فقال به أبو حنيفة، وتعقب: بأن الذى وقع فى هذه القصة مجرد دعاء، لا ينافى مشروعية الصلاة لها، وقد ثبت فى واقعة أخرى كما تقدم، والله أعلم. الثالث: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- على منبر المدينة. روى البيهقى فى الدلائل من طريق يزيد بن عبيد السلمى قال: لما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أتاه وفد من بنى فزارة، بضعة عشر رجلا، وفيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، وهو أصغرهم، فنزلوا فى دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل عجاف مسنتون، فأتوا مقرين بالإسلام، فسألهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن بلادهم فقالوا: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «سبحان الله!! ويلك، أنا شفعت إلى ربى، فمن ذا الذى يشفع ربنا إليه، لا إله إلا هو العلى العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله كما يئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد» فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ليضحك من شفقكم وقرب غياثكم» ، فقال أعرابى: أو يضحك ربنا يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، فقال الأعرابى: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرا. فضحك- صلى الله عليه وسلم- من قوله، فقام- صلى الله عليه وسلم- فصعد المنبر وتكلم بكلمات ورفع يديه، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه فى شئ من الدعاء إلا فى الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعاءه: «اللهم اسق بلدك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحى بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مربعا طبقا واسعا، عاجلا غير آجل نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» . فقام أبو لبابة بن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر فى المربد، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اسقنا» ، فقال أبو لبابة: إن التمر فى المرابد، ثلاث

مرات، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره» . قال: فلا والله ما فى السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، وهم ينظرون، ثم أمطرت، فو الله ما رأوا الشمس سبتا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه. فقال الرجل: يا رسول الله- يعنى الذى سأله أن يستسقى له-: هلكت الأموال، وانقطعت السبل. فصعد- صلى الله عليه وسلم- المنبر فدعا ورفع يديه مدّا، حتى رؤى بياض إبطيه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب «1» . و «الأطيط» صوت الأقتاب، يعنى: أن الكرسى ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه، وعجزه عن احتماله. وهذا مثل لعظمته تعالى وجلاله، ولم يكن أطيط وإنما هو كلام تقريب، أريد به تقرير عظمة الله تعالى. وقوله: «طبقا» بفتح الطاء والموحدة، أى مالئا للأرض مغطيا لها، يقال: غيث طبق أى عام واسع. و «المربد» : موضع يجفف فيه التمر. و «ثعلبه» ثقبه الذى يسيل منه ماء المطر. وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا صبى يغط، ولا بعير يئط- أى ما لنا بعير أصلا لأن البعير لا بد أن يئط- وأنشد: أتيناك والعذراء يدمى لبانها ... وقد شغلت أم الصبى عن الطفل وألقى بكفيه الفتى لاستكانة ... من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلى

_ (1) تقدم فى الذى قبله.

ولا شئ مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامى والعلهز الغسل وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل فقام- صلى الله عليه وسلم- يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا غدقا طبقا نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع، وتحيى به الأرض بعد موتها» قال: فما رد- صلى الله عليه وسلم- يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأبراقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «حوالينا ولا علينا» فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل. وضحك- صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: «لله در أبى طالب، لو كان حيّا لقرت عيناه. من ينشدنا قوله؟» فقال على: يا رسول الله كأنك تريد قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل تطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفواضل كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن حوله ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل فقال: «أجل» رواه البيهقى. وقوله: «يدمى لبانها» أى يدمى صدرها لامتهانها نفسها فى الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من يخدمها من الجدب وشدة الزمان، وأصل اللبان من الفرس موضع اللبب ثم استعير للناس. وقوله: «ما يمر وما يحلى» أى ما ينطق بخير ولا بشر من الجوع والضعف. وقوله: «سوى الحنظل العامى» نسبة إلى العام، لأنه يتخذ فى عام الجدب، كما قالوا للجدب: السنة. «والعلهز» بالكسر، طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير فى سنى المجاعة. قاله الجوهرى. و «الغسل» الرذل، قال السهيلى: فإن قلت: كيف قال أبو طالب «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» ولم يره قط يستسقى، وإنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟

وأجاب بما حاصله: أن أبو طالب أشار إلى ما وقع فى زمن عبد المطلب، حيث استسقى لقريش والنبى- صلى الله عليه وسلم- معه وهو غلام. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد ذلك فيه. انتهى. قلت: وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة، وهم فى قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادى وأجدب العيال وأنت فيهم أما تستسقى؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه وما فى السماء قزعة، فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا، وأغدق واغدودق وانفجر له الوادى وأخصب النادى والبادى، وفى ذلك يقول أبو طالب «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» انتهى. الرابع: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- بالدعاء من غير صلاة. عن ابن مسعود أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع الله، فقرأ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ «1» ، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «2» ، يوم بدر. زاد أسباط عن منصور: فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، وشكا الناس كثرة المطر فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم «3» . رواه البخارى. وأفاد الدمياطى أن ابتداء الدعاء على قريش كان عقب طرحهم على ظهره سلا الجزور، وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبى- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) سورة الدخان: 10. (2) سورة الدخان: 16. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (1169) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

بذلك بالمدينة فى القنوت كما فى حديث أبى هريرة عند البخارى، ولا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصص، إذ لا مانع أن يدعو عليهم مرارا. والظاهر أن مجئ أبى سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: «ثم عادوا، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «1» يوم بدر» ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك، فلذلك قال: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» لكن ورد ما يدل على أن القصة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل. وفى الدلائل للبيهقى عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب قال: دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع الله لقومك قد هلكوا. وقد رواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرة، ولم يشك، وأبهم أبا سفيان فقال: جاءه رجل فقال: استسق الله لمضر، قال: يا رسول الله استنصرت الله فنصرك ودعوت الله فأجابك، فرفع يديه فقال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا» الحديث فظهر أن هذا الرجل المبهم المقول له: «إنك لجرئ» هو أبو سفيان. لكن يظهر أن فاعل «قال يا رسول الله استنصرت الله إلخ» هو كعب بن مرة راوى هذا الحديث، فما أخرجه أحمد والحاكم عن كعب بن مرة المذكور قال: «دعا رسول الله على مضر، فأتيته فقلت: يا رسول الله إن الله قد نصرك وأعطاك واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا» . وعلى هذا: فكأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشئ، فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت فى هذه ما ثبت فى تلك من قوله «إنك لجرئ» ومن قوله: «اللهم حوالينا ولا علينا» . وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع بالمدينة لقوله «استنصرت الله فنصرك» . ولا يلزم من هذا اتحاد هذه القصة مع قصة أنس السابقة، فهى واقعة أخرى، لأن فى رواية أنس «فلم ينزل عن المنبر حتى مطروا» وفى هذه «فما كان إلا جمعة أو نحوها حتى مطروا» ، والسائل فى هذه القصة غير السائل فى تلك، فهما قصتان، وقع فى كل منهما طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم

_ (1) سورة الدخان: 16.

الفصل الثالث

طلب الدعاء بالاستصحاء. وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: «استنصرت الله فنصرك» على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم والله أعلم. انتهى ملخصا من فتح البارى. الخامس: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء، وهى خارج باب المسجد الذى يدعى باب السلام نحو قذفة بحجر، ينعطف على يمين الخارج من المسجد. عن عمير، مولى أبى اللحم، أنه رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- يستسقى رافعا يديه قبل وجهه، لا يجاوزهما رأسه «1» ، رواه أبو داود والترمذى. السادس: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم- فى بعض غزواته، لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وقال بعض المنافقين: لو كان نبيّا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أو قد قالوها، عسى ربكم أن يسقيكم» ، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حتى أظلم السحاب وأمطروا إلى أن سال الوادى، فشرب الناس وارتووا. الفصل الثالث عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعا: أنه كان إذا استسقى قال: اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعرى، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا. رواه الشافعى.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1168) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء. من حديث عمير الغفارى مولى أبى اللحم- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

الفصل الرابع

الفصل الرابع روى أبو الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمى عام الفتق. وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح من رواية أبى صالح السمان، عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط فى زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل فى المنام فقيل له: أئت عمر. وفى رواية عبد الرزاق: أن عمرا استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم فاستسق. وذكر الزبير بن بكار أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمادة، بفتح الراء وتخفيف الميم- وسمى به لما حصل من شدة الجدب، فأغبرت الأرض جدّا لعدم المطر. وذكر ابن عساكر فى كتاب الاستسقاء أن العباس لما استسقى ذلك اليوم قال: اللهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب ثم أنزل منه الماء ثم أنزله علينا، واشدد به الأصل وأطل به الفرع وأدرّ به الضرع. اللهم تشفعنا إليك بمن لا منطق له من بهائمنا وأنعامنا، اللهم اسقنا سقيا وادعة بالغة طبقا، اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك، لا شريك لك، اللهم نشكو إليك سغب كل ساغب، وعدم كل عادم، وجوع كل جائع، وعرى كل عار، وخوف كل خائف. وفى رواية الزبير بن بكار: أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم أنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بى القوم إليك لمكانى من نبيك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا

الغيث. فأرخت السماء مثل الحبال، حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. وعنده أيضا: قحط الناس فقال عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا يا أيها الناس برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عمه العباس، فاتخذوه وسيلة إلى الله. وفيه فما برحوا حتى سقوا، وفى ذلك يقول العباس بن عتبة بن أبى لهب: بعمى سقى الله الحجاز وأهله ... عشية يستسقى بشيبته عمر توجه بالعباس فى الجدب راغبا ... إليه فما إن رام حتى أتى المطر ومنا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذه للمفاخر مفتخر

القسم الثالث فى ذكر صلاته ص فى السفر

القسم الثالث فى ذكر صلاته ص فى السفر وفيه فصول: الفصل الأول فى قصره ص الصلاة فيه وأحكامه وفيه فرعان: الفرع الأول فى كم كان ص يقصر الصلاة تقدم هل القصر رخصة أو عزيمة، وما استدل به لكل من القولين، فى أوائل هذا المقصد. وعن أنس بن مالك قال: صليت الظهر مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة أربعا، وخرج يريد مكة فصلى بذى الحليفة العصر ركعتين «1» . رواه البخارى ومسلم. وهذا الحديث مما احتج به أهل الظاهر فى جواز القصر فى طويل السفر وقصيره، فإن بين المدينة وذى الحليفة ستة أميال، ويقال سبعة. وقال الجمهور: لا يجوز القصر إلا فى سفر يبلغ مرحلتين، وقال أبو حنيفة وطائفة: شرطه ثلاث مراحل، واعتمدوا فى ذلك آثارا عن الصحابة. وأما هذا الحديث فلا دلالة فيه لأهل الظاهر، لأن المراد أنه- صلى الله عليه وسلم- حين سافر إلى مكة فى حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة أربعا ثم سافر، فأدركته العصر

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1089) فى الجمعة، باب: فى كم يقصر الصلاة، ومسلم (690) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.

وهو مسافر بذى الحليفة، فصلاها ركعتين. وليس المراد أن ذا الحليفة غاية سفره، فلا دلالة فيه قطعا. والأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدان على جواز القصر من حين يخرج من البلد، فإنه حينئذ يسمى مسافرا. وطويل السفر ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، وهى ستة عشر فرسخا، وهى أربعة برد. والميل من الأرض منتهى مد البصر، لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه. وبذلك جزم ابن الجوزى. وقيل: حده أن تنظر إلى الشخص فى أرض مصطحبة فلا تدرى أهو رجل أو امرأة. أو هو ذاهب أو آت؟ قال النووى: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة، وقد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن بمصر والحجاز فى هذه الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن. فعلى هذا فالميل بذراع الحديد خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا، وهذه فائدة جليلة قل من تنبه لها. روى البيهقى عن عطاء أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين، أى يقصران فى أربعة برد فما فوقها. وذكره البخارى فى صحيحه تعليقا بصيغة الجزم. ورواه بعضهم عن صحيح ابن خزيمة مرفوعا من رواية ابن عباس. وقد كان فرض الصلاة ركعتين، فلما هاجر- صلى الله عليه وسلم- فرضت أربعا «1» . رواه البخارى من حديث عائشة لكن يعارضه حديث ابن عباس: فرضت الصلاة فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين «2» . رواه مسلم. وجمع بينهما بما يطول ذكره. ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها فى السفر عند نزول قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ «3» ، ويؤيده ما ذكره ابن

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3935) فى فضائل الصحابة، باب: التاريخ، من أين أرخوا التاريخ؟، ومسلم (685) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها. (2) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها. (3) سورة النساء: 101.

الفرع الثانى فى القصر مع الإقامة

الأثير فى شرح المسند أن قصر الصلاة كان فى السنة الرابعة من الهجرة، وقيل كان قصر الصلاة فى ربيع الآخر من السنة الثانية. ذكره الدولابى، وقيل بعد الهجرة بأربعين يوما. الفرع الثانى فى القصر مع الإقامة عن أنس قال: خرجنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة، فكان يصلى ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قيل له: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا «1» . رواه البخارى، ومسلم مختصرا قال: أقمنا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- عشرة يقصر الصلاة «2» . وعن ابن عباس: أقام النبى- صلى الله عليه وسلم- تسع عشرة يقصر الصلاة. فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا «3» . رواه البخارى. وفى رواية أبى داود: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام سبعة عشر بمكة يقصر الصلاة «4» . قال ابن عباس: فلو أقام أكثر أتم. والرواية الأولى بتقديم التاء على السين، والثانية بتقديم السين على الموحدة. ولأبى داود، من حديث عمران بن حصين: غزوت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الفتح، فأقام بمكة ثمانى عشرة ليلة لا يصلى إلا ركعتين «5» . وله من طريق ابن إسحاق عن الزهرى عن عبيد الله عن ابن عباس: أقام- صلى الله عليه وسلم- بمكة عام الفتح خمسة عشر يوما يقصر الصلاة «6» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1081) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التقصير وكم يقيم حتى يقصر، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (693) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها. (3) صحيح: أخرجه البخارى (4300) فى المغازى، باب: مقام النبى بمكة زمن الفتح، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (4) أخرجه أبو داود (1230) فى الصلاة، باب: متى يتم السفر، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى: صحيح بلفظ تسعة عشر وهو الأرجح. (5) صحيح: أخرجه أبو داود (1229) فى الصلاة، باب: متى يتم المسافر، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (6) ضعيف منكر: أخرجه أبو داود (1231) فى الصلاة، باب: متى يتم المسافر، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» : ضعيف منكر.

وجمع البيهقى بين هذا الاختلاف: بأن من قال: «تسعة عشر» عد يومى الدخول والخروج، ومن قال: «سبعة عشر» حذفهما، وأما رواية «خمس عشرة» فضعفها النووى فى «الخلاصة» وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائى من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، فإذا ثبت أنها صحيحة فلتحمل على أن الراوى ظن أن رواية الأصل سبع عشرة، فحذف منها يومى الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية «تسع عشرة» أرجح الروايات. وأخذ الشافعى بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب الإتمام، فإن أزمع الإقامة فى أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه فى دخول يومى الدخول والخروج فيها، أو: لا. ولا معارضة بين حديث ابن عباس وحديث أنس، لأن حديث ابن عباس كان فى فتح مكة، وحديث أنس كان فى حجة الوداع. وفى حديث ابن عباس: قدم- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه- يعنى مكة- لصبح رابعة، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه قدم فى اليوم الرابع وخرج منها فى اليوم الثامن، فصلى الظهر فى منى، ومن ثم قال الشافعى: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، فالمدة التى فى حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة بل كان مترددا، متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. والمدة التى فى حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه- صلى الله عليه وسلم- فى أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: لما كان الأصل فى المقيم الإتمام فلما لم يجئ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه أقام فى حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر. والله أعلم.

الفصل الثانى فى الجمع

الفصل الثانى فى الجمع وفيه فرعان أيضا: الفرع الأول فى جمعه صلى الله عليه وسلم عن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب «1» . وفى رواية: أنه كان إذا أراد أن يجمع بين صلاتين فى السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر «2» . وفى أخرى: كان إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء «3» ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود. وفى رواية البخارى: كان يجمع بين هاتين الصلاتين فى السفر «4» ، يعنى: المغرب والعشاء. وفى حديث ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- يجمع بين صلاتى الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء «5» ، رواه البخارى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1111) فى الجمعة، باب: يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس. من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (704) فى صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين فى السفر، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) تقدم فى الذى قبله. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1110) فى الجمعة، باب: هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء. من حديث أنس- رضى الله عنه-. (5) تقدم.

الفرع الثانى فى جمعه ص بجمع مزدلفة وبعرفة

ولمسلم: جمع بين الصلاة فى سفرة سافرها فى غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء «1» . وله ولمالك وأبى داود والنسائى: أنهم خرجوا معه- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك، فكان- صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخروا الظهر يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ودخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا «2» . وفى رواية أبى داود والترمذى من حديث معاذ بن جبل: كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، فإن رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفى المغرب مثل ذلك: إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم يجمع بينهما «3» . الفرع الثانى فى جمعه ص بجمع «4» مزدلفة وبعرفة عن ابن عمر: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعا «5» . رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود. وزاد البخارى: كل واحدة منهما

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (705) فى صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين فى الحضر، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (1206) فى الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين، والترمذى (553) فى الجمعة، باب: ما جاء فى الجمع بين الصلاتين، من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) تقدم فى الذى قبله. (4) جمع: بفتح الجيم وسكون الميم أى المزدلفة وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها أى دنى منها. (5) صحيح: أخرجه البخارى (1092) فى الجمعة، باب: يصلى المغرب ثلاثا في السفر من حديث ابن عمر، ومسلم (1287) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتى المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة فى هذه الليلة. من حديث أبى أيوب الأنصارى- رضى الله عنه-.

الفصل الثالث فى ذكر صلاته ص النوافل فى السفر

بإقامة ولم يسبح بينهما «1» . ولمسلم: جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين «2» . وفى حديث أبى أيوب الأنصارى، عند البخارى ومسلم: جمع فى حجة الوداع بين المغرب والعشاء فى المزدلفة «3» . وفى رواية ابن عباس، عند النسائى: صلى المغرب والعشاء بإقامة واحدة «4» . وفى رواية جعفر بن محمد عن أبيه عند أبى داود: صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة، ولم يسبح بينهما وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما «5» . الفصل الثالث فى ذكر صلاته ص النوافل فى السفر عن ابن عمر قال: سافرت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، ولا يصلى قبلهما ولا بعدهما، وقال ابن عمر: لو كنت مصليا قبلهما أو بعدهما لأتممتهما «6» . رواه الترمذى. وفى رواية: صحبت النبى- صلى الله عليه وسلم- فلم أره يسبح فى السفر «7» ، أى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1673) فى الحج، باب: من جمع بينهما ولم يتطوع، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1288) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتى المغرب والعشاء جميعا بالمزدلفة فى هذه الليلة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (3) تقدم. (4) تقدم. (5) تقدم. (6) صحيح: أخرجه الترمذى (544) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التقصير فى السفر. قال الترمذى: حسن غريب. وقال الألبانى فى «صحيح الترمذى» : صحيح. (7) صحيح: أخرجه البخارى (1101) فى الجمعة، باب: من لم يتطوع فى السفر دبر الصلاة وقبلها. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

تنفل للرواتب التى قبل الفرائض وبعدها. وهو مستفاد من قوله فى الرواية الآخرى، فكان لا يزيد فى السفر على ركعتين «1» . قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ يحتمل أن يريد: لا يزيد على عدد ركعات الفرض، فيكون كناية عن نفى الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القصر، ويحتمل أن يريد: لا يزيد نفلا، ويمكن أن يريد ما هو أعم من ذلك. وفى رواية مسلم: صحبت ابن عمر فى طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رجل فجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحا لأتممت «2» . قال النووى: أجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة محتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها، وأما النافلة فهى إلى خيرة المصلى، فطريق الرفق به أن تكون مشروعة، ويخير فيها. انتهى. وتعقب: بأن مراد ابن عمر بقول: «لو كنت مسبحا لأتممت» يعنى أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلى الراتبة ولا يتم. وفى البخارى، من حديث ابن عمر: كان- صلى الله عليه وسلم- يوتر على راحلته «3» ، وبوب عليه «باب الوتر فى السفر» ، وأشار به إلى الرد على من قال: «لا يسن الوتر فى السفر» ، وهو منقول عن الضحاك، وأما قول ابن عمر: «لو كنت مسبحا فى السفر لأتممت» كما أخرجه مسلم، فإنما أراد به راتبة المكتوبة، لا النافلة المقصودة كالوتر، وذلك بيّن من سياق الحديث المذكور عند الترمذى من وجه آخر بلفظ «لو كنت مصليا قبلهما أو بعدهما

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه مسلم (689) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها، والذى صحب عمر هو حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1000) فى الجمعة، باب: الوتر فى السفر. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

لأتممت» «1» وأما حديث عائشة عند البخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها فليس بصريح فى فعله ذلك فى السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء. وأجاب النووى- تبعا لغيره- بما لفظه: لعل النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى الرواتب فى رحله فلا يراه ابن عمر، أو لعله تركها فى بعض الأوقات لبيان الجواز. انتهى. وفى رواية الترمذى من حديث ابن عمر قال: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر فى السفر ركعتين، وبعدها ركعتين «2» . وفى رواية: صليت معه فى الحضر والسفر، فصليت معه فى الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين. وصليت معه فى السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين ولم يصل بعدها شيئا والمغرب فى الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات لا تنقص فى حضر ولا سفر، وهى وتر النهار وبعدها ركعتين «3» . وفى حديث أبى قتادة عند مسلم فى قصة النوم عن صلاة الصبح: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين قبل الصبح، ثم صلى الصبح كما كان يصلى «4» . وقول صاحب «الهدى» إنه لم يحفظ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى سنة صلاة قبلها ولا بعدها فى السفر إلا ما كان من سنة الفجر. يرد على إطلاقه ما قدمناه فى رواية الترمذى من حديث ابن عمر. وما رواه أبو داود والترمذى من حديث البراء بن عازب قال: سافرت مع النبى- صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر سفرا فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر «5» ، وكأنه لم يثبت عند ذلك، لكن

_ (1) تقدم. (2) أخرجه الترمذى (551) فى الجمعة، باب: ما جاء فى التطوع فى السفر، وقد تقدم أكثر من مرة. قال الترمذى: حديث حسن. قال الألبانى: ضعيف الإسناد. (3) تقدم. (4) صحيح: أخرجه مسلم (681) فى المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها. (5) ضعيف: أخرجه أبو داود (1222) فى الصلاة، باب: التطوع فى الصلاة، والترمذى (550) فى الصلاة، باب: ما جاء فى التطوع فى السفر، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

الفصل الرابع فى صلاته ص التطوع فى السفر على الدابة

الترمذى استغربه، ونقل عن البخارى أنه رآه حسنا، وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر. الفصل الرابع فى صلاته ص التطوع فى السفر على الدابة عن ابن عمر: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى سبحته حيثما توجهت به ناقته «1» . وفى رواية: يصلى وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيث كان وجهه وفيه نزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «2» «3» . وفى رواية: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر. وفى رواية: كان يوتر على البعير «4» ، رواه مسلم. وقد أخذ بهذه الأحاديث فقهاء الأمصار، فى جواز التنفل على الراحلة فى السفر حيث توجهت، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبلا القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك ما فى حديث أنس عند أبى داود أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتطوع فى السفر استقبل بناقته القبلة ثم صلى حيث توجهت ركابه «5» . وذهب الجمهور إلى جواز التنفل على الدابة سواء كان السفر طويلا أو قصيرا، إلا مالكا فخصه بالسفر الطويل، وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت فى أسفاره- صلى الله عليه وسلم-، ولم ينقل عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه سافر سفرا قصيرا فصنع ذلك. وحجة الجمهور مطلق الأخبار فى ذلك. وقوله: «يصلى على حمار» ، قال النووى: قال الدار قطنى وغيره: هذا

_ (1) تقدم. (2) سورة البقرة: 115. (3) تقدم. (4) تقدم. (5) حسن: أخرجه أبو داود (1225) فى الصلاة، باب: التطوع على الراحلة والوتر. من حديث أنس وتقدم بنحوه فى الصحيح عن ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

غلط من عمرو بن يحيى المازنى، وإنما المعروف فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- على راحلة أو بعير. والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم. ثم قال: وفى تغليط راويه نظر لأنه ثقة نقل شيئا محتملا، فلعله كان الحمار مرة والبعير مرة أو مرات، لكن قد يقال إنه شاذ مخالف لرواية الجمهور، والشاذ مردود. انتهى. وعن يعلى بن مرة عن أبيه عن جده، أنهم كانوا مع النبى- صلى الله عليه وسلم- فى مسيرة فانتهوا إلى مضيق فحضرت الصلاة فمطروا، السماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم، فأذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو على راحلته، فصلى بهم يومئ إيماء، فجعل السجود أخفض من الركوع «1» . رواه الترمذى.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (411) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة على الدابة فى الطين والمطر. من حديث يعلى بن مرة بن وهب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

القسم الرابع فى ذكر صلاته ص صلاة الخوف

القسم الرابع فى ذكر صلاته ص صلاة الخوف عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبى- صلى الله عليه وسلم-، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة، فاخترطه فقال: تخافنى؟ فقال: لا، فقال: من يمنعك منى؟ قال: الله، فتهدده أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، فغمد السيف وعلقه، فأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الآخرى ركعتين، فكان للنبى- صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات، وللقوم ركعتان «1» . رواه البخارى ومسلم. ولمسلم: فصففنا صفين خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبى- صلى الله عليه وسلم- وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذى يليه، وقام الصف المؤخر فى نحر العدو، فلما قضى النبى- صلى الله عليه وسلم- السجود وقام الصف الذى يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبى- صلى الله عليه وسلم- وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذى يليه- الذى كان مؤخرا فى الركعة الأولى- فقام الصف المؤخر فى نحر العدو، فلما قضى النبى- صلى الله عليه وسلم- السجود والصف الذى يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا ثم سلم النبى- صلى الله عليه وسلم- وسلمنا جميعا «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4137) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (840) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.

ولمسلم والبخارى أيضا من حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى معه- صلى الله عليه وسلم- يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتى معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الآخرى فصلى بهم الركعة التى بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم «1» . قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت فى صلاة الخوف. وما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعى وأحمد على ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة، ولكونها أحوط لأمر الحرب. وعن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: غزوت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التى لم تصل، فجاؤا فركع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم يركع لنفسه ركعة ويسجد سجدتين «2» . وفى حديث جابر: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى بالناس صلاة الظهر فى الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم، رواه البغوى فى شرح السنة. وعنه: أنه- صلى الله عليه وسلم- نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هى أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وأمهاتهم، وهى العصر، فأجمعوا أمركم فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلى بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4130) فى المغازى، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (842) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف. من حديث صالح بن خوّات- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (942) فى الجمعة، باب: قول الله تعالى وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ... الآية، من حديث ابن عمر وليس عن عمر كما ذكر المصنف.

حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ولرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتان «1» . رواه الترمذى والنسائى. قال ابن حزم: وقد صح فيها- يعنى صلاة الخوف- أربعة عشر وجها. وبينها فى جزء مفرد. وقال ابن العربى فى «القبس» : جاء فيها روايات كثيرة، أصحها ست عشرة رواية مختلفة، ولم يبينها. وقال النووى نحوه فى شرح مسلم ولم يبينها أيضا. وقد بينها الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى وزاد وجها آخر، فصارت سبعة عشر وجها، لكن يمكن أن تتداخل. وقال صاحب «الهدى» : أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة فى قصة جعلوا ذلك وجها من فعله- صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى. وهذا هو المعتمد، وإليه أشار الحافظ العراقى بقوله: يمكن تداخلها. وقد حكى ابن القصار المالكى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلاها عشر مرات، وقال ابن العربى: أربعا وعشرين، وقال الخطابى: صلاها- صلى الله عليه وسلم- فى أيام مختلفة بأشكال متباينة، يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهى على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى. وفى كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة، وفروع يطول ذكرها. حكاها فى فتح البارى.

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (3/ 174) فى صلاة الخوف، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

القسم الخامس فى ذكر صلاته ص على الجنازة

القسم الخامس فى ذكر صلاته ص على الجنازة وفيه فروع أربعة: الفرع الأول فى عدد التكبيرات عن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشى فى اليوم الذى مات فيه. وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات «1» . رواه البخارى ومسلم. وعند الترمذى من حديث أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- كبر على جنازة فرفع يديه مع أول تكبيرة، ووضع اليمنى على اليسرى «2» . الفرع الثانى فى القراءة والدعاء نقل ابن المنذر عن ابن مسعود، والحسن بن على، وابن الزبير، والمسور ابن مخرمة، مشروعية قراءة الفاتحة فى صلاة الجنازة. وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق. ونقل عن أبى هريرة وابن عمر: ليس فيها قراءة، وهو قول ابن مالك والكوفيين. وروى عبد الرزاق والنسائى بإسناد صحيح عن أبى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1245) فى الجنائز، باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ومسلم (951) فى الجنائز، باب: التكبير على الجنازة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) حسن: أخرجه الترمذى (1077) فى الجنائز، باب: ما جاء فى رفع اليدين على الجنازة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

أمامة بن سهل بن حنيف قال: السنة فى الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا فى الأولى «1» . وفى البخارى عن سعد عن طلحة قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة «2» ، وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك فى حديث جابر عند الشافعى بلفظ: وقرأ بأم الكتاب بعد التكبيرة الأولى «3» ، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقى فى شرح الترمذى. وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب «4» . رواه الترمذى وقال: لا يصح هذا. والصحيح عن ابن عباس قوله: «من السنة» وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين. ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال. وعن عوف بن مالك: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جنازة فحفظنا من دعائه: «اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار» «5» . قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم.

_ (1) أخرجه ابن عساكر كما فى «كنز العمال» (42861) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1335) فى الجنائز، باب: قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة. (3) أخرجه الشافعى فى «الأم» (1/ 270) ، وذكره الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (3/ 204) . (4) صحيح: أخرجه الترمذى (1026) فى الجنازة، باب: ما جاء فى القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (5) صحيح: أخرجه مسلم (963) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت فى الصلاة، من حديث عوف بن مالك الأشجعى- رضى الله عنه-.

الفرع الثالث فى صلاته ص على القبر

وعن واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: «اللهم إن فلان بن فلان فى ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم» «1» . رواه الترمذى. وعن أبى هريرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على الجنازة قال: «اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده» «2» . رواه أحمد وأبو داود والترمذى. وعنه: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللهم أنت ربها وأنت خالقها، هديتها إلى الإسلام، قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها» «3» . رواه أبو داود. الفرع الثالث فى صلاته ص على القبر عن أبى هريرة أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال: «أفلا آذنتمونى؟» قال: فكأنهم

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3202) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، من حديث واثلة ابن الأسقع- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (3201) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت، والترمذى (1024) فى الجنائز، باب: ما يقول فى الصلاة على الميت، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. ولفظ أبى داود اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده وصححه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) ضعيف الإسناد: أخرجه أبو داود (3200) فى الجنائز، باب: الدعاء للميت. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. ولفظه: اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئناك شفعاء فاغفر لها قال الألبانى: ضعيف الإسناد.

صغروا أمرها، فقال: «دلونى على قبرها» ، فدلوه فصلى عليها «1» . رواه البخارى ومسلم. زاد ابن حبان فقال فى رواية حماد بن سلمة عن ثابت: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتى عليهم» «2» . وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة، على أن ذلك من خصائصه- صلى الله عليه وسلم-. ثم ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيها: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا «3» . قال ابن حبان: فى ترك إنكاره- صلى الله عليه وسلم- على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذى يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة. وعن عقبة بن عامر: أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف «4» ، وفى رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات «5» . رواه أبو داود والنسائى. ورواه الشيخان أيضا بلفظ: خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال فرط لكم «6» . الحديث. وفيه: الصلاة على الشهداء فى حرب الكفار. وقد اختلف العلماء فى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (458) فى الصلاة، باب: كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان، ومسلم (956) فى الجنائز، باب: الصلاة على القبر من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) تقدم وهو عند مسلم فى الذى قبله. (3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1528) فى ما جاء فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصلاة على القبر، من حديث يزيد بن ثابت- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (4) صحيح: أخرجه البخارى (1344) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-. (5) صحيح: أخرجه أبو داود (3223) فى الجنائز، باب: الميت يصلى على قبره بعد حين، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (6) تقدم.

الفرع الرابع فى صلاته ص على الغائب

هذه المسألة: فذهب مالك والشافعى وأحمد وإسحاق والجمهور: إلى أن لا يصلى عليهم. وذهب أبو حنيفة إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزنى، وهى رواية عن أحمد اختارها الخلال. وحجة الجمهور: أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصل على قتلى أحد- كما رواه البخارى فى صحيحه عن جابر- وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة. قال النووى: أى دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وأن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم فى القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها فى الأول. ثم إن الشافعية اختلفوا فى معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحريم الصلاة عليه، وهو الصحيح عندهم. وقال آخرون: معناه: لا تجب الصلاة عليه. لكن تجوز. وذكر ابن قدامة: أن كلام أحمد فى الرواية التى قال فيها يصلى عليهم: يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة. قال ابن القاسم صاحب مالك: إنه لا يصلى على الشهيد فيما إذا كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار، فإن كان الكفار هم الذين غزوا المسلمين فيصلى عليهم. الفرع الرابع فى صلاته ص على الغائب عن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «قد توفى اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه» ، قال: فصففنا فصلى النبى- صلى الله عليه وسلم- ونحن وراءه «1» . رواه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1320) فى الجنائز، باب: الصفوف على الجنائز، من حديث جابر بن عبد الله.

البخارى ومسلم. وعن أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشى فى اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات «1» . رواه الشيخان أيضا. وعند البخارى من طريق ابن عيينة عن ابن جريج: «فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» «2» . وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت فى المسجد، وهو قول الحنفية والمالكية، لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن فى الصلاة فيه عليهم بأس. قال النووى: ولا حجة فيه، لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد، لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله. وقال ابن بزبزة وغيره: استدل به بعض المالكية، وهو باطل، لأنه ليس فيه صيغة نهى، ولا احتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى على سهيل بن بيضاء فى المسجد، فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدركونه أسلم، فقد روى ابن أبى حاتم فى التفسير، والدار قطنى فى الأفراد، والبزار، كلاهما عن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لما صلى على النجاشى قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة؟ فنزلت وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «3» ، الآية، وله شاهد من حديث أبى سعيد عند الطبرانى فى معجمه الكبير، وزاد فيه: إن الذى طعن بذلك كان منافقا. وقد قال البخارى: «باب الصلاة على الجنازة بالمصلى والمسجد» وروى حديثا عن ابن عمر أن اليهود جاؤا إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- برجل منهم وامرأة زنيا

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) سورة آل عمران: 199.

فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد «1» . وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوى من ناحية المشرق، انتهى. فإن ثبت ما قال وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء، لأنه لم يكن عند المسجد النبوى مكان مهيأ للرجم. ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز فى المسجد كان لأمر عارض، أو لبيان الجواز، واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز فى المسجد، ويقويه حديث عائشة «ما صلى- صلى الله عليه وسلم- على سهيل بن بيضاء إلا فى المسجد» «2» أخرجه مسلم، وبه قال الجمهور. وحمل المانعون الصلاة على سهيل: بأنه كان خارج المسجد، والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقا. وفيه نظر: لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلى عليه. وقد سلم لها الصحابة ذلك، فيدل على أنها حفظت ما نسوه. وقد روى ابن أبى شيبة وغيره أن عمر صلى على أبى بكر فى المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر فى المسجد، زاد فى رواية: ووضعت الجنازة فى المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضى الإجماع على جواز ذلك. وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشى على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعى وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك. وعن بعض

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1329) فى الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، ومسلم (1699) فى الحدود، باب: رجم اليهود وأهل الذمة فى الزنا. من حديث ابن عمر واللفظ للبخارى. (2) صحيح: أخرجه مسلم (973) فى الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز فى المسجد. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

أهل العلم: إنما يجوز ذلك فى اليوم الذى يموت فيه الميت أو ما قرب، لا ما إذا ما طالت المدة، حكاه ابن عبد البر. وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن فى جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز. قال المحب الطبرى: لم أر ذلك لغيره. وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشى بأمور: منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك؛ ومن ثم قال الخطابى: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلى عليه، واستحسنه الرويانى من الشافعية. ومنها: قول بعضهم: إنه كشف له- صلى الله عليه وسلم- عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضى عياض فى «الشفاء» بقوله: ورفع له النجاشى حتى صلى عليه، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف فى جوازها. قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال. وتعقبه بعض الحنفية: بأن الاحتمال كاف فى مثل هذا، وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدى فى أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس: كشف للنبى- صلى الله عليه وسلم- عن سرير النجاشى حتى رآه وصلى عليه. ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن الجنازة بين يديه. ومن الاعتذارات أيضا: أن ذلك خاص بالنجاشى، لأنه لم يثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره. قاله المهلب، وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثى. واستند من قال بتخصيص النجاشى بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا فى حياته. قال النووى: لو فتح هذا الباب لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شئ مما ذكروه لتوفرت الدواعى على نقله. وقال ابن العربى: قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد- صلى الله عليه وسلم-، قلنا: وما عمل به محمد- صلى الله عليه وسلم-

النوع الثالث فى ذكر سيرته ص فى الزكاة

تعمل به أمته، يعنى لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا طويت له الأرض، وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا لقادر، وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى إتلاف ما ليس له تلاف. وقال الكرمانى: قولهم «رفع الحجاب عنه» ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا عن الصحابة الذين صلوا مع النبى- صلى الله عليه وسلم-، انتهى ملخصا من فتح البارى. النوع الثالث فى ذكر سيرته ص فى الزكاة وهى فى اللغة: النماء والتطهير. والمال ينمى بها من حيث لا يرى، وهى مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمى أجرها عند الله تعالى. وسميت فى الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوى فيها. وقيل: لأنها تزكى صاحبها وتشهد بصحة إيمانه، وهى قيد النعمة، وسميت الصدقة صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه. وقد فهم من شرعه- صلى الله عليه وسلم- أن الزكاة وجبت للمواساة، وأن المواساة لا تكون إلا فى مال له بال، وهو النصاب. ثم جعلها- صلى الله عليه وسلم- فى الأموال النامية، وهى أربعة أصناف: الأول: الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم. والثانى: الزروع والثمار. والثالث: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم. والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها. وحدد- صلى الله عليه وسلم- نصاب كل صنف بما يحتمل المواساة: فنصاب الفضة خمس أواق، وهى مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالا، وأما الزروع والثمار فخمسة أوسق، وأما الغنم فأربعون شاة، والبقر ثلاثون بقرة، والإبل خمس.

ورتب- صلى الله عليه وسلم- مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب فى المال. فأعلاها وأقلها تعبا الركاز، وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ولم يعتبر له حولا بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به. ويليه الزروع والثمار، فإن سقى بماء السماء ونحوه ففيه العشر، وإلا فنصفه. ويليه الذهب والفضة والتجارة، وفيها ربع العشر، لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة. ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنوع السابقة. ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها شاة، فإذا صارت الخمس خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا، فكان هو الواجب. ثم إنه قد سنّ هذا الواجب فى الزيادة والنقصان بحسب كثرة الإبل وقلتها. وفى كتابه- صلى الله عليه وسلم- الذى كتبه فى الصدقة ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض: فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمسة عشر ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففى كل خمسين حقة، وفى كل أربعين ابنة لبون، وفى الغنم فى كل أربعين شاة شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة فشاتان إلى المائتين، فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففى كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شئ حتى تبلغ المائة «1» . رواه أبو داود والترمذى من حديث سالم بن عبد الله بن عمر. وفرض- صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (621) فى الزكاة، باب: ما جاء فى زكاة الإبل والغنم، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة «1» ، رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عمر. وفى رواية أبى داود من حديث ابن عباس، فرض- صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين «2» . وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لم يرض بحكم نبى ولا غيره فى الصدقات حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء» «3» . رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائى. وهذه الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس: أحدهما: من يأخذ لحاجته، فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها، وكثرتها وقلتها، وهم الفقراء والمساكين وفى الرقاب وابن السبيل. والثانى: من يأخذ لمنفعته، وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاة فى سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجا، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له فى الزكاة. واعلم أن الأنبياء لا تجب عليهم الزكاة، لأنهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما تجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما فى أيديهم من ودائع الله لهم يبذلونه فى أوان بذله، ويمنعونه فى غير محله، ولأن الزكاة إنما هى طهرة لما عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها «4» ، والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مبرؤون من الدنس، لوجوب العصمة

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1503) فى الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر، ومسلم (984) فى الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير. (2) حسن: أخرجه أبو داود (1609) فى الزكاة، باب: زكاة الفطر. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1630) فى الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى، من حديث زياد بن الحارث الصدائى- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (4) سورة التوبة: 103.

لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة، والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف، وذلك بعد البلوغ. وإذا كان أهل المعرفة بالله المشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع الله ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء والرسل، وأهل التوحيد والمعرفة إنما غرفوا من بحارهم واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب «التنوير» للعارف الكبير أبى الفضل بن عطاء الله الشاذلى، أذاقنا الله حلاوة مشربه. تنبيه: ما حكى إن الإمام الشافعى وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعى، فقال أحمد بن حنبل للشافعى: أريد أن أسأل هذا المشار إليه فى هذا الزمن، فقال الشافعى: لا تفعل، فقال: لا بد من ذلك، فقال: يا شيبان ما تقول فيمن نسى أربع سجدات من أربع ركعات؟ فقال: يا أحمد، هذا قلب غافل عن الله، يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك. قال: فخر أحمد مغشيّا عليه، ثم أفاق فقال: ما تقول فيمن له أربعون شاة، ما زكاتها؟ فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ فقال: أو هما مذهبان؟ فقال: نعم، أما على مذهبكم ففى الأربعين شاة شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا. فقد نقل شيخنا فى «المقاصد» عن ابن تيمية أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة، لأن الشافعى وأحمد لم يدركا شيبان الراعى والله أعلم. انتهى. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقة قال: «اللهم صل على آل فلان» ، فأتاه أبو أوفى بصدقة فقال: «اللهم صل على آل أبى أوفى» «1» . رواه البخارى ومسلم. واختلف فى أول وقت فرض الزكاة. فذهب الأكثرون إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان فى السنة الثانية قبل فرض رمضان أشار إليه النووى فى باب السير من الروضة. وجزم ابن الأثير فى التاريخ بأن ذلك كان فى التاسعة، وفيه نظر: لما

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1498) فى الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ومسلم (1078) فى الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقة، من حديث عبد الله ابن أبى أوفى- رضى الله عنه-.

فى حديث ضمام بن ثعلبة، وحديث وفد عبد القيس، ومخاطبة أبى سفيان مع هرقل وكان فى أول السابعة، وقال فيها: يأمرنا بالزكاة. وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع فى قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- عاملا: فقال: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية، والجزية إنما وجبت فى التاسعة، فتكون الزكاة فى التاسعة. لكنه حديث ضعيف لا يحتج بمثله. وادعى ابن خزيمة فى صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة فى قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها: أن جعفر بن أبى طالب قال للنجاشى فى جملة ما أخبره به عن الرجل: الذى يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى. وفى الاستدلال بذلك نظر، لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن فى أول ما قدم على النجاشى، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا فقال: يأمرنا، يعنى أمته، وهو بعيد جدّا. وأولى ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا- إن سلم من قدح فى إسناده- أن المراد بقول جعفر «يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام» أى فى الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام شهر رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول. ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس فى قصة ضمام بن ثعلبة. وقوله: «أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟» «1» وكان قدوم ضمام سنة خمس، وإنما الذى وقع فى التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعى تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك. ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (63) فى العلم، باب: ما جاء فى العلم وقوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.

رمضان إنما فرض بعد الهجرة، لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خوف. وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائى وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله «1» . إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمار، الراوى عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين. وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضى وقوعه بعد فرض رمضان. قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر- رحمه الله-. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية ويثيب عليها «2» . رواه البخارى من حديث عائشة. وإذا أتى بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة، فإن قيل صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم «3» . رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة. وقال- صلى الله عليه وسلم- لعائشة: «هل عندكم شئ» فقالت: لا، إلا شئ بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التى بعثت بها إليها من الصدقة، قال: «إنها بلغت محلها» «4» . رواه البخارى ومسلم. وقوله: «محلها» بكسر الحاء، أى زال عنها حكم الصدقة وصارت حلّا لنا. وأتى بلحم قد تصدق به على بريرة فقال: «هو عليها صدقة، ولنا هدية» «5» . رواه

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 49) فى الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة، من حديث قيس بن سعد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (2585) فى الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: المكافأة فى الهبة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (2576) فى الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: قبول الهدية، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1494) فى الزكاة، باب: إذا تحولت الصدقة، ومسلم (1076) فى الزكاة، باب: إباحة الهدية للنبى ولبنى هاشم وبنى المطلب. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (5) صحيح: أخرجه البخارى (1493) فى الزكاة، باب: الصدقة على موالى أزواج النبى، ومسلم (1504) فى العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

النوع الرابع فى ذكر صيامه صلى الله عليه وسلم

البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. وفى حديث عائشة عند البخارى ومسلم: دخل- صلى الله عليه وسلم- وعلى النار برمة تفور، فدعا بالغداء، فأتى بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: «ألم أر برمة على النار تفور؟» قالوا: بلى يا رسول الله، لكنه لحم تصدق به على بريرة، وأهدت إلينا منه، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: «هو صدقة عليها، وهدية لنا» «1» . النوع الرابع فى ذكر صيامه صلى الله عليه وسلم اعلم أن المقصود من الصيام إمساك النفس عن خسيس عاداتها، وحبسها عن شهواتها، وفطامها عن مألوفاتها، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر أعمال العاملين، كما قال الله تعالى فى الحديث الإلهى الذى رواه مسلم: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لى وأنا أجزى به» «2» . فأضافه تعالى إليه إضافة تشريف وتكريم، كما قال تعالى: ناقَةُ اللَّهِ «3» مع أن العالم كله له سبحانه. وقيل: لأنه لم يعبد غيره به، فلم يعظم الكفار فى عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود وغيرها. قال فى شرح تقريب الأسانيد: واعترض بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات فإنهم يتعبدون لها بالصيام. وأجيب: بأنهم لا يعتقدون أنها فعالة بأنفسها. وقيل: لأن الصوم بعيد عن الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5430) فى الأطعمة، باب: الأدم. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1904) فى الصوم، باب: هل يقول إنى صائم إذا شتم، ومسلم (1151) فى الصيام، باب: فضل الصيام. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) سورة الشمس: 13.

وغير ذلك من العبادات الظاهرات، قال فى فتح البارى: معنى النفى فى قولهم «لا رياء فى الصوم» أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء فى الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء يدخلها بمجرد فعلها. انتهى. وعن شداد بن أوس مرفوعا: «من صام يرائى فقد أشرك» «1» . رواه البيهقى. وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظ. وقيل: لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب تعالى، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه، قال القرطبى معناه: أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم، إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه تعالى يقول: إن الصائم يتقرب إلىّ بأمر هو متعلق بصفة من صفاتى. أو لكون ذلك من صفات الملائكة، أو لأنه تعالى هو المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، بخلافه غيره من العبادات، فقد أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها، ولذا قال فى بقية الحديث: «وأنا أجزى به» وقد علم بأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى ذلك سعة العطاء، وإنما جوزى الصائم هذا الجزاء لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده. والمراد بالشهوة فى الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص، لكن وقع فى رواية عند ابن خزيمة «يدع لذته من أجلى، ويدع زوجته من أجلى، وأصرح منه ما روى «من الطعام والشراب والجماع من أجلى» . وللصيام تأثير عجيب فى حفظ الأعضاء الظاهرة، وقوى الجوارح الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب للمواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة المانعة له من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى، كما أشار إليه تعالى بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «2»

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 125) من حديث شداد بن أوس- رضى الله عنه-. (2) سورة البقرة: 183.

وقال- صلى الله عليه وسلم- كما فى البخارى-: «الصوم جنة» «1» ، هى بضم الجيم، الوقاية والستر، أى: ستر من النار. وبه جزم ابن عبد البر، وفى النهاية: أى يقى صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، وقال القاضى عياض: من الآثام. وقد اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصى قولا وفعلا. وقد اختلف: هل الصوم أفضل أم الصلاة؟ فقيل الصوم أفضل الأعمال البدنية، لحديث النسائى عن أبى أمامة قال: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، مرنى بأمر آخذه عنك قال: «عليك بالصوم فإنه لا عدل له» «2» ، والمشهور تفضيل الصلاة، وهو مذهب الشافعى وغيره، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» «3» رواه أبو داود وغيره. ثم إن الكلام فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- على قسمين:

_ (1) صحيح: البخارى (7492) فى التوحيد، باب: قول الله تعالى: «يريدون أن يبدلوا كلام الله» ، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 165) فى الصيام، باب: ثواب من صام يوما فى سبيل من حديث أبى أمامة- رضى الله عنه-، والحديث صحيح الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (277) فى الطهارة والسنة، باب: المحافظة على الوضوء، من حديث ثوبان بن بجدد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

القسم الأول فى صيامه ص شهر رمضان

القسم الأول فى صيامه ص شهر رمضان وفيه فصول: الفصل الأول فيما كان يخص به رمضان من العبادات وتضاعف جوده ص فيه اعلم أن «رمضان» مشتق من الرمض، وهو شدة الحر، لأن العرب لما أرادوا أن يضعوا أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور شديد الحر فسموه بذلك، كما سمى الربيعان لموافقتهما زمن الربيع. أو لأنه يرمض الذنوب أى يحرقها، وهو ضعيف لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع. ورمضان أفضل الشهور، كما حكاه الأسنوى عن قواعد الشيخ عز الدين بن عبد السلام. قال النووى: وقولهم إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت إلا بدليل صحيح. انتهى. وقد اختلف السلف: هل فرض صيام قبل صيام رمضان أم لا؟ فالجمهور- وهو المشهور عند الشافعية- أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان، وفى وجه- وهو قول الحنفية- أول ما فرض يوم عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. وسيأتى أدلة الفريقين فى الكلام على صوم عاشوراء- إن شاء الله تعالى-. وقد كان فرض رمضان فى السنة الثانية من الهجرة- كما تقدم- فتوفى سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد صام تسع رمضانات. ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع الجود والبركات لأن نعم الله فيه تزيد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات، من الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف ويخص به من العبادات ما لا يخص به غيره من

الشهور، وكان جوده- صلى الله عليه وسلم- يتضاعف فى شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضا، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة. وفى حديث ابن عباس عند الشيخين، قال: (كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وأجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) «1» . فبمجموع ما ذكر فى هذا الحديث من الوقت وهو شهر رمضان، والمنزل وهو القرآن، والنازل به وهو جبريل، والمذاكرة وهى مدارسة القرآن، حصل له- صلى الله عليه وسلم- المزيد فى الجود. والمرسلة: المطلقة، يعنى أنه فى الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، إلى عموم النفع بجوده- صلى الله عليه وسلم-، كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه. ووقع عند الإمام أحمد فى آخر هذا الحديث (لا يسأل شيئا إلا أعطاه) . وتقدم فى ذكر سخائه- صلى الله عليه وسلم- مزيد لذلك. وقد كان ابتداء نزول القرآن فى شهر رمضان، وكذا نزوله إلى سماء الدنيا جملة واحدة، فكان جبريل- عليه الصلاة والسلام- يتعاهده- صلى الله عليه وسلم- فى كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذى توفى فيه- صلى الله عليه وسلم- عارضه به مرتين «2» ، كما ثبت فى الصحيح عن فاطمة- رضى الله عنها-. قال فى فتح البارى: وفى معارضة جبريل النبى- صلى الله عليه وسلم- بالقرآن فى شهر رمضان حكمتان، إحداهما: تعاهده، والآخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وإحكاما.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6) فى بدء الوحى، باب: بدء الوحى، ومسلم (2308) فى الفضائل، باب: كان النبى أجود الناس بالخير من الريح المرسلة. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2450) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وفى المسند، عن واثلة بن الأسقع، عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أنزلت صحف إبراهيم فى أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان «1» . وقد دل الحديث على استحباب مدارسة القرآن فى رمضان، والاجتماع عليه، وعرض القرآن على من هو أحفظ منه. وفى حديث ابن عباس أن المدارسة بينه- صلى الله عليه وسلم- وبين جبريل كانت ليلا، وهو يدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن فى رمضان ليلا، لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان، كما أخرجه الإمام أحمد والنسائى عن أبى هريرة ولفظه قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير الكثير «2» . قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل فى تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان. وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب وشعبان قال: «اللهم بارك لنا فى رجب وشعبان وبلغنا رمضان» «3» . رواه الطبرانى وغيره من حديث أنس. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى هلال رمضان قال: «هلال رشد وخير، هلال رشد وخير هلال رشد وخير، آمنت بالذى خلقك» «4» ، رواه النسائى من حديث أنس.

_ (1) أخرجه أحمد (4/ 107) من حديث واثلة بن الأسقع- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 129) فى الصيام، باب: ذكر الاختلاف على معمر فيه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (3) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (2/ 165) عن أنس وقال: رواه البزار وفيه زائدة بن أبى الرقاد، قال البخارى: منكر الحديث وجهله جماعة، وكرره فى (3/ 140) وقال: رواه البزار والطبرانى فى الأوسط، وفيه زائدة بن أبى الرقاد، وفيه كلام وقد وثق!. (4) أخرجه أبو داود (5092) فى الأدب، باب: ما يقول إذا رأى الهلال، بسند رجاله ثقات، إلا أنه مرسل عن قتادة.

الفصل الثانى فى صيامه ص برؤية الهلال

وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا دخل شهر رمضان: «اللهم سلمنى من رمضان، وسلم رمضان لى، وسلمه منى» «1» أى: سلمنى منه حتى لا يصيا بنى فيه ما يحول بينى وبين صومه من مرض أو غيره. وسلمه لى: حتى لا يغم هلاله على فى أوله وآخره، فيلتبس علىّ الصوم والفطر، وسلمه منى: أن تعصمنى من المعاصى فيه. وهذا منه- صلى الله عليه وسلم- تشريع لأمته. الفصل الثانى فى صيامه ص برؤية الهلال عن عائشة (كان- صلى الله عليه وسلم- يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام) «2» . رواه أبو داود. قوله: «فإن غم عليكم» أى: حال بينكم وبينه غيم. «فاقدروا له» من التقدير، أى: قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما، ويؤيده قوله فى الرواية السابقة: «فإن غم عليه- صلى الله عليه وسلم- عد ثلاثين» وهو مفسر ل «اقدروا له» ولهذا لم يجتمعا فى رواية. ويؤكده رواية «فاقدروا له ثلاثين» «3» . قال المازرى: حمل جمهور الفقهاء قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اقدروا» على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره فى حديث آخر، قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين، لأن الناس لو كلفوا به لضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا الأفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم. انتهى. وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأبى حنيفة، وجمهور السلف والخلف.

_ (1) أخرجه الطبرانى فى الدعاء، والديلمى وسنده حسن، عن عبادة بن الصامت كما فى «كنز العمال» (24277) . (2) صحيح: أخرجه أبو داود (2325) فى الصوم، باب: إذا غمى عليكم. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) صحيح: أخرجه مسلم (1080) فى الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

الفصل الثالث فى صومه ص بشهادة العدل الواحد

وفيه دليل: أنه لا يجوز صوم يوم الشك، ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم. وقال الإمام أحمد بن حنبل فى طائفة: أى اقدروا له تحت السحاب، فيجوزون صوم ليلة الغيم عن رمضان، بل قال أحمد بوجوبه. وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه: قدروا بحساب المنازل. الفصل الثالث فى صومه ص بشهادة العدل الواحد عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنى رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه «1» . رواه أبو داود وصححه ابن حبان. وعن ابن عباس قال: جاء أعرابى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إنى رأيت هلال رمضان، فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله» قال: نعم، قال: «أتشهد أن محمدا رسول الله» قال: نعم، قال: «يا بلال، أذن فى الناس فليصوموا» «2» ، رواه أبو داود والترمذى والنسائى. والمراد فى قوله- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث السابق: «إذا رأيتموه» رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان بل يكفى جميع الناس رؤية عدل على الأصح فى مذهبنا. وهذا فى الصوم، وأما فى الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور فجوزه بعدل. قال الأسنوى: إذا قلنا بالعدل الواحد فى الصوم فلا خلاف أنه لا

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2342) فى الصوم، باب: فى شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 132) فى الصيام، باب: قبول شهادة الرجل الواحد على هلال رمضان. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

الفصل الرابع فيما كان يفعله ص وهو صائم

يتعدى إلى غيره، فلا يقع به الطلاق والعتق المعلقين بدخول رمضان، ولا يحل به الدين المؤجل، ولا يتم به حول الزكاة، كذا أطلقه الرافعى هنا نقلا عن البغوى، وأقره وتبعه عليه فى الروضة، وصورته: فيما إذا سبق التعليق على الشهادة، فإن وقعت الشهادة أولا، وحكم الحاكم بدخول رمضان ثم جرى التعليق فإن الطلاق والعتق يقعان. كذا نقله القاضى حسين فى تعليقه عن ابن سريج وقال الرافعى: فى الباب الثانى من كتاب الشهادات: إنه القياس، انتهى. الفصل الرابع فيما كان يفعله ص وهو صائم عن ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى. واعلم أن الجمهور أجمعوا على عدم الفطر بالحجامة مطلقا. وعن على وعطاء والأوزاعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور: يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء. وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا. وقال بقول أحمد، من الشافعية: ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان. ونقل الترمذى عن الزعفرانى: أن الشافعى علق القول به على صحة الحديث. قال الترمذى: كان الشافعى يقول ذلك ببغداد، وأما بمصر فمال إلى الرخصة. انتهى. وقال الشافعى فى «اختلاف الحديث» ، بعد أن أخرج حديث شداد «كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى زمان الفتح، فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان. فقال- وهو آخذ بيدى-: أفطر الحاجم والمحجوم» «2» ثم ساق حديث ابن عباس «أنه- صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم» «3» قال: وحديث ابن

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1938) فى الصوم، باب: الحجامة والقئ للصائم، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- وليس فى مسلم احتجم وهو صائم. (2) عزاه صاحب «كنز العمال» لابن جرير، انظر «الكنز» (24337) . (3) تقدم.

عباس أمثلهما إسنادا، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إلىّ احتياطا، والقياس مع حديث ابن عباس. والذى أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة، انتهى. وأول بعضهم حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» أن المراد به أنهما سيفطران، كقوله تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً «1» ، أى ما يؤول إليه. ولا يخفى بعد هذا التأويل. وقال البغوى فى «شرح السنة» معناه: أى تعرضا للإفطار، أما الحاجم فإنه لا يأمن من وصول شئ من الدم إلى جوفه عند مصه، وأما المحجوم فإنه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم، فيؤول أمره إلى أن يفطر. وقيل: معنى أفطرا: فعلا مكروها وهو الحجامة، فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة. وقال ابن جزم: صح حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبى سعيد «أرخص النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الحجامة للصائم» «2» وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة، سواء كان حاجما أو محجوما. انتهى. والحديث المذكور، أخرجه النسائى وابن خزيمة والدار قطنى، ورجاله ثقات، ولكن اختلف فى رفعه ووقفه، وله شاهد من حديث أنس عند الدار قطنى ولفظه «أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبى طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أفطر هذان» ، ثم أرخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد فى الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. ورواته كلهم من رجال البخارى إلا أن فى المتن ما ينكر، لأن فيه أن ذلك كان فى الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك. ومن أحسن ما ورد فى ذلك، ما رواه عبد الرزاق وأبو داود عن

_ (1) سورة يوسف: 36. (2) رواه البزار والطبرانى فى الأوسط، ورجال البزار رجال الصحيح، قاله الهيثمى فى «المجمع» (3/ 170) .

عبد الرحمن بن أبى ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: نهى النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة، ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه «1» . وإسناده صحيح، والجهالة بالصحابى لا تضر، ورواه ابن أبى شيبة عن وكيع عن الثورى بلفظ «عن أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- قالوا: إنما نهى النبى- صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم وكرهها للضعف» «2» أى لئلا يضعف. انتهى ملخصا من فتح البارى والله أعلم. وقالت عائشة: (كان- صلى الله عليه وسلم- يقبل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت» «3» رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود. قالت: (وكان أملككم لإربه) «4» أى لحاجته، تعنى أنه كان غالبا لهواه. قال ابن الأثير: أكثر المحدثين يروونه بفتح الهمزة والراء، يعنون به الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلان: أحدهما: أنه الحاجة يقال فيها؛ الأرب، والإرب، والإربة والمأربة، والثانى: أرادت به العضو، وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة، انتهى. فمذهب الشافعى والأصحاب: أن القبلة ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، لكن الأولى تركها، وأما من حركت شهوته فهى حرام فى حقه على الأصح عند أصحابنا. وقوله: «فضحكت» قيل: يحتمل ضحكها التعجب ممن خالف هذا، وقيل: تعجبت من نفسها، إذ حدثت بمثل هذا مما يستحى من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة فى تبليغ العلم إلى ذكر ذلك، وقد يكون خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون ذلك أبلغ فى الثقة بها، أو سرورا بمكانتها من النبى- صلى الله عليه وسلم- ومحبته لها.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (2374) فى الصوم، باب: فى الرخصة فى ذلك، عن عبد الرحمن ابن أبى ليلى عن رجل من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) انظره: فى «فتح البارى» (4/ 178) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (1927) فى الصوم، باب: المباشرة للصائم، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) تقدم فى الذى قبله.

وقد روى ابن أبى شيبة عن شريك عن هشام فى هذا الحديث: «فضحكت فظننا أنها هى» «1» . وروى النسائى عنها قالت: أهوى إلىّ النبى- صلى الله عليه وسلم- ليقبلنى فقلت: إنى صائمة، فقال: «وأنا صائم فقبلنى» «2» . وقد روى أبو داود عن عائشة أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقبلها ويمص لسانها، يعنى وهو صائم «3» . وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على أنه لم يبتلع ريقه الذى خالط ريقها. وكان- صلى الله عليه وسلم- يكتحل بالإثمد وهو صائم «4» . رواه البيهقى من رواية محمد بن عبد الله بن أبى رافع عن أبيه عن جده. ثم قال: إن محمدا هذا ليس بالقوى، وثقه الحاكم وأخرج له فى مستدركه. وقالت أم سلمة: كان- صلى الله عليه وسلم- يصبح جنبا من جماع لا حلم، ثم لا يفطر ولا يقضى «5» . رواه البخارى ومسلم. قال القرطبى: فى هذا الحديث فائدتان: إحداهما: أنه كان يجامع فى رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز، الثانية: أن ذلك كان من جماع لا من احتلام، لأنه كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه، وقال غيره فى قولها: «من غير الاحتلام» إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان لاستثنائه معنى. وردّ: بأن الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه. وأجيب: بأن الاحتلام يطلق على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شئ فى المنام.

_ (1) إخرجه ابن أبى شيبة فى «مصنفه» (2/ 314) من الطريق المذكور. (2) أخرجه أحمد (6/ 269) من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (2386) فى الصوم، باب: الصائم يبلغ الريق. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (4) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الكبير، والبيهقى فى «السنن» عن أبى رافع، كما فى «ضعيف الجامع» (4599) . (5) صحيح: أخرجه البخارى (1930) فى الصوم، باب: اغتسال الصائم، ومسلم (1109) فى الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-.

الفصل الخامس فى وقت إفطاره ص

وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة فى الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا، يفطر. انتهى. وقال عامر بن ربيعة: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يستاك وهو صائم ما لا أعد ولا أحصى «1» . رواه أبو داود والترمذى. الفصل الخامس فى وقت إفطاره ص عن عبد الله بن أبى أوفى قال: (كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى سفر فى شهر رمضان، فلما غابت الشمس قال: «يا بلال انزل فاجدح لنا» قال: يا رسول الله، إن عليك نهارا، قال: «انزل فاجدح لنا» ، قال: فنزل فجدح فأتى به فشرب النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم قال بيده: «إذا غابت الشمس من ها هنا، وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم» «2» رواه البخارى ومسلم. والجدح- بجيم ثم حاء مهملة- خلط الشئ بغيره. والمراد: خلط السويق بالماء وتحريكه حتى يستوى. ومعنى الحديث: أنه- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا صياما، فلما غربت الشمس أمره- صلى الله عليه وسلم- بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التى تبقى معه بعد غروب الشمس، فظن أن الفطر لا يحصل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتمل عنده أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يردها، فأراد تذكيره وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله: إن عليك نهارا، لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذى يجب صومه، وهو معنى قوله فى الرواية الآخرى: «لو أمسيت» وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم الأكل فيه، مع تجويزه أنه

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2364) فى الصوم، باب: السواك والصائم، والترمذى (725) فى الصوم، باب: ما جاء فى السواك للصائم. من حديث عامر بن ربيعة بن كعب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1941) فى الصوم، باب: الصوم فى السفر والإفطار، ومسلم (1101) فى الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، من حديث عبد الله ابن أبى أوفى- رضى الله عنه-.

الفصل السادس فيما كان ص يفطر عليه

- صلى الله عليه وسلم- لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء والله أعلم. قاله النووى. الفصل السادس فيما كان ص يفطر عليه عن أنس: كان- صلى الله عليه وسلم- يفطر قبل أن يصلى على رطبات، فإن لم يجد رطبات فتمرات، فإن لم يجد تمرات حسا حسوات من ماء «1» . رواه أبو داود. وإنما خص- صلى الله عليه وسلم- الفطر بما ذكر لأن إعطاء الطبيعة الشئ الحلو مع خلو المعدة ادعى إلى قبوله وانتفاع القوى به، لا سيما قوة البصر. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمان الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده. قاله ابن القيم. الفصل السابع فيما كان يقوله ص عند الإفطار عن معاذ بن زهرة: بلغه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أفطر قال: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» «2» . وهو حديث مرسل، ومعاذ هذا ذكره البخارى فى التابعين لكن قال: معاذ أبو زهرة- وتبعه ابن أبى حاتم وابن حبان- فى الثقات. وذكره يحيى بن يونس الشيرازى فى الصحابة، وغلطه جعفر المستغفرى. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الحديث

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (696) فى الصوم، باب: ما جاء فيما يستحب عليه الإفطار، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (2358) فى الصوم، باب: القول عند الإفطار. من حديث معاذ بن زهرة بلاغا، وانظر «ضعيف الجامع» (4349) .

الفصل الثامن فى وصاله صلى الله عليه وسلم

موصولا، ولو كان معاذ تابعيّا، لاحتمال أن يكون الذى بلغه له صحابيّا. قال: وبهذا الاعتبار أورده أبو داود فى السنن، وبالاعتبار الآخر أورده فى المراسيل. وخرج ابن السنى والطبرانى فى المعجم الكبير، بسند واه جدّا، عن ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: «اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، فتقبل منى إنك أنت السميع العليم» «1» . وعن ابن عمر: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: «ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» «2» ، رواه أبو داود. وزاد رزين: «الحمد لله» فى أول الحديث. وفى كتاب ابن السنى، عن معاذ بن زهرة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: «الحمد لله الذى أعاننى فصمت ورزقنى فأفطرت» «3» . الفصل الثامن فى وصاله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: «إنى لست كهيئتكم، إنى أطعم وأسقى» «4» . رواه البخارى ومسلم. وللبخارى: أنه- صلى الله عليه وسلم- واصل، فواصل الناس فشق عليهم، فنهاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال: «لست كهيئتكم، إنى أظل أطعم وأسقى» . وفى رواية أنس: واصل- صلى الله عليه وسلم- فى آخر شهر

_ (1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الكبير، وابن السنى كما فى «ضعيف الجامع» (4350) . (2) حسن: أخرجه أبو داود (2357) فى الصوم، باب: القول عند الإفطار. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) ضعيف: أخرجه ابن السنى، والبيهقى فى شعب الإيمان عن معاذ، كما فى «ضعيف الجامع» (4348) . (4) صحيح: أخرجه البخارى (1922) فى الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب، أخرجه مسلم (1102) فى الصيام، باب: النهى عن الوصال فى الصوم. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

رمضان، فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال: «لو مدّ لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلى» - أو قال: «لست مثلكم- إنى أظل يطعمنى ربى ويسقينى» . وفى رواية: «لا تواصلوا» ، قالوا: إنك تواصل، قال: «لست كأحد منكم، إنى أطعم وأسقى» «1» . رواه البخارى ومسلم. والمتعمقون: هم المتشددون فى الأمر، المجاوزون الحدود فى قول أو فعل. وفى رواية سعيد بن منصور وابن أبى شيبة من مرسل الحسن: «إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقينى» . وعن عائشة قالت: نهاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. فقال: «إنى لست كهيئتكم، إنى يطعمنى ربى ويسقينى» . رواه البخارى ومسلم إلا أن البخارى قال «نهى» ولم يقل: نهاهم. وعن أبى هريرة قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الوصال فى الصوم، فأبوا فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: «لو تأخر لزدتكم» كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا، رواه البخارى. والوصال: هو عبارة عن صوم يومين فصاعدا من غير أكل وشرب بينهما قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وقد اختلف فى معنى قوله «يطعمنى ربى ويسقينى» . فقيل: هو على حقيقته، وأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له فى ليالى صيامه. وتعقب: بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا، وبأن قوله: «أظل» يدل على وقوع ذلك بالنهار، فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما. وأجيب: بأن الراجح من الروايات لفظ «أبيت» دون «أظل» وعلى تقدير ثبوتها فهى محمولة على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ، لأن المتحدث عنه هو الإمساك ليلا لا نهارا، وأكثر الروايات إنما هو «أبيت» فكأن بعض الرواة عبر عنها ب «أظل» نظرا إلى اشتراكهما فى مطلق الكون. يقولون

_ (1) تقدم فى الذى قبله.

كثيرا: أضحى فلان كذا، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومنه قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا «1» فإن المراد به مطلق الوقت، ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل، وليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى من حمل لفظ «أظل» على المجاز وعلى التنزل فلا يضر شئ من ذلك، لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجرى عليه أحكام المكلفين فيه، كما غسل صدره الشريف فى طست الذهب، مع أن استعمال أوانى الذهب الدنيوية محرمة. وقال ابن المنير: الذى يفطر شرعا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال، وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة فى الجنة، والكرامة لا تبطل العادة. وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، وأكله وشربه فى الليل لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك، فكأنه لما قيل له: إنك تواصل، قال: «إنى لست فى ذلك كهيئتكم» ، أى على صفتكم فى أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمنى ربى ويسقينى ولا ينقطع بذلك مواصلتى، فطعامى وشرابى على غير طعامكم وشرابكم صورة ومعنى. وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة، فكأنه قال: يعطينى قوة الآكل والشارب، ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوى على أنواع الطاعة من غير ضعف فى القوة. أو المعنى: أن الله يخلق فيه من الشبع والرى ما يغنيه عن الطعام والشراب، ولا يحس بجوع ولا عطش. والفرق بينه وبين الأول: أنه على الأول يعطى القوة من غير شبع ولا رى، بل مع الجوع والظمأ، وعلى الثانى: يعطى القوة مع الشبع والرى. ورجح الأول بأن الثانى ينافى حال الصائم ويفوت المقصود من الصوم

_ (1) سورة النحل: 58.

والوصال، لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبى: ويبعده النظر إلى حاله- صلى الله عليه وسلم- فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجر. انتهى. ويحتمل كما قاله ابن القيم فى «الهدى» وابن رجب فى اللطائف- أن يكون المراد به ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، ونعيمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التى هى غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين، وبهجة النفوس، فللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجله وأنفعه، وقد يغنى هذا الغذاء عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل: لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشارب وتلهيها عن الزاد إذا اشتكت من كلال السير أو عدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيوانى، ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذى قد قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه والرضا عنه، وألطاف محبوبه ... مكرم له غاية الإكرام مع الحب التام، أفليس هذا من أعظم غذاء لهذا المحب، فكيف بالحبيب الذى لا شئ أعظم منه ولا أجل ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانا، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا، ولهذا قال: إنى أظل عند ربى يطعمنى ويسقينى. انتهى. وحكى النووى فى شرح المهذب، كما قاله فى شرح تقريب الأسانيد: أن معناه أن محبة الله تشغلنى عن الطعام والشراب. قال: والحب البالغ يشغل عنهما. انتهى. فإن قلت: لم آثر اسم الرب دون اسم الذات المقدسة فى قوله: «يطعمنى ربى» دون أن يقول: يطعمنى الله؟ أجيب: بأن التجلى باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الإلهية، لأنه تجلى عظمة لا طاقة للبشر بها، وتجلى الربوبية تجلى رحمة وشفقة.

وقد اختلف الناس فى الوصال لنا، هل هو جائز أو محرم أو مكروه؟ فقال طائفة: إنه جائز إن قدر عليه، وهذا يروى عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، وكان ابن الزبير يواصل الأيام، وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذكر معه من الصحابة أيضا أخت أبى سعيد، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبى معمر، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن يزيد التيمى، وأبا الجوزاء، كما نقله أبو نعيم فى الحلية. ومن حجتهم أنه- صلى الله عليه وسلم- واصل بأصحابه بعد النهى، فلو كان النهى للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهى الرحمة لهم والتخفيف عنهم، كما صرحت به عائشة فى حديثها، فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقته أهل الكتاب فى تأخيرهم الفطر. ولا رغب عن السنة فى تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال. ومن أدلة الجواز أيضا: إقدام الصحابة عليه بعد النهى، فدل على أنهم فهموا أن النهى للتنزيه لا للتحريم، وإلا لما قدموا عليه. وقال الأكثرون: لا يجوز الوصال، وبه قال مالك وأبو حنيفة، ونص الشافعى وأصحابه على كراهته، ولهم فى هذه الكراهة وجهان: أصحهما: أنها كراهة تحريم، والثانى: أنها كراهة تنزيه. واختار ابن وهب وأحمد بن حنبل وإسحاق جواز الوصال إلى السحر، لحديث أبى سعيد عند البخارى: «عنه- صلى الله عليه وسلم-: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر» «1» ، وهذا الوصال لا يترتب عليه شئ مما يترتب على غيره، لأنه فى الحقيقة بمنزلة عشائه، إلا أنه يؤخره، لأن الصائم له فى اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها فى السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخف لجسمه فى قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم، وإلا فلا يكون قربة. وقد صرح فى الحديث بأن الوصال من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنى

_ (1) أخرجه الدارمى (1705) فى الصوم، باب: النهى عن الوصال فى الصوم. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.

الفصل التاسع فى سحوره صلى الله عليه وسلم

لست كهيئتكم» . وفى الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب قال: قال- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» «1» قالوا: فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر، وذلك يحيل الوصال شرعا. واحتج الجمهور للتحريم: بعموم النهى فى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تواصلوا» وأجابوا عن قوله «رحمة» بأنه لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم، وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم، وأما الوصال بهم يوما ثم يوما، فاحتمل للمصلحة فى تأكيد زجرهم وبيان الحكمة فى نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال، وهى الملل من العبادة، والتعرض للتقصير فى بعض وظائف الدين، من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها، وسائر الوظائف المشروعة فى نهاره وليله. وأجابوا أيضا بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم» إذ لم يجعل الليل محلّا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالف لوضعه. وروى الطبرانى فى الأوسط من حديث أبى ذر أن جبريل قال للنبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله قد قبل وصالك، ولا يحل لأحد بعدك» . ولكن إسناده ليس بصحيح ولا حجة فيه. الفصل التاسع فى سحوره صلى الله عليه وسلم عن أبى هريرة عن رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يتسحر فقال: «إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوه» «2» . رواه النسائى. وعن العرباض بن سارية قال: دعانى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السحور فى رمضان قال: «هلم إلى الغداء المبارك» «3» . رواه

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 145) فى الصيام، باب: فضل السحور، من حديث عبد الله بن الحارث عن رجل من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (2344) فى الصوم، باب: من سمى السحور الغداء، والنسائى (4/ 146) فى الصيام، باب: تسمية السحور غداء. من حديث خالد بن معدان- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

أبو داود والنسائى. وعن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وذلك عند السحور-: «يا أنس إنى أريد الصيام فأطعمنى شيئا» ، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذن بلال، قال: «يا أنس انظر رجلا يأكل معى» فدعوت زيد بن ثابت فجاء فقال: إنى أريد شربة سويق وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «وأنا أريد الصيام» فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج إلى الصلاة «1» . رواه النسائى. وعن زر بن حبيش: قلنا لحذيفة: أى ساعة تسحرت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: «هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع» «2» رواه النسائى أيضا. وعن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قمنا إلى الصلاة. قال أنس بن مالك: قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية «3» . رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى. والمراد آية متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة لا سريعة ولا بطيئة. قال ابن أبى جمرة: كان- صلى الله عليه وسلم- ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله، لأنه لو لم يتسحر لا تبعوه فشق على بعضهم، ولو تسحر فى جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضى إلى ترك الصبح، أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر. وقال القرطبى: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر، فهو معارض لقول حذيفة «هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع» . انتهى. وأجاب فى فتح البارى: بأن لا معارضة، بل يحمل على اختلاف الحال، فليس فى رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة.

_ (1) صحيح الإسناد: أخرجه النسائى (4/ 147) فى الصيام، باب: السحور بالسويق والتمر، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: صحيح الإسناد. (2) حسن الإسناد: أخرجه النسائى (4/ 142) فى الصيام، باب: تأخير السحور وذكر الاختلاف على زر فيه. من حديث حذيفة بن اليمان- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: حسن الإسناد. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1921) فى الصوم، باب: قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، ومسلم (1097) فى الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره، من حديث أنس عن زيد بن ثابت- رضى الله عنه-.

الفصل العاشر فى إفطاره ص فى رمضان فى السفر وصومه

الفصل العاشر فى إفطاره ص فى رمضان فى السفر وصومه عن جابر أن رسول الله خرج عام الفتح إلى مكة فى رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» . زاد فى رواية: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينتظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر. رواه مسلم. وعن ابن عباس قال: سافر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ليراه الناس، وأفطر حتى قدم مكة. وكان ابن عباس يقول صام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر «1» ، رواه البخارى ومسلم. ولمسلم: أن ابن عباس كان لا يعيب على من صام ولا على من أفطر، قد صام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى السفر وأفطر. قال النووى- رحمه الله-: اختلف العلماء فى صوم رمضان فى السفر. فقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صوم رمضان فى السفر، فإن صامه لم ينعقد، ويجب قضاؤه، لظاهر الآية «2» ولحديث «ليس من البر الصيام فى السفر» «3» . وفى الحديث الآخر «أولئك العصاة» «4» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4279) فى المغازى، باب: غزوة الفتح فى رمضان، ومسلم (1113) فى الصيام، باب: جواز الصوم والفطر فى شهر رمضان للمسافر. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) سورة البقرة: 184. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (2407) فى الصوم، باب: اختيار الفطر. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) تقدم.

وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه فى السفر، وينعقد ويجزيه، واختلفوا فى أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعى والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل، واحتجوا بصومه- صلى الله عليه وسلم-، ولأنه يحصل به براءة الذمة فى الحال. وقال سعيد بن المسيب والأوزاعى وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا، وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعى، وهو غريب، واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر، وبقوله- صلى الله عليه وسلم-: «هى رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه» «1» وظاهره ترجيح الفطر. وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا، أو يجد مشقة، كما هو صريح فى الأحاديث، واعتمدوا حديث أبى سعيد الخدرى قال: «كنا نغزوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، ولا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن» ، وهذا صريح فى ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة. وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث. والصحيح: قول الأكثرين، والله أعلم.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1121) فى الصيام، باب: التخيير فى الصوم والفطر فى السفر. من حديث حمزة بن عمرو الأسلمى- رضى الله عنه-.

القسم الثانى فى صومه ص غير شهر رمضان وفيه فصول

القسم الثانى فى صومه ص غير شهر رمضان وفيه فصول الفصل الأول فى سرده ص صوم أيام من الشهر وفطره أياما عن أبى أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يسرد الصوم فيقال: لا يفطر، ويفطر فيقال: لا يصوم «1» . رواه النسائى. وعن أنس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه ثم يصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا. وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته. ولا نائما إلا رأيته. وفى رواية: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته، ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته «2» ، رواه البخارى. ولمسلم: كان يصوم حتى يقال: قد صام صام، ويفطر حتى يقال: أفطر أفطر «3» . وعن ابن عباس: ما صام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهرا كاملا غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله ما يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم «4» . رواه البخارى ومسلم والنسائى وزاد: ما صام شهرا متتابعا غير رمضان منذ قدم المدينة.

_ (1) حسن صحيح: أخرجه النسائى (4/ 202) فى الصيام، باب: صوم النبى من حديث أسامة بن زيد وليس من حديث أبى أمامة كما ذكر المصنف. وقال الألبانى فى صحيح النسائى: حسن صحيح. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1973) فى الصوم، باب: ما يذكر من صوم النبى وإفطاره، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1158) فى الصيام، باب: صيام النبى فى غير رمضان. من حديث أنس- رضى الله عنه-. (4) تقدم.

الفصل الثانى فى صومه ص عاشوراء

ففى هذا: أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصم الدهر كله، ولا قام الليل كله، وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطى من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر، وقام ونام. الفصل الثانى فى صومه ص عاشوراء وهو بالمد على المشهور. واختلف فى تعيينه: فعن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس- وهو متوسد رداءه فى زمزم- فقلت له: أخبرنى عن صوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: هكذا كان محمد- صلى الله عليه وسلم- يصومه؟ قال: نعم «1» . رواه مسلم. قال النووى: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه بأن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من أظمأ الإبل، فإن العرب تسمى اليوم الخامس من أيام الورد ربعا، وكذا باقى الأيام على هذه النسبة، فيكون التاسع عاشرا. انتهى. لكن قال ابن المنير: قوله: «إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما» يشعر بأنه أراد العاشر، لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح صائما تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة، وهى الليلة العاشرة. انتهى. وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وممن قال ذلك: سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، ومالك وأحمد وإسحاق، وخلائق. وهذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ، وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد، ثم إن حديث ابن عباس يرد عليه معنى قوله: إن النبى- صلى الله عليه وسلم- صام يوم عاشوراء فقالوا له يا رسول: يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1133) فى الصيام، باب: أى يوم يصام فى عاشوراء، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

التاسع» ، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . وهذا تصريح بأن الذى كان يصومه ليس هو التاسع، فتعين كونه العاشر. قاله النووى. وقال القرطبى: عاشوراء معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم، وهو فى الأصل صفة الليلة العاشرة، لأنه مأخوذ من العشر الذى هو اسم للعقد، واليوم يضاف إليها، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة. وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر. وهذا قول الخليل وغيره. وقال ابن المنير: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. وقال ابن القيم. من تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال وسعة علم ابن عباس، فإنه لم يجعل يوم عاشوراء اليوم التاسع بل قال للسائل صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذى يعده الناس يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صوم التاسع معه، وأخبر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كذلك، فإما أن يكون فعل ذلك وهو الأولى، وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه فى المستقبل، وهو الذى روى «أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر» «2» وكل هذه الآثار يصدق بعضها بعضا. انتهى فليتأمل. وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: كان يوم عاشوراء تصومه قريش فى الجاهلية، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصومه فى الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1134) فى الصيام، باب: أى يوم يصام فى عاشوراء، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (755) فى الصوم، باب: ما جاء فى عاشوراء أى يوم هو. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ومن شاء تركه «1» . رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى. واستفيد من هذه الرواية تعيين الوقت الذى وقع الأمر فيه بصيام عاشوراء، وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه- صلى الله عليه وسلم- كان فى ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك فى أول السنة الثانية، وفى السنة الثانية فرض شهر رمضان، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم يوم عاشوراء إلا فى سنة واحدة، ثم فوض الأمر فى صومه إلى رأى المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعى أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة. وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة، وقد روى عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا فى الجاهلية، فعظم فى صدورهم، فقيل لهم صوموا عاشوراء يكفر ذلك. قاله فى فتح البارى. وعن ابن عمر: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه» «2» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود، وفى رواية: وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وعن سلمة بن الأكوع: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلا من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن فى الناس: من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل «3» . رواه مسلم. قال النووى: اختلفوا فى حكم صوم عاشوراء فى أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان، فقال أبو حنيفة: كان واجبا. واختلف أصحاب الشافعى فيه على وجهين: أشهرهما: عندهم أنه لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط فى هذه الأمة، ولكنه كان متأكد

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2002) فى الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، ومسلم (1125) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4501) فى تفسير القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ... الآية. ومسلم (1126) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1135) فى الصيام، باب: من أكل فى عاشوراء فليكف بقية يومه. من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-.

الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبّا دون ذلك الاستحباب، والثانى: كان واجبا كقول أبى حنيفة. وتظهر فائدة الخلاف فى اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار، ولم يأمروا بقضائه بعد صومه. وأصحاب الشافعى يقولون: كان مستحبّا فصح بنية من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله: «أمر بصيامه» والأمر للوجوب، وبقوله: «فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه» . ويحتج الشافعية بقوله: «هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه» ، والشافعية يقولون أيضا: معنى قوله فى حديث سلمة: «فأمره أن يؤذن فى الناس من كان لم يصم فليصم الخ» . أن من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن كان لم ينو الصوم ولم يأكل أو أكل فليمسك بقية يومه لحرمة اليوم. واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه: أن صوم الفرض يجب بنية فى النهار ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا فى النهار وأجزأهم. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث: بأن المراد إمساك بقية النهار لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا: أنهم أكلوا ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية فى النهار فى الفرض والنفل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل وغيره، انتهى. وقال الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكيد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت فى مسلم: «لما فرض رمضان ترك عاشوراء» «1» مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه، وأما قول بعضهم: «المتروك تأكد استحبابه، والباقى مطلق استمرار الاهتمام به حتى فى عام وفاته- صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر» وترغيبه فى صومه وأنه يكفر السنة، فأى تأكيد أبلغ من هذا. انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4503) فى التفسير، باب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، ومسلم (1123) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء.

وعن ابن عباس قال: قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: «ما هذا؟» قالوا: يوم صالح نجى الله فيه موسى وبنى إسرائيل من عدوهم، فصامه فقال: «أنا أحق بموسى منكم» ، فصامه وأمر بصيامه. وفى رواية: فقال لهم: «ما هذا اليوم الذين تصومونه» ؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» ، فصامه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه وفى أخرى: فنحن نصومه تعظيما له «1» ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود. وقد أجاب صاحب «زاد المعاد» وغيره عما استشكله بعضهم فى هذا الحديث- وقال: إن رسول الله إنما قدم المدينة فى شهر ربيع الأول فكيف يقول ابن عباس إنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء؟ - بأنه ليس فى الحديث أن يوم قدومه وجدهم يصومونه، فإنه إنما قدم يوم الاثنين فى ربيع الأول، ثانى عشرة، ولكن أول علمه بذلك ووقوع القصة فى اليوم الذى كان بعد قدومه المدينة لم يكن وهو بمكة. وقال فى الفتح: غايته أن فى الكلام حذفا تقديره: قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صياما. ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذى قدم فيه- صلى الله عليه وسلم- المدينة. وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى، لإضلالهم اليوم المذكور وهداية المسلمين له، ولكن سياق الأحاديث يدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول. انتهى. وقد استشكل أيضا رجوعه- صلى الله عليه وسلم- إلى خبر اليهود، وهو غير مقبول.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2004) فى الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، ومسلم (1130) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وفى الباب عن عائشة.

وأجاب المازرى: بأنه يحتمل أنه- صلى الله عليه وسلم- أوحى إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم بذلك. قال القاضى عياض ردّا على المازرى: قد روى مسلم أن قريشا كانت تصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هى صفة حال، وجواب سؤال، فقوله: «صامه» ليس فيه أن ابتداء صومه حينئذ، ولو كان هذا لحملناه على أنه أخبره به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره. قال: وقد قال بعضهم يحتمل أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصومه بمكة ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب منه فصامه، قال: وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث. قال النووى: المختار قول المازرى، ومختصر ذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كما تصومه قريش فى مكة، ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فصامه أيضا بوحى أو تواتر أو اجتهاد، لا بمجرد إخبار آحادهم. انتهى. وقال القرطبى: لعل قريشا كانوا يستندون فى صومه إليه شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم، كما فى الحج، وأذن الله له فى صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل أن يكون استئلافا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك. وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك فى الوقت الذى يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، ولا سيما إذا كان فيه ما يخالف أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما فى حديث ابن عباس «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع» ، فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» «1» .

_ (1) تقدم.

وفى رواية: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» . رواه مسلم. وهذا دليل الشافعى وأصحابه وأحمد وإسحاق القائلين باستحباب صوم التاسع والعاشر جميعا، لأنه- صلى الله عليه وسلم- صام العاشر ونوى صوم التاسع. قال النووى: قال بعض العلماء: ولعل السبب فى صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود فى إفراد العاشر، وفى الحديث إشارة إلى هذا، وقيل للاحتياط فى تحصيل عاشوراء، والأول أولى. انتهى. وفى رواية البزار من حديث ابن عباس، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال- يوم عاشوراء-: «صوموه وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوما وبعده يوما» «1» . ولأحمد نحوه. فمراتب صومه ثلاثة: أدناها أن يصام وحده، وأكملها أن يصام يوما قبله ويوما بعده، ويلى ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث. وقال بعضهم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب فى هذه العبادة، وذلك يحصل بأحد أمرين، إما بنقل العاشر إلى التاسع، وإما بصيامهما معا، والله أعلم. وفى البخارى من حديث أبى موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا قال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «فصوموه أنتم» «2» . وهذا ظاهره أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود، حتى يصام ما يفطرون فيه، لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى. لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعله كان من جملة تعظيمهم فى شرعهم أن يصوموه، وقد ورد ذلك صريحا فى مسلم «كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم» «3» وهو بالشين المعجمة أى هيئتهم الحسنة. ومحصل ما ورد فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- عاشوراء أربعة أحوال:

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 241) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (2095) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (2005) فى الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، ومسلم (1131) فى الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، من حديث أبى موسى الأشعرى. (3) تقدم فى الذى قبله.

أولها: أنه كان يصومه بمكة، ولا يأمر الناس بصيامه كما تقدم فى حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما: «كان عاشوراء يوما تصومه قريش فى الجاهلية وكان- صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه ... » الحديث. الثانية: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة، ورأى صيام أهل الكتاب له، وتعظيمهم له، وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به، صامه وأمر الناس بصيامه، وأكد الأمر بصيامه والحث عليه، حتى كانوا يصوّمونه أطفالهم، كما تقدم فى حديث ابن عباس عند الشيخين وغيرهما. الثالثة: أنه لما فرض صوم شهر رمضان ترك- صلى الله عليه وسلم- صيامه وقال: «إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه» «1» ويشهد له حديث عائشة السابق. الحالة الرابعة: أنه- صلى الله عليه وسلم- عزم فى آخر عمره أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر، مخالفة لأهل الكتاب فى صيامه، كما قدمناه. وقد روى مسلم من حديث أبى قتادة مرفوعا: «أن صوم عاشوراء يكفر سنة وأن صيام يوم عرفة يكفر سنتين» «2» . وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء. وقد قيل: الحكمة فى ذلك أن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى ويوم عرفة منسوب إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فلذلك كان أفضل. والله أعلم. وأما ما ورى: من وسع على عياله فى يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها، فرواه الطبرانى والبيهقى فى «الشعب» وفى «فضائل الأوقات» ، وأبو الشيخ عن ابن مسعود، والأولان فقط عن أبى سعيد، والثانى فقط فى الشعب عن جابر وأبى هريرة، وقال: إن أسانيده كلها ضعيفة، ولكن إذا ضم

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1162) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأبو داود (2425) فى الصوم، باب: فى صوم الدهر تطوعا. من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-.

الفصل الثالث فى صيامه ص شعبان

بعضها إلى بعض أفاد قوة، بل قال العراقى فى أماليه: لحديث أبى هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ. وأورده ابن الجوزى فى الموضوعات من طريق سليمان بن أبى عبد الله، وقال: سليمان مجهول. وسليمان ذكره ابن حبان فى الثقات، فالحديث حسن على رأيه. قال: وله طرق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البر فى «الاستذكار» من رواية أبى الزبير عنه، وهى أصح طرقه. ورواه هو والدار قطنى فى «الأفراد» بسند جيد عن عمر موقوفا عليه، والبيهقى فى «الشعب» من جهة محمد بن المنتشر، قال: كان يقال.. وذكره. الفصل الثالث فى صيامه ص شعبان عن عائشة- رضى الله عنها-: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته فى شهر أكثر منه صياما فى شعبان «1» . رواه البخارى ومسلم، وفى أخرى لهما: لم يكن يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله «2» . وفى رواية الترمذى: كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله «3» . وفى رواية أبى داود: كان أحب الشهور إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان «4» . وللنسائى: كان يصوم شعبان، أو عامة شعبان «5» . وفى أخرى له: كان يصوم شعبان إلا قليلا «6» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1156) فى الصيام، باب: صيام النبى من غير رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) تقدم فى الذى قبله. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (736) فى الصوم، باب: ما جاء فى وصال شعبان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) صحيح: أخرجه أبو داود (2430) فى الصوم، باب: فى صوم شعبان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (5) حسن صحيح: أخرجه النسائى (1/ 659) فى الصيام، باب: الاختلاف على محمد بن إبراهيم من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى فى صحيح النسائى: حسن صحيح. (6) صحيح: أخرجه مسلم (1156) وتقدم.

وفى أخرى له أيضا: كان يصوم شعبان كله «1» . قال الحافظ ابن حجر: أى يصوم معظمه. ونقل الترمذى عن ابن المبارك أنه قال: جائز فى كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله. ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره، قال الترمذى: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله: أن الرواية الأولى مفسرة للثانية ومخصصة لها، وأن المراد ب «الكل» الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال. واستبعده الطيبى وقال: يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان. وقال ابن المنير: إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثانى متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى. ولا يخفى تكلفه، والأول لمحمول على المبالغة هو الصواب. واختلف فى الحكمة فى إكثاره- صلى الله عليه وسلم- من صوم شعبان، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فتجتمع فيقضيها فى شعبان. أشار إلى ذلك ابن بطال، وفيه حديث أخرجه الطبرانى فى الأوسط من طريق ابن أبى ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان. وابن أبى ليلى ضعيف، وقيل كان يضع الحديث. وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أخرجه الترمذى من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: سئل النبى- صلى الله عليه وسلم-: أى الصوم أفضل بعد رمضان قال: «شعبان لتعظيم رمضان» قال الترمذى: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس بذلك القوى.

_ (1) تقدم فى الذى قبله.

لكن يعارضه ما رواه مسلم من حديث أبى هريرة مرفوعا: «أفضل الصيام بعد رمضان صوم المحرم» «1» . والأولى فى ذلك ما جاء فى حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائى وأبو داود، وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذاك شهر يغافل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترتفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملى وأنا صائم» «2» . فبين- صلى الله عليه وسلم- وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله: «إنه شهر يغافل الناس عنه بين رجب ورمضان» يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما، فصار مغفولا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك. وفى إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها أن يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، ولا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ومنها: أنه أشق على النفوس، لأن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال بنى الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدى بهم. وقد روى فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- شعبان معنى آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال، فروى- بإسناد فيه ضعيف- عن عائشة قالت: كان أكثر صيام النبى- صلى الله عليه وسلم- فى شعبان فقلت: يا رسول الله، أرى أكثر صيامك فى شعبان؟ قال: «إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض، فأنا أحب أن لا ينسخ اسمى إلا وأنا صائم» وقد روى مرسلا، وقيل إنه أصح. وقد قيل فى صوم شعبان معنى آخر: وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان، فلا يدخل فى صيامه على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1161) فى الصيام، باب: فضل صوم المحرم، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، بلفظ أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم الحديث. (2) أخرجه أحمد (5/ 201) من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.

على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل فى صيام رمضان بقوة ونشاط. واعلم أنه لا تعارض بين هذا وبين النهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء فى النهى عن صوم نصف شعبان الثانى، فإن الجمع بينهما ظاهر، بأن يحمل النهى على من لم يدخل تلك الأيام فى صيام اعتاده. وأجاب النووى عن كونه- صلى الله عليه وسلم- لم يكثر الصوم فى المحرم، مع قوله: «إن أفضل الصيام ما يقع فيه» ، بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا فى آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم فى المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم فيه. وأما شهر رجب بخصوصه- وقد قال بعض الشافعية: إنه أفضل من سائر الشهور، وضعفه النووى وغيره- فلم يعلم أنه صح أنه- صلى الله عليه وسلم- صامه، بل روى عنه من حديث ابن عباس، مما صح وقفه، أنه نهى عن صيامه، ذكره ابن ماجه لكن فى سنن أبى داود: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها. وفى حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه- صلى الله عليه وسلم- قال له: «صم من الحرم واترك» ، قالها ثلاثا «1» . وفى رواية مسلم عن عثمان بن حكيم الأنصارى قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب- ونحن يومئذ فى رجب- فقال: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم «2» . والظاهر: أن مراد سعيد بهذا الاستدلال على أنه لا نهى عنه ولا ندب فيه بعينه، بل له حكم باقى الشهور.

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2428) فى الصوم، باب: فى صوم أشهر الحرم. من حديث عجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها. والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1141) فى الجمعة، باب: قيام النبى بالليل من نومه وما نسخ من قيام الليل، ومسلم (1158) فى الصيام، باب: صيام النبى فى غير رمضان. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

الفصل الرابع فى صومه ص عشر ذى الحجة

وفى «اللطائف» روى عن الكتانى أخبرنا تمام الرازى حدثنا القاضى يوسف حدثنا محمد بن إسحاق السراج حدثنا يوسف بن موسى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا حبيب المعلم عن عطاء أن عروة قال لعبد الله بن عمر: هل كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم فى رجب؟ قال: نعم ويشرفه، قالها ثلاثا «1» ، أخرجه أبو داود وغيره. وعن أبى قلابة قال: إن فى الجنة قصرا لصوام رجب «2» . قال البيهقى: أبو قلابة من كبار التابعين لا يقوله إلا عن بلاغ والله أعلم. الفصل الرابع فى صومه ص عشر ذى الحجة والمراد بها الأيام التسعة من أول ذى الحجة. عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذى الحجة «3» . رواه أبو داود. وعن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صائما فى العشر قط «4» . رواه مسلم والترمذى. وهذا يوهم كراهة صوم العشر، وليس فيها كراهة، بل هى مستحبة استحبابا شديدا لا سيما يوم التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد ثبت فى صحيح البخارى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من أيام العمل فيها أفضل منه فى هذه» «5» يعنى العشر الأول من ذى الحجة، واستدل به على فضل صيام عشر ذى الحجة لاندراج الصوم فى العمل.

_ (1) أخرجه أبو الحسن على بن محمد بن شجاع الربعى فى فضل رجب ورجاله كلهم ثقات، كما فى «كنز العمال» (24601) وهو ليس فى «سنن أبى داود» . (2) أخرجه ابن عساكر، كما فى «كنز العمال» (24581) . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (2437) فى الصوم، باب: فى صوم العشر. من حديث هند بنت أبى أمية بن المغيرة. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) صحيح: أخرجه مسلم (1176) فى الاعتكاف، باب: صوم عشر ذى الحجة، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (5) صحيح: أخرجه البخارى (969) فى الجمعة، باب: فضل العمل فى أيام التشريق.

واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد؟ وأجيب: بأنه محمول على الغالب، والله أعلم. ويتأول قولها- يعنى عائشة-: «لم يصم العشر» أنه لم يصمه لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه فى نفس الأمر، ويدل عليه حديث هنيدة بن خالد الذى ذكرته. قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع فى رواية القاسم بن أبى أيوب: «ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله فى عشر الأضحى» «1» . وفى حديث جابر فى صحيحى أبى عوانة وابن حبان «ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذى الحجة» «2» . فقد ثبتت الفضيلة لأيام عشر ذى الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك: فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة، جمعا بين الحديث السابق وبين حديث أبى هريرة مرفوعا: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة» «3» . رواه مسلم. أشار إلى ذلك النووى فى شرحه، وقال الداودى: لم يرد- صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة لأنه قد يكون فيها يوم الجمعة، يعنى: فيلزم تفضيل الشئ على نفسه، وتعقب: بأن المراد: كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من يوم الجمعة فى غيره لاجتماع الفضيلتين فيه. والذى يظهر أن السبب فى امتياز عشر ذى الحجة إمكان اجتماع أمهات العبادات فيه وهى الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك فى غيرها. وعلى هذا: هل يخص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال. انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه الدارمى (17774) فى الصوم، باب: فى فضل العمل فى العشر، وأصله فى الصحيح. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (3853) . (3) صحيح: أخرجه مسلم (854) فى الجمعة، باب: فضل يوم الجمعة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

الفصل الخامس فى صومه ص أيام الأسبوع

وقال أبو أمامة بن النقاش: فإن قلت أيما أفضل، عشر ذى الحجة أو العشر الأواخر من رمضان؟ فالجواب: أن أيام عشر ذى الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذى ما رؤى الشيطان فى يوم غير يوم بدر أدحر ولا أغيظ ولا أحقر منه فيه وهو يوم عرفة، ولكون صيامه يكفر سنتين، ولاشتمالها على أعظم الأيام عند الله حرمة وهو يوم النحر الذى سماه الله تعالى يوم الحج الأكبر، وليالى عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التى هى خير من ألف شهر. ومن تأمل هذا الجواب وجده كافيا شافيا، أشار إليه الفاضل المفضل فى قوله: «ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عشر ذى الحجة» الحديث، فتأمل قوله «ما من أيام» دون أن يقول: ما من عشر ونحوه. ومن أجاب بغير هذا التفضيل لم يدل بحجة صحيحة صريحة قط. الفصل الخامس فى صومه ص أيام الأسبوع عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس «1» . رواه الترمذى والنسائى، وعن أبى قتادة قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن صوم الاثنين فقال: «فيه ولدت وفيه أنزل على» «2» . رواه مسلم. وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «تعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم» «3» . رواه الترمذى. وعن أسامة بن زيد: قلت: يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر،

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (745) فى الصوم، باب: ما جاء فى صيام يوم الاثنين والخميس من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (1162) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2565) فى البر والصلة، باب: النهى عن الشحناء والتهاجر. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين إن دخلا فى صيامك وإلا صمتهما، قال: «أى يومين؟» قلت: يوم الاثنين والخميس، قال: «ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم» «1» . رواه النسائى. وروى على بن أبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «2» قال: يكتب كل ما يتكلم به من خير وشر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر ما كان فيه مجن خير أو شر، وألقى سائره، وهذا عرض خاص فى هذين اليومين غير العرض العام كل يوم فإن ذلك عرض خاص دائم بكرة وعشيّا. ويدل على ذلك ما فى صحيح مسلم عن أبى موسى الأشعرى قال: قام فينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات فقال: «إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل» «3» الحديث. وعن أم سلمة كان- صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة «4» . وفى رواية أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذى يليه «5» . رواه النسائى. وعن عائشة:

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 56) فى الصيام، باب: صوم النبى بأبى هو وأمى. من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) سورة ق: 18. (3) صحيح: أخرجه مسلم (179) فى الإيمان، باب: فى قوله إن الله لا ينام. من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-. (4) أخرجه النسائى (2/ 49) فى الصيام، باب: صوم النبى بأبى هو وأمى، من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» : حسن ولكن الأصح لفظ وخميس. (5) ضعيف: أخرجه الترمذى (746) فى الصوم، باب: ما جاء فى صيام يوم الاثنين والخميس من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

كان يصوم من شهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس «1» . رواه الترمذى: وعن كريب، مولى ابن عباس، قال: أرسلنى ابن عباس وناس من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى أم سلمة أسألها: أى الأيام كان النبى- صلى الله عليه وسلم- أكثرها صياما؟ قالت: السبت والأحد، ويقول: إنهما عيد المشركين، وأنا أحب أن أخالفهما «2» . رواه أحمد والنسائى، وفيه محمد ابن عمر، ولا يعرف حاله، ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد بن عمر ولا يعرف حاله أيضا. وعن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه» «3» . رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه والدارمى. قال بعضهم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة، فإن النهى عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهى أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد. قالوا: ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده. قال النووى: وأما قول مالك فى الموطأ «لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، فقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه» فهذا الذى قاله هو الذى رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهى عن صوم يوم الجمعة فتعين القول به، ومالك معذور فإنه لم يبلغه. قال الداودى من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه.

_ (1) هو فى الذى قبله. (2) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (2775 و 2776) من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (744) فى الصوم، باب: ما جاء فى صوم يوم السبت، من حديث الصماء بنت بسر- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

الفصل السادس فى صومه ص الأيام البيض

قالوا: واستحباب الفطر يوم الجمعة ليكون أعون له على وظائف العبادات المشروعة فى الجمعة، وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتذاذ بها من غير ملل ولا سامة كالحاج بعرفة. فإن قلت: لو كان كذلك لم يزل النهى والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذى قبله أو بعده ما يجبره ما قد يحصل من فتور أو تقصير فى وظائف يوم الجمعة بسبب صومه، والله أعلم. الفصل السادس فى صومه ص الأيام البيض وهى التى يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، وهى: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، وليس فى الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام، لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض فصح قول من قال: الأيام البيض، على الوصف، واليوم الكامل هو النهار بليلته. وفيه رد لقول الجواليقى: «من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ» والله أعلم. عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يفطر أيام البيض فى حضر ولا سفر «1» . رواه النسائى. وعن حفصة: أربع لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وأيام البيض من كل شهر، وركعتا الفجر «2» ، رواه أحمد. وعن معاذة العدوية: أنها سألت عائشة: أكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أى أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: ما كان يبالى من أى أيام الشهر يصوم «3» . رواه مسلم. قال

_ (1) ضعيف الإسناد: أخرجه النسائى (4/ 198) فى الصيام، باب: صوم النبى بأبى هو وأمى. وقال الألبانى فى ضعيف النسائى: «ضعيف الإسناد» . (2) أخرجه أحمد (6/ 287) . (3) صحيح: أخرجه مسلم (1160) فى الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

بعضهم: لعله- صلى الله عليه وسلم- لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعينها. قال: وقد جعل الله تعالى صيام هذه الثلاثة أيام من الشهر بمنزلة صيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقد روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر «1» . وقد تحصل أن صيامه- صلى الله عليه وسلم- فى الشهر على أوجه: الأول: أنه كان يصوم أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذى يليه، رواه النسائى. الثانى: كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. رواه الترمذى. الثالث: أيام البيض، ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر. الرابع: أنه كان يصوم ثلاثة غير معينة كما روته معاذة عن عائشة عند مسلم. الخامس: أنه كان يصوم ثلاثة من أول الشهر، واختار جماعة منهم: الحسن وهو ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود. قال القاضى عياض: واختار النخعى صوم ثلاثة أيام من آخر الشهر لتكون كفارة لما مضى، واختار آخرون: أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين، وقيل إنه صيام مالك بن أنس. وقال ابن شعبان من المالكية: أول يوم من الشهر والحادى عشر، والحادى والعشرون، ونقل ذلك عن أبى الدرداء، وهو موافق لما رواه النسائى من حديث عبد الله بن عمر «وصم من كل عشرة أيام يوما» «2» وحكى الإسنوى عن الماوردى أنه يستحب أيضا صوم الأيام السود وهى السابع والعشرون واليومان بعده.

_ (1) حسن: أخرجه النسائى (4/ 204) فى الصيام، باب: صيام النبى، من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (1159) فى الصيام، باب: النهى عن صوم الدهر لمن تضرر به، والنسائى (4/ 215) فى الصيام، باب: صيام عشرة أيام من الشهر. من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما-.

النوع الخامس فى ذكر اعتكافه ص واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر

وتترجح البيض بكونها وسط الشهر، ووسط الشئ أعدله، ولأن الكسوف غالبا يقع فيها وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذى يعتاد صيام البيض صائما، فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها. ورجح بعضهم صيام الثلاثة فى أول الشهر، لأن المرء لا يدرى ما يعرض له من الموانع، والله أعلم. النوع الخامس فى ذكر اعتكافه ص واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر اعلم أن الاعتكاف فى اللغة: الحبس والمكث واللزوم. وفى الشرع: المكث فى المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة. ومقصوده وروحه عكوف القلب على الله، وجمعيته عليه، والفكر فى تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق، ليكون ذلك أنسه يوم الوحشة فى القبر حين لا أنيس له. وليس بواجب إجماعا، إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عن قوم. واختلف فى اشتراط الصوم له: ومذهب الشافعى: أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر. وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط الصوم، فلا يصح اعتكاف المفطر. واحتج الشافعى باعتكافه- صلى الله عليه وسلم- فى العشر الأول من شوال «1» . رواه

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1173) فى الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف معتكفه، من حديث عائشة. ولم يروه البخارى بهذا اللفظ.

البخارى ومسلم، وبحديث عمر: أنه قال: يا رسول الله، إنى نذرت أن أعتكف ليلة فى الجاهلية، فقال: «أوف بنذرك» «1» . رواه البخارى ومسلم، والليل ليس محلا للصوم، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف. واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكى فأجازه فى كل مكان. وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف فى مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه. وفيه قول قديم للشافعى. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التى تقام فيها الصلوات. وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففى كل مسجد. وقال الجمهور: بعمومه فى كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحبه له الشافعى فى الجامع. وشرطه مالك، لأن الاعتكاف عنده ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك. وخصه طائفة من السلف، كالزهرى بالجامع مطلقا، وأومأ إليه الشافعى فى القديم. وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجدى مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة. واتفقوا على أنه لا حد لأكثره، واختلفوا فى أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام فى دون اليوم. حكاه ابن قدامة. وعن مالك: يشترط عشرة أيام، وعنه: يوم أو يومان. ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما ينطلق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود. واتفقوا على فساده بالجماع. وقد كان سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان «2» . رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة. وعن أبى هريرة

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2043) فى الاعتكاف، باب: إذا نذر فى الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، ومسلم (1656) فى الأيمان، باب: نذر الكافر وما يفعل إذا أسلم. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2025) فى الاعتكاف، باب: الاعتكاف فى العشر الأواخر، ومسلم (1171) فى الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

- رضى الله عنه-: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين فى العام الذى قبض فيه «1» . رواه البخارى. وعن أبى سعيد الخدرى أنه- صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط فى قبة تركية، ثم أطلع رأسه فقال: إنى اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة- يعنى ليلة القدر- ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لى إنها فى العشر الأواخر فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتنى أسجد فى ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها فى العشر الأواخر والتمسوها فى كل وتر منه، قال: فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، فبصرت عيناى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين «2» . رواه الشيخان. وفى حديث عبادة بن الصامت: أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها فى التاسعة والسابعة والخامسة «3» ، رواه البخارى. ولمسلم من حديث عبد الله بن أنيس: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأرانى فى صبيحتها أسجد فى ماء وطين، قال: فمطرت ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا وأثر الماء والطين فى جبهته وأنفه «4» . وفى سنن أبى داود عن ابن مسعود مرفوعا: «اطلبوها ليلة سبع عشرة» «5» . وأخرج الطبرانى مرفوعا من حديث أبى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4998) فى فضائل القرآن، باب: كان جبريل يعرض القرآن على النبى- صلى الله عليه وسلم-. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2027) فى الاعتكاف، باب: الاعتكاف فى العشر الأواخر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (49) فى الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. من حديث عبادة بن الصامت- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (2016) فى صلاة التراويح، باب: التماس ليلة القدر فى السبع الأواخر. من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-. (5) ضعيف: أخرجه أبو داود (1384) فى الصلاة، باب: من روى أنها ليلة سبع عشرة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

هريرة: «التمسوا ليلة القدر فى ليلة سبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين» . وقد اختلف العلماء فى ليلة القدر اختلافا كثيرا، وأفردها بعضهم بالتأليف، وقد جمع الحافظ أبو الفضل بن حجر من كلام العلماء فى ذلك أكثر من أربعين قولا، كساعة الجمعة. ومذهب الشافعى: انحصارها فى العشر الأخير، كما نص عليه الشافعى، فيما حكاه عنه الإسنوى. وعن المحاملى فى «التجريد» : إنها تلتمس فى جميع الشهر، وتبعه عليه الشيخ أبو إسحاق فى «التنبيه» فقال: وتطلب ليلة القدر فى جميع شهر رمضان. ثم الغزالى فى كتبه. وتردد صاحب «التقريب» فى جواز كونها فى النصف الأخير، كذا نقله عنه الإمام وضعفه. وحكاه ابن الملقن فى شرح العمدة. وفى المفهم للقرطبى حكاية قول إنها ليلة النصف من شعبان. ودليل الأول: حديث أبى سعيد الذى قدمناه، قال النووى: وميل الشافعى إلى أنها ليلة الحادى والعشرين أو الثالث والعشرين، أما الحادى والعشرون فلقوله- صلى الله عليه وسلم- فى حديث أبى سعيد: «فقد رأيت هذه الليلة، وقد رأيتنى أسجد فى ماء وطين من صبيحتها» «1» ، فبصرت عيناى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين، وأما الثالث والعشرون فلحديث عبد الله بن أنيس المتقدم أيضا. وجزم جماعة من الشافعية: بأنها ليلة الحادى والعشرين، ولكن قال السبكى: إنه ليس مجزوما به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده بليلة القدر أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها فى العشر الأخير. وعن ابن خزيمة- من أصحابنا- أنها تنتقل فى كل سنة إلى ليلة من ليالى العشر الأخير.

_ (1) تقدم.

وحاصله: قولان، ووجه، واختار النووى فى الفتاوى وشرح المهذب رأى ابن خزيمة. وجزم ابن حبيب من المالكية، ونقله الجمهور، وحكاه صاحب «العدة» من الشافعية ورجحه: أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة، ولم تكن فى الأمم قبلهم. وهو معترض: بحديث أبى ذر عند النسائى، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قلت: بل هى باقية. وعمدتهم قول مالك فى «الموطأ» بلغنى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله تعالى ليلة القدر. وهذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح من حديث أبى ذر كما قاله الحافظان ابن كثير فى تفسيره وابن حجر فى فتح البارى. قال: وقد ظهر لليلة القدر علامات؛ منها: ما فى صحيح مسلم عن أبى بن كعب أن الشمس تطلع فى صبيحتها لا شعاع لها، ولابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعا: «ليلة القدر لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة» «1» ، ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا أنها صافية، كأن فيها قمرا ساطعا، ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد ولا يحل لكوكب يرمى به فيها، وإن من أماراتها أن الشمس فى صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها حينئذ «2» . وروى البيهقى فى «فضائل الأوقات» أن المياه المالحة تعذب فى تلك الليلة «3» . وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يجتهد فى العشر الأخير من رمضان ما لا يجتهد فى غيره «4» . رواه مسلم من حديث عائشة. وفى البخارى عنها: كان رسول

_ (1) أخرجه ابن خزيمة فى «صحيحه» (2190) من حديث جابر، ولم أقف على رواية ابن عباس. (2) انظر «فتح البارى» لابن حجر (4/ 260) . (3) ذكره الحافظ ابن حجر فى «المصدر السابق» . (4) صحيح: أخرجه مسلم (1175) فى الاعتكاف، باب: الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله «1» . وجزم عبد الرزاق بأن «شد مئزره» هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثورى. وقال الخطابى: يحتمل أن يراد به الجد فى العبادة، كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزرى، أى: تشمرت له، ويحتمل أن يراد به التشمير والاعتزال معا، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز، فيكون المراد: شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وتشمر للعبادة. وقوله: «وأحيا ليله» أى: سهره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه، لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعا، لأن النائم إذا حيى باليقظة حيى ليله بحياته، وهو نحو قوله: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا» «2» ، أى: لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور. فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها فى بقية الشهر. فمنها: إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويشهد له حديث عائشة من وجه ضعيف «وأحيا الليل كله» وفى المسند عنها أيضا، قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر «3» ، وفى حديث ضعيف عن أنس عند أبى نعيم: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل شهر رمضان قام ونام فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضا ويحتمل أن تريد بإحياء الليل غالبه، وقد قال الشافعى فى القديم: من شهد العشاء والصبح فى جماعة ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. وروى فى حديث مرفوع عن أبى هريرة: «من صلى العشاء الآخرة فى جماعة فى رمضان فقد أدرك ليلة القدر» «4» . رواه أبو الشيخ.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2024) فى صلاة التراويح، باب: العمل فى العشر الأواخر من رمضان. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (2042) فى المناسك، باب: زيارة القبور، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) تقدم. (4) أخرجه البيهقى، كما فى «كنز العمال» (24092) .

النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم

ومنها: أنه كان يوقظ أهله للصلاة فى ليالى العشر دون غيره من الليالى. ومنها: تأخير الفطور إلى السحور، ففى حديث أنس وعائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان فى ليالى العشر يجعل عشاءه سحورا، ولفظ حديث عائشة: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا، أخرجه ابن أبى عاصم. ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحورا «1» . وإسناد الأول مقارب، والثانى فيه حفص بن غياث، وقال فيه ابن عدى: إنه من أنكر ما لقيت له. لكن يشهد له حديث الوصال المخرج فى الصحيح كما قدمته. ومنها: اغتساله- صلى الله عليه وسلم- بين العشاءين: المغرب والعشاء، روى من حديث على، وفى إسناده ضعف. النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود، ووقوف بساحة الجود، ومشاهدة لذلك المشهد العلى الرحمانى، وإلمام بمعهد العهد الربانى، ولا يخفى أن نفس الكون بتلك الأماكن شرف وعلو، وأن التردد فى تلك المواطن فخار وسمو، فإن المحال المحترمة لم تزل تفرع على الحال فيها من سجال وصفها بفيض غامر، وحسبك فى هذا ما يحكى فى أبيات عن مجنون بنى عامر: رأى المجنون فى البيداء كلبا ... فجر عليه للإحسان ذيلا فلاموه على ما كان منه ... وقالوا لم منحت الكلب نيلا فقال دعوا الملام فإن عينى ... رأته مرة فى حى ليلا

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 174) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط وفيه حفص بن واقد البصرى، قال ابن عدى: له أحاديث منكرة.

فينبغى للعبد أن يهتم بأمر الحج ويبادر إليه، وينهض فاتر عزمه إنهاضا يحثه عليه، ولا يتوانى فى غسل أدران سيئات العمر بصابون المغفرة، ولا يتكاسل عن البدار، فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة. وروى ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أراد الحج فليتعجل» «1» . رواه أبو داود. وفى حديث على بن أبى طالب، عنه- صلى الله عليه وسلم-: «من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا» «2» . الحديث رواه الترمذى. وخطب- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أيها الناس: قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» «3» . رواه مسلم والنسائى من حديث أبى هريرة. وفى رواية النسائى، من حديث ابن عباس مرفوعا: «إن الله كتب عليكم الحج» ، فقال الأقرع بن حابس التميمى: كل عام يا رسول الله؟ فقال: «لو قلت نعم لوجبت» «4» الحديث. فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر. واختلفوا: هل هو على الفور، أو على التراخى؟ فقال الشافعى وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخى، إلى أن ينتهى إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور. واختلفوا أيضا فى وقت ابتداء فرضه، فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف فى سنته. فالجمهور على أنه سنة ست، لأنه نزل فيها قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ «5» ، وهذا ينبنى على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض. ويؤيده

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (1732) فى المناسك، باب: التجارة فى الحج، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (812) فى الحج. باب: ما جاء فى التغليظ فى ترك الحج، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (3) صحيح: أخرجه مسلم (1337) فى الحج، باب: فرض الحج مرة فى العمر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه مسلم. وقد تقدم فى الذى قبله. (5) سورة البقرة: 196.

قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعى بلفظ «وأقيموا» رواه الطبرى بأسانيد صحيحة عنهم. وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضى تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع فى قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدى سنة خمس، وهذا يدل- إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس، أو وقوعه فيها. وقالت طائفة: إنه تأخر نزول فرضه إلى التاسعة والعاشرة. واحتجوا: بأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد. ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا فى أنفسهم بما فاتهم من التجارة مع المشركين لما أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «1» الآية، فأعاضهم الله من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآيات والمنادات بها إنما كان سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك فى مكة فى موسم الحج، وأردفه بعلى. وفى الترمذى من حديث جابر، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر معها عمرة، فساق ثلاث وستين بدنة، ثم جاء على من اليمن ببقيتها، فيها جمل فى أنفه برة من فضة فنحرها «2» ، الحديث. وعن ابن عباس: حج- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهاجر ثلاث حجج «3» . أخرجه الحاكم وابن ماجه. وهو مبنى على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، وهذا لا يقتضى نفى الحج قبل ذلك. وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثورى، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- حج قبل أن يهاجر حججا «4» .

_ (1) سورة التوبة: 28. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاء فى حج النبى- صلى الله عليه وسلم-. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) تقدم فى الذى قبله. (4) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 642) و (3/ 56) وفى الموضع الأول رفعه جابر- رضى الله عنه-.

وقال ابن الجوزى: حج حججا لا يعلم عددها، وقال ابن الأثير: كان- صلى الله عليه وسلم- يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وقال جابر فى حديثه الطويل- كما فى رواية مسلم-: مكث- صلى الله عليه وسلم- تسع سنين لم يحج ثم أذن فى العاشرة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر، فأرسلت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: كيف أصنع؟ قال: «اغتسلى واستثفرى بثوب وأحرمى» ، فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت مدّ بصرى بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شئ عملنا به «1» . وفى رواية عند النسائى: قال جابر: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لخمس بقين من ذى القعدة وخرجنا معه، حتى إذا أتى ذا الحليفة الحديث «2» . وكان خروجه- صلى الله عليه وسلم- من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذى الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر. وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه، غير غسل الجماع الأول. وفى الترمذى، عن خارجة بن زيد عن أبيه: تجرد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لإهلاله واغتسل «3» . وفى الصحيحين: أن عائشة طيبته بذريرة «4» ، وفى رواية

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 155) فى مناسك الحج، باب: ترك التسمية عند الإهلال. من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (3) صحيح: أخرجه الترمذى (830) فى الحج، باب: ما جاء فى الاغتسال عند الإحرام. من حديث زيد بن ثابت بن الضحاك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) صحيح: أخرجه البخارى (5930) فى اللباس، باب: الذريرة، ومسلم (1189) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

قالت: كأنى أنظر إلى وبيص الطيب فى مفارقه- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم «1» ، وفى رواية قالت: طيبته عند إحرامه، ثم طاف فى نسائه، ثم أصبح محرما «2» ، زاد فى رواية: ينضح طيبا «3» . وفى رواية: طيبته طيبا لا يشبه طيبكم «4» ، تعنى ليس له بقاء. وهذا يدل على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم فى الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأبى يوسف وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابى عن أكثر الصحابة، وحكاه النووى عن جمهور العلماء من السلف والخلف. وذهب مالك: إلى منع التطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه. وعن عائشة قالت: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمى وأشنان «5» ، رواه الدار قطنى. وفى حديث أنس عند أبى داود والترمذى: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل «6» . وفى رواية ابن عمر، عند البخارى ومسلم وغيرهما: ما أهل إلا من عند المسجد «7» ، يعنى مسجد ذى الحليفة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (271) فى الغسل، باب: من تطيب ثم اغتسل وبقى أثر الطيب، ومسلم (1190) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) تقدم فى الذى قبله. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1192) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (4) صحيح الإسناد: أخرجه النسائى (5/ 137) فى مناسك الحج، باب: إباحة الطيب عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. وقال الألبانى: «صحيح الإسناد» . (5) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 226) . (6) ضعيف: أخرجه النسائى (5/ 162) فى مناسك الحج، باب: العمل فى الإهلال. من حديث أنس- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (7) صحيح: أخرجه البخارى (1541) فى الحج، باب: الإهلال عند مسجد ذى الحليفة، ومسلم (1186) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

وفى رواية: ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره «1» . وفى رواية: حين وضع رجله فى الغرز، واستوت به راحلته قائما، أهل من عند مسجد ذى الحليفة. وفى رواية جابر- عند أبى داود والترمذى- أنه- صلى الله عليه وسلم- لما أراد الحج أذن فى الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم «2» . وفى حديث ابن جبير- عند أبى داود- قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى إهلال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين أوجب!؟ فقال: إنى لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج- صلى الله عليه وسلم- حاجّا فلما صلى فى مسجده بذى الحليفة ركعتيه أوجبه فى مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا إنما أهل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وايم الله لقد أوجب فى مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء. قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أهل فى مصلاه إذا فرغ من ركعتيه «3» ، وهو مذهب أبى حنيفة، والصحيح من مذهب الشافعى أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته. قال ابن القيم: ولم ينقل عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1799) فى الحج، باب: القدوم بالغداة، ومسلم (1186) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (817) فى الحج، باب: ما جاء فى أى موضع أحرم، من حديث جابر وقد تقدم. وصححه الألبانى فى صحيح الترمذى. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1770) فى المناسك، باب: فى وقت الإحرام. من حديث ابن عباس وضعفه الألبانى فى «ضعيف أبى داود» .

قلت: ثبت فى الصحيحين عن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يركع بذى الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذى الحليفة أهل «1» . قال النووى: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضى وغيره عن الحسن البصرى أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قل: لأنه روى أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث. وقد اختلفت روايات الصحابة فى حجه- صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، هل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ وروى كل منها فى البخارى ومسلم وغيرهما. واختلف الناس فى ذلك على ستة أقوال: أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه. الثانى: حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضى أبو يعلى وغيره. الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدى ولم يكن قارئا. الرابع: أنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين. الخامس: أنه حج مفردا، اعتمر بعده من التنعيم. السادس: أنه- صلى الله عليه وسلم- حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى حل منهما جميعا، وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وساق الهدى. واختلفوا أيضا فى إحرامه على ستة أقوال: أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها. الثانى: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه. الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة.

_ (1) تقدم.

الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج. الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا، ثم عينه بعد إحرامه. السادس: لبى بالحج والعمرة معا. وقد أطنب أبو جعفر الطحاوى الحنفى فى الكلام على ذلك، فإنه تكلم عليه فى زيادة على ألف ورقة كما ذكره عنه جماعة من العلماء، وبينه ابن حزم فى حجة الوداع بيانا شافيا، ومهده المحب الطبرى تمهيدا بالغا، وأشار إليه القاضى عياض والنووى فى شرحيهما لمسلم، ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثير من مباحثه استيفاء كافيا. والذى ذهب إليه الشافعى فى جماعة: أنه- صلى الله عليه وسلم- حج حجّا مفردا لم يعتمر معه، واحتج بما فى الصحيحين أن عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا أهلّ بالحج وحده، وأهلّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحج» . فهذا التقسيم والتنويع صريح فى إهلاله بالحج وحده. ولمسلم عنها: أنه- صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج وحده «1» . ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحج «2» . ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج «3» . وعن ابن عمر: أنه- صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج. رواه البخارى. قالوا: وهؤلاء لهم قرب فى حجة الوداع على غيرهم: فأما جابر، فهو

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2731) فى مناسك الحج، باب: القرآن. من حديث أنس قال: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبى بالعمرة والحج جميعا فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبّى بالحج وحده ... الحديث. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1240) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج، من حديث ابن عباس، وبنحوه عن عائشة. (3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2966) فى المناسك، باب: الإفراد بالحج، وهو عند مسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

أحسن الصحابة سياقا لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروجه- صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غيره. وأما ابن عمر، فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقته- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإنى كنت تحت ناقته- صلى الله عليه وسلم- يمسنى لعابها، أسمعه يلبى بالحج، وأما عائشة فقربها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره وظاهره، وفعله فى خلواته وعلانيته، مع كثرة فهمها وعظم فطنتها. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه فى الدين والفهم الثاقب معروف، مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة. واحتجوا أيضا: بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على «الإفراد» مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، والمقتدى بهم، فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل. وبأنه لم ينقل عن أحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهة التمتع والجمع بينهما، حتى فعله على- رضى الله عنه- لبيان الجواز. وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقران. وذهب النووى إلى أن الصواب أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ويؤيده أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يعتمر فى تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القران أفضل من الإفراد والذى لا يعتمر فى سنته عندنا، ولم يقل أحد إن الحج وحده أفضل من القران. انتهى. وقد صرح القاضى حسين والمتولى بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر فى تلك السنة. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القران بأمور. منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع. وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه فى ذلك. وأشهر من روى عنه الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته. وابن عمر، وقد ثبت عنه أنه- صلى الله عليه وسلم- بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. وجابر، وقد روى عنه أنه اعتمر مع حجته أيضا.

وبأن القران رواه عنه- صلى الله عليه وسلم- جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه. وبأنه لم يقع فى شئ من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: أفردت، ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال: «لولا أن معى الهدى لأحللت» «1» . وأيضا: فإن من روى القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف، بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وينتفى التعارض، ويؤيده: أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين، ويؤيده: أن من جاء عنه التمتع لما وصفه، وصفه بصورة القران، لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج، وهذه إحدى صور القران. وأيضا: فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيّا. انتهى. وعدهم ابن القيم سبعة عشر: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعمر ابن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلى، وعمران ابن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبى أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد ابن أبى وقاص، وجابر، وابن عمر، قال: فهؤلاء سبعة عشر صحابيّا، منهم من روى فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به. فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرا، وعائشة، وابن عباس؟ وعائشة تقول: أهلّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحج، وفى لفظ: أفرد الحج، والأول فى الصحيحين، والثانى فى مسلم. وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخارى، وهذا ابن عباس يقول: أهلّ بالحج، رواه مسلم. وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه. قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1558) فى الحج، باب: من أهل فى زمن النبى كإهلال النبى. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث من ذكرتم لا حجة فيها على القران ولا على الإفراد، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها. انتهى. وهذا يقتضى رفع الشك عنها والمصير إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الثورى «1» وأبو حنيفة وإسحاق بن راهواه واختاره من الشافعية المزنى وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزى، ومن المتأخرين الشيخ تقى الدين السبكى، وبحث مع النووى فى اختياره أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندا إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وتعقب: بأن البيان قد سبق منه- صلى الله عليه وسلم- فى عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها فى ذى القعدة، وهى عمرة الحديبية التى صد عن البيت فيها، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط- مع أن الأفضل خلافه- لاكتفى فى ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى. ومذهب الشافعى ومالك وكثيرين أن أفضلها: الإفراد، ثم التمتع، ثم القران، فإن قلت: إذا كان الراجح أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عن ذلك النووى فى شرح المهذب: بأن ترجيح الإفراد لأنه- صلى الله عليه وسلم- اختاره أولا، فأهلّ بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج، وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور كما ذكرته. وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن التمتع أفضل، وهو مذهب أحمد، لكونه- صلى الله عليه وسلم- تمناه، فقال: «لولا أنى سقت

_ (1) زيادة من «فتح البارى» المصدر المنقول منه.

الهدى لأحللت» «1» ، ولا يتمنى إلا الأفضل. وأجيب: بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله تعالى له، واستمر عليه- صلى الله عليه وسلم-. وأما القائلون، إنه- صلى الله عليه وسلم- لبى بالعمرة واستمر عليها، فحجتهم حديث ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج «2» . وقال ابن شهاب عن عروة: إن عائشة أخبرته عن النبى- صلى الله عليه وسلم- فى تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذى أخبرنى سالم عن ابن عمر. وقال ابن عباس: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذه عمرة استمتعنا بها» «3» . وقال سعد بن أبى وقاص فى المتعة: صنعها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصنعناها معه «4» . وأجيب: بأن التمتع عندهم يتناول القران، ويدل له ما فى الصحيحين عن سعيد بن المسيب: اجتمع على وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال على: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إنى لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى على ذلك أهلّ بهما جميعا «5» . فهذا يبين أن من جمع بينهما كانت متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذى فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ووافقه عثمان على أنه- صلى الله عليه وسلم- فعله، لكن النزاع بينهما: هل ذلك الأفضل فى حقنا أم لا؟ فقد اتفق على وعثمان على أنه

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1692) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1241) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (4) ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذى (822) فى الحج، باب: ما جاء فى التمتع. من حديث سعد بن أبى وقاص والضحاك. وقال الألبانى: ضعيف الإسناد. (5) صحيح: أخرجه البخارى (1569) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج، ومسلم (1223) فى الحج، باب: جواز التمتع.

- صلى الله عليه وسلم- تمتع وأن المراد بالتمتع عندهم القران. وأيضا: فإنه- صلى الله عليه وسلم- قد تمتع تمتع قران باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين. انتهى. وفى فتح البارى عن أحمد: أن من ساق الهدى فالقران له أفضل ليوافق فعل النبى- صلى الله عليه وسلم-، ومن لم يسق الهدى فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه. انتهى. وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- حج مفردا ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره فهو غلط، لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. قاله ابن تيمية. وأما من قال: إنه حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدى فحجته حديث معاوية أنه قصر عن رأس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمشقص على المروة «1» ، وحديثه فى الصحيحين، ولا يمكن أن يكون هذا فى غير حجة الوداع، لأن معاوية أسلم بعد الفتح، والنبى- صلى الله عليه وسلم- لم يكن زمن الفتح محرما، ولا يمكن أن يكون فى عمرة الجعرانة لوجهين: أحدهما: أنه فى بعض ألفاظ الحديث الصحيح «وذلك فى حجته» «2» ، الثانى: أن فى رواية النسائى بإسناد صحيح: «وذلك فى أيام العشر» «3» وهذا إنما كان فى حجته، وهذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر فى قوله: 7 نه اعتمر فى رجب كما سيأتى. وسائر الأحاديث الصحيحة كلها تدل على أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله: «لولا أن معى الهدى لأحللت» «4» وقوله: «إنى سقت الهدى وقرنت فلا أحل عن حتى

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 244) فى المناسك، باب: أين يقصر المعتمر، وفى الكبرى (3981) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) تقدم. (3) تقدم. (4) تقدم.

أنحر» «1» . وهذا خبر عنه لا يدخله الوهم ولا الغلاط، بخلاف خبر غيره عنه. قاله فى زاد المعاد. وأما اختلاف الروايات عنه- صلى الله عليه وسلم- فى إهلاله، هل هو بالحج أو بالعمرة أو القران، والجمع بينها، فكل تأول بما يناسب مذهبه الذى قدمته. قال البغوى: والذى ذكره الشافعى فى كتاب «اختلاف الأحاديث» كلاما موجزه: «أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان منهم المفرد والقارن والمتمتع، فكل كان يأخذ عنه أمر نسكه، ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، ويجوز فى لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد أنه أمر ببنائها، وكما روى أنه- صلى الله عليه وسلم- رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه، ثم احتج بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابى نحوه. وقال النووى: كان- صلى الله عليه وسلم- أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج فصار قارنا، فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعنى حمله على ما أهل به فى أول الحال، ومن روى القران أراد ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوى والارتفاق، فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على فعل واحد. وقال غيره: أراد بالتمتع ما أمر به غيره. قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض. وقالت طائفة: إنما أحرم- صلى الله عليه وسلم- قارنا ابتداء يعنى بالحج والعمرة معا واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس فى صحيح مسلم سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أهل بهما: «لبيك عمرة وحجّا» «2» . ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبى- صلى الله عليه وسلم- كان إهلالا بحج وعمرة معا.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1566) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج. من حديث حفصة ولفظه إنى لبدت رأسى وقلدت هديى فلا أحل حتى أنحر. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1692) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر. وقد تقدم أكثر من مرة.

وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم- أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما فى البخارى من حديث ابن عمر قال: تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدى من ذى الحليفة، وبدأ- صلى الله عليه وسلم- فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج. وقد تقدم فى الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه- صلى الله عليه وسلم- بدأ بالإهلال بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا عكسه. والمشكل فى هذا الحديث قوله: «بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج» . وأجيب عنه: بأن المراد به صورة الإهلال، أى لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: «لبيك بعمرة وحج معا» «1» ولبعضهم: بدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة «2» ، أى أمرهم بها أولا، أى بتقديمها على الحج. ومذهب الشافعى: أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح، وصار قارنا، فلو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعى، أصحهما لا يصح إحرامه بالعمرة، لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمى. والضعيف لا يدخل على القوى. انتهى. وعن ابن عباس قال: صلى- صلى الله عليه وسلم- الظهر بذى الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها فى صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين «3» ، رواه مسلم وأبو داود. وفى رواية الترمذى: قلد نعلين، وأشعر الهدى فى الشق الأيمن، بذى الحليفة، وأماط عنه الدم «4» . وفى رواية لأبى داود بمعناه، وقال: ثم

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1243) فى الحج، باب: تقليد الهدى وإشعاره عند الإحرام، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (906) فى الحج، باب: ما جاء فى إشعار البدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

سلت الدم بيده «1» ، وفى أخرى بأصبعه «2» . وعند النسائى: أشعر بدنه من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين «3» . وفى أخرى: أمر ببدنة فأشعر فى سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين «4» . وكان حجه- صلى الله عليه وسلم- على رحل رث يساوى أربعة دراهم «5» . رواه الترمذى فى الشمائل وابن ماجه من حديث أنس، والطبرانى فى الأوسط من حديث ابن عباس. وعن أسماء بنت أبى بكر قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وجلست إلى جنب أبى بكر، وكانت زمالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وزمالة أبى بكر واحدة، مع غلام لأبى بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة. قال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ وطفق يضربه ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبتسم ويقول: «انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع» ، وما يزيد على ذلك ويبتسم «6» . رواه أبو داود. وخرج معه- صلى الله عليه وسلم- أصحابه لا يعرفون إلا الحج- كما قالت عائشة- فبين لهم- صلى الله عليه وسلم- وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار فى أشهر الحج فقال:

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1752) فى المناسك، باب: فى الإشعار. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) قاله أبو داود عقب الحديث السابق، حيث قال: رواه همام فذكره. (3) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 170) فى مناسك الحج، باب: سلت الدم عن البدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) تقدم فى الذى قبله. (5) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2890) فى المناسك، باب: الحج على الرحل. من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (6) حسن: أخرجه أبو داود (1818) فى المناسك، باب: المحرم يؤدب غلامه. من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

«من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل» «1» . رواه البخارى. ولأحمد: «من شاء فليهل بعمرة» . ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- الأبواء أو ودان، أهدى له الصعب بن جثامة حمارا وحشيا فرده عليه، فلما رأى ما فى وجهه قال: «7 نا لم نرده عليك إلا أنا حرم» «2» . رواه البخارى ومسلم. وله فى رواية: حمار وحش «3» . وفى أخرى: من لحم حمار وحش «4» ، وفى رواية: عجز حمار وحش يقطر دما «5» ، وفى رواية: شق حمار وحش «6» ، وفى رواية عضو من لحم صيد «7» . ورواه أبو داود وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.. فذكره. واتفقت الروايات كلها عن أنه رده عليه، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقى من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم- عجز حمار وحش، وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم، قال البيهقى: إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحى وقبل اللحم. قال فى فتح البارى: وفى هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق محفوظة فلعله رد حيّا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله. وقد قال الشافعى فى «الأم» : إن كان الصعب

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (317) فى الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل الحيض، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1825) فى الحج، باب: إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيّا حيّا لم يقبل، ومسلم (1193) فى الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. من حديث الصعب ابن جثامة الليثى- رضى الله عنه-. (3) تقدم فى الذى قبله. (4) تقدم فى الذى قبله. (5) مسلم (1194) وتقدم فى الذى قبله. (6) تقدم فى الذى قبله. (7) أخرجه مسلم (1195) وتقدم فى الذى قبله.

أهدى حمارا حيّا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حى، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه. ونقل الترمذى عن الشافعى: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور فى حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه- صلى الله عليه وسلم- من مكة، ويؤيده: أنه جازم فيه بوقوع ذلك فى الجحفة، وفى غيرها من الروايات: بالأبواء أو بودان. وقال القرطبى: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرته- صلى الله عليه وسلم- فقدمه له، فمن قال: أهدى حمارا أراد بتمامه مذبوحا لا حيّا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبى- صلى الله عليه وسلم-، قال: ويحتمل أن يكون من قال حمارا، أطلق وأراد بعضه مجازا، قال: ويحتمل أنه أهداه له حيّا، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل. قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرواة. قال النووى: قال الشافعى وآخرون: ويحرم تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوها، وفى ملكه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد فإن صاده أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا، سواء صاده، أو صاده غيره له، قصده أو لم يقصده، فيحرم مطلقا. حكاه القاضى عياض عن على وابن عمر وابن عباس لقوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً «1» ، قالوا: والمراد بالصيد المصيد، ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه- صلى الله عليه وسلم- رد وعلل رده بأنه محرم، ولم يقل: بأنك صدته لنا. واحتج الشافعى وموافقوه: بحديث أبى قتادة المذكور فى صحيح

_ (1) سورة المائدة: 96.

مسلم، فإنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى الصيد الذى صاده أبو قتادة وهو حلال، قال للمحرمين: «هو حلال فكلوه» «1» . وفى الرواية الآخرى قال: «فهل معكم منه شئ؟» قالوا: معنا رجله فأخذها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكلها «2» . ولما مرّ- صلى الله عليه وسلم- بوادى عسفان قال: «يا أبا بكر، أى واد هذا؟» قال: وادى عسفان قال: «لقد مرّ به هود وصالح على بكرين أحمرين خطامهما الليف، وأرزهما العباء وأرديتهما النمار يلبون بالحج يحجون البيت العتيق» «3» . رواه أحمد. وفى رواية مسلم من حديث ابن عباس، لما مر بوادى الأزرق قال: «كأنى أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا أصبعيه فى أذنيه مارا بهذا الوادى، وله جؤار إلى الله بالتلبية» «4» . ووادى الأزرق خلف أمج- بفتح الهمزة والميم والجيم- قرية ذات مزارع، بينه وبين مكة ميل واحد، ولم يعين فى رواية البخارى الوادى، ولفظه: أما موسى كأنى أنظر إليه إذ انحدر من الوادى يلبى. قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته، لأنه لم يأت فى أثر ولا خبر أن موسى حى، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوى، ويدل عليه قوله فى الحديث الآخر: «ليهلن ابن مريم بفج الروحاء» «5» انتهى. وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وقد ذكر البخارى الحديث فى اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاده؟ وفى رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس، أفيقال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاد يونس؟

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1196) وتقدم فى الذى قبله. (2) تقدم فى الذى قبله. (3) أخرجه أحمد (1/ 232) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (4) صحيح: أخرجه مسلم (166) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (5) صحيح: أخرجه مسلم (1252) فى الحج، باب: إهلال النبى وهديه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

وتعقب أيضا: بأن توهيم المهلب للراوى وهم منه، وإلا فأى فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل. وأجيب: بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: «كأنى أنظر إليه» ولهذا استدل المهلب بحديث أبى هريرة الذى فيه «ليهلن ابن مريم بالحج» . وقد اختلف فى معنى قوله: «كأنى أنظر إليه» . فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحى. وقيل: هو على الحقيقة، لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا مانع أن يحجوا فى هذه الحالة، كما فى صحيح مسلم عن أنس: أنه رأى موسى- عليه السّلام- قائما فى قبره يصلى. قال القرطبى: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعى أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ «1» الآية لكن تمام هذا التوجيه أن يقال: المنظور إليه هى أرواحهم، فلعلها مثلت له- صلى الله عليه وسلم- فى الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهى فى القبور. قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا، ويرى فى اليقظة كما يرى فى النوم. وقيل: كأنه مثلت أحوالهم التى كانت فى الحياة الدنيا، كيف تعبدوا، وكيف حجوا، وكيف لبوا، ولهذا قال: «كأنى» ... وقيل: كأنه أخبر بالوحى عن ذلك، فلشدة قطعه به قال: «كأنى أنظر إليه» . انتهى. وقد ذكرت فى مقصد الإسراء من ذلك ما يكفى والله الموفق. ولما نزل- صلى الله عليه وسلم- بسرف خرج إلى أصحابه فقال من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدى فلا. وحاضت عائشة فدخل عليها- صلى الله عليه وسلم- وهى تبكى، فقال: «ما يبكيك يا هنتاه» ، قالت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال: «وما شأنك؟» قالت: لا

_ (1) سورة يونس: 10.

أصلى، قال: «فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكونى فى حجك، فعسى الله أن يرزقكها» «1» ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. وفى رواية قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علىّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكى، فقال: «ما يبكيك» فقلت: والله لوددت أنى لم أكن خرجت العام، فقال: «ما لك، لعلك نفست؟» قلت: نعم، قال: «هذا شئ كتبه الله على بنات آدم، افعلى ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى» «2» . الحديث. وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة، كما اختلف: هل كانت متمتعة أم مفردة؟ وإذا كانت متمتعة فقيل إنها كانت أولا أحرمت بالحج وهو ظاهر هذا الحديث. وفى حجة الوداع من المغازى عند البخارى، من طريق هشام بن عروة عن أبيه قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة. وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهرى: ولم أسق هديا، وفى رواية الأسود عنها قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نلبى لا نذكر حجّا ولا عمرة. ويحتمل فى الجمع أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردة، كما صنع غيرها من الصحابة، ثم أمر النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت متمتعة، ثم لما دخلت مكة وهى حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج. وقال القاضى عياض: واختلف فى الكلام على حديث عائشة، فقال:

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1560) فى الحج، باب: قول الله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (305) فى الحيض، باب: تقضى الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ومسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ما لك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا. قال ابن عبد البر: يريد ليس العمل عليه فى رفض العمرة وجعلها حجّا، بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة. واختلف فى جوازه من بعدهم، لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله: «ارفضى عمرتك» «1» . أى اتركى التحلل منها وأدخلى عليها الحج، فتصير قارنة، ويؤيده قوله فى رواية لمسلم «وامسكى عن العمرة» «2» أى عن أعمالها. وإنما قالت عائشة: «وأرجع بحج» لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين. واستبعد هذا التأويل لقولها فى رواية عطاء عنها «وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة» «3» أخرجه أحمد. وهذا يقوى قول الكوفيين: إن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا فى ذلك بقوله لها «دعى عمرتك» «4» ، وفى رواية «اقضى عمرتك» «5» ونحو ذلك. واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة. لكن فى رواية عطاء عنها ضعف، والرافع للإشكال فى ذلك: ما رواه مسلم من حديث جابر أن عائشة أهلت بعمرة، حتى إذا كان بسرف حاضت فقال لها النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أهلى بالحج» حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت، فقال: «قد حللت من حجتك وعمرتك» ، قالت: يا رسول الله إنى أجد نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت، قال: «فأعمرها من التنعيم» «6» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1783) فى الحج، باب: العمرة ليلة الحصبة وغيرها، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) هى رواية عند مسلم (1211) (113) وقد تقدمت. (3) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 165 و 219) من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) أخرجه البخارى (317) وقد تقدم. (5) تقدم. (6) صحيح: أخرجه البخارى (1518) فى الحج، باب: الحج على الرحل، من حديث عائشة وقد تقدم.

ولمسلم من طريق طاوس عنها: فقال لها النبى- صلى الله عليه وسلم-: «طوافك يسعك لحجك وعمرتك» فهذا صريح فى أنها كانت قارنة، لقوله: «قد حللت من حجك وعمرتك، وإنما أعمرها من التنعيم» «1» تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة، وقد وقع فى رواية مسلم: وكان- صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا إذا هويت الشئ تابعها عليه «2» . ثم قال- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» «3» . وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج، وفى منتهى سفرهم ودنوهم من مكة بسرف، كما جاء فى رواية عائشة، أو بعد طوافه بالبيت كما جاء فى رواية جابر، ويحتمل تكرار الأمر بذلك فى الموضعين. وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة. وفى رواية قالت عائشة: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، حتى قدمنا مكة فقال- صلى الله عليه وسلم-: «من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه» «4» . وهذا الحديث ظاهر فى الدلالة لأبى حنيفة وأحمد وموافقيهما، فى أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدى لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر. ومذهب مالك والشافعى وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شئ فى الحال، سواء أكان ساق هديا أم لا. واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدى، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شئ، كما لو تحلل المحرم بالحج.

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1213) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1556) فى الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء، ومسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (319) فى الحيض، باب: كيف تهل الحائض بالحج والعمرة، ومسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التى ذكرها مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» «1» فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التى احتج بها أبو حنيفة وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، ولا بد من هذا التأويل، لأن القصة واحدة، والراوى واحد، فتعين الجمع بين الروايتين على ما ذكر والله أعلم. ولما بلغ سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذا طوى- بضم الطاء وبفتحها، وقيدها الأصيلى بالكسر- عند آبار الزاهر، بات بها بى الثنيتين، فلما أصبح صلى الغداة ثم اغتسل «2» رواه البخارى. وللنسائى: كان- صلى الله عليه وسلم- ينزل بذى طوى، يبيت به حتى يصلى صلاة الصبح حين يقدم إلى مكة. ومصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك، على أكمة خشنة غليظة، ليس فى المسجد الذى بنى ثمّ، ولكن من أسفل ذلك على أكمة خشنة غليظة. وفى الصحيحين: أنه- صلى الله عليه وسلم- دخلها من أعلاها «3» . وفى حديث ابن عمر فى الصحيح: كان- صلى الله عليه وسلم- يدخل من الثنية العليا يعنى أعلى مكة من كداء «4» - بفتح الكاف والمد، قال أبو عبيد: لا يصرف- وهذه الثنية هى التى ينزل منها إلى المعلاة- مقبرة مكة- وهى التى يقال لها: الحجون- بفتح الحاء المهملة وضم الجيم-. ولم يقع أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة ليلا إلا فى عمرة الجعرانة، فإنه- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) هو عند مسلم (1211) وقد تقدم. (2) أخرجه البخارى تعليقا فى الحج، باب: الإهلال مستقبل القبلة. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1577) فى الحج، باب: من أين يخرج من مكة، ومسلم (1258) فى الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) صحيح: أخرجه مسلم (1257) فى الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

أحرم من الجعرانة، ودخل مكة ليلا، فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت «1» كما رواه أصحاب السنن الثلاثة، من حديث محرش الكعبى. وعن عطاء قال: إن شئتم فادخلوا ليلا، إنكم لستم كرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إنه كان إماما، فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس. رواه النسائى. ثم دخل- صلى الله عليه وسلم- مكة لأربع خلون من ذى الحجة. ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بنى عبد مناف، وهو باب بنى شيبة، والمعنى فيه أن باب الكعبة فى جهة ذلك الباب، والبيوت تؤتى من أبوابها، وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع، كما قال ابن عبد السلام فى «القواعد» . وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا رأى البيت قال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرّا» «2» . رواه الثورى عن أبى سعيد الشامى عن مكحول. وروى الطبرانى عن حذيفة بن أسيد: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا نظر إلى البيت قال: «اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرّا ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وبرّا ومهابة» «3» . ولم يركع- صلى الله عليه وسلم- تحية المسجد، إنما بدأ بالطواف لأنه تحية البيت كما صرح به كثير من أصحابنا، وليس بتحية المسجد. ثم استلم- صلى الله عليه وسلم- الحجر الأسود، وفى رواية جابر عند البخارى: «استلم الركن» ، والاستلام افتعال من السلام، أى التحية، قاله الأزهرى، وقيل من السلام- بالكسر- أى الحجارة، والمعنى: أنه يومئ بعصاه إلى الركن حتى تصيبه، وكانت محنية الرأس، وهى المراد بقوله فى الحديث ب «المحجن» .

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (935) فى الحج، باب: ما جاء فى العمرة من الجعرانة. من حديث محرش الكعبى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) موضوع: أخرجه الطبرانى فى الكبير عن حذيفة بن أسيد، كما فى «ضعيف الجامع» (4456) . (3) انظر ما قبله.

واعلم أن للبيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم، وللثانى: الثانية فقط، وليس للآخرين شئ منها، فلذلك يقبل الأول، ويستلم الثانى فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان. وروى الشافعى عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الحجر، فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلا. وكان إذا استلم الركن قال: «بسم الله والله أكبر» ، وكلما أتى الحجر قال: «الله أكبر» ، رواه الطبرانى. وهل كان- صلى الله عليه وسلم- طائفا على بعيره أم على قدميه؟ ففى مسلم عن عائشة: طاف- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع على بعيره. وفيه عن أبى الطفيل: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على بعيره «1» . وقد اختلف فى علة ذلك: فروى أبو داود من حديث ابن عباس: أنه- صلى الله عليه وسلم- قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته «2» ، وفى حديث جابر عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه «3» . فيحتمل أنه فعل ذلك للأمرين. قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التى يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك، لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب. وتعقب: بأنه ليس فى الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة، بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلوث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته- صلى الله عليه وسلم- كانت منوقة، أى مدربة معلمة، فيأمن معها ما يحذر من التلويث. قال بعضهم: وهذا كان- والله أعلم- فى طواف الإفاضة، لا فى طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل فى الثلاثة الأول، وذلك لا يكون

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1879) فى المناسك، باب: الطواف واجب. من حديث أبى الطفيل ولفظه رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمعجنه ثم يقبله وصححه الألبانى فى «صحيح أبى داود» . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1881) فى المناسك، باب: الطواف واجب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (3) تقدم حديث جابر مرارا.

إلا مع المشى، ولم يقل أحد رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أى بنفسه. وقال الشافعى: أما سعيه الذى طاف لمقدمه فعلى قدميه. انتهى. ولما استلم- صلى الله عليه وسلم- الحجر مضى على يمينه، فرمل ثلاثا ومشى أربعا. وكان ابتداء الرمل فى عمرة القضية، لما قدم- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلى الحجر، وأمرهم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين ليرى المشركين جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا «1» . رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس. ولما كان فى حجة الوداع رمل- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فكان سنة مستقلة. قال الطبرى: قد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعنى فى حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج، إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل، بل لهيئة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها، فلا شئ عليه. انتهى. فلو ترك الرمل فى الثلاث لم يقضه فى الأربع، لأن هيئتها السكينة فلا تغير، والله أعلم. ولما فرغ- صلى الله عليه وسلم- من طوافه أتى المقام، فقرأ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «2» فصلى ركعتين بينه وبين البيت، قرأ فيهما ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «3» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «4» ثم رجع إلى الركن الذى فيه الحجر فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «5» ، أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1266) فى الحج، باب: استحباب الرمل فى الطواف والعمرة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) سورة البقرة: 125. (3) سورة الكافرون: 1. (4) سورة الإخلاص: 1. (5) سورة البقرة: 158.

رأى البيت واستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه فى بطن الوادى رمل، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة» «1» . وفى حديث أبى الطفيل عند مسلم وأبى داود، قال: قلت لابن عباس، أخبرنى عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما قولك صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشى والسعى أفضل. هذا لفظ رواية مسلم. وفى أوله ذكر الرمل فى طواف البيت «2» . وعند أبى داود أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيؤوا العام المقبل، فيقيموا ثلاثة أيام، فقدم- صلى الله عليه وسلم- فقال لأصحابه: «أرملوا البيت» ، وفيه: طاف- صلى الله عليه وسلم- بين الصفا والمروة على بعير، لأن الناس كانوا لا يدفعون ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم «3» . وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا وصل إلى المروة رقى عليها، واستقبل البيت وكبر الله وحده، وفعل كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال: «لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة» ، فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك- صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة فى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (2) تقدم. (3) تقدم.

الآخرى وقال: «دخلت العمرة فى الحج هكذا- مرتين-، لا بل لأبد أبد» «1» . وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة. قال النووى: وقد اختلف فى هذا الفسخ، هل هو خاص للصحابة تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟ فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصّا، بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدى أن يقلب إحرامه ويتحلل بأعمالها. وقال مالك والشافعى وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم فى تلك السنة، لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج. ومما يستدل به للجماهير، حديث أبى ذر فى مسلم: كانت المتعة فى الحج لأصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- خاصة. يعنى فسخ الحج إلى العمرة «2» . وفى النسائى عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بل لنا خاصة» «3» . قال: وأما الذى فى حديث سراقة: «ألعامنا هذا أم لأبد؟» فقال: «لا، بل لأبد أبد» «4» فمعناه: جواز الاعتمار فى أشهر الحج، والقران كما سبق تفسيره. فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث: أن العمرة فى أشهر الحج جائزة إلى يوم القيامة، وكذلك القران، وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة، والله أعلم، انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (2506) فى الشركة، باب: الاشتراك فى الهدى والبدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) تقدم. (3) ضعيف: أخرجه النسائى (5/ 179) فى مناسك الحج، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة ... من حديث بلال بن الحارث- رضى الله عنه-. والحديث ضعف الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (4) تقدم.

وفى رواية النسائى أيضا: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة «1» ، يعنى متعة النساء ومتعة الحج، يعنى فسخ إلى العمرة، ومتعة النساء: هى نكاح المرأة إلى أجل، كان ذلك مباحا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم فتح مكة ثم نسخ فى أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وقد كان فيه خلاف فى العصر الأول، ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه. وكان- صلى الله عليه وسلم- مدة مقامه بمنزله الذى نزل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، يقصر الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة، لأنه قدم فى الرابع، وخرج فى الثامن، فصلى بها إحدى وعشرين صلاة، من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن، ومن يوم دخوله- صلى الله عليه وسلم- مكة وخروجه يوم النفر الثانى من منى إلى الأبطح عشرة أيام سواء. وقدم على من اليمن على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له: «بما أهللت؟» فقال: بما أهل به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «لولا أن معى الهدى لأحللت» «2» . رواه الشيخان من حديث أنس. وفى حديث البراء عند الترمذى والنسائى: دخل علىّ على فاطمة- رضى الله عنهما- فوجدها قد نضحت البيت بنضوح فغضب. فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أمر أصحابه فأحلوا، قال: قلت لها إنى أهللت بإهلال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: فأتيته فقال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كيف صنعت؟» قال: وقال لى: انحر من البدن سبعا وستين، أو ستّا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين، وأمسك من كل بدنة منها قطعة. وفى رواية جابر عند مسلم: فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثوبا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبى أمرنى بهذا، فقال: صدقت صدقت، ما قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت اللهم إنى أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معى الهدى فلا تحل. قال: فكان جماعة الهدى الذى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1224) فى الحج، باب: جواز التمتع. من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-. (2) تقدم.

قدم به على من اليمن والذى أتى به النبى- صلى الله عليه وسلم- مائة. قال: فحل الناس كلهم كلهم وقصروا إلا النبى- صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدى. فلما كان يوم التروية، وكان يوم الخميس ضحى، ركب- صلى الله عليه وسلم- وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم، وصلى- صلى الله عليه وسلم- بمنى: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة، فسار على طريق ضب، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع فى الجاهلية، وكان «الحمس» وهم قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن قطين الله، أى جيران بيته فلا نخرج من حرمه، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات، وذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ «1» . وعن جبير بن مطعم قال: أضللت حمارا لى فى الجاهلية، فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت عرفت أن الله وفقه لذلك. وفى رواية: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا، الحديث. ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- عرفة وجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر ب «القصواء» فرحلت له، فركب فأتى بطن الوادى فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمىّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا فى بنى سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن

_ (1) سورة البقرة: 199.

فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عنى، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ويقول: «اللهم اشهد» ثلاث مرات. ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا «1» . وهذا الجمع مختص بالمسافرين عند الجمهور، وعن مالك والأوزاعى، وهو وجه للشافعية: أن الجمع بعرفة وجمع للنسك، فيجوز لكل أحد. قال الأسنوى: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف. قال الشافعى والأصحاب: إذا خرج الحاج يوم التروية، ونووا الذهاب، إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر من حين خروجهم. ولما فرغ- صلى الله عليه وسلم- من صلاته ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، وكان أكثر دعائه- صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة فى الموقف: «اللهم لك الحمد كالذى نقول وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، وإليك مابى، ولك رب تراثى، اللهم إنى أعوذبك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إنى أسألك من خير ما تجئ به الرياح وأعوذبك من شر ما تجىء به الريح» «2» . رواه الترمذى من حديث على. وفى رواية ذكرها رزين: كان أكثر دعائه- صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة بعد قوله؛ لا إله إلا الله وحده لا شريك له: «اللهم لك الحمد كالذى نقول: اللهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، وإليك مابى، وعليك يا رب ثوابى، اللهم

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 290) فى المواقيت، باب: الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3520) فى الدعوات، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

إنى أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذى شر» . وفى الترمذى: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير» «1» . وكان من دعائه فى عرفة أيضا- كما فى الطبرانى الصغير- من حديث ابن عباس: «اللهم إنك تسمع كلامى، وترى مكانى، وتعلم سرى وعلانيتى، لا يخفى عليك شئ من أمرى، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته وذل جسده، ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيّا، وكن بى رؤفا رحيما، يا خير المسئولين ويا خير المعطين» «2» . وأتاه- صلى الله عليه وسلم- ناس من أهل نجد- وهو بعرفة- فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه «3» ، رواه الترمذى. وفى رواية جابر عند أبى داود، قال- صلى الله عليه وسلم- بعرفة: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف» «4» . وهناك أنزلت عليه الْيَوْمَ

_ (1) حسن: أخرجه الترمذى (3585) فى الدعوات، باب: فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3274) . (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 252) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والصغير، وفيه يحيى بن صالح الأيلى، قال العقيلى روى عنه يحيى بن بكير مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (889) فى الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، من حديث عبد الرحمن بن يعمر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) صحيح: أخرجه أبو داود (1907) فى المناسك، باب: صفة حجة النبى- صلى الله عليه وسلم- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1» الآية «2» ، كما فى الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-. وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته- وهو محرم- فمات، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكفن فى ثوبيه ولا يمس بطيب، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبى «3» . رواه البخارى ومسلم. أى يبعث على هيئته التى مات عليها. واستدل بذلك على بقاء إحرامه، خلافا للمالكية والحنفية، قال النووى: يتأول هذا الحديث على أن النهى عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه، بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وكان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة، والله أعلم. ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا، حين غاب القرص، أفاض- صلى الله عليه وسلم- من عرفة وأردف أسامة خلفه، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده: أيها الناس السكينة السكينة، وكلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد وأفاض من طريق المأزمين. وفى رواية ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم- سمع وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل وراءه فأشار بسوطه وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع» «4» ، يعنى بالإسراع. وفى رواية أبى داود: أفاض من عرفة، وعليه السكينة، ورديفه أسامة،

_ (1) سورة المائدة: 3. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: ما جاء أن عرفة كلها موقف، وأبو داود (1907) فى المناسك، باب: صفة حجة النبى، من حديث جابر وقد تقدم. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1849) فى الحج، باب: المحرم يموت يوم عرفة، ومسلم (1206) ى الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (4) صحيح: أخرجه السنائى (5/ 257) فى مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، من حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد ولفظه فإن البر ليس فى إيضاع الإبل، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

فقال: «أيها الناس، عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل» ، فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعا «1» . وفى رواية أسامة بن زيد عند الشيخين: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص «2» ، قال هشام: والنص فوق العنق. وأخرج الطبرانى فى المعجم عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفاض من عرفات وهو يقول: إليك تعدو قلقا وضنيها ... مخالف دين النصارى دينها قال فى النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله. والقلق: الانزعاج: والوضين: بالضاد المعجمة، حزام الرحل. ولما كان- صلى الله عليه وسلم- فى أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوآ خفيفا، فقال له أسامة: الصلاة يا رسول الله؟ قال: «الصلاة أمامك» «3» . فركب حتى أتى مزدلفة، وهى المسماة ب «جمع» بفتح الجيم وسكون الميم، وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أى دنى منها، وعن قتادة: إنما سميت جمعا لأنه يجمع فيها بين صلاتين، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها ويزدلفون إلى الله تعالى، أى يتقربون إليه بالوقوف فيها. انتهى. فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بها المغرب والعشاء، كل واحدة منهما بإقامة، ولا صلى إثر كل واحدة منهما «4» . وفى رواية: فأقام المغرب، ثم

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1920) فى المناسك، باب: الدفعة من عرفة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1666) فى الحج، باب: السير إذا دفع من عرفة، ومسلم (1286) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة. من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (139) فى الوضوء، باب: إسباغ الوضوء، ومسلم (1280) فى الحج، باب: إدامة الحاج التلبية. من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1673) فى الحج، باب: من جمع بينهما ولم يتطوع، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

أناخ الناس فى منازلهم ولم يجلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا «1» . وترك- صلى الله عليه وسلم- قيام الليل تلك الليلة، ونام حتى أصبح، لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب، واجتهاده- صلى الله عليه وسلم- فى الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرا، ورقد بقية ليلته مع كونه- صلى الله عليه وسلم- كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم فى عرفة، ولما هو بصدده يوم النحر من كونه ينحر بيده المباركة ثلاثا وستين بدنة، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى، كما نبه عليه فى شرح تقريب الأسانيد. وعن عباس بن مرداس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب: إنى قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإنى آخذ للمظلوم منه، قال: «أى رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم» ، فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك- صلى الله عليه وسلم-، أو قال: تبسم، فقال أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما-: بأبى أنت وأمى، إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذى أضحكك، أضحك الله سنك، قال: «إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائى وغفر لأمتى أخذ التراب فجعل يحثو على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكنى ما رأيت من جزعه» «2» ، رواه ابن ماجه. ورواه أبو داود من الوجه الذى رواه ابن ماجه ولم يضعفه. وقد جاء فى بعض الروايات عن غير العباس ما يبين أن المراد من «الأمة» من وقف بعرفة. وقال القرطبى: إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها. وقد رواه البيهقى بنحو رواية ابن ماجه ثم قال: وله شواهد كثيرة، فإن صح بشواهده ففيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال الله

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1280) وقد تقدم. (2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3013) فى المناسك، باب: الدعاء بعرفة، من حديث عباس ابن مرداس بن أبى عامر، وضعفه الألبانى.

تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» وظلم بعضهم بعضا دون الشرك. انتهى. وقال الترمذى فى الحديث الصحيح: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «2» . وهو مخصوص بالمعاصى المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد، ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه، لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هى نفسها، فلو أخرها بعده تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق. وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق كالصلاة يستتاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمى بالحج إجماعا. انتهى والله أعلم. واستأذنت سودة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة جمع، وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها، فقالت عائشة: فليتنى كنت استأذنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما استأذنته سودة، وفى رواية: فاستأذنته أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها أن تدفع قبل حطمة الناس، قالت عائشة: فلأن أكون استأذنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما استأذنت سودة أحب إلىّ من مفروح به «3» . رواه البخارى: وفى رواية أبى داود والنسائى: أرسل- صلى الله عليه وسلم- بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. فكان ذلك اليوم اليوم الذى يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، تعنى عندها «4» .

_ (1) سورة النساء: 48. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1521) فى الحج، باب: فضل الحج المبرور، ومسلم (1350) فى الحج، باب: فضل الحج، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1681) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1290) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) ضعيف: أخرجه أبو داود (1942) فى المناسك، باب: التعجيل من جمع، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

وعند مسلم: بعث أم حبيبة من جمع بليل «1» . وفى رواية البخارى ومسلم والنسائى عن ابن عباس قال: أرسلنى- صلى الله عليه وسلم- مع ضعفة أهله فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة «2» . وفى الموطأ والصحيحين والنسائى عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلى ساعة ثم قالت: يا بنى هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثم صلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ فقلت: نعم، قالت: فارتحلوا، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أذن للظعن- بالضم-: النساء فى الهوادج «3» . وقد اختلف السلف فى ترك المبيت بالمزدلفة؛ فقال علقمة والنخعى والشعبى: من تركه فاته الحج، وقال عطاء والزهرى وقتادة والشافعى والكوفيون وإسحاق: عليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف. وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع. انتهى. ولما طلع الفجر صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- الفجر حين تبين الصبح بأذان وإقامة. وفى سنن البيهقى والنسائى بإسناد صحيح على شرط مسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- قال للفضل بن العباس غداة يوم النحر: «التقط لى حصى» ، فالتقط له حصيات مثل حصى الخذف «4» - وهو بالمعجمتين- ولم يكسرها كما يفعل من لا علم عنده. وفى رواية للنسائى قال- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس، غداة النحر، وهو

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1292) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث أم حبيبة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1677) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1293) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن، والنسائى (5/ 266) فى مناسك الحج، باب: الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر الصبح بمنى. من حديث ابن عباس واللفظ للنسائى. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1679) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1292) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنها-. (4) لم أقف على رواية الفضل، ولعلها فى الكبرى، وانظر ما بعده.

- صلى الله عليه وسلم- على راحلته: «هات القط لى» ، فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن فى يده قال: «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلوّ فى الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فى الدين» «1» . قال العلماء: فى هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأى البغوى، قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح، نص عليه الشافعى فى «الأم» و «الإملاء» لكن الجمهور كما قال الرافعى: على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه، وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمى به فى الحج، وبه جزم فى «التنبيه» وأقره عليه النووى فى تصحيحه. لكن الأكثرون كما قال الرافعى، على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعى أيضا فى شرح «المهذب» . والاحتياط أن يزيد فربما سقط منها شئ. انتهى. ثم ركب النبى- صلى الله عليه وسلم- القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس «2» . وفى رواية غير جابر: وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، فنفر قبل طلوع الشمس. وفى حديث على عند الطبرى: لما أصبح- صلى الله عليه وسلم- بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم قال: «هذا الموقف وكل المزدلفة موقف» ، حتى إذا أسفر دفع. وفى رواية جابر: وأردف- صلى الله عليه وسلم- الفضل بن العباس، قال: وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع- صلى الله عليه وسلم- مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل، فحول

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 268) فى مناسك الحج، باب: التقاط الحصى. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى من حديث جابر الطويل.

الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر «1» . وفى رواية: كان الفضل رديف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده فى الحج أدركت أبى شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم» . وذلك فى حجة الوداع، رواه الشيخان وغيرهما. وقد روى أيضا من حديث عبد الله بن عباس، لكن رجح البخارى رواية الفضل لأنه كان رديف النبى- صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وكان عبد الله بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن الفضل حدث أباه بما شاهد فى تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمى جمرة العقبة، فحضره عبد الله بن عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده، ويؤيده ما فى الترمذى: أن السؤال المذكور وقع عند المنحر، بعد الفراغ من الرمى، وأن العباس كان شاهدا. وفيه: أنه- صلى الله عليه وسلم- لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله، لويت عنق ابن عمك، قال: «رأيت شابّا وشابة فلم آمن عليهما من الشيطان» . وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه. وفى هذا الحديث دلالة على جواز النيابة فى الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا لمالك فى ذلك، ولمن قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه فى الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبى حنيفة خلافا للشافعى. وعن أحمد روايتان انتهى. وفى رواية ابن عباس: أن أسامة قال: كنت ردف النبى- صلى الله عليه وسلم- من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم

_ (1) تقدم.

يزل النبى- صلى الله عليه وسلم- يلبى حتى رمى جمرة العقبة «1» . رواه الشيخان وغيرهما. وفى رواية جابر: فلما أتى- صلى الله عليه وسلم- بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير قليلا «2» . قال الإسنوى: سببه أن النصارى كانت تقف فيه، كما قاله الرافعى، أو العرب، كما قاله فى الوسيط، فأمر بمخالفتهم. قال: وظهر لى فيه معنى آخر، وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، فاستحب فيه الإسراع لما ثبت فى الصحيح: أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك «3» . وقال غيره: وهذه كانت عادته- صلى الله عليه وسلم- فى المواضع التى نزل فيها بأس الله بأعدائه، وسمى وادى محسر لأن الفيل حسر فيه، أى أعيى وانقطع عن الذهاب. انتهى. ثم سلك- صلى الله عليه وسلم- الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التى عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. رمى من بطن الوادى، وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة، وكان رميه- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، كما قاله «4» جابر فى رواية مسلم والترمذى وأبى داود والنسائى. وفى رواية أم الحصين، عند أبى داود: رأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة «5» . وفى رواية النسائى: ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه، وذكر قولا كثيرا. وعن أم جندب: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يرمى الجمرة من بطن الوادى، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) تقدم. (5) صحيح: أخرجه أبو داود (1834) فى المناسك، باب: فى المحرم يظلل، من حديث أم الحصين- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

فقالوا: الفضل بن العباس. وازدحم الناس فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف» «1» . وفى هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه، وقد مر أنه- صلى الله عليه وسلم- ضربت له قبة من شعر بنمرة. وفى رواية جابر عند مسلم وأبى داود قال: رأيته- صلى الله عليه وسلم- يرمى على راحلته يوم النحر، وهو يقول: «خذوا عنى مناسككم لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى هذه» «2» . وفى رواية قدامة عند الترمذى رأيته يرمى الجمار على ناقة له صهباء، ليس ضرب ولا طرد ولا إليك إليك «3» انتهى. ثم انصرف- صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر، وأشركه فى هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت فى قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها «4» . وفى رواية جابر عند مسلم: نحر- صلى الله عليه وسلم- عن نسائه بقرة، وقالت عائشة: نحر- صلى الله عليه وسلم- عن آل محمد فى حجة الوداع بقرة واحدة «5» . رواه أبو داود. ثم أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منزله بمنى، ثم قال للحلاق: «خذ» ، وأشار بيده إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس «6» . وفى رواية: أنه قال للحلاق: «ها» ، وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه أم سليم «7» . وفى

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (9035) فى الحج، باب: ما جاء فى كراهية طرد الناس عند رمى الجمار، من حديث قدامة بن عبد الله- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاءكم كم حج النبى. من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (5) تقدم. (6) صحيح: أخرجه مسلم (1305) فى الحج، باب: بيان أن السنة يوم النحر أن يرمى ثم ينحر ثم يحلق. من حديث أنس- رضى الله عنه-. (7) تقدم فى الذى قبله.

أخرى: فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر، فصنع مثل ذلك، ثم قال: ها هنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه «1» . وفى أخرى: رمى جمرة العقبة ثم انصرف إلى البدن فنحرها والحجام جالس، وقال بيده على رأسه، فحلق الشق الأيمن فقسمه بين من يليه، ثم قال: احلق الشق الآخر، فقال: أين أبو طلحة؟ فأعطاه إياه «2» . رواه الشيخان. وعند الإمام أحمد: أنه استدعى الحلاق فقال له وهو قائم على رأسه بالموسى، ونظر فى وجهه وقال: يا معمر، أمكنك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من شحمة أذنه وفى يدك الموسى، قال: فقلت له، أما والله يا رسول الله، إن ذلك لمن نعم الله علىّ ومنّه، قال: «أجل» «3» . وقال البخارى: وزعموا أن الذى حلق للنبى- صلى الله عليه وسلم- معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف. انتهى. وهو عند ابن خزيمة فى صحيحه، وعند الإمام أحمد: وقلم- صلى الله عليه وسلم- أظفاره وقسمها بين الناس. وعنده أيضا: من حديث محمد بن زياد، أن أباه حدثه، أنه شهد النبى- صلى الله عليه وسلم- عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحى، فلم يصبه شئ ولا صاحبه، فحلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأسه فى ثوبه فأعطاه شعره، فقسم منه على رجال وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه، وكان يخضب بالحناء والكتم. وعن أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم اغفر للمحلقين» ، قالوا يا رسول الله، وللمقصرين، قال: «اللهم اغفر للمحلقين» ، قالوا يا رسول الله، وللمقصرين، قال: «اللهم اغفر للمحلقين» ، قالوا يا رسول الله، وللمقصرين، قال: «وللمقصرين» «4» رواه الشيخان. وليس فيه تعيين: هل قاله- صلى الله عليه وسلم- فى الحديبية أو فى حجة الوداع؟

_ (1) تقدم فى الذى قبله. (2) تقدم فى الذى قبله. (3) تقدم فى الذى قبله. (4) تقدم.

قالوا: ولم يقع فى شئ من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولو وقع لقطعنا بأنه كان فى حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية. وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبى قرة فى «السنن» ومن طريقه الطبرانى فى الأوسط، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق فى المغازى. وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبى مريم السلولى عند أحمد وابن أبى شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم ومن حديث قارب بن الأسود الثقفى عند أحمد وابن أبى شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث. والأحاديث التى فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا، وأصح إسنادا، ولهذا قال النوى عقب أحاديث ابن عمر وأبى هريرة وأم الحصين: هذه أحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت فى حجة الوداع. قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كانت فى الحديبية، وجزم إمام الحرمين فى النهاية أن ذلك كان فى الحديبية، ثم قال النووى: ولا يبعد أن يكون وقع ذلك فى الموضعين. انتهى. وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب. قال فى فتح البارى: بل هو المتعين لتظاهر الروايات بذلك فى الموضعين، إلا أن السبب فى الموضعين مختلف، فالذى فى الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال، لما دخل عليهم من الحزن، لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم فى أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبى- صلى الله عليه وسلم- وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو- صلى الله عليه وسلم- قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعضهم وقص بعضهم، فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر، ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب فى حديث ابن عباس، فإن فى آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: «لأنهم لم يشكوا» . وأما السبب فى تكرير الدعاء للمحلقين فى حجة الوداع، فقال ابن

الأثير فى «النهاية» : كان أكثر من حج معه- صلى الله عليه وسلم- لم يسق الهدى، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤسهم، شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير فى أنفسهم أخف من الحلق، ففعله أكثرهم، فرجح- صلى الله عليه وسلم- فعل من حلق لكونه أبين فى امتثال الأمر. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد، لأن المتمتع يستحب فى حقه أن يقصر فى العمرة ويحلق فى الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك فى حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابى وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن فعل الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى. وفى رواية عبد الله بن عمرو بن العاص: وقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: «اذبح ولا حرج» ، ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمى؟ فقال: «ارم ولا حرج» . قال: فما سئل عن شئ قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج «1» . رواه مسلم. وفى رواية: حلقت قبل أن أرمى «2» ، وفى رواية: وقف- صلى الله عليه وسلم- على راحلته فطفق الناس يسألونه فيقول القائل منهم: يا رسول الله إنى لم أكن أشعر أن الرمى قبل النحر، فنحرت قبل أن أرمى، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فارم ولا حرج» ، قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال- صلى الله عليه وسلم-: «افعلوا ذلك ولا حرج» «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (83) فى العلم، باب: الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، ومسلم (1306) فى الحج، باب: من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمى. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. (2) تقدم فى الذى قبله. (3) تقدم فى الذى قبله.

وفى رواية: أنه- صلى الله عليه وسلم- بينا هو قائم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب أن كذا وكذا، قبل كذا وكذا، وفى رواية: حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمى وأشباه ذلك. وفى رواية: حلقت قبل أن أذبح، ذبحت قبل أن أرمى. ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدى أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعى بعده، وقد تقدم أنه- صلى الله عليه وسلم- رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق. وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض، إلا أنهم اختلفوا فى وجوب الدم فى بعض المواضع. ومذهب الشافعى وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث: الجواز وعدم وجوب الدم لقوله- صلى الله عليه وسلم- للسائل: «لا حرج» ، وهو ظاهر فى رفع الإثم والفدية معا، لأن اسم الضيق يشملهما. وقال الطحاوى: ظاهر الحديث يدل على التوسعة فى تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، إلا أنه يحتمل أن يكون قوله «لا حرج» أى لا إثم فى ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية. وتعقب: بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه- صلى الله عليه وسلم- حينئذ لأنه وقت الحاجة فلا يجوز تأخير عنه. وتمسك الإمام أحمد بقوله فى الحديث «لم أشعر» وبما فى رواية يونس عند مسلم، وصالح عند أحمد فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعضها إلا قال: «افعل ولا حرج» بأنه إذا كان ناسيا أو جاهلا فلا شئ عليه وإن كان عالما فلا. قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوى من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول فى الحج لقوله «خذوا عنى مناسككم» وهذه الأحاديث

المرخصة فى تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل «لم أشعر» فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع فى الحج. انتهى. وعن أبى بكرة قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم النحر قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان» . وقال: «أى شهر هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس ذا الحجة؟» قلنا: بلى، قال: «أى بلد هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس البلد الحرام؟» قلنا: بلى، قال: «فأى يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا فى شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعن بعدى كفارا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» «1» . رواه الشيخان. وفى رواية للبخارى: «فودع الناس» . ووقع فى طريق ضعيفة عند البيهقى من حديث ابن عمر سبب ذلك، ولفظه: أنزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «2» على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب ووقف بالعقبة واجتمع إليه الناس فقال: يا أيها الناس فذكر الحديث. وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه أخذ الشافعى ومن تبعه.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1741) فى الحج، باب: الخطبة أيام منى، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-. (2) سورة النصر: 1.

وخالف فى ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة: سابع ذى الحجة، ويوم عرفة، وثانى يوم النحر بمنى. ووافقهم الشافعى إلا أنه قال: بدل ثانى النحر ثالثه، لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهى يوم النحر، قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمى والذبح والحلق والطواف. وتعقبه الطحاوى: بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج، لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذى يتعلق بيوم النحر، فعلمنا أنها لم تقصد لأجل الحج. وقال ابن بطال: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذى اجتمع من أقاصى الدنيا، فظن الذى رآه أنه خطب. قال: وأما ما ذكره الشافعى: أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين، لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة: انتهى. وأجيب: بأنه- صلى الله عليه وسلم- نبه فى الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم ذى الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة، فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة، يعكر عليه فى كونه يرى مشروعية الخطبة ثانى يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن لما كان فى كل يوم أعمال ليست فى غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب. وأما قول الطحاوى: «إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل» فلا ينفى وقوع ذلك أو شئ منه فى نفس الأمر، بل قد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شهد النبى- صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوى هذا النفى المطلق. انتهى. وقد روى أبو داود والنسائى عن عبد الرحمن بن معاذ التيمى قال:

خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن فى منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال: «بحصى الخذف» ، ثم أمر المهاجرين فنزلوا فى مقدم المسجد وأمر الأنصار أن ينزلوا من وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك «1» . وفى رواية عن عبد الرحمن بن معاذ عن رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: خطب النبى- صلى الله عليه وسلم- الناس بمنى ونزلهم منازلهم فقال: «لينزلن المهاجرون هاهنا» ، وأشار إلى ميمنة القبلة، «والأنصار هاهنا» ، وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم قال: «لينزل الناس حولهم» «2» . وعن ابن أبى نجيح عن أبيه عن رجلين من بنى بكر قالا: رأينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهى خطبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التى خطب بمنى، رواه أبو داود. وعن رافع بن عمرو المزنى قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحاء على بغلة شهباء، وعلى يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. رواه أبو داود أيضا. وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن قال: حدثتنى جدتى سراء بنت نبهان، وكانت ربة بيت فى الجاهلية، قالت خطبنا النبى- صلى الله عليه وسلم- يوم الرؤس فقال: «أى يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «أليس أوسط أيام التشريق» «3» . وفى رواية: أنه خطب أوسط أيام التشريق. رواه أبو داود أيضا. ثم ركب- صلى الله عليه وسلم- قبل الظهر فأفاض إلى البيت فطاف طواف الإفاضة،

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1951) فى المناسك، باب: النزول بمنى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) تقدم. (3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1953) فى المناسك، باب: أى يوم يخطب بمنى، من حديث سراء بنت نبهان، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

وهو طواف الزيارة والركن والصدر «1» . وفى البخارى: ويذكر عن أبى حسان عن ابن عباس، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت أيام منى «2» . وقد وصله الطبرانى من طريق قتادة عنه. وقال ابن المدينى فى «العلل» : روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام. فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام، ولم أسمعه منه، عن أبيه عن قتادة حدثنى جدى حدثنى أبو حسان عن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى الحديث. وأتى- صلى الله عليه وسلم- زمزم، وبنو عبد المطلب يسقون عليها، فقال: «انزعوا بنى عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» ، فناولوه دلوا فشرب منه «3» . وفى رواية ابن عباس: فشرب وهو قائم «4» ، وفى رواية: فحلف عكرمة: ما كان يومئذ إلا على بعير «5» ، لكن لم يعين فيها حجة الوداع ولا غيرها، إنما التعيين فى رواية جابر عند مسلم. واختلف أين صلى- صلى الله عليه وسلم- الظهر يومئذ، ففى رواية جابر عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى بمكة «6» ، وكذلك قالت عائشة. وفى حديث ابن عمر- فى الصحيحين- أنه- صلى الله عليه وسلم- أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى «7» . فرجح ابن حزم فى كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر، وتبعه على ذلك جماعة، لأنهما اثنان، وهما أولى من الواحد، ولأن عائشة أخص

_ (1) تقدم من حديث ابن عمر أخرجه مسلم. (2) صحيح: أخرجه البخارى فى الحج، باب: الزيارة يوم النحر، تعليقا عن ابن عباس. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى- صلى الله عليه وسلم-، من حديث جابر- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2027) فى الأشربة، باب: فى الشرب من زمزم قائما. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (5) صحيح: أخرجه البخارى (1637) فى الحج، باب: ما جاء فى زمزم. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (6) تقدم. (7) تقدم.

الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، ولأن سياق جابر لحجته- صلى الله عليه وسلم- من أولها إلى آخرها أتم سياق، وأحفظ للقصة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها، حتى أقرّ منها ما لا يتعلق بالمناسك، وهو نزوله- صلى الله عليه وسلم- فى الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوآ خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو لضبط مكان صلاته الظهر يوم النحر أولى، وأيضا: فإن حجة الوداع كانت فى «آذار» وهو تساوى الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس، ونحر بدنة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض، وطاف وشرب من ماء زمزم، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضى فى مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك الظهر فى فصل آذار. ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر: بأنه لا يحفظ عنه فى حجته- صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلى بمنزله بالمسلمين مدة مقامه، وبأن حديث ابن عمر متفق عليه، وحديث جابر من إفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، فإن رواته أحفظ وأشهر، وبأن حديث عائشة قد اضطرب فى وقت طوافه، فروى عنها أنه طاف نهارا، وفى رواية عنها: أنه أخر الطواف إلى الليل، وفى رواية عنها: أنه أفاض من آخر يومه، فلم تضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة. وأيضا: فإن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع، لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق مختلف فى الاحتجاج به، ولم يصرح بالسماع، بل عنعنه، فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر، انتهى. ثم رجع- صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فمكث بها ليالى أيام التشريق، يرمى الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمى الثالثة فلا يقف عندها «1» . رواه أبو داود من حديث عائشة. وعن ابن عمر- عند الترمذى-: كان

_ (1) أخرجه أبو داود (1973) فى المناسك، باب: فى رمى الجمار. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. قال الألبانى: صحيح إلا قوله حين صلى الظهر فهو منكر.

- صلى الله عليه وسلم- إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا «1» . وفى رواية أبى داود: وكان يستقبل القبلة فى الجمرتين الدنيا والوسطى، ويرمى جمرة العقبة من بطن الوادى «2» الحديث. واستأذنه- صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالى منى، من أجل السقاية فأذن له «3» ، رواه البخارى ومسلم من رواية ابن عمر، وفى رواية الإسماعيلى: رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالى منى من أجل سقايته. وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير ب «الرخصة» يقتضى أن يقابلها: العزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما فى معناها لم يحصل الإذن. وبالوجوب قال الجمهور. وفى قول للشافعى، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: أنه سنة. ووجوب الدم بتركه مبنى على هذا الخلاف. ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وهل يختص الإذن بالسقاية، وبالعباس؟ الصحيح العموم، والعلة فى ذلك إعداد الماء للشاربين. وجزم الشافعى، بإلحاق من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يتعهده، بأهل السقاية، كما جزم الجمهور: بإلحاق الرعاء خاصة، وهو قول أحمد. قالوا: ومن ترك المبيت لغير عذر وجب عليه دم عن كل ليلة. ثم أفاض- صلى الله عليه وسلم- بعد الظهر يوم الثلاثاء- بعد أن أكمل رمى أيام التشريق، ولم يتعجل فى يومين- إلى المحصب، وهو الأبطح، وحده: ما بين

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (900) فى الحج، باب: ما جاء فى رمى الجمار راكبا وماشيا. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1751) فى الحج، باب: 7 ذا رمى الجمرتين يقوم ويهل مستقبل القبلة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1745) فى الحج، باب: هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالى منى. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

الجبلين إلى المقبرة، وهو خيف بنى كنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هناك، وكان على ثقله، قال أبو رافع: لم يأمرنى- صلى الله عليه وسلم- أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكنى جئت فضربت فيه قبته فجاء فنزل «1» . رواه مسلم. وفيه وفى البخارى، عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر والعصر يوم النفر بالأبطح «2» . وفيهما من حديث أبى هريرة: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال- من الغد يوم النحر، وهو بمنى-: «نحن نازلون غدا بخيف بنى كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» «3» ، يعنى بذلك المحصب. وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بنى هاشم وبنى المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم-. وعن ابن عباس، ليس التحصيب بشئ، إنما هو منزل نزله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «4» ، أى: ليس التحصيب من أمر المناسك الذى يلزم فعله، لكن لما نزل به- صلى الله عليه وسلم- كان النزول به مستحبّا اتباعا له، لتقريره على ذلك، وقد فعله الخلفاء بعده «5» ، كما فى مسلم. وعن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به «6» ، رواه البخارى. وهذا

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1313) فى الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب يوم النفر والصلاة. من حديث أبى رافع- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1653) فى الحج، باب: أين يصلى الظهر يوم التروية. من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1589) فى الحج، باب: نزول النبى بمكة. من حديث أبى هريرة. (4) صحيح: أخرجه البخارى (1766) فى الحج، باب: المحصب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (5) صحيح: أخرجه مسلم (1310) فى الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. ولفظه حصب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والخلفاء بعده. (6) صحيح: أخرجه البخارى (1756) فى الحج، باب: طواف الوداع. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

هو طواف الوداع، ومذهب الشافعى أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح: وهو قول أكثر العلماء. وقال مالك وداود: هو سنة لا شئ بتركه. واختلف فى المرأة إذا حاضت بعد ما طافت طواف الإفاضة، هل عليها طواف الوداع أم لا؟ وكان ابن عباس يرخص لها أن تنفر إذا أفاضت وكان ابن عمر يقول فى أول أمره: إنها لا تنفر، ثم قال فى آخر أمره: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رخص لهن «1» . رواه الشيخان. وعن عائشة: أن صفية بنت حيى حاضت، فذكر ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أحابستنا هى؟» قالوا: إنها قد أفاضت، قال: «فلا إذن» «2» . ومعنى أحابستنا هى؟ أى أمانعتنا من التوجه من مكة فى الوقت الذى أردنا التوجه فيه؟ ظنا منه- صلى الله عليه وسلم- أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجه ولا يأمرها بالتوجه معه وهى باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثانى. وفى رواية: فحاضت صفية، فأراد النبى- صلى الله عليه وسلم- منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت يا رسول الله إنها حائض. قال: «أحابستنا هى؟» «3» الحديث. وهذا مشكل، لأنه- صلى الله عليه وسلم- إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول: «أحابستنا هى؟» وإن كان ما علم، فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثانى؟ ويجاب عنه: بأنه- صلى الله عليه وسلم- ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه فى طواف الإفاضة فأذن لهن، فكان بانيا على أنها قد حلت، فلما قيل له إنها حائض جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (330) فى الحيض، باب: المرأة تحيض بعد الإفاضة، ومسلم (1328) فى الحج، باب: طواف الوداع وسقوطه على الحائض. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1211) فى الحج، باب: وجوب طواف الوداع وسقوط الحائض. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) تقدم.

فاستفهم عن ذلك، فأعلمته عائشة أنها طافت معهن فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى. وقالت عائشة: يا رسول الله، ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبى بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج «1» . رواه الشيخان. وفى رواية لمسلم أنها وقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال لها- يعنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» ، فقالت: يا رسول الله، إنى أجد فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت، قال: «فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم» ، وذلك ليلة الحصبة. زاد فى رواية: وكان- صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا، إذا هويت شيئا تابعها عليه «2» . وقد كانت عائشة قارنة، لأنها كانت قد أهلت بالعمرة، فحاضت فأمرها فأدخلت عليها الحج، وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها، فوجدت فى نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلتين، فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرنّ، وترجع هى بعمرة فى ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها. ثم ارتحل- صلى الله عليه وسلم- راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى «3» - بضم الكاف مقصورا- وهى عند باب شبيكة، بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان. واختلف فى المعنى الذى لأجله خالف- صلى الله عليه وسلم- بين طريقيه، فقيل: ليتبرك به كل من فى طريقه، وقيل: الحكمة فى ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لما دخل مكة دخل منها: وقيل غير ذلك.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (317) فى الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض، ومسلم وقد تقدم. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) تقدم. (3) صحيح: أخرجه أبو داود (1868) فى المناسك، باب: دخول مكة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

وفى صحيح مسلم وغيره، من حديث ابن عباس: أنه- صلى الله عليه وسلم- لقى ركبا بالروحاء، فقال: «من القوم؟» فقالوا: المسلمون يا رسول الله، فرفعت امرأة صبيا لها فى محفة فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر» . ولما وصل- صلى الله عليه وسلم- لذى الحليفة بات بها. قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدا، وإنما كان اتفاقا، حكاه القاضى إسماعيل فى أحكامه عن محمد ابن الحسن وتعقبه. والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا. فلما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . ثم دخل المدينة نهارا من طريق المعرّس- بفتح الراء المشددة وبالمهملتين- وهو مكان معروف، فكل من المعرس والشجرة التى بات بها- صلى الله عليه وسلم- فى ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة. انتهى ملخصا من فتح البارى وغيره، والله أعلم. وأما عمره- صلى الله عليه وسلم-، فالعمرة فى اللغة: الزيارة. ومذهب الشافعى وأحمد وغيرهما: أنها واجبة كالحج، والمشهور عن المالكية أنها تطوع وهو قول الحنفية. وقد اعتمر- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر، ففى الصحيحين وسنن الترمذى وأبى داود عن قتادة قال: سألت أنسا: كم حج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: حج حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرة فى ذى القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين «1» ، هذا لفظ رواية الترمذى وقال: حسن صحيح. وفى رواية الصحيحين: اعتمر أربع عمر، كلهن فى ذى القعدة إلا التى مع حجته: عمرة الحديبية- أو زمن الحديبية- فى ذى القعدة، وعمرة من العام

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاء فى حج النبى. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

المقبل فى ذى القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين فى ذى القعدة، وعمرة فى حجته «1» . وعن محرش الكعبى: أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج من الجعرانة ليلا معتمرا، فدخل مكة ليلا، فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد، خرج من بطن سرف، حتى جاء مع الطريق طريق جمع ببطن سرف، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس «2» . رواه الترمذى وقال: حديث غريب. وعن ابن عمر قال: اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحج «3» ، رواه أبو داود. وعن عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع صوتها بالسواك تستن، قال: فقلت يا أبا عبد الرحمن، اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- فى رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أى أمتاه، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- فى رجب، فقالت: يغفر الله لأبى عبد الرحمن، لعمرى ما اعتمر فى رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وأنا معه. قال عروة: وابن عمر يسمع، فما قال: لا ولا نعم، سكت «4» . وفى رواية أبى داود عن عروة عن عائشة قالت: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرتين فى ذى القعدة، وعمرة فى شوال «5» . وفى رواية له عن مجاهد

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1780) فى الحج، باب: كم اعتمر النبى. من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (935) فى الحج، باب: ما جاء فى العمرة من الجعرانة. من حديث محرش الكعبى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (1986) فى المناسك، باب: العمرة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) صحيح: أخرجه مسلم (1255) فى الحج، باب: بيان عدد عمر النبى وزمانهن، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (5) أخرجه أبو داود (1991) فى المناسك، باب: العمرة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى: صحيح لكن قوله فى شوال يعنى ابتداء وإلا فهى كانت فى ذى القعدة أيضا.

قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: عمرتين، فبلغ عائشة فقالت: لقد علم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاثا سوى التى قرنها بحجة الوداع. وقد ذكرت الاختلاف فيما كان- صلى الله عليه وسلم- محرما به فى حجة الوداع. والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك. والمشهور عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان مفردا، وحديثها هذا يشعر بأنه كان قارنا، وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه قال: «إنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا» مع أن حديثه هذا المتقدم يدل على أنه كان قارنا، لأنه لم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمر مع حجته، ولم يكن متمتعا لأنه- صلى الله عليه وسلم- اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدى. واحتاج بعضهم إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا فقال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه- صلى الله عليه وسلم- باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمرها بنفسه. وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة فى حجته- صلى الله عليه وسلم- من الجمع استغنيت عن هذا التأويل المتعسف. قال بعض العلماء المحققين: وفى عدهم عمرة الحديبية التى صدّ عنها- صلى الله عليه وسلم- ما يدل على أنها عمرة تامة. وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور: أنه لا يجب القضاء على من صدّ عن البيت خلافا للحنفية، ولو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء لأن النبى- صلى الله عليه وسلم- قاضى قريشا فيها، لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التى صدّ عنها، إذ لو كان كذلك لكانت عمرة واحدة. وأما حديث أبى داود عن عائشة: أنه اعتمر فى شوال، فإن كان محفوظا فلعله يريد عمرة الجعرانة حين خرج فى شوال، ولكن إنما أحرم فى ذى القعدة. وأنكر ابن القيم أن يكون- صلى الله عليه وسلم- اعتمر فى رمضان، نعم قد أخرج الدار قطنى من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد عن أبيه عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى عمرة رمضان فأفطر

النوع السابع من عبادته ص فى ذكر نبذة من أدعيته وأذكاره وقراءته

وصمت وقصر وأتممت «1» ، وقال: إن إسناده حسن. لكن يمكن حمله على أن قولها: «فى رمضان» متعلق بقولها: خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان فى رمضان، واعتمر- صلى الله عليه وسلم- فى تلك السنة من الجعرانة، لكن فى ذى القعدة كما تقدم. وأما قول ابن القيم- فى الهدى أيضا-: ولم يكن فى عمره- صلى الله عليه وسلم- عمرة واحدة خارجا من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة. وقد أقام بمكة بعد الوحى ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أحد أنه اعتمر خارجا من مكة فى تلك المدة أصلا، فالعمرة التى فعلها وشرعها هى عمرة الداخل إلى مكة لا عمرة من كان بها، فيخرج إلى الحل ليعتمر. ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها. انتهى. فيقال عليه: بعد أن فعلته عائشة بأمره، فدل على مشروعيته. وروى الفاكهى وغيره من طريق محمد بن سيرين قال: بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل مكة التنعيم. ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها. فثبت بذلك أن ميقات العمرة الحل وأن التنعيم وغيره فى ذلك سواء والله أعلم. النوع السابع من عبادته ص فى ذكر نبذة من أدعيته وأذكاره وقراءته اختلف هل الدعاء أفضل أم تركه والاستسلام للقضاء أفضل؟ فقال الجمهور: الدعاء أفضل، وهو من أعظم العبادة، ويؤيده ما أخرجه الترمذى من حديث أنس رفعه: «الدعاء مخ العبادة» «2» . وقد تواترت الأخبار عنه- صلى الله عليه وسلم- بالترغيب فى الدعاء والحث عليه. وأخرج الترمذى وصححه ابن

_ (1) أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 188) . (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3371) فى الدعوات، باب: ما جاء فى فضل الدعاء، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

حبان والحاكم عنه- صلى الله عليه وسلم- «من لم يسأل الله يغضب عليه» «1» . وقال عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-: إنى لا أحمل همّ الإجابة ولكن هم الدعاء، فإذا أتممت الدعاء علمت أن الإجابة معه. وفى هذا يقول القائل: لو لم ترد نيل ما أرجو وآمله ... من جود كفك ما عودتنى الطلبا فإنه سبحانه وتعالى يحب تذلل عبيده بين يديه، وسؤالهم إياه، وطلبهم حوائجهم منه، وشكواهم منه إليه، وعياذتهم به منه، وفرارهم منه إليه. كما قيل: قالوا أتشكو إليه ... ما ليس يخفى عليه فقلت ربى يرضى ... ذل العبيد لديه وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء، والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء هو العبادة «3» . قال الشيخ تقى الدين السبكى: الأولى حمل الدعاء فى الآية على ظاهره. وأما قوله تعالى بعد ذلك عَنْ عِبادَتِي «4» فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا: فالوعيد إنما هو فى حق ترك الدعاء استكبارا، ومن فعل ذلك كفر، وأما تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة فيه.

_ (1) حسن: أخرجه الترمذى (3373) فى الدعوات، باب: ما جاء فى فضل الدعاء، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) سورة غافر: 60. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (3477) فى الدعوات، باب: ما جاء فى جامع الدعوات عن النبى من حديث فضالة بن عبيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) سورة غافر: 60.

وقال القشيرى فى «الرسالة» : اختلف أى الأمرين أولى، الدعاء أو السكوت والرضاء؟ فقيل الدعاء، وهو الذى ينبغى ترجيحه لكثرة الأدلة، ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار، وقيل: السكوت والرضى أولى لما فى التسليم من الفضل. انتهى. وشبهتهم: أن الداعى لا يعرف ما قدر له، فدعاؤه إن كان على وفق القدرة فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاند. وأجيب: بأنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء، لأن الله تعالى خلق الأسباب ومسبباتها. انتهى. وقد أرشد- صلى الله عليه وسلم- أمته لكيفية الدعاء فقال: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصل على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ثم ليدع بما شاء» ، رواه الترمذى من حديث فضالة بن عبيد. وقال- صلى الله عليه وسلم- فى رجل يدعو: «أوجب إن ختم بامين» «1» . رواه أبو داود. وقال: «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لى إن شئت، اللهم ارحمنى إن شئت، ولكن ليعزم على المسألة فإن الله لا مكره له» «2» ، رواه البخارى وغيره. ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه، ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى، وإن كان مأمورا فى جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى، وقيل معنى العزم أن يحسن الظن بالله فى الإجابة، فإنه يدعو كريما، وقد قال ابن عيينة: لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم من نفسه، يعنى التقصير، فإن الله تعالى قد استجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «3» . وقال- صلى الله عليه وسلم-: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لى» رواه الشيخان وغيرهما.

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (938) فى الصلاة، باب: التأمين وراء الإمام، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (6339) فى الدعوات، باب: ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) سورة الأعراف: 14.

وكان- صلى الله عليه وسلم- يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك «1» ، رواه أبو داود من حديث عائشة: والجوامع: التى تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة، أو تجمع الثناء على الله تعالى وآداب المسألة. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى دعائه: «اللهم أصلح لى دينى الذى هو عصمة أمرى، وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى، وأصلح لى آخرتى التى إليها معادى، واجعل الحياة زيادة لى فى كل خير، واجعل الموت راحة لى من كل شر» «2» . رواه مسلم من حديث أبى هريرة. وكان يقول: «اللهم انفعنى بما علمتنى، وعلمنى ما ينفعنى، وزدنى علما، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» «3» . رواه الترمذى من حديث أبى هريرة. وكان يقول: «اللهم متعنى بسمعى وبصرى. واجعلهما الوارث منى، وانصرنى على من ظلمنى، وخذ منه بثأرى» «4» . رواه الترمذى من حديث أبى هريرة أيضا. وكان أكثر دعائه: «ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» «5» . رواه الشيخان من حديث أنس. وكان يقول: «ربّ أعنى ولا تعن على، وانصرنى ولا تنصر على، وامكر

_ (1) تقدم تخريجه فى الذى قبله. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2720) فى الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) أخرجه الترمذى (3599) فى الدعوات، باب: فى العفو والعافية. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: صحيح دون قوله والحمد لله. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (3973) فى الدعوات، باب: متعنى بسمعى وبصرى، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (5) صحيح: أخرجه البخارى (4522) فى تفسير القرآن، باب: ومنهم من يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة، ومسلم (2688) فى الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة فى الدنيا. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

لى ولا تمكر على، واهدنى وانصرى على من بغى على، رب اجعلنى لك شاكرا، لك ذاكرا، لك راهبا، مطواعا لك، مخبتا إليك، أواها منيبا، رب تقبل توبتى، واغسل حوبتى، وأجب دعوتى، وثبت حجتى، وسدد لسانى، واهد قلبى، واسلل سخيمة صدرى» «1» رواه الترمذى. وكان يقول: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إنى أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أن تضلنى، أنت الحى الذى لا تموت، والجن والإنس يموتون» «2» رواه الشيخان عن ابن عباس. وكان يقول: «اللهم إنى أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى» «3» . رواه مسلم والترمذى من حديث ابن مسعود. وكان يقول: «اللهم اغفر لى خطيئتى وجهلى، وإسرافى فى أمرى، وما أنت أعلم به منى، اللهم اغفر لى جدى وهزلى، وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندى، اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شئ قدير» «4» رواه الشيخان من حديث أبى موسى. وكان أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك» «5» . رواه الترمذى من حديث أم سلمة.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3551) فى الدعوات، باب: فى دعاء النبى. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2717) فى الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2721) فى الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (6398) فى الدعوات، باب: قول النبى اللهم اغفر لى ما قدمت. من حديث عبد الله بن قيس- رضى الله عنه-. (5) صحيح: أخرجه الترمذى (2140) فى القدر، باب: ما جاء فى أن القلوب بين أصبعى الرحمن، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وكان يقول: «اللهم عافنى فى جسدى، وعافنى فى سمعى وبصرى، واجعلهما الوارث منى، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين» «1» رواه الترمذى. وكان يقول: «اللهم اغسل خطاياى بماء الثلج والبرد، ونق قلبى من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس» «2» رواه النسائى. وكان يقول: «اللهم إنى أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون» «3» . رواه فى الموطأ. وكان يدعو: «اللهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا، اقض عنى الدين وأغننى من الفقر، وأمتعنى بسمعى وبصرى وقوتى، وتوفنى فى سبيلك» «4» رواه فى الموطأ. وكان- صلى الله عليه وسلم- يتعوذ فيقول: «اللهم إنى أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذبك من فتنة المحيا والممات» «5» . رواه الشيخان من حديث أنس. وفى رواية أبى داود «اللهم إنى أعوذبك من الهم والحزن وضلع الدين وغلبة الرجال» «6» .

_ (1) ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذى (3480) فى الدعوات، باب: ما جاء فى جامع الدعوات. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى: ضعيف الإسناد. (2) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 51) فى الطهارة، باب: الوضوء بماء الثلج. من حديث عائشة وأصله فى الصحيح، وقال الألبانى: صحيح الإسناد. (3) أخرجه مالك فى الموطأ فى النداء، باب: عن الدعاء فى الصلاة المكتوبة، عن مالك أنه بلغه، والترمذى (3233) فى تفسير القرآن، باب: ومن سورة ص. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) أخرجه مالك فى الموطأ (493) فى النداء للصلاة، باب: ما جاء فى الدعاء، عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه ... الحديث. (5) صحيح: أخرجه البخارى (2823) فى الجهاد والسير، باب: ما يتعوذ من الجبن، ومسلم (2706) فى الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من العجز والكسل. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (6) ضعيف: أخرجه أبو داود (1555) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الجذام والبرص والجنون، ومن سيئ الأسقام» «1» رواه أبو داود والنسائى، من حديث أنس. وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من شر ما علمت، ومن شر ما لم أعلم» «2» . رواه مسلم من حديث عائشة. وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذبك من هذه الأربع» «3» رواه الترمذى والنسائى من حديث ابن عمرو بن العاص. وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك» «4» ، رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن عمرو بن العاص أيضا. وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم» «5» ، رواه أبو داود من حديث أبى هريرة. وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق» «6» ، رواه أبو داود من حديث أبى هريرة أيضا.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (1554) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، والنسائى (5493) فى الاستعاذة، باب الاستعاذة من الجنون، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) تقدم. (3) صحيح: أخرجه النسائى (8/ 263) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق. من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) صحيح: أخرجه مسلم (2739) فى الذكر والدعاء، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (5) صحيح: أخرجه أبو داود (1544) في الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (6) ضعيف: أخرجه أبو داود (1546) فى الصلاة، باب: الاستعاذة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» «1» . رواه أبو داود والنسائى من حديث أبى هريرة أيضا. وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو، وشماتة الأعداء» «2» . رواه النسائى. وكان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردى ومن الغرق والحرق والهرم، وأعوذ بك من أن يتخبطنى الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت فى سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا» «3» . رواه أبو داود والنسائى من حديث أبى اليسر. وكان يتعوذ من عين الجن والإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك «4» . رواه النسائى. وكان إذا خاف قوما قال: «اللهم إنا نجعلك فى نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم» «5» . رواه أبو داود. وكان يعوذ الحسن والحسين ويقول- «إن أبا كما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق» - «أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة» «6» . رواه البخارى والترمذى.

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (1547) فى الصلاة، باب: الاستعاذة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (1555) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى، فى «ضعيف سنن أبى داود» . (3) صحيح: أخرجه أبو داود (1552) فى الصلاة، باب: فى الاستعاذة، من حديث أبى اليسر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (4) صحيح: أخرجه النسائى (8/ 271) فى الاستعاذة، باب: الاستعاذة، من عين الجان، من حديث أبى سعيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (5) صحيح: أخرجه أبو داود (1537) فى الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا خاف قوما، من حديث عبد الله بن قيس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (6) صحيح: أخرجه البخارى (3371) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: «واتخذ الله إبراهيم خليلا» . من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

وقد استشكل صدور هذه الأدعية ونحوها منه- صلى الله عليه وسلم- مع قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» ووجوب عصمته، وأجيب: بأنه امتثل ما أمره الله به من تسبيحه وسؤاله المغفرة فى قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «2» . ويحتمل أن يكون قاله على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع والشكر لربه تعالى، لما علم أنه قد غفر له، ويحتمل أن يكون سؤاله ذلك لأمته وللتشريع، والله أعلم. وكان- صلى الله عليه وسلم- عند الكرب- وهو ما يهجم على الإنسان مما يأخذ بنفسه ويحزنه ويغمه. - يدعو: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرضين ورب العرش العظيم» «3» رواه البخارى. وفى رواية: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرضين ورب العرش الكريم» . قال الطيبى: صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية، ومنه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة التى تدل على تمام القدرة، والحلم الذى يدل على العلم. إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية. انتهى. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا همه أمر رفع رأسه إلى السماء وقال: «سبحان الله العظيم» . رواه الترمذى من حديث أبى هريرة. فإن قلت: هذا ذكر ليس فيه دعاء. فالجواب: إن التعرض للطلب تارة يكون بذكر أوصاف العبد من فقره وحاجته، وتارة بذكر أوصاف السيد من وحدانيته والثناء عليه. وقد قال أمية ابن أبى الصلت فى مدح عبد الله بن جدعان: أأذكر حاجتى أم قد كفانى ... حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضك الثناء

_ (1) سورة الفتح: 2. (2) سورة النصر: 1. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6345) فى الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

قال سفيان الثورى: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء، فكيف بالخالق. وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا كربه أمر قال: «يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث» «1» رواه أبو داود من حديث أنس. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «ما كربنى أمر إلا تمثل لى جبريل فقال: يا محمد قل: توكلت على الحى الذى لا يموت، والحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك، ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا» «2» رواه الطبرانى عن أبى هريرة. وتقدم فى المقصد الثامن مزيد لذلك. وكان- صلى الله عليه وسلم- يقول فى الضالة: «اللهم رادّ الضالة وهادى الضالة أنت تهدى من الضلالة، اردد علىّ ضالتى بعزتك وسلطانك، فإنها من عطائك وفضلك» «3» . رواه الطبرانى فى الصغير من حديث ابن عمر. وكان- صلى الله عليه وسلم- يدعو هكذا بباطن كفيه وظاهرهما «4» . رواه أبو داود عن أنس: وقال أبو موسى الأشعرى- كما عند البخارى- دعا النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه «5» . وعنده أيضا من حديث ابن عمر: رفع- صلى الله عليه وسلم- يديه فقال: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد» «6» .

_ (1) أخرجه الترمذى (3524) فى الدعوات، من حديث أنس- رضى الله عنه-، وقال الترمذى: حديث غريب. (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (7/ 52) و (10/ 258) وقال: رواه أبو يعلى وفيه موسى بن عبيدة الربذى وهو ضعيف. (3) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 133) وقال: رواه الطبرانى فى الثلاثة، وفيه عبد الرحمن بن أبى عباد المكى، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. (4) أخرجه أبو داود (1487) فى الصلاة، باب: الدعاء، وقال الشيخ الألبانى: صحيح بلفظ جعل ظاهر كفيه مما يلى وجهه وباطنهما مما يلى الأرض. (5) أخرجه البخارى (تعليقا) فى الدعوات، باب: رفع الأيدى فى الدعاء. (6) صحيح: أخرجه البخارى (4339) فى المغازى، باب: بعث النبى خالد بن الوليد إلى بنى خزيمة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

لكن فى حديث أنس «لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه فى شئ من دعائه إلا فى الاستسقاء» «1» وهو حديث صحيح. ويجمع بينه وبين ما تقدم: بأن الرفع فى الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان فى حذو الوجه مثلا، وفى الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت فى كل منهما «حتى يرى بياض إبطيه» بل يجمع: بأن تكون رؤية البياض فى الاستسقاء أبلغ منها فى غيره، وإما أن الكفين فى الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء. قال الحافظ عبد العظيم المنذرى: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح. انتهى. وروى الإمام أحمد والحاكم وأبو داود أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه إذا دعا حذو منكبيه. وفى رواية ابن ماجه: وبسطهما. وهذا يقتضى أن تكونا متفرقتين مبسوطتين، لا كهيئة الاغتراف. قال الحافظ ابن حجر: غالب الأحاديث التى وردت فى رفع اليدين فى الدعاء إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء. وروى ابن عباس: كان- صلى الله عليه وسلم- إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما مما يلى وجهه. رواه الطبرانى فى الكبير بسند ضعيف. وهل يمسح بهما وجهه؟ أما فى القنوت فى الصلاة فالأصح، لا، لعدم وروده فيه، قال البيهقى: لا أحفظ فيه عن أحد من السلف شيئا، وإن روى عن بعضهم فى الدعاء خارج الصلاة، وقد روى فيه عن النبى- صلى الله عليه وسلم- خبر ضعيف مستعمل عند بعضهم فى الدعاء خارجها، فأما فيها فعمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس، والأولى أن لا يفعله. وقد دعا- صلى الله عليه وسلم- لأنس فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته» «2» . رواه البخارى. وفى «الأدب المفرد» له، عن أنس قال: قالت أم

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1031) فى الجمعة، باب: رفع الإمام يده فى الاستسقاء، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6334) فى الدعوات، باب: قول الله تعالى وصل عليهم.. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

سليم- وهى أم أنس-: خويدمك ألا تدعو له؟ فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته، واغفر له» «1» . وفى الصحيح: إن أنسا كان فى الهجرة ابن تسع سنين، وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل- وقيل- سنة ثلاث- وله مائة وثلاث سنين. قاله خليفة وهو المعتمد. وأكثر ما قيل فى سنه: أنه بلغ مائة سنة وسبع سنين، وأقل ما قيل فيه بلغ تسعا وتسعين سنة. وأما كثرة ولده، فروي مسلم قال أنس: «فو الله إن مالى لكثير، وإن ولدى وولد ولدى ليعادون على نحو المائة اليوم» «2» . وورد فى حديث رواه الشيخان «أن أنسا قال: أخبرتنى ابنتى أمينة- بضم الهمزة وفتح الميم، وسكون المثناة التحتية، بعدها نون- أنه دفن من صلبى إلى مقدم الحجاج البصرة مائة وعشرون» . وقال ابن قتيبة فى «المعارف» : كان بالبصرة ثلاث ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه: أبو بكرة، وخليفة بن بدر، وأنس، وزاد غيره رابعا: وهو المهلب بن أبى صفرة. وأخرج ابن سعد عن أنس قال: دعا لى النبى- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره، واغفر له» ، فقد دفنت من صلبى مائة واثنين، وإن ثمرتى لتحمل فى السنة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة، وأرجو الرابعة «3» . وأخرج الترمذى عن أبى العالية فى ذكر أنس: وكان له بستان يؤتى فى كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان تفوح منه رائحة المسك «4» . ورجاله ثقات. ودعا- صلى الله عليه وسلم- لمالك بن ربيعة السلولى أن يبارك له فى ولده، فولد له

_ (1) صحيح: وقد تقدم. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2481) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أنس. من حديث أنس بن مالك. (3) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات» (7/ 20) . (4) صحيح: أخرجه الترمذى (3833) فى المناقب، باب: مناقب أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ثمانون ذكرا، رواه ابن عساكر. وأرسل- صلى الله عليه وسلم- إلى على يوم خيبر، وكان أرمد، فتفل فى عينيه وقال: «اللهم أذهب عنه الحر والبرد» ، قال: فما وجدت حرّا ولا بردا منذ ذلك اليوم، ولا رمدت عيناى «1» . وبعث- صلى الله عليه وسلم- عليّا إلى اليمن قاضيا فقال: يا رسول الله، لا علم لى بالقضاء، فقال: «ادن منى» ، فدنا منه، فضرب يده على صدره وقال: «اللهم اهد قلبه وثبت لسانه» ، قال على: فو الله ما شككت فى قضاء بين اثنين «2» ، رواه أبو داود وغيره. وعاد- صلى الله عليه وسلم- عليّا من مرض فقال: «اللهم اشفه اللهم عافه» ، ثم قال: «قم» ، قال على: فما عاد لى ذلك الوجع بعد «3» . رواه الحاكم وصححه البيهقى وأبو نعيم. ومرض أبو طالب، فعاده النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا ابن أخى ادع ربك الذى تعبد أن يعافينى، فقال: «اللهم اشف عمى» ، فقام أبو طالب كأنما نشط من عقال، فقال: يا ابن أخى، إن ربك الذى تعبد ليطيعك، فقال: «وأنت يا عماه لئن أطعت الله ليطيعنك» . رواه ابن عدى والبيهقى وأبو نعيم من حديث أنس. وتفرد به الهيثمى، وهو ضعيف. ودعا- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: «اللهم فقهه فى الدين، اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل» «4» . رواه البغوى وابن سعد. وفى البخارى: «اللهم علمه الكتاب» «5» فكان عالما بالكتاب، حبر الأمة، بحر العلم، رئيس المفسرين، ترجمان القرآن، وكونه فى الدرجة العليا والمحل الأقصى لا يخفى. وقال للنابغة الجعدى لما قال:

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 122) وعزاه للطبرانى فى الأوسط. (2) صحيح: أخرجه ابن ماجه (2310) فى الأحكام، باب: ذكر القضاة. من حديث على ابن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (3) أخرجه الترمذى (3564) فى الدعوات عن رسول الله، باب: فى دعاء المريض، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، ولفظه.. اللهم عافه أو اشفه- شكية الشاك- فما اشتكيت وجعى بعد قال الترمذى: وهذا حديث حسن صحيح. وقال الألبانى: ضعيف. (4) صحيح: بمعناه، وانظر ما بعده. (5) صحيح: أخرجه البخارى (75) فى العلم، باب: قول النبى اللهم علمه الكتاب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

ولا خير فى حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمى صفوه أن يكدرا ولا خير فى علم إذا لم يكن له ... حكيم إذا ما أورد الأمر أصدرا «لا يفضض الله فاك» «1» أى لا يسقط الله أسنانك، وتقديره: لا يسقط الله أسنان فيك، فحذف المضاف: قال: فأتى عليه أكثر من مائة سنة وكان من أحسن الناس ثغرا. رواه البيهقى. وقال فيه: فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن، وفى رواية ابن أبى أسامة: وكان من أحسن الناس ثغرا وإذا سقطت له سن، نبتت له أخرى، وعند ابن السكن: فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد لدعوته- صلى الله عليه وسلم-. وسقاه- صلى الله عليه وسلم- عمرو بن أحطب ماء فى قدح قوارير، فرأى فيه شعرة بيضاء فأخذها، فقال: «اللهم جمله» ، فبلغ ثلاثا وتسعين سنة وما فى لحيته ورأسه شعرة بيضاء «2» ، رواه الإمام أحمد من طريق أبى نهيك. قال أبو نهيك: فرأيته ابن أربع وتسعين سنة وليس فى لحيته شعرة بيضاء «3» . وصححه ابن حبان والحاكم. وأخرج البيهقى عن أنس أن يهوديّا أخذ من لحية النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم جمله» . فاسودت لحيته بعد أن كانت بيضاء. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: حلب يهودى للنبى- صلى الله عليه وسلم- ناقة، فقال: «اللهم جمله» ، فاسود شعره، حتى صار أشد سوادا من كذا وكذا. قال معمر: وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش تسعين سنة فلم يشب. أخرجه ابن أبى شيبة وأبو داود فى المراسيل والبيهقى وقال: مرسل شاهد لما قبله. وقال- صلى الله عليه وسلم- لابن الحمق الخزاعى، وقد سقاه- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم متعه بشبابه» ، فمرت عليه ثمانون سنة ولم ير شعرة بيضاء، رواه أبو نعيم وغيره.

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (8/ 126) ، وقال: رواه البزار، وفيه يعلى بن الأشدق، وهو ضعيف. (2) أخرجه أحمد (5/ 340) من حديث أبى زيد الأنصارى- رضى الله عنه-. (3) أخرجه أحمد (5/ 340) من حديث أبى زيد الأنصارى- رضى الله عنه-.

وجاءته فاطمة وقد علاها الصفرة من الجوع، فنظر إليها- صلى الله عليه وسلم- ووضع يده على صدرها ثم قال: «اللهم مشبع الجاعة لا تجع فاطمة بنت محمد» قال عمران بن حصين: فنظرت إليها وقد علاها الدم على الصفرة فى وجهها، ولقيتها بعد فقالت: ما جعت يا عمران، ذكره يعقوب بن سليمان الأسفراينى فى دلائل الإعجاز. ودعا- صلى الله عليه وسلم- لعروة بن الجعد البارقى فقال: «اللهم بارك فى صفقة يمينه» قال فما اشتريت شيئا قط إلا وربحت فيه. وقال لجرير وكان لا يثبت عل الخيل، وضرب فى صدره: «اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا» . قال فما وقعت عن فرسى بعد «1» . وقال لسعد بن أبى وقاص: «اللهم أجب دعوته» . فكان مجاب الدعوة. رواه البيهقى والطبرانى فى الأوسط. ودعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة. رواه الشيخان عن أنس، زاد البيهقى من وجه آخر، قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة «2» . الحديث. قال القاضى عياض: وقد فتح الله عليه ومات فحفر الذهب فى تركته بالفؤوس حتى مجلت فيه الأيدى، وأخذت كل زوجة ثمانين ألفا، وكن أربعا، وقيل: مائة ألف، وقيل: بل صولحت إحداهن لأنه طلقها فى مرض موته على ثمانين ألفا. وأوصى بخمسين ألفا بعد صدقاته الفاشية فى حياته، وعوارفه العظيمة، أعتق يوما ثلاثين عبدا، وتصدق مرة بعير فيها سبعمائة بعير، وردت عليه تحمل من كل شئ فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها. وذكر المحب الطبرى، مما عزاه للصفوة عن الزهرى: أنه تصدق بشطر ماله: أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس فى سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة فى سبيل الله،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3020) فى الجهاد والسير، باب: حرق الدور والنخيل. من حديث جرير- رضى الله عنه-. (2) أخرجه أحمد (3/ 271) من حديث عبد الرحمن بن عوف- رضى الله عنه-.

وكان عامة ماله من التجارة. ودعا على مضر فأقحطوا حتى أكلوا العلهز- وهو الدم بالوبر- حتى استعطفته قريش. ولما تلى- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «1» قال عتيبة بن أبى لهب. كفرت برب النجم، «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» . فخرج عتيبة مع أصحابه فى عير إلى الشام حتى إذا كانوا بالشام زأر أسد، فجعلت فرائصه ترعد، فقيل له: من أى شئ ترتعد؟ فو الله ما نحن وأنت فى هذا إلا سواء، فقال: إن محمدا دعا على، ولا والله ما أظلت هذه السماء من ذى لهجة أصدق من محمد. ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يديه فيه حتى جاء النوم، فأحاطوا به وأحاطوا أنفسهم بمتاعهم، ووسطوه بينهم وناموا، فجاء الأسد يستنشق رؤسهم رجلا رجلا حتى انتهى إليه فمضغه مضغة، وهو يقول: ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس، ومات. ذكره يعقوب الأسفراينى: وتقدم فى ذكره أولاده- صلى الله عليه وسلم- قصة بنحو هذه. وعن مازن الطائى، وكان بأرض عمان، قلت: يا رسول الله، إنى امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر والنساء، وألحت علينا السنون، فأذهبن الأموال وأهزلن الذرارى والرجال، وليس لى ولد، فادع الله أن يذهب عنى ما أجد ويأتينى بالحياء ويهب لى ولدا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وائته بالحياء، وهب له ولدا» قال مازن: فأذهب الله عنى كل ما كنت أجد، وأخصبت عمان وتزوجت أربع حرائر، ووهب الله لى حيان بن مازن. رواه البيهقى. ولما نزل- صلى الله عليه وسلم- بتبوك صلى إلى نخلة فمر رجل بينه وبينها فقال- صلى الله عليه وسلم-: «قطع صلاتنا قطع الله أثره فأقعد فلم يقم» «2» . رواه أبو داود والبيهقى، لكن سنده ضعيف.

_ (1) سورة النجم: 1. (2) ضعيف: أخرجه أبو داود (706) فى الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

وأكل رجل عنده بشماله فقال: «كل بيمينك» قال: لا أستطيع، قال: «لا استطعت» فما رفعها إلى فيه بعد «1» . والرجل هو بسر- بضم الموحدة وسكون المهملة- ابن راعى العير، بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية. وطلب- صلى الله عليه وسلم- معاوية، فقيل له إنه يأكل، فقال فى الثانية: «لا أشبع الله بطنه» ، فما شبع بطنه أبدا «2» ، رواه البيهقى من حديث ابن عباس، وكان معاوية رديفه يوما فقال: «يا معاوية، ما يلينى منك؟» قال: بطنى؟ قال: «اللهم املأه علما وحلما» . رواه البخارى فى تاريخه. وقال لابن ثروان: «اللهم أطل شقاءه وبقاءه» فأدرك شيخا كبيرا شقيّا يتمنى الموت. وكم له- صلى الله عليه وسلم- من دعوات مستجابات، وقد أفرد القاضى عياض بابا فى الشفاء ذكر فيه طرفا منها، وكذا الإمام يوسف بن يعقوب الإسفراينى فى كتابه «دلائل الإعجاز» فكم أجابه الله تعالى إلى مسئوله، وأجناه من شجرة دعائه ثمرة سؤله. وأما حديث أبى هريرة عند البخارى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لكل نبى دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى فى الآخرة» «3» فقد استشكل ظاهره بما ذكرته، وبما وقع لنبينا ولكثير من الأنبياء- صلى الله عليهم وسلم- من الدعوات المجابة، فإن ظاهره أن لكل نبى دعوة مجابة فقط. وأجيب: بأن المراد بالإجابة فى الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهم على رجاء الإجابة. وقيل: معنى قوله «لكل نبى

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2021) فى الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامها، من حديث سلمة بن عمرو بن الأكوع- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أصله فى مسلم (2604) فى البر والصلة، باب: من لعنه النبى أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6304) فى الدعوات، باب: لكل نبى دعوة مستجابة، ومسلم (199) فى الإيمان، باب: اختباء النبى دعوة الشفاعة لأمته. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

دعوة» أى أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى، وقيل: لكل منهم دعوة عامة مستجابة فى أمته، إما بإهلاكهم، وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة: فمنها ما يستجاب ومنها لا يستجاب. وقيل: لكل نبى منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» وقول زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي «2» ، وقول سليمان: رب هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إشارة إلى قوله: قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إنك أنت الوهاب. وأما قول الكرمانى فى شرحه على البخارى: فإن قلت: هل جاز أن لا يستجاب دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم-؟ قلت: لكل نبى دعوة مستجابة، وإجابة الباقى فى مشيئة الله تعالى، فقال العينى: هذا السؤال لا يعجبنى، فإن فيه بشاعة، وأنا لا أشك أن جميع دعوات النبى- صلى الله عليه وسلم- مستجابة. وقوله: «لكل نبى دعوة مستجابة» لا ينفى ذلك، لأنه ليس بمحصور. انتهى. ولم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم- دعا بشئ فلم يستجب. وفى هذا الحديث بيان فضيلة نبينا- صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء، حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره، - صلوات الله وسلامه عليهم-. وظاهر الحديث يقتضى أنه- صلى الله عليه وسلم- أخر الدعاء والشفاعة ليوم القيامة، فذلك اليوم يدعو ويشفع، ويحتمل أن يكون المؤخر ليوم القيامة ثمرة تلك الدعوة ومنفعتها، وأما طلبها فحصل من النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الدنيا حكاه صاحب مزيد الفتح. وقد أمر الله النبى- صلى الله عليه وسلم- بالترقى فى مراتب التوحيد بقوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «3» فإنه ليس أمرا بتحصيل ذلك العلم، لأنه عالم بذلك،

_ (1) سورة نوح: 26. (2) سورة مريم: 5، 6. (3) سورة محمد: 19.

ولا بالثبات، لأنه معصوم، فتعين أن يكون للترقى فى مراتبه ومقاماته، إشارة إلى أن العلم به تعالى والسير إليه لا نهاية له أبدا، فجميع العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية فى العالم منتظم فى سلك تحقيقها، وستثمر من أفنان طواياها، ولذا اكتفى بعلمها له- صلى الله عليه وسلم- فى الآية فالشأن كله فى تصحيح التوحيد وتجريده وتكميله، وقد قال تعالى له- صلى الله عليه وسلم-: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ «1» وقال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً «2» ، لأنه لا بد فى أول السلوك من الذكر باللسان مدة، ثم يزول الاسم ويبقى المسمى، فالدرجة الأولى هى المرادة بقوله: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ «3» ، والمرتبة الثانية هى المرادة بقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً «4» وفى استيفاء مباحث ذلك طول، يخرج عن الغرض، وقد تقدم جملة من أذكاره- صلى الله عليه وسلم- مفرقة فى الوضوء والصلاة والحج وغير ذلك. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يستغفر الله ويتوب إليه فى اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة «5» . كما رواه عنه أبو هريرة عند البخارى. وظاهره أنه يطلب المغفرة، ويعزم على التوبة، ويحتمل أن يكون المراد: أنه- صلى الله عليه وسلم- يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجح الثانى ما أخرجه النسائى بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر: أنه سمع النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه» فى المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. وله: من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: إن كنا لنعد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المجلس: «رب اغفر لى وتب على إنك أنت التواب الغفور» ، مائة مرة «6» . ويحتمل أن يريد بقوله فى حديث أبى هريرة «أكثر من سبعين

_ (1) سورة المزمل: 8. (2) سورة الأعراف: 205. (3) سورة المزمل: 8. (4) سورة الأعراف: 205. (5) صحيح: أخرجه البخارى (6307) فى الدعوات، باب: استغفار النبى فى اليوم والليلة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (6) صحيح: أخرجه الترمذى (3434) فى الدعوات، باب: ما يقول إذا قام من المجلس، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

مرة» المبالغة. ويحتمل أن يريد العدد بعينه، ولفظ «أكثر» مبهم، فيمكن أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور، وأنه يبلغ المائة. وقد وقع فى طريق أخرى عن أبى هريرة، من رواية معمر عن الزهرى بلفظ «إنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة» لكن خالف معمر أصحاب الزهرى فى ذلك. نعم أخرج النسائى أيضا من رواية محمد بن عمرو عن أبى سلمة بلفظ: «إنى لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة» «1» . وأخرج النسائى أيضا من طريق عطاء، عن أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جمع الناس فقال: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإنى أتوب إليه فى اليوم مائة مرة» «2» . واستغفاره- صلى الله عليه وسلم- تشريع لأمته، أو من ذنوبهم، وقيل غير ذلك، وتقدم ما ينتظم فى سلك ذلك. فإن قلت: ما كيفية استغفاره- صلى الله عليه وسلم-؟. فالجواب: أنه ورد فى حديث شداد بن أوس، عند البخارى: رفعه «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» . قال: «من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسى فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل موقنا بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» «3» فتعين أن هذه الكيفية هى الأفضل، وهو- صلى الله عليه وسلم- لا يترك الأفضل. وأما قراءته- صلى الله عليه وسلم- وصفتها، فكانت مدّا، يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم «4» . رواه البخارى عن أنس: ونعتتها أم سلمة: قراءة

_ (1) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (10268) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2702) فى الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6306) فى الدعوات، باب: أفضل الاستغفار. من حديث شداد بن أوس- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (5046) فى فضائل القرآن، باب: مد القراءة. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

مفسرة حرفا حرفا «1» . رواه أبو داود والنسائى والترمذى. وقالت أيضا: كان- صلى الله عليه وسلم- يقطع قراءته، يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» ثم يقف، ثم يقول: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «3» ثم يقف «4» . رواه الترمذى: وقالت حفصة: كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها «5» . رواه مسلم. وقال البراء: كان يقرأ فى العشاء وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ «6» فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه- صلى الله عليه وسلم- «7» . رواه الشيخان. فقد كانت قراءته- صلى الله عليه وسلم- ترتيلا لا هذا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفا حرفا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد، وكان يتغنى بقراءته، ويرجع صوته بها أحيانا، كما رجع يوم الفتح فى قراءة إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «8» . وحكى عبد الله بن مغافل ترجيعه: ثلاث مرات «9» ، ذكره البخارى. وإذا جمعت هذا الحديث إلى قوله: «زينوا القرآن بأصواتكم» «10» ،

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (2923) فى فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبى، والنسائى (1022) فى الافتتاح، باب: تزيين القرآن بالصوت. من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (2) سورة الفاتحة: 1. (3) سورة الفاتحة: 2. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (2927) فى القراآت، باب: فى فاتحة الكتاب. من حديث أم سلمة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (5) صحيح: أخرجه مسلم (733) فى صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا. (6) سورة التين: 1. (7) صحيح: أخرجه البخارى (769) فى الأذان، باب: القراءة فى العشاء، ومسلم (464) فى الصلاة، باب: القراءة فى العشاء. من حديث البراء- رضى الله عنه-. (8) سورة الفتح: 1. (9) صحيح: أخرجه البخارى (4281) فى المغازى، باب: أين ركز النبى الراية يوم الفتح، من حديث عبد الله بن مغافل- رضى الله عنه-. (10) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 179) فى الافتتاح، باب: تزيين القرآن بالصوت. من حديث البراء- رضى الله عنه-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

وقوله: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» «1» . وقوله: «ما أذن الله لشئ كإذنه لنبى حسن الصوت يتغنى القرآن» «2» . أى ما استمع الله لشئ كاستماعه لنبى يتغنى بالقرآن يتلوه يجهر به، يقال منه: أذن يأذن أذنا بالتحريك. علمت أن هذا الترجيع منه- صلى الله عليه وسلم- كان اختيارا، لا اضطرارا لهز الناقة له، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلا تحت الاختيار، فلم يكن عبد الله بن مغافل يحكيه ويفعله اختيارا ليتأسى به وهو يرى هذا من هز الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول: «كان يرجع فى قراءته» فنسب الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا. وقد استمع- صلى الله عليه وسلم- ليلة لقراءة أبى موسى الأشعرى، فلما أخبره بذلك قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرا. أى حسنته وزينته بصوتى تزيينا. وهذا الحديث يرد على من قال: إن قوله «زينوا القرآن بأصواتكم» من باب القلب، أى: زينوا أصواتكم بالقرآن، فإن القلب لا وجه له. قال ابن الأثير: ويؤيد ذلك تأييدا لا شبهة فيه حديث ابن عباس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لكل شئ حلية، وحلية القرآن حسن الصوت» «3» . والله أعلم. وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة اختلافا كثيرا يطول ذكره، وفصل النزاع فى ذلك أن يقال: إن التطريب والتغنى على وجهين. أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين وتعليم، بل إذا خلا فى ذلك وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين، فهذا جائز وإن أعانته طبيعته على فضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى للنبى- صلى الله عليه وسلم-: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (7527) فى التوحيد، باب: قول الله تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (7482) فى التوحيد، باب: قول الله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده ... من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق فى الجامع، والضياء عن أنس، كما فى «ضعيف الجامع» (4722) .

والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التخزين والتطريب فى القراءة. ولكن النفوس تستجلبه وتستملحه لموافقة الطبع وعدم التكلف والتصنع، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذى كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغنى المحمود، وهو الذى يتأثر به التالى والسامع. والوجه الثانى: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، ليس فى الطبائع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعليم والتكلف، فهذه هى التى كرهها السلف وعابوها وأنكروا القراءة بها. وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التى هى على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم اتقى لله من أن يقرؤا بها ويسوغوها، ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرؤن بالتخزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقراءة، ويقرؤنه بسجاياهم تارة، وتطريبا أخرى، وهذا أمر فى الطباع، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضى الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه- صلى الله عليه وسلم-، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وليس المراد الاستغناء به عن غيره كما ظنه بعضهم، ولو كان كذلك لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى. والمعروف فى كلام العرب أن التغنى إنما هو الغناء الذى هو حسن الصوت بالترجيع، كما قال الشاعر: تغن بالشعر إذا ما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار وروى ابن أبى شيبة عن عقبة بن عامر مرفوعا: «تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه» «1» . الحديث والله أعلم. وقد صح أنه- صلى الله عليه وسلم- سمع أبا موسى

_ (1) ذكره الحافظ فى «الفتح» (9/ 71) .

الأشعرى يقرأ فقال: «لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود» «1» . يعنى من مزامير داود نفسه، كما ذكره أهل المعانى. وفى طريق آخر- كما تقدم- أن أبا موسى قال: يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا «2» . قال ابن المنير: فهذا يدل على أنه كان يستطيع أن يتلو أشجى من المزامير عند المبالغة فى التحبير، لأنه قد تلا مثلها وما بلغ الحد، فكيف لو بلغ حد استطاعته. وقد كان داود- عليه السّلام- إذا أراد أن يتكلم على بنى إسرائيل يجوع سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يأتى النساء، ثم يأمر سليمان فينادى فى الضواحى والنواحى والآكام والأودية والجبال: إن داود يجلس يوم كذا، ثم يخرج له منبرا إلى الصحراء، فيجلس عليه، وسليمان قائم على رأسه، فتأتى الإنس والجن والطير والوحش والهوام والعذارى والمخدرات يسمعون الذكر، فيأخذ فى الثناء على الله بما هو أهله، فتموت طائفة من المستمعين، ثم يأخذ فى النياحة على المذنبين فتموت طائفة، فإذا استجر الموت بالخلق قال له سليمان: يا نبى الله، قد استجر الموت بالناس، وقد مزقت المستمعين كل ممزق، فيخر داود مغشيّا عليه، فيحمل على سريره إلى بيته، وينادى منادى سليمان: أيها الناس، من كان له مع داود قريب أو حميم فليخرج لافتقاده، فكانت المرأة تأتى فتقف على زوجها أو ابنها أو أخيها، فتدخل به المدينة، فإذا أفاق داود فى اليوم الثانى قال: يا سليمان، ما فعل عباد بنى إسرائيل؟ فيقول له سليمان: قد مات فلان وفلان وهلم جرا. فيضع داود يده على رأسه وينوح ويقول: يا ربّ داود، أغضبان أنت على داود حتى إنه لم يمت فيمن مات خوفا منك أو شوقا إليك؟ فلا يزال ذلك دأبه إلى المجلس الآخر، وأقام داود- عليه السّلام- على ذلك ما شاء الله تعالى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5048) فى فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ومسلم (793) فى صلاة المسافرين، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن. من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-. (2) صحيح: وقد تقدم.

ولا تظن بما ذكرته من حال بنى إسرائيل أنهم فى ذلك أعلى من هذه الأمة، فأما المزامير فحسبك ما ذكر من حال أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-، وأما الموت من الموعظة شوقا أو خوفا فلنا فيه طريقان: أحدهما: أن نقول إن القوة التى أوتيتها هذه الأمة تقاوم الأحوال الواردة عليها فتتماسك الحياة، فلا تفنى القوة الجسمانية بل القوة الروحانية، والتأييدات الإلهية. فلفرط قوة هذه الأمة- إن شاء الله تعالى- تقارب عند سلفها الصالح ما بين حال سماع الموعظة وحال عدم سماعها، لتوالى أحوال الذكر وأطوار اليقين. وقد قال بعضهم: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. فتماسك قوة السلف عند واردات الأحوال هو الذى فرق بينهم وبين من قبلهم. ألا ترى أن داود وسليمان- عليهما السلام- وهما أصحاب المزامير- لم يتفق لهما الموت كما اتفق لمن مات، وما ذلك من تقصيرهما فى الخوف والشوق، ولكن من القوة الربانية التى أمدهما بها. ولا خلاف بأن داود- عليه السّلام- وإن لم يمت من الذكر أفضل ممن مات من أمته، وأما نواحه على كونه لم يمت فذلك من التواضع الذى يزيده شرفا، لا من التقصير عن آحاد أمته، بل لارتفاعه عنهم درجات وزلفى، وإلى هذه القوة الإلهية أشار أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- وقد رأى إنسانا يبكى من الموعظة فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. عبر عن القوة بالقسوة تواضعا، ومرتبته بحمد الله محفوظة ومنزلته مرفوعة. والطريق الثانى: أن نقول: قد روي ما لا يحصى كثرة عن هذه الأمة مثل ما اتفق فى مجلس داود- عليه السّلام- من موت المستمعين للذكر فى مجلس السماع قديما وحديثا، ولأبى إسحاق الثعلبى جزء فى قتلى القرآن رويناه، وعندى من ذلك جملة أرجو تدوينها، بل قد روي عن كثير من المريدين أنهم ماتوا بمجرد النظر إلى المشايخ، كما حكى أن مريدا لأبى تراب النخشبى كان يتجلى له الحق تعالى فى كل يوم مرات، فقال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد لرأيت أمرا عظيما، فلما ارتحل المريد مع شيخه أبى تراب النخشبى لأبى يزيد

ووقع بصر المريد عليه وقع ميتا، فقال له أبو تراب يا أبا يزيد نظرة منك قتلته، وقد كان يدعى رؤية الحق فقال له أبو يزيد قد كان صاحبك صادقا، وكان الحق يتجلى له على قدر مقامه، فلما رآنى تجلى له على قدر ما رأى، فلم يطق فمات. واصطلاح أهل الطريق فى التجلى معروف، وحاصله: رتبة من المعرفة جلية علية ولم يكونوا يعنون بالتجلى رؤية البصر التى قيل فيها لموسى- عليه السّلام- على خصوصيته- لَنْ تَرانِي «1» والتى قيل فيها على العموم لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «2» . وإذا فهمت أن مرادهم الذى أثبتوه غير المعنى الذى حصل منه الناس على اليأس فى الدنيا، ووعد الخواص به فى الآخرى، فلا ضير بعد ذلك عليك. ولا طريق لسوء الظن بالقوم إليك، والله متولى السرائر. انتهى ملخصا. وإذا علمت هذا فاعلم أن السماع فى طريق القوم معروف، وفى الجواذب إلى المحبة معدود وموصوف، وقد نقل إباحته أبو طالب فى «القوت» عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن جعفر، وابن الزبير، والمغيرة بن شعبة ومعاوية، وكذا الجنيد، والسرى وذى النون، واحتج له الغزالى فى «الإحياء» بما يطول ذكره، خصوصا فى أوقات السرور المباحة، تأكيدا له وتهييجا، كعرس وقدوم غائب، ووليمة وعقيقة وحفظ قرآن، وختم درس أو كتاب أو تأليف. وفى الصحيحين من حديث عائشة: أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان فى أيام منى تدففان وتضربان، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف- صلى الله عليه وسلم- عن وجهه وقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد» «3» . وفى رواية: دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعندى جاريتان

_ (1) سورة الأعراف: 143. (2) سورة الأنعام: 103. (3) صحيح: أخرجه البخارى (988) فى الجمعة، باب: إذا فاته العيد يصلى ركعتين، ومسلم (892) فى صلاة العيدين، باب: الرخصة فى اللعب الذى لا معصية فيه فى أيام العيد. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

تغنيان بغناء يوم بعاث- بضم الموحدة والعين المهملة آخره مثلاثة- اسم حصن للأوس، وبالمعجمة تصحيف، أى تنشدان الأشعار التى قيلت يوم بعاث، وهو حرب كان بين الأنصار، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرنى وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقبل عليه- صلى الله عليه وسلم- وقال: «دعهما» . واستدل جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بالة وبغير آلة. وتعقب: بأن فى الحديث الآخر عند البخارى عن عائشة: «وليستا بمغنيتين» «1» فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنيا، وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق لما فيه من تعريض بالفواحش أو تصريح. قال القرطبى: قولها- يعنى عائشة-: «ليستا بمغنيتين» أى ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك. قال: وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين، وهو الذى يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا إذا كان فى شعر فيه وصف محاسن النساء أو الخمر أو غيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف فى تحريمه. قال: وأما ما ابتدعته الصوفية فى ذلك فمن قبيل ما لا يختلف فى تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت فى كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة، وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وأن ذلك يثمر سنىّ الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة. انتهى. والحق: أن السماع إذا وقع بصوت حسن، بشعر متضمن للصفات العلية، أو النعوت النبوية المحمدية، عريّا عن الآلات المحرمة، والحظوظ

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (952) فى الجمعة، باب: سنة العيدين لأهل الإسلام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

الخسيسة الغبية، والشبه الدنية، وآثار كامن المحبة الشريفة العلية، وضبط السامع نفسه ما أمكنه، بحيث لا يرفع صوته بالبكاء، ولا يظهر التواجد وهو يقدر على ضبط نفسه ما أمكنه مع العلم بما يجب لله ورسوله ويستحيل، لئلا ينزل ما يسمعه على ما لا يليق، كان من الحسن فى غاية، ولتمام تزكية النفس نهاية. نعم تركه والاشتغال بما هو أعلى أسلم لخوف الشبهة، وللخروج من الخلاف، إلا نادرا. وقد نقل عن الإمام الشافعى ومالك وأبى حنيفة وجماعة من العلماء ألفاظ تدل على التحريم، ولعل مرادهم ما كان فيه تهييج شيطانى، وإذا كان النظر فى السماع باعتبار تأثيره فى القلوب، لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأشخاص، واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما فى القلب، وهو لمن يرتقى لربه ترقية مثير للكامن فى النفوس من الأزل، حين خاطبنا الحق تعالى بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «1» فما كان فى القلب من رقة ووجد وحقيقة فهو من حلاوة ذلك الخطاب، والأعضاء كلها ناطقة بذكره، مستطيبة لاسمه، فالسماع من أكبر مصايد النفوس، وإذا اقترن بألحانه المناسبة، وكان الشعر متضمنا لذكر المحبوب الحق، برز الكامن وذاعت الأسرار سيما فى أرباب البدايات. وقد شوهد تأثير السماع حتى فى الحيوانات الغير الناطقة من الطيور والبهائم، فقد شوهد تدلى الطيور من الأغصان على أولى النغمات الفائقة، والألحان الرائقة، وهذا الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثيرا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه فى سماعه المسافة الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فتراه إذا طالت عليه البوادى، وأعياه الإعياء تحت الحمل إذا سمع منادى الحداء يمد عنقه ويصغى إلى الحادى، ويسرع فى سيره، وربما أتلف نفسه فى شدة السير وثقل الحمل، وهو لا يشعر بذلك لنشاطه.

_ (1) سورة الأعراف: 172.

وقد حكى مما ذكره فى «الإحياء» عن أبى بكر الدينورى: أن عبدا أسود قتل جمالا كثيرة بطيب نغمته إذا حداها، وكانت محملة أحمالا ثقيلة، فقطعت مسيرة ثلاثة أيام فى ليلة واحدة، وأنه حدا على جمل غيرها بحضرته، فهام الجمل وقطع حباله وحصل له ما غيبه عن حسه، حتى خر لوجهه. فتأثير السماع محسوس، ومن لم يحركه فهو فاسد المزاج، بعيد العلاج، زائد فى غلظ الطبع وكثافته على الجمال. وإذا كانت هذا البهائم تتأثر بالنغمات، فتأثير النفوس الإنسانية أولى. وقد قال: نعم لولاه ما ذكر العقيق ... ولا جابت له الفلوات نوق نعم أسعى إليك على جفونى ... تدانى الحى أو بعد الطريق إذا كانت تحن لك المطايا ... فماذا يفعل الصب المشوق فزبدة السماع تلطيف السر، ومن ثم وضع العارف الكبير سيدى على الوفوى حزبه المشهور على الألحان والأوزان اللطيفة، تنشيطا لقلوب المريدين وترويحا لأسرار السالكين، فإن النفوس- كما قدمناه- لها حظ من الألحان، فإذا قيلت هذه الواردات السنية الفائضة من الموارد النبوية المحمدية بهذه النغمات الفائقة والأوزان الرائقة، تشربتها العروق، وأخذ كل عضو نصيبه من ذلك المدد الوفوى المحمدى، فأثمرت شجرة خطاب الأزل بما سقيته من موارد هذه اللطائف عوارف المعارف. تنبيه: زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد من التلاوة وأظهر تأثيرا. والحجة عن ذلك: أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة، ولا تحتمله صفاتها المخلوقة، ولو كشف للقلوب ذرة من معناه لدهشت وتصدعت وتحيرت، والألحان مناسبة للطباع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان والأصوات بما فى الأبيات من الإشارات واللطائف، شاكل بعضها بعضا فكان أقرب إلى الحظوظ وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق. قاله أبو نصر السراج «1» .

_ (1) هو عبد الله بن على الطوسى أبو نصر السراج زاهد صوفى على طريقة السنة. توفى سنة (378 هـ) . الأعلام (4/ 104) ، شذرات الذهب (3/ 91) ، معجم المطبوعات (1017) .

المقصد العاشر

المقصد العاشر الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه ص اعلم- وصلنى الله وإياك بحبل تأييده، وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده- أن هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوى الإيمان. واعلم أنه لما كان الموت مكروها بالطبع، لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة، لم يمت نبى من الأنبياء حتى يخير. وأول ما أعلم النبى- صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» ، فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل الناس فى دينك الذى دعوتهم إليه أفواجا، فقد اقترب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به، من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا، فاستعد للنقلة إلينا. وقد قيل إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو- صلى الله عليه وسلم- بمنى فى حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما. وعند ابن أبى حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال. وعن مقاتل: سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا. ولأبى يعلى من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة فى أوسط أيام التشريق فى حجة الوداع، فعرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع.

_ (1) سورة النصر: 1.

وفى حديث ابن عباس، عند الدارمى: لما نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاطمة، وقال: «نعيت إلى نفسى» فبكت قال: «لا تبكى، فإنك أول أهلى لحوقا بى» ، فضحكت «2» . الحديث. وروى الطبرانى من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «3» نعيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا فى أمر الآخرة. وللطبرانى أيضا، من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة قال النبى- صلى الله عليه وسلم- لجبريل: «نعيت إلى نفسى» . فقال له جبريل: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى «4» . وروى فى حديث ذكره ابن رجب فى «اللطائف» : أنه تعبد حتى صار كالشن البالى. وكان- صلى الله عليه وسلم- يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين، وكان- صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فى ذلك العام عشرين، وأكثر من الذكر والاستغفار. وقالت أم سلمة: كان- صلى الله عليه وسلم- فى آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجئ إلا قال: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» ، فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم، فقال: «إن ربى أخبرنى أنى سأرى علما فى أمتى، وأنى إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره» ، ثم تلا هذه السورة «5» . رواه ابن جرير وابن خزيمة. وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عائشة نحوه. وروى الشيخان من حديث عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء وللأموات، ثم طلع

_ (1) سورة النصر: 1. (2) أخرجه الدارمى (79) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (3) سورة النصر: 1. (4) سورة الضحى: 4. (5) أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 184) .

المنبر فقال: «إنى بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإنى لأنظر إليه وأنا فى مقامى هذا، وإنى قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدى، ولكنى أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها» . وزاد بعضهم: «فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم» «1» . وعن أبى سعيد الخدرى: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر فقال: «إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده» ، فبكى أبو بكر- رضى الله عنه- وقال: يا رسول الله، فديناك بابائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بابائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر- رضى الله عنه-» «2» . رواه البخارى ومسلم. ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليال «إنى أبرأ إلى الله أن يكون لى منكم خليل» «3» . وكأن أبا بكر- رضى الله عنه- فهم الرمز الذى أشار به النبى- صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك فى مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1344) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ومسلم (2296) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا وصفاته، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (496) فى الصلاة، باب: الخوخة والممر فى المسجد، ومسلم (2382) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (3) تقدم فى الذى قبله.

وما زال- صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله فى آخر عمره، فإنه لما خطب فى حجة الوداع قال للناس: «خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا» وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع «1» . فلما رجع- صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى «خما» فى طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: «أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب» ، ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته «2» . قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه- صلى الله عليه وسلم- فى أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما فى المشهور. وكانت خطبته التى خطب بها المذكورة فى حديث أبى سعيد الذى قدمته فى ابتداء مرضه الذى مات فيه، فإنه خرج- كما رواه الدارمى- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر فاستوى عليه فقال: «والذى نفسى بيده، إنى لأنظر إلى الحوض من مقامى هذا، ثم قال: إن عبدا عرضت عليه الدنيا» .. إلخ، ثم هبط عنه فما رؤى عليه حتى الساعة. فلما عرّض- صلى الله عليه وسلم- على المنبر باختياره اللقاء على البقاء، ولم يصرح، خفى المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ «3» ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول- صلى الله عليه وسلم-، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكّن الرسول- صلى الله عليه وسلم- جزعه، وأخذ فى مدحه والثناء عليه على المنبر، ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف فى خلافته فقال: «إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر- رضى الله عنه-» ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) سورة التوبة: 40.

الإسلام» «1» ، لما كان- صلى الله عليه وسلم- لا يصلح له أن يخالل مخلوقا، فإن الخليل من جرت صحبة خليله منه مجرى الروح ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل: قد تخللت مسلك الروح منى ... وبذا سمى الخليل خليلا أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر» «2» ، إشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكن المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين، ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلى بالناس أبو بكر- رضى الله عنه-، فروجع فى ذلك وهو يقول: «مروا أبا بكر أن يصلى بالناس» ، فولاه إمامة الصلاة، ولذا قال الصحابة عند بيعة أبى بكر- رضى الله عنه-: رضيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لديننا أفلا نرضاه لدنيانا. وكان ابتداء مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيت ميمونة، كما ثبت فى رواية معمر عن الزهرى، وفى سيرة أبى معشر: كان فى بيت زينب بنت جحش، وفى سيرة سليمان التيمى كان فى بيت ريحانة، والأول هو المعتمد. وذكر الخطابى، أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء، واختلف فى مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يوما، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما فى الروضة، وصدر بالثانى، وقيل عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمى فى مغازيه، وأخرجه البيهقى بإسناد صحيح. وفى البخارى: قالت عائشة: لما ثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتى فأذنّ له، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه فى الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله فأخبرت عبد الله بالذى قالت عائشة فقال لى عبد الله بن عباس: هل تدرى

_ (1) تقدم. (2) تقدم.

من الرجل الآخر الذى لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو على بن أبى طالب «1» . الحديث. وفى رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العباس ورجل آخر «2» . وفى أخرى لغير مسلم: رجلين أحدهما أسامة. وعند الدار قطنى: أسامة والفضل، وعند ابن حبان فى أخرى: بريرة ونوبة- بضم النون وسكون الواو ثم موحدة- قيل وهو اسم أمه، وقيل: عبد. وعند ابن سعد من وجه آخر: بين الفضل وثوبان. وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد، فتعدد من اتكأ عليه. وعن عائشة- رضى الله عنها- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: «إنى لا أستطيع أن أدور فى بيوتكن، فإن شئتن أذنتن لى» . رواه أحمد. وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «أين أنا غدا، أين أنا غدا؟» «3» يريد يوم عائشة. وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهرى: أن فاطمة هى التى خاطبت أمهات المؤمنين بذلك فقالت لهن: إنه يشق عليه الاختلاف. وفى رواية ابن أبى مليكة عن عائشة أن دخوله- صلى الله عليه وسلم- بيتها كان يوم الاثنين، وموته يوم الاثنين الذى يليه. وفى مرسل أبى جعفر عند ابن أبى شيبة: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «أين أكون أنا غدا» ، كررها مرتين، فعرف أزواجه أنه إنما يريد عائشة، فقلن: يا رسول الله، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة «4» . وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام ... وتقدم فى الذى قبله. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1389) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر، ومسلم (1443) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) أصله فى البخارى وقد تقدم.

- عند الإسماعيلى- كان يقول: «أين أنا غدا» حرصا على بيت عائشة، فلما كان يومى أذن له نساؤه أن يمرض فى بيتى «1» . وعن عائشة: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وارأساه، فقال: «بل أنا وارأساه» ، ثم قال: «ما ضرك لو مت قبلى فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك» ، فقالت: لكأنى بك والله لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم- صلى الله عليه وسلم-، ثم بدأ فى وجعه الذى مات فيه «2» . رواه أحمد والنسائى. وفى البخارى، قالت عائشة: وارأساه فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ذاك لو كان وأنا حى فأستغفر لك وأدعو لك» ، فقالت عائشة: واثكلياه، والله إنى لأظنك تحب موتى، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «بل أنا وارأساه» ، لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون «3» . وقوله: «بل أنا وارأساه» إضراب، يعنى: دعى ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلى بى. فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد فى الزهد عن طاووس أنه قال: «أنين المريض شكوى» ، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن تأوه المريض مكروه. قلت: تعقبه النووى فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهى مخصوص، وهو لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة هذا،

_ (1) تقدم. (2) أخرجه الدارمى (80) فى المقدمة، باب: وفاة النبى، وأصله فى الصحيح وسيأتى فى الذى بعده. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5666) فى المرضى، باب: قول المريض إنى وجع أو وارأساه. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ثم قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى. انتهى. قال فى فتح البارى: ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا، فليس ذكر الوجع شكاية. فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعوّل فى ذلك على عمل القلب اتفاقا لا على نطق اللسان. وقد تبين- كما نبه عليه فى «اللطائف» - أن أول مرضه- صلى الله عليه وسلم- كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمى اشتدت به فى مرضه، فكان يجلس فى مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، يتبرد بذلك. وفى البخارى قالت عائشة: لما دخل بيتى واشتد وجعه قال: «أهريقوا علىّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلى أعهد إلى الناس» ، فأجلسناه فى مخضب لحفصة- زوج النبى- صلى الله عليه وسلم- ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن «1» . الحديث. وقد قيل فى الحكمة فى هذا العدد: أن له خاصية فى دفع ضرر السم والسحر، وسيأتى- إن شاء الله تعالى- أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «هذا أوان انقطاع أبهرى» «2» ، أى من ذلك السم. وتمسك بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب به، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعا إنما هو لدفع السمية التى فى ريقه. وكانت عليه- صلى الله عليه وسلم- قطيفة، فكانت الحمى تصيب من يضع يده عليه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (تعليقا) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة، وأبو داود (4512) فى الديات، باب: فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات أيضا منه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

من فوقها فقيل له فى ذلك فقال: «إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر» «1» ، رواه ابن ماجه وابن أبى الدنيا، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبى سعيد الخدرى. وقالت عائشة: ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «2» . وعن عبد الله قال: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكا شديدا، قال: «أجل، أنى أوعك كما يوعك رجلان منكم» ، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: «أجل، ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» «3» . رواه البخارى. والوعك- بفتح الواو وسكون العين المهملة، وقد تفتح-: الحمى، وقيل: ألم الحمى، وقيل: إرعادها الموعك وتحريكها إياه. وعن الأصمعى: الوعك: الحر، فإن كان محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحرارتها. قال أبو هريرة: ما من وجع يصيا بنى أحب إلىّ من الحمى، إنها تدخل فى كل مفصل من ابن آدم، وإن الله يعطى كل مفصل قسطا من الأجر. وأخرج النسائى، وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان- أخت حذيفة- قالت: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى نساء نعوده: فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمى، فقال: «إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم» «4» . وفى حديث عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان بين يديه علبة أو ركوة فيها ماء،

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (4024) فى الفتن، باب: الصبر على البلاء. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (5646) فى المرضى، باب: شدة المرض، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (5640) فى المرضى، باب: ما جاء فى كفارة المرض. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) أخرجه النسائى فى «الكبرى» (7482 و 7496 و 7613) .

فجعل يدخل يديه فى الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات» «1» الحديث رواه الشيخان. وروى أيضا عن عروة أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم» «2» . وفى رواية: «ما زالت أكلة خيبر تعادّنى» «3» . والأكلة: بالضم، اللقمة التى أكل من الشاة. وبعض الرواة يفتح الألف، وهو خطأ لأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يأكل منها إلا لقمة واحدة، قاله ابن الأثير. ومعنى الحديث: أنه نقض عليه سم الشاة التى أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانا. والأبهر: عرق مستبطن بالصلب يتصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه- صلى الله عليه وسلم- مات شهيدا من السم. وعند البخارى أيضا قالت: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيده، فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات التى كان ينفث وأمسح بيد النبى- صلى الله عليه وسلم- عنه «4» . وفى رواية مالك: وأمسح بيده رجاء بركتها «5» . ولمسلم فلما مرض مرضه الذى مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدى. وأطلقت على السور الثلاث: المعوذات، تغليبا. وفى البخارى عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على النبى- صلى الله عليه وسلم- وأنا مسندته إلى صدرى، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4449) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) صحيح: أخرجه مسلم (2192) فى السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (5) أخرجه مالك (1755) فى الجامع، باب: التعوذ والرقية من المرض.

فأبده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بصره، فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فاستن به، فما رأيته استن استنانا قط أحسن منه «1» . الحديث. قولها: «فأبده» بتشديد الدال المهملة أى: مد نظره إليه. وقولها: «فقضمته» - بكسر الضاد المعجمة- أى: لطوله ولإزالة المكان الذى تسوك به عبد الرحمن. «ثم طيبته» : أى لينته بالماء. وفى رواية له أيضا: قالت: إن من نعم الله تعالى علىّ أن جمع الله بين ريقى وريقه عند موته، دخل علىّ عبد الرحمن وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم «2» . وفى رواية: مر عبد الرحمن وفى يده جريدة رطبة، فنظر إليه- صلى الله عليه وسلم- فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها ودفعتها إليه فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقى وريقه فى آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة «3» . وفى حديث خرجه العقيلى، أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لها فى مرضه: «ائتينى بسواك رطب فامضغيه ثم ائتينى به أمضغه لكى يختلط ريقى بريقك لكى يهون على عند الموت» . قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم ذلك بلقاء الله، وبكلما أحبوا من تحفة أو كرامة، حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك، لما قد مثل له. وفى المسند عن عائشة أيضا: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنه ليهون على

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (890) فى الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (2449) وتقدم قريبا. (3) صحيح: أخرجه البخارى (4451) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

الموت لأنى رأيت بياض كف عائشة فى الجنة» . وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لقد رأيتها فى الجنة، حتى ليهون علىّ بذلك موتى، كأنى أرى كفيها» ، يعنى عائشة. فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يحب عائشة حبّا شديدا، حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت له بين يديه فى الجنة ليهون عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة، وقد سأله- صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: «أى الناس أحب إليك؟» فقال: «عائشة» فقال: من الرجال: قال: «أبوها» «1» ، ولهذا قال لها فى ابتداء مرضه لما قالت: وارأساه: «وددت أن ذلك كان وأنا حى فأصلى عليك وأدفنك» «2» فعظم ذلك عليها، وظنت أنه يحب فراقها، وإنما- صلى الله عليه وسلم- يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما. ويروى أنه كان عنده- صلى الله عليه وسلم- فى مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها فى كفه فقال: «ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه؟» ثم تصدق بها كلها. رواه البيهقى. انظر إذا كان هذا سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف حال من لقى الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة، وما ظنه بربه تعالى. وفى البخارى من طريق عروة عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: دعا النبى- صلى الله عليه وسلم- فاطمة فى شكواه الذى قبض فيه، فسارّها بشئ فبكت، ثم دعاها فسارّها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارّنى النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه فبكيت، ثم سارّنى فأخبرنى أنى أول أهله يتبعه فضحكت «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3662) فى المناقب، باب: قول النبى لو كنت متخذا خليلا. من حديث عمرو بن العاص- رضى الله عنه-. (2) تقدم. (3) صحيح: أخرجه البخارى (2626) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام. من حديث عروة عن عائشة- رضى الله عنها-.

وفى رواية مسروق عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشى كأن مشيتها مشية النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «مرحبا بابنتى» ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها «1» . ولأبى داود والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى قيامها وقعودها من فاطمة. وكانت إذا دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم- قام إليها وقبلها وأجلسها فى مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه فقبلته «2» . واتفقت الروايتان: على أن الذى سارّها به أولا فبكت، هو إعلامه إياها أنه ميت فى مرضه ذلك، واختلفتا فيما سارّها به فضحكت، ففى رواية عروة أنه: إخباره إياها بأنها أول أهله لحوقا به «3» ، وفى رواية مسروق أنه: إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة «4» . وجعل كونها أول أهله لحوقا به مضموما إلى الأول، وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست فى حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين. فمما زاده مسروق: قول عائشة فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشى سر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، حتى توفى النبى- صلى الله عليه وسلم- فسألتها فقالت: أسر إلىّ أن جبريل كان يعارضنى القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضنى العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلى، وأنك أول أهل بيتى لحاقا بى «5» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2450) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى. من حديث مسروق عن عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (5217) فى الأدب، باب: ما جاء فى القيام، والترمذى (3872) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وهو فى صحيح البخارى بنحوه، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه الترمذى (3781) فى المناقب، باب: من مناقب الحسن والحسين، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (4) تقدم. (5) تقدم.

وفى رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: أن عائشة لما رأت بكاها وضحكها قالت: إن كنت لأظن أن هذه المرأة من أعقل النساء، فإذا هى من النساء. ويحتمل تعدد القصة. وفى رواية عروة الجزم أنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق ففيها أنه ظن ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن. وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أول أهله لحوقا به سببا لبكائها ولضحكها باعتبارين، فذكر كل من الراويين ما لم يذكره الآخر. وقد روى النسائى من طريق أبى سلمة عن عائشة فى سبب البكاء أنه ميت، وفى سبب الضحك الأمرين الآخرين. ولابن سعد من رواية أبى سلمة عنها: أن سبب البكاء موته، وسبب الضحك لحاقها به. وعند الطبرانى- من وجه آخر- عن عائشة أنه قال لفاطمة: «إن جبريل أخبرنى أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكونى أدنى امرأة منهن صبرا» . وفى الحديث: إخباره- صلى الله عليه وسلم- بما سيقع، فوقع كما قال- صلى الله عليه وسلم-، فإنهم اتفقوا على أن فاطمة- رضى الله عنها- كانت أول من مات من أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- بعده، حتى من أزواجه- عليه الصلاة والسلام-. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- من شدة وجعه يغمى عليه فى مرضه ثم يفيق، وأغمى عليه مرة فظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه، فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه، فقالوا: كراهية للدواء، فلما أفاق قال: «ألم أنهكم أن تلدونى؟» فقالوا: كراهية المريض للدواء، فقال: «لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهدكم» «1» . رواه البخارى. واللدود، هو ما يجعل فى جانب الفم من الدواء، فأما ما يصب فى الحلق فيقال له: الوجور. وفى الطبرانى من حديث العباس: أنهم أذابوا قسطا بزيت ولدوه به.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4458) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وفى قوله «لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ، إلخ» مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان، وفيه نظر: لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عما نهاهم عنه. قال ابن العربى: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيقعوا فى خطيئة عظيمة. وتعقب: بأنه كان يمكن أن يقع العفو، ولأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذى يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديبا لا اقتصاصا ولا انتقاما. قيل: وإنما كره اللدود مع أنه كان يتداوى، لأنه تحقق أنه يموت فى مرضه، ومن تحقق ذلك كره له التداوى. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، والذى يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقيق، وإنما أنكر التداوى لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك، كما هو ظاهر فى سياق الخبر. وعند ابن سعد قال: كانت تأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخاصرة، فاشتدت فأغمى عليه، فلدوه، فلما أفاق قال: «كنتم ترون أن الله يسلط علىّ ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها على سلطانا، والله لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ» ، فما بقى أحد فى البيت إلا لدّ، ولددنا ميمونة وهى صائمة. وروى أبو يعلى- بسند ضعيف فيه ابن لهيعة- من وجه آخر عن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم- مات من ذات الجنب. وجمع بينهما: بأن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين: أحدهما: ورم حار يعرض فى الغشاء المستبطن، والآخر: ريح محتقن بين الأضلاع، فالأول هو المنفى هنا. وقد وقع فى رواية الحاكم فى المستدرك: ذات الجنب من الشيطان، والثانى هو الذى أثبت هنا وليس فيه محذور كالأول. وفى حديث ابن عباس عند البخارى: لما حضر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفى البيت رجال، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» ، فقال بعضهم: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا

كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قوموا» . قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم «1» . قال المازرى: إنما جاز للصحابة الاختلاف فى هذا الكتاب: مع صريح أمره لهم بذلك. لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك عن غير قصد جازم. وقال النووى: اتفق العلماء على أن قول عمر: «حسبنا كتاب الله» «2» من قوة فقهه ودقيق نظره، لأنه خشى أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء، وفى تركه- صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه، وأشار بقوله: «حسبنا كتاب الله» إلى قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «3» ، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: «إن الرزية إلخ» لأن عمر كان أفقه منه قطعا، ولا يقال إن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه أسفا على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه، لكونه أولى من الاستنباط، والله أعلم. ولما اشتد به- صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فقالت

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (114) فى العلم، باب: كتابة العلم. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (4432) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما. (3) سورة الأنعام: 38.

له عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فعادوته بمثل مقالتها، فقال: «إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» «1» . رواه الشيخان وأبو حاتم واللفظ له. وفى رواية: إن أبا بكر رجل أسيف «2» . وفى حديث عروة عن عائشة عند البخارى: فمر عمر فليصل بالناس، قالت: قلت لحفصة قولى له إن أبا بكر إذا قام فى مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا «3» . والأسيف: بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل، من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا، رقيق القلب. ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عائشة فى هذا الحديث: قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم، وصواحب: جمع صاحبة، والمراد: أنهن مثل صواحب يوسف فى إظهار ما فى الباطن. ثم إن هذا الخطاب، وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهى عائشة- رضى الله عنها-. ووجه المشابهة بينهما فى ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها الزيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها فى محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن لا يتشاءم الناس به. وقد صرحت هى بذلك، كما عند البخارى فى باب وفاته- صلى الله عليه وسلم- فقالت: لقد راجعته وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع فى قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا. وأن لا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (664) فى الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) تقدم فى الذى قبله. (3) تقدم.

وقد نقل الدمياطى: أن الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة. وقد ذكر الفاكهى فى «الفجر المنير» مما عزاه لسيف الدين بن عمر فى كتاب «الفتوح» أن الأنصار لما رأوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يزداد وجعا، أطافوا بالمسجد، فدخل العباس فأعلمه- صلى الله عليه وسلم- بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه على بن أبى طالب كذلك. فخر- صلى الله عليه وسلم- متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه، والنبى- صلى الله عليه وسلم- معصوب الرأس يخط برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس، بلغنى أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبى قبلى فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا إنى لاحق بربى، وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «1» إلى آخرها، وإن الأمور تجرى بإذن الله تعالى، ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ «2» ، وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم فى الثمار؟ ألم يوسعوا لكم فى الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولى أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، إلا وإنى فرط لكم، وأنتم لا حقون بى، إلا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده علىّ غدا فليكفف يده ولسانه، إلا فيما ينبغى، يا أيها الناس، إن الذنوب تغير النعم، وتبدل القسم، فإذا برّ الناس، برّهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوهم. وفى حديث أنس عند البخارى: قال: مرّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبى

_ (1) سورة العصر: 1، 2. (2) سورة محمد: 22.

- صلى الله عليه وسلم- منا، فدخل أحدهما على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر- ولم يصعده بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشى وعيبتى، وقد قضوا الذى عليهم، وبقى الذى لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» «1» . وقوله «كرشى وعيبتى» أى موضع سرى أراد أنهم بطانته وموضع أمانته، والذين يعتمد عليهم فى أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك. لأن المجتر يجمع علفه فى كرشه، والرجل يجمع ثيابه فى عيبته، وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أى جماعتى وصحابتى يقال: عليه كرش من الناس، أى جماعة، قاله فى النهاية. وذكر الواحدى بسند وصله بعبد الله بن مسعود قال: نعى لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت عائشة فقال: «حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، نصركم الله، رفعكم الله، آواكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله، إنى لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله فى بلاده وعباده، فإنه قال لى ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «3» » ، قلنا: يا رسول الله، متى أجلك؟ قال: «دنا الفراق، والمنقلب إلى الله وإلى جنة المأوى» ، قلنا: يا رسول الله، من يغسلك؟ قال: «رجال من أهل بيتى الأدنى فالأدنى» ، قلنا: يا رسول الله، فيم نكفنك؟ قال: «فى ثيابى هذه وإن شئتم فى بياض ثياب مصر، أو حلة يمنية» ، قلنا: يا رسول الله، من يصلى عليك؟ قال: «إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على سريرى هذا على شفير

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3799) فى المناقب، باب: قول النبى اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن سيئاتهم. من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) سورة القصص: 83. (3) سورة الزمر: 60.

قبرى، ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى على جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت ومعه جنود من الملائكة، ثم ادخلوا على فوجا فوجا، فصلوا علىّ وسلموا تسليما، وليبدأ بالصلاة علىّ رجال أهل بيتى، ثم نساؤهم، ثم أنتم، واقرؤا السلام على من غاب من أصحابى ومن تبعنى على دينى، من يومى هذا إلى يوم القيامة» ، قلنا: يا رسول الله، من يدخلك قبرك؟ قال: «أهلى مع ملائكة ربى» . وكذا رواه الطبرانى فى «الدعاء» وهو واه جدّا. وقالت عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح يقول: «إنه لم يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيّا أو يخير» . فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذى غشى عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: «اللهم فى الرفيق الأعلى» ، فقلت: إذا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذى كان يحدثنا وهو صحيح «1» . وفى رواية: أنها أصغت إليه قبل أن يموت، وهو مستند إلىّ ظهره يقول: «اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى» «2» . رواه البخارى من طريق الزهرى عن عروة. وما فهمته عائشة من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم فى الرفيق الأعلى» أنه خير، نظير فهم أبيها- رضى الله عنه- من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إن عبدا خيره الله ما بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» أن العبد المراد هو النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى بكى كما قدمته. ذكره الحافظ ابن حجر. وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد المطلب بن عبد الله عن عائشة: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «ما من نبى يقبض إلا يرى الثواب ثم

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4437) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (3496) فى الدعوات، باب: ما جاء فى عقد التسبيح باليد. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

يخير» «1» . ولأحمد أيضا، من حديث أبى مويهة قال: قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة، فخيرات بين ذلك وبين لقاء ربى فاخترت لقاء ربى والجنة» «2» . وعند عبد الرزاق من مرسل طاووس، رفعه: «خيرات بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتى، وبين التعجيل فاخترت التعجيل» ، وفى رواية أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه عند النسائى، وصححه ابن حبان: فقال اسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل. وظاهره: أن الرفيق الأعلى، المكان الذى تحصل المرافقة فيه مع المذكورين، وقال ابن الأثير فى «النهاية» الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وقيل: المراد به الله تعالى، يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة، انتهى، وقيل: المراد حظيرة القدس. وفى كتاب «روضة التعريف بالحب الشريف» : لما تجلى له الحق ضعفت العلائق بينه وبين المحسوسات والحظوظ الضرورية من أوانى معانى الترقيات البشرية، فكانت أحواله فى زيادة الترقى، ولذلك روى أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «كل يوم لا أزداد فيه قربا من الله فلا بورك لى فى طلوع شمسه» . وكلما فارق مقاما واتصل بما هو أعلى منه لمح الأول بعين النقص، وسار على ظهر المحبة، ونعمت المطية لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال، والسفر إلى حضرة ذى الجلال، والاتصال بالمحبوب الذى كل شئ هالك إلا وجهه. وقال السهيلى: الحكمة فى اختتام كلامه- صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة، كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب، حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان، لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره إذا كان قلبه عامرا بالذكر. انتهى ملخصا. قال الحافظ ابن رجب: وقد روى ما يدل على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير. ففى المسند قالت- يعنى عائشة- كان

_ (1) أخرجه البخارى، وقد تقدم. (2) تقدم.

النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من نبى إلا تقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه إلى أن يلحق» «1» ، فكنت قد حفظت ذلك عنه، فإنى لمسندته إلى صدرى، فنظرت إليه حتى مالت عنقه، فقلت: قضى، قالت: فعرفت الذى قال، فنظرت إليه حين ارتفع ونظر، فقلت: إذا والله لا يختارنا، فقال: مع الرفيق الأعلى فى الجنة، مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وفى البخارى من حديث عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح- يقول: «إنه لم يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيّا أو يخير» ، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشى عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: «اللهم فى الرفيق الأعلى» «2» . ونبه السهيلى على أنه النكتة فى الإتيان بهذه الكملة بالإفراد، الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد. وفى صحيح ابن حبان عنها قالت: أغمى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورأسه فى حجرى. فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلما أفاق قال: «أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل» «3» . ولما احتضر- صلى الله عليه وسلم-، اشتد به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبى- صلى الله عليه وسلم-، قالت: وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: «اللهم أعنى على سكرات الموت» «4» . وفى رواية: فجعل يقول: «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات» «5» . قال بعض العلماء: فيه أن ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته.

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) تقدم. (5) تقدم.

وقال الشيخ أبو محمد المرجانى: تلك السكرات سكرات الطرب، ألا ترى إلى قول بلال حين قال له أهله وهو فى السياق: واكرباه، ففتح عينيه وقال: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فإذا كان هذا طربه وهو فى هذا الحال بلقاء محبوبه وهو النبى- صلى الله عليه وسلم- وحزبه، فما بالك بلقاء النبى- صلى الله عليه وسلم- لربه تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه. وفى حديث مرسل ذكره الحافظ ابن رجب: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل، فأعنى عليه وهونه على» . وعند الإمام أحمد والترمذى من طريق القاسم عنها قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: «اللهم أعنى على سكرات الموت» «2» . ولما تغشاه الكرب، قالت فاطمة- رضى الله عنها-: واكرب أبتاه، فقال لها: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» «3» ، رواه البخارى. قال الخطابى: زعم من لا يعد من أهل العلم: أن المراد بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» أن كربه كان شفقة على أمته، لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشئ، لأنه كان يلزم أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة، لأنه مبعوث إلى من جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه، وإنما الكلام على ظاهره، وإن المراد بالكرب ما كان يجده- صلى الله عليه وسلم- من شدة الموت، وكان- صلى الله عليه وسلم- فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر ليتضاعف له الأجر، انتهى. وروى ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: «إنه حضر من أبيك ما الله تعالى بتارك منه أحدا لموافاة يوم القيامة» «4» .

_ (1) سورة السجدة: 17. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) حسن: أخرجه ابن ماجه (1629) ، فيما جاء فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، وقال الألبانى فى صحيح ابن ماجه: حسن صحيح.

وفى البخارى من حديث أنس بن مالك: أن المسلمين بينما هم فى صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلى لهم لم يفجأهم إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم فى صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة، قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا فى صلاتهم فرحا برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأشار إليهم بيده- صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر «1» . وفى رواية أبى اليمان عن شعيب، عند البخارى، فى «الصلاة» : فتوفى من يومه «2» . وفى رواية معمر عنده أيضا. وكلها من حديث أنس: لم يخرج إلينا- صلى الله عليه وسلم- ثلاثا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم، فقام نبى الله- صلى الله عليه وسلم- بالحجاب فرفعه، فلما وضح لنا وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين وضح لنا، قال: فأومأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أبى بكر أن يتقدم وأرخى الحجاب «3» . الحديث رواه الشيخان. وعنه أن أبا بكر كان يصلى بهم فى وجع النبى- صلى الله عليه وسلم- الذى توفى فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف فى الصلاة، كشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة، فنظرنا إليه وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضاحكا «4» . الحديث رواه مسلم. وقد جزم موسى ابن عقبة عن ابن شهاب، أنه- صلى الله عليه وسلم- مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبى الأسود عن عروة.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (680) فى الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (2) تقدم. (3) صحيح: أخرجه البخارى (681) فى الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه مسلم (419) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.

وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما بقى من أجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث، نزل عليه جبريل، فقال: يا محمد إن الله قد أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ فقال: «أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا» ثم أتاه فى اليوم الثانى فقال له مثل ذلك، ثم جاءه فى اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل: يا محمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يأذن على نبى قبلك، ولا يستأذن على آدمى بعدك، قال: «ائذن له» ، فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل أرسلنى إليك وأمرنى أن أطيعك فى كل ما تأمر، إن أمرتنى أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتنى أن أتركها تركتها، فقال جبريل: يا محمد، إن الله قد اشتاق إلى لقائك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «فامض يا ملك الموت لما أمرت به» ، فقال جبريل: يا رسول الله، هذا آخر موطئى من الأرض، إنما كنت حاجتى من الدنيا. فقبض روحه، فلما توفى- صلى الله عليه وسلم-، وجاءت التعزية سمعوا صوتا من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال على: أتدرون من هذا؟ هو الخضر- عليه السّلام-. رواه البيهقى فى دلائل النبوة. وفى تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقى: وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر، مما ذكره فى الإحياء وأن النووى أنكر وجود الحديث المذكور فى كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب ثم قال العراقى: قد رواه الحاكم فى المستدرك من حديث أنس ولم يصححه، ولا يصح. ورواه ابن أبى الدنيا عن أنس أيضا قال: لما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اجتمع أصحابه حوله يبكون، فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين فى إزار ورداء، يتخطى أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أخذ بعضادتى باب البيت

فبكى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم أقبل على أصحابه فقال: إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل فان. الحديث. وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر: علىّ بالرجل، فنظروا يمينا وشمالا فلم يروا أحدا، فقال أبو بكر لعلى: هذا الخضر، جاء يعزينا. ورواه ابن أبى الدنيا أيضا من حديث على ابن أبى طالب، وفيه محمد بن جعفر الصادق، تكلم فيه، وفيه انقطاع بين على بن الحسين وبين جده على، والمعروف عن على بن الحسين مرسلا من غير ذكر على، كما رواه الشافعى فى الأم وليس فيه ذكر للخضر- عليه السّلام- «1» . قال البيهقى: قوله: «إن الله اشتاق إلى لقائك» معناه: قد أراد لقاءك بأن يردك من دنياك إلى معادك زيادة فى قربك وكرامتك. وأخرج الطبرانى من حديث ابن عباس قال: جاء ملك الموت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فى مرضه ورأسه فى حجر على، فاستأذن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له على: ارجع فإنا مشاغيل عنك، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «هذا ملك الموت، ادخل راشدا» ، فلما دخل قال: إن ربك يقرئك السلام. فبلغنى أن ملك الموت لم يسلم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده. وقالت عائشة: توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى بيتى، فى يومى، وبين سحرى ونحرى «2» ، وفى رواية: بين حاقنتى وذاقنتى «3» . رواه البخارى. والحاقنة: بالمهملة والقاف والنون، أسفل من الذقن. والذاقنة: طرف الحلقوم. والسحر: بفتح السين وسكون الحاء المهملتين، هو الصدر. والنحر: بفتح

_ (1) قلت: أحاديث الخضر ضعيفة، ولم تثبت، بل وجوده يخالف عمومات كثيرة من الشريعة كعموم بعثته- صلى الله عليه وسلم- لأهل الأرض جميعا فلو كان حيّا ووسعه لقائه لالتقى به وآمن به وجاهد معه، ولكن لم يحدث شئ من ذلك، فينتظر حتى وفاته حتى يجئ لأصحابه ليعزيهم ثم ينصرف!. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1389) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) تقدم.

النون وسكون الحاء المهملة. والمراد: أنه- صلى الله عليه وسلم- توفى ورأسه بين عنقها وصدرها. وهذا لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق: أنه- صلى الله عليه وسلم- مات ورأسه فى حجر على، لأن كل طريق منها- كما قاله الحافظ ابن حجر- لا تخلو من شئ، فلا يلتفت لذلك والله أعلم. قال السهيلى: وجدت فى بعض كتب الواقدى: أن أول كلمة تكلم بها النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو مسترضع عند حليمة: الله أكبر، وآخر كلمة تكلم بها: الرفيق الأعلى. وروى الحاكم من حديث أنس: أن آخر ما تكلم به- صلى الله عليه وسلم-: «جلال ربى الرفيع» . ولما توفى- صلى الله عليه وسلم- كان أبو بكر غائبا بالسنح- يعنى العالية، عند زوجته بنت خارجة- وكان- صلى الله عليه وسلم- قد أذن له فى الذهاب إليها، فسل عمر بن الخطاب سيفه وتوعد من يقول: مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى- عليه السّلام-، فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إنى لأرجو أن يقطع أيدى رجال وأرجلهم. فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة فدخل، فكشف عن وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجثا يقبله ويبكى ويقول: توفى والذى نفسى بيده، صلوات الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيّا وميتا، ذكره الطبرى فى «الرياض» . وقالت عائشة: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة، فبصر برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله ثم بكى وقال: بأبى أنت وأمى، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متها «1» . رواه البخارى.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1242) فى الجنائز، باب: الدخول على الميت بعد الموت. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

واختلف فى قول أبى بكر- رضى الله عنه-: «لا يجمع الله عليك موتتين» . فقيل هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدى رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وكالذى مر على قرية، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها. وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى فى القبر كغيره، إذ يحيا ليسئل ثم يموت، وهذا جواب الداودى. وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك. وقيل: كنى بالموت الثانى عن الكرب، أى لا يلقى بعد كرب الموت كربا آخر. قاله فى فتح البارى. وعنها: أن عمر قام يقول: والله ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقبله وقال: بأبى أنت وأمى، طبت حيّا وميتا، والذى نفسى بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «2» الآية، قال: فنشج الناس يبكون «3» ، رواه البخارى. يقال: نشج الباكى، إذا غص بالبكاء فى حلقه من غير انتحاب. وعن سالم بن عبيد الأشجعى قال: لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، فأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحدا يقول: مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفى هذا، قال: فقال

_ (1) سورة الزمر: 30. (2) سورة آل عمران: 144. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1242) وقد تقدم.

الناس يا سالم، أطلب صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: فخرجت إلى المسجد، فإذا بأبى بكر، فلما رأيته أجهشت بالبكاء، فقال: يا سالم أمات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدا يقول مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفى هذا، قال: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبى- صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى، فرفع البرد عن وجهه، ووضع فاه على فيه واستنشى الريح، ثم سجاه والتفت إلينا فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «1» الآية، وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» يا أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت. قال عمر: فو الله لكأنى لم أتل هذه الآيات قط، خرجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبرى فى «الرياض» له، وقال: خرج الترمذى معناه بتمامه. واستنشى الريح: شمها، أى شم ريح الموت. وعند أحمد: عن عائشة قالت: سجيت النبى- صلى الله عليه وسلم- ثوبا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه، ثم قاما، فقال المغيرة: يا عمر، مات، قال: كذبت، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يفنى الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر، فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» . وفى حديث ابن عباس عند البخارى: إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، قال الله عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «4» قال: والله لكأن

_ (1) سورة آل عمران: 144. (2) سورة الزمر: 30. (3) تقدم. (4) سورة آل عمران: 144.

الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها «1» . وفى حديث ابن عمر عند ابن أبى شيبة أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين. قال: وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رؤسهم، فقال: أيها الرجل، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد مات: ألم تسمع الله تعالى يقول: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» وقال: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ «3» ثم أتى المنبر. الحديث. قال القرطبى أبو عبد الله المفسر: وفى هذا أدل دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدها: ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبى- صلى الله عليه وسلم-. فظهر عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية، فرجع عمر عن مقالته التى قالها. كما ذكر الوائلى أبو نصر عبد الله فى كتاب «الإنابة» عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واستوى على منبره- صلى الله عليه وسلم-، تشهد ثم قال: أما بعد، فإنى قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإنى والله ما وجدت المقالة التى قلت لكم فى كتاب الله، ولا فى عهد عهده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكنى كنت أرجو أن يعيش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى يدبرنا- أى يكون آخرنا موتا، أو كما قال- فاختار الله عز وجل لرسوله الذى عنده على الذى عندكم، وهذا الكتاب الذى هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسوله- صلى الله عليه وسلم-. قال أبو نصر: المقالة التى قالها ثم رجع عنها: هى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدى وأرجل، وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه

_ (1) تقدم. (2) سورة الزمر: 30. (3) سورة الأنبياء: 34.

وخشى الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد قوة يقين الصديق الأكبر وتفوهه بقول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «1» وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» وخرج الناس يتلونها فى سكك المدينة كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم انتهى. وقال ابن المنير: لما مات- صلى الله عليه وسلم- طاشت العقول، فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى، وكان عمر ممن خبل، وكان عثمان ممن أخرس، يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاما، وكان على ممن أقعد فلم يستطع حراكا، وأضنى عبد الله ابن أنيس فمات كمدا. وكان أثبتهم أبو بكر الصديق- رضى الله عنه-، جاء وعيناه تهملان وزفراته تتردد وغصصه تتصاعد وتترفع، فدخل على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأكب عليه وكشف الثوب عن وجهه وقال: طبت حيّا وميتا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس. اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك. ووقع فى حديث ابن عباس وعائشة عند البخارى: أن أبا بكر قبل النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد ما مات، كما قدمنا. وكذا وقع فى رواية غيره. وفى رواية يزيد بن بابنوس عنها، عند أحمد، أنه أتاه من قبل رأسه، فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته وقال: واخليلاه. وعند ابن أبى شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل يقبله ويبكى ويقول: بأبى أنت وأمى، طبت حيّا وميتا. وعن عائشة: أن أبا بكر دخل على النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، فوضع فاه

_ (1) سورة آل عمران: 185. (2) سورة الزمر: 30.

بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه. أخرجه ابن عرفة العبدى كما ذكره الطبرى. قال: ولا تضاد بين هذا على تقدير صحته وبين ما تقدم مما تضمن ثباته، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتا به صوته، ثم التفت إليهم وقال لهم ما قال. وأخرج البيهقى وأبو نعيم من طريق الواقدى عن شيوخه: أنهم شكوا فى موته- صلى الله عليه وسلم-، قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه- صلى الله عليه وسلم- فقالت: قد توفى، قد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان هذا الذى قد عرف به موته. وأخرجه ابن سعد عن الواقدى أيضا. ولما توفى- صلى الله عليه وسلم- قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربّا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه «1» . رواه البخارى. قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: وقد قيل الصواب: إلىّ جبريل نعاه. جزم بذلك سبط ابن الجوزى فى مرآة الزمان. قال: والأول متوجه فلا معنى لتغليط الرواة بالظن. وزاد الطبرانى: يا أبتاه، من ربه ما أدناه. وقد عاشت فاطمة- رضى الله عنها- بعده- صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر فما ضحكت تلك المدة، وحق لها ذلك. على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كان من ليلى على الهجر طاويا وأخرج أبو نعيم عن على قال: لما قبض- صلى الله عليه وسلم- صعد ملك الموت باكيا إلى السماء، والذى بعثه بالحق نبيّا لقد سمعت صوتا من السماء ينادى: وا محمداه. الحديث. كل المصائب تهون عند هذه المصيبة. وفى سنن ابن ماجه: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال فى مرضه: «أيها الناس، إن أحد من الناس، أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بى عن المصيبة التى

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4462) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.

تصيبه بغيرى، فإن أحدا من أمتى لن يصاب بمصيبة بعدى أشد عليه من مصيبتى» «1» . وقال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله، اتق الله، فإن فى رسول الله أسوة حسنة. ويعجبنى قول القائل: اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف فى غد وإذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبى محمد ويرحم الله القائل: تذكرت لما فرق الدهر بيننا ... فعزيت نفسى بالنبى محمد وقلت لها إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت فى يومه مات فى غد كادت الجمادات تتصدع من ألم فراقه- صلى الله عليه وسلم-، فكيف بقلوب المؤمنين؟ لما فقده الجذع الذى كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حنّ إليه وصاح. كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه. وروى أن بلالا لما كان يؤذن بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم-، وقبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله، ارتج المسجد بالبكاء والنحيب. فلما دفن ترك بلال الأذان. ما أمرّ عيش من فارق الأحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب. لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكان من وجده يميد قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1599) فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصبر على المصيبة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

وقد كانت وفاته- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين بلا خلاف، وقت دخول المدينة فى هجرته حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء. فعند ابن سعد فى الطبقات، عن على: توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء. وعنده أيضا عن عكرمة، توفى يوم الاثنين، فحبس بقية يومه وليلته، ومن الغد حتى دفن من الليل، وعنده أيضا: عن عثمان بن محمد الأخنس: توفى يوم الاثنين حين زاغت الشمس ودفن يوم الأربعاء. وروى أيضا عن أبىّ بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده: توفى يوم الاثنين، فمكث بقية يوم الاثنين والثلاثاء حتى دفن يوم الأربعاء. وعنده أيضا: عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب: توفى يوم الاثنين حين زاغت الشمس «1» . ورثته عمته صفية بمراثى كثيرة منها قولها: ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برّا ولم تك جافيا وكنت رحيما هاديا ومعلما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا لعمرك ما أبكى النبى لفقده ... ولكن لما أخشى من الهجر آتيا كأن على قلبى لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبى المكاويا أفاطم صلى الله رب محمد ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا فدى لرسول الله أمى وخالتى ... وعمى وخالى ثم نفسى وماليا فلو أن رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكّى ويدعو جده اليوم نائيا ورثاه أبو سفيان بن الحارث فقال: أرقت فبت ليلى لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول وأسعدنى البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل

_ (1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 272) .

لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرائيل وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل نبى كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول ويهديناا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعى ذاك السبيل فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول ورثاه الصديق بقوله: لما رأيت نبينا متجندلا ... ضاقت على بعرضهن الدور فارتاع قلبى عند ذاك لهلكه ... والعظم منى ما حييت كسير أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى ... فالصبر عنك لما لقيت يسير يا ليتنى من قبل مهلك صاحبى ... غيبت فى جدث على صخور فلتحدثن بدائع من بعده ... يعيى بهن جوارح وصدور ورثاه الصديق أيضا بقوله: ودعنا الوحى إذا وليت عنا ... فودعنا من الله الكلام سوى ما قد تركت لنا رهينا ... تضمنه القراطيس الكرام ولقد أحسن حسان بقوله يرثيه- صلى الله عليه وسلم-: كنت السواد لناظرى ... فعمى عليك الناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ورثاه حسان بقوله أيضا: بطيبة رسم للرسول ومعهد ... مبين وقد تعفو الرسوم وتهمد

ولا تنمحى الآيات من دار حرمه ... بها منبر الهادى الذى كان يصعد وأوضح آيات وباقى معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها ... أتاها البلى فالآى منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وعهده ... وقبرا بها واراه فى الترب ملحد أطالت وقوفا تذرف العين دمعها ... على طلل القبر الذى فيه أحمد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد وبورك لحد منك ضمن طيبا ... عليه بناء من صفيح منضد تهيل عليه الترب أيد وأعين ... تباكت وقد غارت بذلك أسعد لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية عالوه الثرى لا يوسد وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد يبكون من تبكى السماوات موته ... ومن قد بكته الأرض والناس وأكمد وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد ولما تحقق عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- موته- صلى الله عليه وسلم- بقول أبى بكر، ورجع إلى قوله، قال وهو يبكى: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلما كثروا اتخذت منبرا لتسمعهم، فحن الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه فسكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال: من يطع الرسول فقد أطاع الله، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك فى أولهم، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «1» الآية، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم فى أطباقها يعذبون، يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول. الخبر ذكره أبو العباس القصار فى شرحه لبردة الأبوصيرى،

_ (1) سورة الأحزاب: 7.

ونقله عنه الرشاطى فى كتابه «اقتباس الأنوار والتماس الأزهار» وذكره ابن الحاج فى المدخل وساقه بتمامه، والقاضى عياض فى «الشفاء» لكنه ذكر بعضه، ويقع فى كثير من نسخ الشفاء: روى عن عمر بن الخطاب-- رضى الله عنه- أنه قال فى كلام بكى به النبى- صلى الله عليه وسلم-، بتشديد الكاف من بكى، والصواب فيها التخفيف، لأن هذا الكلام إنما سمع من عمر- رضى الله عنه- بعد موته- صلى الله عليه وسلم- كما تقدم، ونبهت عليه فى حاشية الشفاء والله أعلم. ويؤيد هذا قوله فى الخبر نفسه: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد اتبعك فى قصر عمرك ما لم يتبع نوحا فى كثرة سنه وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل. وأخرج ابن عساكر عن أبى ذؤيب الهذلى قال: بلغنا أن النبى- صلى الله عليه وسلم- عليل، فأوجس الحى خيفه، وبث بليلة طويلة حتى إذا كان السحر نمت فهتف بى هاتف وهو يقول: خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام قبض النبى محمد فعيوننا ... تبدى الدموع عليه بالتسجام فوثبت من نومى فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح فعلمت أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قبض!! أو هو ميت، فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقيل: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. ومن عجيب ما اتفق ما روى عن عائشة: أنهم لما أرادوا غسل النبى- صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا ندرى، أنجرد النبى- صلى الله عليه وسلم- من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه فى صدره، ثم كلهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو، اغسلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه، فقاموا وغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص «1» . رواه البيهقى فى دلائل النبوة.

_ (1) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (7/ 242) .

وروى ابن ماجه بسند جيد عن على يرفعه: «إذا أنا مت فاغسلونى بسبع قرب من بئرى بئر غرس» «1» . قال فى النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملتين. وقد روى ابن النجار: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت الليلة أنى أصبحت على بئر من الجنة» ، فأصبح على بئر غرس فتوضأ منها وبزق فيها. وغسّل- صلى الله عليه وسلم- ثلاث غسلات، الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، وغسله على، والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران مولاه- صلى الله عليه وسلم- يصبون الماء وأعينهم معصوبة من وراء الستر. لحديث على: «لا يغسلنى إلا أنت فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه» «2» رواه البزار والبيهقى. وأخرج البيهقى عن الشعبى قال: غسل على النبى- صلى الله عليه وسلم- فكان يقول وهو يغسله- صلى الله عليه وسلم-: بأبى أنت وأمى طبت حيّا وميتا. أخرج أبو داود، وصححه الحاكم عن على قال: غسلته- صلى الله عليه وسلم- فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئا، وكان طيبا حيّا وميتا. وفى رواية ابن سعد: وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط «3» . قيل: وجعل على على يده خرقة وأدخلها تحت القميص ثم اعتصروا قميصه، وحنطوا مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه وجمروه عودا وندّا «4» . وذكر ابن الجوزى أنه روى عن جعفر بن محمد قال: كان الماء يستنقع

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1468) فى الجنائز، باب: ما جاء فى غسل النبى. من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» . (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 36) وقال: رواه البزار وفيه يزيد بن بلال، قال البخارى: فيه نظر وبقية رجاله وثقوا وفيهم خلاف. (3) أخرجه ابن سعد فى «الطبقات الكبرى» (2/ 281) ، وهو ليس عند أبى داود كما قال المصنف. (4) انظر ما قبله.

فى جفون النبى- صلى الله عليه وسلم- فكان على يحسوه. وأما ما روى أن عليّا لما غسله- صلى الله عليه وسلم- امتص ماء محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووى: ليس بصحيح. وفى حديث عروة عن عائشة قالت: كفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب سحولية بيض «1» ، أخرجه النسائى من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى عن عروة. واتفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة بزيادة: من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة «2» . وليس قوله «من كرسف» عند الترمذى ولا ابن ماجه. زاد مسلم: أما الحلة فإنما شبّه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها، فتركت الحلة وكفن فى ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبى بكر فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسى، ثم قال: لو رضيها الله عز وجل لنبيه لكفنه فيها فباعها وتصدق بثمنها «3» . وفى رواية له: أدرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى حلة يمانية كانت لعبد الله ابن أبى بكر ثم نزعت عنه «4» ، وذكر الحديث بطوله. وفى رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم كفن فى ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه «5» . قال الترمذى: حسن صحيح.

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 35) فى الجنائز، باب: كفن النبى. من حديث عائشة وأصله فى الصحيح وسيأتى فى الذى بعده. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1264) فى الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (941) فى الجنائز، باب: فى كفن الميت. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (4) تقدم فى الذى قبله. (5) صحيح: أخرجه الترمذى (996) فى الجنائز، باب: ما جاء فى كفن النبى. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الترمذى: حسن صحيح. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وفى رواية البيهقى: فى ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد «1» . والسحولية: بفتح السين وضمها، قال النووى: والفتح أشهر، وهو رواية الأكثرين، وفى النهاية تبعا للهروى، فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار، لأنه يسحلها، أى يغسلها، أو إلى سحول وهى قرية باليمن، وأما الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقى، ولا يكون إلا من قطن، وفيه شذوذ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضا. والكرسف: بضم الكاف وإسكان الراء، وضم السين المهملتين والفاء: القطن. وقال الترمذى: روى فى كفن النبى- صلى الله عليه وسلم- روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث فى ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم. وقال البيهقى فى «الخلافيات» : قال أبو عبد الله- يعنى الحاكم-: تواترت الأخبار عن على بن أبى طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر، وجابر وعبد الله بن مغافل، فى تكفين النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة. وعن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن على: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفن فى سبعة أثواب «2» ، وقد روى هذا الحديث أحمد فى مسنده، وذكر ابن حزم: أن الوهم فيه من ابن عقيل أو ممن بعده. وقد اختلف فى معنى قوله: «ليس فيها قميص ولا عمامة» . فالصحيح أن معناه: أنه ليس فى الكفن قميص ولا عمامة أصلا. والثانى: أن معناه أنه كفن فى ثلاثة أثواب خارج عن القميص والعمامة. قال الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر فى المراد، وذكر

_ (1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (7/ 246) . (2) أخرجه أحمد (1/ 94 و 102) من حديث على بن أبى طالب.

النووى فى شرح مسلم أن الأول تفسير الشافعى وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذى يقتضيه ظاهر الحديث، وقال: إن الثانى ضعيف، فلم يثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- كفن فى قميص وعمامة، انتهى. وترتب على اختلافهم: فى أنه هل يستحب أن يكون فى الكفن قميص وعمامة أم لا؟ فقال مالك والشافعى وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف، ليس فيها قميص ولا عمامة، واختلفوا فى زيادة القميص والعمامة أو غيرها على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز غير مستحب، وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء، وهو فى حق النساء آكد. قال: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الأثواب الثلاثة، إزار وقميص ولفافة. وقد أجمع المسلمون على وجوبه، وهو فرض كفاية فيجب فى ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته. واختلف أصحابنا فى المتزوجة إذا كان لها مال، هل يجب تكفينها من مالها، أو هو على زوجها، فذهب إلى الأول الرافعى فى «الشرح الصغير» و «المحرر» والنووى فى «المنهاج» . وذهب إلى الثانى: الرافعى فى «الشرح الكبير» والنووى فى «الروضة» و «شرح المهذب» وقال فيه: قيد الغزالى وجوب التكفين على الزوج بشرط إعسار المرأة، وأنكروه عليه، انتهى. ومتى كانت معسرة فتكفينها على زوجها قطعا، ثم إن الواجب ثوب واحد، وهو حق الله تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه بخلاف الثانى والثالث فإنه حق للميت، تنفذ وصيته بإسقاطهما. وفى هذا الحديث أيضا دلالة على أن القميص الذى غسل فيه النبى- صلى الله عليه وسلم- نزع عنه عند تكفينه. قال النووى فى شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذى لا يتجه غيره، لأنه لو بقى مع رطوبته لأفسد الأكفان. قال: وأما الحديث الذى فى سنن أبى داود عن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- كفن فى

ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان وقميصه الذى توفى فيه، فحديث ضعيف، لا يصح الاحتجاج به، لأن يزيد بن زياد، أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات. وفى حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه- صلى الله عليه وسلم- يوم الثلاثاء، وضع على سريره فى بيته ثم دخل الناس عليه- صلى الله عليه وسلم- أرسالا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحد «1» . وفى رواية: إن أول من صلى عليه- صلى الله عليه وسلم- الملائكة أفواجا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجا فوجا، ثم نساؤه آخرا. وروى أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليّا فقال لهم قولوا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» الآية، لبيك اللهم ربنا وسعديك، صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين، والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شئ يا رب العالمين، على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين ورسول رب العالمين، الشاهد البشير الداعى إليك بإذنك السراج المنير، وعليه السلام، ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغى فى كتابه تحقيق النصرة. ثم قالوا: أين تدفنونه؟ فقال أبو بكر- رضى الله عنه-: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما هلك نبى قط إلا يدفن حيث تقبض روحه» ، وقال على: وأنا أيضا سمعته «3» . وحفر أبو طلحة لحد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى موضع فراشه حيث قبض.

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1628) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى: ضعيف ولكن قصة الشقاق واللحد ثابتة. (2) سورة الأحزاب: 56. (3) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (7/ 260- 261) .

وقد اختلف فيمن أدخله قبره، وأصح ما روى: أنه نزل فى قبره عمه العباس وعلى وقثم بن العباس والفضل بن العباس، وكان آخر الناس عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قثم بن العباس «1» . وروى أنه بنى فى قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانية كان يتغطى بها، فرشها شقران فى القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك «2» . قال النووى: وقد نص الشافعى وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت فى القبر. وشذ البغوى من أصحابنا فقال فى كتابه «التهذيب» : لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهية ذلك كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهيته أن يلبسها أحد بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-. انتهى. وفى كتاب «تحقيق النصرة» : قال ابن عبد البر: ثم أخرجت، يعنى القطيفة من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع. حكاه ابن زبالة. ولما دفن- صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة- رضى الله عنها- فقالت: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التراب؟ وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها وأنشأت تقول: ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علىّ مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا قال رزين: ورش قبره- صلى الله عليه وسلم-، رشه بلال بن رباح بقرية، بدأ من قبل

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 100) من حديث على بن أبى طالب، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (7/ 257) . (2) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1628) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الألبانى وتقدم.

رأسه. حكاه ابن عساكر. وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء. ورفع قبره من الأرض قدر شبر. وفى حديث عائشة عند البخارى قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى مرضه الذى لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» لولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشى أو خشى أن يتخذ مسجدا «1» . كذا فى رواية أبى عوانة عن هلال «خشى أو خشى» على الشك. فرواية «الضم» مبهمة يمكن أن تفسر بأنها هى التى منعت من إبرازه، والهاء ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك. وهذا يقتضى أنهم فعلوه باجتهاد بخلاف رواية الفتح فإنها تقتضى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- هو الذى أمرهم بذلك. وقوله: «لأبرز قبره» أى: لكشف قبره- صلى الله عليه وسلم- ولم يتخذ عليه حائل. والمراد: الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة- رضى الله عنها- قبل أن يوسع المسجد، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلاثة الشكل محددة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلى إلى جهة القبر الكريم مع استقبال القبلة. وفى البخارى أيضا من حديث أبى بكر بن عياش عن سفيان التمار: أنه حدثه أنه رأى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- مسنما أى مرتفعا «2» . زاد أبو نعيم فى «المستخرج» : وقبر أبى بكر وعمر كذلك. واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبى حنيفة ومالك وأحمد والمزنى وكثير من الشافعية، وادعى القاضى حسين اتفاق الأصحاب عليه. وتعقب: بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نص عليه الشافعى. وبه جزم الماوردى وآخرون.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1330) فى الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ومسلم (529) فى المساجد، باب: النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1390) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-.

وقول سفيان التمار لا حجة فيه، كما قال البيهقى لاحتمال أن قبره- صلى الله عليه وسلم- فى الأول لم يكن مسنما. فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبى بكر قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه، اكشفى لى عن قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فكشفت لى عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء «1» . زاد الحاكم: فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقدما وأبو بكر رأسه بين كتفى النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعمر رأسه عند رجلى النبى- صلى الله عليه وسلم-. وهذا كان فى خلافة معاوية. فكأنها كانت فى الأول مسطحة، ثم لما بنى جدار القبور فى إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة. وقد روى أبو بكر الآجرى فى كتاب «صفة قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-» من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبى هند، عن عثيم بن نسطاس المدنى قال: رأيت قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فى إمارة عمر بن عبد العزيز: رأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبى بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبى بكر أسفل منه. ثم الاختلاف فى ذلك فى أنهما أفضل، لا فى أصل الجواز، ورجح المزنى التسنيم من حيث المعنى، بأن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس، بخلاف المسنم. ويرجح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوى ثم قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها. وعن هشام بن عروة عن أبيه: لما سقط عليهم الحائط، يعنى حائط حجرة النبى- صلى الله عليه وسلم- فى زمان الوليد بن عبد الملك، أخذوا فى بنائه، فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة، والله ما هى قدم النبى- صلى الله عليه وسلم-، والله ما هى إلا قدم عمر «2» ، رواه البخارى أيضا.

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3220) فى الجنائز، باب: فى تسوية القبر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1390) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر. من حديث عروة بن الزبير بن العوام- رضى الله عنهما-.

والسبب فى ذلك ما رواه الآجرى من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرنى أبى قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلى إليه أحد، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز فأتاه عروة فقال: هذا ساق عمر وركبته فسري عن عمر بن عبد العزيز. وروى الآجرى قال رجاء بن حيوة: قبر أبى بكر عند وسط النبى- صلى الله عليه وسلم-، وعمر خلف أبى بكر، رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع، وإلا فحديث القاسم أصح. وأما ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره فسنده ضعيف. انتهى ملخصا من فتح البارى. وقد اختلف أهل السير وغيرهم فى صفة القبور المقدسة على سبع روايات، أوردها ابن عساكر فى «تحفة الزائر» ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب قال: بقى فى البيت موضع قبر فى السهوة الشرقية يدفن فيه عيسى ابن مريم- عليهما السلام-، ويكون قبره. الرابع. وفى «المنتظم» لابن الجوزى: عن ابن عمر، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ينزل عيسى ابن مريم فى الأرض، فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبى بكر وعمر» . كذا ذكره فى «تحقيق النصرة» والله أعلم. فإن قلت: تقدم أنه- صلى الله عليه وسلم- توفى يوم الاثنين، ودفن يوم الأربعاء، فلم أخر دفنه- صلى الله عليه وسلم-؟ وقد قال- صلى الله عليه وسلم- لأهل بيت أخروا دفن ميتهم: «عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروا» . فالجواب: لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته، أو لأنهم كانوا لا يعلمون. حيث يدفن، قال قوم فى البقيع، وقال آخرون: فى المسجد، وقال قوم: يحمل إلى إبراهيم حتى يدفن عنده، حتى قال العالم الأكبر صديق

الأمة: سمعته يقول: «ما دفن نبى إلا حيث يموت» «1» . ذكره ابن ماجه والموطأ كما تقدم. وفى رواية الترمذى: «ما قبض الله نبيّا إلا فى الموضع الذى يحب أن يدفن فيه، ادفنوه فى موضع فراشه» «2» . ولأنهم اشتغلوا فى الخلاف الذى وقع بين المهاجرين والأنصار فى البيعة، فنظروا فيها حتى استقر الأمر فى الخلافة ونظامها، فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملأ منهم، وكشف الله به الكربة من أهل الردة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فنظروا فى دفنه فغسلوه وكفنوه ودفنوه. ولما قبض- صلى الله عليه وسلم- تزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة، لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك. إذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه فرحا واستبشارا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح. ولما قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه. كما رواه أبو داود من حديث أنس، وفى رواية الدارمى قال أنس: ما رأيت يوما كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «3» . وفى رواية الترمذى: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شئ، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شئ، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفى دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا «4» . ومن آياته- صلى الله عليه وسلم- ما ذكر من بعد موته، من حزن حماره عليه حتى

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) أخرجه الدارمى (88) فى المقدمة، باب: فى وفاة النبى. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه الترمذى (3618) فى المناقب، باب: فى فضل النبى. من حديث أنس ابن مالك- رضى الله عنه-، قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف

تردى فى بئر وكذا ناقته فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت. ومن ذلك: ظهور ما أخبر أنه كائن بعد موته، مما لا نهاية له ولا عد يحصيه، مما ذكرت بعضه فى المقصد الثامن. وفى حديث أبى موسى عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله إذا أراد بأمة خيرا قبض نبيها قبلها، فجعله فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حى، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره» «1» . وإنما كان قبض النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل أمته خيرا، لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد الله بهم خيرا جعل خيرهم مستمرا ببقائهم محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات نسلا وعقبا بعد عقب. الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام. وقد أطلق بعض المالكية، وهو أبو عمران الفاسى، كما ذكره فى المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق، أنها واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة، وقال القاضى عياض: إنها سنة من سنن المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها. وروى الدار قطنى من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (3288) فى الفضائل، باب: إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها. من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-.

قال: «من زار قبرى وجبت له شفاعتى» «1» . ورواه عبد الحق فى أحكامه الوسطى، وفى الصغرى وسكت عنه، وسكوته عن الحديث فيهما دليل على صحته. وفى المعجم الكبير للطبرانى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «من جاءنى زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتى، كان حقّا علىّ أن أكون شفيعا له يوم القيامة» «2» . وصححه ابن السكن. وروى عنه- صلى الله عليه وسلم-: «من وجد سعة ولم يفد إلىّ فقد جفانى» «3» . ذكره ابن فرحون فى مناسكه، والغزالى فى الإحياء، ولم يخرجه العراقى، بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار فى تاريخ المدينة مما هو فى معناه عن أنس بلفظ: «ما من أحد من أمتى له سعة ثم لم يزرنى إلا وليس له عذر» «4» . ولابن عدى فى «الكامل» وابن حبان فى «الضعفاء» ، والدار قطنى فى «العلل» و «غرائب مالك» وآخرين كلهم عن ابن عمر مرفوعا: «من حج ولم يزرنى فقد جفانى» «5» . ولا يصح. وعلى تقدير ثبوته، فليتأمل قوله «فقد جفانى» فإنه ظاهره فى حرمة ترك الزيارة لأن الجفاء أذى، والأذى حرام بالإجماع فتجب الزيارة، إذ إزالة الجفاء واجبة، حينئذ، فمن تمكن من زيارته ولم يزره فقد جفاه، وليس من حقه علينا ذلك. وعن حاطب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من زارنى بعد موتى فكأنما

_ (1) موضوع: أخرجه ابن عدى فى الكامل، والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى «ضعيف الجامع» (5607) . (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 2) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير، وفيه سلمة بن سالم، وهو ضعيف. (3) ضعيف: ذكره الغزالى فى «الإحياء» وقال الحافظ العراقى: أخرجه ابن عدى والدار قطنى فى غرائب مالك. وابن حبان فى «الضعفاء» والخطيب فى «الرواة» عن مالك وذكره ابن الجوزى فى الموضوعات. (4) ضعيف: أخرجه ابن النجار فى «تاريخ المدينة» ، قاله العراقى فى الموضع السابق. (5) ضعيف أو موضوع: انظر ما قبلهما.

زارنى فى حياتى، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين» «1» . رواه البيهقى عن رجل من آل حاطب لم يسمه عن حاطب. وعن عمر- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من زار قبرى» أو قال: «من زارنى كنت له شفيعا وشهيدا» «2» . رواه البيهقى وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من زارنى محتسبا إلى المدينة كان فى جوارى يوم القيامة» «3» . رواه البيهقى أيضا. قال العلامة زين الدين بن الحسين المراغى: وينبغى لكل مسلم اعتقاد كون زيارته- صلى الله عليه وسلم- قربة، للأحاديث الواردة فى ذلك ولقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ «4» الآية «5» ، لأن تعظيمه- صلى الله عليه وسلم- لا ينقطع بموته، ولا يقال إن استغفار الرسول لهم إنما هو فى حال حياته وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض أئمة المحققين: أن الآية دلت على تعليق وجدان الله توابا رحيما بثلاثة أمور: المجئ، واستغفارهم، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين والمؤمنات لأنه- صلى الله عليه وسلم- قد استغفر للجميع، قال الله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ «6» فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته.

_ (1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 278) بسند فيه هارون بن قزعة، وقيل ابن أبى قزعة، قال البخارى: لا يتابع عليه، وكذلك شيخه مجهول. (2) انظر ما بعده. (3) أخرجه البيهقى فى «شعب الإيمان» كما فى «كنز العمال» (42584) . (4) سورة النساء: 64. (5) قلت: سبحان الله لو أكمل الآية لا تضحت الصورة، وهى قول الله عز وجل لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً، أى من مكانة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن دعوته واستغفاره بمكانة عند الله أنها تستوجب مغفرته عز وجل. (6) سورة محمد: 19.

وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووى، وأوجبها الظاهرية، فزيارته- صلى الله عليه وسلم- مطلوبة بالعموم والخصوص. لما سبق، ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه- صلى الله عليه وسلم- واجب. ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق فى زيارته- صلى الله عليه وسلم- بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفى النساء خلاف، والأشهر فى مذهب الشافعى الكراهة. قال ابن حبيب من المالكية: ولا تدع زيارة قبره- صلى الله عليه وسلم- والصلاة فى مسجده، فإن فيه من الرغبة ما لا غنى بك ولا بأحد عنه. وينبغى لمن نوى الزيارة أن ينوى مع ذلك زيارة مسجده الشريف، والصلاة فيه، لأنه أحد المساجد الثلاثة التى لا تشد الرحال إلا إليها، وهو أفضلها عند مالك، وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل، لأن الشرع لم يجئ به، وهذا الأمر لا يدخله قياس، لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص فى هذه دون غيرها. وقد صح أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبى- صلى الله عليه وسلم-. فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة. ومن نذر الزيارة وجبت عليه. كما جزم به ابن كج من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- لزمه الوفاء، وجها واحدا، انتهى: ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال المالكية والحنابلة، لكنه يخرج عنه بالصلاة فى المسجد الحرام. وصحح النووى أيضا أنه يخرج عنه بالصلاة فى مسجد المدينة. قال: ونص عليه الشافعى فى البويطى. وبه قال الحنفية والحنابلة. وللشيخ تقى الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب «1» ، يتضمن منع

_ (1) قلت: وهل قال ابن تيمية إلا بما قال به الأولون من القرون الثلاثة السابقة، من كراهة اتخاذ قبره- صلى الله عليه وسلم- عيدا أو مكانا يعبد الله فيه، لأحاديثه- صلى الله عليه وسلم- ذاته الناهية عن ذلك، أم نخالفه ونعصى أمره، ونقع فى المحذور الذى حذرنا منه بعبادته دون الله كما حدث من أتباع عيسى- عليه السّلام- ونغالى فيه كما غالت الأمم من قبلنا فى أنبيائهم وصالحيهم فعبدوهم من دون الله.

شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك. ورد عليه الشيخ تقى الدين السبكى فى «شفاء السقام» فشفى صدور المؤمنين. وحكى الشيخ ولى الدين العراقى، أن والده كان معادلا للشيخ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الدمشقى فى التوجه إلى بلد الخليل- عليه السّلام-، فلما دنا من البلد قال: نويت الصلاة فى مسجد الخليل، ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية، فقلت: نويت زيارة قبر الخليل- عليه السّلام-. ثم قلت: أما أنت فقد خالفت النبى- صلى الله عليه وسلم-، لأنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع، وأما أنا فاتبعت النبى- صلى الله عليه وسلم- لأنه قال: «زوروا القبور» أفقال: إلا قبور الأنبياء؟! قال: فبهت. وينبغى لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم عليه فى طريقه، فإذا وقع بصره على معالم المدينة الشريفة وما تعرف به، فليردد الصلاة والتسليم، وليسأل الله أن ينفعه بزيارته ويسعده بها فى الدارين. وليغتسل ويلبس النظيف من ثيابه، وليترجل ماشيا باكيا. ولما رأى وفد عبد القيس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألقوا أنفسهم عن رواحلهم ولم ينيخوها وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم- صلوات الله وسلامه عليه-. وروينا مما ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» أن أبا الفضل الجوهرى لما ورد إلى المدينة زائرا، وقرب من بيوتها ترجل ومشى باكيا منشدا: ولما رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا نزلنا عن الأكوار نمشى كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا وأنبئت بأن العلامة أبا عبد الله بن رشيد قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع وثمانين وستمائة، كان معى رفيقى الوزير أبو عبد الله بن أبى القاسم بن الحكيم، وكان أرمد، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار، وقوى الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشى على قدميه احتسابا لتلك الآثار،

وإعظاما لمن حل تلك الديار، فأحس بالشفاء، فأنشد لنفسه فى وصف الحال لمن حل فى تلك الديار: ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا وحين تبدى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أذيلت لنا قربا نزلنا عن الأكوار نمشى كرامة ... لمن حل فيها أن نلم به ركبا نسح سجال الدمع فى عرصاته ... ونلثم من حب لواطئه التربا وإن بقائى دونه لخسارة ... ولو أن كفى تملك الشرق والغربا فيا عجبا ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل الكذبا وزلات مثلى لا تعدد كثرة ... وبعدى عن المختار أعظمها ذنبا ولما كنت سائرا لقصد الزيارة فى ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولاح لنا عند الصباح جبل مفرح الأرواح المبشر بقرب المزار من أشرف الديار، تسابق الزوار إليه، وتعالوا بالصعود عليه استعجالا لمشاهدة تلك الآثار واقتباسا لمشاهدة تلك الأنوار فبرقت لوامع الأنوار النبوية، وهبت عرف نسمات المعارف المحمدية، فطبنا وغبنا إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية فأنشدت: ألا مع برق يغتدى ويروح ... أم النور من أرض الحجاز يلوح وريح الصبا هبت بطيّب عرفهم ... أم الروض فى وجه الصباح يفوح إذا ريح ذاك الحى هب فإنها ... حياة لمن يغدو لها ويروح ترفق بنا يا حادى العيس والتفت ... فللنور بين الواديين وضوح فما هذه إلا ديار محمد ... وذاك سناها يغتدى ويروح وإلا فما للركب هاج اشتياقهم ... فكل من الشوق الشديد يصيح وأنّت مطايا الركب حتى كأنها ... حمام على قضب الأراك تنوح وقد مدت الأعناق شوقا وطرفها ... إلى النور من تلك الديار لموح رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها ... ومدمعها فى الوجنتين سفوح إذا العيس باحت بالغرام ولم تطق ... خفاء فما للضب ليس يبوح

ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها الكريمة وآكامها، وانتشقنا عرف لطائف أزهارها، وبدت لنواظرنا بوارق أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا، ونزل القوم عن المطايا، فأنشدت متمثلا: أتيتك زائرا وودت أنى ... جعلت سواد عينى أمتطيه وما لى لا أسير على الماقى ... إلى قبر رسول الله فيه ولما وقع بصرى على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح سوابق العبرات حتى أصابت بعض الثرى والجدرات وقلت: أيها المغرم المشوق هنيئا ... ما أنالوك من لذيذ التلاق قل لعينيك تهملان سرورا ... طالما أسعداك يوم الفراق واجمع الوجد والسرور ابتهاجا ... وجميع الأشجان والأشواق ومر العين أن تفيض انهمالا ... وتوالى بدمعها المهراق هذه دارهم وأنت محب ... ما بقاء الدموع فى الآماق وقلت: وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر ويستحب صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة، وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف- صلى الله عليه وسلم-. فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية. قال فى «تحقيق النصرة» وهو استدراك حسن. قاله بعض شيوخنا. وفى منسك ابن فرحون: فإن قلت: المسجد إنما تشرف بإضافته إليه- صلى الله عليه وسلم- فينبغى البداءة بالوقوف عنده- صلى الله عليه وسلم-. قلت: قال ابن حبيب فى أول كتاب الصلاة: حدثنى مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسلم عليه وهو بفناء المسجد، فقال: «أدخلت المسجد فصليت فيه؟» قلت: لا، قال: «فاذهب فادخل المسجد وصل فيه، ثم ائت فسلم علىّ» .

قال: ورخص بعضهم فى تقديم الزيارة على الصلاة. قال ابن الحاج: وكل ذلك واسع ولعل هذا الحديث لم يبلغهم، والله أعلم. انتهى. وينبغى للزائر أن يستحضر الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصدا فى سلامه بين الجهر والإسرار. وفى البخارى: أن عمر- رضى الله عنه- قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «1» . وقد روى عن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- قال: لا ينبغى رفع الصوت على نبى حيّا ولا ميتا. وروى عن عائشة- رضى الله عنها- أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب فى بعض الدور المطيفة بمسجد النبى- صلى الله عليه وسلم- فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قالوا: وما عمل على بن أبى طالب- رضى الله عنه- مصراعى داره إلا بالمصانع توقيا لذلك. نقله ابن زبالة. فيجب الأدب معه كما فى حياته. وينبغى للزائر أن يتقدم إلى القبر الشريف من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلى الصاحبين فهو أبلغ فى الأدب من الإتيان من جهة رأسه المكرم. ويستدبر القبلة ويقف قبالة وجهه- صلى الله عليه وسلم- بأن يقابل المسمار الفضة المضروب فى الرخام الذى فى الجدار، ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم، لأن هناك عدة قناديل. وقد روى أن مالكا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسى: يا أبا عبد الله أستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأدعو، أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السّلام- إلى الله عز وجل يوم القيامة. لكن رأيت منسوبا للشيخ تقى الدين بن تيمية فى منسكه: أن هذه

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (470) فى الصلاة، باب: رفع الصوت فى المسجد. من حديث السائب بن يزيد- رضى الله عنه-.

الحكاية كذب على مالك. وأن الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون ويدعون فى مسجده- صلى الله عليه وسلم-. قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك. وينبغى أن يقف عند محاذاة أربعة أذرع ويلازم الأدب والخشوع والتواضع، غاض البصر فى مقام الهيبة، كما كان يفعل بين يديه فى حياته، ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه وسماعه لسلامه، كما هو الحال فى حال حياته، إذ لا فرق بين موته وحياته فى مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جلى لا خفاء به. فإن قلت: هذه الصفات مختصة بالله تعالى. فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين يعلم أحوال الأحياء غالبا، وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور فى مظنة ذلك من الكتب. وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب: ليس من يوم إلا ويعرض على النبى- صلى الله عليه وسلم- أعمال أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم. ويمثل الزائر وجهه الكريم- صلى الله عليه وسلم- فى ذهنه، ويحضر قلبه جلال رتبته، وعلو منزلته، وعظيم حرمته، وإن أكابر الصحابة ما كانوا يخاطبونه إلا كأخى السرار، تعظيما لما عظم الله من شأنه. وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة- رضى الله عنها-: أن اكشفى لى عن قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكشفته فبكت حتى ماتت. وحكى عن أبى الفضائل الحموى، أحد خدام الحجرة المقدسة، أنه شاهد شخصا من الزوار الشيوخ، أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميت، وكان ممن شهد جنازته. ثم يقول الزائر بحضور قلب، وغض بصر وصوت، وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبى الله، السلام عليك

يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة خلق الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر عباد الله الصالحين، جزاك الله عنا يا رسول الله أفضل ما جازى نبيّا ورسولا عن أمته، وصلى الله عليك كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه، وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت فى الله حق جهاده. ومن ضاق وقته عن ذلك، أو عن حفظه فليقل ما تيسر منه، أو مما يحصل به الغرض. وفى «التحفة» : أن ابن عمر وغيره من السلف كانوا يقتصرون ويوجزون فى هذا جدّا. فعن مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وناهيك به خبرة بهذا الشأن من رواية ابن وهب عنه، يقول: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته. وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا قدم من سفر دخل المسجد، ثم أتى القبر المقدس فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. وينبغى أن يدعو، ولا يتكلف السجع فإنه قد يؤدى إلى الإخلال بالخشوع. وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ فى «الشامل» الحكاية المشهورة عن العتبى، واسمه: محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبى سفيان صخر بن حرب، وتوفى فى سنة ثمان وعشرين ومائتين، وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزى فى مثير الغرام الساكن. عن محمد بن حرب الهلالى قال: أتيت قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فزرته

وجلست بحذائه، فجاء أعرابى فزاره ثم قال: يا خير الرسل، إن الله أنزل عليك كتابا صادقا، قال فيه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً «1» وقد جئتك مستغفرا من ذنبى مستشفعا بك إلى ربى وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ووقف أعرابى على قبره الشريف وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد، وهذا حبيبك وأنا عبدك، فأعتقنى من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا تسأل العتق لك وحدك، هلا سألت لجميع الخلق. اذهب فقد أعتقناك من النار. إن الملوك إذا شابت عبيدهم ... فى رقهم أعتقوهم عتق أبرار وأنت يا سيدى أولى بذاكرما ... قد شبت فى الرق فاعتقنى من النار وعن الحسن البصرى قال: وقف حاتم الأصم على قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رب، إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودى: يا هذا ما أذنا لك فى زيارة قبر حبيبنا إلا وقد قبلناك فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورا لكم. وقال ابن أبى فديك: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فتلا هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» وقال: صلى الله عليك يا محمد، حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، ولم تسقط له حاجة. قال الشيخ زين الدين المراغى وغيره: الأولى أن ينادى يا رسول الله وإن كانت الرواية يا محمد، انتهى. وقد نبهت على ذلك مع مزيد بيان فى كتاب

_ (1) سورة النساء: 64. (2) سورة الأحزاب: 56.

«لوامع الأنوار فى الأدعية والأذكار» . فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان. ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلم على أبى بكر- رضى الله عنه-، لأن رأسه بحذاء منكب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر، فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيد الله به- يوم الردة- الدين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، اللهم ارض عنه، وارض عنا به. ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلم على عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيد الله به الدين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، اللهم ارض عنه، وارض عنا به. ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد السلام على سيدنا أبى بكر وعمر، فيحمد الله تعالى ويمجده، ويصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم-، ويكثر من الدعاء والتضرع، ويجدد التوبة فى حضرته الكريمة، ويسأل الله بجاهه أن يجعلها توبة نصوحا، ويكثر من الصلاة والسلام على النبى- صلى الله عليه وسلم- بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه. وقد روى أبو داود من حديث أبى هريرة: أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مسلم يسلم علىّ إلا رد الله علىّ روحى حتى أرد عليه السلام» «1» . وعند ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة مرفوعا: «من صلى على عند قبرى سمعته، ومن صلى على نائيا بلغته» . وعن سليمان بن سحيم، مما ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» قال: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى النوم، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأرد عليهم.

_ (1) حسن: أخرجه أبو داود (2041) فى المناسك، باب: زيارة القبور. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ولا شك أن حياة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغى أن تكون حياته- صلى الله عليه وسلم- أكمل وأتم من حياة سائرهم. فإن قال سقيم الطبع ردئ الفهم، لو كانت حياته- صلى الله عليه وسلم- مستمرة ثابتة لما كان لرد روحه معنى كما قال: «إلا رد الله على روحى» . يجاب على ذلك من وجوه: أحدها: أن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائما لثبوت رد السلام دائما، فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم، واللازم يجب وجوده عند ملزومه أو ملزوم ملزومه، فوصف الحياة ثابت دائما لأن ملزوم ملزومه ثابت دائما، وهذا من نفاثات سحر البيان فى إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة، وأجمل فنون البراعة التى هى قطرة من بحار بلاغته العظمى. ومنها: أن ذلك عبارة عن إقبال خاص، والتفات روحانى يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا، وقوالب الأجساد الترابية، وتنزل إلى دائرة البشرية، حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وهذا الإقبال يكون عامّا شاملا، حتى لو كان المسلمون فى كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف لوسعهم ذلك الإقبال النبوى والالتفات الروحانى، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبر عنه، ولقد أحسن من سئل: كيف يرد النبى- صلى الله عليه وسلم- على من يسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها فى آن واحد فأنشد قول أبى الطيب: كالشمس فى وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا ولا ريب أن حاله- صلى الله عليه وسلم- فى البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل- عليه السّلام- يقبض مائة ألف روح فى وقت واحد ولا يشغله قبض عن قبض، وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى، مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا- صلى الله عليه وسلم- حى يصلى ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال فى حضرة اقترابه، متلذذا بسماع خطابه، وقد تقدم الجواب عن قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» فى أواخر الخصائص من المقصد الرابع.

_ (1) سورة الزمر: 30.

وقد روى الدارمى عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة، لم يؤذن فى مسجد النبى- صلى الله عليه وسلم-، ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبى- صلى الله عليه وسلم-، وذكر ابن النجار وابن زبالة بلفظ قال سعيد- يعنى ابن المسيب-. فلما حضرت الظهر سمعت الأذان فى القبر، فصليت ركعتين، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة فى القبر المقدس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، يعنى ليالى أيام الحرة. وقد روى البيهقى وغيره: من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الأنبياء أحياء فى قبورهم يصلون» «1» . وفى رواية: «أن الأنبياء لا يتركون فى قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدى الله حتى ينفخ فى الصور» . وله شواهد فى صحيح مسلم منها: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «مررت بموسى وهو قائم يصلى فى قبره» «2» . وفى حديث أبى ذر فى قصة المعراج: أنه لقى الأنبياء فى السموات، وكلموه وكلمهم «3» . وقد ذكرت مزيد بيان لذلك فى حجة الوداع من مقصد عباداته، وفى ذكر الخصائص الكريمة فى مقصد معجزاته، وفى مقصد الإسراء والمعراج. وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء ليس على سبيل التكليف، إنما هو على سبيل التلذذ، ويحتمل أن يكونوا فى البرزخ ينسحب عليهم حكم الدنيا فى استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف، وبا لله التوفيق. وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

_ (1) صحيح: أخرجه أبو يعلى عن أنس، كما فى «صحيح الجامع» (2790) . (2) صحيح: أخرجه مسلم (2375) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (3) انظر المجلد الأول، باب: إسرائه- صلى الله عليه وسلم-.

أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» حياة الشهيد، ثبت للنبى- صلى الله عليه وسلم- بطريق الأولى، والذى عليه جمهور العلماء: أن الشهداء أحياء حقيقة، وهل ذلك للروح فقط أو للجسد معها؟ بمعنى عدم البلى، قولان. وقد صح عن جابر: أن أباه وعمرو بن الجموح وكانا ممن استشهد بأحد ودفنا فى قبر واحد، حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا، وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأمطيت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت. وكان بين ذلك وبين أحد ست وأربعون سنة. وروى عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال فى شهداء أحد: «والذى نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه» . رواه البيهقى عن أبى هريرة. وقد قال ابن شهاب: بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أكثروا من الصلاة علىّ فى الليلة الزهراء واليوم الأزهر، فإنهما يؤديان عنكم، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء» «2» . رواه أبو داود وابن ماجه. ونقل ابن زبالة عن الحسن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من كلمه روح القدس لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه» . وقد ثبت أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- مات شهيدا لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمّا قاتلا من ساعته حتى مات منه بشر بن البراء، وصار بقاؤه- صلى الله عليه وسلم-

_ (1) سورة آل عمران: 169. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (1047) فى الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، وابن ماجه (1636) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه من حديث أوس بن أوس- رضى الله عنه-، ولفظه «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علىّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علىّ» ، فقال رجل: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يعنى بليت؟ قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» . والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

معجزة، فكان ألم السم يتعاهده إلى أن مات به، ولذا قال فى مرض موته- كما مر-: «ما زالت أكلة خيبر تعادّنى حتى كان الآن قطعت أبهرى» «1» . والأبهران: عرقان يخرجان من القلب تتشعب منهما الشرايين، كما ذكره فى الصحاح. قال العلماء: فجمع الله له بذلك بين النبوة والشهادة. انتهى. وقد اختلف فى محل الوقوف للدعاء. فعند الشافعية أنه قبالة وجهه كما ذكرته، وقال ابن فرحون من المالكية: اختلف أصحابنا فى محل الوقوف للدعاء، ففى الشفاء قال مالك- فى رواية ابن وهب-: إذا سلم على النبى- صلى الله عليه وسلم- يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، وقد سأل الخليفة المنصور مالكا فقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السّلام- إلى الله يوم القيامة. وقال مالك فى «المبسوط» ، لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، ولكن يسلم ويمضى. قال ابن فرحون: ولعل ذلك ليس اختلاف قول، وإنما أمر المنصور بذلك لأنه يعلم ما يدعو، ويعلم آداب الدعاء بين يديه- صلى الله عليه وسلم-، فأمن عليه من سوء الأدب فأفتاه بذلك، وأفتى العامة أن يسلموا وينصرفوا، لئلا يدعوا تلقاء وجهه الكريم ويتوسلوا به فى حضرته إلى الله العظيم فيما لا ينبغى الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم، فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة، وأكثرهم لا يقوم باداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى. ورأيت مما نسب للشيخ تقى الدين بن تيمية فى منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، ولا يصلى إليها ولا يقبلها، فإن هذا كله منهى عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك، والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء، كذب على مالك، وكذا قال، والله أعلم، انتهى.

_ (1) تقدم.

وأما قول الأبوصيرى فى بردة المديح: لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم فقال شارحها العلامة ابن مرزوق وغيره: كأنه إشارة إلى النوعين المستعملين فى الطيب، لأنه إما أن يستعمل بالشم، وإليه أشار بقوله «لمنتشق» وإما بالتضمخ وإليها أشار ب «ملتثم» ، قال: وأقل ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود فى مسجده- صلى الله عليه وسلم-، فليس المراد به تقبيل القبر الشريف فإنه مكروه. ونقل الزركشى عن السيرافى: أن «طوبى» الطيب، قال ابن مرزوق: طوبى فعلى من أنواع الطيب. وهذا مبنى على أن المراد أن تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إما لأنه كذلك فى نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإما باعتبار المؤمن فى ذلك فإن المؤمن لا يعدل بشم رائحة تربته- صلى الله عليه وسلم- شيئا من الطيب. فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد. فالجواب: لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشرائط وتنتفى الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك، مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف عنه. ولما كانت أحوال القبر من الأمور الآخروية، لا جرم لا يدركها من الأحياء إلا من كشف له الغطاء من الأولياء المقربين، لأن متاع الآخرة باق، ومن فى الدنيا فان، والفانى لا يتمتع بالباقى للتضاد، ولا ريب عند من له أدنى تعلق بشريعة الإسلام أن قبره- صلى الله عليه وسلم- روضة من رياض الجنة، بل أفضلها، وإذا كان القبر كما ذكرناه وقد حوى جسمه الشريف- عليه الصلاة والسلام- هو أطيب الطيب، فلا مرية أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدس. ويرحم الله أحمد بن محمد العريف حيث يقول فى قصيدته التى أولها:

إذا ما حدا الحادى بأحمال يثرب ... فليت المطايا فوق خدى تعبّق ثم قال بعد أبيات: فما عبق الريحان إلا وتربها ... أجلّ من الريحان طيبا وأعبق وله أيضا: راحت ركائبهم تبدى روائحها ... طيبا فيا طيب ذاك الوفد أشباحا نسيم قبر النبى المصطفى لهم ... روض إذا نشروا من ذكره فاحا ولله در القائل: فاح الصعيد بجسمه فكأنه ... روض بنم يعرفه المتأرج ما جسمه مما يغيره الثرى ... والروح منه كالصباح الأبلج وقال ابن بطال فى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «المدينة ينصع طيّبها» «1» هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها مع فراق الأهل والتزام المخافة من العدو فلما باع نفسه والتزم هذا الأمر بأن صدقه ونصع إيمانه وقوى لاغتباطه بسكن المدينة ولقربه من رسوله، كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقا على سائر البلاد، خصوصية خص الله بها بلدة رسوله- صلى الله عليه وسلم- الذى اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهر، وقد جاء فى الحديث «أن المؤمن يقبر فى التربة التى خلق منها» فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب، كما أنه هو- صلى الله عليه وسلم- أفضل البشر، فلهذا والله أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان. انتهى. وينبغى للزائر أن يكثر من الدعاد والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به- صلى الله عليه وسلم-، فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه. واعلم أن الاستغاثة هى طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1883) فى الحج، باب: المدينة تنفى الخبث، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.

به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ: الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التجوّه أو التوجه، لأنهما من الجاه والوجاهة ومعناه: علو القدر والمنزلة. وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبى- صلى الله عليه وسلم- كما ذكره فى «تحقيق النصرة» و «مصباح الظلام» - واقع فى كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، فى مدة حياته فى الدنيا وبعد موته فى مدة البرزخ، وبعد البعث فى عرصات القيامة. فأما الحالة الأولى فحسبك ما قدمته فى المقصد الأول من استشفاع آدم- عليه السّلام- به لما أخرج من الجنة، وقول الله تعالى له: «يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد فى أهل السماوات والأرض لشفعناك» . وفى حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقى وغيرهما: «وإن سألتنى بحقه فقد غفرت لك» . ويرحم الله «1» ابن جابر حيث قال: به قد أجاب الله آدم إذ دعا ... ونجّى فى بطن السفينة نوح وما ضرت النار الخليل لنوره ... ومن أجله نال الفداء ذبيح وصح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لى، قال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتنى بيدك ونفخت فىّ من روحك، رفعت رأسى فرأيت قوائم العرش مكتوبا عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لا تضيف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلى، وإذ سألتنى بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك «2» . ذكره الطبرى وزاد فيه: وهو آخر الأنبياء من ذريتك.

_ (1) قلت: بل يغفر الله لقائله تلك الكلمات التى ليس عليها دليل، إلا أهواء قائليها، وما ضرهم إذ وصفوه بما وصفه الله تعالى به أو وصف به نفسه دون إفراط أو تفريط. (2) تقدم أنه موضوع.

وأما التوسل بعد خلقه فى مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به- صلى الله عليه وسلم- عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك مما ذكرته فى مقصد المعجزات ومقصد العبادات فى الاستسقاء، ومن ذلك استغاثة ذوى العاهات به، وحسبك ما رواه النسائى والترمذى عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضرير أتاه- صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله يعافينى، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد إنى أتوجه بك إلى ربك فى حاجتى لتقضى، اللهم شفعه فىّ» «1» وصححه البيهقى، وزاد: فقام وقد أبصر. وأما التوسل به- صلى الله عليه وسلم- بعد موته فى البرزخ فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء وفى كتاب «مصباح الظلام فى المستغيثين بخير الأنام» للشيخ أبى عبد الله بن النعمان طرف من ذلك. ولقد كان حصل لى داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به- صلى الله عليه وسلم- ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة بمكة زادها الله شرفا، ومنّ علىّ بالعود فى عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلانى من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوى، ثم استيقظت فلم أجد بى- والله- شيئا مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبى- صلى الله عليه وسلم-. ووقع لى أيضا فى سنة خمس وثمانين وثمانمائة فى طريق مكة، بعد رجوعى من الزيارة الشريفة لقصد مصر، أن صرعت خادمتنا غزال الحبشية، واستمر بها أياما، فاستشفعت به- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك، فأتانى آت فى منامى، ومعه الجنى الصارع لها فقال: لقد أرسله لك النبى- صلى الله عليه وسلم-، فعاتبته وحلفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة كأنما نشطت من عقال، ولا

_ (1) صحيح: وقد تقدم، إلا أن المقصود بالتوسل به هنا التوسل بدعائه، لا التوسل بذاته، وبينهما فرق.

زالت فى عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد لله رب العالمين «1» . وأما التوسل به- صلى الله عليه وسلم- فى عرصات القيامة، فمما قام عليه الإجماع وتواترت به الأخبار فى حديث الشفاعة. فعليك أيها الطالب إدراك السعادة الموصل لحسن الحال فى حضرة الغيب والشهادة، بالتعلق بأذيال عطفه وكرمه، والتطفل على موائد نعمه، والتوسل بجاهه الشريف والتشفع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالى واقتناص المرام، والمفزع يوم الجزع والهلع لكافة الرسل الكرام، واجعله أمامك فيما نزل بك من النوازل، وإمامك فيما تحاول من القرب والمنازل، فإنك تظفر من المراد بأقصاه، وتدرك رضى من أحاط بكل شئ علما وأحصاه، واجتهد ما دمت بطيبة الطيبة حسب طاقتك فى تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير الطلبات، وارق فى مدارج العبادات، ولج فى سرادق المرادات. تمتع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصل ما استطعت من ادخار فها أنا قد أبحت لكم عطائى ... وها قد صرت عندى فى جوارى فخذ ما شئت من كرم وجود ... ونل ما شئت من نعم غزار فقد وسعت أبواب التدانى ... وقد قربت للزوار دارى فمتع ناظريك فها جمالى ... تجلى للقلوب بلا استتار ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة فى مسجده المكرم، خصوصا بالروضة التى ثبت أنها روضة من رياض الجنة «2» . كما رواه البخارى.

_ (1) قلت: هذه حكايات أعيان لا حجة فيها، لأنه ليس عليه دليل شرعى، ولو فتح هذا الباب لقال من شاء ما شاء. (2) قلت: الذى فى صحيح البخارى: «ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة» أخرجه برقم (1195) فى الجمعة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر، والمقصد أن هذه البقعة سببا فى دخول الجنة، إما لأنها مكان علم (المسجد النبوى) ينتفع به، أو تؤدى فيه عبادة مقبولة فتكون سببا فى دخول الجنة، وكلاهما مقصود.

قال ابن أبى جمرة معناه: تنقل تلك البقعة بعينها فى الجنة، فتكون روضة من رياض الجنة، ويحتمل أن يكون المراد: العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معا، يعنى احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، قال: ولكل وجه منهما دليل يعضده ويقويه من جهة النظر والقياس. أما الدليل على أن العمل فيها يوجب روضة فى الجنة، فلأنه إذا كانت الصلاة فى مسجده- صلى الله عليه وسلم- بألف فيما سواه من المساجد، فلهذه البقعة زيادة على باقى البقع كما كان للمسجد زيادة على غيره. وأما الدليل على كونها بعينها فى الجنة، وكون المنبر أيضا على الحوض، كما أخبر- صلى الله عليه وسلم- وأن الجذع فى الجنة، والجذع فى البقعة نفسها، فالعلة التى أوجبت للجذع الجنة هى فى البقعة سواء، على ما أذكره بعد- إن شاء الله تعالى-. والذى أخبر بهذا أخبر بهذا، فينبغى الحمل على أكمل الوجوه، وهو الجمع بينهما، لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقعة المباركة، ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضا، فعلى هذا يكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة كما كان فى موضعه، ويكون للعامل فيه روضة فى الجنة، وهو الأظهر لوجهين: أحدهما: لعلو منزلته- صلى الله عليه وسلم-، ولما خص الخليل- عليه السّلام- بالحجر من الجنة، خص الحبيب- صلى الله عليه وسلم- بالروضة من الجنة. وها هنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبد، فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة فحينئذ يحتاج إلى البحث. والأظهر أنه لحكمة، وهى أنه قد سبق فى العلم الربانى بما ظهر أن الله عز وجل فضله على جميع خلقه، وأن كل ما كان منه بنسبة ما من جميع

المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه كما استقرئ فى كل أموره، من بدء ظهوره- صلى الله عليه وسلم- إلى حين وفاته، فى الجاهلية والإسلام. فمنها ما كان فى شأن أمه، وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء، حسب ما هو مذكور معلوم. ومثل ذلك حليمة السعدية. وحتى الأتان، وحتى البقعة التى تجعل الأتان يدها عليها تخضر من حينها، وما هو من ذلك كله معلوم. وكان مشيه- صلى الله عليه وسلم- حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع- صلى الله عليه وسلم- يده المباركة ظهر فى ذلك كله من الخيرات والبركات حسّا ومعنى، كما هو منقول معروف. ولما شاء صاحب القدرة أنه- صلى الله عليه وسلم- لا بدّ له من بيت، ولا بدّ له من منبر، وأنه بالضرورة يكثر تردده- صلى الله عليه وسلم- بين المنبر والبيت، فالحرمة التى أعطى غيرهما إذا كان من مسّة واحدة بمباشرته أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده- صلى الله عليه وسلم- فى البقعة الواحدة مرارا فى اليوم الواحد طول عمره، من وقت هجرته إلى حين وفاته. فلم يبق من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفناه، وهو أنها كانت من الجنة، وتعود إليها، وهى الآن منها، وللعامل فيها مثلها، فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه فى هذه الدار، لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرنا فى جنسها. فإن احتج محتج لا فهم له بأن يقول: ينبغى أن يكون ذلك للمدينة بكمالها، لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يطؤها بقدمه مرارا. فالجواب: أنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها، من ذلك أن ترابها شفاء كما أخبر- صلى الله عليه وسلم-، مع ما شاركت فيه البقعة المكرمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام. وأنه- صلى الله عليه وسلم- أول ما يشفع لأهلها يوم القيامة، وأن ما كان لها من الوباء والحمى رفع عنها، وأنه بورك فى طعامها وشرابها وأشياء كثيرة، فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولا، بأن تردده- صلى الله عليه وسلم- فى المسجد نفسه أكثر مما فى المدينة نفسها، وتردده- صلى الله عليه وسلم- فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض، لأنه جاءت البركة متناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة، والقرب من تلك النسمة

المرتفعة لا خفاء فيه إلا على ملحد أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد والبقعة أرفع البقع، قضية معلومة وحجة ظاهرة موجودة. انتهى. وقال الخطابى: المراد من هذا الحديث الترغيب فى سكنى المدينة، وأن من لازم ذكر الله فى مسجدها آل به إلى روضة من رياض الجنة، وسقى يوم القيامة من الحوض انتهى. وتقدم فى الخصائص من مقصد المعجزات مزيد لذلك. وعند مسلم من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» . وقد اختلف العلماء فى المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم فى مكة والمدينة أيهما أفضل؟ ومذهب سفيان بن عيينة والشافعى وأحمد- فى أصح الروايتين عنه- وابن وهب ومطرف وابن حبيب- الثلاثة من المالكية- وحكاه الساجى عن عطاء بن أبى رباح، والمكيين والكوفيين. وحكاه ابن عبد البر عن عمر وعلى وابن مسعود وأبى الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة، وجماهير العلماء، أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة. وقد حكى ابن عبد البر أنه روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها، قال: ولكن المشهور عن أصحابه فى مذهبه تفضيل المدينة. انتهى. وقال مالك: المدينة ومسجدها أفضل. ومما احتج به أصحابنا لتفضيل مكة: حديث عبد الله بن الحمراء أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو واقف على راحلته يقول: «والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» «1» . قال الترمذى:

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3925) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم- وصحبه، وابن ماجه (3108) فى المناسك، باب: فضل مكة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

حسن صحيح. وقال ابن عبد البر: هذا أصح الآثار عنه- صلى الله عليه وسلم-. قال: وهذا قاطع فى محل الخلاف. انتهى. فعند الشافعى والجمهور معناه- أى الحديث-: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة فى مسجدى. وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فى مسجدى تفضله بدون الألف. وعن عبد الله بن الزبير قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فى هذا» «1» رواه أحمد وابن حبان فى صحيحه. وزاد: يعنى فى مسجد المدينة، البزار ولفظه: «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه مائة» . قال المنذرى: وإسناده صحيح أيضا. ومما يستدل به المالكية، ما ذكره ابن حبيب فى «الواضحة» أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «صلاة فى مسجدى كألف صلاة فيما سواه. وجمعة فى مسجدى كألف جمعة فيما سواه، ورمضان فى مسجدى كألف رمضان فيما سواه» . ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين- كما قاله القاضى عياض- أن المدينة أفضل، وهو أحد الروايتين عن أحمد. وأجمعوا على أن الموضع الذى ضم أعضاءه الشريفة- صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجى والقاضى عياض، بل نقل التاج السبكى كما ذكره السيد السمهودى فى «فضائل المدينة» عن ابن عقيل الحنبلى أنها أفضل من العرش، وصرح الفاكهانى بتفضيلها على السماوات ولفظه: وأقول أنا وأفضل من بقاع السماوات أيضا. ولم أر من

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1406) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى فضل الصلاة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

تعرض لذلك، والذى أعتقده لو أن ذلك عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطئ قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها لكونه- صلى الله عليه وسلم- حالا فيها لم يبعد، بل هو عندى الظاهر المتعين. انتهى. وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووى: إن الجمهور على تفضيل السماء على الأرض، أى ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة. وقد استشكل ما ذكر من الإجماع على أفضلية ما ضم أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام فى تفضيل بعض الأماكن على بعض، من أن الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما لا بصفات قائمة بهما. قال: ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه، والتفضيل الذى فيهما أن الله تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما. انتهى. ملخصا. لكن تعقبه الشيخ تقى الدين السبكى بما حاصله: إن الذى قاله لا ينفى أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما وإن لم يكن عمل، لأن قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا لأنه ليس مسجدا، ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق للنبى- صلى الله عليه وسلم-. وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبى- صلى الله عليه وسلم- حى كما تقرر، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن. قال: ومن فهم هذا انشرح صدره لما قاله القاضى عياض من تفضيل ما ضم أعضاءه الشريفة- صلى الله عليه وسلم- باعتبارين: أحدهما، ما قيل إن كل أحد يدفن فى الموضع الذى خلق منه، والثانى: تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال الله

تعالى. ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته ولكن لأجل من حلّ فيه- صلى الله عليه وسلم-. انتهى. وقد روى أبو يعلى عن أبى بكر أنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يقبض النبى إلا فى أحب الأمكنة إليه» . ولا شك أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى، لأن حبه تابع لحب ربه جل وعلا، وما كان أحب إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل؟ وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إن إبراهيم دعاك لمكة، وإنى أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه» «1» . ولا ريب أن دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم- أفضل من دعاء إبراهيم، لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعى. وقد صح أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة أو أشد» «2» . وفى رواية «بل أشد» وقد أجيبت دعوته، حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها. وروى الحاكم أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم إنك أخرجتنى من أحب البقاع إلىّ فأسكنى فى أحب البقاع إليك» «3» أى فى موضع تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان. قيل ضعفه ابن عبد البر، ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة لحديث «إن مكة خير بلاد الله» ، وفى رواية «أحب أرض الله إلى الله» ، ولزيادة التضعيف بمسجد مكة. وتعقبه العلامة السيد السمهودى: بأن ما ذكر لا يقتضى صرفه عن ظاهره، إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيرها الله كذلك. وحديث: «إن مكة خير بلاد الله» محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدين، وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابة دعوته، وصيرورتها أحب مطلقا بعد، ولهذا

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (1373) فى الحج، باب: فضل المدنية ودعاء النبى فيها بالبركة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (1889) فى الحج، باب: كراهية النبى أن تعدى المدينة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (3) ذكره العجلونى فى «كشف الخفاء» (555) وعزاه للحاكم فى المستدرك، وابن سعد فى شرف المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، إلا أنى لم أقف عليه فى المستدرك.

افترض الله تعالى على نبيه- صلى الله عليه وسلم- الإقامة بها، وحث هو- صلى الله عليه وسلم- على الاقتداء به فى سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل. قال: وأما مزيد المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر فى ذلك، فالصلوات الخمس بمنى للمتوجه لعرفة أفضل منها بمسجد مكة، وإن انتفت عنها المضاعفة، إذ فى الاتباع ما يربو عليها، ومذهبنا: شمول المضاعفة للنفل مع تفضيله بالمنزل، ولهذا قال عمر- رضى الله عنه- بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة، ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة: تفضيل مكة. إذ غايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، مع أن دعاءه- صلى الله عليه وسلم- بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضا. وقد يبارك فى العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة. وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب: إن الكلام فيما عداها، فلا يرد شئ مما جاء فى فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش المخزومى. أنت القائل: لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هى حرم الله وأمنه وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول فى حرم الله وبيته شيئا، ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له: لا أقول فى حرم الله وبيته شيئا، فأشير على عبد الله فانصرف. وقد عوضت المدينة عن العمرة، ما صح فى إتيان مسجد قباء، وعن الحج ما جاء فى فضل الزيارة النبوية والمسجد، والإقامة بعد النبوة بالمدينة وإن كانت أقل من مكة على القول به، فقد كانت سببا لإعزاز الدين وإظهاره، ونزول أكثر الفرائض وإكمال الدين، حتى كثر تردد جبريل- عليه السّلام- بها، ثم استقر بها- صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة. ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا- يعنى المدينة- أو مكة؟ فقال: هنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلك عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين فى أقل من ساعة؟!

وروى الطبرانى حديث «المدينة خير من مكة» «1» وفى رواية للجندى «أفضل من مكة» وفيه: محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان فى الثقات وقال: كان يخطئ، وقال أبو زرعة: لين، وقال: ابن عدى، روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم: ليس بقوى. وفى الصحيحين عن أبى هريرة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهى المدينة، تنفى الناس كما ينفى الكير خبث الحديد» «2» . أى أمرنى الله بالهجرة إليها، إن كان قاله- صلى الله عليه وسلم- بمكة، أو: بسكناها، إن كان قاله بالمدينة. وقال القاضى عبد الوهاب: لا معنى لقوله: «تأكل القرى» إلا رجوح فضلها عليها، أى على القرى وزيادتها على غيرها. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك: غلبة فضلها على فضل غيرها، أى أن الفضائل تضمحل فى جنب عظيم فضلها حتى تكون عدما، وهذا أبلغ من تسمية مكة «أم القرى» لأن الأمومة لا ينمحى معها ما هى له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى. ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى، والأقرب: حمله عليهما، إذ هو أبلغ فى الغرض المسوق له. انتهى ما قاله السيد السمهودى. وقد أطلت فى الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة، وإن كان مذهب إمامنا الشافعى- رحمه الله- تفضيل مكة، لأن هوى كل نفس أين حل حبيبها. علىّ لربع العامرية وقفة ... ليملى على الشوق والدمع كاتب ومن مذهبى حب الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب

_ (1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الكبير والدار قطنى فى الأفراد عن رافع بن خديج كما فى «ضعيف الجامع» (5920) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (1871) فى الحج، باب: فضل المدينة وأنها تنفى الناس، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

على أن للقلم فى أرجاء تفضيل المدينة مجالا واسعا ومقالا جامعا، لكن الرغبة فى الاختصار تطوى أطراف بساطه، والرهبة من الإكثار تصرف عن تطويله وإفراطه. وقد استنبط العارف ابن أبى جمرة من قوله- صلى الله عليه وسلم- المروى فى البخارى «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة» «1» . التساوى بين فضل مكة والمدينة. قال: وظاهر هذا الحديث يعطى التسوية بينهما فى الفضل، لأن جميع الأرض يطؤها الدجال إلا هذين البلدين، فدل على تسويتهما فى الفضل، قال: ويؤيد ذلك أيضا من وجوه النظر: لأنه إن كانت خصت المدينة بمدفنه- صلى الله عليه وسلم- وإقامته بها ومسجده، فقد خصت مكة بمسقطه- صلى الله عليه وسلم- بها ومبعثه منها، وهى قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة المباركة مكة، ومغربها المدينة، وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة مثل إقامته- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، عشر سنين فى كل واحدة منهما. كذا قاله. وأنت إذا تأملت قوله- صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم من حديث سعد «يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذى نفسى بيده لا يخرج أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه» «2» ظهر لك أن فيه إشعارا بذم الخروج من المدينة. بل نقل الشيخ محب الطبرى عن قوم أنه عام أبدا مطلقا، وقال: إنه ظاهر اللفظ. وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتى إلا كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا» «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1881) فى الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة، ومسلم (2943) فى الفتن، باب: قصة الجساسة، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (1381) فى الحج، باب: المدينة تنفى شرارها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (1378) فى الحج، باب: الترغيب فى سكنى المدينة والصبر على لأوائها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

وفيه عن سعيد- مولى المهرى- أنه جاء إلى أبى سعيد الخدرى ليالى الحرة، فاستشاره فى الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال: ويحك. لا آمرك بذلك، إنى سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يصبر أحد على لأوائها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» . و «اللأواء» : بالمد، الشدة والجوع. و «أو» فى قوله: «إلا كنت له شفيعا أو شهيدا» الأظهر أنها ليست للشك، لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبى عبيد، عنه- صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله- صلى الله عليه وسلم-. وتكون «أو» للتقسيم، ويكون شهيدا لبعض أهل المدينة وشفيعا لباقيهم، إما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين، وإما شهيدا لمن مات فى حياته، وشفيعا لمن مات بعده، أو غير ذلك. وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين فى القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله علو مرتبة وزيادة منزلة وحظوة. وإذا قلنا «أو» للشك، فإن كانت اللفظة الصحيحة «شهيدا» اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة «شفيعا» فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، وأو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات لكونهم على منابر، أو فى ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات. كيف لا يتحمل المشقات من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات، وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات، وإنجاز

وعده لشفاعته وشهادته وبلوغ قصده فى المحيا والممات، وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها، وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأملت يا هذا، لوجدت فى البلاد ما هو فى الشدة وشظف العيش مثلها أو أشق منها، وأهلها مقيمون فيها، وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل، وقوى على الرحلة فلا يرتحل، ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال. على أن المدينة مع شظف العيش بها فى غالب الأحيان، قد وسع الله فيها على بعض السكان، حتى من أصحابنا من غير أهلها ممن استوطنها وحسن فيها حاله، وتنعم بها باله دون سائر البلدان، فإن من الله على المرء بمثل ذلك هنالك، وإلا فالصبر للمؤمن أولى، فمن وفقه الله تعالى صبره فى إقامته بها ولو على أحر من الجمر، فيتجرع مرارة غصتها ليجتلى عروس منصتها، ويلقى نزرا من لأوائها ليوقى بذلك من مصائب الدنيا وبلائها. وقد روى البخارى من حديث أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» «1» أى ينقبض وينضم ويلتجئ، مع أنها أصل فى انتشاره، فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها فى جميع الأزمان، لحبه فى ساكنها- صلى الله عليه وسلم-، فأكرم بسكانها ولو قيل فى بعضهم ما قيل، فقد حظوا بشرف المجاورة بهذا الحبيب الجليل. فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم، فلا يسلب عنهم اسم الجار، وقد عمم- صلى الله عليه وسلم- فى قوله: «ما زال جبريل يوصينى بالجار» «2» ولم يخص جارا دون جار، وكل ما احتج به محتج من رمى بعض عوامهم السنية بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت ذلك فى شخص منهم فلا يترك إكرامه، ولا ينقص احترامه فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته فى الدار

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (1876) فى الحج، باب: الإيمان يأرز إلى المدينة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6014) فى الأدب. باب: الوصاة بالجار، ومسلم (2624) فى البر والصلة، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى ويمنح بهذا القرب الصورى قرب المعنى. فيا ساكن أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب ولله در ابن جابر حيث قال: هناؤكم يا أهل طيبة قد حقا ... فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا فلا يتحرك ساكن منكم إلى ... سواها وإن جار الزمان وإن شقا فكم ملك رام الوصول لمثل ما ... وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا فبشراكم نلتم عناية ربكم ... فها أنتم فى بحر نعمته غرقى ترون رسول الله فى كل ساعة ... ومن يره فهو السعيد به حقا متى جئتم لا يغلق الباب دونكم ... وباب ذوى الإحسان لا يقبل الغلقا فيسمع شكواكم ويكشف ضركم ... ولا يمنع الإحسان حرّا ولا رقا بطيبة مثواكم وأكرم مرسل ... يلاحظكم فالدهر يجرى لكم وفقا وكم من نعمة لله فيها عليكم ... فشكرا ونعم الله بالشكر تستبقى أمنتم من الدجال فيها فحولها ... ملائكة يحمون من دونها الطرقا كذاك من الطاعون أنتم بمأمن ... فوجه الليالى لا يزال لكم طلقا فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم ... وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا حياة وموتا تحت رحماه أنتم ... وحشرا فستر الجاه فوقكم ملقى فيا راحلا عنها لدنيا تريدها ... أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى أتخرج عن حوز النبى وحرزه ... إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا لئن سرت تبغى من كريم إعانة ... فأكرم من خير البرية ما تلقى هو الرزق مقسوم فليس بزائد ... ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا فكم قاعد قد وسع الله رزقه ... ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا فعش فى حمى خير الأنام ومت به ... إذا كنت فى الدارين تطلب أن ترقا إذا قمت فيما بين قبر ومنبر ... بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى لقد أسعد الرحمن جار محمد ... ومن جار فى ترحاله فهو الأشقى

وقد روى الترمذى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحه من حديث ابن عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإنى أشفع لمن يموت بها» «1» ورواه الطبرانى فى الكبير من حديث سبيعة الأسلمية. وفى البخارى من حديث أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يدخل المدينة الدجال ولا الطاعون» «2» . وفيه: عن أبى بكرة- رضى الله عنه- عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان» «3» . قال فى فتح البارى: وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونه شهادة، وكيف قرن بالدجال، ومدحت المدينة بعدم دخولهما. وأجيب: بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه، وينشأ عنه لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدم فى المقصد الثامن من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله فيها لا يتمكن من طعن أحد منهم. وقد أجاب القرطبى فى المفهم عن ذلك فقال: المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذى وقع فى غيرها، كطاعون عمواس والجارف. وهذا الذى قاله يقتضى أنه دخلها فى الجملة، وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة فى «المعارف» وتبعه جمع منهم الشيخ محى الدين النووى فى «الأذكار» : بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلا، ولا مكة أيضا، لكن نقل

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3917) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل المدينة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) صحيح: أخرجه البخارى (7134) فى الفتن، باب: لا يدخل الدجال المدينة. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (1879) فى الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة. من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-.

جماعة أنه دخل مكة الطاعون فى العام الذى كان فى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلا. وأجاب بعضهم بأنه- صلى الله عليه وسلم- عوضهم عن الطاعون بالحمى، لأن الطاعون يأتى مرة بعد مرة، والحمى تتكرر فى كل حين فيتعادلان فى الأجر، ويتم المراد من عدم دخول الطاعون المدينة. قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لى جواب آخر، بعد استحضار الذى أخرجه أحمد من رواية أبى عسيب- بمهملتين آخره موحدة، بوزن عظيم- رفعه: «أتانى جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام» «1» ، وهو أن الحكمة فى ذلك: أنه- صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة كان فى قلة من أصحابه عددا ومددا، وكانت المدينة وبيئة، كما فى حديث عائشة، ثم خير- صلى الله عليه وسلم- فى أمرين يحصل بكل منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار، وأذن له فى القتال كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل فى سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التى هى حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزا لها عن غيرها لتحقق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره فى هذه المدة المتطاولة، فكان منع دخول الطاعون من خصائصها ولوازم دعائه- صلى الله عليه وسلم- لها بالصحة. وقال بعضهم: هذا من المعجزات المحمدية، لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد، بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة، انتهى ملخصا والله أعلم. ومن خصائص المدينة أن غبارها شفاء من الجذام والبرص بل من كل

_ (1) أخرجه أحمد (5/ 81) من حديث أبى عسيب مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

داء، كما رواه رزين العبدرى فى جامعه من حديث سعد، زاد فى حديث ابن عمر: وعجوتها شفاء من السم، ونقل البغوى عن ابن عباس فى قوله تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً «1» أنها المدينة. وذكر ابن النجار تعليقا عن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن. وروى الطبرانى فى الأوسط بإسناد لا بأس به عن أبى هريرة يرفعه: «المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام» «2» . وبالجملة، فكل المدينة وترابها وطرقها وفجاجها ودورها وما حولها قد شملته بركته- صلى الله عليه وسلم-، فإنهم كانوا يتبركون بدخوله منازلهم، ويدعونه إليها وإلى الصلاة فى بيوتهم، ولذلك امتنع مالك من ركوب دابة فى المدينة وقال: لا أطأ بحافر دابة فى عراص كان- صلى الله عليه وسلم- يمشى فيها بقدميه- صلى الله عليه وسلم-. وينبغى أن يأتى قباء للصلاة فيه والزيارة، فقد كان- صلى الله عليه وسلم- يزوره راكبا وماشيا، رواه مسلم وفى رواية له: «يأتى» بدل «يزور» فيصلى فيه ركعتين. وعنده أيضا: إن ابن عمر كان يأتيه كل سبت ويقول: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- يأتيه كل سبت. وعند الترمذى وابن ماجه والبيهقى من حديث أسيد بن ظهير الأنصارى، يرفعه: «صلاة فى مسجد قباء كعمرة» «3» ، قال الترمذى: حسن غريب. وقال المنذرى: لا نعرف لأسيد حديثا صحيحا غير هذا. ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف بلفظ: «من تطهر

_ (1) سورة النحل: 41. (2) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الأوسط، كما فى «ضعيف الجامع» (5921) . (3) صحيح: أخرجه الترمذى (324) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، وابن ماجه (1411) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

فى بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة» «1» ، وصححه الحاكم. وينبغى أيضا بعد زيارته- صلى الله عليه وسلم- أن يقصد المزارات التى بالمدينة الشريفة، والآثار المباركة، والمساجد التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم- التماسا لبركته، ويخرج إلى البقيع لزيارة من فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفى فى المدينة فى حياته- صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته مدفون فى البقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين. وروى عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك أمهات المؤمنين سوى خديجة فإنها بمكة، وميمونة فإنها بسرف. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» «2» رواه مسلم. قال ابن الحاج فى «المدخل» وقد فرق علماؤنا بين الآفاقى والمقيم فى التنفل بالطواف والصلاة، فقالوا: الطواف فى حق الآفاقى أفضل له، والتنفل فى حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أولى، فمن كان مقيما خرج إلى زيارة أهل البقيع ومن كان مسافرا فليغتنم مشاهدته- صلى الله عليه وسلم-. وحكى عن العارف ابن أبى جمرة، أنه لما دخل المسجد النبوى لم يجلس إلا الجلوس فى الصلاة، وأنه لم يزل واقفا بين يديه- صلوات الله وسلامه عليه-، وكان قد خطر له أن يذهب إلى البقيع فقال: إلى أين أذهب، هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى.

_ (1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 37) فى المساجد، باب: فضل مسجد قباء بالصلاة فيه، وابن ماجه (1412) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، وأحمد (3/ 487) ، والحاكم (3/ 13) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (249) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

الفصل الثالث

وروى ابن النجار مرفوعا: «مقبرتان مضيئتان لأهل السماء كما تضئ الشمس والقمر لأهل الدنيا: بقيع الغرقد ومقبرة بعسقلان» ، وعن كعب الأحبار قال: نجدها فى التوراة- يعنى مقبرة المدينة- كقبة محفوفة بالنخيل موكل بها ملائكة كلما امتلأت أخذوها مكفؤوها فى الجنة. وأخرج أبو حاتم من حديث ابن عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر ثم عمر، ثم آتى البقيع فيحشرون معى، ثم أنتظر أهل مكة حتى يحشروا بين الحرمين» «1» . الفصل الثالث فى تفضيله- صلى الله عليه وسلم- فى الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم وعلى الدرجات العاليات وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، المغبوط عليه من الأولين والآخرين، وانفراده بالسؤدد فى مجمع جامع الأنبياء والمرسلين، وترقيه فى جنات عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه يوم المزيد فى أعلى معالى الحسنى وزيادة. اعلم أن الله تعالى كما فضل نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى البدء بأن جعله أول الأنبياء فى الخلق، وأولهم فى الإجابة فى عالم الذر، يوم ألست بربكم، فضل له ختم كمال الفضائل فى العود، فجعله أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يؤذن له بالسجود، وأول من ينظر إلى رب العالمين، والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك، وأول الأنبياء يقضى بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته، وأول داخل الجنة، وأمته أول الأمم دخولا إليها. وزاده لطائف التحف ونفائس الطرف ما لا يحد ولا يعد: فمن ذلك أنه يبعث راكبا، وتخصيصه بالمقام المحمود، ولواء الحمد تحته آدم فمن دونه من الأنبياء، واختصاصه أيضا بالسجود لله تعالى أمام العرش،

_ (1) ضعيف: أخرجه الترمذى (3692) فى المناقب، باب: رقم (72) ، وابن حبان فى «صحيحه» (6899) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1310) .

وما يفتحه الله عليه فى سجوده من التحميد والثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبله ولا يفتحه على أحد بعده زيادة فى كرامته وقربه، وكلام الله له: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى. ومن ذلك: تكراره فى الشفاعة، وسجوده ثانية وثالثة، وتجديد الثناء عليه بما يفتح الله عليه. ومن ذلك: كلام الله تعالى له فى كل سجدة: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع، فعل المدل على ربه الكريم عليه الرفيع عنده، المحب ذلك منه تشريفا له وتكريما وتبجيلا وتعظيما. ومن ذلك: قيامه عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم، وإتيانهم إليه يسألونه الشفاعة ليريحهم من غمهم وعرقهم وطول وقوفهم، وشفاعته فى أقوام قد أمر بهم إلى النار. ومنها: الحوض، الذى ليس فى الموقف أكثر أوان منه، وأن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته. ومنها: أنه يشفع فى رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم. وهو صاحب الوسيلة التى هى أعلى منزلة فى الجنة، إلى غير ذلك مما يزيده تعالى به جلالة وتعظيما وتبجيلا وتكريما على رؤس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. فأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- بأولية انشقاق القبر المقدس عنه، فروى مسلم من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع» «1» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2278) فى الفضائل، باب: تفضيل نبينا على جميع الخلائق. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

وفى حديث أبى سعيد- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى- آدم فمن سواه- إلا تحت لوائى، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر..» «1» رواه الترمذى. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر، ثم آتى أهل البقيع فيحشرون معى، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين» «2» قال الترمذى: حسن صحيح. ورواه أبو حاتم وقال: حتى نحشر. وتقدم. وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش: فما أدرى أكان فيمن صعق» «3» . وفى رواية: «فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق قبلى أو كان ممن استثنى الله» «4» . رواه البخارى. والمراد بالصعق: غشى يلحق من سمع صوتا أو رأى شيئا ففزع منه. ولم يبين فى هذه الرواية- من الطريقين- محل الإفاقة، من أى الصعقتين. ووقع فى رواية الشعبى عن أبى هريرة فى تفسير سورة الزمر «إنى أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة» . والمراد بقوله: «ممن استثنى الله» قوله تعالى: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3148) فى تفسير القرآن، باب: ومن سورة بنى إسرائيل من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. قال الترمذى: حسن صحيح. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) ضعيف: وقد تقدم قريبا. (3) صحيح: أخرجه البخارى (2411) فى الخصومات، باب: ما يذكر فى الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهود. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (4) تقدم.

وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «1» . وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أن الموتى لا إحساس لهم؟ فقيل المراد: الذين يصعقون هم الأحياء، وأما الموتى فهم فى الاستثناء فى قوله: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «2» أى إلا من سبق له الموت قبل ذلك فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح القرطبى. ولا يعارضه ما ورد فى الحديث: إن موسى ممن استثنى الله، لأن الأنبياء أحياء عند الله. وقال القاضى عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض. وتعقبه القرطبى: بأنه صرح- صلى الله عليه وسلم- بأنه يخرج من قبره فيلقى موسى وهو متعلق بالعرش وهذا إنما هو عند نفخة البعث. انتهى. ووقع فى رواية أبى سلمة عند ابن مردويه: «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة فأقوم فأنفض التراب عن رأسى، فاتى قائمة العرش فأجد موسى قائما عندها، فلا أدرى أنفض التراب عن رأسه قبلى، أو كان ممن استثنى الله» «3» . واختلف فى المستثنى من هو على عشرة أقوال: فقيل الملائكة، وقيل الأنبياء، وبه قال البيهقى فى تأويل الحديث فى تجويزه: أن يكون موسى ممن استثنى الله، قال: ووجهه عندى أنهم أحياء كالشهداء، فإذا نفخ فى الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتا فى جميع معانيه إلا فى ذهاب الاستشعار. وقيل الشهداء: واختاره الحليمى قال: وهو مروى عن ابن عباس، فإن الله تعالى يقول: أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «4» ، وضعف غيره من الأقوال.

_ (1) سورة النمل: 87. (2) سورة النحل: 87. (3) تقدم. (4) سورة آل عمران: 169.

وقال أبو العباس القرطبى صاحب «المفهم» : الصحيح أنه لم يأت فى تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل. وتعقبه تلميذه فى «التذكرة» فقال: قد ورد فى حديث أبى هريرة بأنهم الشهداء وهو صحيح. وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل عن هذه الآية: «من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟» قال: هم شهداء الله «1» . وصححه الحاكم. وقيل: هم حملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت، ثم يموتون، وآخرهم ملك الموت، وقيل هم الحور العين والولدان فى الجنة. وتعقب: بأن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض، لأن العرش فوق السماوات كلها، وبأن جبريل وميكائيل وملك الموت من الصافين المسبحين، ولأن الحور العين والولدان فى الجنة، وهى فوق السماوات ودون العرش، وهى بانفرادها عالم مخلوق للبقاء فلا شك أنها بمعزل عما خلقه الله للفناء. ثم إنه وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل ثم يحييهم. وأما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر، والأظهر أنها دار خلود، فالذى يدخلها لا يموت فيها أبدا، مع كونه قابلا للموت، فالذى خلق فيها أولى أن لا يموت فيها أبدا. فإن قلت: قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2» يدل على أن الجنة نفسها تفنى ثم تعاد ليوم الجزاء، ويموت الحور العين ثم يحيون. أجيب: بأنه يحتمل أن يكون معنى قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ «3» أى أنه قابل للهلاك، فيهلك إن أراد الله به ذلك، إلا هو سبحانه فإنه قديم، والقديم لا يمكن أن يفنى، انتهى ملخصا من تذكرة القرطبى. ويؤيد القول بعدم موت الحور قولهن: نحن الخالدات فلا نموت، كما فى الحديث. ولا يقال: المراد من قولهن الخلود الكائن بعد القيامة، لأنه لا خصوصية فيه، والأوصاف المشتركة لا يتباهى بها، والله أعلم.

_ (1) ذكره الحافظ فى «الفتح» (11/ 371) . (2) سورة القصص: 88. (3) سورة القصص: 88.

وفى كتاب العظمة لأبى الشيخ ابن حبان من طريق وهب بن منبه من قوله: قال: خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء فى صفاء الزجاجة، ثم قال للعرش: خذ الصور فتعلق به، ثم قال: كن فكان إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة، فذكر الحديث وفيه: ثم تجتمع الأرواح كلها فى الصور، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح فى جسدها. فعلى هذا فالنفخ يقع فى الصور أولا ليصل النفخ بالروح إلى الصّور وهى الأجساد، فإضافة النفخ إلى الصور الذى هو القرن حقيقة، وإلى الصور التى هى الأجساد مجاز. وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر، رفعه: «ثم ينفخ فى الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون» «1» . و «الليت» بكسر اللام وبالمثناة التحتية ثم الفوقية: صفحة العنق، وهما ليتان و «أصغى» : أمال. وأخرج البيهقى بسند قوى، عن ابن مسعود موقوفا: ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه- والصور قرن- فلا يبقى لله خلق فى السماوات والأرض إلا مات، إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون. وأخرج ابن المبارك فى الرقاق من مرسل الحسن: بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حى، والآخرى يحيى الله بها كل ميت، ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس، وهو ضعيف. وعن أنس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مستشفعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدى، ولواء الحمد

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2940) فى الفتن، باب: فى خروج الدجال ومكثه فى الأرض ونزول عيسى. من حديث عبد الله بن عمرو، وليس ابن عمر- رضى الله عنهما-.

يومئذ بيدى، وأنا أكرم ولد آدم على ربى، يطوف علىّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور» «1» . رواه الدارمى، وقال الترمذى: حديث غريب. ولم يقل: وأنا إمامهم، لأن دار الآخرة ليست دار تكليف. وفى حديث رواه صاحب كتاب «حادى الأرواح» : أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه ينادى بالأذان. وفى كتاب «ذخائر العقبى» للطبرى، مما عزاه لتخريج الحافظ السلفى من حديث أبى هريرة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «تبعث الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة على ناقتىّ العضباء والقصواء، وأحشر أنا على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة» «2» . وأخرجه الطبرانى والحاكم بلفظ: «يحشر الأنبياء على الدواب، وأبعث على البراق، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة فينادى بالأذان محضّا وبالشهادة حقّا، حتى إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله، شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين» «3» . وعند ابن زنجويه فى «فضائل الأعمال» عن كثير بن مرة الحضرمى، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تبعث ناقة ثمود لصالح فيركبها من عند قبره حتى توافى به المحشر، وأنا على البراق اختصصت به من دون الأنبياء يومئذ، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادى على ظهرها بالأذان حقّا، فإذا سمعت الأنبياء وأممها: أشهد أن محمدا رسول الله قالوا: ونحن نشهد على ذلك» «4» .

_ (1) أخرجه الدارمى (48) فى المقدمة، باب: ما أعطى النبى من الفضل. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 333) وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والكبير، وفيه أبو صالح كاتب الليث وهو ضعيف وقد وثق، وعثمان بن يحيى بن صالح المصرى كذلك وبقية رجالهما رجال الصحيح. (3) انظر ما قبله. (4) أخرجه حميد بن زنجويه وابن عساكر عن كثير بن مرة الحضرى، والعقيلى فى الضعفاء، -

وذكر الشيخ زين الدين المراغى، مما عزاه لابن النجار فى تاريخ المدينة عن كعب الأحبار، والقرطبى فى «التذكرة» وابن أبى الدنيا عن كعب: أنه دخل على عائشة- رضى الله عنها-، فذكروا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفون بالقبر، ويضربون بأجنحتهم ويصلون على النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبى- صلى الله عليه وسلم-، سبعون ألفا بالليل وسبعون ألفا بالنهار، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج فى سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه- صلى الله عليه وسلم-. وفى «نوادر الأصول» للحكيم الترمذى من حديث ابن عمر قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويمينه على أبى بكر وشماله على عمر، فقال: «هكذا نبعث يوم القيامة» «1» . وعن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيرى» «2» . رواه الترمذى. وفى رواية جامع الأصول عنه: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى» «3» ، وفى رواية كعب: حلة خضراء. وفى البخارى، من حديث ابن عباس، عنه- صلى الله عليه وسلم-: «تحشرون حفاة

_ وابن عساكر عن عبد الكريم بن كيسان عن سويد بن عمير، وقال العقيلى: ابن كيسان مجهول وحديثه غير محفوظ، وأورد ابن الجوزى حديث سويد فى الموضوعات ووافقه الذهبى، وقال غيره: منكر، انظر «كنز العمال» (39179) . (1) صحيح: أخرجه الترمذى (3661) فى المناقب، باب: فى مناقب أبى بكر وعمر، كليهما من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (2) ضعيف: أخرجه الترمذى (3619) فى المناقب، باب: فضل النبى. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» . (3) تقدم فى الذى قبله.

عراة غرلا، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم» «1» . وأخرجه البيهقى، وزاد: وأول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة ويؤتى بكرسى فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بى فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر. وفيه: أنه يجلس على الكرسى عن يمين العرش. ولا يلزم من تخصيص إبراهيم- عليه السّلام- بأنه أول من يكسى أن يكون أفضل من نبينا- صلى الله عليه وسلم-، على أنه يحتمل أن يكون نبينا- صلى الله عليه وسلم- خرج من قبره فى ثيابه التى مات فيها، والحلة التى يكساها يومئذ حلة الكرامة، بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم فى الكسوة بالنسبة لبقية الخلق. وأجاب الحليمى: بأنه يكسى إبراهيم أولا، ثم يكسى نبينا، - عليهما الصلاة والسلام-، على ظاهر الخبر، لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فتجبر بنفاستها ما فات من الأولية. وفى حديث أبى سعيد عند أبى داود وصححه ابن حبان، أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها وقال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الميت يبعث فى ثيابه التى يموت فيها» «2» . وعند الحارث بن أبى أسامة وأحمد بن منيع: «فإنهم يبعثون فى أكفانهم ويتزاورون فى أكفانهم» «3» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3349) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-. (2) صحيح: أخرجه أبو داود (3114) فى الجنائز، باب: ما يستحب من تطهير ثياب الميت عند الموت. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» . (3) صحيح: أخرجه مسحويه والعقيلى فى الضعفاء والخطيب فى التاريخ عن أنس، كما فى «صحيح الجامع» (845) .

ويجمع بينه وبين ما فى البخارى بأن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم كاسيا، أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء، وأول من يكسى إبراهيم- عليه السّلام-، أو يخرجون من القبور بالثياب التى ماتوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة ثم يكون أول من يكسى إبراهيم. وحمل بعضهم حديث أبى سعيد على الشهداء، فيكون أبو سعيد سمعه فى الشهداء فحمله على العموم. وأما ما رواه الطبرى فى «الرياض النضرة» وعزاه للإمام أحمد فى المناقب عن محدوج بن زيد الهذلى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال لعلى: «أما علمت يا على أنه أول من يدعى به يوم القيامة بى، فأقوم عن يمين العرش فى ظله، فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على أثر بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش ويكسون حللا خضرا من حلل الجنة، ألا وإن أمتى أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشر، فأول من يدعى بك، فيدفع لك لوائى وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين، آدم وجميع خلق الله تعالى يستظلون بظل لوائى يوم القيامة، وطوله مسيرة ألف سنة وستمائة سنة، وسنانه ياقوتة حمراء، قبضته فضة بيضاء، زجه درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور، ذؤابة فى المشرق، وذؤابة فى المغرب، والثالثة فى وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، الثانى: الحمد لله رب العالمين، الثالث: لا إله إلا الله محمد رسول الله، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك، والحسين عن يسارك، حتى تقف بينى وبين إبراهيم- عليه السّلام- فى ظل العرش، ثم تكسى حلة من الجنة، والسماطان من الناس والنخل: الجانبان» «1» . ورواه ابن سبع فى الخصائص بلفظ: قال سأل عبد الله بن سلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن لواء الحمد ما صفته؟ قال: «طوله مسيرة» الحديث. فقال

_ (1) أخرجه بنحوه أحمد فى «المسند» (3/ 116) من حديث أنس، وله رواية أيضا بنحوه فى الصحيحين.

الحافظ قطب الدين الحليمى: كما نقله عنه المحب بن الهمام: إنه موضوع بين الوضع. قال: والله أعلم بحقيقة لواء الحمد. وفى حديث أبى سعيد- عند الترمذى بسند حسن- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» «1» الحديث. واللواء: الراية، وفى عرفهم لا يمسكها إلا صاحب الجيش ورئيسه، ويحتمل أن تكون بيد غيره بإذنه وتكون تابعة له ومتحركة بحركته، تميل معه حيث مال، لا أنه يمسكها بيده، إذ هذه الحالة أشرف. وفى استعمال العرب عند الحروب، إنما يمسكها صاحبها، ولا يمنعه ذلك من القتال بها، بل يقاتل بها ممسكا لها أشد القتال، ولذا لا يليق بإمساكها كل أحد، بل مثل على- رضى الله عنه-، كما قال «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله وسوله، ويحبه الله ورسوله» «2» . وإنما أضاف «اللواء» إلى «الحمد» الذى هو الثناء على الله بما هو أهله، لأن ذلك هو منصبه فى ذلك الموقف دون غيره من الأنبياء. وقد اختلف فى هيئة حشر الناس. ففى البخارى من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير وأربعة على بعير. وعشرة على بعير، ويحشر بقيتهم النار، تقبل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسى معهم حيث أمسوا» «3» رواه الشيخان. وقد مال الحليمى إلى أن هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالى، وقيل: إنهم يخرجون من القبور بالوصف المذكور فى

_ (1) تقدم. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2404) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل على بن أبى طالب. من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (6522) فى الرقاق، باب: كيف الحشر، ومسلم (2861) فى الجنة وصفته، باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

حديث ابن عباس عند الشيخين: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا، ثم قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» ثم يفترق حالهم من ثم إلى الموقف، كما فى حديث أبى هريرة: «ويحشر الكافر على وجهه» ، قال رجل: يا رسول الله، كيف يحشر على وجهه؟ قال: «أليس الذى أمشاه على الرجلين فى الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» «1» أخرجه الشيخان. وفى حديث أبى ذر عند النسائى مرفوعا: «إن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوجا راكبين طاعمين كاسين، وفوجا تسحبهم الملائكة على وجوههم، وفوجا يمشون ويسعون» «2» . وفى حديث سهل بن سعد مرفوعا: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقى ليس فيها علم لأحد» «3» رواه الشيخان. وفى حديث عقبة بن عامر- عند الحاكم- رفعه: «تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ فاه وأشار بيده ألجمها فاه، ومنهم من يغطيه عرقه، وضرب بيده على رأسه» «4» . وله شاهد عند مسلم، من حديث المقداد بن الأسود، وليس بتمامه، وفيه: «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل،

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4760) فى تفسير القرآن، باب: قوله الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك ... من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (2) ضعيف: أخرجه النسائى (4/ 116) فى الجنائز، باب: البعث، وأحمد فى «المسند» (5/ 164) ، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» . (3) صحيح: أخرجه البخارى (6521) فى الرقاق، باب: يقبض الله الأرض يوم القيامة. من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-. ولفظه يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقىّ، قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لأحد. (4) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 615) ، وانظر ما بعده.

فيكون الناس على قدر أعمالهم فى العرق» «1» . وهذا ظاهر فى أنهم يستوون فى وصول العرق إليهم ويتفاوتون فى حصوله فيهم. فإن قلت: الشمس محلها السماء، وقد قال الله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «2» والألف واللام فى «السماء» للجنس، بدليل وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «3» فما طريق الجمع؟ فالجواب: يجوز أن تقام بنفسها دانية من الناس فى المحشر ليقوى هوله وكربه، عافانا الله من كل مكروه. وقال ابن أبى جمرة: ظاهر الحديث يقتضى تعميم الناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الآخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم. وأخرج أبو يعلى، وصححه ابن حبان عن أبى هريرة عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «4» قال: مقداره نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون على المؤمنين كتدلى الشمس إلى أن تغرب «5» . وأخرج أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبى سعيد. وللبيهقى فى البعث عن أبى هريرة: «يحشر الناس قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء، فليجمهم العرق من شدة الكرب» «6» .

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (2864) فى الجنة وصفتها، باب: فى صفة يوم القيامة. من حديث المقداد بن الأسود- رضى الله عنه-. (2) سورة الأنبياء: 104. (3) سورة الزمر: 67. (4) سورة المطففين: 6. (5) أصله فى مسلم (987) فى الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (6) أخرجه البيهقى فى «البعث والنشور» (ص 339) .

وفى البخارى من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، - صلى الله عليه وسلم-: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم فى الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم» » . وعند البيهقى من حديث ابن مسعود: «إذا حشر الناس قاموا أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم، والشمس على رؤسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر» . وفى حديث أبى سعيد، عند أحمد، أنه يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة فريضة مكتوبة «2» ، وسنده حسن. وللطبرانى من حديث ابن عمر: ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار. وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن الذى يلجمه العرق الكافر، أخرجه البيهقى فى البعث بسند حسن عنه قال: يشتد كرب الناس ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال: على كراسى من ذهب ويظلل عليهم الغمام. وبسند قوى عن أبى موسى قال: الشمس فوق رؤس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظلهم. وأخرج ابن المبارك فى «الزهد» وابن أبى شيبة فى «المصنف» واللفظ له، بسند جيد عن سلمان قال: تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الرأس حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون حتى يرشح العرق فى الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل. زاد ابن المبارك فى روايته: ولا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة. قال القرطبى: المراد من يكون كامل

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (6532) فى الرقاق، باب: قول الله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) ضعيف: أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن حبان فى «صحيحه» كلهم من طريق دراج عن أبى الهيثم، قاله المنذرى فى «الترغيب والترهيب» (4/ 391) ، قلت: وهو طريق ضعيف.

الإيمان لما يدل عليه حديث المقداد وغيره: أنهم يتفاوتون فى ذلك بحسب أعمالهم. وفى رواية عند أبى يعلى، وصححها ابن حبان: إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب، أرحنى ولو إلى النار «1» . وهو كالصريح فى أن ذلك كله فى الموقف. ومن تأمل الحالة المذكورة، عرف عظيم الهول فيها، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف، وتدنو الشمس من الرؤس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يرونه من العرق مع أن كل أحد لا يجد إلا قدر موضع قدميه، فكيف يكون حال هؤلاء فى عرقهم مع تنوعهم فيه. إن هذا لما يبهر العقول، ويدل على عظيم القدرة، ويقتضى الإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يعترض على ذلك بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول. فتأمل- رحمك الله- شدة هذا الازدحام والانضمام والاتساق والالتصاق، واجتماع الإنس والجان، ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان، وانضغاطهم وتدافعهم واختلاطهم، وقرب الشمس منهم، وما يزاد فى حرها، ويضاعف فى وهجها، ولا ظل إلا ظل عرش ربك بما قدمته، مع ما انضاف إلى ذلك من حر البأس، لتزاحم الناس واحتراق القلوب، لما غشيها من الكروب. ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش فى ذلك اليوم، وكثرة الالتهاب، والماء ثم أعز موجود، وأعظم مفقود، فلا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود- صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلا وشرفا لديه، ولا مشرب لأمته سواه، ولا تبرد أكبادهم إلا به، فالشربة منه كما ورد تروى الظمأ، وتشفى من الصدى. وتذهب بكل داء فلا يظمأ شاربها ولا يسقم بعدها أبدا.

_ (1) رواه الطبرانى فى الكبير بإسناد جيد، وأبو يعلى، ومن طريقه ابن حبان إلا أنهما قالا: إن الكافر. ورواه البزار والحاكم من حديث الفضل بن عيسى وهو واه عن المنكدر عن جابر، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، قاله المنذرى فى «الترغيب والترهيب» (4/ 390) .

وفى حديث أنس عند البزار: من شرب منه- أى من الحوض- شربة لم يظمأ أبدا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدا، وزاد فى حديث أبى أمامة عند أحمد وابن حبان: ولم يسود وجهه أبدا. وفى حديث ثوبان عند الترمذى وصححه الحاكم: «أكثر الناس عليه ورودا فقراء المهاجرين» «1» . وفى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عند الشيخين: «حوضى مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، ورائحته أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ أبدا» «2» . قال القرطبى فى «التذكرة» : ذهب صاحب «القوت» وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح أن للنبى- صلى الله عليه وسلم- حوضين، أحدهما فى الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمى كوثرا. وتعقبه شيخ الحفاظ ابن حجر: بأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب فى الحوض، ويطلق على الحوض كوثر لكونه يمد منه. فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبى أن الحوض يكون قبل الصراط لأن الناس يردون الموقف عطاشا، فيرد المؤمنون الحوض، وتتساقط الكفار فى النار بعد أن يقولوا ربنا عطشنا، فترفع لهم جهنم كأنها سراب فيقال ألا تردون، فيظنونها ماء فيتساقطون فيها. وفى حديث أبى ذر مما رواه مسلم: «أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة» «3» وهو حجة على القرطبى لا له، لأن الصراط جسر جهنم، وهو بين

_ (1) صحيح المرفوع منه: أخرجه الترمذى (2444) فى صفة القيامة، باب: ما جاء فى صفة أوانى الحوض، من حديث ثوبان- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6579) فى الرقاق، باب: فى الحوض. من حديث عبد الله ابن عمرو- رضى الله عنهما-. (3) صحيح: أخرجه مسلم (2300) فى الفضائل، باب: إتيان حوض نبينا وصفاته. من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.

الموقف والجنة، والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذى يصب من الكوثر فى الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض، بجانب الجنة ليصب فيه الماء من النهر الذى داخلها. وقال القاضى عياض: ظاهر قوله- صلى الله عليه وسلم-: «من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا» يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيها بالظمأ بل بغيره. وعن أنس قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لى يوم القيامة، فقال: «أنا فاعل إن شاء الله» قلت: فأين أطلبك؟ قال: «أول ما تطلبنى على الصراط» ، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: «فاطلبنى عند الميزان» ، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: «فاطلبنى عند الحوض، فإنى لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن» «1» . رواه الترمذى وقال: حسن غريب. وفى حديث ابن مسعود عند أحمد: «ثم أوتى بكسوتى فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد، فيغبطنى به الأولون والآخرون» . قال: «ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض» «2» . الحديث. وقد بين فى حديث ابن عمرو بن العاص، عند البخارى، أن الحوض مسيرة شهر، وزاد فى رواية مسلم من هذا الوجه: وزواياه سواء طوله كعرضه. وهذه الزيادة- كما قاله فى فتح البارى- تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث فى تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول.

_ (1) صحيح: أخرجه الترمذى (2433) فى صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء فى شأن الصراط. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. وصححه الألبانى فى «صحيح الترمذى» . (2) أخرجه أحمد (1/ 398) من حديث ابن مسعود، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 362) وقال: رواه أحمد والبزار والطبرانى وفى أسانيدهم كلهم عثمان بن عمير، وهو ضعيف.

وفى حديث أبى سعيد عند ابن ماجه رفعه: «إن لى حوضا ما بين الكعبة وبيت المقدس» «1» . وفى حديث أبى برزة عند الطبرانى وابن حبان فى صحيحه: «ما بين ناحيتى حوضى كما بين أيلة وصنعاء، مسيرة شهر عرضه كطوله» «2» . وفى حديث أنس- عند الشيخين- كما بين صنعاء والمدينة. وفى حديث عتبة بن عبد السلمى عند ابن حبان فى صحيحه كما بين صنعاء إلى بصرى. وفى حديث أبى أمامة عند الطبرانى: ما بين عدن وعمان- بضم المهملة وتخفيف الميم- وقال ابن الأثير فى النهاية فى حديث الحوض: عرضه من مقامى إلى عمّان- هى بفتح العين وتشديد الميم- مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء، فأما بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين. انتهى. وهذه المسافات كلها متقاربة، وظن بعضهم أنه وقع اضطراب فى ذلك، وليس كذلك. وأجاب النووى عن ذلك: بأنه ليس فى ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة، فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة. وحاصله يشير إلى أنه أخبر أولا بالمسافة اليسيرة ثم أعلم بالمسافة الطويلة فأخبر بما كان الله تفضل عليه باتساعه شيئا بعد شئ، فيكون الاعتماد على أطولها مسافة. فإن قلت: هل لكل نبى من الأنبياء غير نبينا- صلى الله عليه وسلم- حوض هناك يقوم عليه كنبينا؟ فالجواب: أنه اشتهر اختصاص نبينا- صلى الله عليه وسلم- بالحوض. قال القرطبى فى «المفهم» مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به، أنه تعالى قد خص نبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم- بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه فى الأحاديث الصحيحة الشهيرة التى يحصل بمجموعها العلم القطعى، إذ روى ذلك عنه- صلى الله عليه وسلم- من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم فى الصحيحين

_ (1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (4301) فى الزهد، باب: ذكر الحوض، من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، وقال البوصيرى فى الزوائد: فى إسناده عقبة العوفى، وهو ضعيف. (2) إسناده حسن: أخرجه ابن حبان فى «صحيحه» (6458) وقال الشيخ شعيب الأرناؤط: إسناده حسن.

ما ينيف على العشرين، وفى غيرهما بقية ذلك، كما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم، ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرّا، واجتمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف. انتهى. لكن أخرج الترمذى من حديث سمرة رفعه: «إن لكل نبى حوضا» «1» وأشار إلى أنه اختلف فى وصله وإرساله، وأن المرسل أصح، والمرسل أخرجه ابن أبى الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن لكل نبى حوضا» ، وهو قائم على حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته، ألا وإنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإنى لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا. وأخرجه الطبرانى من وجه آخر عن سمرة موصولا مرفوعا مثله، وفى سنده لين. وأخرج ابن أبى الدنيا أيضا من حديث أبى سعيد رفعه: «وكل نبى يدعو أمته، ولكل نبى حوض، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإنى لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة» ، وفى إسناده لين. فإن ثبت، فالمختص نبينا- صلى الله عليه وسلم- الكوثر الذى يصب من مائه فى حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به فى سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «2» انتهى ملخصا من فتح البارى. و «الفئام» كما فى الصحاح، الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، والعامة تقول «فيام» بلا همز. وفى رواية مسلم من حديث أبى هريرة رفعه، قال: «ترد علىّ أمتى الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل عن إبله» قالوا: يا رسول الله،

_ (1) تقدم. (2) سورة الكوثر: 2.

تعرفنا؟ قال: «نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون علىّ غرّا محجلين من آثار الوضوء» «1» . قالوا: والحكمة فى الذود المذكور، أنه- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، كما تقدم «إن لكل نبى حوضا» ، فيكون هذا من جملة إنصافه- صلى الله عليه وسلم- ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أن يكون بطرد من لا يستحق الشرب من الحوض. والله أعلم. وفى حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لحوضى أربعة أركان، الأول بيد أبى بكر الصديق، والثانى بيد عمر الفاروق، والثالث بيد عثمان ذى النورين، والرابع بيد على بن أبى طالب. فمن كان محبّا لأبى بكر مبغضا لعمر لا يسقيه أبو بكر، ومن كان محبّا لعلى مبغضا لعثمان لا يسقيه على» . رواه أبو سعد فى «شرف النبوة» والغيلانى والله أعلم. وأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- بالشفاعة والمقام المحمود، فقد قال تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «2» . اتفق المفسرون على أن كلمة «عسى» من الله واجب، قال أهل المعانى: لأن لفظة «عسى» تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا فى شئ ثم أحرمه كان عارا، والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدا فى شئ ثم لا يعطيه ذلك. وقد اختلف فى تفسير المقام المحمود على أقوال: أحدها: أنه الشفاعة. قال الواحدى: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الآية: «هو المقام الذى أشفع فيه لأمتى» . وقال الإمام ابن الخطيب: اللفظ مشعر بذلك، لأن الإنسان إنما يصير محمودا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاما أنعم فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم الشرع لأن

_ (1) تقدم. (2) سورة الإسراء: 79.

ذلك كان حاصلا فى الحال. وقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» يدل على أن يحصل للنبى- صلى الله عليه وسلم- فى ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل، ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه فى التخلص عن العقاب أعظم من سعيه فى زيادة من الثواب لا حاجة به إليها، لأن احتياج الإنسان فى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التى لا حاجة إلى تحصيلها. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «2» هو الشفاعة فى إسقاط العذاب على ما هو مذهب أهل السنة. ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارا قويّا. ثم وردت الأخبار الصحيحة فى تقرير هذا المعنى كما فى البخارى من حديث ابن عمر قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن المقام المحمود فقال: «هو الشفاعة» «3» . وفيه أيضا عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثّى كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع لنا، حتى تنتهى الشفاعة إلىّ فذلك المقام المحمود» «4» . فإذا ثبت هذا، فيجب حمل اللفظ عليه قال: ومما يؤكد هذا، الدعاء المشهور: وابعثه مقاما محمودا يغبطه فيه الأولون والآخرون. ونصب قوله «مقاما» على الظرفية، أى وابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا، أو على أنه مفعول به، وضمن معنى «ابعثه» معنى «أقمه» ، ويجوز أن يكون حالا بعد حال، أى: ابعثه ذا مقام. قال الطيبى: وإنما نكّره لأنه

_ (1) سورة الإسراء: 79. (2) سورة الإسراء: 79. (3) أخرجه أحمد (2/ 478) ، من حديث أبى هريرة، وهو عند البخارى بلفظ آخر انظر رقم (4718) . (4) صحيح: أخرجه البخارى (4718) فى تفسير القرآن، باب: قوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

أفخم وأجزل، أى مقاما محمودا بكل لسان. وقول النووى: «إن الرواية ثبتت بالتنكير، وأنه كان حكاية للفظ القرآن» متعقب بأنه جاء فى هذه الرواية بعينها بالتعريف عند النسائى. قال ابن الجوزى: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وادعى الإمام فخر الدين الاتفاق عليه. القول الثانى: قال حذيفة: يجمع الله الناس فى صعيد واحد، فلا تكلم نفس، فأول مدعو محمد- صلى الله عليه وسلم- فيقول: «لبيك وسعديك والخير فى يديك، والشر ليس إليك، والمهتدى من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» قال: فهذا هو المراد من قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» رواه الطبرانى وقال ابن منده: حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رجاله. قال الرازى: والقول الأول أولى، لأن سعيه فى الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده فيصير محمودا، وأما ما ذكر من الدعاء فلا يفيد إلا الثواب، أما الحمد فلا. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يحمده على هذا القول؟ فالجواب: لأن الحمد فى اللغة مختص بالثناء المذكور فى مقابلة الإنعام فقط، فإن ورد لفظ «الحمد» فى غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز. القول الثالث: مقام تحمد عاقبته، قال الإمام فخر الدين: وهذا أيضا ضعيف للوجه الذى ذكرنا. القول الرابع: قيل هو إجلاسه- صلى الله عليه وسلم- على العرش وقيل على الكرسى، روى عن ابن مسعود أنه قال: يقعد الله تعالى محمدا- صلى الله عليه وسلم- على العرش، وعن مجاهد أنه قال: يجلسه معه على العرش. قال الواحدى: وهذا قول رذل موحش فظيع، ونص الكتاب ينادى بفساد هذا التفسير، ويدل عليه وجوه:

_ (1) سورة الإسراء: 79.

الأول: أن البعث ضد الإجلاس، يقال: بعثت البارك والقاعد فانبعث، ويقال بعث الله الميت أى أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد. والثانى: يوجب أنه تعالى لو كان جالسا على العرش بحيث يجلس عنده محمد- صلى الله عليه وسلم- لكان محمودا متناهيا، ومن كان كذلك فهو محدث تعالى الله علوّا كبيرا. والثالث: أنه تعالى قال: مَقاماً مَحْمُوداً «1» ولم يقل مقعدا، والمقام موضع القيام، لا موضع القعود. الرابع: وإذا قيل: السلطان بعث فلانا، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه، فثبت أن هذا القول ساقط، لا يميل إليه إلا قليل العقل عديم الدين، انتهى. وتعقب القول الثانى: بأنه تعالى يجلس على العرش كما أخبر جل وعلا عن نفسه المقدسة بلا كيف، وليس إقعاد محمد- صلى الله عليه وسلم- على العرش موجبا له صفة الربوبية، أو مخرجا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه، وأما قوله «معه» فهو بمنزلة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «2» وقوله: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «3» فكل هذا ونحوه عائد على الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان. وقال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلانى: قول مجاهد «يجلسه معه على العرش» ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به قال: وبالغ الواحدى فى رد هذا القول. ونقل النقاش عن أبى داود صاحب السنن أنه قال: من أنكر هذا فهو متهم. وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبى، وعن ابن عباس عند أبى الشيخ

_ (1) سورة الإسراء: 79. (2) سورة الأعراف: 206. (3) سورة التحريم: 11.

قال: إن محمدا يوم القيامة يجلس على كرسى الرب بين يدى الرب، فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس هى المنزلة المعبر عنها بالوسيلة. كذا قاله بعضهم: ويحتمل أن يكون الإجلاس علامة الإذن فى الشفاعة. واختلف فى «فاعل» الحمد من قوله تعالى: مَحْمُوداً «1» فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل النبى- صلى الله عليه وسلم-، أى أنه يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده فى الليل، والأول أرجح لما ثبت من حديث ابن عمر بلفظ: «مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم» ويجوز أن يحمل على أعم من ذلك، أى: مقاما يحمده القائم فيه وكل من عرفه، وهو مطلق فى كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان، وأيده بأنه نكرة تدل على أنه ليس المراد مقاما مخصوصا. انتهى. فإن قلت: إذا قلنا بالمشهور، أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، فأى شفاعة هى؟ فالجواب: إن الشفاعة التى وردت فى الأحاديث، فى المقام المحمود نوعان: النوع الأول: العامة فى فصل القضاء، والثانى: فى الشفاعة فى إخراج المذنبين من النار، لكن الذى يتجه: رد هذه الأقوال كلها إلى الشفاعة العظمى العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد، وثناءه على ربه وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه كل ذلك صفات للمقام المحمود الذى يشفع فيه ليقضى بين الخلق. وأما شفاعته فى إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك، وقد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة فى إخراج من أدخل النار من المذنبين وتمسكوا بقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «2» وقوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ «3» .

_ (1) سورة الإسراء: 79. (2) سورة المدثر: 48. (3) سورة غافر: 18.

وأجاب أهل السنة بأن هذه الآيات فى الكفار. قال القاضى عياض: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلا، ووجوبها سمعا، لصريح قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا «1» وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» ولقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «3» المفسر بها عند الأكثرين، كما قدمنا. وقد جاءت الأحاديث التى بلغ مجموعها التواتر بصحة الشفاعة فى الآخرة لذنبى المؤمنين، وعن أم حبيبة قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أريت ما تلقى أمتى من بعدى، وسفك بعضهم دماء بعض، وسبق لهم من الله ما سبق للأمم قبلهم فسألت الله أن يؤتينى فيهم شفاعة يوم القيامة ففعل» «4» . وفى حديث أبى هريرة: «لكل نبى دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى فى الآخرة» . وفى رواية أنس: «فجعلت دعوتى شفاعة لأمتى» «5» . وهذا من مزيد شفقته علينا، وحسن تصرفه حيث جعل دعوته المجابة فى أهم أوقات حاجاتنا، فجزاه الله عنا أفضل الجزاء. وعن أبى هريرة؛ قلت: يا رسول الله ماذا ورد عليك فى الشفاعة؟ فقال: «شفاعتى لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق لسانه قلبه» «6» . وعن أبى زرعة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد

_ (1) سورة طه: 109. (2) سورة الأنبياء: 28. (3) سورة الإسراء: 79. (4) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 427) ، والحاكم فى «المستدرك» (1/ 138) ، والطبرانى فى «الكبير» (23/ 221 و 222) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (918) . (5) صحيح: أخرجه البخارى (6304) فى الدعوات، باب: لكل نبى دعوة مستجابة، ومسلم (198) فى الإيمان، باب: اختباء النبى دعوة الشفاعة لأمته. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (6) أخرجه أحمد (2/ 307 و 518) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعى، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغتم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فقال: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهانى عن الشجرة فعصيت، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا- عليه السّلام- فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لى دعوة، دعوت بها على قومى، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم- عليه السّلام- فيقولون: أنت نبى الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى- عليه السّلام-، فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضلك برسالته وبكلامه على الناس، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى قد قتلت نفسّا لم أومر بقتلها، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى- عليه السّلام-، فيقولون: يا عيسى: أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمات الناس فى المهد، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى- عليه السّلام-: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، نفسى نفسى نفسى، اذهبوا إلى غيرى،

اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدا- صلى الله عليه وسلم- فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فأنطلق فاتى تحت العرش فأقع ساجدا لربى، ثم يفتح الله على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلى، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسى فأقول: أمتى يا رب، أمتى يا رب، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب» «1» الحديث رواه البخارى ومسلم. قال فى فتح البارى: وقد استشكل قولهم لنوح: «أنت أول الرسل من أهل الأرض» ، فإن آدم نبى مرسل، وكذا شيث وإدريس، وهم قبل نوح. ومحصل الأجوبة عن ذلك: أن الأولية مقيدة بقوله «أهل الأرض» لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا، وإلى هذا جنح ابن بطال فى حق آدم. وتعقبه القاضى عياض بما صححه ابن حبان من حديث أبى ذر، فإنه كالصريح فى أنه كان مرسلا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال. وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان من بنى إسرائيل. ومن الأجوبة: أن رسالة آدم كانت إلى بنيه، وهم موحدون، ليعلمهم شريعته ونوح رسالته كانت إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد. وذكر الغزالى فى كتاب «كشف علوم الآخرة» أن بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحا ألف سنة، وكذا بين كل نبى ونبى، إلى نبينا- صلى الله عليه وسلم-. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف لذلك على أصل، قال: ولقد أكثر فى هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها، فلا يغتر بشئ منها.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (3340) فى أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك ... ، ومسلم (194) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

ووقع فى رواية حذيفة: أن الخليل- عليه السّلام- قال: «لست بصاحب ذاك، إنما كنت خليلا من وراء وراء» . بفتح الهمزة فيهما بلا تنوين، ويجوز البناء فيها على الضم للقطع عن الإضافة نحو «من قبل ومن بعد» واختار أبو البقاء. قال الأخفش: يقال لقيته من وراء بالضم، وقال: إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء ويجوز فيهما النصب والتنوين جوازا جيدا، قاله أبو عبد الله الأبى. ومعناه: لم أكن فى التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقيل: مراده: إن الفضل الذى أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذى كلمه الله بلا واسطة، وكرر «وراء» إشارة إلى نبينا- صلى الله عليه وسلم- لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال: أنا من وراء موسى، الذى هو من وراء محمد، وسبق مزيد لذلك فى الخصائص. وأما ما ذكره من الكذبات الثلاث، فقال البيضاوى: الحق أنها إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استقصارا لنفسه عن الشفاعة، لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة، كان أعظم خوفا. وأما قوله عن عيسى: «إنه لم يذكر ذنبا» ، فوقع فى حديث ابن عباس عند أحمد والنسائى: «إنى اتخذت إلها من دون الله» » . وفى حديث النضر بن أنس عن أبيه، حدثنى نبى الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنى لقائم انتظر أمتى عند الصراط، إذ جاء عيسى فقال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث شاء، لعظم ما هم فيه» «2» . فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبى- صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وأن هذا الذى

_ (1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 372) وقال: رواه أبو يعلى وأحمد وفيه على بن زيد، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهما رجال الصحيح. (2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 373) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار فى النار، وأن عيسى هو الذى يخاطب نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وأن جميع الأنبياء يسألونه فى ذلك. وفى حديث سلمان عند ابن أبى شيبة: يأتون محمدا فيقولون: يا نبى الله، أنت فتح الله بك وختم بك، وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وجئت فى هذا اليوم، وترى ما نحن فيه فقم فاشفع لنا إلى ربنا، فيقول: «أنا صاحبكم» ، فيجوس الناس حتى ينتهى إلى باب الجنة. فإن قلت: ما الحكمة فى انتقاله- صلى الله عليه وسلم- من مكانه إلى الجنة؟ أجيب: بأن أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مقام مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون فى مكان إكرام. وفى حديث أبى بن كعب عند أبى يعلى رفعه: فأسجد له سجدة يرضى بها عنى، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عنى. وفى حديث أبى بكر الصديق، فينطلق إليه جبريل، فيخر ساجدا قدر جمعة، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك. وفى رواية النضر بن أنس: فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل له: ارفع رأسك. وعلى هذا، فالمعنى يقول لى على لسان جبريل، والظاهر أنه- صلى الله عليه وسلم- يلهم التحميد قبل سجوده، وبعده وفيه، ويكون فى كل مكان ما يليق به، فإنه ورد فى رواية: «فأقوم بين يديه فيلهمنى بمحامد لا أقدر عليها، ثم أخر ساجدا» «1» . وفى رواية البخارى: «فأرفع رأسى فأحمد ربى بتحميد يعلمنى» «2» .

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (7510) فى التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء، ومسلم (193) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (2) تقدم فى الذى قبله.

وفى رواية أبى هريرة عند الشيخين: «فاتى تحت العرش فأقع ساجدا لربى: ثم يفتح الله على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلى» «1» ، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك. الحديث. وفى رواية البخارى من حديث قتادة عن أنس: «ثم أشفع، فيحد لى حدّا، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة» «2» . قال الطيبى: أى يبين لى كل طور من أطوار الشفاعة حدّا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجماعة، ثم فيمن أخل بالصلاة، ثم فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنا، وهكذا على هذا الأسلوب، والذى يدل عليه سياق الأخبار أن المراد به تفصيل مراتب المخرجين فى الأعمال الصالحة، كما وقع عند أحمد عن يحيى القطان عن سعيد بن أبى عروبة. وفى رواية ثابت عند أحمد فأقول: «أى رب، أمتى أمتى» ، فيقول: أخرج من كان فى قلبه مثقال شعيرة، وفى حديث سلمان: فيشفع فى كل من كان فى قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة، ثم حبة خردل، فذلك المقام المحمود. وفى رواية أبى سعيد عند مسلم: «ارجعوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال دينار من خير» . قال القاضى عياض: قيل معنى الخير: اليقين بالإيمان. وأما قوله فى رواية أنس عند البخارى: «فأخرجهم من النار» فقال الداودى: كأن راوى هذا الحديث ركب شيئا على غير أصله، وذلك أن فى أول الحديث ذكر الشفاعة فى الإراحة من كرب الموقف، وفى آخره ذكر الشفاعة فى الإخراج من النار، يعنى: وذلك إنما يكون بعد الدخول من الموقف والمرور على

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4712) فى تفسير القرآن، باب: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه البخارى (7440) فى التوحيد، باب: قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.

الصراط وسقوط من يسقط فى تلك الحالة فى النار. ثم تقع بعد ذلك الشفاعة فى الإخراج. وهو إشكال قوى. وقد أجاب عنه النووى: ومن قبله القاضى عياض: بأنه قد وقع فى حديث حذيفة وأبى هريرة: فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له فى الشفاعة، وترسل معه الأمانة والرحم فيقومان جنبتى الصراط، يمينا وشمالا، أى يقفان فى ناحيتى الصراط. قال القاضى عياض: فبهذا ينفصل الكلام، لأن الشفاعة التى لجأ الناس إليه فيها هى لإراحة الناس من كرب الموقف، ثم تجئ الشفاعة فى الإخراج. انتهى. والمعنى فى قيام الأمانة والرحم، أنهما لعظم شأنهما، وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما، يوقفان للأمين والخائن، وللواصل والقاطع، فتحاجان عن المحق، ويشهدان على المبطل. وقد وقع فى حديث أبى هريرة بعد ذكر الجمع فى الموقف: الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكأن الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف، وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها. انتهى. فظهر أنه- صلى الله عليه وسلم- أول ما يشفع ليقضى بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وأن العرض والميزان وتطاير الصحف تقع فى هذا الموطن، ثم ينادى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيسقط الكفار فى النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن فى نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين، فيسقطون فى النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط، ويوقف من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة. وقد قال النووى ومن قبله القاضى عياض: الشفاعات خمس:

الأولى: فى الإراحة من هول الموقف. الثانية: فى إدخال قوم الجنة بغير حساب. الثالثة: فى إدخال قوم حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذبوا. الرابعة: فى إخراج من أدخل النار من العصاة. الخامسة: فى رفع الدرجات. انتهى. فأما الأولى: وهى لإراحة الناس من هول الموقف، فيدل عليها حديث أبى هريرة وغيره المتقدم، وحديث أنس عند البخارى، ولفظه: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت الذى خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربك، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا نوحا، وذكر إتيانهم الأنبياء واحدا واحدا، إلى أن قال: فيأتونى، فأستأذن على ربى، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعنى ما شاء الله ثم يقال لى: ارفع رأسك، سل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسى فأحمد ربى، بتحميد يعلمنى» «1» . الحديث. وأما الثانية: وهى إدخال قوم الجنة بغير حساب، فيدل عليها ما فى آخر حديث أبى هريرة عند البخارى ومسلم الذى قدمته «فأرفع رأسى فأقول: يا رب أمتى، يا رب أمتى» ، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة «2» قال أبو حامد: والسبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب، لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفا، وإنما هى براءة مكتوبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه براءة فلان ابن فلان، قد غفر له وسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدا، فما مر عليه شئ أسر من ذلك المقام.

_ (1) تقدم. (2) تقدم.

وأما الثالثة: وهى إدخال قوم حوسبوا أن لا يعذبوا، فيدل على ذلك قوله فى حديث حذيفة عند مسلم: ونبيكم على الصراط يقول: «رب سلم سلم» «1» . وأما الرابعة: وهى فى إخراج من أدخل النار من العصاة، فدلائلها كثيرة، وقد روى البخارى عن عمران بن حصين مرفوعا: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد- صلى الله عليه وسلم- فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين» «2» . وأما الخامسة: وهى فى رفع الدرجات، فقال النووى «فى الروضة» : إنها من خصائصه- صلى الله عليه وسلم- ولم يذكر لذلك مستندا فالله أعلم. وقد ذكر القاضى عياض شفاعة سادسة، وهى شفاعته- صلى الله عليه وسلم- لعمه أبى طالب فى تخفيف العذاب لما ثبت فى الصحيح أن العباس قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح «3» . وفى الصحيح أيضا من طريق أبى سعيد أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه» «4» . وزاد بعضهم سابعة: وهى الشفاعة لأهل المدينة، لحديث سعد، رفعه: «لا يثبت أحد على لأوائها إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» «5» . وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن متعلقها لا يخرج عن واحد من الخمس

_ (1) تقدم. (2) قلت: هو عند البخارى (6559) فى الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه البخارى (3883) فى المناقب، باب: قصة أبى طالب، ومسلم (209) فى الإيمان، باب: شفاعة النبى لأبى طالب. من حديث العباس- رضى الله عنه-. (4) صحيح: أخرجه البخارى (6564) فى الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، ومسلم (210) فى الإيمان، باب شفاعة النبى لأبى طالب من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-. (5) صحيح: أخرجه مسلم (1363) فى الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبى فيها بالبركة. من حديث سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه-.

الأول، وبأنه لو عدّ مثل ذلك لعدّ حديث عبد الملك بن عباد: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أول من أشفع له أهل المدينة ثم أهل مكة. ثم أهل الطائف» «1» . رواه البزار، وأخرى لمن زار قبره الشريف، وأخرى لمن أجاب المؤذن ثم صلى عليه- صلى الله عليه وسلم-، وأخرى فى التجاوز عن تقصير الصلحاء. لكن قال الحافظ ابن حجر إنها مندرجة فى الخامسة. وزاد القرطبى: أنه أول شافع فى دخول أمته الجنة قبل الناس، ويدل له ما رواه ... «2» . وزاد فى فتح البارى أخرى، فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، لما أخرجه الطبرانى عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون بشفاعته- صلى الله عليه وسلم-. وأرجح الأقوال فى أصحاب الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. وشفاعة أخرى وهى شفاعته فيمن قال: «لا إله إلا الله» ولم يعمل خيرا قط، لرواية الحسن عن أنس: فأقول يا رب ائذن لى فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتى وكبريائى وعظمتى لآخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله «3» . فالوارد على الخمسة أربعة، وما عداها لا يرد، كما لا ترد الشفاعة فى التخفيف عن صاحبى القبرين وغير ذلك لكونه من جملة أحوال الدنيا. انتهى. فإن قلت: فأى شفاعة ادخرها- صلى الله عليه وسلم- لأمته؟ أما الأولى فلا تختص

_ (1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الكبير عن عبد الله بن جعفر كما فى «ضعيف الجامع» (2142) . (2) بياض بالأصل. (3) صحيح: أخرجه البخارى (7510) فى التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، ومسلم (193) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها.

بهم بل هى لإراحة الجمع كلهم، وهى المقام المحمود كما تقدم، وكذلك باقى الشفاعات الظاهر أنه يشاركهم فيها بقية الأمم. فالجواب: أنه يحتمل أن المراد الشفاعة العظمى التى للإراحة من هول الموقف وهى وإن كانت غير مختصة بهذه الأمة لكن هم الأصل فيها، وغيرهم تبع لهم، ولهذا كان اللفظ المنقول عنه- صلى الله عليه وسلم- فيها أنه قال: «يا رب أمتى أمتى» ، فدعا لهم فأجيب، وكان غيرهم تبعا لهم فى ذلك، ويحتمل أن تكون الشفاعة الثانية، وهى التى فى إدخال قوم الجنة بغير حساب هى المختصة بهذه الأمة، فإن الحديث الوارد فيها: «يدخل من أمتى الجنة سبعون ألفا بغير حساب» «1» ، الحديث. ولم ينقل ذلك فى بقية الأمم، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الشفاعة المشتركة بين الشفاعات الخمس. وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها أو فى بعضها لا ينافى أن يكون- صلى الله عليه وسلم- أخر دعوته شفاعة لأمته، فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم بل يشفع لهم أنبياؤهم، ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعا كما تقدم مثله فى الشفاعة العظمى، والله أعلم. وعن بريدة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنى لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما فى الأرض من شجرة ومدرة» «2» رواه أحمد. وعن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «نحن آخر الأمم وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها، فنحن الآخرون الأولون» «3» ، رواه ابن ماجه. وفى حديث ابن عباس عند أبى داود الطيالسى مرفوعا: «فإذا أراد الله

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5705) فى الطب، باب: من اكتوى أو كوي غيره وفضل من لم يكتو. من حديث عمران بن الحصين- رضى الله عنه-. (2) أخرجه أحمد فى «المسند» (5/ 347) ، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 378) وقال: رواه أحمد ورجاله وثقوا على ضعف كثير فى أبى إسرائيل الملائى. (3) صحيح: أخرجه ابن ماجه (4290) فى الزهد، صفة أمة محمد. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

أن يقضى بين خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته فأقوم وتتبعنى أمتى غرّا محجلين من أثر الطهور» . قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فنحن الآخرون الأولون وأول من يحاسب، وتفرج لنا الأمم عن طريقنا وتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها» «1» . وقد صح أن أول ما يقضى بين الناس فى الدماء «2» . رواه البخارى. وللنسائى مرفوعا: «أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس فى الدماء» «3» . وفى البخارى عن على بن أبى طالب- رضى الله عنه- أنه قال: أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدى الرحمن للخصومة، يريد قصته فى مبارزته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش. قال أبوذر: وفيهم نزلت هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «4» «5» الآية. وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه» «6» . رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح.

_ (1) أخرجه أحمد (1/ 281 و 295) ، من حديث ابن عباس، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 373) وقال: رواه أبو يعلى وأحمد وفيه على بن زيد وقد وثق على ضعفه وبقية رجالهما رجال الصحيح. (2) صحيح: أخرجه البخارى (6864) فى الديات، باب قول الله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ... ، ومسلم (1678) فى القسامة، باب: المجازاة بالدماء فى الآخرة. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أخرجه النسائى (7/ 83) فى تحريم الدم، باب: تعظيم الدم. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» . (4) سورة الحج: 19. (5) صحيح: أخرجه البخارى (3965) فى المغازى، باب: قتل أبى جهل. من حديث على ابن أبى طالب- رضى الله عنه-. (6) صحيح: أخرجه الترمذى (2417) فى صفة القيامة، باب: ما جاء فى شأن الحساب والقصاص، من حديث أبى برزة الأسلمى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

وفى البخارى من حديث عائشة، أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «من نوقش الحساب عذب» «1» . وروى البزار عن أنس بن مالك عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه، فيقول لأصغر نعمة- أحسبه قال من ديوان النعم-: خذى ثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح وتقول: وعزتك ما استوفيت، وتبقى الذنوب والنعم، وقد ذهب العمل الصالح، فأراد الله أن يرحم عبدا، قال: يا عبدى، قد ضاعفت لك حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتك- أحسبه قال: ووهبت لك نعمى-» «2» . وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ليختصمن كل شئ يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا» «3» . وعن أنس: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس إذ رأيناه يضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، قال: «رجلان من أمتى جثيا بين يدى رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لى مظلمتى من أخى، فقال الله: كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شئ؟ قال: يا رب فليتحمل من أوزارى» ، وفاضت عينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالبكاء ثم قال: «إن ذلك ليوم عظيم، يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر، فقال: يا رب أرى مدائن من ذهب وفضة مكللة باللؤلؤ، لأى نبى هذا، أو لأى صديق هذا، أو لأى شهيد هذا؟

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (103) فى العلم، باب: من سمع شيئا فلم يفهمه، ومسلم (2876) فى الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إتيان الحساب. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (2) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 357) وقال: رواه البزار، وفيه صالح المرى وهو ضعيف. (3) حسن: أخرجه أحمد (2/ 390) من حديث أبى هريرة، وذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 349) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.

قال: لمن يعطى الثمن، فقال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب فإنى قد عفوت عنه، قال الله تعالى: فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة» ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: «اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله يصلح بين المسلمين يوم القيامة» «1» . رواه الحاكم والبيهقى فى البعث، كلاهما عن عباد بن أبى شيبة الحبطى، عن سعيد ابن أنس عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، كذا قال. وقد نقل: لو أن رجلا له ثواب سبعين نبيّا، وله خصم بنصف دانق لم يدخل الجنة حتى يرضى خصمه. وقيل: يؤخذ بدانق سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم. ذكره القشيرى فى التحبير. ثم بعد انقضاء الحساب يكون وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء فينبغى أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها. وقد ذكر الله تعالى الميزان فى كتابه بلفظ الجمع، وجاءت السنة بلفظ الإفراد والجمع، فقيل: إن صورة الإفراد محمولة على أن المراد الجنس، جمعا بين الكلامين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون تعددها بتعدد الأعمال، فيكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله، وذهبت طائفة إلى أنها ميزان واحد يوزن بها للجميع، وإنما ورد فى الآية بصيغة الجمع للتفخيم، وليس المراد حقيقة العدد، وهو نظير قوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ «2» ، والمراد رسول واحد، وهذا هو المعتمد، وعليه الأكثرون. واختلف فى كيفية وضع الميزان، والذى جاء فى أكثر الأخبار، أن الجنة توضع عن يمين العرش، والنار عن يسار العرش، ثم يؤتى بالميزان، فينصب بين يدى الله تعالى، فتوضع كفة الحسنات مقابل الجنة، وكفة السيئات مقابل النار. ذكره الترمذى الحكيم فى «نوادر الأصول» .

_ (1) أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (4/ 620) . (2) سورة الشعراء: 105.

واختلف أيضا فى الموزون نفسه. فقال بعضهم: توزن الأعمال نفسها. وهى وإن كانت أعراضا إلا أنها تجسم يوم القيامة فتوزن وقال بعضهم: الموزون صحائف الأعمال، ويدل له حديث البطاقة المشهور، وقد رواه الترمذى، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، يرفعه بلفظ: «إن الله يستخلص رجلا من أمتى على رؤس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين رجلا، كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتى الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا، يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات فى كفة والبطاقات فى كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شئ» «1» . فإن قلت: إن من شأن الميزان أن يوضع فى الكفة شئ وفى الآخرى ضده، فتوضع الحسنات فى كفة والسيئات فى كفة، والذى يقابل شهادة التوحيد الكفر، ويستحيل أن يأتى عبد واحد بالكفر والإيمان معا حتى يوضع الإيمان فى كفة والكفر فى أخرى؟ أجاب الترمذى الحكيم: بأنه ليس المراد وضع شهادة التوحيد فى كفة الميزان، وإنما المراد وضع الحسنة المترتبة على النطق بهذه الكلمة مع سائر الحسنات. ويدل لما قاله قوله: «بلى إن لك عندنا حسنة» ولم يقل لك عندنا إيمانا. وقد سئل- صلى الله عليه وسلم- عن لا إله إلا الله، أمن الحسنات هى؟ فقال: من أعظم الحسنات. أخرجه البيهقى وغيره. ويجوز- كما قاله القرطبى فى التذكرة- أن تكون هذه الكلمة هى آخر كلامه فى الدنيا، كما فى حديث

_ (1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (4300) فى الزهد، باب: ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة. من حديث عبد الله بن عمرو- رضى الله عنهما-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

معاذ: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» «1» . وفى «التحبير» للقشيرى: قيل لبعضهم فى المنام: ما فعل الله بك؟ قال: وزنت حسناتى فرجحت السيئات على الحسنات، فسقطت صرة فى كفة الحسنات فرجحت، فحلت الصرة فإذا فيها، كف تراب ألقيته فى قبر مسلم. وفى الخبر: إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بطاقة كالأنملة فيلقيها فى كفة الميزان التى فيها الحسنات فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد المؤمن للنبى- صلى الله عليه وسلم-: بأبى أنت وأمى ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك، فمن أنت؟ فيقول أنا نبيك محمد، وهذه صلاتك علىّ وقد وفيتك إياها أحوج ما تكون إليها. ذكره القشيرى فى تفسيره. وذكر الغزالى أنه يؤتى برجل يوم القيامة، فما يجد حسنة يرجح بها ميزانه، وقد اعتدلت بالسوية، فيقول الله له- رحمة منه-: اذهب فى الناس فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة، فما يجد أحدا يكلمه فى ذلك الأمر إلا قال له: أنا أحوج لذلك منك فييأس، فيقول له رجل: لقد لقيت الله فما فى صحيفتى إلا حسنة واحدة، وما أظنها تغنى عنى شيئا، خذها هبة، فينطلق بها فرحا مسرورا، فيقول الله له: ما بالك؟ - وهو أعلم- فيقول: يا رب اتفق لى من أمرى كيت وكيت، قال: فينادى الله تعالى بصاحبه الذى وهب له الحسنة فيقول له تعالى: كرمى أوسع من كرمك، خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة. وكذا تستوى كفتا الميزان لرجل، فيقول الله تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتى الملك بصحيفة فيضعها فى كفة الميزان فيها مكتوب «أف» فترجح على الحسنات لأنها كلمة عقوق، فيؤمر به إلى النار، قال: فيطلب أن يرد إلى الله تعالى، فيقول الله تعالى: ردوه، فيقول له: أيها

_ (1) صحيح: أخرجه أبو داود (3116) فى الجنائز، باب: فى التلقين. من حديث معاذ بن جبل- رضى الله عنه-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

العبد العاق لأى شئ تطلب الرد؟ فيقول: إلهى، إنى سائر إلى النار وكنت عاقا لأبى وهو سائر إلى النار مثلى، فضعف علىّ عذابه وأنقذه منها، قال: فيضحك الله تعالى ويقول: عققته فى الدنيا وبررته فى الآخرة، خذ بيد أبيك فانطلقا إلى الجنة. وقد روى حذيفة أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل- عليه السّلام-، وهو الذى يزن الأعمال يوم القيامة. واختلف أيضا فى كيفية الرجحان والنقص فقال بعضهم: الراجح أن الموزون فى الآخرة يصعد، عكس ما فى الدنيا، واستشهد فى ذلك بقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» الآية. قال الزركشى: وهو غريب مصادم لقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ «2» . وهل توزن الأعمال كلها أو خواتيمها؟ حكى عن وهب بن منبه أنه قال: يوزن من الأعمال خواتيمها، واستدل بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بخواتيمها» «3» . وذكر الحافظ أبو نعيم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من قضى لأخيه المؤمن حاجة كنت واقفا عند ميزانه، فإن رجح وإلا شفعت له» . وقال بعض أهل العلم، فيما حكاه القرطبى فى «التذكرة» : ولن يجوز أحد الصراط حتى يسأل على سبع قناطر، فأما القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان بالله، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها مخلصا جاز، ثم يسأل فى القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز، ثم يسأل فى القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان، فإن جاء به تامّا جاز، ثم يسأل فى القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز، ثم يسأل فى القنطرة الخامسة عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما تامتين جاز، ثم يسأل فى السادسة

_ (1) سورة فاطر: 10. (2) سورة القارعة: 6، 7. (3) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه البخارى (6493) فى الرقاق، باب: الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها. من حديث سهل بن سعد الساعدى- رضى الله عنه-.

عن الغسل والوضوء، فإن جاء بهما تامين جاز، ثم يسأل فى السابعة، وليس فى القناطر أصعب منها، فيسأل عن ظلامات الناس. وفى حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم-: «ويضرب الصراط بين ظهرانى جهنم، أكون أنا وأمتى أول من يجوز عليه، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفى جهنم كلاليب مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى، فتخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو» «1» . الحديث رواه البخارى. وفى حديث حذيفة وأبى هريرة عند مسلم: «ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يأتى الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا، قال: وفى حافتى الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به: فمخدوش ناج ومكدوس فى النار» «2» . وهذه الكلاليب هى الشهوات المشار إليها فى الحديث «حفت النار بالشهوات» «3» فالشهوات موضوعة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط فى النار. قاله ابن العربى. ويؤخذ من قوله: «فمخدوش إلخ» أن المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما مصاب ثم ينجو. وفى حديث المغيرة عند الترمذى: شعار المؤمنين على الصراط: ربّ سلّم. ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به، بل ينطق به الرسل، يدعون للمؤمنين بالسلامة، فيسمى ذلك شعارا لهم.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (806) فى الأذان، باب: فضل السجود، ومسلم (182) فى الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (195) فى الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) تقدم فى الذى قبله.

وفى حديث ابن مسعود: فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم، يسعى بين أيديهم، الحديث؛ وفيه: فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس، ومنهم من يمر كشد الرجل، حتى يمر الذى يعطى نوره على ظهر قدميه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تجرّ يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها وقال: الحمد لله الذى أعطانى ما لم يعط أحدا إذ نجانى منها بعد أن رأيتها. الحديث. رواه ابن أبى الدنيا والطبرانى. وروى مسلم: قال أبو سعيد: بلغنى أن الصراط أحد من السيف وأرق من الشعرة «1» . وفى رواية ابن منده من هذا الوجه: قال سعيد بن أبى هلال. ووصله البيهقى عن أنس عن النبى- صلى الله عليه وسلم- مجزوما به، وفى سنده لين. ولابن المبارك من مرسل عبيد بن عمير: «أن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب، والذى نفسى بيده إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر» . وأخرجه ابن أبى الدنيا من هذا الوجه وفيه: والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلم سلم. وعن الفضيل بن عياض: بلغنا أن الصراط مسيرة خمس عشرة ألف سنة، خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى، أدق من الشعرة وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله. ذكره ابن عساكر فى ترجمته، قال فى فتح البارى: وهذا معضل لا يثبت. قال: وعن سعيد بن أبى هلال: بلغنا أن الصراط أدق من الشعرة على بعض الناس، ولبعض الناس مثل الوادى الواسع، أخرجه ابن المبارك، وهو مرسل أو معضل.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (183) فى الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.

وقد ذهب بعضهم إلى أن المراد من قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» الجواز على الصراط لأنه ممدود على النار. وروى ابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط. وقيل الورود: الدخول. وعن أبى سمية قال: اختلفنا فى الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا، ثم ينجى الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله، فقلت له: اختلفنا فى الورود فقال: يردونها جميعا، فقلت له: إنا اختلفنا فى ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار- أو قال: لجهنم- ضجيجا من بردهم، ثم ينجى الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيّا» . رواه أحمد والبيهقى بإسناد حسن. وأخرج ابن الجوزى- كما ذكره القرطبى فى التذكرة- رفعه: الزالون عن الصراط كثير، وأكثر من يزل عنه النساء، قال: وإذا صار الناس على طرفى الصراط نادى ملك من تحت العرش: يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط وليقف كل عاص منكم وظالم. فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها، وأشد حرها، يتقدم فيها من كان فى الدنيا ضعيفا مهينا، ويتأخر عنها من كان فيها عظيما مكينا، ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك فى الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط بأمة محمد- صلى الله عليه وسلم- نادوا: وامحمداه وا محمداه، فبادر- صلى الله عليه وسلم- من شدة إشفاقه عليهم، وجبريل آخذ بحجزته، فينادى- صلى الله عليه وسلم- رافعا صوته: رب أمتى أمتى، لا أسلك اليوم نفسى ولا فاطمة ابنتى، والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون رب سلم. وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال، والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال، والزبانية يتلقونهم بالسلاسل والأغلال، وينادونهم: أما نهيتم عن كسب

_ (1) سورة مريم: 71.

الأوزار، أم أما أنذرتم كل الإنذار، أما جاءكم النبى المختار. ذكره ابن الجوزى فى كتابه «روضة المشتاق» . وقد جاء فى حديث أبى هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحسن الصدقة فى الدنيا مر على الصراط» . رواه أبو نعيم. وفى الحديث: من يكن المسجد بيته ضمن الله له بالروح والرحمة الجواز على الصراط إلى الجنة. وروى القرطبى عن ابن المبارك عن عبد الله بن سلام: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبيّا نبيّا، وأمة أمة، ويضرب الجسر على جهنم وينادى أين أحمد وأمته، فيقوم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتتبعه أمته، برها وفاجرها، حتى إذا كان على الصراط طمس الله أبصار أعدائه فيتهافتون فى النار يمينا وشمالا، ويمضى النبى- صلى الله عليه وسلم- والصالحون معه، فتتلقاهم الملائكة فيدلونهم على الطريق، على يمينك، على شمالك، حتى ينتهى إلى ربه، فيوضع له كرسى عن يمين العرش، ثم يتبعه عيسى- عليه السّلام- على مثل سبيله، وتتبعه أمته برها وفاجرها، فإذا كانوا على الصراط طمس الله أبصار أعدائهم فيتهافتون فى النار يمينا وشمالا. الحديث. واعلم أن فى الآخرة صراطين: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم إلا من دخل الجنة بغير حساب، أو يلتقطه عنق من النار، فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر حبسوا على صراط آخر لهم، ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء الله لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم. وقد روى البخارى من حديث أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم فى الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة، والذى نفس محمد بيده لأحدهم أهدى فى الجنة بمنزله منه بمنزله كان فى الدنيا» . وأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- بأنه أول من يقرع باب الجنة وأول من يدخلها، ففى صحيح مسلم من حديث المختار بن فلفل عن ابن عباس قال: قال رسول

الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة» «1» . وفيه أيضا من حديث أنس قال- صلى الله عليه وسلم-: «آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك» «2» . ورواه الطبرانى وزاد فيه: قال فيقوم الخازن ويقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم لأحد بعدك. فقيامه له- صلى الله عليه وسلم- خاصة، فيه إظهار لمزيته ومرتبته، وأنه لا يقوم فى خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون فى خدمته وهو كالملك عليهم، وقد أقامه تعالى فى خدمة عبده ورسوله محمد- صلى الله عليه وسلم-. وروى سهيل بن أبى صالح عن زياد المهرى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يأخذ بحلقة الجنة ولا فخر» «3» . وهو فى مسند الفردوس لكن من حديث ابن عباس. وعن أبى سعيد قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» ، قال: فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم، فذكر الحديث إلى أن قال: «فيأتونى فأنطق معهم» ، قال ابن جدعان قال أنس: فكأنى أنظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال فاخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد، فيفتحون لى ويرحبون بى فيقولون: مرحبا، فأخر ساجدا، فيلهمنى الله من الثناء والحمد، فيقال: ارفع رأسك «4» . الحديث. رواه الترمذى وقال: حسن.

_ (1) صحيح: أخرجه مسلم (196) فى الإيمان، باب: فى قول النبى أنا أول الناس يشفع فى الجنة وأنا أكثر. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (2) صحيح: أخرجه مسلم (197) فى الإيمان، باب: فى قول النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول الناس يشفع فى الجنة» . (3) أخرجه الديلمى عن ابن عباس، كما فى «كنز العمال» (16634) . (4) تقدم.

وفى حديث سلمان: فيأخذ بحلقة الباب وهى من ذهب، فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح «1» . وفى حديث الصور: إن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم فى الدخول، فيقصدون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمدا- صلى الله عليه وسلم-، كما فعلوا عند العرصات عند استشفاعهم إلى الله عز وجل فى فصل القضاء ليظهر شرف نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- على سائر البشر كلهم فى المواطن كلها. وروى أبو هريرة مرفوعا: «أنا أول من يفتح له باب الجنة، إلا أن امرأة تبادرنى فأقول لها ما لك؟ وما أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى» «2» . رواه أبو يعلى، ورواته لا بأس بهم. قال المنذرى: إسناده حسن إن شاء الله. وقوله: «تبادرنى» أى لتدخل معى، أو تدخل فى أثرى، ويشهد له حديث «أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا، وقال بأصبعيه السبابة والوسطى» «3» رواه البخارى من حديث سهل بن سعد. قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الجنة، ولا منزلة فى الجنة أفضل من ذلك، انتهى، ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حال دخول الجنة كما فى الحديث قبله. ووجه التشبيه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومرشدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه ويعلمه ويحسن أدبه. وعن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- ينتظرونه، قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم وهم يتذاكرون، فسمع حديثهم فقال بعضهم: عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا، اتخذ إبراهيم خليلا، وقال

_ (1) تقدم. (2) أخرجه الخرائطى فى مكارم الأخلاق والديلمى عن أبى هريرة- رضى الله عنه-، كما فى «كنز العمال» (45429) . (3) صحيح: أخرجه البخارى (6005) فى الأدب، باب: فضل من يعول يتيما. من حديث سهل بن سعد- رضى الله عنه-.

آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه تكليما، وقال آخر: فعيسى روح الله، وقال آخر: وآدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلم وقال: «قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك، وموسى كلمه الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك. ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لى فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر» «1» . رواه الترمذى. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد بيدى، ومفاتيح الجنة يومئذ بيدى، وأنا أكرم ولد آدم على ربى ولا فخر، ويطوف على ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون» «2» ، رواه الترمذى والبيهقى واللفظ له. وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة» «3» رواه مسلم. وعنه أيضا عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولا الجنة» «4» . فهذه الأمة أسبق الأمم خروجا من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان فى الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى فصل القضاء، وأسبقهم إلى الجوار على الصراط، وأسبقهم إلى دخول الجنة، وهى أكثر أهل الجنة. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث أبى هريرة: لما نزلت هذه

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) تقدم.

الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ «1» قال- صلى الله عليه وسلم-: «أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة» ، قال الطبرانى: تفرد برفعه ابن المبارك عن الثورى. وفى حديث بهز بن حكيم، رفعه: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، أنتم منها ثمانون» «2» . وعن عمر بن الخطاب، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتى» «3» قال الدار قطنى: غريب عن الزهرى. فإن قلت: فما تقول فى الحديث الذى صححه الترمذى من حديث بريدة بن الحصيب قال: أصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فدعا بلالا فقال: «يا بلال، بم سبقتنى إلى الجنة، فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامى» «4» الحديث. أجاب عنه ابن القيم: بأن تقدم بلال بين يديه- رضى الله عنه- إنما هو لأنه كان يدعو إلى الله أولا بالأذان، ويتقدم أذانه بين يدى النبى- صلى الله عليه وسلم-، فيتقدم دخوله بين يديه كالحاجب والخادم. قال: وقد روى فى حديث أن النبى- صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه. ينادى بالأذان، فتقدمه بين يديه كرامة له- صلى الله عليه وسلم-، وإظهارا لشرفه وفضيلته لا سبقا من بلال له. وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله

_ (1) سورة الواقعة: 39، 40. (2) صحيح: أخرجه الترمذى (2546) فى صفة الجنة، باب: ما جاء فى كم صف أهل الجنة، وابن ماجه (4289) فى الزهد، باب: صفة أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-، من حديث بريدة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» . (3) أخرجه ابن النجار، كما فى «كنز العمال» (31953) ، والدار قطنى فى الأفراد، المصدر السابق (32049) . (4) صحيح: أخرجه الترمذى (3689) فى المناقب، باب: فى مناقب عمر بن الخطاب. من حديث أبى بريدة- رضى الله عنه-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

- صلى الله عليه وسلم-: «أتانى جبريل فأخذ بيدى، فأرانى باب الجنة الذى تدخل منه أمتى» ، فقال أبو بكر: يا رسول الله وددت أنى كنت معك حتى أنظر إليه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتى» «1» . وقد دل هذا الحديث على أن لهذه الأمة بابا مختصا يدخلون منه الجنة دون سائر الأمم. فإن قلت: من أى أبواب الجنة يدخل النبى- صلى الله عليه وسلم-؟ فالجواب: إنه قد ذكر الترمذى الحكيم أبواب الجنة، كما نقله عنه القرطبى فى التذكرة، فذكر باب محمد- صلى الله عليه وسلم- قال: وهو باب الرحمة، وهو باب التوبة. فإن قلت: كم عدة أبواب الجنة؟ فاعلم أن فى حديث أبى هريرة عند الشيخين مرفوعا: من أنفق زوجين فى سبيل الله دعى من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الريان. وروى الترمذى من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- مرفوعا: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له من أبواب الجنة الثمانية» «2» بزيادة «من» . قال القرطبى: وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية، قال: وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا، كذا قال؟! فإن قلت: أى الجنان يسكنها النبى- صلى الله عليه وسلم-؟

_ (1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4652) فى السنة، باب: فى الخلفاء، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» . (2) صحيح: أخرجه مسلم (234) فى الطهارة، باب: الذكر المستحب عقب الصلاة. من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-.

فاعلم- منحنى الله وإياك التمتع بذاته القدسية فى الحضرة الفردوسية- أن الله تعالى قد اتخذ من الجنان دارا اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهى سيدة الجنان، والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة جبريل ومن البشر محمدا- صلى الله عليه وسلم-، وربك يخلق ما يشاء ويختار. وفى الطبرانى من حديث أبى الدرداء قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ينزل الله تعالى فى آخر ثلاث ساعات بقين من الليل، فينظر فى الساعة الأولى منهن فى الكتاب الذى لا ينظر فيه غيره، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم ينظر فى الساعة الثانية فى جنة عدن، وهى مسكنه الذى يسكن لا يكون معه فيها أحد إلا الأنبياء والشهداء والصالحون والصديقون، وفيها ما لم يره أحد، ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرنى فأغفر له، ألا سائل يسألنى فأعطيه، ألا داع يدعونى فأستجيب له، حتى يطلع الفجر» «1» . وروى أبو الشيخ عن شمر بن عطية قال: خلق الله جنة الفردوس بيده، فهو يفتحها كل يوم خمس مرات فيقول: ازدادى طيبا لأوليائى، ازدادى حسنا لأوليائى. فتأمل هذه العناية، كيف جعل الجنة التى غرسها بيده لمن خلقه بيده، ولأفضل بريته اعتناء وتشريفا، وإظهارا لفضل ما خلقه بيده وشرفه، وتمييزه بذلك عن غيره. وروى الدارمى عن عبد الله بن الحارث قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خلق الله ثلاثة أشياء بيده، خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده وغرس

_ (1) صحيح: أصله فى البخارى (1145) فى الجمعة، باب: الدعاء فى الصلاة من آخر الليل. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، ولفظه ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعونى فأستجيب له من يسألنى فأعطيه من يستغفرنى فأغفر له.

الفردوس بيده، ثم قال: وعزتى وجلالى لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث» «1» . وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن تكلم فيه. وروى الدارمى أيضا، عن عبد الله بن عمر: خلق الله أربعة أشياء بيده، العرش والقلم وعدنا وآدم- عليه السّلام-، ثم قال لسائر والخلق كن فكان. وعنده أيضا عن ميسرة قال: إن الله لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده. فجنة عدن أعلى الجنان وسيدتها، وهى قصبة الجنة، وفيها الكثيب الذى تقع فيه الرؤية، وعليها تدور ثمانية أسوار بين كل سورين جنة، فالتى تلى جنة عدن من الجنان جنة الفردوس، وأصله البستان، وهى أوسط الجنان التى دون جنة عدن وأفضلها ثم جنة الخلد، ثم جنة النعيم، ثم جنة المأوى، وهى التى يأوى إليها جبريل والملائكة. وعن مقاتل: تأوى إليها أرواح الشهداء، ثم دار السلام، لأنها دار السلام من كل مكروه، ثم دار المقامة. واعلم أن للجنة أسماء عديدة باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار ذاتها، فهى مترادفة من هذا الوجه، ومختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنة هو الاسم العام المتناول لتلك الذوات وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والسرور وقرة العين، وهذه اللفظة مشتقة من الستر، ومنه سمى البستان جنة لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدّا، كما قال- صلى الله عليه وسلم- لأم حارثة لما قتل ببدر، وقد قالت: يا رسول الله ألا تحدثنى عن حارثة، فإن كان فى الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت فى البكاء عليه، فقال: «يا أم حارثة، إنها جنان فى الجنة، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى» «2» . وقال تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «3» فذكرهما ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «4»

_ (1) أخرجه الديلمى عن الحارث بن نوفل، كما فى «كنز العمال» (15138) . (2) صحيح: أخرجه البخارى (2809) فى الجهاد والسير، باب: من أتاه سهم غرب فقتله. من حديث أم حارثة- رضى الله عنها-. (3) سورة الرحمن: 46. (4) سورة الرحمن: 62.

أى فهذه أربع» ، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» . رواه الشيخان من حديث أبى موسى الأشعرى. وقد قسم بعضهم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة: اختصاص إلهى وهى التى يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومن أهلها أهل الفترات، ومن لم تصل إليه دعوة رسول. والجنة الثانية: جنة ميراث، ينالها كل من دخل الجنة من المؤمنين، وهى الأماكن التى كانت معينة لأهل النار لو دخلوها. والجنة الثالثة: جنة الأعمال، وهى التى ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره فى وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر. وسواء كان الفاضل دون المفضول أو لم يكن، غير أن فضله فى هذا المقام لهذه الحالة، فما من عمل من الأعمال إلا وله جنة، ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضى أحوالهم. قال- صلى الله عليه وسلم-: «يا بلال، بم سبقتنى إلى الجنة» الحديث، فعلم أنها كانت جنة مخصوصة، فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص، يناله من دخلها، وقد يجمع الواحد من الناس فى الزمان الواحد أعمالا من العبادات فيؤجر فى الزمان الواحد من وجوه كثيرة، فيفضل غيره ممن ليس له ذلك. فقد تبين أن نيل المنازل والدرجات فى الجنات بالأعمال، وأما الدخول فلا يكون إلا برحمة الله تعالى، كما فى البخارى ومسلم من حديث عائشة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» «1» أى يلبسنيها ويسترنى بها، مأخوذ من غمد السيف وهو غلافه. وعند الإمام أحمد، بإسناد حسن، من حديث أبى سعيد الخدرى: «لن

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (5673) فى المرض، باب: تمنى المريض الموت، ومسلم (2816) فى صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» ، وقال بيده فوق رأسه. يعنى أن الجنة إنما تدخل برحمة الله، وليس عمل العبد سببا مستقلا بدخولها وإن كان سببا، ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال فى قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» ، ونفى- صلى الله عليه وسلم- دخولها بالأعمال فى قوله: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» ولا تنافى بين الأمرين، لما ذكره سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمة الله، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل له حديث أبى هريرة: إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم. رواه الترمذى. قال ابن بطال: محمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، ومحل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها. ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال. وأجاب: بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول. ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية والتقدير: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شئ من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل الله عليهم ابتداء بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم. وأشار إلى نحوه القاضى عياض فقال: وإن من رحمة الله توفيقه للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله ورحمته. وقال غيره: لا تنافى بين ما فى الآية والحديث، لأن «الباء» التى أثبتت

_ (1) سورة الزخرف: 72. (2) سورة النحل: 32.

الدخول هى باء السبب التى تقتضى سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلا بحصوله و «الباء» التى نفت الدخول هى باء المعاوضة التى يكون فيها أحد العوضين مقابلا للآخر، نحو: اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس فى مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل بمجرده- ولو تناهى- لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضا لها، لأنه لو وقع على الوجه الذى يحبه الله، لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازى نعمة واحدة. فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا من أعمالهم، كما فى حديث أبى بن كعب عند أبى داود وابن ماجه. وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة للحكمة والتعليل القائلين بأن القيام للعبادة ليس إلا لمجرد الأمر، من غير أن يكون سببا للسعادة فى معاش ولا معاد، ولا لنجاة المعتقدين أن النار ليست سببا للإحراق، وأن الماء ليس سببا للإرواء والتبريد. والقدرية الذين ينفون نوعا من الحكمة والتعليل، القائلين بأن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وإنما هى بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، محتجين بأن الله تعالى يجعلها عوضا عن العمل، كما فى قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» وبقوله- صلى الله عليه وسلم- حاكيا عن ربه تعالى: «يا عبادى، إنما هى أعمالكم أحصاها لكم ثم أوفيكم إياه» . وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك بمحض الأعمال وثمنا لها، والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذى فطر الله عليه عباده، وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو: أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب

_ (1) سورة النحل: 32.

لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته وصدقته على عبده أن أعانه عليها ووفقه لها، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحببها إليه وزينها فى قلبه، وكره إليه أضدادها، ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرا له تعالى أن قبلها سبحانه، ولهذا نفى- صلى الله عليه وسلم- دخول الجنة بالعمل ردّا على القدرية القائلين بأن الجزاء بمحض الأعمال وثمنا لها، وأثبت سبحانه وتعالى دخول الجنة بالعمل ردّا على الجبرية الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطا بالجزاء. فتبين أنه لا تنافى بينهما، إذ توارد النفى والإثبات ليس على معنى واحد، فالمنفى استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها ردّا على القدرية، والمثبت الدخول بسبب العمل ردّا على الجبرية، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو، عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا. وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا: فمعنى قوله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» أى تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر مع هذا أن تكون «الباء» للمصاحبة أو للإلصاق أو للمقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية. قال: ثم رأيت النووى جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث: أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها. وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل، وهو من رحمة الله تعالى. انتهى. وروى الدار قطنى عن أبى أمامة، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «نعم الرجل أنا لشرار أمتى، فقالوا: فكيف أنت لخيارها؟ فقال: أما خيارها

_ (1) سورة النحل: 32.

فيدخلون الجنة بأعمالهم وأما شرار أمتى فيدخلون الجنة بشفاعتى» «1» ، ذكره عبد الحق فى العاقبة. وأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- فى الجنة بالكوثر- وهو على وزن فوعل من الكثرة- سمى به هذا النهر العظيم لكثرة مائه وآنيته وعظم قدره وخيره. فقد نقل المفسرون فى تفسير «الكوثر» أقوالا تزيد على العشرة، ذكرت كثيرا منها فى المقصد السادس من هذا الكتاب، وأولاها قول ابن عباس: إنه الخير الكثير لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبى- صلى الله عليه وسلم- فلا معدل عنه. فقد روى مسلم وأبو داود والنسائى من طريق محمد بن فضيل وعلى ابن مسهر، كلاهما عن المختار بن فلفل عن أنس- واللفظ لمسلم- قال: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا فى المسجد، إذ أغفى إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما، قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أنزلت على آنفا سورة، فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «2» ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنه نهر وعدنيه ربى عز وجل» «3» . الحديث. لكن فيه إطلاق الكوثر على الحوض، وقد جاء صريحا فى حديث عند البخارى أن الكوثر هو النهر الذى يصب فى الحوض. وعند أحمد: «ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض» «4» ، وعند مسلم «يغت فيه- يعنى الحوض- ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب والآخر من ورق» . وقوله: «يغت» بالغين المعجمة، أى: يصب.

_ (1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (10/ 377) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير، وفيه جميع بن ثوب الرجبى، قال فيه البخارى: منكر الحديث، وقال النسائى: متروك الحديث، وقال ابن عدى: روايته تدل على أنه ضعيف. (2) سورة الكوثر: 1- 3. (3) تقدم. (4) أخرجه أحمد (5/ 393) بمعناه من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.

وفى البخارى من حديث قتادة عن أنس قال: لما عرج بالنبى- صلى الله عليه وسلم- إلى السماء قال: «أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟: قال: هذا الكوثر» «1» . ورواه ابن جرير عن شريك بن أبى نمر قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم- مضى به جبريل، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فذهب يشم ترابه فإذا هو مسك، قال: «يا جبريل، ما هذا النهر؟ قال: الكوثر الذى خبأ لك ربك» «2» . وروى أحمد عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: «نهر فى الجنة أعطانيه ربى، لهو أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل» «3» . وعن أبى عبيدة عن عائشة قال: سألتها عن قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «4» قالت: نهر أعطيه نبيكم شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم «5» . رواه البخارى. وقوله: «شاطئاه» أى: حافتاه. وقوله: «در مجوف» أى: القباب التى على جوانبه. ورواه النسائى بلفظ قالت: نهر فى بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت «6» . و «بطنان» : بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون. و «وسط» بفتح المهملة، المراد به أعلاها، أرفعها قدرا، والمراد به: أعدلها.

_ (1) صحيح: أخرجه البخارى (4964) فى تفسير القرآن، من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) صحيح: جزء من حديث أخرجه البخارى (7517) فى التوحيد، باب: قوله وكلم الله موسى تكليما. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-. (3) صحيح: أصله عند مسلم (247) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (4) سورة الكوثر: 1. (5) صحيح: أخرجه البخاري (4965) فى تفسير القرآن. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. (6) صحيح: أخرجه مسلم (2300) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا- صلى الله عليه وسلم- وصفاته، من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.

وعن- ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الكوثر نهر فى الجنة حافتاه من الذهب والماء يجرى على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل» «1» ، رواه أحمد وابن ماجه، وقال الترمذى: حسن صحيح. وروى عن ابن عباس فى قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قال: هو نهر فى الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، شاطئاه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خص الله به نبيه قبل الأنبياء، رواه ابن أبى الدنيا موقوفا. وعن أنس قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما الكوثر؟ قال: «نهر أعطانيه الله- يعنى فى الجنة- أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق البخت، أو أعناق الجزر» ، قال عمر: إنها لناعمة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكلتها أنعم منها» «2» . رواه الترمذى وقال: حسن. و «الجزر» بضم الجيم والزاى، جمع جزور وهو البعير. قال الحافظ ابن كثير: قد تواترت- يعنى أحاديث الكوثر- من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث، وكذلك أحاديث الحوض، قال: وهكذا روى عن أنس وأبى العالية ومجاهد وغير واحد من السلف: أن الكوثر نهر فى الجنة. وأما تفضيله- صلى الله عليه وسلم- فى الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والفضيلة، فروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول: ثم صلوا علىّ، فإنه من صلى علىّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لى الوسيلة فإنها منزلة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة» «3» .

_ (1) تقدم. (2) تقدم. (3) تقدم.

قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الوسيلة علم على أعلى منزلة فى الجنة، وهى منزلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وداره فى الجنة، وهى أقرب أمكنة الجنة إلى العرش. وقال غيره: الوسيلة «فعيلة» من وسل إليه إذا تقرب، يقال: توسلت أى تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، كما قال فى هذا الحديث، فإنها منزلة فى الجنة، على أنه يمكن ردها إلى الأول، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فيكون كالقربة التى يتوسل بها، ولما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى، وهى أعلى درجة فى الجنة، وأمر أمته أن يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء الزلفى وزيادة الإيمان، وأيضا: فإن الله تعالى قدرها له بأسباب منها دعاء أمته له، بما نالوه على يده من الهدى والإيمان. وأما الفضيلة، فهى المرتبة الزائدة على سائر الخلق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرا للوسيلة. وعن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الوسيلة درجة عند الله عز وجل ليس فوقها درجة، فسلوا الله لى الوسيلة» «1» . رواه أحمد فى المسند، وذكره ابن أبى الدنيا وقال: الوسيلة درجة ليس فى الجنة أعلى منها، فسلوا الله أن يؤتينيها على رؤوس الخلائق. وروى ابن مردويه عن على عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا سألتم الله فسلوا لى الوسيلة، قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك؟ قال: على وفاطمة والحسن والحسين» «2» . لكن قال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه حديث غريب منكر من هذا الوجه. وعند ابن أبى حاتم من حديث على أيضا: أنه قال على منبر الكوفة: أيها الناس إن فى الجنة لؤلؤتين إحداهما بيضاء والآخرى صفراء، فأما البيضاء فإنها إلى بطنان العرش. والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف

_ (1) تقدم. (2) أخرجه ابن مردويه عن على كما فى «كنز العمال» (34195 و 37619) .

غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة، هى لمحمد- صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته والصفراء فيها مثل ذلك، هى لإبراهيم- عليه السّلام- وأهل بيته. وهذا أثر غريب كما نبه عليه الحافظ ابن كثير أيضا. وعن ابن عباس فى قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «1» قال: أعطاه الله فى الجنة ألف قصر فى كل قصر ما ينبغى له من الأزواج والخدم. رواه ابن جرير وابن أبى حاتم من طريقه، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف، فهو فى حكم المرفوع.

_ (1) سورة الضحى: 5.

خاتمة

خاتمة عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إلى من نفسى، وإنك لأحب إلى من أهلى، وإنك لأحب إلى من ولدى، وإنى لأكون فى البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك. وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنى إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يردّ عليه النبى- صلى الله عليه وسلم- شيئا، حتى نزل عليه جبريل- عليه السّلام- بهذه الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1» «2» رواه أبو نعيم، وقال الحافظ أبو عبد الله المقدسى: لا أعلم بإسناد هذا الحديث بأسا. كذا نقله فى «حادى الأرواح» . وذكره البغوى فى «معالم التنزيل» بلفظ: نزلت- يعنى الآية- فى ثوبان مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وكان شديد الحب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغير لونه، يعرف الحزن فى وجهه، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما غير لونك؟» فقال: يا رسول الله، ما بى وجع ولا مرض، غير أنى إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك، لأنك ترفع مع النبيين، وإنى إن دخلت الجنة فى منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية. وكذا ذكره ابن ظفر فى «ينبوع الحياة» لكن قال: إن الرجل هو عبد الله ابن زيد الأنصارى الذى رأى الأذان.

_ (1) سورة النساء: 69. (2) صحيح: أخرجه مسلم (2444) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

وليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل فى درجة واحدة، لأن هذا يقتضى التسوية فى الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فالمراد كونهم فى الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان، لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، فإذا أرادوا الرؤية والتلاقى قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية. وقد ثبت فى الصحيحين من حديث أنس، أن رجلا قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها؟» قال: لا شئ إلا أنى أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت» ، قال أنس: فما فرحنا بشئ فرحنا بقول النبى- صلى الله عليه وسلم-: أنت مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب النبى- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبى إياهم «1» . وفى الحديث الإلهى الذى رواه حذيفة- كما عند الطبرانى بسند غريب- أنه تعالى قال: «ما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه» «2» الحديث. وفيه من الزيادة على حديث البخارى: «ويكون من أوليائى وأصفيائى، ويكون جارى مع النبيين والصديقين والشهداء فى الجنة» «3» . فلله درها من كرامة بالغة، ونعمة على المحبين سابغة، فالمحب يرقى فى درجات الجنات على أهل المقامات، بحيث ينظر إليه كما ينظر إلى الكوكب الغابر فى أفق السماوات لعلو درجته وقرب منزلته من حبيبه، ومعيته معه، فإن المرء مع من أحب، ولكل عمل جزاء، وجزاء المحبة المحبة والوصول والقرب من المحبوب.

_ (1) متفق عليه: أخرجه البخارى (3688) فى المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب، ومسلم (2639) فى البر والصلة، باب: المرء مع من أحب. من حديث أنس- رضى الله عنه-. (2) أصله فى البخارى (6502) فى الرقاق، باب: التواضع. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-. (3) أخرجه أبو نعيم فى الحلية والحاكم فى تاريخه وابن عساكر والديلمى، وفيه إسحاق بن يحيى الكعبى هالك يأتى بالمناكير عن الأثبات، قاله المتقى الهندى فى «كنز العمال» (43600) .

رؤيت امرأة مسرفة على نفسها بعد موتها فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لى، فقيل لها: بماذا؟ قالت: بمحبتى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وشهوتى النظر إليه، نوديت: من اشتهى النظر إلى حبيبنا نستحى أن نذله بعتابنا، بل نجمع بنيه وبين من يحبه. وانظر إلى قوله تعالى: طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ «1» وإن طوبى اسم شجرة غرسها الله بيده، وتنبت الحلى والحلل، وإن أغصانها لترمى من وراء سور الجنة، وإن أصلها فى دار النبى- صلى الله عليه وسلم-، وفى دار كل مؤمن منها غصن، فما من جنة من الجنات إلا وفيها من شجرة طوبى، ليكون سر كل نعيم، ونصيب كل ولى من سره- صلى الله عليه وسلم-، وأنه- صلى الله عليه وسلم- ملأ الجنة، فلا ولى يتنعم فى جنته إلا والرسول متنعم بنعمته، لأن الولى ما وصل إلى ما وصل إليه من النعيم إلا باتباعه لنبيه- صلى الله عليه وسلم-، فلهذا كان سر النبوة قائما به فى تنعمه. وكذلك إبليس ملأ النار، فلا عذاب لأحد من أهلها إلا وإبليس- لعنه الله- سر تعذيبه ومشارك له فيه. وفى «البحر» لأبى حيان عند تفسير قوله تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً «2» قيل: هى عين فى دار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين. وإذا علمت هذا، فاعلم أن أعظم نعيم الجنة وأكمله التمتع بالنظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى، ورسوله- صلى الله عليه وسلم-، وقرة العين بالقرب من الله ورسوله مع الفوز بكرامة الرضوان التى هى أكبر من الجنان وما فيها، كما قال الله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «3» . ولا ريب أن الأمر أجل مما يخطر ببال أو يدور فى خيال، ولا سيما عند فوز المحبين فى روضة الأنس وحظيرة القدس، بمعية محبوبهم الذى هو غاية

_ (1) سورة الرعد: 29. (2) سورة الإنسان: 6. (3) سورة التوبة: 72.

مطلوبهم، فأى نعيم وأى لذة وأى قرة عين وأى فوز يدانى تلك المعية ولذتها، وقرة العين بها، وهل فوق نعيم قرة العين بمعية الله ورسوله نعيم، فلا شئ- والله- أجل ولا أكمل ولا أجمل ولا أجلى ولا أحلى ولا أعلى ولا أغلى من حضرة يجتمع فيها المحب بأحبابه فى مشهد مشاهد الإكرام حيث ينجلى لهم حبيبهم ومعبودهم الإله الحق جل جلاله خلف حجاب واحد فى اسمه الجميل اللطيف، فينفهق عليهم نور يسرى فى ذواتهم فيبهتون من جمال الله، وتشرق ذواتهم بنور ذلك الجمال الأقدس، بحضرة الرسول الأرأس، ويقول لهم الحق جل جلاله: سلام عليكم عبادى، ومرحبا بكم أهل ودادى، أنتم المؤمنون الآمنون، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أنت أوليائى وجيرانى، وأحبابى، إنى أنا الله الجواد الغنى، وهذه دارى قد أسكنتكموها، وجنتى قد أبحتكموها، وهذه يدى مبسوطة ممتدة عليكم، وأنا ربكم أنظر إليكم، لا أصرف نظرى عنكم، أنا لكم جليس وأنيس، فارفعوا إلى حوائجكم، فيقولون ربنا حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم والرضا عنا، فيقول لهم جل جلاله: هذا وجهى فانظروا إليه وأبشروا، فإنى عنكم راض، ثم يرفع الحجاب ويتجلى لهم فيخرون سجدا فيقول لهم: ارفعوا رؤسكم، فليس هذا موضع سجود يا عبادى، ما دعوتكم إلا لتتمتعوا بمشاهدتى، يا عبادى قد رضيت عنكم فلا أسخط عليكم أبدا. فما أحلاها من كلمة، وما ألذها من بشرى، فعندها يقولون: الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن، وأحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب، إن ربنا لغفور شكور. وهذا يدل على أن جميع العبادات تزول فى الجنة إلا عبادة الشكر والحمد والتسبيح والتهليل. والذى يدل عليه الحديث الصحيح، أنهم يلهمون ذلك كإلهام النفس، كما فى مسلم من حديث جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يمتخطون ولا يبولون، ويكون طعامهم ذلك جشاء ورشحا كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد، كما يلهمون النفس، يعنى أن تسبيحهم وتحميدهم يجرى مع الأنفاس» ، فليس

عن تكليف وإلزام، وإنما هو عن تيسير وإلهام، ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا بد له منه ولا كلفة ولا مشقة فى فعله، وكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة. وسر ذلك أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة لذكره، وقد أخبر تعالى عن شأنهم فى ذلك بقوله تعالى فى كتابه العزيز: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ «1» وقوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. قال مؤلفه وجامعه أحمد بن الخطيب القسطلانى- عامله الله بما يليق بكرمه-: فهذا آخر ما جرى به قلم المدد، من هذه المواهب اللدنية، وسطرته يد الفيض من المنح المحمدية، وذلك وإن كثر لقليل فى جنب شرفه الشامخ، ويسير مما أكرمه الله به من فضله الراسخ، ولو تتبعنا ما منحه الله به من مواهبه، وشرفه به من مناقبه، لما وسعت بعض بعضه الدفاتر، وكلّت دون مرماه الأقلام وجفت المحابر، وضاقت عن جمعه الكتب، وعجزت عن حمله النجب. وعلى تفنن واصفيه لحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف وإلى الله أضرع أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، مخلصا من شوائب الرياء، ودواعى التعظيم، وأن ينفعنى به والمسلمين والمسلمات فى المحيا وبعد الممات، سائلا من وقف عليه من فاضل أنار الله بصيرته، وجبل على الإنصاف سريرته، أن يصلح بحلمه عثارى وزللى، ويسد بسداد فضله خطئى وخللى، فالكريم يقيل العثار، ويقبل الاعتذار، خصوصا عذر مثلى، مع

_ (1) سورة الزمر: 74. (2) سورة يونس: 10.

قصر باعه فى هذه الصناعة، وكساد سوقه بما لديه من مزجاة البضاعة، وما ابتلى به من شواغل الدنيا الدنية، والعوارض البدنية، وتحمله من الأثقال التى لو حملها رضوى لتضعضع، أو أنزلت على ثبير لخشع وتصدع، لكننى أخذت غفلة الظلام الغاسق، والليل الواسق، فسرقته من أيدى العوائق، والليل يعين السارق، واستفتحت مغاليق المعانى بمفاتيح فتح البارى، واستخرجت من مطالب كنوز العلوم نفائس الدرارى، حامد الله تعالى على ما أنعم وألهم وعلم ما لم أكن أعلم. مصليا مسلما على رسوله محمد أشرف أنبيائه، وأفضل مبلغ لأنبائه، وعلى آله وأصحابه وصفائه صلاة لا ينقطع مددها، ولا يفنى أمدها. والله أسأل أن ينفع به جيلا بعد جيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل وأستودع الله نفسى ودينى وخواتيم عملى، وما أنعم به على ربى، وهذا الكتاب، وأن ينفعنى به والمسلمين، وأن يردنى وأحبابى إلى الحرمين الشريفين على أحسن وجه وأتمه، وأن يرزقنى الإقامة بهما فى عافية بلا محنة، وأن يطيل عمرى فى طاعته، ويلبسنى أثواب عافيته، ويجمع لى وللمسلمين بين خيرى الدنيا والآخرة، ويصرف عنى سوءهما، ويجعل وفاتى ببلد رسوله، ويمنحنا من المدد المحمدى بما منح به عباده الصالحين مع رضوانه، ويمتعنا بلذة النظر إلى وجهه الكريم من غير عذاب يسبق، فإنه سبحانه إذا استودع شيئا حفظه، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال مؤلفه- رحمه الله-: وقد انتهت كتابة النسخة المنقول منها النسخة المباركة النافعة- إن شاء الله تعالى- فى خامس عشر شعبان المكرم سنة تسع وتسعين وثمانمائة، وكان الابتداء فى المسودة المذكورة ثانى يوم قدومى من مكة المشرفة، صبيحة الحاج فى شهر محرم سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أمين. (بعونه تعالى تم الكتاب) .

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات الموضوع الصفحة المقصد الثامن فى طبه- صلى الله عليه وسلم- لذوى الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات 3 الفصل الأول فى طبه- صلى الله عليه وسلم- لذوى الأمراض والعاهات 4 النوع الأول فى طبه- صلى الله عليه وسلم- بالأدوية الإلهية 18 رقية الذى يصاب بالعين 26 عقوبة العائن 31 ذكر رقية النبى- صلى الله عليه وسلم- التى كان يرقى بها 32 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من الفزع والأرق المانع من النوم 33 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى 33 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب 34 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من داء الفقر 42 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من داء الحريق 42 ذكر ما كان- صلى الله عليه وسلم- يطب به من داء الصرع 43

ذكر دوائه- صلى الله عليه وسلم- من داء السحر 44 ذكر رقية لكل شكوى 51 رقيته- صلى الله عليه وسلم- من الصداع 51 رقيته- صلى الله عليه وسلم- من وجع الضرس 52 رقيته لعسر البول 53 رقية الحمى 53 ذكر ما يقى من كل بلاء 56 ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء 57 ذكر دواء داء الطعام 58 ذكر دواء أم الصبيان 58 النوع الثانى طبه- صلى الله عليه وسلم- بالأدوية الطبيعية 59 ذكر ما كان- صلى الله عليه وسلم- يعالج به الصداع والشقيقة 59 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- للرمد 61 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من العذرة 64 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- لداء استطلاق البطن 65 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- فى يبس الطبيعة بما يمشيه ويلينه 68 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- للمفؤود 70 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- لذات الجنب 70

ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- لداء الاستسقاء 71 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من داء عرق النسا 74 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من الأورام والخراجات 74 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- بقطع العروق والكى 75 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من الطاعون 77 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من السلعة 80 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من الحمى 81 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من حكة الجسد وما يولد القمل 85 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من السم الذى أصابه بخيبر 86 النوع الثالث ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية 87 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من القرحة والجرح وكل شكوى 87 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من القرحة والجرح وكل شكوى 87 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من لدغة العقرب 89 ذكر الطب من النملة 90 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من البثرة 90 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- من حرق النار 90 ذكر طبه- صلى الله عليه وسلم- بالحمية 91 ذكر حمية المريض من الماء 92 ذكر أمره- صلى الله عليه وسلم- بالحمية من الماء المشمس خوف البرص 93

ذكر الحمية من طعام البخلاء 93 ذكر الحمية من داء الكسل 94 ذكر الحمية من داء البواسير 94 ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحى الذباب بانغماس الثانى 94 ذكر أمره- صلى الله عليه وسلم- بالحمية من الوباء النازل فى الإناء بالليل بتغطيته 95 ذكر حمية الوليد من إرضاع الحمقى 95 الفصل الثانى فى تعبيره- صلى الله عليه وسلم- الرؤيا 97 الرؤيا الصالحة جزء من النبوة 99 الفصل الثالث فى إنبائه- صلى الله عليه وسلم- بالأنباء المغيبات 125 المقصد التاسع فى لطيفة من عباداته 149 النوع الأول فى الطهارة وفيه فصول: 155 الفصل الأول فى ذكر وضوئه- صلى الله عليه وسلم- وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به 155 الفصل الثانى فى وضوئه- صلى الله عليه وسلم- مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا 164

الفصل الثالث فى صفة وضوئه- صلى الله عليه وسلم- 166 الفصل الرابع فى مسحه- صلى الله عليه وسلم- على الخفين 175 الفصل الخامس فى تيممه- صلى الله عليه وسلم- 178 الفصل السادس فى غسله- صلى الله عليه وسلم- 179 النوع الثانى فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- 185 القسم الأول فى الفرائض وما يتعلق بها وفيه أبواب 187 الباب الأول فى الصلوات الخمس وفيه فصول 187 الفصل الأول فى فرضها 187 الفصل الثانى فى ذكر تعيين الأوقات التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس 188

الفصل الثالث فى ذكر كيفية صلاته- صلى الله عليه وسلم- وفيه فروع 193 الفرع الأول: فى صفة افتتاحه- صلى الله عليه وسلم- 193 الفرع الثانى: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- البسملة فى أول الفاتحة 199 الفرع الثالث: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- الفاتحة وقول آمين بعدها 208 الفرع الرابع: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- بعد الفاتحة فى صلاة الغداة 208 الفرع الخامس: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- بعد الفاتحة فى صلاتى الظهر والعصر 212 الفرع السادس: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة المغرب 214 الفرع السابع: فى ذكر ما كان- صلى الله عليه وسلم- يقرأ فى صلاة العشاء 217 الفرع الثامن: فى ذكر صفة ركوعه- صلى الله عليه وسلم- 218 الفرع التاسع: فى مقدار ركوعه- صلى الله عليه وسلم- 219 الفرع العاشر: فى ذكر ما كان- صلى الله عليه وسلم- يقوله فى الركوع والرفع منه 220 الفرع الحادى عشر: فى ذكر صفة سجوده- صلى الله عليه وسلم- وما يقول فيه 222 الفرع الثانى عشر: فى ذكر جلوسه- صلى الله عليه وسلم- للتشهد 225 الفرع الثالث عشر: فى ذكر تشهده- صلى الله عليه وسلم- 227 الفرع الرابع عشر: فى ذكر تسليمه- صلى الله عليه وسلم- من الصلاة 235 الفرع الخامس عشر: فى ذكر قنوته- صلى الله عليه وسلم- 242

الفصل الرابع فى سجوده- صلى الله عليه وسلم- للسهو فى الصلاة 249 الفصل الخامس فيما كان- صلى الله عليه وسلم- يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدها 262 الباب الثانى فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- الجمعة 267 الباب الثالث فى ذكر تهجده- صلوات الله وسلامه عليه- 286 ذكر سياق صلاته- صلى الله عليه وسلم- بالليل 290 الباب الرابع فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- الوتر 309 الباب الخامس فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- الضحى 316 القسم الثانى فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- النوافل أحكامها وفيه بابان 325 الباب الأول فى النوافل المقرونة بالأوقات 325

الفصل الأول فى رواتب الصلوات الخمس والجمعة 325 الفرع الأول: فى أحاديث جامعة لرواتب مشتركة 325 الفرع الثانى: فى ركعتى الفجر 326 الفرع الثالث: فى راتبة الظهر 331 الفرع الرابع: فى سنة العصر 332 الفرع الخامس: فى راتبة المغرب 334 الفرع السادس: فى راتبة العشاء 337 الفرع السابع: فى راتبة الجمعة 337 الفصل الثانى فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- العيدين 339 الفرع الأول: فى عدد الركعات 340 الفرع الثانى: فى عدد التكبير 340 الفرع الثالث: فى الوقت والمكان 341 الفرع الرابع: فى الأذان والإقامة 342 الفرع الخامس: فى قراءته- صلى الله عليه وسلم- فى صلاة العيدين 342 الفرع السادس: فى خطبته- صلى الله عليه وسلم- وتقديمه صلاة العيدين عليها 343 الفرع السابع: فى أكله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر قبل خروجه إلى الصلاة 344

الباب الثانى فى النوافل المقرونة بالأسباب 351 الفصل الأول فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- الكسوف 351 الفصل الثانى فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- صلاة الاستسقاء 361 الفصل الثالث 373 الفصل الرابع 374 القسم الثالث فى ذكرته. - صلى الله عليه وسلم- فى السفر 376 الفصل الأول فى قصره- صلى الله عليه وسلم- الصلاة فيه وأحكامه 376 الفرع الأول: فى كم كان- صلى الله عليه وسلم- يقصر الصلاة 376 الفرع الثانى: فى القصر مع الإقامة 378 الفصل الثانى فى الجمع 380 الفرع الأول: فى جمعه- صلى الله عليه وسلم- 380 الفرع الثانى: فى جمعه- صلى الله عليه وسلم- بجمع مزدلفة وبعرفة 381

الفصل الثالث فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- النوافل فى السفر 382 الفصل الرابع فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- التطوع فى السفر على الدابة 385 القسم الرابع فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف 387 القسم الخامس فى ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- على الجنازة 390 الفرع الأول: فى عدد التكبيرات 390 الفرع الثانى: فى القراءة والدعاء 390 الفرع الثالث: فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- على القبر 392 الفرع الرابع: فى صلاته- صلى الله عليه وسلم- على الغائب 394 النوع الثالث فى ذكر سيرته- صلى الله عليه وسلم- فى الزكاة 398 النوع الرابع فى ذكر صيامه- صلى الله عليه وسلم- 404 القسم الأول فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان وفيه فصول 407

الفصل الأول فيما يختص به رمضان من العبادات وتضاعف جوده- صلى الله عليه وسلم- فيه 407 الفصل الثانى فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- برؤية الهلال 410 الفصل الثالث فى صومه- صلى الله عليه وسلم- بشهادة العدل الواحد 411 الفصل الرابع فيما كان يفعله- صلى الله عليه وسلم- وهو صائم 412 الفصل الخامس فى وقت إفطاره- صلى الله عليه وسلم- 416 الفصل السادس فيما كان- صلى الله عليه وسلم- يفطر عليه 417 الفصل السابع فيما كان يقوله- صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار 417 الفصل الثامن فى وصاله- صلى الله عليه وسلم- 418 الفصل التاسع فى سحوره- صلى الله عليه وسلم- 423

الفصل العاشر فى إفطاره- صلى الله عليه وسلم- فى رمضان فى السفر وصومه 425 القسم الثانى فى صومه- صلى الله عليه وسلم- غير شهر رمضان وفيه فصول 427 الفصل الأول فى سرده- صلى الله عليه وسلم- صوم أيام من الشهر وفطره أياما 427 الفصل الثانى فى صومه- صلى الله عليه وسلم- عاشوراء 428 الفصل الثالث فى صيامه- صلى الله عليه وسلم- شعبان 436 الفصل الرابع فى صومه- صلى الله عليه وسلم- عشر ذى الحجة 440 الفصل الخامس فى صومه- صلى الله عليه وسلم- أيام الأسبوع 442 الفصل السادس فى صومه- صلى الله عليه وسلم- الأيام البيض 445 النوع الخامس فى ذكر اعتكافه- صلى الله عليه وسلم- واجتهاده فى العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر 447

النوع السادس فى ذكر حجه وعمره- صلى الله عليه وسلم- 453 النوع السابع من عبادته- صلى الله عليه وسلم- فى ذكر نبذة من أدعيته وأذكاره وقراءته 511 المقصد العاشر الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه- صلى الله عليه وسلم- 540 الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف 587 الفصل الثالث فى تفضيله- صلى الله عليه وسلم- فى الآخرة ... إلخ 624 خاتمة 685

§1/1