الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية

محماس الجلعود

المقدمة

المقدمة الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وجعله هاديًا ونذيرًا، ومرشدا لمن تمسك به واعتمد عليه في موالاته ومعاداته، فهو له سراجٌ منيرٌ، وأوجب فيه مقاطعة أهل الشرك ومن كان لهم مؤيدا ونصيرا. والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخيرة رسله محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي مزق الله بمبعثه ظلام الكفر، وجعل من هديه مباينة الشرك والمشركين جملة وتفصيلاً. وعلى آله وأصحابه الذين تحابوا في الله حبًّا أرغموا به أنوف الأعداء، وجاهدوا به الكفار والمنافقين جهادًا كبيرًا وتميزوا به عن أهل الضلال، فلم يرضوا منهم بأنصاف الحلول سبيلاً. وبعد: فإن قضية الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية قد أصبحت من القضايا المهملة في حساب كثير ممن ينتمون إلى الإسلام في العصر

الحاضر، ظنا منهم أن تلك القضية ليست من قضايا العقيدة والعبادة، لذلك وضعوا أيديهم بأيدي الكفار، ومنحوهم غاية الحب والمودة والمناصرة، ودافعوا عنهم باللسان والسنان، في الوقت الذي خذلوا فيه أهل الإيمان، وأذاقوهم ألوانا من العذاب. وهناك دعوة يروِّج لها أعداء الإسلام، ويهذي بها المنافقون والمرتدون والساذجون من مدعي الإسلام، وتلك هي دعوة التقريب بين الأديان، أي بين الرسالات الثلاث: الإسلام، والنصرانية واليهودية، تحت شعار «الدين لله والوطن للجميع». فقد أصدر مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية التابع للجامعة التونسية كتاب الملتقى الإسلامي المسيحي وجاء في مقدمة هذا الكتاب الذي كتبه عبد الوهاب بوحدبية ما نصه لقد عقد هذا الملتقى الإسلامي المسيحي الذي دعونا إليه بقرطاج، والحمامات والقيروان في الفترة من 11 إلى 17 نوفمبر سنة (1974) وقد ساهم هذا اللقاء في بناء صرح التفاهم والإخاء بين الأديان (¬1). ونحن نريد أن نذكر هؤلاء وأمثالهم بما قرره الله عز وجل في كتابه الكريم من أنه لا لقاء بين الحق والباطل أبدا، وأن أعداء التوحيد في كل زمان ومكان لا يتغيرون، ولا يلتقون مع الحق إلا عندما يذعنون له ويتخلصون من الباطل قال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 120] ¬

_ (¬1) مجلة الدعوة السعودية عدد 812 في 9 (ذو القعدة) سنة 1401 هـ ص15.

فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى، أن يبتلي خيار هذه الأمة بشرارها، ومؤمنيها بفجارها، وعلماءها بجهالها، وهذه سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. ولذلك فإن حاجة المسلمين ماسَّة في هذا العصر، إلى أن يعودوا إلى تحقيق الموالاة فيما بينهم، والمعاداة مع أعدائهم، حيث قد تداعت عليهم قوى الكفر والظلم والطغيان من كل حدب وصوب، وتنادى الجميع للقضاء على هذا الدين بوسائلهم المختلفة، ولن يقف في وجه هذه الحرب الصليبية اليهودية الوثنية، المتواطئة مع المرتدين والمنافقين، وسفهاء المسلمين، سوى اتحاد المسلمين وتلاحمهم صفًا واحدًا، كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف: 4]. وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مثل المؤمنين في توادهم وتلاحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬1). ولا شك لديَّ في أن القيام بمهمة البحث في هذا الموضوع على وجه الدقة والكمال أمر يحتاج إلى قدرة لا أدعيها لنفسي ومران أفتقده ولكنها المحاولة، وحسبي منها أن أبذل ما في وسعي وطاقتي من جهد من أجل إبراز الصورة المثلى التي رسمها القرآن الكريم والهدي النبوي وتناولها علماء الإسلام والأعلام بالتوضيح والبيان فيما تفرق من مباحثهم ودراساتهم في هذا الموضوع. فإن أحسنت فما توفيقي إلا بالله، وأشكره سبحانه وتعالى على ذلك، ¬

_ (¬1) متفق عليه، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 246) رقم الحديث (226)

وإن أخطأت، أو قصرت فما تجاوزت قدري «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (¬1). فأستغفر الله، وأتوب إليه، وحسبي أني كنت حريصًا أن لا يقع ذلك مني وأتوسل إليه في طلب عفوه وغفرانه، بحسن النية وقصد الثواب إنه هو الغفور الرحيم المؤلف محماس بن عبد الله بن محمد الجلعود ¬

_ (¬1) رواه الترمذي في سننه (4/ 70) (باب القيامة) وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 198).

التمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم التمهيد ويتكون من أربعة مباحث: المبحث الأول: المفهوم اللغوي للموالاة والتولي. المبحث الثاني: المفهوم اللغوي للمعاداة. المبحث الثالث: المفهوم الشرعي للموالاة والتولي والمعاداة. المبحث الرابع: ارتباط عنوان الرسالة بالمعنى الاصطلاحي للشريعة الإسلامية.

المبحث الأول: المفهوم اللغوي للموالاة والتولي

المبحث الأول: المفهوم اللغوي للموالاة والتولي لم يرد في القرآن الكريم، ولا في كتب الصحاح لفظ موالاة وإنما روى الطبراني في الكبير، عن ابن عباس (رضي الله عنهما) «أوثق عرى الإيمان، الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله» (¬1) اهـ. والموالاة مصدر (والى) يوالي موالاة (¬2). ولفظ الموالاة، أعم من التولي، حيث أن الموالاة هي المحبة (¬3). بغض النظر عن درجة هذا الحب ومرتبته، فكل من أحببته وأعطيته، ¬

_ (¬1) يقول: محمد ناصر الدين الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الثاني ص (734) رقم الحديث (998): إن هذا الحديث إسناده حسن وله شواهد يتقوى بها ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر في ذلك. (¬2) انظر محيط تأليف بطرس البستاني (2/ 2287، 2289). (¬3) القاموس المحيط للفيروز آبادي (4/ 401، 402).

ابتداء من غير مكافأة فقد أوليته، وواليته، والمعنى أي أدنيته إلى نفسك (¬1). والموالاة ضد المعاداة يقال: (والى بينهما ولاء) أي: تابع بينهما متابعة، وافعل هذه الأشياء على (الولاء) أي المتابعة (¬2) ,. أما التولي: فهو تقديم كامل المحبة والنصرة للمتولىَّ بحيث يكون المتولَّي مع المتولَّى كالظل مع الجسم (¬3). قال ابن الأعرابي (¬4): الموالاة أن يتشاجر اثنان فيدخل بينهما ثالث للصلح ويكون له في أحدهما هوى، فيواليه أو يحابيه على الآخر (¬5) اهـ. ووالى فلان فلانًا، إذا أحبه وقربه وأدناه إليه (¬6). ويقول الدكتور/ محمد نعيم ياسين: الموالاة مشتقة من الولاء وهو الدنو والقرب، والولاية، ضد العداوة، والولي عكس العدو (¬7) اهـ فالمؤمنون أولياء الرحمن، والكافرون أولياء الشيطان لقرب الفريق الأول من الله بطاعته وعبادته، وقرب الفريق الثاني من الشيطان بطاعته واتباعه وبعدهم عن الله بعصيانه ومخالفته (¬8). ¬

_ (¬1) تاج العروس للزبيدي (10/ 401). (¬2) الصحاح تأليف إسماعيل بن حماد الجوهري (6/ 2530، 2531) وانظر مختار الصحاح محمد ابن أبي بكر الرازي (736). (¬3) المعجم الوسيط (2/ 1070). (¬4) هو محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي الكوفي، ولد بالكوفة سنة 150 هـ وأخذ عن الكسائي وابن السكيت وغيرهم، وأخذ عنه الأصمعي، فهو لغوي، نحوي، راوية لأشعار العرب توفي بسر من رأى من آثاره: النوادر تاريخ القبائل معاني الشعر، تفسير الأمثال، انظر ترجمته في معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (10/ 11). (¬5) لسان العرب/ محمد بن منظور (3/ 986). (¬6) لسان العرب/ محمد بن منظور (3/ 986). (¬7) انظر: الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (187 - 188). (¬8) المصدر السابق المكان نفسه.

يقول الأزهري (¬1): للموالاة معنى آخر، سمعت العرب تقول: (والوا حواشي نعمكم عن جلتها) أي اعزلوا صغارها عن كبارها (¬2) اهـ والتولي، مصدر تولي أي اتخذه وليا (¬3). فالتولي إذا بمعنى الاتخاذ والاتباع المطلق وهو يعني الانقطاع الكامل في نصرة المتبع وتقريبه وتأييده، و (التولية) مصدر (ولى) أي انصرف ذاهبًا (¬4). فالتولي أخص من الموالاة، فكل (تولي) داخل في مفهوم الموالاة وليس كل موالاة داخلة في مفهوم التولي كما أسلفنا. والتولي يرد بعدة معان: منها النصرة كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 6] أي تنصروهم يعني أهل مكة، قال ذلك الفراء (¬5). ¬

_ (¬1) هو محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة الأزهري الشافعي، أديب، لغوي، ولد سنة 282 هـ في هراة بخراسان، وعني بالفقه أول الأمر، ثم غلب عليه علم العربية، فرحل في طلبه وقصد القبائل وتوسع في أخبارهم، توفي بهراة في ربيع الأول سنة 370 هـ من تصانيفه الكثيرة: تهذيب اللغة في أكثر من عشرة مجلدات، والتقريب في التفسير، والزهراوي في غرائب الألفاظ، وعلل القراءات، وكتاب في أخبار يزيد بن معاوية. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (8/ 230). (¬2) لسان العرب/ محمد بن منظور (3/ 986). (¬3) المعجم الوسيط لمجموعة أساتذة (2/ 1070). (¬4) محيط المحيط بطرس البستاني (2/ 2287) وما بعدها. (¬5) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي، المعروف بالفراء الديلمي (أبو زكريا) أديب، نحوي، لغوي مشارك في الفقه والطب وأيام العرب وأشعارها، ولد بالكوفة سنة (144 هـ) وانتقل إلى بغداد وصحب الكسائي، وأدب ابن المأمون العباسي، وصنف للمأمون كتاب الحدود في النحو، واجتمع لإملائه خلق كثير منهم ثمانون قاضيا توفي في طريق مكة سنة (207) ومن آثاره: المصادر في القرآن، آلة الكتاب، الوقف والابتداء، المقصور والممدود واختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (13/ 198).

تفسيرًا لمعنى قوله (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) وقال أبو منصور: جعل التولي ههنا بمعنى النصرة، من الولي والمولى وهو الناصر والمعين (¬1) اهـ. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [الممتحنة: 13]. قال ابن عباس: أي لا توالوهم، ولا تناصحوهم (¬2). ويأتي التولي بمعنى الإدبار والإعراض، قال تعالى: (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود: 52] أي تدبروا عما أدعوكم إليه (¬3) ويأتي بمعنى قام وبدأ، قال تعالى: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11] أي قام بمعظم ذلك القول وبدأ فيه (¬4). ومن استعمالات كلمة (تولى) بمعنى ذهب وانصرف، قول الله تعالى: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) [القصص: 24] أي انصرف وذهب إليه (¬5). وتأتي بمعنى اتبع، قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) [الحج: 4] وتأتي بمعنى استأخر وكن قريبا منه، قال تعالى: (اذْهَبْ ¬

_ (¬1) لسان العرب/ محمد بن منظور (3/ 986). (¬2) انظر تفسير القرطبي (18/ 76) (¬3) مختصر تفسير الطبري (52) على هامش المصحف الشريف. (¬4) مختصر تفسير الطبري (392) على هامش المصحف الشريف (¬5) انظر مختصر تفسير الطبري حاشية مصحف الشروق المفسر الميسر (437).

بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) [النمل: 28] أي استأخر غير بعيد (¬1). أو كن قريبًا منهم (¬2). وتأتي كلمة (تولى) بمعنى فوض واتخذ قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56] أي: من فوض أمره إلى الله وامتثل أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ووالى المسلمين على ذلك، فهو من حزب الله، وقيل: أي من يتخذ القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين فهو من حزب الله (¬3)، وإن حزب الله لهم الغالبون. وتأتي، بمعنى عصى ويعصي، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح: 17] أي يعصي الله ورسوله، فيتخلف عن قتال المشركين (¬4) وتأتي كلمة (تولى) بمعنى يطيع، قال تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل: 100]. أي: يطيعونه ويشركونه بالله (¬5). ولفظ (ولي) يأتي موافقا لمعنى الموالاة التي هي المحبة والنصرة، في بعض استعمالاته، وإن كان يستعمل في معان عديدة. (الولي) اسم من أسماء الله تعالى، والولي هو الناصر، وقيل: المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها (¬6). ¬

_ (¬1) تفسير ابن سعدي (5/ 575). (¬2) مختصر تفسير الطبري على مصحف الشروق المفسر الميسر (426). (¬3) تفسير القرطبي (6/ 222) (¬4) مختصر تفسير الطبري على المصحف المفسر الميسر (583). (¬5) مختصر تفسير الطبري على المصحف المفسر الميسر (310). (¬6) لسان العرب: محمد بن منظور (3/ 984).

ومن أسمائه عز وجل: الوالي، وهو المالك للأشياء جميعها المتصرف فيها (¬1). قال ابن الأثير (¬2): وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي (¬3) اهـ. ومن استعمالات (الولي) بمعنى الناصر (¬4) قول الله تعالى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة: 257] فالولي فعيل بمعنى فاعل، قال الخطابي (¬5): الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين (¬6) اهـ. ويقال: تولاك الله، أي وليك الله، ويكون بمعنى نصرك الله (¬7). ¬

_ (¬1) المصدرالسابق المكان نفسه. (¬2) هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الشافعي المعروف (بابن الأثير الجزري) مجدد الدين، أبو السعادات، عالم، أديب، ناثر، شارك في تفسير القرآن والنحو واللغة والحديث والفقه وغير ذلك، ولد بجزيرة ابن عمر في أحد الربيعين، ونشأ بها، ثم انتقل إلى الموصل، وكتب لأمرائها وكانوا يحترمونه، وسمع ببغداد، وتوفي بالموصل سلخ ذي الحجة 606 هـ وقد كان مولده في سنة (544هـ) من تصانيفه النهاية في غريب الحديث وجامع الأصول في أحاديث الرسول، والإنصاف بين الكشف والكشاف تفسير الثعلبي والزمخشري، ديوان رسائل، والبديع في شرح الفصول لابن الدهان في النحو. انظر: معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (8/ 174). (¬3) لسان العرب محمد بن منظور (3/ 984). (¬4) المصدر السابق المكان نفسه. (¬5) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي ولد سنة (319) وت (388) من ولد زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب (أبو سليمان) محدث لغوي، فقيه، أديب من تصانيفه: معالم السنن في شرح كتاب السنن لأبي داود، غريب الحديث، شرح البخاري، أعلام الحديث إصلاح الغلط، وله شعر. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (2/ 61). (¬6) لسان العرب محمد بن منظور (3/ 985). (¬7) المصدر السابق المكان نفسه.

ومنه قوله تعالى: (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [التحريم 4] أي، وليه وناصره عليهم (¬1). وقال تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 51] فمعنى (مَوْلانَا) أي: ناصرنا (¬2)، وقال تعالى: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101]، فقوله: (أَنْتَ وَلِيِّي) أي: ناصري (¬3)، وقال تعالى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف: 196] أي نصيري وظهيري (¬4). وفي الحديث اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها (¬5). والولي: الله عز وجل: أي الناصر والكافي، والولاءة والولي كلها مصادر ولي (¬6). و (الولي) يطلق ويراد به القريب في النسب، قال تعالى: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34] أي كأنه قريب شفيق (¬7). و (المولى) يطلق ويراد به الناصر والمؤيد، قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ ¬

_ (¬1) مختصر تفسير الطبري على هامش المصحف المفسر الميسر (644). (¬2) تفسير القرطبي (8/ 161). (¬3) مختصر تفسير الطبري على هامش مصحف الشروق المفسر الميسر (273). (¬4) مختصر تفسير الطبري على مصحف الشروق (193). (¬5) رواه الإمام أحمد مسند أحمد (4/ 371). (¬6) معجم متن اللغة، تأليف/ أحمد رضا (5/ 817). (¬7) انظر تفسير ابن سعد (6/ 577).

مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) [محمد: 11] أي أن الله ناصر وولي من آمن به، وأما الكافرون لا ناصر ولا ولي لهم (¬1). وقال تعالى: (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آلعمران: 150] أي وليكم وناصركم (¬2)، ويطلق لفظ (المولى) ويراد به القريب قال تعالى: (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [الدخان: 41] أي لا يدافع ابن عم عن ابن عم، ولا صاحب عن صاحبه (¬3). ويطلق (المولى) ويراد به الحليف والمعين والنصير، وهو من انضم إليك فعز بعزك وامتنع بمنعتك، قال عامر الخصفي من بني خصفة: هم المولى وإن جنفوا علينا ... وإنا من لقائهم لزور (¬4) وكلمة (أولياء) جمع ولي، وتأتي بعدة معانٍ هي: معنى النصرة أو الأنصار قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1] أي أنصارًا (¬5)، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الأنفال: 73] أي: يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم (¬6). ¬

_ (¬1) مختصر تفسير الطبري على مصحف الشروق (557) وتفسير القرطبي (16/ 234). (¬2) مختصر تفسير الطبري على مصحف الشروق (75). (¬3) مختصر تفسير الطبري (564). (¬4) لسان العرب محمد بن منظور (3/ 986). (¬5) مختصر تفسير الطبري على هامش مصحف الشروق (629). (¬6) تفسير الطبري (8/ 57).

وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) [هود: 20] أي أنصار ينصرونهم، ويحولون بينهم وبين الله عز وجل (¬1) وتأتي كلمة (أولياء) بمعنى أنصار، قال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ) [المائدة: 81] أي يؤاخونهم بالمودة ويستنصرونهم (¬2). وترد كلمة (أولياء) بمعنى الخاصة والبطانة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء: 144] أي لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم (¬3)، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا) [النساء: 139] أي يتخذون الكافرين أعوانا وأنصارا (¬4) يتعززون بهم، ويستنصرون (¬5). وتأتي كلمة (أولياء) بمعنى الاتحاد والتجانس، قال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71] أي قلوبهم متحدة، في التواد والتحاب والتعاطف، غير ذلك من الأمور (¬6). وتطلق كلمة (أولياء) ويراد بها الأصنام قال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الشورى آية: 9]. ¬

_ (¬1) مختصر تفسير الطبري على مصحف الشروق (264) (¬2) كلمات القرآن حسنين مخلوف ص (80) (¬3) تفسير القرطبي (5/ 424). (¬4) تفسير القرطبي (5/ 416). (¬5) تفسير ابن سعد (2/ 197). (¬6) تفسير القرطبي (8/ 202).

يعني أصناما (¬1) وقال تعالى: (أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) [الزمر: 3] فمعنى (أولياء) أي أصناما (¬2)، و (الولاية) تقرأ بالفتح والكسر قال تعالى: (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ للهِ الْحَقِّ) [الكهف: 44]. قال ابن السكيت (¬3): الولاية بالكسر السلطان والإمارة والملك، والولاية بالفتح النصرة، يقال هم على ولاية، أي مجتمعون في النصرة (¬4) اهـ. وقال سيبويه (¬5): الولاية بالفتح المصدر، والولاية بالكسر الاسم، ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (5/ 424) وفتح القدير للشوكاني (4/ 527). (¬2) تفسير القرطبي (15/ 232) وفتح القدير (4/ 449). (¬3) هو يعقوب بن إسحاق بن السكيت المكنى (بأبي يوسف) ولد سنة (186) وتوفي (244 هـ) أديب، نحوي، لغوي، عالم بالقرآن والشعر، تعلم ببغداد وصحب الكسائي، واتصل بالمتوكل العباسي فعهد إليه بتأديب أولاده، وجعله في عداد ندمائه ثم انقلب عليه فقتله لخمس خلت من رجب سنة (244 هـ) ودفن ببغداد، من تصانيفه الكثيرة: إصلاح المنطق، القلب والإبدال، معاني الشعر، المقصور والممدود، والمذكر والمؤنث. انظر معجم المؤلفين (13/ 985). (¬4) لسان العرب/ محمد بن منظور (3/ 985). (¬5) هو عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه (180، 796) يدعى (أبو بشر) أديب نحوي، أخذ النحو والأدب عن الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب وأبي الخطاب، والأخفش وعيسى بن عمر، وورد بغداد، وناظر الكسائي، وتعصبوا عليه، ومن آثاره كتاب سيبويه في النحو. انظر معجم المؤلفين (8/ 10) وانظر الموسوعة العربية الميسرة (2/ 1045) تأليف محمد شفيق غربال.

مثل الإمارة والنقابة، لأنه اسم لما توليته وقمت به، فإذا أرادوا المصدر فتحوا وإذا أرادوا الاسم كسروا (¬1) اهـ. وكان الكسائي (¬2) يفتحها ويذهب بها إلى النصرة (¬3)، وقال الفراء (¬4): سمعناها بالفتح وبالكسر في الولاية (¬5) وفي معنييهما جميعًا، وأنشد هذا البيت: دعيهم فهم إلب على ولاية ... وحفر هموا أن يعلموا ذاك دائب (¬6). و (الولاية) القرابة والتصرف، الحاصلة بالسبب أو النسب، و (الولاء) بالكسر لغة: المتابعة، والموالاة عند الفقهاء، متابعة غسل الأعضاء على سبيل التعاقب، بحيث لا يجف العضو الأول قبل غسل الذي بعده (¬7). وقيل (الولاء) بالفتح النصرة والمحبة والتناصر، سواء كان ولاء عتاقة، أو ولاء موالاة (¬8). ¬

_ (¬1) لسان العرب/ محمد بن منظور (3/ 985). (¬2) هو علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي الكوفي المعروف (بالكسائي) (أبو الحسن) مقرئ، مجود، لغوي، نحوي، شاعر، نشأ بالكوفة وتنقل في البلدان واستوطن بغداد، وتعلم على كبر، وأخذ اللغة من أعراب الحطيمة، الذين كانوا ينزلون بقطر، بل وغيرها من قرى بغداد، وروى الحديث، وأخذ عن الرؤاسي، وحمزة الزيات وسمع من خلق كثير، وقرأ عليه خلق ببغداد وبالرقة وغيرهما من البلدان، وتوفي برينويه، إحدى قرى السرى، من تصانيفه، المختصر في النحو، كتاب القراءات، معاني القرآن، مقطوع القرآن وموصوله، أشعار المعاياة وطرائقها، انظر معجم المؤلفين (7/ 84). (¬3) لسان العرب/ ابن منظور (3/ 985). (¬4) انظر ترجمته (16) من هذه الرسالة. (¬5) لسان العرب/ ابن منظور (3/ 1985). (¬6) لسان العرب ابن منظور (3/ 985). (¬7) المصدر السابق المكان نفسه. وانظر جامع العلوم الملقب (بدستور العلماء) تأليف القاضي عبد رب النبي عبد رب الرسول الأحمد نكري (3/ 465). (¬8) جامع العلوم الملقب (بدستور العلماء) المكان نفسه المتقدم.

ومما تقدم نستنتج أنَّ معنى الموالاة والتولي في أغلب الأحايين هو المحبة، والمودة، والمتابعة، والقرابة، والنصرة. وكل هذه المعاني القيمة، أراد الإسلام تحقيقها في واقع المسلمين وفي حياتهم العملية، وقد جسَّد (¬1) هذا المعنى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوضح صورة وأسمى عبارة، فقال فيما روي عنه: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمَّى» (¬2). ¬

_ (¬1) جسد بمعنى عظم، انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي (1/ 283). (¬2) رواه البخاري، انظر صحيح البخاري (8/ 12) (باب كتاب الأدب).

المبحث الثاني: المفهوم اللغوي للمعاداة

المبحث الثاني: المفهوم اللغوي للمعاداة المعاداة: مصدر عادى يعادي معاداة وعداء، والعداء مصدر عادى، أي خاصمه، وصار له عدوًّا، والعداوة: اسم بمعنى الخصومة، والمباعدة، والعدو، والعداوة، أخص من البغضاء، لأن كل عدو مبغض، وقد يبغض من ليس بعدو (¬1). والعداوة: هي الشعور المتمكن في القلب في قصد الإضرار، وحب الانتقام (¬2). والعدى: الأعداء الذين نقاتلهم، والعُدى، الأعداء الذين لا نقاتلهم (¬3). ¬

_ (¬1) محيط المحيط: بطرس البستاني (2/ 1353) وما يليها. (¬2) جامع العلوم الملقب (بدستور العلماء) عبد رب النبي عبد رب الرسول الأحمد نكري (2/ 308) ط1. (¬3) محيط المحيط بطرس البستاني (2/ 1353).

والعدو: ضد الولي، والجمع، أعداء، وجمع الجمع أعادي، قال سيبويه: (¬1) عدو، وصف، ولكنه ضارع الاسم (¬2) اهـ. ويقال: عدو بين العداوة والمعاداة، وعادى بين الصيد معاداة وعداء، أي والى وتابع بينهما في طلق واحد (¬3). والعدو: ضد الصديق، يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى وقد يثنى ويجمع ويؤنث (¬4). و (العِدي) المتباعدون، وأيضا الغرباء، والأجانب، ومنه قول حبيب (¬5) ابن مسلمة لما عزله عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عن حمص قال: رحم الله عمر ينزع قومه، ويبعث القوم العدي (¬6) اهـ. و (العدوة) بالضم المكان المتباعد، وقيل حافة الوادي (¬7). قال تعالى: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى) [الأنفال: 42]. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته (20) من هذه الرسالة. (¬2) الصحاح إسماعيل بن حماد الجوهري (6/ 2419) وكذلك المحكم والمحيط الأعظم ابن سيده (2/ 226). (¬3) المصددرين السابقين المكان نفسه. (¬4) القاموس المحيط للفيروز آبادي (4/ 360) وكذلك المحكم والمحيط الأعظم ابن سيده (2/ 226). (¬5) هو حبيب بن مسلمة بن مالك بن النضر القرشي يكنى (أبا عبد الرحمن) ولاه عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أعمال الجزيرة حين عزل عنها عياض بن غنم ثم ضم إليه أرمينية وأذريبجان، ثم عزله بعد ذلك، قيل إن عمره حين وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتا عشرة سنة وفي عهد معاوية بن أبي سفيان تولى على أرمينية، فمات بها سنة اثنتين وأربعين من الهجرة انظرة أسد الغابة في معرفة الصحابة (1/ 374). (¬6) المحكم والمحيط الأعظم ابن سيده (2/ 226) وتاج العروس للزبيدي (10/ 236، 237). (¬7) المحكم والمحيط الأعظم ابن سيده (2/ 226) وتاج العروس للزبيدي (10/ 236، 237).

والعدوان، الظلم الصراح (¬1)، وقال الأصمعي (¬2): (العدوان) المكان الذي لا يطمئن من قعد عليه (¬3). اهـ. والمعاداة بين رجلين، إذا طعنهما طعنتين متواليتين بسهم واحد، وأنشد الجوهري (¬4) لامرئ القيس: فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكا ولم ينضح بماء فيغسل (¬5). و (العادي، العدو) قالت امرأة من العرب: أشمت رب العالمين عاديك أي عدوك (¬6). والعدو، والعداوة، والأعداء، والعدوان، كلها ورد استعمالها في القرآن الكريم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة:1] وقال تعالى: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) [المائدة: 64] وقال ¬

_ (¬1) تاج اللغة أبو نصر الجوهري (2/ 514). (¬2) هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي، المعروف بالأصمعي (أبو سعيد) أديب، لغوي، نحوي، إخباري، محدث فقيه أصولي، من أهل البصرة، ولد سنة (123 هـ) (ت 216) قدم بغداد أيام هارون الرشيد، وتوفي بالبصرة من تصانيفه الكثيرة، نوادر الأعراب، الأجناس في أصول الفقه، المذكر والمؤنث، كتاب اللغات وكتاب الخراج، انظر معجم المؤلفين (6/ 187). (¬3) تاج العروس للزبيدي (10/ 236، 237). (¬4) هو إسماعيل بن حماد الجوهري (398، 1008) ولد بفاراب بالتركستان ومات بنيسابور، رحل إلى بغداد وعاشر بدو العراق والشام والحجاز، وأخذ عن خاله الفارابي والفارسي، والسيرافي، وأجهد نفسه في طلب العلم، ثم عاد إلى خراسان، وأقام بدامغان فنيسابور، ولم يزل مقيمًا بها على التدريس والتأليف حتى توفي بها هو لغوي، أديب، ذو خط جيد من تصانيفه، تاج اللغة وصحاح العربية، كتاب المقدمة في النحو، كتاب العروض في الشعر، وله شعر، انظر معجم المؤلفين (2/ 267) وانظر الموسوعة العربية محمد شفيق غربال (1/ 673). (¬5) تاج العروس للزبيدي (10/ 236، 237). (¬6) تاج العروس للزبيدي (10، 236، 237).

تعالى: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا) [الفرقان: 31] وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [البقرة: 193] وقال تعالى: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ) [لقمان: 13] أي فلا قتال إلا على الذين لم ينتهوا من الظلم والشرك، وليس قتال المشركين ظلم، وإنما بقاؤهم على الشرك هو الظلم قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [النحل: 115]. والعداوة: اسم عام من العدو، وتعادى القوم، أي تباعدوا وعادى بعضهم بعضا من العداوة. والعادي: المعتدي والمتجاوز حده كقوله تعالى: (غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ) (¬1) أي غير متجاوز سدا لجوعة، أو غير عاد في المعصية طريق المحسنين، والمعاداة تأتي بمعنى الموالاة والمتابعة بين الأشياء، مثل تعادى القوم، مات بعضهم إثر بعض، في شهر واحد، أو في عام واحد، وتعادى القوم عليّ بنصرهم، أي تتابعوا وتوالوا (¬2). فالمعاداة إذا تأتي في أغلب استعمالاتها، ويراد بها البغض والكراهية وحب الانتقام، عكس الموالاة تماما، التي هي تدل في أغلب استعمالاتها على المحبة والمودة والمتابعة والنصرة والقرابة. ولذلك فالموالاة والمعاداة بهذا المعنى المتقدم، ضدان لا يجتمعان، فوجود أحدهما ينفي الآخر لزومًا في حق ذات معينة، قال الشاعر: تحب عدوى، ثم تزعم أنني ... صديقك إنَّ الود عنك لعازب ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس للزبيدي (10/ 238) (¬2) مجموعة التوحيد (114).

المبحث الثالث: المفهوم الشرعي للموالاة والتولي والمعاداة

المبحث الثالث: المفهوم الشرعي للموالاة والتولي والمعاداة لقد تحدث جمع من أفاضل العلماء عن المفهوم الشرعي للموالاة والتولي والمعاداة، بصيغ متعددة تختلف ألفاظها، وإن كان هناك توافق وتطابق في المعاني المقصودة بهذه الصيغ، وهذه التعاريف فهي كما يلي: أولا: يعرف الشيخ عبد اللطيف (¬1) بن عبد الرحمن، الموالاة والمعاداة فيقول: أصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة، البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة. ¬

_ (¬1) هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوهاب ولد سنة (1225) هـ في بلدة الدرعية موطن دعوة التوحيد ومهد علمائها فحفظ القرآن في صغره ثم انتقل إلى مصر وبقي فيها مدة (31) سنة يتلقى العلم على آفاضل علمائها وفي سنة (1264) رجع إلى نجد واستقر في الإحساء لمدة سنتين ينشر دعوة التوحيد فيها، وبعد ذلك انتقل إلى الرياض، وكان في معية الإمام فيصل بن تركي بن سعود في بعض غزواته، وله جمع من طلاب العلم، وله ستة مصنفات في التوحيد ومختلف العلوم توفي في الرابع عشر من شهر ذي القعدة سنة 1293 هـ انظر مشاهير علماء نجد/ تأليف عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (70 - 94).

والمعاداة، كالنصرة والأنس، والمعاونة والجهاد، والهجرة ونحو ذلك من الأعمال (¬1) اهـ. ثانيا: يقول الشيخ عبد الله (¬2) بن عبد العزيز العنقري، أن الموالاة هي: الموافقة والمناصرة والمعاونة، والرضا بأفعال من يواليهم، وهذه هي الموالاة العامة، التي إذا صدرت من مسلم لكافر اعتبر صاحبها كافرا، أما مجرد الاجتماع مع الكفار، بدون إظهار تام للدين، مع كراهية كفرهم، فمعصية لا توجب الكفر (¬3) اهـ. ثالثا: يقول الدكتور محمد نعيم ياسين: إن الموالاة، تعني، التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا، لمن يتخذه الإنسان وليا، فإن كان هذا التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا، مقصودا به الله ورسوله والمؤمنين، فهي الموالاة الشرعية الواجبة على كل مسلم، وإن كان المقصود بالتقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا، هم الكفار، على اختلاف أجناسهم، فهي موالاة كفر ورده عن الإسلام، إذا صدرت ممن يدعي الإسلام، أما الكفار ومن في حكمهم من المرتدين والمنافقين، فبعضهم أولياء بعض، فلا يستغرب منهم ذلك (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (2/ 2/ 157). (¬2) هو عبد الله بن عبد العزيز العنقري التميمي النجدي ولد (رحمه الله) في بلدة ثرمداء من قرى إقليم الوشم بنجد سنة (1290) وتوفي والده وهو في الثالثة من عمره، وفي السابعة من عمره كف بصره، فقرأ القرآن وحفظه عن ظهر قلب ثم تلقى مبادئ العلوم الدينية والعربية في بلدته، ثم انتقل إلى الرياض وتتلمذ على أيدي كثير من علمائها، وفي سنة (1336) عينه الملك عبد العزيز قاضيا لإقليم سدير، وقد شغل هذا المنصب ستة وثلاثين عاما حتى استقال من منصبه لكبر سنه وله مؤلفات وحواش على بعض الكتب منها حاشية على الروض المربع ونونية ابن القيم، توفي في شهر صفر سنة (1373 هـ) انظر مشاهير علماء نجد عبد الرحمن بن عبد اللطيف (246، 247). (¬3) انظر الدرر السنية (7/ 309). (¬4) انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين ص 188.

رابعًا: يعرف مؤلفوا المعجم الوسيط، الموالاة الشرعية بأنها هي: أن يعاهد شخص شخصًا آخر على الالتزام نحوه بأمر من الأمور (¬1) اهـ. خامسًا: ويعرف صاحب الموسوعة العربية (الولاية) التي بمعنى الموالاة بأنها سلطة مقررة لشخص تجعله قادرًا على القيام بأعمال قانونية تنفذ في حق الغير (¬2) اهـ. سادسا: يقول سيد قطب (¬3) (رحمه الله) أن معنى (الولاية) التي ينهى الله الذي آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى، هي ولاية التناصر والتحالف ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم، فبعيد جدا أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود أو النصارى في الدين، وإنما الذي يخشى منه هو ولاء التحالف والتناصر، الذي كان يلتبس على المسلمين أمره في أول الدعوة الإسلامية، حتى ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط (2/ 1070). (¬2) انظر الموسوعة العربية الميسرة محمد شفيق غربال (2/ 1962). (¬3) هو سيد بن الحاج قطب بن إبراهيم ولد (رحمه الله) سنة (1906) في قرية من قرى محافظة أسيوط، لأب ميسور الحال، وكان والده واعيا بمجريات الأمور في بلده، فبعث به والده إلى المدرسة وهو في السادسة من عمره، فأتم حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من العمر، ثم سافر بعد ثلاث سنوات إلى القاهرة ليتم تعليمه الثانوي في رعاية خاله، ثم دخل دار العلوم وتخرج منها وكان محبا للمطالعة منذ صغره، يقرأ كل ما تصل إليه يده، وألف أول كتاب وهو في الخامسة والعشرين سماه (مهمة الشاعر في الحياة) ثم اتصل بعباس محمود العقاد وبقى متتلمذا على العقاد زمنا طويلا إلا أنه كان له نوع من الاستقلال، وبعد ذلك سافر إلى أمريكا للدراسات العليا سنة (1949) ولكنه قطع الدراسة وعاد إلى مصر عندما رأى بأم عينه مكر الأعداء بالمسلمين وأدخل السجن عام (1954) وأقام فيه عشر سنوات ثم أفرج عنه مدة أربعة أشهر، ثم أعيد إليه بعد نشر كتاب (معالم في الطريق) وقد استشهد (رحمه الله) في يوم (9/ 8/ 1966) وله تسعة عشر مؤلفا منها في ظلال القرآن الذي يقع في ثلاثين جزءا. انظر كتاب سيد قطب/ محمد توفيق بركات، وكتاب/ سيد قطب تأليف د/ مهدي فضل الله.

نهاهم الله عنه، وأمر بإبطاله، بعدما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة المنورة. إن المسلم ليس له ولاء ولا حلف إلا مع أخيه المسلم، إنَّ الإسلام يوجب على المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس الإسلام، فالولاء والعداء، لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا من خلال ما تقتضيه الشريعة الإسلامية (¬1) اهـ. وبناءً على ذلك فقد قسم الشيخ حسن البنا (¬2) رحمه الله الناس إلى ستة أصناف هم كما يلي: 1 - مسلم مجاهد 2 - مسلم قاعد 3 - مسلم آثم 4 - كافر معاهد. 5 - كافر محايد 6 - كافر محارب (¬3). ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن/ سيد قطب (6/ 758، 759). (¬2) هو حسن بن أحمد بن عبد الرحمن البنا ولد بمدينة المحمودية بمحافظة البحيرة في مصر سنة (1906) في العام الذي ولد فيه سيد قطب وكان والده من العلماء العاملين فقد اشتغل بالعلوم وله عدة مصنفات في الحديث الشريف أهمها الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل، وكان إلى جانب ذلك يشتغل بتجليد الكتب وتصليح الساعات لذا لقب بالساعاتي. دخل حسن مدرسة الرشاد الدينية ثم انتقل إلى المحمودية ودرس فيها الإعدادية، وبعدها انتقل إلى دار المعلمين بدمنهور سنة 1920 م حيث أتم دراستة فيها وحفظ القرآن الكريم قبل إتمام الرابعة عشر من عمره، وفي عام (1923) م انتقل إلى القاهرة حيث انتسب إلى دار العلوم وتخرج منها سنة (1927) وكان ترتيبه الأول وعين مدرسًا بمدينة الإسماعيلية على قناة السويس، ومنها بدأ طريقه للدعوة الإسلامية وشكل أول نواة لدعوة الإخوان المسلمين ضمت ستة نفر من إخوانه في الله وكان ذلك عام (1347هـ 1927م) وفي عام (1932) انتقل إلى القاهرة وانتقل مركز الدعوة إليها واستمرت الدعوة في مصر وانتقلت إلى خارج مصر، ولكن أعداء الإسلام في مصر وخارج مصر أرادوا القضاء عليها فاغتالوا زعيمها في ليلة 14/ 4/ 1368هـ. انظر كتاب حسن البنا أنور الجندي وانظر مجموعة رسائل الإمام حسن البنا ص 5 - 7. (¬3) انظر مجموعة رسائل حسن البنا (275).

ومن ثم لا يمكن أن يقوم التناصر بين المسلم والكافر، إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة، حيث ليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه (¬1). وعلى ضوء هذه الأقسام، يتم وزن الأشخاص والهيئات، ويكون الولاء والعداء، حسبما حدده الشرع لكل نوع من هؤلاء. ومما سبق بيانه يتضح لي، أن الاختلاف في تعريف الموالاة، هو اختلاف لفظي، مع تطابق المعاني المقصودة لكل منهم. والحب والبغض، أو الولاء والعداء، صفات فطرية في النفس البشرية ولكن يؤاخذ الإنسان على متعلقاتهما، فإن وافق الحب والبغض أمر الله في ذلك أثيب الإنسان عليهما، وإن خالف الإنسان أمر الله في صفة الحب والبغض استحق العقاب على ذلك، وعلى هذا فإن الحب والبغض تابعان للتكليف الشرعي وداخلان تحت مفهوم الثواب والعقاب (¬2) لأن الحب والبغض يتبعهما ذوق وإرادة وعمل عند وجوب المحبوب أو المبغض، فمن اتبع ذلك بغير ما أنزل الله، فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، بل يقصد به الأمر إلى الشرك فيكون ممن اتخذ إلهه هواه (¬3). الفرق بين الموالاة والتولي في المفهوم الشرعي التولي: هو الدفاع عن الكفار، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي، وهذا كفر صريح يخرج من الملة الإسلامية (¬4). أما الموالاة الخاصة، فهي كبيرة من كبائر الذنوب وهي المصانعة. ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (6/ 767). (¬2) انظر الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي (2/ 107 - 119). (¬3) انظر الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية ابن تيمية ص (67، 68). (¬4) الدرر السنية (5/ 7/ 201).

والمداهنة للكفار، لغرض دنيوي، مع عدم إضمار نية الكفر والردة عن الإسلام (¬1) كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) عندما كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمثل هذا الفعل يعتبر كبيرة من كبائر الذنوب، بعد نزول الآيات بذلك قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) ... إلى قوله (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1] أما حاطب فقد استثنى من ذلك لاعتبارات خاصة، مثل كونه من أهل بدر، وسبقه إلى الإسلام، وسلامة قصده، ولذلك فقد عفا الله عنه (¬2). هذا رأي الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف (¬3) وفي الفرق بين الموالاة والتولي ويوافقه على ذلك الشيخ سليمان (¬4) بن سحمان حيث يقول نظمًا: ¬

_ (¬1) المصدر السابق المكان نفسه. (¬2) انظر تفسير القرطبي (18/ 52). (¬3) هو الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبدا الوهاب، ولد في مدينة الهفوف بالإحساء سنة (1265هـ) ونشأ بها عند جده لأمه عبد الله بن أحمد الوهيبي، وقرأ القرآن وحفظه عن ظهر قلب ثم استقدمه والده إلى الرياض وهو في الرابعة عشرة من عمره ومكث معه يدرس التوحيد والفقه والحديث والتفسير، ثم توفي والده سنة (1293) فسافر إلى الأفلاج وأقام بها ثلاث سنين، درس خلالها على الشيخ حمد بن عتيق، ثم رجع إلى الرياض، وبعد تغلب محمد بن عبد الله بن رشيد عليها طلب من الشيخ أن يصحبه إلى حائل وذلك سنة (1308) وأقام فيها سنة كاملة، ثم عاد إلى الرياض وبقي فيها حتى فتحها الملك عبد العزيز سنة (1319) وعمل عشرين عاما مع الملك عبد العزيز في نشر العلم وتعليمه، وله مجموعة من الرسائل والكتب، وقد توفي في يوم الجمعة (20/ 3/ 1339) انظر مشاهير علماء نجد/ عبد الرحمن بن عبد اللطيف (101، 112). (¬4) هو سليمان بن سحمان النجدي الدوسري، عالم، أديب شاعر، ولد في قرية السقا من أعمال أبها في عسير سنة (1266) وانتقل مع أبيه إلى الرياض فتلقى العلم على علمائها، وكان والده سحمان من العلماء العاملين فقد أقرأ ابنه القرآن الكريم حتى حفظه وأجاده، وفي سنة (1284) انتقل من الرياض إلى الأفلاج، وقد لازم سليمان الشيخ حمد بن عتيق سبعة عشر عاما أي حتى توفي حمد سنة (1301) ثم انتقل إلى الرياض ولازم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وكان بالإضافة إلى طلب العلم يعمل كاتبا للإمام عبد الله بن فيصل بن تركي وفي سنة (1305) انتقل مع الإمام عبد الله إلى حائل وبقي فيها أربع سنوات ينشر العلم ويدعو إليه بالعمل حتى نقم منه عبد العزيز بن متعب بن رشيد، فانتقل إلى الرياض للمرة الثالثة (1309) وبقي فيها حتى فتحها الملك عبد العزيز سنة (1319) وقد أصيب بالعمى سنة (1331) وتوفي بالرياض سنة (1349) وله من المصنفات ستة وعشرون مؤلفا، وديوان شعر يحتوي على (8890) بيتا من الشعر. انظر: مشاهير علماء نجد/ عبد الرحمن بن عبد اللطيف ص 200 - 212. وانظر: معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (4/ 2642).

وأصل بلاء القوم حيث تورطوا ... هو الجهل في حكم الموالاة عن زلل فما فرقوا بين التولي وحكمه ... وبين الموالاة التي هي في العمل أخف ومنها ما يكفر فعله ... ومنها يكون دون ذلك في الخلل (¬1) ويقول الشيخ عبد اللطيف (¬2) بن عبد الرحمن بن حسن: إن الموالاة تنقسم إلى قسمين. أولا: موالاة مطلقة عامة، وهذه كفر صريح، وهي بهذه الصفة مرادفة لمعنى التولي، وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في النهي الشديد عن موالاة الكفار، وأن من والاهم فقد كفر. ثانيا: موالاة خاصة، وهي موالاة الكفار لغرض دنيوي مع سلامة الاعتقاد، وعدم إضمار نية الكفر والردة كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة في إفشاء سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزو مكة كما هو مذكور في سبب نزول سورة الممتحنة (¬3) اهـ. ومثل كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في تقسيم الموالاة إلى ¬

_ (¬1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ تأليف سليمان بن سحمان (146). (¬2) انظر ترجمته في ص (27) من هذه الرسالة. (¬3) انظر الدرر السنية (1/ 235، 236).

مطلقة وخاصة، كلام القرطبي (¬1) وابن العربي (¬2) وسليمان بن عبد الله (¬3) ابن عبد الوهاب والشيخ حمد بن علي بن عتيق (¬4). ¬

_ (¬1) انظر كلامه في تفسيره (18/ 52) أما ترجمته، فهو محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجيّ الأندلسي، القرطبي المالكي (أبو عبد الله) مفسر توفي بمنية بني خصيب بمصر في ليلة الاثنين التاسع من شوال (671هـ)، ومن تصانيفه الجامع لأحكام القرآن في عشرة مجلدات، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في مجلدين بالإضافة إلى مؤلفات أخرى، انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (8/ 239، 240). (¬2) انظر كلامه في تفسيره أحكام القرآن (4/ 1770 - 1773) أما ترجمته فهو محمد ابن عبد الله بن أحمد المعروف بابن العربي، الأشبيلي المالكي، ولد في ليلة الخميس لثمان بقين من شعبان سنة (468) وكان أبوه من فقهاء بلدة أشبيلية، تلقى العلم على شيوخ بلده، ثم خرج للحج وعمره سبعة عشر عاما ثم عرج على مصر والشام والتقى بعلمائها، وواصل في رحلته، إلى بغداد، وبعد أربع سنوات في طلب العلم في الشام والعراق ومصر رجع إلى الأندلس سنة (495) وقدم إلى بلدة أشبيلية بعلم كثير، فعلم الطلاب، وصنف خمسة عشر مؤلفا وتولى القضاء ثم تركه وتوفي رحمه الله سنة (543هـ) وهو في الطريق من مراكش إلى فاس وحمل إلى فاس ودفن بها، انظر مقدمة كتاب أحكام القرآن لابن العربي (1/ 4 - 7) وانظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (10/ 242، 243). (¬3) انظر كلامه في مجموعة التوحيد (126) أما ترجمته فهو سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ولد سنة (1200) في بلدة الدرعية وكانت في أوج قوتها تعج بكثير من العلماء الأعلام، فنشأ بها وقرأ القرآن حتى حفظه، وقرأ على عدد من علمائها، وكان نادرة في العلم والحفظ، فكان فقيها ومتكلما ومفسرا ومحدثا من تصانيفه أوثق عرى الإيمان، والتوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق في مجلد واحد، وله تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، وله تذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتوفي مجاهدا حيث استولى إبراهيم باشا على بلدة الدرعية سنة (1233 هـ) فغدر بالشيخ رغم العهود المبرمة بينه وبين الشيخ وأهل الدرعية، فأخرج الشيخ إلى المقبرة ثم أمر جنده أن يطلقوا عليه النار، وفاضت روحه إلى بارئها وليس له عقب. انظر مشاهير علماء نجد عبد الرحمن بن عبد اللطيف (29، 31) وانظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (4/ 268). (¬4) انظر كلامه في مجموعة التوحيد (257، 260) أما ترجمته فهو الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق بن راشد بن حميضة ولد في بلدة الزلفى من بلدان نجد سنة (1227) هـ وقرأ القرآن ثم حفظه وبعد ذلك انتقل إلى الرياض سنة (1253) في زمن الإمام فيصل بن تركي فمكث بها تسع سنوات يقرأ على علمائها مختلف العلوم والمعارف ولاه الإمام فيصل قضاء الخرج، ثم الحلوة، ثم قضاء الأفلاج، وقصده طلاب العلم من مختلف البلاد، وتخرج على يديه جمع من العلماء، وله مؤلفات ورسائل تزيد على سبع مجلدات توفي رحمه الله في سنة (1301) في بلدة الأفلاج انظر مشاهير علماء نجد عبد الرحمن بن عبد اللطيف (179، 180).

وعلى قول هؤلاء جميعًا: أن الموالاة المطلقة العامة، مرادفة لمعنى التولي، وهي بهذا الوصف كفر وردة، ومنها ما هو دون ذلك، بمراتب، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، بحسب نية الفاعل وقصده (¬1). والموالاة التي تصل بفاعلها إلى درجة الكفر، والردة عن الإسلام هي ما يلي: أولاً: أن يوالي المسلم الكفار، وتكون موالاته لهم مع مساكنتهم في ديارهم والخروج معهم في قتالهم ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحب هذه الموالاة بالكفر كما في ظاهر قوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51]. ثانيًا: إذا كانت موالاة المسلم لها باتباع نظمهم، وتطبيق قوانينهم الجاهلية التي تبيح ما حرم الله، من ربا وزنا وخمر، ونحو ذلك تحرم ما أحلَّ الله من نسل أو تزاوج أو إرث أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فهذه الموالاة للكفار، موجهة للكفر قال تعالى: (ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44] وللحديث الصحيح (المرء مع من أحب) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 236). (¬2) رواه البخاري انظر فتح الباري (10/ 557).

أما الموالاة التي لا تصل إلى درجة الكفر على هذا القول فهي ما يلي: أولاً: إذا كانت الموالاة لهم في ديار المسلمين، إذا قدموا إليها، وذلك مثل الإكرام العام لهم، بغير نية دعوة إلى الإسلام، ومن غير مودة قلبية لهم، فمثل هذه الموالاة، صاحبها عاص لله آثم على مخالفته متعرض للوعيد على هذا العمل الذي لا يقصد به وجه الله (¬1) عز وجل. ثانيًا: إذا كان الإكرام للكفار والموالاة لهم من أجل دنياهم، مع اعتقاد القلب ببطلان ما هم فيه من كفر، وكراهية ذلك منهم، فهذا آثم عاص يجب عليهم من التعزير، وما يزجره ويزجر أمثاله عن ذلك (¬2). ويرى الشيخ حمد بن عتيق، أن كل أنواع الموافقة للكفار موجبة، للردة عن الإسلام ما عدا حالة واحدة وهي الإكراه فيقول: إن موافقة المشركين تنقسم إلى ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يوافقهم في الظاهر والباطن، فينقاد لهم بظاهره، ويميل إليهم ويوادهم بباطنه، فهذا النوع كفر يخرج من الإسلام (¬3). الحالة الثانية: أن يوافقهم ويميل إليهم بباطنه مع مخالفته لهم في الظاهر، فهذا أيضا كفر، ولكن إذا عمل بالإسلام ظاهرا، عصم ماله ودمه وعومل بحسب ظاهره، وهذا هو المنافق، الذي يظهر الإسلام ويبطن مودة الكفار ومناصرتهم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (126). (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) المصدر السابق (295، 296). (¬4) المصدر السابق المكان نفسه.

الحالة الثالثة: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن وهو على وجهين: 1 - أن يفعل ذلك وهو في سلطانهم، وتحت ولايتهم، مع ضربهم له وحبسه، وتهديده بالقتل والتعذيب، مع مباشرة التعذيب فعلا، فإنه والحالة هذه يجوز له موافقتهم في الظاهر مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان، كما جري لعمار بن ياسر (رضي الله عنه) حيث أنزل الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: 106]. 2 - أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم وإنما حمله على ذلك، إما طمع في رياسة، أو مال أو مشحة بوطن أو عيال، أو خوف مما يحدث في المال فإنه في هذه الحال يكون مرتدًّا، ولا تنفعه كراهيته لهم في الباطن، وهو ممن قال الله فيهم (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) فأخبر سبحانه وتعالى أنه لم يحملهم على الكفر الجهل بالدين أو بغضه، ولا محبة الباطل وأهله، وإنما هو أنَّ لهم حظًّا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين المنزل من عند الله (¬1) اهـ. وهذا القول موافق لمعنى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) (¬2) ويرى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي (¬3) أن التولي مرادف لمعنى ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (296). (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي، ولد بمدينة عنيزة بالقصيم سنة (1307) وتوفيت أمه وله أربع سنين ثم توفي والده وهو في الثانية عشر من عمره، فاحتضنته زوجة والده وبدأت تشفق عليه أكثر من أولادها فبدأ بدراسة القرآن الكريم وهو في الحادية عشرة من عمره وطلب العلم بعد ذلك على عدد من علماء زمانه ومشايخ بلده، وعندما بلغ من العمر ثلاثا وعشرين سنة جلس للتدريس فكان يتعلم ويعلم في عام (1350) انتهت إليه رئاسة العلم في القصيم يتخرج عن يديه خلق كثير، وله مؤلفات عديدة تربو على ثلاثين مصنفا في مختلف جوانب المعرفة وقد توفي قبل فجر يوم الخميس (22/ 6/ 1376) هـ رحمه الله. انظر مشاهير علماء نجد/ عبد الرحمن بن عبد اللطيف (256، 261).

الموالاة سواء بسواء، ولذلك فهو يستعملهما على أنهما لفظان مترادفان فيقول عن التولي عند تفسيره لقول الله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 9]: إن الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليا تاما كان ذلك كفرا مخرجا عن الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه (¬1) اهـ. وخلاصة الآراء المتقدمة، حول الموالاة والتولي هي أن هناك قولين في هذا الموضوع. القول الأول: قول ابن سعدي: حيث يجعل الموالاة والتولي بمعنى واحد، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك (¬2). القول الثاني: قول من يجعل التولي أخص من الموالاة، فكل من تولى الكفار عند أصحاب هذا القول فهو كافر مرتد خارج عن الإسلام (¬3)، وليس كل موالاة للكفار يكفر صاحبها، وقد أشرنا فيما سبق إلى أنواع الموالاة التي يكفر صاحبها، وأنواع الموالاة التي لا يكفر فاعلها (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن سعدي (7/ 357) وانظر (2/ 304). (¬2) انظر 37 من هذه الرسالة. (¬3) انظر (33) من هذه الرسالة. (¬4) انظر (36) من هذه الرسالة.

وقلنا: إن الموالاة للكفار في ديار الإسلام لأجل دنياهم، معصية لا توجب الكفر كما هو رأي أكثر العلماء (¬1). وخالف في ذلك الشيخ حمد بن علي بن عتيق، حيث يرى أن موالاة الكفار لأجل دنياهم، موجبة للكفر والردة عن الإسلام (¬2) وينسب هذا القول أيضا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) (¬3) ويوافقهما في ذلك الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (¬4) والذي أميل إليه أن التولي، أخص من الموالاة، حيث أن التولي يفيد معنى الاتخاذ والالتزام الكامل بمن يتولاه، بخلاف الموالاة التي تدل على المحبة والمتابعة بدرجات متفاوتة ولذلك جاء تعبير القرآن الكريم بالنهي عن تولي الكفار قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51] وأمر بتولي المؤمنين فإن توليهم، أقوى من مجرد الموالاة الجزئية لهم، وإن كانت الموالاة العامة للمؤمنين أو الكفار تلتقي مع التولي على درجة المساواة. قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56] وهذا ما قال به جمهور العلماء (¬5)، ما عدا ابن سعدي الذي يرى أن التولي درجات متفاتة، منه ما هو كفر، ومنه ما هو دون ذلك، دون أن يذكر مستندا لغويا أو شرعيا لما ذهب إليه، مما يجعل القول، بأن التولي والموالاة بينهما عموم وخصوص، هو القول الراجح كما أوضحت سلفا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر (33) من هذه الرسالة. (¬2) انظر مجموعة التوحيد (295، 296). (¬3) المصدر السابق (296) (¬4) المصدر السابق (242) (¬5) انظر ص (33) من هذه الرسالة. (¬6) انظر ص (34) من هذه الرسالة.

وأما الخلاف حول حكم موالاة الكفار لمصلحة دنيوية، هل يكون ذلك موجبا للكفر والردة، أم هو كبيرة من كبائر الذنوب؟ فأقول: الذي يظهر لي، أن من حكم بردة وكفر من والى الكفار لمصلحة دنيوية، إنما قصد بذلك الذين يستبيحون لأنفسهم موالاة الكفار المحرمة، من أجل حظوظهم الدنيوية، فينكرون خطأهم ويدافعون عن باطلهم، فهؤلاء حكمهم الردة والكفر، كما هو الشأن في حل كل من استحل ما حرم الله. أما الذين يرون أن موالاة الكفار لمصلحة دنيوية كبيرة من كبائر الذنوب، فهؤلاء اعتبروا أن الموالي للكفار عالم بمعصيته خائف من ذنبه، شأنه في ذلك شأن كثير من العصاة الذين يقترفون بعض الذنوب دون استحلال لهم. ومما تقدم نجد أن الذين تكلموا في الموالاة من العلماء الذين سبقت الإشارة إليهم، وقد عدوا أعلى درجات الموالاة للكفار ردة وكفرا، وأقلها يكون ذنبا ومعصية وإثما، ولم يذكروا أن هناك أي نوع من أنواع الموالاة تصح مع الكفار. إلا أن بعض العلماء المعاصرين (¬1) قسموا الموالاة للكفار إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون الموالاة بمعنى المسامحة والمسالمة والمعاشرة الجميلة في الدنيا، والمعاملة بالحسنى وتبادل المصالح بحسب الظاهر، مع عدم الرضا عن حالهم وكفرهم فهذا أمر غير منهي عنه، وقد ¬

_ (¬1) انظر تفسيرات آيات الأحكام/ تأليف محمد علي السايس (2/ 6) وانظر مقرر الفقه للصف الثاني ثانوي بالمملكة العربية السعودية تأليف الشيخ خليل مناع القطان (84) (ط-2) عام (1397هـ 1977م).

استدلوا على ذلك بقوله: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8]. القسم الثاني: أن تكون الموالاة بمعنى المحالفة والمناصرة ضد المسلمين، والرضا عن الكفار، وبما هم فيه من كفر، فإن الرضا بالكفر كفر، فلا يبقى مؤمنا مع كونه بهذه الصفة، لأن في مناصرة الكافرين على المسلمين ضررا بالغا بالكيان الإسلامي، وإضعافا لقوة الجماعة المؤمنة، وهذا النوع من الموالاة قد نهى الله عنه بقوله تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران: 28]. فحذر الله المؤمنين من الموالاة والمناصرة للأعداء، وأن التعاون مع أعداء الإسلام بما فيه ضرر على الإسلام والمسلمين خيانة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (¬1) اهـ. والذي أفهمه من كلام الشيخين، مناع خليل القطان، ومحمد علي السايس أن هناك نوعا من أنواع الموالاة يجوز فعلها مع الكفار. والصواب أن الموالاة للكفار في الظاهر والباطن لا تجوز بأي حال من الأحوال، ولكن الذي قصده الشيخان، وهو البر والصلة فعبرا بالموالاة عن البر والصلة التي أباحها الله مع المسالمين من الكفار في قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8] ¬

_ (¬1) انظر تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس (2/ 6) وانظر مقرر الفقه للصف الثاني الثانوي بالمملكة العربية السعودية تأليف مناع خليل القطان (ط-2) (1397).

وإلا فإن نصوص الكتاب والسنة، لم تذكر إباحة تولي الكفار أو موالاتهم على أي وجه من الوجوه سوى حالة واحدة وهي حالة الإكراه الملجئ قال تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28] فيجوز في حالة الضعف والخوف من أذاهم الموالاة لهم ظاهرا، ريثما يعد المسلمون العدة لمواجهة الكفار والتحرر من سيطرتهم، وقد عد العلماء أقل نوع من أنواع الموالاة بدون إكراه إثما ومعصية. يقول سفيان الثوري (¬1) رحمه الله: (من لات للكفار دواة أو برا لهم قلما أو ناولهم قرطاسا فقد دخل في الموالاة المنهي عنها ما لم يكن ذلك لغرض دعوة إلى الله) (¬2) اهـ. فالموالاة عند علماء الاصطلاح شيء، والبر شيء آخر، فالبر يعني: الصلة في الخير والاتساع في الإحسان، وقد أباح الله ذلك لطائفة من الكفار ضمن شروط معينة سنذكرها فيما بعد بإذن الله تعالى، فلفظ الموالاة ليس مرادفا للبر في الآية المتقدمة (¬3)، ولا في مدلول اللغة (¬4). فدعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة بعض الكفار والبر بهم لا يعني الموالاة لهم، فبسماحة الإسلام يتعامل المسلم مع الناس جميعًا. ¬

_ (¬1) هو سفيان بن مسروق الثوري الكوفي (أبو عبد الله) ولد سنة (97هـ) وأصبح محدثا وفقيها توفي بالبصرة سنة (161هـ) له من الكتب: الجامع الكبير، الجامع الصغير، الفرائض ورسالة إلى عباد بن عباد الأرسوفي. انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (4/ 234). (¬2) انظر مجموعة التوحيد ص116. (¬3) أنظر (41) من هذه الرسالة. (¬4) انظر القاموس المحيط (1/ 370، 371).

على أساس العدل والاحترام المتبادل، بدون محبة القلب للكفار، أو مودة ما هم فيه من كفر، وإنما التعامل بالمثل فيما ليس له مساس في جانب العقيدة، كالبيع والشراء، وتبادل المنافع التي لا تستلزم حبا أو بغضا في بعض الأحوال، فها هم قد سلبوا ثروات البلاد الإسلامية واستعبدوا شعوبها ومع ذلك لا زالوا يضمرون الحقد والكراهية للمسلمين فواجب المسلمين أن يتعاملوا مع الكفار بإنصاف وعدل، فلا يوالوهم على حساب الإسلام، ولا يتعاملوا معهم بحقد وضغينة كما يتعامل معنا أولئك الكفرة الإنذال. فبسماحة الإسلام، يتعامل المسلم مع الناس جميعا وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس على ذلك. فعدم موالاة الكفار، لا تمنع من مصاحبتهم بالمعروف، فقد قال تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15] فهذه الآية دليل على أن الإسلام لا يمنع من مصاحبة الوالدين بالمعروف، مع اختلاف العقيدة، وهذه المصاحبة ليست هي الموالاة المنهي عنها، لأن الموالاة هي محبة القلب وإرادة النصرة والمساعدة للمحبوب، إذا كان محتاجا إلى ذلك، وهي غير حاصلة في المصاحبة بالمعروف، لأن المصاحبة بالمعروف لا ترقى إلى درجة الموالاة، فلو وقف القريب الكافر في الصف المعادي للجماعة المسلمة، وأعلن الحرب عليها فعندئذ لا صلة ولا مصاحبة، ويتضح ذلك من قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول. فقد روي ابن جرير الطبري بسنده، عن ابن زياد قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله عبد الله بن أبي، فقال: ألا ترى ما يقول أبوك؟ قال ما يقول أبي؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: فقد صدق والله يا رسول

الله، أنت الأعز وهو الأذل، أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر بوالده مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتينهما به فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ... ، فلما قدموا المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أُبي على بابها بالسيف لأبيه وقال: أنت القائل (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)؟ أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والله لا يأويك ظلها ولا تأويه أبدا إلا بإذن من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا للخزرج ابني يمنعني بيتي للخزرج ابني يمنعني بيتي فقال والله لا يأويه أبدا إلا بإذن منه، فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال: والله لا يدخلن إلا بإذن من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه فقال: «اذهبوا إليه فقولوا له: خله ومسكنه» فأتوه فقال: أما إذا جاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فنعم (¬1) اهـ. فإذا انعقدت آصرة العقيدة فالمؤمنون كلهم إخوة، ولو لم يجمعهم نسب ولا صهر، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10] وإذا اختلفت العقيدة ووقف المختلفان موقف المتحاربين فلا صلة ولا ارتباط ولو كانوا أبا وإبنا، فالذين لم يقاتلوا المسلمين في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم ولم يسعوا في إفساد عقيدتهم، ولم يظاهروا عليهم عدوهم، فإن صلتهم والحالة هذه، لا محذور فيها ولا تبعة (¬2). أما إذا وصل الأمر، إلى درجة المحبة القلبية لهم، ولما هو من خصائص كفرهم، فهذا هو التولي، والموالاة المحرمة، وليس لقائل أن يقول بعد هذا كله، إن معنى الموالاة غير محدود، إذ يدخل فيه أمور. ¬

_ (¬1) انظر هذه القصة مع اختلاف في بعض الروايات في تاريخ الطبري (3/ 63 - 66) وانظر البداية النهاية لابن كثير (4/ 156 - 159) وانظر تهذيب سيرة ابن هشام عبد السلام هارون (238 - 240) (¬2) انظر تفسير ابن سعدي (7/ 356 - 357).

كثيرة، قاصدا بذلك أننا لا نستطيع أن نتخذه معيارا، في معرفة من يكفر ومن لا يكفر، ومن هو دون الكفر بمراتب متعددة، فهذا الزعم لا يصح، لأن الله سبحانه وتعالى، لا ينهى عن شيء غير محدد، وغير معروف ولا يحكم بردة من دخل في أمر غير واضح وغير متميز، وإلا لكان أمره ونهيه في هذا الموضوع عبثا لا يمكن تطبيقه، ومثل هذا القول، لا يقوله مؤمن بالله وصفاته، ومصدق برسالته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - نجد تبيانا واضحا ونبراسا مضيئا لمن قصد الحق وحرص على تطبيقه قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38]. أما من عمي أو تعامى عن نور الإسلام وتميع في صلاته مع الكفار فما علينا من تخرصاته، وأوهامه، إذا قامت عليه حجة البلاغ فإن تبلغ الحجة شيء، وفهمها شيء آخر (¬1). إن المسلم الحقيقي هو الذي يتحلى بالمفاصلة الكاملة، بينه وبين من ينهج غير منهج الإسلام، إن المفاصلة واجبة بين كل مسلم وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام، إن المسلم مأمور بأن لا يخلط بين منهج الله وبين أي منهج أخر وضعي لا في تصوره الاعتقادي، ولا في نظامه الاجتماعي ولا في كل شأن من شئون حياته. إن الفوارق بين الإسلام، والكفر، لا يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة أو المصانعة أو المداهنة. إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة، باسم التسامح أو التقريب بين الأديان، أو التعايش السلمي، يخطئون في فهمهم للدين. ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (187) وانظر الدرر السنية (8/ 213) وانظر التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة (1/ 430، 431).

الإسلامي، وفهمهم لمعنى التسامح الذي يقره الإسلام، وفهمهم للتعايش السلمي الذي يتفق مع منهج القرآن الكريم. إن التسامح الذي أقره الإسلام ضمن حدود معينة مع غير المسلمين ينبغي ألا يكون على حساب إضعاف تميز المسلم في تصوره الاعتقادي ونظامه الاجتماعي (¬1). إن هناك قسما من المنحرفين عن الإسلام، يظنون أن مرونة الإسلام في معاملة المخالفين له، تعني احترام أباطيلهم ومشاركة الكفار في كفرهم، والرضا بما هو من خصائص كفرهم وما علموا أو تجاهلوا أن مرونة الإسلام مع مخالفيه، إنما كان يقصد بها عدم جرد مشاعر الكفار فيما يعتقدونه من باطل لغرض تأليفهم إلى الإسلام أو رعاية لحق العهد علينا نحوهم، والفرق واضح بين المشاركة في الباطل والرضا به، وبين ترك الباطل وأهله (¬2). إن الغرض من معاداة الكفار من قبل المسلم هو أن تبقى شخصية المسلم واضحة قوية متميزة بارزة المعالم، ترى دلائل الإسلام ظاهرة فيها وفي كل حركة من حركاتها (¬3). ولكن بعض الخارجين على الإسلام، يحاولون عن جهل، أو سوء نية تمييع اليقين الجازم في نفس كل مسلم، بأن الإسلام والكفر ضدان لا يلتقيان (¬4). وأفعال الإنسان في هذه الحياة، لا بد أن تكون مسبوقة بعاطفة الحب أو البغض وتلك هي حقيقة المولاة والمعاداة. ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (2/ 6/ 758 - 767). (¬2) انظر كتاب ليس من الإسلام محمد الغزالي ص 301. (¬3) انظر المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (6/ 758 - 767).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) (رحمه الله) إن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن رغبة ومحبة، ولكنها قد تكون محبة محمودة أو محبة مذمومة، والمرجع في ذلك كله إلى عرف الشرع (¬2)، وقد جمع الله بين نوعي المجتبين في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة: 165] اهـ. ومما تقدم يتقرر لديَّ أن الموالاة هي المحبة، قولا وفعال واعتقاد وأن محبة الله واجبة، وهي لا تتحقق إلا بحب ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال والأشخاص، حيث إن من الأمور البديهية أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما هو مقرر عند علماء الأصول، ومحبة غير الله تنقسم إلى قسمين: أولا: محبة في الله: وهي أن يحب المسلم كل ما يحب الله ويرضاه من ¬

_ (¬1) هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي تقي الدين أبو العباس، محدث حافظ مفسر فقيه مجتهد مشارك في جميع أنواع العلوم، ولد في (10) ربيع الأول سنة (661) بحران وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، حدث بدمشق ومصر، وحبس بقلعة القاهرة والإسكندرية بقلعة دمشق مرتين، وتوفي بها في 20/ 11/ 728 هـ وله مصنفات كثيرة: منها مجموعة الفتاوى في خمسة وثلاثين جزءا ومنهاج السنة النبوية في أربعة أجزاء، وبيان الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح في أربعة أجزا، والسياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، وقد ذكر له ابن قيم الجوزية أكثر من مائتين مؤلف في رسالة سماها أسماء مؤلفات ابن تيمية تحقيق صلاح الدين المنجد دمشق (1953م). انظر الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية تأليف عمر بن علي البزاز المتوفي سنة 749 تحقيق د/ صلاح الدين المنجد، وانظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (1/ 261). (¬2) انظر التحفة العراقية للأعمال القلبية ابن تيمية (35).

الأقوال والأفعال والأشخاص، وهذه المحبة من الموالاة المأمور بها شرعا، وهي منبعثة من محبة الله، متممة لها غير متنافية معها. ثانيًا: المحبة مع الله، وهي أن يتعلق قلب الإنسان بمحبوب يحبه مع الله، أو من دون الله فيغفل عن محبة الله أو يتوجه إلى غير الله بالرغبة والرهبة، فتكون هذه المحبة مغنية وصارفة له عن محبة الله ومحبة ما يحبه الله، فتكون منافية لمحبة الله، متعارضة معها، وتلك حقيقة موالاة أعداء الله. وإذا فالمحبة في الله محمودة، متعدية إلى كل داع إلى الله ومهتد بهداه. أما المحبة مع الله، فهي محبة مذمومة حاملة لصاحبها على محبة الشرك وما فيه من مساوئ وأضرار (¬1). والمحبة الضارة ثلاثة أنواع. النوع الأول: المحبة مع الله، وهي أصل الشرك، وأصل المحاب المذمومة، ومثالها مثل محبة كفار قريش لأصنامهم فيما سلف، ومحبة بعض المنتسبين إلى الإسلام للأحزاب الكافرة والقيادات المنحرفة في العصر الحاضر كالحزب الشيوعي أو الاشتراكي أو البعثي أو نحو ذلك. النوع الثاني: محبة ما يبغضه الله من كفر وفسوق وعصيان. النوع الثالث: محبة ما تقطع محبته عن محبة الله، أو تنقص ذلك، مثل محبة الأهل والمال والولد، إذا كانت على حساب محبة الله، أو صارفة للمسلم عن محبة الله (¬2). ¬

_ (¬1) انظر رسالة الشرك ومظاهره تأليف مبارك بن محمد الميلي (179). (¬2) انظر الجواب الفائض في الرد على الرائض تأليف سليمان بن سحمان مخطوطة في قسم المخطوطات بجامعة الرياض الورقة (38) الرقم (3413).

والتعريف الذي أرجحه في تحديد مفهوم التولي والموالاة والمعاداة ما يلي: التولي: هو بذل المحب لما يرضي المحبوب بذلا تاما. الموالاة: هي إظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا، إظهارا ناقصا وهذا هو تعريف الدكتور محمد نعيم ياسين، إلا أني رأيت تذييل التعريف بكلمة إظهارا ناقصا حتى نخرج التولي عن مفهوم الموالاة. أما المعاداة: فهي شعور ينبعث من داخل النفس، لقصد الإضرار وحب الانتقام بالقول والفعل والاعتقاد، لمن يعتقده الإنسان عدوا له. وبين الموالاة والمعاداة دلالة في مفهوم المخالفة وهو أن يدل اللفظ عل مخالفة حكمة المسكوت عنه للمنطوق به، ويسمى دليل الخطاب (¬1). ومعنى ذلك أن الدليل إذا دل بظاهره على وجوب الموالاة، دل بمفهوم المخالفة على النهي عن المعاداة، وإذا دل الدليل بظاهره على وجوب المعاداة، دل بمفهوم المخالفة على النهي عن الموالاة، وكذلك العكس، فإذا نهى الله عن المعاداة بالنص الظاهر دل المفهوم على وجوب الموالاة وإذا نهى الله تعالى بالنص الظاهر عن الموالاة دل المفهوم على وجوب المعاداة. أي بمعنى أن الأمر بالشيء نهى عن ضده من طريق اللزوم العقلي فإن الآمر إنما قصد بالأمر فعل المأمور به، فإذا كان من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودا لغيره، من جهة اللزوم لا من جهة القصد والطلب (¬2). وحول هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن كمال الإخلاص ويقينه، موجب أن يكون الله أحب إلى المرء من كل شيء. ¬

_ (¬1) انظر أصول الفقه تأليف محمد الخضري بك (122). (¬2) الفوائد لابن القيم (124).

سواه، وأخوف عنده من كل شيء عداه، فلا يبقى يومئذ إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله. إن أصل الدين وكماله، أن يكون الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، والعبادة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله والرجاء لله، والإعطاء لله، والمنع لله، وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أمره لله، ونهيه لله، وصاحب الهوى يعميه الهوى ويضله عن سبيل الله، فلا يستحضر ما لله، وما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ولا يطلبه (¬1) اهـ. فالذي لا يرضي لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضبهما، وإنما يرضى لشهواته وهواه، ويغضب لذلك فهو ممن قال الله فيهم: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) [النجم: 23]. فالمسلم المؤمن المخلص في عقيدته هو من أخلص توحيده الله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم وبغضهم، إلى الله وكيف لا يكون ذلك وهم أعداء لله؟ قال تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة: 98] وعدو الله عدو للمؤمنين بطبيعة الحال قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} .... إلى قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1]. ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (7/ 109).

المبحث الرابع: بيان ارتباط عنوان الرسالة بالمعنى الاصطلاحي للشريعة الإسلامية

المبحث الرابع: بيان ارتباط عنوان الرسالة بالمعنى الاصطلاحي للشريعة الإسلامية قد يعترض البعض على عنوان الرسالة بأن الشريعة موضوع فقهي، والموالاة والمعاداة في الله من موضوعات العقيدة فلماذا لم يجعل عنوان الرسالة بهذه الصفة؟ الموالاة والمعاداة في العقيدة الإسلامية؟ وللإجابة عن ذلك نقول بأن العقيدة جزء من الشريعة، فالشريعة الإسلامية متناولة للأمور الاعتقادية وأمور العباد وأمور المعاملة (¬1). وليست الشريعة الإسلامية، مرادفة لمعنى القانون الوضعي العام الذي يراد به عند إطلاقه، أمر معاملة الأفراد بعضهم لبعض (¬2). فقد عرف الطبري الشريعة بأنها هي: الفرائض والحدود والأمر والنهي (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) انظر المشروعية الإسلامية العليا د/ علي محمد جريشة (19). (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) تفسير الطبري (5/ 88) (1/ 11) دار المعرفة ببيروت.

وعرفها بعض المتأخرين بأنها أحكام الله المتعلقة بأفعال الإنسان (¬1) وهذا التعريف فيه قصور حيث خرج منه أمور الاعتقاد التي هي مرتكز الشريعة الإسلامية. ولذلك لا تعد الشريعة (قانونا) بالمعنى الحديث لهذه الكلمة ولا هي كذلك من حيث مادتها، ذلك أنها وهي الرسالة التي لا يتطرق إليها الباطل تشمل جملة حياة الإنسان، من عقيدة وعبادة وسياسة واجتماع، وأخلاق على أوسع نطاق وبدون تقييد، كما تشمل حياة أهل الأديان الأخرى الذين يسمح لهم بالحياة بين المسلمين ما دام نشاطهم بريئا من العداوة للإسلام والمسلمين (¬2). ولذلك فالمعنى الاصطلاحي للشريعة الإسلامية، أنها شاملة لجميع ما شرعه الله لعباده من العقائد، وأحكام العبادات والمعاملات (¬3). قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الجاثية: 18]. وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ..... ) [الشورى: 13]. وقال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى: 21] وقال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48]. ¬

_ (¬1) انظر دائرة المعارف الإسلامية (13/ 242، 243). (¬2) المصدر السابق (13/ 245). (¬3) المعجم الوسيط (1/ 482).

وبناء على ذلك فإن موضوع الرسالة مرتبطة مع الشريعة الإسلامية ارتباطا كاملا، حيث إن (الموالاة والمعاداة) هما إظهار الحب والبغض بالأقوال والأفعال والنوايا (¬1) ولهذا رأينا أن هذا العنوان جامع لموضوعنا هذا، وأنه يحقق الغرض للوهلة الأولى في موضوع الرسالة لخالي الذهن عن محتواها، وأنه أشمل وأكمل من غيره، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق. ¬

_ (¬1) انظر الإيمان أركانه حقيقته نواقضه، د/ محمد نعيم ياسين (188).

الباب الأول: مشروعية الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية

الباب الأول: مشروعية الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية وفي هذا الباب تمهيد وفصلان: 1 - التمهيد: لمحة تاريخية عن الموالاة والمعاداة. 2 - الفصل الأول: منزلة الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية. 3 - الفصل الثاني: التطبيق العملي للموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية.

التمهيد: لمحة تاريخية عن الموالاة والمعاداة

التمهيد: لمحة تاريخية عن الموالاة والمعاداة إن مما فطرت عليه النفس البشرية، منذ أن خلقها الله عز وجل صفة الحب والبغض أي الموالاة والمعاداة قال تعالى: (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الروم: 30] فإن استقامت النفس البشرية على منهج الله، أعطت ولاءها لله ورسوله ثم للمؤمنين بهذا الدين، وإن انحرفت على منهج الفطرة، وانتكست في مفاهيمها وتصوراتها، وران عليها ما اكتسبت من سيئات وذنوب، وتبلد إحساسها، أعطت ولاءها لمخلوقات هزيلة، ومفاهيم عفنة، وأعراف ظالمة، فلو نظرنا إلى تاريخ الأمم مع الرسل والأنبياء والصالحين، قبل الرسالة المحمدية، لتبدت لنا تلك الحقيقة ناصحة ظاهرة لا لبس فيها ولا غموض. فهذا إبراهيم عليه السلام، يعلن بكل قوة وصراحة وحزم، وعداوته للكفر وأهله، واعتزالهم وما يعبدون، وانحيازه إلى الله عز وجل وموالاته.

له، وذلك فيما حكاه عنه القرآن الكريم في قوله الله تعالى: (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا) [مريم: 44 - 49] وفيما ذكر الله عنه أيضا في قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4] وفي قصة أصحاب الكهف موقف يماثل موقف إبراهيم عليه السلام في عداوة الكفر وأهله ومفاصلة الكفر مفاصلة تامة، فقد ذكر الله تعالى حكاية بعضهم لبعض قال تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف: 16] إن في تلك الآيات تنويها، بأثر الإيمان بالله في النفوس مما جعلها تعادي أعداءه، وتمنحه ودها وولاءها، فتختار الهجرة فرارا بدينها من بطش الحكام الظالمين، وتجعل العداوة لهم في الله سببا في عدم الرضوخ لمشيئتهم وجبروتهم. وفي قصة مؤمن آل فرعون، الذي كتم إيمانه بالحق في قلبه، لفترة من الزمن، نجده عند ساعة الخطر والشدة، يبوح بمكنون سره، ويندفع يدافع عن موسى عليه السلام بمنطق الفطرة المؤمنة، في حذر ومهارة، وقوة وذكاء قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ

أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر: 28] وهكذا استمر الصراع بين الحق والباطل واستمر الولاء والعداء، تتقاذفه الأعراف، وتكيفه المفاهيم، حتى نصل إلى العرب قبل الإسلام، فنجد أنهم لا يختلفون عن أي مجتمع جاهلي، سبقهم أو لحقهم، في سوء التصور، وفساد الاعتقاد بالموالاة والمعاداة حتى وصل بهم الأمر إلى أن يعادي الإنسان منهم ابنته، فلذة كبده، فيقتلها موالاة للعرف الجاهلي، ولكسب رضا العشيرة والقبيلة، وخوفا من شماتتها وعدائها، فقد روي أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مالك تكون محزونا؟» فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أخبرني عن ذنبك؟» فقال: يا رسول الله أني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنتا فشفعت إلي أمها أن أتركها حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء، فخطبها الناس، فدخلتني الغيرة والحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها، أو أتركها في البيت بغير زوج فقلت لامرأتي أني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بأجمل الثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها فذهبت بها إلى رأس بئر بحجة أن نرتوي منه فلما وصلنا نظرت إلى البئر ففطنت البنت أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت أي شيء تريد أن تفعل بي، فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر في البئر فأهم بإلقائها ومرة انظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر، وهي تنادي قتلتني يا أبي، فمكثت غير

بعيد عنها حتى انقطع صوتها فرجعت فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقال: «لو كنت أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك» (¬1). اهـ. فهذه القصة وأمثالها تمثل مدى الولاء للعرف الجاهلي في ظلمه وقسوته ووحشيته وهي واحدة من عشرات بل مئات المهازل والسخافات التي كانت تزجر بها حياة أهل الجاهلية الأولى وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (¬2) وانحرافهم في ولاء العبادة، لا يقل عن انحرافهم في ولائهم الاجتماعي ففي مجال العبادة يوالون ويعادون من أجل مخلوقات جامدة صماء لا تنفع ولا تضر قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج: 73] وقوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا) [الفرقان: 3]. وفي مجال التعاون والمحبة، نجد الموالاة العمياء للعشيرة والقرابة سواء كانت على حق أم على باطل، ظالمة أم مظلومة، هذا ما عبر عنه شاعرهم بقوله: وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وقال الشاعر الجاهلي أيضا: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا فما معنى قولهم ذلك؟ أليس هو الولاء الأعمى لمن يستحق ومن لا ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (4/ 7/ 97). (¬2) انظر مختصر تفسير ابن كثير للصابوني (1/ 624).

يستحق؟ للظالم أو المظلوم على حد سواء، لقد بقيت تلك المقاييس العوجاء في الموالاة والمعاداة، أحقابا من الزمن، حتى اشرقت عليهم شمس الإسلام بعدالة الملك العلام، فسما الوحي الإلهي بنزعة الولاء والعداء من أفقها الضيق الظالم المحدود إلى أن ترتبط بخالق هذا الكون العظيم وبالناس جميعا، في هذه الأرض، وهذا ما عبر عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه، في إيوان كسرى حيث قال: (الله ابتعثنا لنخرج من شائن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) (¬1). فوجد الذين وفقهم الله إلى هذا الدين، بغيتهم وضالتهم المنشودة، حتى أحبوهم أكثر من أنفسهم وأموالهم وأولادهم ووالديهم. ورحب الناس بالإسلام حين رأوا ... أن الإخاء وأن العدل مغزاه أرواحنا تتلاقى فيه خافقة ... كالنحل إذا يتلاقى في خلاياه دستوره الوحي والمختار عاهله ... والمسلمون وإن شتوا رعاياه (¬2) وتحقق في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصحابة (رضي الله عنهم) حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (¬3). أي مضاهاة بين المجتمع الإسلامي السليم التكوين، وبين الجسد البشري الواحد يمكن أن تكون أكثر أحكاما ودقة رؤية، ومن هذه المضاهاة والماثلة التي دل عليها الحديث. إن ردود الفعل لعوادي الألم وسهام الأذى في الجسم الواحد، تكون ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية لابن كثير (7/ 39). (¬2) شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث أحمد الجدوع وحسني جرار (2/ 65، 67). (¬3) صحيح البخاري (8/ 12) (دار التراث العربي بيروت).

عفوية فورية، وتظل دائمة ماثلة، ما دام العضو المتألم يقاسي الألم ويشعر بالأذى. ذلك هو المجتمع المؤمن المسلم، الذي من دلائل إيمانه وصحة إسلامه، تواده وتعاطفه وتراحمه، ذلك هو الالتحام الحقيقي بين أفراد الأمة المسلمة الأمة التي أنشأها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتبعه في السهر عليها خلفاؤه الراشدون من بعده فهذا التلاحم قد أورث المسلمين وضعا فذا فريدا دام مئات السنين، فلا تحل نكبة بطرف من أطراف المسلمين، إلا ويفزع المجتمع المسلم لذلك الحدث ويتألم ويسهر لذلك ويقدم من نفسه وماله ووقته الشيء الكثير، ولم يعرف للراحة طعما، إلا بزوال النكبة الحاصلة على جزء منه، وبراءة ذلك العضو المصاب كما هو شأن الجسد البشري، وهذا التصرف والموقف، من أشد ما كان يغيظ أعداء الإسلام ويرهبهم، جميعا، ذلك أنهم يجدون أنفسهم في مواجهة أمة قوية متماسكة متناصرة تدافع عن الجزء منها كما تدافع عن الكل، وتعتبر ما يصيب الجزء واقعا على الكل ولكن هذه الصفة وتلك السمة الفريدة التي تميزت بها هذه الأمة، أصابها الضعف والوهن عند قلة قليلة من المسلمين، وماتت موتا تاما عند معظمهم، وذلك حين أصيبت هذه الأمة بالشلل المزمن، نتيجة جرعات من وسائل التحدير حقنها الأعداء في جسمها أدى إلى فقدان الإحساس لديها، بما يعانيه أفرادها من ويلات ونكبات، لقد تم ذلك بمكر خبيث وخطة مرسومة من أعداء الإسلام، اتفق في تنفيذها علينا كل من الشرق والغرب، وذلك لما تتمتع به بلاد المسلمين من كونها منبع الرسالة الخالدة، وتحتوي على أهم مصادر الثروة في العالم، ولا يتسنى لهم الحصول على ذلك إلا بزرع أسباب الفرقة بين المسلمين وإضعاف روح الموالاة بينهم. فخرج علينا الغرب بنظرية عبادة المادة والشهوة والشهرة فمن أجلها يوالى وعليها يعادى، فالمال هو الذي يحرك حب الإنسان وبغضه في

المجتمع الرأسمالي، وقد سرت إلينا عدوى هذه الأفكار الأثمية نتيجة الاختلاط مع الكفار على أسس وتصورات غير إسلامية، كما تسربت إلينا أيضا عدوى الأفكار الشيوعية وحيث يعطي الفرد في المجتمعات الشيوعية ولاءه للنظام الحاكم، فهو عبد مملوك للدولة، وآلة صماء في يدها يواليها قهرا، ويعادي من عاداها جبرا، فتأثرت بلاد المسلمين بتلك النزعة، فصار معظم المسلمين يوالون الدولة أو الحزب الحاكم أو الشخص الحاكم موالاة عمياء، إما بدافع المصلحة الشخصية، أو خوفا من سلطة المتسلطين وطغيان الطغاة الظالمين، إن معظم المسلمين اليوم، لا يتحملون من واجب الموالاة والمعاداة في الله شيئا، نظرا لأنهم يعيشون في عزلة تامة عن دينهم وما يوجب عليهم من حب وبغض وموالاة ومعاداة. فمن المسلمين من شغله ماله ومنصبه وجاهه عن الموالاة في الله والمعادة فيه، فصار من أجل هذه الأشياء يوالي وعليها يعادي، وكم رأينا من الإحن والخصومات والعدوات بين ذوي القربى من أجل حطام الدنيا ومتاعها الفاني. وهناك فئة ثانية توالي أهل الرذائل وتعادي أهل الفضائل، وهي فئة تعبد الأهواء والشهوات، فهي توالي كل من يوصلها إلى المرأة المبتذلة، والكأس المترعة، والأصوات الماجنة، والفئة الثالثة وهي الأكثر خطورة من هذه وتلك، أولئك الذين اتخذوا الرياضة إلها لهم من دون الله، فعليها يوالون ومن أجلها يعادون فقد أحبها البعض أكثر من حبه لله ورسوله والمؤمنين وهذا شرك أكبر قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ) [البقرة: 165] وقد يظن البعض أن هذا الكلام تهجم على الرياضة واستخفاف بها، والحقيقة أنني لست ضد الرياضة كوسيلة تقوية، وتهذيب، وترويح، ولكنني ضدها كوسيلة

لإلهاء الشعوب واستعباد العقول، وتبديد الثروات، وإهدار الطاقات، فيما لا طائل تحته. وقد شغلت هذه اللعبة اليهودية (¬1) أبناء المسلمين عن دراسة القرآن الكريم، وعن آحاديث الرسول المصطفى العظيم، وعن التحصيل العلمي في مختلف جوانب المعرفة كما شغلت الناس عن متاجرهم ومصانعهم ومزارعهم وعن مهن أخرى لا تعد ولا تحصى، كان من الممكن أن يستثمر هذا الوقت الطويل فيها، فالأمة بحاجة إلى كل شاب في المجتمع، كي يكون عضوا فعالا لا يهدر دقيقة فضلا عن ساعات طوال في سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، لقد وصل الهوس والغلو والتنطع عند أصحاب الرياضة، إلى درجة الجنون والعبادة لهذه اللعبة، فقد اعتزل كثير منهم صلاة الجمعة والجماعة، وانقطع للرياضة صياحا وصفيرا في الملاعب، واعتكافا في مقر النادي، وجدلا سقيما عقيما مع خلانه في السهر، وزملائه في العمل، وقراءة للصحف والمجلات الرياضية، واستماعا للمباريات المحلية والدولية والإقليمية المرئية منها والمسموعة، بل لقد وصلت الموالاة والمعاداة بين اللاعبين إلى درجة الكفر والعياذ بالله وذلك أنه إذا كان في أحد النوادي من أعضائه أو من اللاعبين شخص كافر، فإن المنتسبين إلى هذا النادي على مختلف المستويات يحبون ويناصرون ويساعدون هذا الكافر بالقول والعمل، ويمنحونه خالص مودتهم القلبية، بينما يكنون أعظم الحقد والغل والاستخفاف والإزدراء للمسلم الذي ينتمي إلى نادي آخر، ولو كان شابا نشأ في عبادة الله، ويعرفون عن حياة اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين أكثر مما يعرفون عن حياة العشرة المبشرين بالجنة. فكيف يدعي الإسلام من هذه حالهم والله عز وجل يقول: (لا تَجِدُ قَوْمًا ¬

_ (¬1) انظر بروتوكولات حكماء صهيون البروتوكول الثالث عشر (168) ترجمة محمد خليفة التونسي.

يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22]. فإذا كان الآباء والأبناء الكفار المحادون لله ورسوله، لا تجوز مودتهم فكيف بهؤلاء الكفار الذين هم أعداء لله ورسوله والذين آمنوا أمثال (بيليه وريفيليون، وتوماس، وغيرهم من أدوات الكفر ومخالبه) لقد أصبحت فرحة أعضاء النادي بانتصارهم الموهوم المزعوم أعظم مكانة وأجل قدرا من الانتصار على اليهود في فلسطين، وعلى الشيوعيين في أفغانستان، وعلى الصليبين في ارتريا والفلبين، كما أن هزيمتهم، أما أحد النوادي أشد وقعا من اغتصاب تلك الأماكن وتشريد ملايين اللاجئين من المسلمين، إن السواد الأعظم من المسلمين قد انحرفوا بواجب الموالاة والمعاداة عن منهجه الصحيح وبدأوا يوالون ويعادون في قضايا سطحية ساذجة تافهة هزيلة، أشبه ما تكون بتصرفات صبيانية، وهذا النمط من التفكير، من الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من ذلة ومهانة، وازدراء، وقطيعة (¬1). ونحن أمة قد شرفها الله بحمل رسالة الإسلام، وإبلاغها للناس كافة وهذا يتطلب منا جهدا وتضحية والتزاما وجدية في الحياة حيث نختلف في غايتنا ووسيلتنا عن الأمم العابثة الهابطة الغارقة في أوحال الشهوات والشبهات. لقد حول أعداء الإسلام قضية الموالاة والمعاداة عن مسارها الصحيح ¬

_ (¬1) لقد شبه أحد المشجعين المنتخب الكويتي بعد تصدره على فرق أسيا وذهاب إلى أسبانيا بأنه شبيه بفتح الأندلس، وعقد مقارنة بين صقر قريش عبد الرحمن الداخل واللاعب فيصل الدخيل وجعل أفراد المنتخب في مصاف الصحابة الأجلاء فقال: «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» إنها مأساة جيل ربي على السخافة والسفاهة واللهو والولاء لغير الله انظر المجتمع عدد (552) في (19/ 2/ 1402) ص (7).

إلى مسار تافه هزيل، فقد أفرغت قلوب الأجيال إلا من عصم الله من حب الله ورسوله، وحب أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ومن حب العلماء العاملين وكتب العلم، وحب القوة وأسبابها الحقيقية إلى حب أعداء الله، وما يخدم أعداء الله من تافه القول وساقط العمل. إنه لا يجوز ولا يصح من المسلم أن يحب لعبة من اللعب، ولا كتاب من الكتب، ولا شخصا، أو جماعة من الناسن ولا نظاما من الأنظمة، ولا مذهبا من المذاهب ولا عملا من الأعمال، ما لم يكن ذلك موافقا لما يحبه الله ورسوله، ومستمدا محبته من محبتها، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 31، 32]. فالمسلم بحكم إيمانه بالله تعالى لا يحب إذًا أحبّ إلا في الله، ولا يبغض إذًا أبغض إلا في الله، لأنه لا يحب إلا ما يحب الله ورسوله، ولا يكره إلا ما يكره الله ورسوله، فهو إذًا يحب الله ورسوله بحب ويبغضهما ببغض ودليل هذا الآية السابقة وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (¬1). وبناء على هذا فجميع عباد الله الصالحين يحبهم المسلمين ويواليهم وجميع الخارجين عن أمر الله ورسوله يبغضهم ويعاديهم. إن الواجب علينا إذا كنا مسلمين صادقين، أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن نضع الخطط التي تتفق مع أهداف ديننا وطموحات أمتنا، وأن نوالي ونعادي وفق مفهوم الإسلام وتصوره الصحيح، بدلا من الموالاة والمعاداة على سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ¬

_ (¬1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 112) رقم الحديث (380).

فهل يستيقظ النائمون وينتبه الغافلون والمخدوعون من هذه الأمة أم (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}؟ [الحجر: 72].

الفصل الأول: منزلة الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية

الفصل الأول: منزلة الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية وفي هذا الفصل عشرة مباحث هي: المبحث الأول: الموالاة والمعادة في القرآن الكريم. المبحث الثاني: الموالاة والمعاداة في السنة النبوية. المبحث الثالث: أقوال السلف الصالح في الموالاة والمعاداة. المبحث الرابع: ارتباط الموالاة والمعاداة بالشهادتين. المبحث الخامس: الموالاة والمعاداة في الله قول وعمل. المبحث السادس: حكم موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين. المبحث السابع: مكانة الموالاة والمعاداة في الإسلام. المبحث الثامن: موالاة أهل الحق تستلزم معاداة أهل الباطل. المبحث التاسع: صلة المداهنة والمداراة بالموالاة والمعاداة. المبحث العاشر: تغيير المسمَّيات لا يغير حقيقة المسمى وحكمه.

المبحث الأول: الموالاة والمعاداة في القرآن الكريم

المبحث الأول: الموالاة والمعاداة في القرآن الكريم إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب ووئام، ونظام يستهدف أن يعيش العالم كله بظلِّه، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لوائه إخوة متحابين ومتعاونين، وليس من عائق يحول دون ذلك سوى عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فكيف يتم لقاء أو مودة مع من كفروا بالله وبما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حق؟ كيف يتم لقاء أو محبة مع من تجرءوا على ذات الله فوصفوها بأوصاف لا تليق بأبسط الناس فضلاً عن القوي العزيز؟ كيف تتم مودة وموالاة مع من نصَّبوا أنفسهم أعداء للحق وأهله عبر كل زمان ومكان؟ ماذا أبوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة من سبب؟ إن المسلم مطالب بالسماحة مع أعدائه، ولكنه منهي عن الموالاة لهم ومناصرتهم، والتحالف معهم لأنه مهما أبدى من السماحة والمودة فلن يرضى عنه الأعداء، حتى يقضوا على دينه، وحتى ينسلخ من عقيدته

ومن السذاجة، أن يظن شخص أنه يمكن الجمع بين رضا الله، ورضا الكفار معا. إن هناك فئة من الناس تحاول كسر حاجز التضاد بين الإيمان والكفر، فتدعو تارة إلى الجمع بين الحق والباطل باسم التسامح، وحسن المعاملة وتارة تحرف بعض النصوص كي توافق هوى في نفسها، ولكي تمزج المسلمين مع غيرهم حتى يذوبوا في مستنقع الكفر العميق، وتدعو تارة أخرى باسم التقريب بين الأديان، والتعايض السلمي إلى الأخذ من كل دين بطرف، وتارة تدعو إلى طرح الأديان جانبا واتخاذ مبدأ العلمانية في إدارة الدول والشعوب، بحجة تجنب غائلة الحروب بين أهل الأديان. ونحن كمسلمين لن نرضى بغير منهج الإسلام في التعامل مع الناس، لأن ذلك شرط من شروط صحة إسلامنا، فلن نكون مسلمين حقيقة حتى نطبق أحكامه على أنفسنا، ومن هذه الأحكام ما يتعلق بتعاملنا مع غيرنا من الناس. والقضية التي نختلف عليها مع غيرنا هي قضية الإيمان بهذا الدين فمن آمن أحببناه وواليناه، ومن كفر وفسق أبغضناه وعاديناه، إن انقطاع رابطة العقيدة الإسلامية، وآصرة الإيمان بين المسلم والكافر، موجب للمفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من آواصر المحبة ووشائج المودة والقربى مع من كفروا بالله (¬1). إن السواد الأعظم من المسلمين اليوم قد ارتدوا عن دينهم بسبب موالاتهم للكفار وتوليهم لهم بالقول والفعل والاعتقاد، حيث نجد كثيرًا من مدعي الإسلام يمجدون مبادئ الكفر وأنظمته رغبة أو رهبة، ويستهزئون بشعائر الإسلام في أقوالهم وأفعالهم، ويحملون السلاح دفاعا عن الباطل، ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (6/ 758، 759) وانظر (28/ 62، 63)

وأهله، وحربًا للحق وأصحابه، ومع كل هذا الإجرام ينظرون إلى أنفسهم وينظر البعض إليهم أنهم من عداد المسلمين الصالحين. ولهذه الفئة نظائر في حياة الرسل والدعاة إلى الله في كل زمان ومكان، فأهل النفاق موجودون قديما وحديثا، وهم أول من يسير على هذا الخط المنحرف، ثم يتبعهم الدهماء من الناس إن لم يجدوا من يرشدهم أو يوجههم إلى الحق من عالم عامل بعلمه، أو صاحب حكم عادل في حكمه، والله عز وجل يبتلي الناس في مثل هذه الأحوال، ليرى وهو العالم بكل شيء، من يقدم موالاته على موالاة الكفار والمرتدي، ومحبته على محبتهم فيرفع من استغنى بمحبة الله عن محبة أعدائه إلى الدرجات العالية، ويخفض من تعلق قلبه بمحبة غير الله إلى قاع الهاوية وشفير جهنم وقد انقسم الناس في هذا الزمان في تعاملهم مع الكفار إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قسم ناصر لدين الله مجاهد في سبيل الله موال لأوليائه، معاد لأعدائه، وهم القليلون عددا الأعظمون أجرا عند الله. القسم الثاني: قسم خاذل لأهل الإسلام، تارك لمعونتهم معتزل عن الكفار. القسم الثالث: قسم خارج عن الإسلام بمظاهرة الكفار وموالاتهم ومناصرتهم بالقول والفعل والاعتقاد، ومعاداة أهل الحق ومحاربتهم (¬1). فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أعان صاحب باطل ليدحض بباطله حقًّا فقد برئت منه ذمة الله وذمة نبيه» (¬2). ونظرًا لتداخل أنواع الموالاة التي يحكم على صاحبها بالكفر مع أنواع الموالاة التي يأثم فاعلها بما دون الكفر، تبعًا لاختلاف النية والحال والمحل الذي تحصل به الموالاة للكفار، فقد أجملنا الأدلة الدالة على ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (256، 257). (¬2) رواه الطبراني عن ابن عباس انظر مجموعة التوحيد (257).

تحريم موالاة الكفار ووجوب موالاة المؤمنين حسب ترتيب السور والآيات في القرآن الكريم: الدليل الأول: قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة: 109] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران: 100] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) [آل عمران: 149] ففي الآية الأولى من الثلاث المتقدمة بيان من الله عز وجل لما تكنه قلوب أهل الكتاب من طوية خسيسة وحسد بغيض تجاه الإسلام والمسلمين، فاضت به ألسنتهم وانبعثت منه دسائسهم في الماضي والحاضر، وما تزال تلك صفتهم لا تتغير، ولذلك نبهنا الله إلى أخذ الحذر منهم، وعدم الاغترار بمعسول الألفاظ التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وهم من مكرهم بنا أنهم يتظاهرون بالصداقة التي تجرنا إلى موالاتهم ومتابعتهم فتحصل الردة عن الحق إلى الضلال، وهذا هو أهم مبتغاهم، وما يودونه من كل مسلم (¬1). وفي الآية الثانية، نداء من الباري جل وعلا إلىالمؤمنين يستثيرهم باسم الإيمان إلى عدم طاعة أهل الكتاب، أو الاستجداء من مناهجهم وأوضاعهم، ونظمهم الخبيثة القاصرة. إن هذا التصرف لا يصدر إلا عن هزيمة داخلية، وشعور بالنقص وشك في عدم كفاية هذا الدين، وقدرته على قيادة الحياة وتنظيمها والسير بها إلى طريق الارتقاء، فإذا وجد مثل هذا الفهم والتصور الخاطئ عند ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (1/ 137، 138).

بعض المسلمين فلا شك أن أعداء الإسلام سيستغلون تلك الثغرة بمكر وخبث ودهاء، من أجل الغاية التي تؤرقهم وهي قيادة الجماعة المسلمة كلها إلى الكفر والضلال، فإن لم يستطيعوا تحقيق ذلك بالاتصال المباشر، جندوا أتباعهم من المنافقين والمخدوعين الذين ينتسبون إلى الإسلام زورا وبهتانا، ليعملوا على تطويع هذه الأمة لأعدائها، لأن الموالاة والطاعة للأعداء لا بد أن يسبقها محبة لهم، ولما يصدر عنهم، وهذا ما حذرنا الله منه في هذه الآية (¬1). وفي الآية الثالثة والأخيرة من الآيات المتقدمة، تحذير للمؤمنين من طاعة الذين كفروا، فالمؤمن إما أن يكون مستمرا على طريق الإيمان في جهاد الكفر والكفار، وعداوتهم، وبغضهم وإما أن يكون مرتدا على عقبيه كافرا والعياذ بالله ومحال أن يقف المسلم سلبيا بين الإسلام والكفر، فيحافظ على إسلامه، وينال رضا الكفار والسلامة من أذاهم، إنه قد يخيل إلى البعض، أنه يستطيع، أن ينسحب من المعركة بين الإسلام والكفر، وأن ينضم إلى القوي المنتصر في النهاية، فإن كان ذلك المنتصر كافرا سالمه وأطاعه وخضع له، وهو مع هذا كله يعتقد أنه محتفظ بدينه وعقيدته، وهذا وهم وضلال كبير، إن الذي لا يكافح الشر والكفر والضلال، ويقف منه موقف العداء لا بد أن يتقهقر ويرتد حتى يركن إلى أعداء الله، ويستمع إلىوسوستهم ويطيع توجيهاتهم رجاء الحماية والنصرة عندهم، فيصبح من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وبذلك يكون من المرتدين الخاسرين (¬2). الدليل الثاني: قول الله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 120]. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (4/ 18، 19) (¬2) انظر مجموعة التوحيد (235) وانظر في ظلال القرآن (4/ 102).

إن الله عز وجل يخبرنا في هذه الآية على جهة التأكيد والدوام، أن اليهود والنصارى لن يصطلحوا معنا، ولن يسالمونا أو يرضوا عنا، حتى نتبع باطلهم، نحذو حذوهم في شركهم وكفرهم وانحلالهم، فمن الغباء والجهل، بل من الكفر، أن يشك الإنسان في أخبار الله عز وجل في طبيعة العلاقة لكل من اليهود والنصارى معنا، إن من يظن أنه يمكن أن يقع خلاف ما أخبر الله به في شأن اليهود والنصارى يكون غير مسلم، إنه لا يتصور من مسلم أن يعتقد أنه من الممكن أن يتحول اليهود والنصارى إلى أناس مسالمين موادعين، مناصرين لنا على الحق، إن هذا التصور الخاطئ والفهم الساذج لا يصدر إلا عن إنسان مخدوع بأضاليل اليهود والنصارى، معرض عن تلاوة كتاب الله وتدبر آياته. إن اليهود والنصارى، في معركة مستمرة مع المسلمين كما أخبر الله عز وجل ونحن نرى الدليل عليها في كل زمان ومكان، إنها معركة بين الجماعة المسلمة، وبين هذين المعسكرين الكافرين، ولكن أعداء الإسلام زيادة في تضليلنا يرفعون أعلاما شتى، في خبث ومكر، وتورية حيث لم يعلنوها حربا معلنة باسم الديانة اليهودية، أو النصرانية، ضد الإسلام خوفا من رد الفعل عند المسلمين، بل أعلنوها باسم الأرض تارة، وباسم الاقتصاد تارة أخرى وباسم السياسة والمصالح القومية مرات أخرى. وألقوا في روع المخدوعين منا أن الحرب باسم الدين حكاية قديمة لا معنى لها، وما أدرك أولئك السذج أن الاستعمار الذي مزق شمل الأمة والبلاد الإسلامية، لم يكن هدفه الأول الاقتصاد، بقدر ما كان تتمة لما عجزت عنه الحروب الصليبية، في عهد صلاح الدين، ولكنهم في هذه المرة لم يجدوا قائدا صالحا يدحرهم كما دحرهم صلاح الدين الأيوبي، بل وجدوا وللأسف الشديد بين المسلمين من يعين الغاصب على اغتصابه والظالم على ظلمه فلا حول ولا قوة إلا بالله (¬1). ¬

_ (¬1) انظر ظلال القرآن سيد قطب (1/ 146).

الدليل الثالث: قول الله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 145] فلو وافقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينهم ظاهرا من غير اعتقاد القلب، مداهنة لهم، وخوفا من شرهم لكان بذلك بموجب تعبير القرآن الكريم من الظالمين. فكيف حال من أظهر الإعجاب والتمجيد للكفار، ودعا إلى ما هم فيه من كفر، وأنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا؟ ألا يكون ذلك ظالم لنفسه ولأمته بدعوتها إلى الكفر والضلال؟ إن الطريق واضح والصراط مستقيم وليس هناك مقارنة بين الأخذ بالعلم اليقيني الذي جاء من عند الله، وبين اتباع أهواء أهل الضلال والانحراف، وتوجيه الخطاب إلى شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحمل إيحاء قويا إلى من وراءه من المسلمين أن لا ينخدعوا في غمرة الدسائس اليهودية والصليبية، وحملات التضليل، فيخطبوا ود اليهود والنصارى فإن ذلك سيجعلنا من الظالمين، وما أجدرنا نحن المسلمين اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير العظيم من الرب الكريم، فنتعامل مع الكفار في شئون دنيانا، بحذر ووعي ويقظة تامة، ونقاطعهم في شئون ديننا مقاطعة تامة، فلا نستفتي المستشرقين من اليهود والنصارى والشيوعيين والكفار أجمعين في أمر ديننا، ولا نتلقى عنهم تاريخنا، ولا نرسل إليهم أبناءنا يتلقون عنهم علوم الإسلام التي خلطوها بمذاهبهم الباطلة، والتي يأتون ببعض نصوصها في وضع مبتور كي يحققوا أهدافهم في الدس والتكفير للمسلمين، وقد عاد إلينا كثير من أبناءنا مدخولي العقل فاقدي الضمير (¬1). الدليل الرابع: قول الله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (234) وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (2/ 187، 189).

حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217] ففي هذه الآية تقرير صادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث والعداوة المتأصلة في نفوس أعداء الإسلام، لهذا الدين وأهله، في كل جيل وفي كل أرض. إن وجود الإسلام بذاته، هو غيظ وكمد ورعب لأعداء الله، وأعداء الجماعة المسلمة في كل حين، فهم يعرفون ما في الإسلام من القوة والنزاهة والعدل بحيث يخشاه كل طاغ، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد، ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرذ جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام المميز الفريد (¬1)، ولهذا فهم لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا ولم يرخص الله عز وجل في موافقتهم خوفا على النفس والمال، بل أخبر أن من وافقهم، بعد أن قاتلوه ليدفع شرهم، أنه مرتد، فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون فإنه من أهل النار الخالدين فيها، فكيف حال من وافقهم من غير قتال، ألا يكون أولى بعدم العذر وأولى بحكم الردة والكفر (¬2). الدليل الخامس: قال تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) [آل عمران: 28] فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء، وأصحابا، من دون المؤمنين، وأخبر أن من فعل ذلك فليس من الله في شيء (¬3) قال ابن جرير الطبري (¬4) في قوله تعالى: (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (2/ 330، 331). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (234، 235). (¬3) انظر الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (183). (¬4) هو محمد بن جرير الطبري (أبو جعفر) مفسر، مقرئ، محدث، مؤرخ فقيه أصولي مجتهد، ولد بآمل طبرستان في آخر سنة (224) وطوف الأقاليم في طلب العلم واستوطن بغداد واختار لنفسه مذهبا في الفقه، وتوفي ليومين بقيا من شهر شوال في بغداد سنة (310) من تصانيفه: جامع البيان في تأويل القرآن، وتاريخ الأمم والملوك، وتهذيب الآثار، واختلاف الفقهاء وآداب القضاة والمحاضر والسجلات، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (9/ 147).

فِي شَيْءٍ) يعني فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر (¬1) اهـ. ويقول القرطبي: هذا المعنى أي ليس من حزب الله ولا من أوليائه في شيء، وهو إذا من حزب الشيطان وأنصاره (¬2) اهـ، وأما قوله تعالى: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي إلا أن يكون المسلم مقهورا معهم، لا يقدر على إظهار عداوتهم، لتعذيبهم له، فيظهر لهم الرضا بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان بالله، ممتلئ بالعداوة والبغضاء لأعداء الله. والتقية لهم لا تجيز مشايعتهم على كفرهم، ولا إعانتهم على مسلم، وقيل التقية منسوخة، وإنما كانت أول الإسلام (¬3) والراجح أنها باقية ولكنها لا تصح إلا مع غلبة الظن في القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم وسوف نذكر ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى في موضوع الإراه في الفصل الرابع من الباب الثاني، والذي نخرج به من هذه الآية، أن التعاون مع أعداء الله وأعداء المسملين خيانة عظمى لله، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا تصدر إلا عن صاحب نفس دنيئة وطبع لئيم، ومنافق حقود. الدليل السادس: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (3/ 152). (¬2) انظر تفسير القرطبي (4/ 57). (¬3) انظر تفسير الطبري (3/ 152) وانظر تفسير القرطبي (4/ 57).

مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118]. إن هذه الآية تحذير صارخ وبلاغ عظيم للجماعة المسلمة أن لا تتخذ من أعداء يتظاهرون للمسلمين في ساعة قوتهم وغلبتهم بالمودة والصداقة، وهم لا يريدون في الحقيقة للمسلمين إلا الاضطراب والخبال، ولا يقصرون في زرع الفرقة بين المسلمين كلما واتتهم الفرصة في نثر الشوك في طريق الدعوة إلى الإسلام، فهم يسعون جاهدين في الكيد والدس للإسلام وأهله عبر وسائلهم المتعددة، ولكن المسلمين وللأسف الشديد في غفلة عن أمر ربهم، وعن أعدائهم، فما يزال معظمهم مخدوعًا في أعداء الله. وما يزال البعض من مدعي الإسلام، يفضون إلى أعداء الله بالمودة، ويأمنونهم على أسرار المسلمين، ويتخذون منهم بطانة، وأصحابا وأصدقاء. إن هذه الآية تبصرنا بأعدائنا الحقيقيين، الذين لا يخلصون لنا أبدا ولا تغسل أحقادهم مودة المسلمين لهم، لأنهم أعداء عقيدة لا ترجى مودتهم (¬1) يقول الشاعر: كل العداوات قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك في الدين وها نحن نشاهد مصداق هذه الآية فيما مضى وفيما هو حاضر مشهود، إن كل تقارب مع الكفار وتقريب لهم، يورث المسلمين عنتا ومشقة، وإنه بعد هذا كله لا يقرب الكفار أو يواليهم من دون المسلمين، إلا سفيه أو مجنون، أو جماعة من السفهاء والمجانين حيث يقول تعالى في آخر هذه الآية (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فمن خالف أمر الله ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن (4/ 40، 41).

بائتمان وتقريب من خونهم الله، فهو غير عاقل، أو كافر جاحد عن عمد وإصرار. الدليل السابع: قول الله تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 162] قال الطبري (¬1): أي أفمن اتبع رضوان الله على ما أحب الناس وسخطوا، كمن باء بسخط من الله بسبب مناصرته للشرك والوقوف مع المشركين (¬2) اهـ. وعلى هذا فاتباع رضوان الله يكون بموالاة أوليائه، ونصرتهم ومعاداة أعدائه وبغضهم، ومحاربتهم. الدليل الثامن: قول الله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) [آل عمران: 162]. يخبر تعالى بهذه الآية أن المنافقين والكفار، يودون كفر المسلمين كما كفروا هم بذلك، ومودتهم هذه ليست مودة قلبية مجردة عن العمل، بل إنها مودة تقتضي العمل والسعي والتخطيط لتكفير المسلمين، وهذا ما هو حاصل فعلا في عصرنا الحاضر، فبلاد المسلمين ممتلئة بالجمعيات السرية، والظاهرة المدعومة من اليهود والنصارى والشيوعيين، والتي تعمل على قدم وساق، لإخراج العباد من عبادة رب العباد، إلى عبادة البشر بعضهم لبعض، وهم يسلكون في ذلك وسائل شتّى وطرقا متعددة، ظاهرة وخفية، ونحن نشاهد اليوم جوانب عظيمة من مكرهم، ونقاسي آلامًا جمة. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته (78) من هذه الرسالة. (¬2) تفسير الطبري (4/ 107) وانظر مجموعة التوحيد (236).

من جرائمهم، يساعدهم في ذلك فئة حقيرة ذليلة دنيئة خسيسة، باعت دينها بعرض من الدنيا، وتلك الفئة هي فئة المنافقين. فعلى كل مسلم غيور على دين الله، أن يعرف أماني أعدائه وأهدافهم على الإسلام والمسلمين، فلا يمكنهم من تحقيق ذلك، وأن يمتثل أمر الله عز وجل بعدم اتخاذهم أولياء، فمن اتخذهم أولياء فقد عصى الله واستحق عذابه (¬1). إن الإسلام يتسامح مع مخالفيه من الكفار الصرحاء الذين يخالفونه جهارًا نهارا، ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون كلمة لا إله إلا الله بأفواههم وتكذبها أفعالهم، حيث ينطقون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم يبقون في دار الكفر يناصرون الكفار ويوالونهم مع قدرتهم على الهجرة، إن الرضا عن مثل هذا الوضع ليس تسامحا إنما هو تميع، فالإسلام دين التسامح، ولكنه يأبى التميع للمنتمين إليه إنه تصور جاد للحياة، ونظام جاد في تعامله مع الناس، والجد لا ينافي التسامح ولكنه ينافي التميع، وإذا كان الله عز وجل قد نهى عن موالاة المسلمين الذين يقيمون مع الكفار وأمر بقتلهم حيث وجدوا، ونهى عن اتخاذهم أولياء ونصراء، فما ظنك أيها الأخ الكريم بمن يوالي الكفار وهو بين المسلمين؟ أليس هذا الصنف أولى بهذا التهديد والوعيد ممن يداهن الكفار وهو بينهم وفي بلادهم، إن في هذه الآية بيان يرفع صفة التميع عن المسلم في اعتقاده وعمله على حد سواء (¬2). الدليل التاسع: قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (5/ 308) وانظر مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني (1/ 420) وانظر مجموعة التوحيد (262) (¬2) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (5/ 476 - 482).

وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97 - 99]. وقول الله تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل: 28، 29]. ففي هذه الآيات إخبار من الله عز وجل أنه سوف يسأل كل من انحاز إلى الكفار، أو تخلى عن المسلمين واعتزلهم في أي فريق كنتم؟ أفي فريق المسلمين؟ أم في فريق المشركين؟ فاعتذر البعض عن كونهم ليسوا في فريق المسلمين بسبب الاستضعاف، فلم تعذرهم الملائكة، وقالوا لهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) فكل من لم يكن مع جماعة المسلمين فهو مع المشركين، ما عدا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فهؤلاء يرجى لهم العفو من الله في قبول عذرهم والمغفرة عن تقصيرهم وهناك من اعتذر بأنه ما عمل سوءا حيث ترك كلا من المسلمين والمشركين، واعتزل بنفسه عن الفريقين مع علمه أن المسلمين على حق، فعد القرآن كلا من الاعتذارين الاستضعاف والاعتزال غير مقبول، وأن مثل هذا الفعل موجب لدخول النار وعذابها، حيث يقتضي واجب الأخوة في الإسلام، أن يكون المسلم مع إخوانه المسلمين، كالعضو مع الجسد، يتأثر بكل مؤثر يصيب الجسم من الداخل أو الخارج، فإذا كان هؤلاء لم يعذروا فكيف بمن أظهر لأهل الشرك الموافقة لهم، والدخول في طاعتهم، فآواهم ونصرهم، واتبع سبيلهم، وخطًأ أهل التوحيد وسبهم، واستهزأ بهم في أقوالهم وأفعالهم، ومظاهرهم، التي هي من شعائر

الإسلام؟ أليس هذا الصنف من الناس أولى بالكفر ممن ترك الهجرة إلى دار الإسلام، والانضمام إلى جماعة المسلمين مشحة بالوطن أو المال أو الأهل وخوفا من الكفار على تلك الأشياء (¬1). الدليل العاشر: قول الله تعالى: (إِنَّا أنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [النساء: 105]. فنهى الله تعالى رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - عن عضد أهل التهم والدفاع عن أهل الباطل، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن كافر أو منافق، أو مرتد إلا إذا علم أنه محق في مسألة من المسائل بعينها، فيجادل عن تلك المسألة بذاتها (¬2). فلا ينبغي للمسلم أن يكون خصما لأهل الحق في الدفاع عن أهل الباطل، كما يفعل كثير من المفتونين في هذا العصر فالذين يدافعون عن الأفراد الظالمين، أو الحكومات الظالمة، والأنظمة المرتدة، والأحزاب الكافرة واقعون فيما نهى الله عنه، بل لقد وصل الأمر ببعضهم على حد الدفاع عن اليهود الغزاة في فلسطين والصليبيين المحاربين للمسلمين في أوغندا وتشاد وإرتريا والفلبين، ومثل ذلك موقف الحكومات الكافرة في بعض البلاد العربية من قضية الهجوم الاستعماري الإلحادي على افغانستان، حيث بدأت تلك الحكومات تبرر إجرامها وإجرام أسيادها في موسكو في غزوهم لأفغانستان (¬3). إنه لا ينبغي للمسلمين أن يكون بوقا للأعداء، وصدى لأصواتهم ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد 136، 137 وانظر تفسير القرطبي (10/ 99) وانظر زاد المسير في علم التفسير (4/ 442). (¬2) انظر تفسير القرطبي (5/ 377). (¬3) انظر مجلة المجتمع عدد (551) في 20/ 1/ 1402 ص (28) بخصوص ما قاله راديوا عدن عن المجاهدين الأفغان.

المنكرة والخطاب وإن كان موجها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن المراد بذلك هم الذين كانوا يفعلون ذلك من المسلمين، والدليل على ذلك ما يلي: أولاً: إن الله تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد قوله تعالى: (هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [النساء: 109]. ثانيًا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حكما في القصة التي نزلت الآية بسببها، ولذلك كان يعتذر إليه، ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل ذلك على أن المقصود بذلك أمته من المسلمين (¬1). ثم قال تعالى: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء: 107] أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، نزلت في «أسير بن عروة»، والمجادلة المخاصمة عن الغير (¬2)، وفي هذه الآية دليل على النهي عن المجادلة عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير فإنه لا يجادل عنه، بدفع ما صدر عنه من الخيانة أو تبرير ما ارتكبه من جريمة لغرض إسقاط ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية، وفي قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) دليل على انتفاء حب الله لمن كان بهذا الوصف، وإذا انتفى الحب ثبت ضده وهو البغض (¬3) فمن اللائق بالمسلم أن يحب ما أحب الله، ويبغض ما أبغضه الله، ولا يكون مخالفا لله في حب ما يبغض وبغض ما يحب، فإن هذا السلوك لا يجوز أن يصدر من مسلم ملتزم بالإسلام التزاما صادقا. فما هو موقف اقزام الأعلام من هذه النصوص؟ وهم ديدنهم المجادلة. ¬

_ (¬1) انظر تفسر القرطبي (5، 337). (¬2) انظر تفسير القرطبي (5/ 378). (¬3) انظر تفسير ابن سعدي (2/ 154).

والمخاصمة عن الخونة، في تزييف الحقائق وتضليل الشعوب، وتقبيح الحسن، وتحسين القبيح، وإلباس الباطل ثوب الحق، وإلباس الحق ثوب الباطل، أليس هؤلاء داخلين تحت ما نهت عنه هاتان الآيتان نهيا صريحا لا لبس فيه ولا غموض؟ ولكن أي من يسمع ويعقل ويتدبر أمره فيما يقول ويفعل في هذه الحياة؟ الدليل الحادي عشر: قول الله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا) [النساء: 138، 139]. يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - يا محمد بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي، والإلحاد في ديني أولياء، يعني أنصارا وأخلاّء من دون المؤمنين تاركين موالاة المؤمنين، معرضين عنها، يطلبون عند هؤلاء الكفار المنعة والقوة والنفوذ، وما علم أولئك السفهاء البلهاء أن العزة لله جميعا (¬1) قال تعالى: (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8]. الدليل الثاني عشر: قول الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء: 140]. فذكر تعالى أنه نزل على المؤمنين في الكتاب، أنهم إذا جلسوا مجلسا، يمدح فيه الكفر بالله والكافرون، ويقر فيه الاستهزاء بالله ورسوله وكتابه، ثم سكتوا عن أولئك المجرمين وعن باطلهم وصحبوهم على تلك ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (5/ 211).

الحال فهم مثلهم في الحكم والجزاء، هذا وهم في بلد واحد في أول الإسلام، فكيف بمن كان عنهم في سعة في بلاد المسلمين، ثم استقدم الكافرين المستهزئين بالله ورسوله والمؤمنين إلى بلاد المسلمين، واتنخذ منهم أصدقاء وأصحابا وجلساء، يأنس بقربهم، بدلا من قرب اتقياء المسلمين ويتخذهم أمناء ومستشارين، وناصحين وهم متلبسون بالحديث عن الكفر فيما يظهره ويعلي شأنه، مع استهزائهم بالله وآياته ورسوله والمؤمنين وهذا أمر لا يمكن أن يقره المؤمن بالله أو يرضى به، أو يقبله ممن قاله دون أن يعترض عليه، وينكر عليه قوله، إن كان ممن يقدر على ذلك، فإن لم يكن متمكنا من ذلك فلا أقل من اعتزال هذا المكان وهذا القول، حتى ينجو من عذاب الله، ويجب أن لا يمنعه من ذلك خوف أو حياء، فإن الخوف والحياء من الله أولى، من الخوف والحياء من الناس، ولا يمنعه من ذلك خوف على مال أو مركز، أو أي غرض من أغراض الدنيا، فإن الله سبحانه وتعال، أحق بالخشية والخوف من الناس جميعا (¬1) ,. الدليل الثالث عشر: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة: 51، 52] قال حذيفة رضي الله عنه: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر لهذه الآية (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإيمان -أركانه - حقيقته - نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (186، 187). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (115).

وقد روى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: مثل قول حذيفة المتقدم (¬1). وقال القرطبي في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي: من يعاضدهم ويناصرهم على المسلمين، فحكمه كحكمهم في الكفر والجزاء وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة، وهو قطع الموالاة بين المسلمين والكافرين (¬2) اهـ. لأن في الآية شرطا وجوابا، فإذا تحقق الجواب بتحقق الشرط وجبت معاداة الموالي للكفار، كما تجب معاداة الكفار الصرحاء، ووجبت النار للموالي للكفار إن لم يتب قبل موته، كما تجب النار لمن مات كافرا وصار منهم، ومن أصحابهم، ومن أهل ملتعهم ولو لم يقل: أنا يهودي أو نصراني، أو شيوعي أو وثني أو بعثي، أو اشتراكي، أو نحو ذلك ولو كان اسمه محمدا أو عليا أو عبد الله، ولو نطق بالشهادتين لأنه لم يحقق معنيهما، ولم يعمل بمقتضاهما ويقول ابن العربي: إن الآية تفيد نفي اتخاذ الأولياء من الكفار جميعا (¬3) اهـ. لأن المتولي للكفار متبن لما عليه أحد الكفار وتابع له وراض عنه، فيكون مثله من حيث الكفر والجزاء، ثم تأمل أعذار هؤلاء الذين كفروا بموالاتهم للكفار، تجد أن الله عز وجل لم يقبلها منهم، وهي خوفهم من أهل الكتاب وسلطانهم، على مراكزهم وأموالهم، ودنياهم عامة من أن تنتقص أو تستباح أما دين الإسلام وشرائعه العظام، فليست داخلة في ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإيمان - أركانه - حقيقته - نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (184). (¬2) انظر تفسير القرطبي (6/ 217). (¬3) انظر أحكام القرآن لابن العربي (2/ 630).

تفكير ومخيلة هؤلاء المنافقين، الذين يعيشون لبطونهم وفروجهم وشهواتهم المحرمة، وقد عد الله ذلك عذرا غير مقبول منهم قطعا لحجتهم وحجة المنافقين أمثالهم إلى يوم القيامة (¬1). الدليل الرابع عشر: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة: 57]. فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن موالاة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار، وبين أن موالاتهم تنافي الإيمان (¬2). الدليل الخامس عشر: قول الله تعالى: (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَت لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنهُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة: 80، 81]. فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان الحقيقي بالله ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - مرتب بعدم موالاة الكفار، وتوليهم، فثبوت موالاة الكفار، موجب لعدم الإيمان أو نقصه، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم من جهة أخرى فقد رتب الله تعلى على موالاة الكافرين سخطه والخلود في العذاب، وأخبر أن موالاة الكافرين لا تحصل من مؤمن، فإن أهل الإيمان يعادونهم ولا يوالونهم كما هو الواجب شرعا (¬3). ثم بين سبحانه وتعالى في آخر الآية أن من أسباب موالاة الكفار ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (184). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (261). (¬3) انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (185).

الفسق الذي بدوره، جرهم إلى أن جعلوا الكفار أولياء، فصاروا بذلك مرتدين عن الإسلام أعاذانا الله من ذلك (¬1). الدليل السادس عشر: قول الله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام: 121] نزلت هذه الآية لما قال المشركون للمسلمين: تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله، فإذا كان من أطاع المشركين في تحليل أكل الميتة يكون مشركا، من غير فرق بين الخائف وغيره، إلا المكره إكراها ملجئا، فكيف بمن أطاع الكفر على كفرهم، ووالاهم، وركن إليه ونصرهم، وشهد أنهم على حق فيما يفعلونه وما يتركونه وأطاعهم في إباحة الربا والزنى والقمار، وما يدعون إليه من فحشاء وعري وغناء ماجن خسيس؟ فهؤلاء أولى بالكفر والشرك، ممن وافق المشركين على أن الميتة حلال (¬2). الدليل السابع عشر: قول الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175، 176]. اختلف المفسرون في المقصود بهذه الآية فذكرت بعض الروايات أنها نزلت في عابد من بني إسرائيل كان اسمه بلعام بن باعورا فكان هواه وتأييده مع القوم الذين حاربوا موسى عليه السلام فاعتبر هذا منه ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (239). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (239) وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (8/ 370).

مظاهرة للمشركين وموالاة لهم، فكان ذلك الأمر منه انسلاخا من آيات الله، حيث ركن إلى شهوته وهواه في حطام الدنيا الفاني، فقعد عن موالاة الحق ونصرة أهله. والراجح عدم تخصيص الآية بهذا السبب الذي لم يثبت سنده، بل الآية تدل على هذا المعنى من مفهومها العام، وعلى ذلك فالعلماء الذين لم يعملوا كما أمرهم الله، بموالاة المؤمنين ومحبتهم ونصرتهم والاعتصام بحبل الله مع المؤمنين، وفي الجانب الآخر يقومون بمعاداة المشركين وبغضهم وجهادهم، وفراقهم، فإنهم إذا لم يكونوا بهذا الوصف، فقد انسلخوا من آيات الله واستحقوا الوصف المهين (¬1). الدليل الثامن عشر: قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73]. أي: إن لم تجانبوا الكفار وتوالوا المؤمنين، وتتميزا عن المشركين، تقع فتنة في الناس وهي التباس الأمر، واختلاط المؤمنين بالكفار، فيقع الناس في حيرة التمييز بين الحق والباطل، في أقوال الناس وأفعالهم، وخاصة العامة منهم وصغار السن، لامتزاج المؤمنين بالكفار، واختلاط أقوالهم وأفعالهم واعتقاداتهم فيحصل لضعاف المسلمين وللجهلة منهم العدوى من الكفار، بتحريض من المنافقين الذين يكونون في العادة وسطاء بين الكفار الصرحاء والمسلمين الأغبياء، فتترك الواجبات، وترتكب المحرمات، وتنتشر عدوى الكفر بين المسلمين، كما تنتشر عدوى الأمراض عند من لا حصانة لديهم، فمن باب الوقاية والحماية وعدم التفريط في دين الأمة، أن يفصل المجتمع المسلم فصلا تاما عن أهل ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (7/ 319، 320) وانظر تفسير زاد المسير عبد الرحمن بن الجوزي (3/ 287) وانظر تفسير الطبري (9/ 82، 89)، وانظر مجموعة التوحيد (239).

الكفر وعن مناهجهم وأنظمتهم وأوضاعهم الشاذة، وأن يبنى المجتمع الإسلامي على أساس الإسلام بناء صحيحا قويا، وبأيد مسلمة مؤمنة قادرة، ذات اعتزاز بدينها قادرة على التأثير دون التأثر في تعاملها مع غير المسلمين (¬1). الدليل التاسع عشر: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ) [التوبة: 23]. فهذه الآية تؤكد بكل قوة انقطاع آواصر الدم والنسب، إذا انقطعت رابطة الإيمان بهذا الدين، وتبطل ولاية القرابة في الأسرة، إذا بطلت ولاية القرابة في الله، فلله الولاية الأولى وفيها ترتبط البشرية جمعاء فرابطة العقيدة متبوعة لا تابعة لغيرها من الروابط، ولذلك إذا فقدت رابطة العقيدة أو ضعفت فلا اعتبار ولا قيمة للروابط الأخرى، فالحبل مقطوع والعودة منقوضة مع من يتولى الكفار قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة: 23] و (الظالمون) هنا تعني: المشركين فولاية الأهل والقوم إن استحبوا الكفر على الإيمان شرك لا يتفق مع الإيمان ومقتضى الإيمان بالله (¬2). الدليل العشرون: قول الله تعالى: (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة: 120]. ¬

_ (¬1) انظر مختصر التفسير ابن كثير محمد علي الصابوني (2/ 122) وانظر تفسير القرطبي (8/ 56) وانظر مجموعة التوحيد (262). (¬2) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (10/ 162).

فبين سبحانه وتعالى في هذه الآية أن إغاظة الكفار والنيل منهم وخاصة الذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين، أمر مقصود من الشارع الحكيم، فإغاظتهم لا تأتي إلا عن طريق البغض والعداوة لهم ولكفرهم وهذا البغض هو الذي يولد الرغبة في حربهم بلا هوادة، ولا تميع، ولا تراجع، ولا استسلام ومفهوم المخالفة في هذه الآية يدل على أن الذي لا يغيظ الكفار ولا ينال منهم، ويتولاهم ويحرص على رضاهم، يكتب له بذلك عمل فاسد، لأنه على النقيض من صفات المحسنين أعاذنا الله من ذلك (¬1). الدليل الحادي والعشرون: قول الله تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود: 45، 46]. ففي هاتين الآيتين تبيان أن لا موالاة بين المسلم والكافر، ولو كان هذا الكافر ابنا للإنسان قد خرج من صلبه وغذاه من كسبه فما حجة الذين يوالون الكفار، المحاربين لله ورسوله والمؤمنين، وهم لا يرتبون بهم بنسب ولا سبب مباح (¬2). الدليل الثاني والعشرون: قول الله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]. فذكر تعالى أن الركون إلى الظلمة من الكفار الصرحاء، والكفار المدلسين أو الظالمين مطلقا موجب لمسيس النار وعذابها، ولم يذكر سبحانه ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (11/ 47) وانظر في ظلال القرآن (11/ 352). (¬2) انظر في ظلال القرآن (12/ 560، 561).

فرقا بين من خاف أو لم يخف، ما عدا المكره إكراها ملجئا، فيجوز له الموافقة في الظاهر بالقول، وقلبه مطمئن بالإيمان قال تعالى: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: 106] فكيف حال من اتخذ الركون إلى الكفار سياسة وكياسة، ليساعدوه على اغتصاب المنصب والثروة في البلاد الإسلامية؟ إن مثل ذلك كمثل المنافقين الذين قال الله فيهم: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة: 52]. ومن هذا نستنتج أن الركون إلى الكفار وموالاتهم من أعظم الذنوب الموجبة لدخول النار، فإن اقترن بذلك حب زوال التوحيد وأهله، واستيلاء أهل الشرك عليهم، فإن هذا من أعظم الكفر وأشد أنواعه (¬1). الدليل الثالث والعشرون: قول الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36]. فهذه الآية تدل على أن الإنسان إذا عبد ربه بطاعته ومحبته ومحبة ما يحبه ولم يبغض المشركين ويبغض أفعالهم ويعاديهم، فهو لم يجتنب الطاغوت ومن لم يجتنب الطاغوت لم يدخل في الإسلام، فهو كافر، لو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل، ويصوم النهار، وتصبح عبادته كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة، أو كمن يصوم في شدة الحر وهو يفعل الفاحشة في نهار رمضان (¬2). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (241). (¬2) انظر الدرر السنية (1/ 93)

وعلى هذا فعبادة الله لا تتحقق إلا باجتناب الطاغوت، واجتنابه يعني: بغضه وعداوته، وقطع الصلة به والتعاون معه، إلا بحدود ما أباح الشرع، وفق قيود وشروط خاصة من إكراه ملجئ، وصلة بالمعروف لذوي القرابة من الكفار، مع كراهة ما هم فيه من كفر والتصريح لهم بذلك. الدليل الرابع والعشرون: قول الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [النحل: 106، 107]. فحكم الله تعالى لا يبدل على أن من رجع عن دينه إلى الكفر فهو كافر، سواء كان الدافع لذلك خوفا على نفس أو مال أو أهل من الكفار، وسواء كان كفره في الباطن أم بالظاهر دون الباطن، وسواء كان كفره بمقاله أو بفعاله أو بهما معا، وسواء كان طامعًا من المشركين بمال أو جاه أو شهوة أو شهرة فهو كافر على كل حال من تلك الأحوال جميعا، ما عدا صورة واحدة وهي ما إذا أكره على قول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، جاز له موافقتهم في الظاهر على ذلك، أما إن وافقهم في الباطن فهو كافر مثلهم، ولو ادعى الإكراه، لأن الباطن لا سلطان لأحد عليه من الناس وإن صبر المكره على أذى الكفار، ولم يوافقهم في طلبهم على قول كلمة الكفر، فقتل بذلك فهو شهيد، كما حصل ذلك من خباب بن الأرت (¬1). ¬

_ (¬1) هو خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة وهو من السابقين إلى الإسلام كان سادس ستة في الإسلام، وممن عذب في سبيل الله تعذيبا شديدا، حيث كان الكفار يلبسونه الدروع الحديدية ويضعونه في شمس مكة وحرها اللافح ليس عليه ما يسرته، وقد صبر ولم يعط الكفار ما طلبوه، ثم شهد بدرا بعد ذلك وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نزل الكوفة في عهد الخلافاء الراشدين ومات بها سنة 37 هـ انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (2/ 99، 100).

وخبيب بن عدي (¬1) رضي الله عنهما حيث عُذِّب الأول بالنار والشمس واستشهد الثاني مصلوبا بأيدي المشركين، فلم يستجيبا إلى مطلب الكفار، مع عظم ما عرض عليهما من إغراء مقابل النطق بكلمة الكفر (¬2). وظاهر كلام الإمام أحمد بن حنبل (¬3) رحمه الله أن الإكراه المعنوي لا يصح به قول كلمة الكفر، بل لا بد من الإكراه بالتعذيب الحسي فإن أحمد لما دخل عليه يحيى بن معين (¬4) وهو مريض وتلا عليه هذه الآية فقلب أحمد وجهه إلى الجهة الأخرى، فمازال ابن معين يعتذر ويقول حديث عمار بن ياسر، فلما خرج من عنده قال: أحمد يحتج بحديث عمار وحديث عمار يقول: مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم ¬

_ (¬1) هو خبيب بن عدي بن مالك الأنصاري، شهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عشرة من الصحابة رضي الله عنهم كان منهم خبيب فظفر بهم قوم من بني لحيان فقتلوا منهم ثمانيية وبقي خبيب وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكة وباعوهما إلى قريش، فلبث خبيب عند الكفار مدة ثم خرجوا به من منطقة الحرم، فقتلوه فهو أول من صلب في سبيل الله، انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (2/ 103 - 105). (¬2) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة، نفس المكان المتقدم. (¬3) هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، قدمت أمه بغداد وهي حامل فولدته في ربيع الأول سنة (164) ونشأ بها وطلب العلم وسمع الحديث من شيوخ بغداد ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، توفي ببغداد لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة (241) وله من الكتب المسند في الحديث يحتوي على نيف وأربعين ألف حديث، وله الناسخ والمنسوخ، وله كتاب الزهد، والمعرفة والتعليل، والجرح والتعديل، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (2/ 96) وانظر دائرة المعارف الإسلامية (1/ 491 - 496). (¬4) هو يحيى بن معين بن عون الغطفاني المري (أبو زكريا) محدث حافظ مؤرخ، عارف بالرجال، أصله من سرخس، ولد بقرية نقيا قرب الأنبار في آخر سنة (158) وكان أبوه على خراج الري، فخلف له ثروة كبيرة، فأنفقها في طلب العلم، وعاش ببغداد وحدث عن أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم، وتوفي بالمدينة وهو قاصد للحج في ذي القعدة سنة 223 هـ من آثاره: التاريخ والعلل، ومعرفة الرجال، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (13/ 232).

فضربوني وأنتم قيل فريد أن نضربكم، فقال يحيى بن معين: والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك (¬1). الدليل الخامس والعشرون: قول الله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء: 73، 74، 75] قال ابن عباس في رواية عن عطاء أن سبب نزول هذه الآيات أن وفدا من ثقيف، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرنا أصنامنا وأسلمنا وحرم وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيهم ذلك فنزلت تلك الآيات (¬2) وقد أخبر الله عز وجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لو وافقهم لا تخذوه خليلا، من الخلة وهي المحبة التي تؤدي إلى الموالاة والمصافاة والمصادقة للكفار، ثم أخبر أن مثل هذا الركون والميل نحو الكفار ولو كان قليلا موجب لضعف الحياة والممات، ولو كان هذا الميل يقصد به مصلحة الدعوة والإسلام، حيث إن التنازل عن شيء من الدين، يورث التنازل المستمر إلى درجة الصفر، وهو الكفر، لأن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكالم في نهاية المطاف، ولأن أحكام الإسلام وواجباته كل لا يتجزأ، وليس بينها فاضل ومفضول خاصة فيما يتعلق بالواجبات والأركان، وليس فرض ضروري في وقت يمكن الاستغناء عنه في وقت آخر، وما عرضه وفد ثقيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضه أعداء الإسلام على مدعي الإسلام اليوم إلا أن مادة الطلب تختلف، فثقيف طلبت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطالب مقابل وعدها بالإسلام، أما أعداء الإسلام اليوم، فيطلبون من أرباب العلم ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (242). (¬2) انظر تفسير القرطبي (10/ 229، 300) وانظر تفسير الطبري (15/ 88، 89).

والدعوة، ترك الدعوة تركا كليا أو تركا جزئيا بحيث لا يتعرض الدعاة إلى مصالح ومظالم وتسلط صاحب السلطان وبحيث لا تشكل الدعوة خطرا على وجوده ووجود أسياده، وقد يستجيب لذلك كثير من حملة الأقلام في النحور، والكتب في الصدور الذين هم مطية لكل متغطرس جبار، والبعض منهم يبرر ذلك بأن مصلحة الدعوة في كسب أصحاب المناصب العليا، ولو كانوا هم المحاربين للإسلام والمسلمين، والبعض الآخر يغريه الكسب المادي ولو كان هذا الكسب على حساب التنازل عن جانب أو جوانب متعددة من أركان الإسلام وواجباته، وهم بذلك يظنون أنهم يخدعون غيرهم، وما أدرك هؤلاء أن غيرهم يمكر بهم ويصطادهم من حيث لا يشعرون ذلك أن أصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، ويغرونهم بالأسعار المرتفعة لكلماتهم، حتى يتنازلوا عن جوانب من هذا الدين، ويصدروا لهم الفتاوى التي تحل ما حرم الله، أو تحرم ما أحل الله، عند ذلك يفقد أدعياء العلم هيبتهم، وحصانتهم عند صاحب السلطان وعند الناس عامة، ويكون صاحب السلطان قد حقق مقصده فيهم بتلويث سمعتهم وسمعة الدعوة التي يمثلونها، ثم يرميهم كما ترمى الثياب الخلقة البالية، لا يؤبه لهم في قول أو فعل، إن الواجب على كل مسلم هو عدم التنازل عن شيء من دينه وعقيدته تحت وطأة الأغراءات المتعددة التي يلوح بها الكفار. إن الركون اليسير من شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو تم لكان نتيجته عذاب الدنيا والآخرة، فما ظنك إذا كان ذلك الركون ركونا تاما وتوليا عاما ومن شخص أبعد ما يكون عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يكون ذلك كفرا وخلودًا في النار (¬1). الدليل السادس والعشرون: قول الله تعالى عن أهل الكهف (وَإِذِ ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (10/ 300) وانظر في ظلال القرآن (15/ 351، 353).

اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف: 16] وقول الله تعالى: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 20]. ففي الآية الأولى يبدو موقف الفتية الذين آمنوا بربهم واضحا صريحا لا تردد فيه ولا تلعثم، إنه موقف المفاصلة الكاملة للمجتمع الكافر، فلا سبيل إلى الالتقاء على أنصاف الحلول ولا المشاركة في الحياة الجاهلية، ولا بد إذًا من الفرار عندما يصل الخطر إلى الإرغام على عقيدة الكفر، وفي الآية الثانية ذكر الله عز وجل على لسان أحد الفتية أن حالهم بين أمرين: 1 - إما أن يرجمهم الكفار ويقتلوهم شر قتلة. 2 - وإما أن يعيدهم في ملتهم وكفرهم والنتيجة (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) أي: إن وافقتموهم على دينهم، بعد أن غلبوكم وقهروكم عليه، فإذا كانت هذه حال من وافق الكفار بعد إن غلبوه وقهروه، فكيف مصير من وافقهم واحتضنهم وأجابهم إلى ما طلبوا من غير غلبة ولا إكراه؟ ومع ذلك نجد أن كثيرا منهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ويحسبون أنهم مهتدون (¬1). الدليل السابع والعشرون: قول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في شأن أبيه وقومه: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا) [مريم: 48، 49]. ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (243) وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (15/ 375).

هكذا بكل قوة وعزم وإصرار، اعتزل إبراهيم أباه وقومه، واعتزل عباداتهم وآلهتهم، وهجر أهله، ودياره فلم يتركه الله وحيدا، بل عوضه الله عن ذلك خيرا عظيما، وإبراهيم عليه السلام لم يعتزلهم إلا بعد أن أيس من قومه وأبيه، حيث تبين له أنهم أعداء لله وأنهم لا يفيد معهم شيء من وسائر الدعوة، فاجتنبهم وتبرأ منهم ومن آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، فإذا كان إبراهيم قد تبرأ من أبيه وقومه لكفرهم، أفلا يجب علينا اعتزال الكفار والبراءة منهم، ومفاصلتهم كما فعل أبونا إبراهيم عليه السلام (¬1)؟ الدليل الثامن والعشرون: قول الله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) [القصص: 8] فبين تعالى أنه بعث موسى إلى فرعون ليكون موسى عدوا لهم يتحداهم بسبب كفرهم، ويعاديهم بسبب ضلالهم، فهي عداوة بين الحق والباطل عداوة بين الحق الذي يمثله موسى ومن معه، والباطل الذي يمثله فرعون وحزبه، وهذه العداوة إنما كانت بسبب اختلاف منهج الحق عن منهج الباطل، فهي ليست عداوة على حسب أو نسب أو مصالح مادية، وإنما هي عداوة في اختلاف الدين، وهذه العداوة لن تقف عند حد مادية، وإنما هي عداوة في اختلاف الدين، وهذه العداوة لن تقف عند حد المشاعر القلبية، وإنما ستكون باعثة لما يدخل الهم والحزن والكمد على قلب فرعون وقومه، بما يواجهونه من الأقوال والأفعال التي تصدر من موسى ومن معه (¬2). الدليل التاسع والعشرون: قول الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) [القصص: 17]. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن سعدي (5/ 113، 114) وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (16/ 440) وانظر مختصر تفسير ابن كثير للصابوني (2/ 454). (¬2) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (20/ 326).

ففي هذه الآية يتحدث الله عن موسى عليه السلام وقد قطع على نفسه عهدا مطلقا، ألا يقف في صف المجرمين ظهيرا أو معينا لهم، وذلك إشعار بالبراءة من الجريمة وأهلها براءة تامة، وعلى هذا فلا يحلًُّ لمسلم يحرض على سلامة إسلامه أن يعين ظالما حتى ولو بكتابة ما ينطوي على الظلم أو يصحبه على تلك الحال، فإن الله لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وليست مناصرة الظالم على ظلمه ومظاهرة الكافر على كفره، بأيسر مما تقدم. وفي الأثر من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض الأقدام (¬1). وروي أيضا من مشى مع ظالم فقد أجرم (¬2). وهذه الآثار ضعيفة الإسناد، وإن كان المعنى الذي تدل عليه في الجملة صحيحًا (¬3). فالمشي مع الظالم لا يكون جرمًا إلا إذا مشى معه ليعينه على ظلمه فحينئذ يكون قد ارتكب ما نهى الله عنه في قوله تعالى: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2]. الدليل الثلاثون: قول الله تعالى مخاطبا رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) [القصص: 86] فمعنى ظهير في هذه الآية والتي قبلها بمعنى: معين ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (13/ 264). (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (2/ 181).

وناصر، وهي مرادفة لمعنى الموالاة التي تدل على المحبة والمناصرة (¬1) ومعنى هذه الآية أي لا تكن يا محمد عونا لمن كفر بربك على كفره (¬2) والخطاب وإن كان موجها للرسول - صلى الله عليه وسلم - فالمقصود به أمته من بعده، فيجب أن لا يكون هناك تناصر، أو تعاون بين المؤمنين والكفارين والمحاربين لله ورسوله والمؤمنين، لأن الإيمان والكفر طريقان مختلفان، ومنهجان لا يتلقيان أولئك حزب الله وهؤلاء حزب الشيطان، فعلام يتعاونان؟ وفيما يتعاونان (¬3)؟ الدليل الحادي والثلاثون: قول الله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22]. فأخبر تعالى أنك لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا ثم تصدر منه موادة لمن حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب وأن هذا الجمع مناف للإيمان مضاد له، إذ لا يجتمع الإيمان بالله واليوم الآخر مع مودة ومحبة من حاد الله ورسوله، إلا كما يجتمع الضدان (¬4) وعلى ذلك فمن واد كافرا فليس بمؤمن (¬5). أما ما قد يعترض به معترض على هذا الدليل من جواز نكاح نساء أهل الكتاب، الأمر الذي يترتب عليه مودة الرجل لزوجته الكافرة كما في فول الله تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم: 21] فكيف الجمع بين هذين الدليلين اللذين ظاهرهما التعارض؟ ¬

_ (¬1) انظر المعجم الوسيط (2/ 584) وانظر (7) من هذه الرسالة. (¬2) انظر تفسير الطبري (20/ 81). (¬3) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (20/ 380). (¬4) انظر مجموعة التوحيد (248). (¬5) انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (186)

والجواب على ذلك باختصار أن في هذه المسألة قولين: الأول: هو قول من يمنع الزواج من غير المسلمات (¬1) وعلى هذا القول فلا إشكال ولا اعتراض، ودليل أهل هذا القول هو قول الله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) [البقرة: 221] وقول الله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) [الممتحنة: 10]. الثاني: قول من يرى الإباحة مستدلا بقول الله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة: 5] فقد جعل أصحاب هذه القول شروطا متعددة في مسألة زواج المسلم بالكتابية سوف نتناولها بالتفصيل في بحث قادم إن شاء الله، ولكن لا مانع من الإشارة إلى مجمل تلك الشروط، وهي أن يكون المتزوج للكتابية، قويا في عقيدته صلابًا في رجولته، حادا في معاملته، شديد الغيرة على دينه، فإذا توفرت هذه الصفات في شخص مسلم جاز له نكاح الكتابية، وإن كان بعكس ذلك فالأولى منعه (¬2). وقال بعض المفسرون: إن النساء من الضعفة وممن لا يقاتل فجاز برهن بالمعروف (¬3) ومن البر بهن الزواج منهن قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8]. ¬

_ (¬1) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران (45). (¬2) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران (65). (¬3) انظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي (8/ 237).

الدليل الثاني والثلاثون: قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 25 - 28]. فذكر تعالى أن هناك جماعة من الناس تدعي الإسلام في ظاهر حالها، ولكنهم في الحقيقة مرتدون بسبب وعدهم للكفار، المتضمن طاعتهم لهم في بعض الأمور، فذكر أنهم ارتدوا بذلك، ولم ينفعهم علمهم بالحق مع الردة وغرهم الشيطان بتسويله وتزيينه لما ارتكبوه من الردة، وأوهمهم أن الخوف عذر لهم في الردة، وأنهم بمعرفتهم الحق، ومحبتهم له، والشهادة به، لا يضرهم ما فعلوا، فقالوا للكفار: سنطيعكم في بعض الأمر من موالاة ومحبة، وتأييد، مع بقائهم حسب زعمهم الخاطئ على مسمى الإسلام وأنهم فعلوا ذلك محبة للدنيا، وخوفا على فوات الأنفس والأموال والمناصب، فإذا كانت الردة حاصلة لمن وعد المشركين بالطاعة في بعض الأمور، فكيف حال من وافق المشركين وأطاعهم في كل الأمور قولا وفعلا؟ ألا يكون هؤلاء أحرى بالردة من أولئك الذين وعدوا المشركين في الطاعة في بعض الأمور دون البعض الآخر؟ وبناء على ذلك فإن اتباع المشركين والدخول في طاعنهم والشهادة لهم بأنهم على الحق، ومعاونتهم على الباطل، وترك التوحيد وأهله وخذلان أصحابه، كل هذه أمور موجبة للردة والكفر (¬1). الدليل الثالث والثلاثون: قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (244).

وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الحشر: 11] ففي هذه الآية تنبيه من الله عز وجل لرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأمته من بعده إلى القرابة الشديدة بين المنافقين والكفار من أهل الكتاب، قرابة تصل إلى درجة الأخوة بينهما، فأهل الكتاب كفروا صراحة، والمنافقون إخوانهم في الكفر، ولو أنه يلبسون رداء الإسلام ظاهرا، فهم كفار في حقيقة أمرهم وواقعهم، فقد اعتبرت الآية وعد المشركين في السر بالدخول معهم ونصرهم، والخروج معهم نفاقا وكفرا، وإن كان هذا الوعد كذبا وتمويها، فكيف بمن وعد الكفار بالدخول معهم ونصرهم صادقا ظاهرا، فدخل في طاعتهم ودعا إليها، ونصرهم على ذلك، وانقاد لهم وصار من جملتهم وأعانهم على كفرهم بالمال والرأي والعتاد، أليس هذا أشد حالا وأسوا مالا من المنافقين المذكورين في هذه الآية؟ (¬1) الدليل الرابع والثلاثون: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ... ) إلى قوله: (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1]. فأخبر تعالى أن من تولى أعداء الله، وإن كانوا أقرباء، فقد ضل سواء السبيل أي أخطأ الطريق القويم، والمنهج المستقيم، فإن من يدعي محبة الله، ومحبة رسوله، ومحبة المؤمنين، ثم يتخذ أعداء الله أصدقاء وحلفاء وأنصارا، ويلقي إليهم بالمودة لكاذب فيما يدعيه من حب الله ورسوله والمؤمنين، وفعله هذا تكذيب عملي لله، ومن كذب على الله فهو ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (236/ 237)، وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (28/ 43).

كافر في مثل هذه الصورة، لأنه تعمَّد مخالفة الله فيما نهى الله عنه وقد أجمع العلماء على أن من تعمَّد استحلال ما حرم الله فهو كافر (¬1). الدليل الخامس والثلاثون: قول الله تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة: 2] أي إن قدروا على المسلمين، واستولوا عليهم ساموهم سوء العذاب (¬2) وهذا الكلام له شواهد في التاريخ فعندما تغلب الصليبيون على المسلمين في الأندلس أبادوا المسلمين إبادة تامة بعد أن استقر المسلمون فيها ثمانية قرون، وكان بوسع المسلمين أيام عزهم وقوتهم أن يبيدوا كل الطوائف غير الإسلامية، وأن يسحقوها سحقًا تامًّا، ولكن الدين الإسلام رحيم حتى بأعدائه رفيق بهم، واليهود اليوم عندما تغلبوا على المسلمين فعلوا بالمسلمين مثل ما فعل الصليبيون قبلهم فنجد أنهم شردوا الملايين من السكان وقتلوا مئات الآلاف، ولا زالوا يطاردون البقية الباقية من الفلسطينيين خارج فلسطين، وعداوة اليهود لنا ليست عداوة عرقية أو طمعا في البلاد أو الاقتصاد كما يصور ذلك السذج البلهاء من الناس، بل هي عداوة عقيدة ودين، وهذا ما يدل عليه قولهم وفعلهم فعندما دخلت قوات اليهود القدس عام (1387هـ- 1967م) تجمهر الجنود من اليهود حول حائط المبكى كما يزعمون، وأخذوا يهتفون مع موسى ديان، هذا يوم بيوم خيبر، يا لثارات خيبر، ثم أخذوا ينشدون حطوا المشمش على التفاح .. دين محمد ولي وراح، محمد مات وخلف بنات (¬3). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (249). (¬2) انظر مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني (3/ 482 وانظر مجموعة التوحيد (265)). (¬3) انظر كتاب قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله تأليف جلال العالم ص (9، 15، 29)

الدليل السادس والثلاثون: قول الله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 114] وقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) [الزخرف: 26، 27] وقول الله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4]. إن الإيمان بالدين الإسلامي هو الرباط الذي تلتقي فيه سائر الأواصر البشرية، والعلاقات الإنسانية فإذا انقطعت رابطة الإسلام انقطعت سائر الروابط الأخرى، فلا لقاء بعد ذلك في نسب أو صهر، أو عشيرة أو أرض، فإما إيمان بالله فالرابطة الكبرى موصولة والوشائج الأخرى تنبع منها وتلتقي معها، أو لا إيمان فلا صلة إذا يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان من جنس آخر (¬1). ففي هذه الآيات إشارة وتنبيه بأنكم يا معشر المؤمنين لكم قدوة صالحة في مفاصلة الكفار ومعاداتهم، إلى أن يؤمنوا إذا كنتم متبعين لملة إبراهيم ومن معه من المؤمنين، فقفوا من الكفار مثل موقفه ومن معه منهم، وأظهروا العداوة للكفار مثل إظهارهم العداوة لهم، فهم لكم قدوة ولكم بهم أسوة (¬2). الدليل السابع والثلاثون: قول الله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (11/ 322) وانظر معالم في الطريق للمؤلف نفسه (187 - 198). (¬2) انظر تفسير ابن سعدي (7/ 352).

قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 9] وقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) [الممتحنة: 13]. ففي هاتين الآيتين ينهى الله عز وجل عن موالاة وموادةمناصرة الكفار لأن ذلك من الظلم والتناقض، أن يجمع الإنسان بين محبة الله وبين محبة من غضب الله عليه، فإن عداوة المعادي لربك أيها الإنسان باعثة وداعية إلى عداوتك له، ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى، لو كان هناك حاكم له مملوك، وهذا الحاكم يسدي على مملوكه من الخير، ويمنع عنه من الشر الشيء الكثير، ولهذا الحاكم أعداء، أيليق عقلاً وعرفًا، أن يوالي هذا المملوك ويناصر ويحب عدو سيده وولي نعمته، فكيف إذا نهاه سيده عن ذلك أشد النهي ورتب على موالاته لعدوه أن ينزل به أشد أنواع العذاب؟ فكيف إذا كان هذا العدو عدوا له ولسيده في آن واحد؟ ألا يعتبر من يفعل ذلك من الظالمين؟ والظلم نوع من الشرك، قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] فحال من يوالي الكفار ويناصرهم، ويترك موالاة الله ورسوله والمؤمنين، ومناصرتهم، كحال هذا المملوك مع سيده والله أعزُّ قدرًا وأجل ذكرًا وأعظم شأنًا من ذلك (¬1). الدليل الثامن والثلاثون: قول الله تعالى: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) [الفرقان: 55] فهذه الآية دلت على أن المؤمن دائما مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه، وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده والموالين ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (264) وانظر تفسير ابن سعدي (7/ 356، 364) وانظر ظلال القرآن سيد قطب (28/ 65 - 70).

له فهو مع الله على أعداء الله يحاربهم ويعاديهم ويبغضهم من أجل الله كما يكون خواص الملك معه على حرب أعدائه، أما البعيدون منه فهم غير مهتمين به ولا مبالين بشيء من ذلك (¬1). ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: (الكافر عون للشيطان على ربه بالعداوة والشرك) اهـ وقال الليث عن مجاهد قال: (الكافر يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه عليها) (¬2) اهـ. وقال زيد بن أسلم (ظهيرا) أي: مواليًا لأعداء الله أيًّا كان نوعهم، والمعنى أنه يوالي عدو الله على معصية الله والشرك به فيكون مع عدو الله معينا له على مساخط الله (¬3) اهـ. فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت بحق الكافر والفاجر معية مع الشيطان والنفس والهوى ولهذا صدر الله الآية بقوله (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) [الفرقان: 55] وهذه العبادة هي الموالاة المتضمنة للمحبة والرضا، ولكنها لما صرفت لما لا ينفع ولا يضر، أصبحت هذه الموالاة مظاهرة لأعداء الله على الله وتلك الصفة من نواقض الإسلام العشرة التي عدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) موجبة للخروج من الإسلام (¬4). ومن هذه الأدلة جميعا يتقرر بما لا يدع مجالا للشك أن لا صحة لإسلام المسلم حتى يتولى الله ورسوله والذين آمنوا قولا وفعلا واعتقادا، ويعلن عداوته للكفار بالقول والفعل والاعتقاد، ما داموا على الكفر، ويستمر على هذا الاعتقاد والعمل حتى يلقى الله على ذلك. ¬

_ (¬1) الفوائد لابن القيم (79). (¬2) المصدر السابق (80) (¬3) المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) انظر مجموعة التوحيد (28).

المبحث الثاني: الموالاة والمعاداة في السنة النبوية

المبحث الثاني: الموالاة والمعاداة في السنة النبوية لقد ذكرنا طرفا من الأحاديث الصحيحة في شأن الموالاة والمعاداة عامة وفي موالاة الكفار خاصة، وخشية الإطالة والتكرار فسوف نقتصر في هذا المبحث على ذكر الأحاديث التي لم يتقدم ذكرها فيما سلف من هذه الرسالة وهذه الأحاديث هي كما يلي: أولاً: إن الإسلام قد سدَّ الذَّرائع المفضية إلى موالاة اليهود والنصارى بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه (¬1). قال النووي (¬2): فالصواب تحريم ابتدائهم بالسلام، ونقل القاضي ¬

_ (¬1) رواه مسلم انظر صحيح مسلم كتاب السلام (4/ 1707). (¬2) هو يحيى بن شرف بن مري بن حسن النووي الشافعي (محيي الدين أبو زكريا) فقيه محدث، حافظ لغوي مشارك في بعض العلوم ولد بنوى من أعمال حوران في العشر الأول من المحرم سنة (631هـ) وقرأ بها وقدم دمشق فسكن المدرسة الرواحية، لازم كمال الدين إسحاق المغربي، وقرأ الفقه وأصوله والحديث وأصوله والمنطق والنحو وأصول الدين وسمع الكثير من الرضي بن البرهان، وعبد العزيز الحموي وغيرهما وولي مشيخة دار الحديث بعد شهاب الدين أبي شامة وتوفي بنوى في 14 رجب سنة (677 هـ) ودفن بها من: تصانيفه الكثيرة الأربعون النووية في الحديث شرح صحيح مسلم روضة الطالبين وعمدة المفتين في فروع الفقه الشافعي، تهذيب الأسماء واللغات، التبيان في آداب حملة القرآن ورياض الصالحين انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (13/ 202).

عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام للضرورة والحاجة، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله» (¬1). أما ما ورد في الحديث من اضطرارهم إلى أضيق الطريق، فالمقصود بذلك إشعارهم بالذلة والمهانة بسبب ما هم فيه من كفر، حتى يسلموا فيدخلوا في عزة الإسلام أو يستكينوا فلا يتطاولون على الإسلام والمسلمين بأذى أو يظهروا عداوتهم فيحاربوا مع الكفار المحاربين. وهذا الاضطرار والتضييق عليهم في الطريق ليس مطلقا، بل بشرط أن لا يلجئهم إلى الوقوع في وهدة، أو الاصطدام بجدار ونحو ذلك، لأن المقصود الإهانة المعنوية دون الأذى الجسدي (¬2). حيث إن ابتداءهم بالسلام، وتصديرهم في المجالس والطرق، إعزاز لهم ولما يمثلونه من كفر، وذلك مخالف لما دلت عليه الآيات القرآنية في قوله تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29] وقول الله تعالى: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة: 123] وعلى ذلك يمكن أن يقاس صاحب البدعة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 146). (¬2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 144 - 147) وانظر الجامع الصحيح (7/ 3 - 5) الحاشية على تلك الصفحات.

قال الطيبي (¬1): إن المختار من الأقوال، أن المتبدع لا يبدأ بالسلام (¬2) اهـ. وقال آخرون: إن النهي عن البدء بالسَّلام يحمل على الكراهية لا على التحريم حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستألف الكفار بالأموال الطائلة فكيف بالكلام الحسن؟ (¬3) اهـ. فمن قصد بالسلام تألفهم للدعوة إلى الله فهذا في حقه السلام مباح، ومن قصد بالسلام ملاطفتهم في معاملات تجارية ونحو ذلك فابتداؤهم بالسلام مكروه، وأما من ابتدأهم بالسلام تعظيما لهم وإكراما لمقامهم، وطلبا لرضاهم، ومحبة لهم، فهذا محرم يتنافى مع الآيات القرآنية والحديث المتقدم (¬4)، ويتعارض صراحة مع قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) [الممتحنة: 1] والسلام هو شعار المودة ودليلها البارز قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (¬5). ¬

_ (¬1) هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي (شرف الدين) عالم مشارك في أنواع العلوم توفي في 13 شعبان سنة (743هـ) من تصانيفه الكاشف عن حقائق السنن النبوية، التبيان في المعاني والبيان مقدمة في علم الحساب، أسماء الرجال فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب في التفسير انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (4/ 53). (¬2) انظر حاشية الجامع الصحيح (7/ 5). (¬3) انظر المصدر السابق المكان نفسه وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 145). (¬4) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 144 - 147) انظر حاشية الجامع الصحيح (7/ 3 - 5). (¬5) رواه مسلم، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ص (661) ورقم (848).

وعلى هذا فالسلام على الكفار تعظيما وإكراما وتحية لهم وطلبا لرضاهم أمر لا يجوز للآية المتقدمة وللحديث الذي يدور حوله النقاش وإذا تقرر عدم السلام بهذا الوصف، خوفا لما يجر إليه من مودة وموالاة للكفار. فكيف حال من يستقبلون قتلة المسلمين من اليهود والنصارى والمرتدي بالمعانقة والاستبشار، وأيديهم لا تزال تقطر من دماء المسلمين المنكوبين؟ إن هؤلاء الذين يتلقون الكفار وأباههم البشاشة والإكرام، ويقدمون لهم الهداية الثمينة، والأموال الطائلة، ويرسلون إليهم التهاني، والرسائل التي تبالغ في مدحهم واطرائهم، ومدح ما هم فيه من كفر وضلال وحتى في مناسبات سخيفة ساذجة عليهم أن يراجعوا أنفسهم إذا أرادوا السير مع الإسلام سيرا حقيقيا قبل (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 56]. وقد روى أبو داود، وأحمد عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل» (¬1). ثانيا: ما أخرجه النسائي والبيهقي وأحمد أن جريرًا قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع فقلت: يا رسول الله أبسط يدك حتى أبايعك واشترط عليَّ فأنت أعلم قال: أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين وتفارق المشركين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر سنن أبي داود كتاب الأدب (5/ 257ح 4977) وقال الألباني: إسناده صحيح انظر المشكاة (3/ 1349ح 4780) وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1) رقم الحديث (371) وانظر مسند أحمد (5/ 346). (¬2) قال الألباني إسناده صحيح انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 230) رقم الحديث (636) وانظر سنن النسائي (7/ 148) وانظر سنن البيهقي (9/ 13) وانظر مسند أحمد (4/ 365).

ثالثًا: روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل مسلم على مسلم حرام، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً، أو يفارق المشركين إلى المسلمين» (¬1). رابعا: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» (¬2). خامسا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أوليائي يوم القيامة المتقون، وإن كان نسب أقرب من نسب فلا يأتيني الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون: يا محمد: فأقول: هكذا وهكذا لها، وأعرض في كلا عطفيه» (¬3). سادسا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أولى الناس لي المتقون من كانوا وحيث كانوا» (¬4). هذا مجمل ما ورد من الأحاديث الصحيحة في موضوع الموالاة والمعاداة سوى ما تقدم ذكره سلفًا، وفيما يلي بعض الأحاديث التي يستأنس بها وقد يكون في سند بعضها مقال وهي كما يلي: ¬

_ (¬1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني م1 رقم الحديث (469). (¬2) رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح وقال الترمذي: حديث حسن انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 341) رقم الحديث (368). (¬3) أخرجه البخاري من الأدب المفرد (ص129) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 403) رقم الحديث (765). (¬4) رواه أحمد: (5/ 235) وهو حديث صحيح انظر صحيح الجامع الصغير (2/ 181ح 2008).

أولاً: روي أبو نعيم في الحلية من حديث مكحول عن واثلة بن الأسقع (رضي الله عنه) مرفوعًا قال: «يؤتى بعبد محسن في نفسه لا يرى أن له ذنبًا فيقول له هل كنت توالي أوليائي؟ قال: كنت من الناس سلما، قال فهل كنت تعادي أعدائي؟ قال: رب لم يكن بيني وبين أحد شيء، فيقول الله عز وجل: لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي» (¬1)، فهذا الحديث تنبيه للذين يظنون أنهم في سلامة من أمرهم وهم يقفون موقف المتفرج في صراع الإسلام وأهله مع قوى الكفر والضلال، وهو كذلك تحذير للذين يفعلون أكثر مما يفعله المتفرجون، تحذير للذين يداهنون الكفار ويوالونهم، ولا يرون بذلك بأسًا أو غضاضة ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» (¬2). ثانيا: روي عن أبي بكر محمد بن عمر بن حزم عن أبيه عن جده عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعامر بن الأسود (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا كتاب من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعامر بن الأسود المسلم أن له ولقومه من طيء ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة وفارقوا المشركين) كتبه المغيرة، أخرجه أبو موسى (¬3). ثالثا: ما روى أبو ياسر بن أبي حبة بإسناده عن عبد الله بن أحمد حدثني أبي حدثنا إسماعيل حدثنا سعيد الحريري عن أبي العلاء بن الشخير ¬

_ (¬1) انظر تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران تأليف حمود بن عبد الله التويجري (38). (¬2) رواه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما بأسانيد فيها مقال عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه مرفوعًا ولكن معناه موافق لعموم الأدلة انظر تحفة الإخوان محمود التويجري (75). (¬3) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (3/ 77).

قال: كنا مع مطرف في سوق الإبل بالربذة فجاء أعرابي معه قطعة أديم وجراب فقال: من يقرأ أو فيكم من يقرأ؟ قلت: نعم، فأخذته فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وفارقوا المشركين، وأعطوا الخمس مما غنمتم، وأقروا بسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفيه فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله (¬1). رابعا: ما روي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي في مرضه نعوده فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «قد كنت نهيتك عن حب يهود، فقال عبد الله: فقد أبغضهم سعد بن زرارة فمات» (¬2). خامسًا: ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «اعتبروا الناس بإخوانهم» (¬3). سادسا: جاء في كتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه اليهود وعاهدهم، ما يدل على تناصر المؤمنين وأنهم يد واحدة على من خالفهم جاء فيه وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (¬4) ظلم أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي انظر السنن الكبرى للبيهقي (9/ 13) وانظر أسد الغابة لابن الأثير (5/ 39، 40). (¬2) انظر مسند أحمد (5/ 201) وانظر سنن أبي داود (3/ 184). (¬3) انظر تفسير القرطبي (4/ 57). (¬4) الدسيعة العظيمة انظر المعجم الوسيط (1/ 282، 283) (¬5) انظر السيرة لابن هشام (2/ 147 - 149) وانظر تهذيب سيرة ابن هشام/ عبد السلام هارون (140، 141).

سابعًا: ما روي عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» (¬1). ثامنا: روي الإمام أحمد في مسنده أن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى، قال: فخياركم الذين إذا رءوا ذُكر الله تعالى ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى، قال فشراركم المفسدون بين الأحبة المشاءون بالنميمة الباغون للبراء العنت» (¬2). ومن خلال الأحاديث المتقدمة يتأكد لدي أن المسلم مأمور بمفاصلة المشركين وعداوتهم، وعدم إظهار التقدير والتكريم لهم، ولا يجوز احترامهم إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا أراد المسلم تأليف قلوبهم للدعوة إلى الإسلام، فيجوز له البر بهم، والتظاهر بحسن المعاشرة لهم، ولا تدخل محبتهم قلبه إلا بعد إسلامهم، ودخولهم في عداد المسلمين. أما فيما يتعلق بمحبة المؤمنين والمسلمين ووجوب مناصرتهم بالقول والفعل والاعتقاد، فإنَّ السنة قد دلَّت على ما دلَّ عليه القرآن الكريم، من أن الموالاة في الله والمعاداة فيه، أصل من أصول الإسلام لا يصحُّ إسلام المرء إلا بهما فمن خالف ذلك فقد خالف ما قرره الله ورسوله في الكتاب والسنة من وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي بإسناد لا بأس به، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 341) رقم الحديث (367). (¬2) انظر مسند الإمام أحمد (6/ 459) وقال عنه ابن الأثير: إنه حديث غريب، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 306) باب العين مع النون.

المبحث الثالث: أقوال السلف الصالح في الموالاة في الله والمعاداة فيه

المبحث الثالث: أقوال السلف الصالح في الموالاة في الله والمعاداة فيه أولاً: يروى عن ابن مسعود (¬1) رضي الله عنه أنه قال: تقرَّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والقوهم بوجوه مكفهرة، والتمسوا رضى الله بسخطهم وتقربوا إلى الله بالبعد منهم (¬2). وروى أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود أنه قال: لا يقلدن أحدكم ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن مسعود بن غافل حليف بني زهرة، كان إسلامه قديما حيث أسلم مع سعيد ابن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب وذلك قبل إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل عنه: إنه قال: لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا، وهو أول من جهر بالقرآن بمكة، وهاجر الهجرتين، وصلّى إلى القبلتين، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق وبيعة الرضوان، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي أجهز على أبي جهل وشهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة توفي بالمدينة سنة 32 ودفن بالبقيع انظر أسد الغابة لابن الأثير (3/ 256 - 260). (¬2) انظر تحفة الإخوان/ حمود التويجري (56).

دينه رجلا، فإن آمن آمن وإن كفر كفر، فإن كنتم لا بد مقتدين، فاقتدوا بالميت فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة (¬1) اهـ. ثانيا: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كل إخاء منقطع إلا إخاءً كان على غير طمع (¬2) اهـ. ثالثا: أخرج أبو نعيم عن حسان بن عطية أن أبا الدرداء (¬3) رضي الله عنه كان يقول: لا تزالون بخير ما أحببتم خياركم، وما قيل فيكم بالحق فعرفتموه، فإن عارف الحق كعامله (¬4) اهـ. رابعا: قال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أنَّ رجلاً قام يعبد الله بين الركن والمقام سبعين سنة لبعثه الله مع من يحب يوم القيامة (¬5) اهـ، وهذا الأثر موافق لمعنى الحديث الصحيح المرء مع من أحب (¬6) وقال الحسن رضي الله عنه مصارمة الفاسق قربان إلى الله (¬7) اهـ. خامسا: ما يصوره لنا موقف خالد بن الوليد رضي الله عنه مع مجاعة ¬

_ (¬1) انظر الحلية لأبي نعيم (1/ 136). (¬2) انظر كنز العمال عبد الرحمن جلال الدين السيوطي (8/ 236). (¬3) هو عويمر بن مالك بن زيد بن قيس بن أمية بن عامر ويكنى بأبي الدرداء تأخَّر إسلامه قليلاً وكان آخر أهل داره إسلاما وحسن إسلامه، وكان فقيها عاقلا حكيما آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سلمان الفارسي رضي الله عنهما وتولى أبو الدرداء قضاء دمشق في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وتوفي قبل أن يقتل عثمان بسنتين وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (5/ 185، 186). (¬4) انظر الحلية لأبي نعيم (1/ 210). (¬5) انظر فضيلة الألفة والأخوة مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1605) الورقة (78) المؤلف غير معروف يعتقد أنها مؤلفة في القرن التاسع الهجري. (¬6) رواه مسلم صحيح مسلم (4/ 2032) باب البر والصلة. (¬7) انظر فضيلة الألفة والأخوة الورقة (78).

ابن مرار الحنفي اليمامي، أن الميل إلى أصحاب الباطل وموادعتهم، موالاة لهم فقد كان مجاعة بن المرار الحنفي من أهل اليمامة قد وفد هو وأبوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان من رؤساء بني حنيفة وأقطعهما النبي - صلى الله عليه وسلم - العودة وعوانة والجبل، ثم لما حصلت الردة مال مجاعة إلى تأييد قومه من أصحاب مسيلمة، ولما سار خالد إلى اليمامة حين ارتدوا قدَّم مائتي فارس، وقال: من أصبتم من الناس فخذوه، فأخذوا (مجاعة) في ثلاثة وعشرين رجلا من قومه، فلما وصلوا إلى خالد قال مجاعة يا خالد، لقد علمت أني قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه، أمس فإن يك كذابا قد خرج فينا فإن الله يقول: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164] فقال خالد: يا مجاعة، تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه، أنت أعز أهل اليمامة وقد بلغك مسيري إقرارًا له ورضاء بما جاء به، فهلا أبيت عذرا، وتكلمت فيمن تكلم، فقد تكلم ثمامة بن أثال فرد وأنكر، وتكلم اليشكري، فإن قلت أخاف قومي، فهلا عمدت إلي أو بعثت إلى رسولا، فقال: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله، فقال قد عفوت عن رمك (¬1) ولكن في نفسي حرج من تركك (¬2) اهـ. سادسًا: في سنة 138 هـ من الهجرة نشأ خلاف كبير بين الأخوين، سلطان الشام، الملك الصالح إسماعيل، وسلطان مصر، الملك الصالح نجم الدين أيوب، كان من نتيجته أن استعان الملك. ¬

_ (¬1) أي سجنك انظر المعجم الوسيط (1/ 375). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (289 - 290) (299 - 300) وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (4/ 300، 301)

إسماعيل بالصليبيين أعداء الإسلام والمسلمين، وتحالف معهم على قتال أخيه نجم الدين، وأعطاهم مقابل ذلك مدينة صيدا، على رواية السبكي (¬1) وكذلك قلعة صفد وغيرها على رواية المقريزي (¬2) وأمعن إسماعيل في هذه الخيانة، فسمح للصليبين أن يدخلوا دمشق، ويشتروا منها السلاح وآلات الحرب، وما يريدون. فأثار هذا الصنيع المنكر استياء عامة المسلمين وعلمائهم فهب الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام وصعد على منبر الجامع الأموي بدمشق في يوم الجمعة، وخطب الناس وأفتى بتحريم بيع السلاح للأعداء، وأنكر بشدة على الملك إسماعيل خيانته وفعلته النكراء، وألغى من الخطبة الدعاء المتعارف عليه للسلطان إسماعيل وهذا بمثابة الإعلان بنزع البيعة منه، وأبدل ذلك بقوله: (اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر) (¬3) اهـ. ولم يكن السلطان حاضرًا تلك الخطبة، فلما علم أمر بعزل الشيخ واعتقاله، مع صاحبه الشيخ ابن الحاجب المالكي لاشتراكه معه في هذا الإنكار (¬4). سابعا: قال ابن جرير الطبري في قوله تعالى: (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران: 28] يعني: فقد برئ من الله وبرئ الله منه لارتداده عن دينه (¬5) اهـ. ¬

_ (¬1) انظر طبقات الشافعية للسبكي (5/ 100) وبعدها. (¬2) انظر كتاب السلوك للمقزيري (1/ 303). (¬3) انظر وا إسلاماه أحمد باكثير (100). (¬4) المصدر السابق المكان نفسه. (¬5) انظر مجموعة التوحيد (288) وانظر الدرر السنية (2/ 176) وانظر (65، 66) من هذه الرسالة.

ثامنًا: يفهم من كلام ابن تيمية رحمه الله قوله: إن ظاهر النصوص يدل على كفر من تولى الكفار، نقل ذلك عنه حمد بن عتيق في بعض ما كتبه (¬1) وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن المعاون لأعداء الله فقال حكمه حكم المباشر وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وأحمد (¬2). تاسعًا: يقول ابن كثير (¬3) في تفسيره، إن من يوال الكفار من دون المؤمنين ويسر إليهم بالمودة فهو كافر مرتد، ويستدل على ذلك بقول الله تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران: 28] إلا ما استثنى الله ممن يكره إكراها ملجئا (¬4) اهـ. عاشرًا: يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (لو أن رجلاً أقرَّ بأن الإسلام نهى عن الشرك، ولم يفعل الشرك بنفسه، ولكنه زينه للناس، ورغبهم فيه، أليس هذا كافرا مرتدا) (¬5). وعلى هذا القول يحكم بكفر الذين يدعون إلى الأحزاب الكافرة من شيوعية، أو اشتراكية، أو بعثية، أو ماسونية، أو علمانية، أو نحو ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (288) وانظر الدرر السنية (2/ 176). (¬2) انظر الفتاوى لابن تيمية (35/ 91). (¬3) هو إسماعيل بن عمر بن كثير الشافعي المعروف بابن كثير (عماد الدين، أبو الفداء) ولد سنة (700) بجندل من أعمال بصرى، ثم انتقل إلى دمشق ونشأ بها وتعلم العلم فيها فهو محدث، مؤرخ مفسر، فقيه، توفي في شعبان سنة (774) هـ ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية رحمهما الله جميعًا رحمة واسعة من تصانيفه تفسير كبير يقع في عشر مجلدات، مختصر علوم الحديث لابن الصلاح، البداية والنهاية في التاريخ، الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجامع المسانيد جمع فيه آحاديث الكتب الستة والمسانيد الأربعة: انظر معجم المؤلفين (2/ 283، 284). (¬4) انظر مختصر تفسير ابن كثير/ محمد علي الصابوني (1/ 276) (¬5) انظر الرسائل الشخصية: محمد بن عبد الوهاب (29).

ذلك، وإن لم يكونوا من المعتنقين لها والمنضمين إليها، ويلحق بذلك أيضا دعاة الدعارة والفساد في وسائل الإعلام، الذين يزِّينون الفاحشة، وهتك القيم والأخلاق الإسلامية، وإن لم يمارسوا الفساد بأنفسهم، ويطبقوه على أهليهم، لأن من كره ما أحل الله، ودعا إلى ما حرم الله، فقد استحق غضب الله عليه. ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (لو أن إنسانا كره ما أنزل الله أو أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - به أمر استحباب، وصد الناس عن ذلك كركعتي الفجر مع علمه بما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أليس هذا كافرًا مرتدًّا؟ فكيف بمن سب دين الله الذي بعث الله به جميع أنبيائه، مع إقراره ومعرفته به، ومدح دين المشركين، الذي بعث الله أنبياءه بإنكاره، وبيان بطلانه (¬1). وقال الفضيل بن عياض (¬2): من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها: ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض صاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له (¬3) اهـ. فإذا كان هذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله، فما بالك بمن يوالي من يدعون خصائص الألوهية في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحلَّ الله؟ ومع ذلك كله يقرهم على هذا الإدعاء، ويواليهم ويناصرهم عليه، فهذه ليست موالاة مبتدع على بدعته بل هي موالاة كافر على كفره، أو مشرك على شركه ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- أنه ¬

_ (¬1) انظر الرسائل الشخصية: محمد بن عبد الوهاب (30). (¬2) انظر ترجمته في ص (144) من هذه الرسالة. (¬3) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (7/ 278).

لا يحكم بالكفر إلا على من عرف التوحيد ثم عاداه، وعادى من يلتزمونه، وصد الناس عنه فيقول: (ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله، ثم عاداه وصدَّ الناس عنه، فهذا الذي أكفره، وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء، إلا رجلا معاندًا، أو جاهلاً بأحكام الإسلام) (¬1). ثم يقول: (نكفر من أشرك بالله، بعد ما نبين له الحجة على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسَّن الشرك للناس، وأقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه، دون مشاهد الشرك، وقاتل بسيفه دونها، وأنكر وقاتل من يسعى في إزالتها) (¬2). وفي رسالة بعث بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن عيد، ذكر فيها أنه يحكم بكفر من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونفر الناس عنه، وجاهد من صدق الرسول فيه، وكذلك من عرف الشرك وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بإنكاره، وأقر بذلك ليلاً ونهارًا، ثم مدحه وحسَّنه للناس، زعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم فحكمه الكفر (¬3). ثم يقول: وإني لا أكفر أحدا بالظن، أو بالموالاة للكفار، أو بالجهل ما لم تقم عليه حجة البلاغ (¬4) اهـ. ومفهوم كلام الشيخ رحمه الله أن من قامت عليه حجة البلاغ بشأن موالاة الكفار ثم والاهم بعد ذلك فهو كافر. ويرى قتال من أبغض التوحيد، ونفَّر الناس عنه، ومدحه وحسَّنه. ¬

_ (¬1) انظر مجموع الرسائل الشخصية محمد بن عبد الوهاب (58). (¬2) المصدر السابق (60). (¬3) المصدر السابق (25) (¬4) المصدر السابق المكان نفسه.

ووالى أعداء التوحيد وخصوم الإسلام، بعد معرفته له، وذلك عملاً بقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ) [الأنفال: 39]. ثم يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وقد أجمع العلماء على أن من سب الشرع، أو سبَّ الأذان، أو سبَّ شيئًا من أحكام الإسلام الثابتة أنه كافر مرتد (¬1). وهذا يدل والكلام للشيخ، على أن الإنسان قد يكفر بكلمة أو عقيدة قلب أو فعل من أفعال الشرك. فكيف بمن جاهد بنفسه وماله ورأيه، أهل التوحيد، وأطاع أهل الشرك والضلال؟. أليس ذلك أولى بوصف الكفر والردة عن الإسلام (¬2). ثم يقول: لو قدرنا فرضًا أن السلطان المسلم في المغرب ظلم أهل المغرب ظلمًا عظيمًا، في أموالهم وأنفسهم ورأوا أنه لا مخرج لهم بذلك إلا بالاستنجاد بالفرنج، وعلموا يقينا أنهم لا يوافقونهم إلا أن يقولوا: نحن معكم على دينكم ودنياكم، وأنكم على حق، والسلطان على باطل، وتظاهروا معهم بذلك مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج حقيقة، ولم يتركوا دين الإسلام بالفعل، لكن تظاهروا بما ذكرنا، ومرادهم في ذلك دفع الظلم عنهم فلا يشك أحد أنهم مرتدون. حيث صرحوا أن دين الكفار هو الحق، ودين السلطان الذي هو الإسلام هو الباطل، مع علمهم أن الحق والصواب عكس ما قالوا، ولكنهم قالوا ذلك كراهية للسلطان ولما فيه من ظلم (¬3) اهـ. وهذا المثال ينطبق على كثير ممن يدعون الإسلام اليوم فقد انحرف ¬

_ (¬1) انظر الرسائل الشخصية محمد بن عبد الوهاب (26). (¬2) المصدر السابق (27). (¬3) المصدر السابق (28).

كثير من الناس وارتدوا عن الإسلام، ووالوا أعداء المسلمين، بحجة فساد العلماء والحكام المسلمين، فانضموا إلى الأحزاب الكافرة، واعتنقوا المبادئ الضالة كوسيلة من وسائل التخلص من حكم الحكام الظالمين وتسلط العلماء النفعيين، وهؤلاء أخطئوا الطريق، فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، فكراهيتهم لبعض المسلمين الذين يمثلون الإسلام تمثيلاً زائفًا جعلتهم يكرهون الإسلام نفسه، وينفرون منه، وينفرون الناس عنه، لاعتقادهم الخاطئ أن الدعوة إلى الإسلام، تخدم مصالح هؤلاء الذين يتاجرون باسم الإسلام، وهذا التصور والفهم، هو غاية الجهل والسطحية والسذاجة حيث إن الإسلام حجة على الناس، وليست أعمال الناس حجة على الإسلام ولأن الإسلام يحكم على الأشخاص من خلال قيمه وتصوراته، ولا يحكم على الإسلام من خلال أفعال الناس وتصرفاتهم فسوء التطبيق للإسلام من بعض المسلمين، يجب أن لا نُحمِّل ذلك الخطأ مبدأ الإسلام نفسه، حيث إن نظرية الإسلام الأساسية قائمة على العدل والإنصاف فإذا سرق الحاكم أو ظلم، أو ارتشى القاضي وجار في حكمه، أو نافق العالم وداهن، فالإسلام برئ من كل هذه السيئات والتصرفات، لأن أحكامه تأبى مثل هذه الأعمال وتنكرها ويعتبر الأفراد مسئولين عن هذا التصرف ومجزيين عليه في الدنيا والآخرة، والإسلام برئ منهم ومن تصرفاتهم التي لا تمثله في قليل أو كثير. ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ومن اعتقد أن لأحد من الناس طريقًا غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أنه لا يجب عليه اتباعه أو أن له أو لغيره الخروج عن اتباعه، أو قال: إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعة الله كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فقد كفر في هذا كله (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (68)

ثم يقول الشيخ في موضع آخر: «إن هؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم وجوب الطاعة من دون الله كلهم كفار مرتدون عن الإسلام». كيف لا .. وهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله ويسعون في الأرض فسادا بقولهم، وفعلهم وتأييدهم؟ ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفَّرهم، أوزعم أن فعلهم هذا ولو كان باطلاً، فلا يخرجهم إلى الكفر فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق لأنه لا يصح دين الإسلام، إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم (¬1). قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256]. وقد نهى الله نبيه وعباده المؤمنين عن المجادلة عمن فعل ما دون الشرك من الذنوب في قوله تعالى: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ) [النساء: 107] فكيف بمن جادل عن المشركين، وصد عن دين رب العالمين (¬2) اهـ. إن في تلك الآية إدانة صريحة للذين يظاهرون الكفار ويوالونهم من دون المؤمنين أن المسلم الحقيقي هو الذي لا يطلق لسانه في تمجيد الكفار وتصويب باطلهم، وهو يعلم أنهم يفعلون بالمسلمين الأفاعيل النكراء، من قتل للنفوس البريئة، ونهب للثروات الطائلة، ومتاجرة بأعراض المسلمات، فلا يتعاون مع الكفار ويمجدهم ويتعاطف معهم، ويدافع عنهم، إلا كافر مثلهم. إن المسلم المخلص الغيور، وهو الذي ينطلق في تعامله مع الناس ¬

_ (¬1) انظر الرسائل الشخصية محمد بن عبد الوهاب (188). (¬2) انظر الرسائل الشخصية: محمد بن عبد الوهاب (193).

من قاعدة الحب في الله والبغض في الله، فيحب أهل الإسلام وإن كانوا بعيدين عنه نسبا ووطنا، ويبغض أهل الكفر وإن كانوا قريبين منه نسبًا ووطنًا. إن هناك فئة من الناس هي بمثابة إمعات (¬1) تردد ما تردده وسائل الإعلام المعادية للإسلام، فليحذر المسلم من أن يكون ببغاء يردد ما يتفوه به الأعداء، ويكون صدًى لهم في أقوالهم وأفعالهم فيخذل المؤمنين، وينصر الكافرين على المؤمنين، ومن فعل ذلك فقد استحق غضب رب العالمين فيا أهل الإسلام ويا حماة العقيدة الإسلامية، لا تغتروا بمن يتمسح بالإسلام وهو من أشد أعدائه، وألد خصومه، فتبرروا لهم أخطاءهم وتتستروا على جرائمهم فإنكم مسئولون عن ذلك أمام الله عز وجل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وقد لخص الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بعض مقالات لابن تيمية -رحمه الله- قال في أحدها: إن من أعظم الفروق بين أهل محبة الله، وبين من يدعي محبة الله: هو اتباع الشريعة والقيام بواجب الجهاد (¬2). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إن هؤلاء الذين يقولون التوحيد دين الله ورسوله، ثم يبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى ويسبونه ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الكفر بالنفس والمال والرأي، هؤلاء يجب جهادهم وقتالهم، بكل مستطاع حيث إنهم أشد من اليهود والنصارى، وهم مصدر فتنة على هذا ¬

_ (¬1) إمعات جمع إمعة وهو الذي يقول لكل أحد: أنا معك، ولا يثبت على شيء لضعف رأيه. انظر المعجم الوسيط (1/ 26). (¬2) انظر ملحق المصنفات للشيخ محمد بن عبد الوهاب (17).

الدين وقد أمر الله عز وجل بقتال أهل الفتنة قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ) [البقرة: 193]. ثم يقول كيف لا يكفر من جاء إلى أهل الشرك يحثهم عليه وعلى لزومه، ويزينه لهم ويستشيرهم على قتل المؤمنين الموحدين، وأخذ مالهم ومصادرة حقوقهم؟ (¬1) إن الأدلة على كفر المسلم، إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على المسلمين، ولو لم يشرك، أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم المعتمدين (¬2). (الحادي عشر: سئل الشيخان حسين وعبد الله (¬3)) (¬4) ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعا عمن عاهد على السمع والطاعة والموالاة في الله والمعاداة فيه، ولم يف بما عاهد عليه من الموالاة والمعاداة ولا تبرأ من دين الكفار. فأجابا بأن حكمه الكفر والردة عن الإسلام (¬5) وحول هذا المعنى يقول الشاعر سليمان بن سحمان الدوسري. ¬

_ (¬1) انظر الرسائل الشخصية محمد بن عبد الوهاب ص (272). (¬2) انظر الرسائل الشخصية الشيخ محمد بن عبد الوهاب (272). (¬3) هو الشيخ عبدا الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة (1165) ونشأ بها في كنف والده نشأة علم وصلاح فقرأ القرآن حتى حفظه ثم تفقه على والده في المذاهب الإسلامية، وبعد وفاة والده كان هو القائم مقام والده في نشر الدعوة، وتعليم طلاب العلم، وقد تخرج على يديه عشرات العلماء الذين تولوا القضاء في مناطق مختلفة في عهده، وله عدد من المصنفات منها جواب أهل السنة النبوية في نقص كلام الشيعة والزيدية، وألف مختصرا للسيرة النبوية وله رسائل متفرقة وضعت في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية وفي أثناء حملة إبراهيم باشا على الدرعية واستيلائه عليها نقل الشيخ وابنه عبد الرحمن إلى مصر وبقي فيها تحت الإقامة الجبرية حتى توفي سنة (1242هـ) انظر مشاهير علماء نجد عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله (32: 50). (¬4) انظر الدرر السنية (8/ 113، 114). (¬5) انظر الدرر السنية (8/ 113، 114).

ففرض على كل امرئ نصرة الهدى ... وقمع ذوي الإلحاد من كل ذي صد (¬1) الثاني عشر: يقول الشيخ حمد بن علي بن عتيق: إن الأمور التي يصير بها المسلم مرتدا، أمران. 1 - الأمر الأول الشرك. 2 - الأمر الثاني مظاهرة المشركين على دينهم الباطل وطاعتهم في ذلك ولم يستثن من حالات المظاهرة والطاعة إلا حالة واحدة وهي الموافقة لهم في الظاهر مع مخالفتهم في الباطن، وذلك إذا كان في سلطانهم، مع مباشرة تعذيبهم وتهديدهم له (¬2) اهـ. الثالث عشر: قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله إن كل من استسلم للكفار، ودخل في طاعتهم وأظهر موالاتهم فقد حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام، ووجب جهاده، ولزمت معاداته (¬3) اهـ وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلا أنه يكفر، كما في قصة المنافقين في غزوة تبوك، فكيف بمن أظهر الكفر وساعد على إظهاره ودعا إليه خوفًا وطمعًا في ملذات الدنيا؟ ألا يكون أولى وأحق بالكفر والردة ممن قال بضع كلمات معدودة في مناسبة محدودة؟ (¬4). ¬

_ (¬1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان (8). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (286 - 296). (¬3) انظر الدرر السنية (7/ 11). (¬4) انظر مجموعة التوحيد (234).

المبحث الرابع: ارتباط الموالاة والمعاداة بالشهادتين

المبحث الرابع: ارتباط الموالاة والمعاداة بالشهادتين إن مما يجب أن يعلمه كل مسلم، أن الله افترض علينا جميعًا عداوة المشركين، وعدم موالاتهم وأوجب علينا جميعا محبة المؤمنين ومناصرتهم بالقول والفعل والاعتقاد، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان ومن مستلزماته العظام، فنفى الإيمان عمن يواد من حادَّ الله ورسوله، ولو كانت هذه الموادة لأقرب قريب كافر، ولذلك فمن العلماء من عدَّ الموالاة والمعاداة داخلة في معنى لا إله إلا الله، ومنهم من توقف في ذلك فيكون في هذه المسألة قولان: القول الأول: إن المولاة والمعاداة من معاني لا إله إلا الله فقد سئل الشيخ عبد الله (¬1) بن عبد الرحمن أبابطين عن معنى لا إله إلا الله وعن ¬

_ (¬1) هو الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبابطين ولد في بلدة الروضة من بلدان سدير في عشرين ذي القعدة سنة (1194) ونشأ بها وتعلم على يد علمائها ثم انتقل إلى شقراء وتعلم على يد قاضيها الشيخ عبد العزيز الحصين، ولما توفي سعود بن عبد العزيز بن محمد على الحرمين سنة (1220) ولاه قضاء الطائف وكان بجانب ذلك يقوم بتعليم طلاب العلم، ثم انتقل إلى شقراء وتولى قضاء بلدان الوشم كلها، وفي عهد الإمام تركي بن عبد الله أرسله إلى بلدة عنيزة قاضيًا عليها وذلك سنة (1248) وبقي فيها اثنتان وعشرون سنة وفي عام (1270) رجع إلى قضاء شقراء، وقد توفي في السابع من جمادي الأولى سنة (1282) وله من المؤلفات، مختصر بدائع الفوائد للإمام ابن القيم، وكتب حاشية نفيسة على شرح المنتهى، جاءت في مجلد ضخم، وله لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، انظر مشاهير علماء نجد عبد الرحمن بن عبد اللطيف (176 - 178).

معنى الطاغوت الذي أمرنا الله باجتنابه والكفر به، فأجاب بأن معنى الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب وتحبه، وقد دلَّ صريح القرآن على معنى الإله وأنه المعبود كما في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف: 28]. قال المفسرون هي كلمة التوحيد (لا إِلَهَ إِلا اللهُ) لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده، والمعنى جعل هذه الموالاة لله والبراءة من كل معبود سواه كلمة باقية في ذرية إبراهيم، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض وهي كلمة (لا إِلَهَ إِلا اللهُ) فتبين أن موالاة الله بعبادته والبراءة من كل معبود سواه، هو معنى لا إله إلا الله (¬1) اهـ. وعلى ذلك فمن أباح الشرك، أو تولى المشركين، وذب عنهم، أو عادى الموحدين، وتبرأ منهم فهو ممن أسقط حرمة (لا إِلَهَ إِلا اللهُ) ولم يعظمها ولا قام بحقها، ولو زعم أنه مسلم، وأنه من أهلها القائمين بحرمتها (¬2). ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن (¬3) في الآية المتقدمة إن ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (2/ 143). (¬2) المصدر السابق (9/ 325). (¬3) هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد سنة (1193) في بلدة الدرعية ونشأ بها وقرأ القرآن وحفظه وهو ابن تسع سنين ثم لازم حلق الذكر عند جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد توفي جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعمره ثلاث عشرة سنة، بعد ذلك تعلم على يدي كثير من العلماء الأجلاء ثم جلس لطلاب العلم يدرسهم علم التوحيد والفقه، وتولى قضاء الدرعية زمن الإمام سعود بن عبد العزيز وبعد سقوط الدرعية على يد إبراهيم باشا نقل الشيخ إلى مصر وذلك سنة (1233هـ) وبقي بمصر ثمان سنوات قضاها في طلب العلم والتعليم، ثمَّ عندما استولى تركي بن عبد الله على نجد عام 1240هـ كتب إلى الشيخ يطلب قدومه فقدم سنة (1241هـ) وتولى منصب قاضي الرياض، وتعلم على يديه خلق كثير توفي سنة (1285) وله عدة ردود على ابن جرجيس وعثمان بن منصور وعلى عبد الحميد الكشميري، وشرح كتاب التوحيد لجده محمد بن عبد الوهاب إلى غير ذلك من الرسائل والشروح. انظر: مشاهير علماء نجد تأليف عبد الرحمن بن عبد اللطيف (58 - 64).

الله عبَّر على لسان إبراهيم في قوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) عن معنى (لا إِلَهَ إِلا اللهُ) وعبر عن معنى قول (لا إِلَهَ إِلا اللهُ) بقوله: (إِلا الَّذِي فَطَرَنِي) فتبين أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى (¬1). ومثل ذلك ما ذكر الله عن أصحاب الكهف في قوله تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ) [الكهف: 16] ففي قوله: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ) معنى (لا إِلَهَ) وفي قوله: (إِلا اللهُ) هو المستثني في كلمة الإخلاص (¬2). ومثل ذلك أيضا قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (2/ 110). (¬2) انظر الدرر السنية (2/ 110).

أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64] ففي قوله (أَلا نَعْبُدَ) معنى (لا إِلَهَ) وفي قوله: (إِلا اللهُ) هو المستثنى في كلمة الإخلاص، فالولاء لله يتضمن البراءة من كل ما سواه (¬1) اهـ. وفي رسالة أخرى من عبد الرحمن بن حسن، وعلي بن حسين (¬2) وإبراهيم (¬3) بن سيف، إلى بعض الإخوان قالوا فيها: إن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، ولا يحصل ذلك إلا بالبراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا كما ذكر الله عن إمام الحنفاء عليه السلام في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) [الزخرف: 26، 27] ومن الأدلة على هذا المعنى قول الله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 78، 79] وقال تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة: 135] وقال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ¬

_ (¬1) الدرر السنية (2/ 120) (¬2) هو الشيخ علي بن حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولد بالدرعية وقرأ على علمائها وتولى القضاء بمدينة الدرعية في زمن سعود بن عبد العزيز وعندما استولى إبراهيم باشا على الدرعية فر المترجم له إلى عمان وقطر وأقام بها حتى تولى الإمام تركي ابن عبد الله فرجع إلى نجد وتولى قضاء حوطة بني تميم ثم نقل إلى قضاء الرياض وتوفي في آخر سنة (1257 هـ). انظر مشاهير علماء نجد (53). (¬3) هو الشيخ إبراهيم بن سيف من تلاميذ الشيخ عبد العزيز الحصين تولى القضاء في ناحية سدير من قبل الإمام عبد الله بن سعود وابنه الإمام فيصل بن تركي انظر مشاهير علماء نجد (164).

الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران: 67] وقال تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران: 95] وقال تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 14] وقال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 161]. وقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 120] وقال تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 123] وقال تعالى: (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [القصص: 87] وقال تعالى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الروم: 31] وقال تعالى: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يونس: 105]. فتأمل تلك الآيات، ثم انظر كيف أكد الباري جل وعلا على رسله والمؤمنين بأثنتي عشرة آية في البراءة من المشركين ومدحهم بتلك الصفة، وهذا كله يدل بلا ريب على أن الله أوجب على المؤمنين البراءة من كل مشرك، وأمر بإظهار العداوة، والبغضاء للكفار عامة، وللمحاربين خاصة وحرم على المؤمنين موالاتهم والركون إليهم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (2/ 128).

وهذه البراءة من الكفار هي حقيقة معنى «لا إله إلا الله» ومدلولها، لا مجرد قولها باللسان، من غير نفي لما نفته من صلة بالمشركين، ومن غير إثبات لما أثبتته من موالاة رب العالمين (¬1) فمعنى شهادة أن لا إله الا الله، نفي استحقاق العبادة -والولاء جزء منها- لغير الله عز وجل، مع إثبات هذا الاستحقاق لله وحده وهو ما دل عليه قول الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36]. فلا يكفي في تحقيق معنى الشهادة أن يعبد الإنسان ربه حتى يجتنب عبادة غير الله من جهة، وينفي استحقاق أي مخلوق لأي نوع من أنواع العبادة من دون الله، وهذا أمر متفق عليه ولا جدال فيه (¬2). فمن والى الكفار أو تولاهم فقد كفر، لأنه لم يحقق معنى لا إله إلا الله (¬3). وبناء على ذلك فإن الذين يتولون الكفار، ولا يعادونهم، لا يعبدون الله حق عبادته، وأنهم يشركون معه في العبادة غيره، إذ لو كانوا يعبدون الله حق عبادته لما أظهروا الرضا والمودة والمناصرة لأعداء الله وأعداء دينه من الكفار المشركين والمرتدين، فإن المسلم إذا دخل في طاعة الكفار، وأظهر المودة والموافقة لهم على الكفر، وأعانهم عليه بالمال أو السلاح أو الرجال، أو الرأي وأيدهم على ذلك، وقطع علاقته مع المسلمين، أو جعل صلته بالكفار تربو على صلته بالمسلمين، فقد خرج عن معنى لا إله إلا الله، وارتد عن الإسلام وكان حكمه الكفر، لأنه ¬

_ (¬1) المصدر السابق المكان نفسه. (¬2) انظر مجموعة التوحيد (25، 26). (¬3) انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (181، 182)

حينئذ يكون في عداد المشركين حكمًا وفعلاً، وهو لم يحقق معنى لا إله إلا الله، فينفي ما نفته، ويفعل ما أثبتته، وإن كان يقولها عشرات المرات، لأن القول الصادق يدل عليه العمل (¬1). وقد سئل مؤلف رسالة «أسباب نجاة المسئول من السيف المسلول» من قبل شخص ما قال في سؤاله: نحن نقول لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ولا تكفون عن قتالنا، والكفار والأولون، إذا قالوها كف عنهم وأنتم تقولون: إنكم تقولونها وتشركون فماذا نقول حتى تكفوا عنا، أفتونا مأجورين؟ فأجاب الشيخ بقوله: إن كلمة الإخلاص هذه قيدت بقيود ثقال حيث كان «إمام» الحنفاء عليه السلام لم يحصل له قول «لا إله إلا الله»، ولم تتم له المحبة والمولاة وهو إمام المحبين إلا بالمعاداة كما قال تعالى مخبرا عنه: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 75 - 77] فإنه لا ولاء إلا ببراءة ولا ولاء لله إلا بالبراءة من كل معبود سواه (¬2). وهذا هو معنى لا إله إلا الله كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف: 26 - 28] فأورثها إمام الحنفاء عليه السلام لأتباعه يتوارثها الأنبياء بعضهم عن بعض فلما بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أمره الله بقولها كما قالها أبونا إبراهيم عليه السلام فأنزل الله عز وجل بها سورة كاملة هي سورة الكافرون فأمره أن يقول: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} .. إلى قوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (181، 182). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (140).

دِينِ) وقد عرف المشركون ذلك حين دعاهم إلى قول لا إله إلا الله، قالوا: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص: 5]. فإن لا إله إلا الله، معناها النفي والإثبات، وحقيقتها الموالاة والمعاداة في الله (¬1) اهـ. القول الثاني: قول من توقف: هل الموالاة والمعاداة من معنى «لا إله إلا الله» أم لا؟ يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: إنه يجب على المسلم أن يعلم أن الله افترض عليه عداوة المشركين وعدم موالاتهم، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان، ونفي الإيمان عمن يواد من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب في النسب، وأما كون ذلك من معنى لا إله إلا الله أو من لوازمها، فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك، وإنما كلفنا بمعرفة أن الله فرض علينا ذلك وأوجبه وأوجب العمل به، فهذا هو الغرض الحتم الذي لا شك فيه، ومن عرف أن ذلك من معناها ولوازمها فهو حسن وزيادة خير (¬2) اهـ. وعلى هذا فالقول الثاني موافق للقول الأول من حيث المبدأ إلا أن الشيخ سليمان يرى أن البحث في هذا الموضوع لا يضيف شيئا جديدًا طالما الأمر ثابت وجوبه شرعًا، والذي يبدو لي أن كلا القولين صواب إلا أن في القول الأول زيادة توضيح للأدلة، وتأكيد لها وبيان لأهمية هذا الأمر ومقامه في الإسلام، والزيادة في توضيح النصوص الشرعية مقيدة عقلا وشرعا والله الهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (141). (¬2) المصدر السابق (50، 51)

المبحث الخامس: الموالاة والمعاداة في الله قولا وعملا

المبحث الخامس: الموالاة والمعاداة في الله قولاً وعملاً سبق أن ذكرنا أن الموالاة والمعاداة يقصد بهما إظهار الحب والبغض في الأقوال والأفعال والنوايا وهما بهذا الاعتبار ينقسمان إلى قسمين: القسم الأول: ما يتعلق بالقلب والوجدان كالمحبة والمودة (¬1) في الموالاة، والعداوة (¬2) والبغض في المعاداة. القسم الثاني: ما يتعلق بالفعل والقول، كالنصرة بالقوة، أو بالنفس أو بالمال أو بالرأي، في الموالاة، أو بذل القول والنفس والمال في المعاداة. ومن أجل ذلك فأساس هذه الرسالة يدور ويستند إلى عاطفة المحبة ¬

_ (¬1) المودة أخص من المحبة حيث إن المودة هي الحب الكثير، والحب المجرد من المودة يكون أقل من المودة بدرجة أو درجات متفاوتة. انظر المعجم الوسيط (1/ 151، 2/ 1031). (¬2) العداوة أخص من البغض، لأن كل عدو مبغض، وليس كل مبغض عدو انظر المحيط المحيد بطرس البستاني (2/ 1353) وما يليها.

والمودة، والعداوة والبغضاء، وما يترتب على تلك الأمور من أقوال وأفعال، حيث إن الأقوال والأفعال مبينة على العواطف ومترتبة عليها، ونابعة منها، سواء كانت العواطف حسنة أم سيئة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة ورغبة، ولكنها قد تكون محبة محمودة أو محبة مذمومة والمرجع في ذلك كله إلى عرف الشرح لا إلى عرف الناس» (¬1) اهـ. وقد يأخذ علينا بعض النقاد أن من سمات هذا البحث الظاهرة غلبة الناحية العاطفية فيه، وأنه يقل فيه الجدل المنطقي المبني على المقدمات والنتائج. وللإجابة على هذا التساؤل نقول: بأن الموالاة والمعاداة تنطلق في أساسها من عاطفة المحبة والمودة، أو البغض والعداوة ثم يترتبت على ذلك وينبني عليه أمور قولية وفعلية، فالأقوال والأفعال، مرتبطة بالعواطف ارتباط الفرع بالأصل. فمبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلى الإرادات والإرادات تقتضي وقوع الفعل والقول، فصلاح الأقوال والأفعال مرتبط بصلاح الخواطر والأفكار وفساد الأقوال والأفعال مرتبط بهما (¬2) قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (¬3). ولذلك عرف العلماء الإيمان بأنه «اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل ¬

_ (¬1) انظر التحفة العراقية لابن تيمية (35). (¬2) انظر الفوائد لابن القيم (173). (¬3) انظر فتح الباري (1/ 126).

بالأركان» (¬1) فبين هذه الجوانب ارتباط وتلازم لا يتحقق وصف الإيمان للمؤمن إلا بتحقق هذه الجوانب الثلاث. ذلك أن العبادة في الإسلام ليست كلمة تقال باللسان، وليست هي فقط الشعائر التعبدية وحدها من صلاة وصوم وزكاة، وحج كما يظن بعض الناس. إن النطق بالشهادتين، يقتضي العمل بموجبهما ليكون موحدًا من نطق بهما توحيدًا حقيقيًا، ومن مقتضيات شهادة التوحيد، الموالاة في الله والمعاداة فيه، فمن توجه بالولاء والمحبة والنصرة للكفار أينما كانوا فإن هذا نقض لشهادة التوحيد ولو ظل ينطقها مئات المرات. إن التوحيد يشمل كل حياة الإنسان وعمله وكل فكره ومشاعره وحتى خلجات النفس الداخلية التي قد يخفيها الإنسان داخل نفسه، ولا يبينها ولكنها لا تخفي على الله تعالى قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19] ويقول الله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163]. إن التوحيد لا يتم في حقيقة الواقع حتى تكون كل أعمال الإنسان وفكره ومشاعره مستقيمة على منهج الله مستمدة من وحي الله، وهذا يعني أن الإنسان يجب أن يكون معصوما من الخطأ ولكن الأخطاء تتفاوت فمنها ما يكون سهوا وخطأ ومنها ما يكون عمدًا وتهاونًا، ومنها ما هو من صغائر الذنوب، ومنها ما يكون كبيرًا من كبائر الذنوب، وقد يكون منها ما هو ردة وكفر، وذلك يختلف باختلاف الأفعال والنيات، ولكن التوجه بالمحبةوالمودة إلى الكفار والمشركين، وإقامة منهج الحياة والسلوك ¬

_ (¬1) انظر شرح الطحاوية (267).

على هذا الأساس، ردة كاملة لا شبهة فيها ولا غبار عليها، حيث إن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تمنع موالاة الكفار جملة وتفصيلا. فمحبة هوى النفس بغير التقيد بحب ما يحبه الله، أو بغض ما يبغضه الله، يعتبر شركا وكفرا بواحا، قال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة: 48]. وقال تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا) [المائدة: 77] وقال تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28]. وقال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان: 43]. فالموالاة الحقيقية لله، والمعاداة فيه، يجب أن تدور عليهما الأعمال الظاهرة، وتنتج عنهما، فالإيمان اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان (¬1). والحب في الله والبغض في الله من أسس الإيمان وركائزه العظام، والأعمال الظاهرة تصدق ذلك أو تكذبه، وقد ربط الله عز وجل المحبة بآثارها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة: 54] فصفة المحبين لله المحبوبين عند الله أنهم يكونون (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ¬

_ (¬1) انظر شرح الطحاوية (266).

وهي صفة مترتبة على المحبة في الله، فالمؤمن مع أخيه المؤمن، سمح، ودود، هين، لين، معين، مستجيب، فهي الأخوة التي ترفع الحواجز، وتزيل التكلف، وتختلط فيها النفس بالنفس، على محبة الله ومن أجل الحب في الله، وهذا الموقف مع المؤمنين على نقيضه موقف آخر مع الكفار، فالمؤمن فيه على الكفار شماس (¬1) وإباء (¬2) واستعلاء (¬3) وغلظة، فهي ليست العزة للذات، ولا الاستعلاء للنفس إنما هي العزة للعقيدة، والاستعلاء للراية التي يقف المؤمنون تحتها جميعا في مواجهة الكافرين في كل زمان ومكان (¬4) فعندما تصل المحبة في الله إلى ذروتها يصبح الجهاد في سبيله، والتضحية بالنفس والمال والأهل والعشيرة، من نتائج ذلك الحب وآثاره المشرقة. وقد شذ بعض أهل الكلام، في مسألة الإيمان هل هو قول وعمل أم لا؟ فقالت جماعة: بأن الإيمان هو تصديق القلب فقط، وقال الجمهور: بأن الإيمان قول وعمل وعلى هذا ففي المسألة قولان: القول الأول: قول الكرامية والجهمية، وأبي الحسين الصالحي أحد رؤساء القدرية أن الإيمان هو الإقرار باللسان أو التصديق بالجنان، وهذا القول ظاهر الفساد حيث إن المنافقين عند هؤلاء كاملي الإيمان ولازم قولهم أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فقول يترتب عليه مثل ذلك يعتبر ظاهر البطلان فلا يحتاج فيه إلى مناقشة أو جدل كلامي مع هؤلاء (¬5). القول الثاني: أما القول الثاني: وهو قول الجمهور، وهو أن الإيمان هو ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، وقد قال بذلك الإمام مالك ¬

_ (¬1) أي عسر في عداوته، شديد على من عاداه، وعانده السان العرب (2/ 358). (¬2) والإباء الامتناع والكراهية لسان العرب (1/ 11). (¬3) أي رفعة وشرف لسان العرب (2/ 874). (¬4) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب (6/ 775، 776). (¬5) انظر شرح الطحاوية (266).

والشافعي وأحمد والأوزاعي (¬1) وإسحاق (¬2) بن راهوية وسائر أهل الحديث وأهل المدينة وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين، حيث قالوا إن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان (¬3). وقد شذ بعض المعاصرين في هذا فقال لا يخرج من الملة إلا الكفر الاعتقادي (¬4) ثم يقول: (الأصل إنه لم يوجد دليل على أن المسلم قد نقض إيمانه فتظل القاعدة العامة بالحكم له بالإسلام بمجرد النطق باللسان أي الشهادة) (¬5) وعلى هذا القول: فإن الحكام الذين يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويحكمون بغير ما أنزل أنهم من المسلمين الذين تجب طاعتهم وموالاتهم ونصرتهم وعلى هذا القول أيضًا: إن الذين يلهبون ظهور المؤمنين بالسياط ويمزقون أجسادهم بوسائل التعذيب ويفرغون ما بجعبة بنادقهم في أجسامهم الطاهرة إن هؤلاء من عموم المسلمين وإنه يكفي لتكفير تلك السيئات مجرد النطق بالشهادتين دون العمل بمضمونها، إنه لا بد أن يفهم كل مسلم ويدرك كل مؤمن، أن هناك فرقا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بين المؤمنين الأبرار، والكافرين الفجار، بين أهل الطاعة وأهل المعصية، في المعاملة والتعامل معهم، فهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب الاعتناء به على المسلم فردا كان أو جماعة، أو دولة. ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي الدمشقي «أبو عمرو» ولد ببغداد سنة 88 هـ وأقام بدمشق ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطا إلى أن توفي بها سنة 157 هـ من آثاره: كتاب السنن في الفقه، والمسائل في الفقه. انظر، معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (5/ 163). (¬2) هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن عبد الله المعروف بابن راهويه «أبو يعقوب» ولد سنة 161 هـ وأصبح محدثا فقيها رحل إلى الحجاز وله مع الشافعي مناظرة في بيوت مكة، توفي سنة 237هـ من تصانيفه المسند، وكتاب التفسير انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (2/ 228). (¬3) انظر شرح الطحاوية (266). (¬4) انظر الحكم وقضية تكفير المسلم/ سالم علي البهنساوي (45). (¬5) المصدر السابق (54).

لأنه قد دخل بسبب المساواة في التعامل بين الأخيار والأشرار، من الكفر والفسوق والعصيان ما يعلمه إلا الله في بلاد المسلمين، حتى صار منهم معاونين لأهل البغي والفساد، ظنا منهم أنهم إذا كانت لهم أحوال من الصلاح في تأدية بعض شعائر العبادة فإن ذلك يكفي عن أعمال القلب والجوارح في مسألة الحب في الله والبغض فيه، وما علم أولئك أن الله قد فرق بين أهل طاعته وأهل معصيته، على أساس أعمالهم، قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية: 21] وقال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم: 36] وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص: 28] فقرن تعالى في الآية الأولى والأخيرة بين الإيمان والعمل وبين اختلاف العمل بينهما ثم بين نتيجة كل عمل ومآله. والإيمان يزيد وينقص، والعمل تابع له في ذلك، فمن الأعمال ما يزيد الإيمان بها، ومنها ما تنقصه حتى ينتهي الإنسان إلى الكفر والردة أعاذنا الله من ذلك. فإيذاء المسلم بالقول والعمل سبب في نقص الإسلام أو نفيه بالكلية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (¬1). وقد سأل الشيخ حسين والشيخ عبد الله أبناء الشيخ محمد -رحمهم الله- عمن قال: لا أتعرض لمن قال: لا إله إلا الله ولو فعل الكفر والشرك وعادى دين الله. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم (1/ 65) كتاب الإيمان.

فأجابا: بأن هذا وأمثاله لا يكون مسلما (¬1) بل هو ممن قال الله فيهم: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) [النساء: 151]. وقال الحسن البصري (¬2) رحمه الله: «ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل» (¬3) وذلك أن الله تعالى يقول: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10] اهـ. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ليس المراد بقول لا إله إلا الله قولها باللسان مع الجهل بمعناها، وترك العمل بمقتضاها فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع أنهم يصلون ويتصدقون. ولكن المراد بقولها مع معرفة القلب لمعناها ومحبته لها، ومحبة أهلها وبغض من خالفها ومعاداته (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (284) وانظر الدرر السنية (8/ 112). (¬2) هو الحسن بن يسار البصري، تربى في بيت النبوة فقد ولد سنة (21) بالمدينة ونشأ بها في كنف علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد خرجت به أمه يوما إلى الصحابة رضي الله عنهم وكان ممن دعا له عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس، سكن البصرة وكان مثالا للعالم المتبحر المتجرد الصدوق المخلص، وكان له مواقف مع الحجاج وابن هيبرة وغيرهم من الولاة وله مواعظ جمة جمع فيها بين جزالة اللفظ وقوة المعنى وحسن الإيجاز توفي ليلة الجمعة من غرة رجب سنة 110. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 128، 129). وانظر: صور من حياة التابعين د/ عبد الرحمن رأفت الباشا (2/ 6 - 36). (¬3) انظر مجموعة التوحيد (24، 25). (¬4) انظر مجموعة التوحيد (108).

ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إنه لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى: «لا إله إلا الله ومقتضاها» (¬1) اهـ. ويقول الشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المسلم ليقول في اليوم والليلة أكثر من سبع عشرة مرة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 6، 7] ولكنه مع ذلك قد يكون من المغضوب عليهم ومن الضالين بلسان حاله وفعاله (¬2) اهـ. ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (إن الناس ثلاثة أصناف، منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون). فالمغضوب عليهم، أهل علم ليس معه عمل، والضالون أهل عبادة ليس معها علم، والآيات وإن كان سبب نزولها في شأن اليهود والنصارى فهي عامة لكل من اتصف بذلك الوصف، ما عدا صفة المؤمنين، وهي الجمع بين العلم والعمل (¬3) اهـ. وقال الشيخ إسحاق (¬4) بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: إن مجرد الإتيان بالشهادتين من غير علم بمعناهما، ولا عمل بمقتضاهما لا يكون به المكلف مسلما، بل هو حجة عليه، خلافا لمن زعم أن مجرد الإقرار كاف بذلك، كالكرامية، أو مجرد التصديق كاف في دخول الإنسان ¬

_ (¬1) المصدر السابق المكان نفسه. (¬2) انظر التحفة العراقية لابن تيمية (41). (¬3) انظر مجموعة التوحيد (20). (¬4) هو الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ولد بمدينة الرياض (1276) ونشأ بها وأخذ العلم عن أخيه عبد اللطيف وعن جمع من العلماء ورحل إلى الهند سنة (1309) وأخذ عن علماء الهند ثم رجع وأخذ عنه العلم وجمع من طلاب العلم وله بعض الردود القصيرة توفي في شهر رجل سنة (1319) بمدينة الرياض انظر مشاهير علماء نجد عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله (95).

في مسمى الإسلام، كالجهمية ونحوهم، وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وأكد على كذبهم مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات (¬1). قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون: 1] وقال تعالى في عاقبتهم رغم نطقهم وادعائهم الإيمان: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 145]. ومن هذا يتضح أن مسمى الإيمان لا بد فيه من التصديق والعمل وأن من شهد أن لا إله إلا الله، وعبد غيره، لا شهادة له، وإن صلى وزكى، وصام وزعم أنه مسلم. لأن الكفر نوعان: 1 - كفر مطلق. 2 - كفر مقيد. فالكفر المطلق: هو الكفر بجميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والكفر المقيد: هو أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى أن بعض العلماء كفروا من أنكر فرعا مجمعا عليه كتوريث الجد أو الأخت، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم (¬2)، فكيف بمن يبيح الحرمات، أو يقر بوجودها مع علمه بها، كالربا، أوالزنا، أو الخمر؟ ثم كيف حال من يستبيح لنفسه أو لغيره قتل النفوس المؤمنة ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 261). (¬2) انظر الدرر السنية (1/ 261).

البريئة ويسعى في محاربة الله ورسوله والمؤمنين، عبر وسائل متعددة وأجهزة مختلفة، يعادي أولياء الله ويطاردهم، ويوالي أعداء الله ويقربهم، ثم يضحك على البسطاء بالتمسح بظاهر الإسلام، وهو من أشد وألد الأعداء للإسلام والمسلمين. ولقد أجمعت الأمة الإسلامية على كفر (بني عبيد الله المهدي) المسمين ببني عبيد القداح، مع أنهم يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويبنون المساجد في قاهرة مصر، وغيرها من المدن المصرية، وقد ذكر أن ابن الجوزي (¬1) صنف كتابا في وجوب غزوهم، وقتالهم سماه النصر على مصر نظرا لما ارتكبه هؤلاء من بدع وضلالات (¬2). وقد أجمع الصحابة رضي الله عنه أن من أقر بنبوة مسيلمة الكذاب أنه مرتد، ولو بقي ينطلق الشهادتين، وأن من يشك في ردته فهو كافر (¬3). وقد عدوا من أصناف المرتدين الفجأة السلمي حيث وفد على أبي بكر رضي الله عنه وذكر أنه يريد قتال المرتدين فأمده أبو بكر بالسلاح والرواحل، فاستعرض السلمي المسلم والكافر، يقتل من لقى منهم ويأخذ ماله، فوصل الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه فجهز جيشا لقتاله، فلما أحس السلمي بالجيش قال لأمير الجيش: أنت أمير أبي بكر وأنا أميره ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي التميمي البكري البغدادي، الحنبلي المعروف بابن الجوزي جمال الدين أبو الفرج محدث، حافظ مفسر فقيه واعظ أديب، مؤرخ مشارك في أنواع العلوم، ولد ببغداد سنة (510) وتوفي بها ودفن بباب حرب بلغت مؤلفاته مائة واثنين وتسعين مؤلفًا في مختلف العلوم والمعارف. انظر: زاد المسير في علم التفسير (1/ 21 - 31). وانظر: معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (5/ 157). (¬2) انظر الدرر السنية (1/ 262). (¬3) انظر مجموعة التوحيد (25).

ولم أكفر، فقال أمير الجيش إن كنت صادقا فألق السلاح فألقاه فبعث به قائد الجيش إلى أبي بكر فأمر بتحريقه بالنار وهو حي (¬1). فإذا كان هذا حكم الصحابة رضي الله عنهم في هذا الرجل مع إقراره بأركان الإسلام، فما ظنك بمن لم يقر من الإسلام بكلمة واحدة سوى قول لا إله إلا الله بلسانه في بعض المناسبات، مع تكذيبه لها بأفعاله (¬2) وقد قال أحد رجال البادية عندما قدم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فسمع منه التوحيد، وعرف ما كان عليه قومه من الشرك، قال: أشهد أن قومي كفار، وأن مطوعهم الذي يسميهم أهل الإسلام أنه كافر (¬3) فأطلق على قومه وعلى إمامهم الكفر رغم أنهم يؤدون الشهادتين مع ثباتهم على لفظها، ولكنه أدرك بالفطرة السليمة أنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وهو الشرك، فقال فيهم ما قال، وقد أقره على ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله نظرا لما كانوا متمسكين به من بدع وانحرافات تؤدي بالمتمسك بها إلى الشرك. والنطق بالشهادتين لا يكفي للكف عن قتال من لم يمتثل ببقية أركان الإسلام وواجباته بدليل قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ) [البقرة: 193] وقوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ) [الأنفال: 39] قال المفسرون في معنى فتنة كفر وشرك (¬4) ومعنى قوله: (وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ) وقوله: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ) أي: يكون ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (26). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (26). (¬3) المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) انظر تفسير القرطبي (2/ 353، 354) وانظر مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني (1/ 170).

دين الله هو الظاهر العالي على سائر الشرائع والأنظمة، في كافة وجوه الحياة (¬1). وقد أطلق الله عز وجل، على تارك الحج بدون عذر الكفر، قال تعالى: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97] وقد قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة وهم يقولون لا إله إلا الله، ولكنهم حين امتنعوا عن دفع الزكاة أصبح نطقهم لها لا تأثير له عليهم، في عصمة الدم والمال، ولا في اعتبارهم من أهل الإسلام (¬2) قال تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة: 5] فبين سبحانه وتعالى أنه لا يخلى سبيلهم حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ولم يكتف بالنطق بالشهادتين، ووافق ما دلت عليه هذه الآية، الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (¬3). ومما تقدم يتبين أن المسلم إذا حدث منه قول أو فعل أو اعتقاد يناقض أركان الإسلام وأصوله، لم ينفعه مجرد النطق بالشهادتين، كما قال تعالى للذين تكلموا بالكلام السيئ في غزوة تبوك: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 66]، وقال تعالى عن المنافقين: (يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [التوبة: 74]. ¬

_ (¬1) المصدرين الساقين المكان نفسه. (¬2) انظر مجموعة التوحيد (145، 146). (¬3) انظر صحيح مسلم (1/ 53).

فدلت الآية على أن المنافقين كفار في الواقع وإن كانوا في الظاهر يتظاهرون بالإسلام، ودلت أيضا على أن الكفر يكون بكل ما ينقض التصديق والمعرفة بلا إله إلا الله، إلا ما ورد التخصيص بكونه لا يخرج من الإسلام كبعض الذنوب، ما لم يستبح الإنسان فعل ما حرم الله، فمن أباح المحرم أو حرم المباح، فقد كفر بما أنزل الله على رسوله، حيث يعد فعله هذا استدراك على الله وتجهيل للبارئ عز وجل فيما شرع وأنزل، وهذا من أشد أنواع الكفر وأقبحها (¬1). فإذا كان في هاتين الآيتين المتقدمتين تكفير لأناس ينطقون بالشهادتين، ويؤدون أركان الإسلام، ويخرجون للجهاد فيه، وبمجرد قولهم لكلمات قليلة في الباطل، حكم الله عليهم بالكفر، فأين موقع أهل زماننا الذين جعلوا السخرية بالدين وأهله مادة لهم في صحفهم، وإذاعاتهم، ووسائل أعلامهم عامة، ولم يكتفوا بذلك، بل شنوا حرب الإبادة والتنكيل على كل مسلم غيور، وحاصروه في كل صقع من أصقاع الأرض، إن تلك الأدلة المتقدمة سقناها إلى الذين يحسبون الإسلام تمتمات جوفاء وهمهمات خاوية ناسين أو متناسين أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقة العمل (¬2). وحول هذا المعنى يقول الشاعر سليمان بن سحمان الدوسري ما يلي: أو ما ترى أن القلوب إذا امتلت ... حبا وإيمانا لها أنوار ولها بذلك غيرة فتغار من ... رؤيا المعاصي والسعيد يغار إظهار هذا الدين تصريح لهم ... بالكفر إذ هم معشر كفار وعداوة تبدو وبغض ظاهر ... يا للعقول أما لكم أفكار ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (8/ 207). (¬2) انظر في هذا المعنى كتاب الإيمان وأثره في نهضة الشعوب يوسف العظم (19).

هذا وليس القلب كافٍ بغضه ... والحب منه وما هو المعيار لكنما المعيار أن تأتي به ... جهرا وتصريحا لهم وجهار (¬1) ¬

_ (¬1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان (76، 77).

المبحث السادس: حكم موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين

المبحث السادس: حكم موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين إن الحكم على الأشياء لا يستند إلى قضايا اجتهادية ظنية وإنما يشتق من أدلة قطعية، ونصوص ثابتة، من الكتاب والسنة، وقد دل الكتاب والسنة على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين. قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 55، 56]. قال ابن سعدي وغيره في تفسير هذه الآية: إن الله عز وجل نهى عن ولاية الكفار، من اليهود والنصارى وغيرهم من باب أولى، وذكر أن مآل توليهم هو الخسران المبين في الدنيا والآخرة، وأخبر تعالى عن الذين يجب ويتعين علينا توليهم دون غيرهم فقال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ

وَالَّذِينَ آمَنُوا) فكل من كان مؤمنا تقيا، كان لله وليًا، ومن كان لله وليا، فهو ولي لرسوله والمؤمنين. ومن تولّ الله ورسوله، كان تمام ذلك تولي من تولاه الله ورسوله وهم المؤمنون، الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا، وأخلصوا للمعبود بإقامتهم لواجبات الإسلام. وقد أفادت أداة الحصر في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أنه يجب قصر الولاية على من ذكرهم الله تعالى في الآية والتبري من ولاية غيرهم (¬1) اهـ. قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71]. يقول سيد قطب رحمه الله في هذه الآية: إن القرآن الكريم يأمر المسلم ويرشده إلى وجوب إخلاص ولائه لربه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولعقيدة الإسلام، وجماعة المسلمين، وعلى ضرورة المفاصلة الكاملة بين الصف الإسلامي الذي يقف فيه المؤمن، وبين كل صف لا يرفع راية الإسلام ولا يتبع قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا ينضم إلى حزب الله، إن موالاة الفرد ومحبته لغير الجماعة المسلمة معناه الارتداد عن دين الله، والنكول عن طريق الإسلام، الوقوفع في دائرة أولياء الشيطان، أعاذنا الله من ذلك (¬2) اهـ. وعن موالاة الكفار بعضهم لبعض، وعدم جواز دخول المؤمنين معهم ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن سعدي (2/ 311) وانظر تفسير القرطبي (6/ 221) وانظر زاد المسير في علم التفسير عبد الرحمن بن الجوزي (2/ 383) وانظر مختصر تفسر ابن كثير محمد علي الصابوني (1/ 528) وانظر فتح القدير (2/ 53). (¬2) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (6/ 756).

في الموالاة، يقول الله تعالى مخبرا عن ذلك: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73]. فأشار سبحانه وتعالى إلى قطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين وأن الكفار بعضهم أولياء بعض، كما أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض وهذه حقيقة ثابتة لا يشك فيها إلا مرتاب، فهل يمكن أن يرفع علم الجهاد ويدحر أهل البغي والفساد، وأن يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بدون الحب في الله والبغض في الله، وبدون الموالاة في الله والمعاداة فيه؟ إنه لو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن هناك فرق بين أهل الحق وأهل الباطل، ولا بين المؤمنين والكافرين، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (¬1). وعلى هذا فلا بد أن يكون للمؤمن أعداء يبغضهم في الله، وأولياء يحبهم في الله، لأن الأرض لا تخلو من أعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين، فما خلت منهم زمن الرسل والأنبياء، فكيف بأزمان الفتنة في آخر الزمان؟ قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: 122] فالدنيا هي دار الصراع بين الحق والباطل وابتلاء الأخيار، بالأشرار، والمؤمنين بالفجار. أما الدار الآخرة فهي الدار التي لا معاداة فيها ولا بغضاء، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47]. ¬

_ (¬1) انظر: مجموعة التوحيد (117، 118).

أما الدنيا فلا بد فيها من محبة المؤمنين وعداوة الكافرين، فقد ورد في الأثر أن الله أوحى إلى نبي من الأنبياء، أن قل لفلان العابد: أما زهدك في الدنيا فتعجلت راحة نفسك، وأما انقطاعك إليّ فتعززت به، ولكن هل عاديت في عدوا، وواليت في وليا؟ (¬1)، وقال عبد الله (¬2) بن عمر رضي الله عنهما «لو صمت النهار لا أفطر، وقمت الليل لا أنام، وأنفقت مالي علقا علقا في سبيل الله، ثم أموت وليس في قلبي حبا لأهل طاعته، وبغضا لأهل معصيته، ما نفعني ذلك شيئًا» (¬3) اهـ. وقال الفضيل (¬4) بن عياض في بعض كلامه: هاه! تريد أن تسكن الفردوس، وتجاور الرحمن في داره مع النبيين، والصديقين والشهداء والصالحين، بأي عمل عملته؟ بأي شهوة تركتها؟ بأي غيظ كظمته؟ بأي رحم قاطعة وصلتها؟ ثم قال: بأي قريب باعدته في الله؟ بأي بعيد قربته في الله (¬5) اهـ. ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (117). (¬2) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي أسلم مع أبيه صغيرا، وهو لم يبلغ الحلم ولم يشهد بدرا لصغر سنه، وأول مشاهده الخندق وشهد غزوة مؤتة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا، وشهد اليرموك وفتح مصر وأفريقية توفي عبد الله بن عمر سنة (73 هـ) وهو ابن اربع وثمانين سنة انظر أسد الغابة لابن الأثر (3/ 227، 231). (¬3) انظر فضيلة الألفة والأخوة مخطوطة بجامعة الرياض برقم (1605) الورقة (70) المؤلف غير معروف كتبت تقريبا في القرن التاسع الهجري. (¬4) هو الفضيل بن عياض أبو علي التميمي أحد الأئمة العباد الزهاد ولد بخراسان بكورة دينور، وقد الكوفة وهو كبير، ثم انتقل إلى مكة فتعبد بها، وكان حسن التلاوة وكثير الصلاة والصيام، وكان له مع الرشيد قصة حيث دخل الرشيد عليه منزلة وأعطاه المال فرفض ذلك، توفي في مكة في شهر محرم سنة (187 هـ) انظر البداية والنهاية لابن كثير (10/ 198، 199). (¬5) انظر فضيلة الألفة والأخوة، مخطوطة بجامعة الرياض برقم (1605) الورقة (78) المؤلف غير معروف، كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبًا.

وكون المسلم يستشعر دائما عداوة الكفار، والمنافقين والمرتدين ليس معنى ذلك أن يعيش في كآبة وحزن وضجر وضيق ومعاناة طيلة حياته نتيجة مشاهداته لأعمال أهل الكفر واختلاطه بالكفار، وإنما المقصود من عداوة الكفار وإضمار العداوة لهم وملازمة هذا الشعور نحوهم، هو أن يتحول الشعور بعداوتهم إلى عمل مثمر بناء، وذلك بالسعي الجاد لإخراج من يريد الله هدايته من صف الكفار إلى صف أهل الإسلام، بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والأسوة الكريمة، ومن رفض قبول الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وجب مع استعمال الأسلوب الثاني من أساليب الدعوة وهو الجهاد، الذي شرعه الله بتحرير العقول من أن نستبعد لغير خالق العباد. فمعاداة الكافرين في الإسلام وسيلة لشحذ الهمم في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وهي كذلك وسيلة لمحافظة المسلم على خصائص الإسلام ومميزاته، فلا يتأثر بنظم الكفر وتصوراته الجاهلية نظرا لما يكنه لأولئك ولنظمهم من موقف عدائي بخلاف ما لو فقد الشعور نحوهم بالبغض والعداوة فإنه عندئذ يستحسن أقوالهم وأفعالهم ويتأثر بهم وهذا أمر مشاهد وتجربة ماثلة للعيان، فالذي يجاري الكفار في بعض الأمور ويقلدهم في أقوالهم، وأفعالهم أقل عداوة وبغضا لهم، ممن يفاصلهم مفاصلة تامة. فالشعور بالعداء نحو الأعداء ليس عملا سلبيا، إذا أحسن استغلاله في إطار أمة منظمة ملتزمة بعقيدة ومنهج معين. ولذلك شواهد من التاريخ الواقعي. فالصليبيون في الأندلس ظلوا يضمرون العداء للمسلمين طيلة ثمانية قرون من الزمن حتى تغلبوا على المسلمين وأبادوهم إبادة تامة وفر من فر من البقية الباقية إلى شمال أفريقيا، فلم تمت عداوتهم للمسلمين طيلة هذه القرون العديدة ولم يذوبوا أو ينصهروا مع المسلمين، وعندما هجم

الصليبيون واستولوا على الشام والقدس قرابة قرنين من الزمن، لم تخمد نار العداوة لهم في قلوب المؤمنين، حتى هيأ الله لهم الخلاص على يد صلاح الدين الأيوبي، واليهود الذين يستحلون فلسطين اليوم وعلى رأسها القدس لم يفعلوا ذلك إلا عداوة للمسلمين وحقدا عليهم وتشفيا منهم، فشعورهم بالعداء نحو المسلمين، جعلهم عبر ثلاثة عشر قرنا يبحثون عن الفرصة السائحة التي ينقضون فيها على المسلمين فيذلونهم كما دمر المسلمون أسلافهم وقد قالوا ذلك عندما استلوا على القدس عام (1387هـ 1967) يوم بيوم خيبر، يا لثارات خيبر محمد مات وخلف بنات (¬1). والجنرال الصليبي غورو، عندما تغلب على جيش ميسلون خارج دمشق توجه فورا إلى قبر صلاح الدين الأيوبي عند الجامع الأموي وركله برجله القذرة وقال له ها قد عدنا يا صلاح الدين (¬2) اهـ. فكيف يكون أهل الباطل محتفظين بعداوتهم للإسلام والمسلمين عشرات القرون مستغلين كل الطرق والوسائل الظاهرة والخفية لترجمة هذه العداوة إلى عمل واقعي مشهود في دنيا الإسلام والمسلمين، أما المسلمون وللأسف الشديد فإنهم سريعا ما ينسون اليد التي تصفعهم والقدم التي تركلهم (نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19]. إن تهاون بعض المسلمين في واجب الموالاة والمعاداة في الله ليس بنتيجة لجهلهم بحكم موالاة المؤمنين، أو معاداة الكافرين، إنما الباعث الحقيقي على ذلك هو تقاعسهم عن تأدية الواجب الشرعي في ذلك حيث قد تكون مصالحهم أو أهواؤهم متعارضة مع أوامر الله في الموالاة أو ¬

_ (¬1) انظر قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله تأليف جلال العالم (9، 15، 29). (¬2) انظر القومية والغزو الفكري تأليف محمد جلال كشك (84).

المعاداة كما هو الحال في واقع معظم الناس اليوم الذين يحبون للدنيا ويبغضون للهوى، بعيدا عن مجال الحب في الله والبغض فيه، إن الحب في الله والبغض فيه، هو الحب والبغض الذي يتعدى العلاقات الأجبارية من علاقة العمل أو الجوار أو النسب، فالإنسان قد يحب أحدا من هؤلاء لمصلحة دنيوية فقط، أو لتوافق الطباع السيئة بينهما كما قد يكره أحدا من هؤلاء للمصلحة دنيوية، أو لاختلاف النفوس والرغبات بينهما، وهذا النوع من الحب والبغض وإن كان هو السائد في مجتمعنا المعاصر فهو ليس من قبيل الحب في الله، أو البغض فيه. فالحب في الله والبغض فيه، أوسع دائرة من ذلك كله فهو حب وبغض على مستوى العالم أجمع، وعلى مستوى الحياة كلها فالحب في الله هو حب أهل الإيمان في أي زمان ومكان، وموالاتهم ومناصرتهم على ذلك. والمعاداة في الله هي معاداة وبغض أهل الكفر والعصيان في كل زمان ومكان ومما تقدم عرضه يتضح أن من أحب في الله، فلا بد أن يبغض في الله فإذا أحببت عبدا لأنه مطيع لله، ومحبوب عند الله فلا بد أن تبغض الضد وتعاديه وذلك أمر لا يحتاج إلى جدال، لأن المتضادات لا يوجد أحدها إلا بانتفاء الآخر, والحب والبغض من الأمور التي فطرت عليها النفس البشرية فلا يخش على الناس من تلاشى هاتين الصفتين، أو إحداهما ولكن الخطر الحقيقي يكمن في صرف تلك الصفتين عن إطارهما الصحيج، وما يجب أن يستخدما فيه من حب في الله وبغض في الله، إلى الحب المزيف والبغض المزيف كما هو شأن أهل الجاهلية قديمًا وحديثًا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر (37 - 46) من هذه الرسالة.

وحيث تقرر بما لا يدع مجالا للشك، وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين، فقد أكد الله على ذلك، وجعل هذا الأمر من سمات المؤمنين العملية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة: 54] وقال تعالى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29]. قال بعض المفسرين: إن من يتول الكفار منكم أيها المسلمون فيرتد بالموالاة لهم، فليعلم أن الله تعالى، يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه. وقال الحسن: علم الله تعالى أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد دخولهم فيه، بسبب موالاتهم للكفار، فأخبر هؤلاء بأنه سبحانه وتعالى غني عنهم، وأنهم لن يضيروا (¬1) الإسلام شيئا بنكولهم عنه، حيث إنه تعالى سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وأن هؤلاء بردتهم تلك لن يضروا سوى أنفسهم، بحرمانها من منهج الحق والصواب. وقد وصفت آية المائدة السابقة المؤمنين المحبوبين عند الله المحبين له بأنهم أذلة أي: جمع ذليل؛ لأن ذلول والذل نقيض الصعوبة لا يجمع على أذلة، وإنما يجمع على ذلل، وليس المراد أنهم مهانون عند المؤمنين بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب، فإن من كان ذليلا عند إنسان فإنه لا يظهر الكبر والترفع عليه ألبتة. ولتضمن الذل معنى الحنو والعطف، وعدي بعلى دون اللام، كأنه ¬

_ (¬1) يضيروا بمعنى: يضروا، لسان العرب (2/ 559).

قيل عاطفين عليهم، والمراد أنهم مع شرفهم واستعلاء حالهم، واستيلائهم على المؤمنين، خافضون لهم أجنحتهم، ليضموا إلى شرف منصبهم فضيلة التواضع أعزة على الكافرين، أي يظهرون الغلظة والترفع على من كفر بالله، قد اجتمعت هممهم وانعقدت عزائمهم، على معاداة أهل الكفر وحربهم، وبذلوا كل جهد يحصل به الانتصار عليهم (¬1). وقد: أكد الله هذا المعنى بعدد من آيات القرآن الكريم منها قول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة: 123]. وقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 73] فهذه الآيات وغيرها مما تقدم فيها الدليل القاطع على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، وأن ذلك من مطالب الإسلام ومقاصده الأساسية. إن أهم ما يميز المسلم عن غيره، هو الولاء في الله، فلا الصلاة ولا الزكاة ولا الحج ولا الصوم، ولا غير ذلك من أعمال الإسلام تجعل المسلم مستقيم الإسلام، إذا نقض ولاءه لله وجماعة المسلمة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (115) وانظر تفسير القرطبي (6/ 220) وانظر (16/ 292، 293) من الكتاب نفسه، وانظر زاد المسير في علم التفسير (2/ 381، 382) وانظر (7/ 445) من الكتاب نفسه، وانظر مختصر تفسر ابن كثير للصابوني (1/ 527) وانظر (3/ 355) من الكتاب نفسه، وانظر تفسير ابن سعدي (2/ 308) وانظر (7/ 110، 111) من الكتاب نفسه وانظر فتح القدير للشوكاني (2/ 21) وانظر حاشية تفسير الطبري (6/ 162) (1 المطبعة الأميرية). (¬2) رواه أحمد بهذه الزيادة وهي وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم روى البخاري الحديث بدون هذه الزيادة، انظر فتح الباري (13/ 5)، وانظر مسند الإمام أحمد (4/ 202).

ولذلك فإننا نلاحظ أن كل مرة ذكرت فيما كلمة حزب الله في القرآن الكريم، إنما ذكرت بجانب الولاء مقيدة فيه مما يدل على أن الولاء لله عز وجل هو الميزان الذي يوزن به إيمان الإنسان بالله، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56] وقال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22] فهاتان الآيتان، بينتا أنه لا يكون الإنسان من حزب الله إلا إذا حرر ولاءه ومودته فلم يعطهما لعدو الله، مهما كان نوعه، بل الواجب على كل مسلم أن يعطي ولاءه لله ورسوله والمؤمنين بهذا الدين وهذه هي الصفة الأولى للمؤمنين قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) [التوبة: 71] فلا ولاء في الإسلام إلا على أساس هذا الدين، ومنطلقاته النظرية والعملية، وكل آصرة جاهلية يعطي الناس ولاءهم على أساسها هي آصرة باطلة فاسدة. فآصرة العمل التي يجتمع عليها الشيوعيون ويتآخون عليها هي آصرة باطلة شرعا وفاسدة عقلا وواقعا، وآصرة القومية التي يتآخى عليها القوميون العرب أو العجم أو الأكراد أو البربر أو الأتراك أو غيرهم هي آصرة باطلة شرعا حيث يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]. وآصرة الوطنية التي يلتقي عليها دعاة الوطنية غير معتبرة شرعا.

وفاسدة عقلا، وآصرة الإنسانية التي يروج لها دعاة المأسونية غير معتبرة شرعا وفاسدة عقلا وواقعا. فالمسلم الذي يعطي ولاءه لتلك الروابط الجاهلية لم يعد مسلما حيث إن الله يأبى علينا نحن المسلمين أن نعطي ولاءنا إلا لمن يرتبط معنا برباط الإيمان والإسلام قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة 4] فالموالاة على أية آصرة من الأواصر غير آصرة الإسلام باطلة في الشرع والعقل ومخرجة لصاحبها عن الإسلام، فمتى أعطى المسلم ولاءه للكافرين فقد صار منهم قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73] ومتى أعطى المسلم ولاءه للمنافقين صار منهم قال تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة: 67] وإذا أعطى ولاءه للمؤمنين صار منهم إذا أدى حتى الإيمان قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة: 54]. فقد ورد النص القرآن الكريم في استعمال أداة الحصر إنما التي تحصر الحكم فيما بعدها، مما يفيد أن المؤمنين المتصفين بهذه الصفات هم وحدهم الذين تجب موالاتهم دون غيرهم من أصناف الكفار (¬1) وعلى هذا فإن المسلم يجب عليه وجوبا شرعيا أن يناصر المسلمين ويهتم بأحوالهم ويشاركهم في آمالهم وآلامهم مشاركة مادية ومعنوية حيث اتفق ¬

_ (¬1) انظر كتاب جند الله ثقافة وأخلاقا تأليف/ سعيد حوى (172 - 175).

العلماء على أنه إذا أسر مسلم من قبل الكفار فإنه يجب على المسلمين جميعا إنقاذه (¬1). فكيف إذا كانت شعوبا بأكملها تحت أسر الكفار وسيطرتهم أفلا يكون الواجب أعظم وألزم أيها الإخوة في الله. ¬

_ (¬1) انظر فتح القدير (5/ 191) وانظر البحر الرائق (5/ 72) وانظر نهاية المحتاج (8/ 58).

المبحث السابع: موالاة أهل الحق تستلزم معاداة أهل الباطل

المبحث السابع: موالاة أهل الحق تستلزم معاداة أهل الباطل يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: اعلم رحمك الله تعالى أن أول ما فرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والدليل قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36]. فأما صفة الكفر بالطاغوت، أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم. وأما معنى الإيمان بالله أن تعتقد أن الله هو المعبود وحده، دون سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم، وهذه ملة إبراهيم التي سفه نفسه من رغب عنها، وهذه هي الأسوة الحسنة التي أخبر الله بها في قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ

مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4] اهـ. وهذه الآيات وغيرها، تدل على أن الإنسان لا يصير مؤمنا بالله إلا بالكفر بالطواغيت ومعاداتهم، ومعاداة كل الصفات الطاغوتية وأهلها ومن يروج لها من أهل الردة والنفاق وتجار الألسن وفاقدي الضمير. إنه لا يمكن أن يستقر في قلب واحد، الإقرار بالتوحيد وأنه دين الله، ثم يعاديه، ويعرف أن الشرك هو الكفر ثم يواليه ويذب عنه، وعن أهله باللسان والمال والسنان فهذا الفعل من أعظم الذنوب وأكبر الآثام (¬1). قال تعالى: (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَت لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنهُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة: 80، 81]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في هذه الآيات بيان من الله سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل إليه يقتضي عدم ولاية الكفار، فثبوت موالاتهم، يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم (¬2) اهـ. فالبراءة من الشرك تقتضي البراءة من المشركين والبراءة من الأوثان تقتضي البراءة من عابديها قال تعالى: (إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الممتحنة: 4] الآية فقدم الباري عز وجل البراءة من المشركين على ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 96). (¬2) مجموعة التوحيد (259).

البراءة من الأوثان المعبودة، ومثل ذلك قول الله تعالى: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) [مريم: 48] فقد اعتزالهم على اعتزال معبوداتهم وقال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [مريم: 49] فقد اعتزالهم على اعتزال ما يعبدون وقال تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللهَ) [الكهف: 16] الآية. فأشار إلى اعتزالهم واعتزال ما يعبدون من دون الله، وهذه أدلة كافية في وجوب مباينة الكفار، ومباينة الأفعال الخاصة بهم لمن كان قصده الحق والاهتداء بهداه، فكم من إنسان لا يقع منه الشرك ولكنه لا يعادي المشركين ولا يعتزلهم فلا يكون بذلك مسلما، لأنه بعمله هذا مخالف لملة جميع الرسل، فلم يقل ولم يفعل كما أمره الله، وكما ذكر الله عن أبينا إبراهيم عليه السلام حيث يقول: (إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4] فتأمل كيف قدم الباري جل وعلا العداوة على البغضاء، لأن الأولى أهم من الثانية. فالإنسان قد يبغض الكفار ولا يعاديهم، فلا يكون آتيا بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء معا، ولا بد من أن تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين باديتين لكل ذي عينين، وأن يستمر على ذلك إلى غاية أن يسلم الكافر، ويدخل في عداد المؤمنين، ولا يستثنى من ذلك سوى المكره إكراها ملجئا فإنه يجوز له موافقة الكفار في الظاهر مع عداوته لهم في الباطن، وإظهار العداوة لهم في أول لحظة من زوال الإكراه. هذا في مجال إظهار العداوة لهم، فكيف بحال من وجدت منه الموالاة والمواصلة والمناصرة للكفار؟

أليس ذلك يدل على عدم البغضاء وعلى عدم العداوة من باب أولى؟ وهذا يستلزم عدم الإيمان فإن الإيمان الصحيح يوجب استمرار المقاطعة والعداوة والبغضاء للكفار حتى يسلموا عملا بقول الله تعالى: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4]. ولولا العداوة في الله لما تحمل الأنبياء والرسل والمؤمنون صنوف العذاب والأذى من الكفار، ولكان بالإمكان مجاملتهم ومداهنتهم وطلب رضاهم وكف شرهم عن الأنفس والأموال والأعراض، ولكن الحق لا بد أن يصطدم مع الباطل، والنور لا بد أن يطرد الظلام. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قام ينذر المشركين عن الشرك ويأمرهم بالتوحيد لم يكرهوا ذلك منه أول الأمر، واستحسنوه، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرح بسب دينهم، وتسفيه أحلامهم وتجهيل أكابرهم، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة وإظهارها بالأذى له - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه حتى اضطر بعض الصحابة إلى الهجرة إلى الحبشة، وحوصر البعض الآخر في شعب أبي طالب، فإذا عرفت هذا، وعرفت أن الإسلام لا يستقيم في حق الإنسان ولو وحد الله وترك الشرك، ما لم يصرح للكفار بالعداوة والبغضاء كما تقدم في الآيات السابقة، حيث إنه لو كان بالإمكان مداهنة الكفار، لما حمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه وأصحابه، مؤنة مواجهة الكفار بالعداوة والبغضاء وهو أرحم الناس بأصحابه وأتباعه، مع ذلك لم يجد لنفسه ولا لأصحابه رخصة في مداهنة الكفار ومجاراتهم ومجاملتهم، وقد أحب المشركون ذلك منه ولكنه لم يحصل من الرسول وصحابته ما طلب المشركون حصوله من المداهنة والموافقة لهم على الكفر، قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم: 9] وحول هذا المعنى قال أحد العلماء من قصيدة في غربة الإسلام مبتدئا بنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

ووالى وعادى في رضا الله قومه ... ... ولم يثنه عن ذاك صولة قاهر (¬1) فلا بد لبقاء الإيمان وكماله من إعلان عداوة الكفار، وإعلان محبة المسلمين والانضمام إليهم قال تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64] ففي قوله اشهدوا بأنا مسلمون إظهار البراءة من الكفار وكفرهم، وزجر عن الدخول في طاعتهم، وإشعار بوجوب التميز عنهم، والاعتزاز بالإسلام، والاعتداد به قولاً وفعلاً (¬2). وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع المسلمين سلفا وخلفا، أن المرء لا يكون مسلما إلا بالتجرد من الشرك الأكبر والبراءة منه وممن فعله، وبغضهم ومعاداتهم بحسب الطاقة والقدرة والإمكان (¬3). وقد سئل الشيخ حسين والشيخ عبد الله ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا: عن رجل دخل هذا الدين وأحبه وأحب أهله، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم. فأجابا: بأن هذا لا يكون مسلما لا إذا عرف التوحيد ودان به وعمل بموجبه وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به وأطاعه فيما نهى عنه وأمر به وآمن بما جاء به (¬4). فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم فهو غير مسلم وهو ممن قال الله فيهم: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ ¬

_ (¬1) انظر المجموع المخطوط بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1638) الورقة (156) أو (311، 312) القائل هو الصنعاني. (¬2) انظر الدرر السنية (7/ 8) (¬3) انظر الدرر السنية (9/ 199). (¬4) انظر مجموعة التوحيد (284) وانظر الدرر السنية (8/ 111، 112).

عَذَابًا مُهِينًا) [النساء: 151] اهـ. فمما تقدم نعلم أن الله أوجب معاداة الكفار ومنابذاتهم وتكفيرهم واستمرار العداوة لهم إلى أن يسلموا فقد روى الإمام أحمد عن عمرو بن الجموح رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يحق لعبد صريح الإيمان حتى يحب لله تعالى، ويبغض لله تعالى، فإذا أحب لله تعالى وأبغض لله تبارك وتعالى، فقد استحق الولاء من الله، وإن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم» (¬1). وفي ذلك يقول ابن القيم (¬2) رحمه الله في نونيته: أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهدا أحبابه ... أين المحبة؟ يا أخا الشيطان شرط المحبة أن توافق من تحب ... على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له محبة مع خلا ... فك ما يحب فأنت ذو بطلان (¬3) وحول هذا المعنى يقول الشيخ سليمان بن سحمان نظمًا: يوالي ويدني أهل سنة أحمد ... عدوا لمن يهدى بغير هداها (¬4). وقد روي عن سالم بن أبي الجعد (¬5) أنه قال: (العروة الوثقة هي الحب ¬

_ (¬1) رواه أحمد. انظر مسنده أحمد (3/ 430). (¬2) هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد المعروف بابن قيم الجوزي (شمس الدين، أبو عبد الله) ولد سنة (691) وهو فقيه، أصولي، مجتهد مفسر، متكلم، نحوي محدث مشارك في غير ذلك، ولد بدمشق ونشأ بها، ولازم ابن تيمية وسجن معه في قلعة دمشق، وتوفي في 13 رجب سنة (751) ودفن في سفح قاسيون بدمشق من تصانيفه الكثيرة، وروضة المحبين ونزهة المشتاقين، وزاد المعاد في هدي خير العباد، وتهذيب سنن أبي داود، والجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية، وله نظم ومؤلفات كثيرة، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (9/ 106، 107)، وانظر مقدمة زاد المعاد في هدى خير العباد ص (3). (¬3) نونية ابن القيم (171). (¬4) انظر ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان (3). (¬5) هو سالم بن أبي الجعد، مولى أشجع واسم أبي الجعد رافع روى عن ابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأنس وعبد الله بن عمرو وروى عنه عمرو بن مرة، وأبو إسحاق، وروي عن أحمد بن حنبل تضعيف رواية سالم بن أبي الجعد عن ثوبان وقال ليست هذه الأحاديث بصحاح، وذكر أن سالما لم يلق ثوبان وأن بينهما معدان بن أبي طلحة وقد سئل أبو زرعة عن سالم بن أبي الجعد فقال: كوفي ثقة، انظر كتاب الجرح والتعديل للرازي (4/ 181).

في الله والبغض في الله) (¬1) اهـ. ومن المخالفين في موضوع الموالاة والمعاداة ما يلي: القسم الأول: من عبد الله ووحده، ولكنه لم ينكر الشرك ولم يعاد أهله فهو وإن وحد الله فتوحيده فاسد، لعدم كفره بالطاغوت، فالإنسان لا يصير مؤمنا إلا بالكفر، بالطاغوت قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [البقرة: 256]. القسم الثاني: من عادى المشركين ولم يكفرهم. فهذا النوع لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك وما تقتضيه من تكفير من فعله، وهذا الأمر هو مضمون سورة الإخلاص، وسورة الكافرون، وآيات من سورة الممتحنة، فمن لم يكفر من صرح القرآن الكريم بكفره، فقد خالف ما جاءت به الرسل من التوحيد، وما يوجبه في حق الناس من حب وعداوة وإيمان وكفر (¬2). القسم الثالث: من لم يحب التوحيد ولم يبغضه: وهذا الصنف للأسف الشديد هو الغالب وجوده بين المسلمين في هذا ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (10) (¬2) انظر الدرر السنية (2/ 95 - 97) وانظر مجموعة التوحيد (36).

العصر ومثل هذا الصنف من الناس لم يكن موحدا لله تعالى حق التوحيد لأن التوحيد الحقيقي هو الرضا بالدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده قال تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) [المائدة: 3] فلو رضي بما رضي الله به وعمل به لأحبه، فلا إسلام إلا بمحبة التوحيد والعمل به، ومحبة أهله، فالإخلاصة لله إنما يكون في محبة الله، وإرادة وجهه، فمن أحب الله أحب دينه، لأن المحبة يترتب عليها تنفيذ ما تقتضيه كلمة الإخلاص وشروط التوحيد التي منها المحبة لله وفي الله (¬1). فمن عرف الشرك وأبغضه لا بد أن يعرف ما يريد الله من خلقه من محبة وإجلال وتعظيم له سبحانه وتعالى، فذكر هذه الحال عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 104]. فالذي يبغض الكافرين وأعمالهم، ولكنه لم يدخل في جماعة المسلمين ويعمل لصالح الإسلام معهم، فإن إيمانه ناقص، نظرا لعدم موالاته لله ورسوله والمؤمنين، فالمؤمن الحق هو الذي يكون مع المؤمنين كالعضو من الجسم كما وضح ذلك حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إنه لا بد للمسلم من التصريح بأنه من هذه الطائفة المؤمنة حتى يقويها ويتقوى بها ويفزع الطواغيت الذين لا يبلغون الغاية في العداوة حتى يصرح لهم أنه من هذه الطائفة المحاربة لهم (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (2/ 95 - 97) وانظ رمجموعة التوحيد (36). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (30).

القسم الرابع: من لم يبغض الشرك ولم يحبه: فهذا لم ينف ما نفته (لا إله إلا الله) من الشرك والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فهذا ليس من الإسلام في شيء أصلا ولم يعصم ماله ودمه، لأنه لم يحقق معنى «لا إله إلا الله» (¬1) ولأنه خالف ما ذكر الله عن أبينا إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: (كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4] ولحديث: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» (¬2). القسم الخامس: من عمل بالتوحيد، ولم يبغض من تركه ولم يكفرهم: فهذا لم يصحح توحيده بنفي الشرك والبراءة منه ومعاداة أهله، فهو لم يوحد الله توحيدا كاملا، لأن التوحيد الحقيقي يقتضي نفي الشرك والبراءة من المشركين وتكفير أهله بعد قيام الحجة عليهم وهذا النوع من الناس من أشد أنواع المخالفين خطرا على التوحيد لأنه قد يغتر بحالهم، فيقلدهم غيرهم في مداهنة الكفار والمشركين والمرتدين وهم في الحقيقة لم يأتوا بالأمور التي دلت عليه كلمة الإخلاص نفيا وإثباتا (¬3) فهم يظنون أنهم إذا أصلحوا أنفسهم فلهم مطلق الحرية في التعامل مع الآخرين، بلا تمييز بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل وهؤلاء يخشى أن يكونوا من الداخلين تحت قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103، 104]. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (37) وانظر الدرر السنية (2/ 97، 98). (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (1/ 53). (¬3) انظر مجموعة التوحيد (37) وانظر الدرر السنية (2/ 98).

وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «فالله الله يا إخواني تمسكوا بأصل دينكم، وأوله وآخره وأسه ورأسه، شهادة أن لا إله إلا الله، واعرفوا معناها وأحبوها، وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين منكم نسبا واكفروا بالطواغيت وعادوهم وابغضوهم، وابغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم أو قال: ما علي منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى عليه إثما مبينا فقد كلف الله كل مسلم ببغض الكفار، وافترض عليه عداوتهم، وتكفيرهم والبراءة منهم، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم، فالله الله تمسكوا بذلك لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئًا» (¬1) اهـ. ويقول الشيخ المودودي رحمه الله: إن من مظاهر النفاق أن الإنسان يدعي الإيمان بالإسلام ويتظاهر بالانتساب إليه والتمسك به، ثم يعيش راضيا مطمئنا في ظل نظام مناقض للذي يؤمن به، قانعا مغتبطا في كنفه لا ينبض له عرق، ولا يخفق له قلب، إن مثل هذا الصنيع لعمر الحق من أمارات النفاق ومن صميمه من غير شك (¬2) اهـ. القسم السادس: من ترك الشرك، ولم يعاد أهله، ولم يكفرهم. فهذا الصنف داخل تحت ما ذكر في الصنف الأول، إلا أنه يزيد عليه أن الصنف الأول يعمل بالتوحيد، وهذا الصنف جمع بين سيئتين الأولى: ترك الواجبات الشرعية، والثانية: مداهنة الكفار، وعدم معاداتهم فهو لم يؤمن بالله إيمانا حقيقيا ولم يعمل بأوامر التي أنزل على عباده ولم يجتنب الطاغوت كما نهى الله عن ذلك فهو ليس من الإسلام في شيء (¬3). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (111). (¬2) انظر تذكرة الرعاة للمودودي (7، 8). (¬3) انظر مجموعة التوحيد (10).

القسم السابع: من لم يشرك بالله، ولكنه عرف التوحيد ولم يعمل به ولا أحب ولا أبغض فيه: فهذا وأمثاله من الذين يستحقون عذاب الله، ولو لم يكن قد حصل الشرك منهم، لأن فائدة ترك الشرك تصحيح التوحيد لله، ومن أعظم ما ينبني على التوحيد التضرع عند الله، والالتجاء إليه وحده، ومحبة ما يحب وعداوة ما يعادي (¬1). ومن ادعى الإسلام ونطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأحبها وانتسب إلى أهلها، ولكنه لم يفرق بين أوليائها وأعدائها ولم يحب في الله، ولم يبغض في الله، فهذا عين الكفر وصريحه، لأن حق التوحيد ليس مجرد الإقرار به، ثم الإعراض عن أحكامه التي أهمها الحب في الله والبغض في الله، كما سبق بيان ذلك من الكتاب والسنة (¬2). القسم الثامن: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه، وعرف الشرك وتركه، ولكنه مع ذلك يكره من دخل في التوحيد وانضم إلى جماعة المسلمين ويحب من بقي في مناصرة وتأييد الكفار: فهذا النوع من الاعتقاد والتعامل كفر (¬3) يخرج به المسلم من مسمى الإسلام لأن الإنسان إذا أحب نصرة الكافرين وخذلان المسلمين فهو داخل تحت قول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 19]. فالذين يؤيدون أحزاب الكفر وأحزاب الشيطان، التي تتخذ مظاهر متعددة في البلاد الإسلامية، بحبهم لمن ينتمي إليها وبغضهم لمن ينتمي ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 99). (¬2) انظر المبحث الأول والثاني من الباب الأول من هذه الرسالة من ص (75) إلى (106). (¬3) انظر الدرر السنية (1/ 66).

إلى حزب الله الممثل في الجماعة المسلمة، هؤلاء داخلون تحت هذا الحكم، وهذا الحكم ينطبق تماما على دعاة الشيوعية والاشتراكية أو الدعاة إلى حزب البعث، أو الأحزاب الماسونية، أو دعاة العلمانية، فالذين يؤيدون من ينضم إلى تلك الأحزاب الكافرة، هم كفار وإن ادعوا الإسلام حيث لا يدعو أحد من المسلمين إلى الخروج من حزب الله إلى أحزاب الكفار، ومن فعل ذلك فليس بمسلم، حيث لم يرض بالإسلام دينًا ولم يتخذ شريعته منهجًا في الحياة. القسم التاسع: من عرف التوحيد وأنه الحق، ولكنه لم يلتفت إليه ولم يتعلمه ولا دخل فيه، ولا انضم إلى جماعة المسلمين وبقي مع الشرك وأهله. فهذا العمل، وهذا الموقف كفر، يقاتل عليه من فعله، لأن صاحبه عرف الحق فلم يتبعه، وعرف الشرك فلم يتركه، مع أنه قد لا يبغض دين الله ولا رسوله ولا المؤمنين ولا يمدح الشرك أو يزينه للناس، ولكنه مقبل على الكافرين بفعله مدبر عن المؤمنين. وقد يتخذ لذلك التصرف حجة وهي حبه لأهله ووطنه ومنافعه فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده من الكفار، فيجاهد بنفسه وماله ورأيه أهل الحق مع أهل الباطل، وهذا الموقف كفر مخرج عن الإسلام لأن ذلك هو غاية التولي للكفار، وحتى لو ادعى الإكراه في ذلك فإن الإكراه مهما يكن، لا يجوز معه أن يحمل المسلم سلاحه، ضد أهل الحق من المسلمين (¬1). ومن يقف مثل هذا الموقف من أهل الإسلام يكون داخلا تحت قول الله تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 66).

وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) [النساء: 91]. القسم العاشر: من تساوي لديه الإسلام والكفر في الحب والبغض، أو من يحبهما من وجه، ويبغضهما من وجه آخر. فهذا الذي يقف من الإسلام مثل هذا الموقف، لم يتحقق فيه معنى الإسلام وهو الاستسلام لله والانقياد له بالطاعة، التي من أركانها موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، فهو كأنه يعارض الله فيما فرض وشرع، قال الله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]. يقول الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي رحمه الله (¬1): اعلموا رحمكم الله أن أكبر الذنوب وأعظمها الشرك بالله، قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 116] وهذا الذنب القبيح له وسائل وذرائع توصل إليه، وأعظمها موالاة أعداء الله على اختلاف أنواعها فيا عباد الله، انتبهوا من هذه البلية العظيمة، التي صيرت أهل الإسلام وأهل الردة والضلال عند كثير من الجهال جماعة واحدة إلا من عصم الله برحمته (¬2) اهـ. فمن كمال الإيمان وتمام العبودية لله محبة الله، ومحبة رسوله وأنبيائه وعباده المؤمنين، وإن كانت المحبة التامة لا يستحقها غير الله تبارك وتعالى فغير الله يحب في الله لا مع الله. ¬

_ (¬1) الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: من تلاميذ الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود انظر مشاهير علماء نجد عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله (190). (¬2) انظر الدرر السنية (11/ 183).

فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه فيما يأمر به وما ينهى عنه (¬1) والله تعالى يحب المحسنين ويحب المتقين، ويحب التوالين ويحب المتطهرين (¬2) ونحن ملزمون شرعا بحب ما يحبه الله تعالى كما أننا ملزمون بعدم حب ما لا يحبه الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى، لا يحب الخائنين ولا يحب المفسدين ولا يحب المستكبرين (¬3). ونحن أيضا يجب أن لا نحبهم، وأن نبغضهم موافقة له سبحانه وتعالى في حب ما يحب وبغض ما يبغض. فالمحبة التامة لله، مستلزمة الموافقة للمحبوب في محبوبه ومكروهه، وولاية من يواليه، وعداوة من يعاديه، ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة، فلا بد أن يبغض أعداءه ولا بد أن يحب ما يحبه الله من الأقوال والأفعال فيحب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذكر وتلاوة القرآن ونحن ذلك، ويجب الجهاد في سبيل الله وما دونه من أعمال الخير (¬4) لأن كل ذلك من الأمور المحبوبة عند الله تعالى، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف: 4]. فلا بد للمسلم أن يحب الله عز وجل أولاً ثم هذه المحبة لله تجعله يكون متواضعًا مع المؤمنين، ذا غلظة وعزة على الكافرين فإذا أصبح ¬

_ (¬1) انظر شرح الطحاوية (317، 318). (¬2) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم محمد فؤاد عبد الباقي (192). (¬3) المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) انظر شرح الطحاوية (318).

بهذه الحال، أحبه الله عز وجل لهذه الصفة التي اتصف بها قال تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) [المائدة: 54]. وقد سئل ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهما حسين وعبد الله عن رجل دخل هذا الدين وأحبه وأحب أهله، ويبغض الشرك وأهله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل الإسلام، ويقاتلون أهله، وهو يعتذر بأن مقاتلته لهؤلاء الكفار وترك وطنه من أجلهم يشق عليه ذلك، فهو لا يستطيع مفارقة الأهل والأموال والأولاد والعشيرة. فهل يكون كافرا أو مسلما؟ فأجابا بأن في ذلك تفصيل. أولاً: أن ينظر إلى هذا الشخص المقيم مع الكفار، هل يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ منهم ومما هم عليه من كفر وشرك؟ وهل يقدر على إظهار عداوته لهم، أو أن يظهر لهم أنهم كفار؟ وهل يأمن على أن لا يفتنوه عن دينه، لأجل أهله وماله وولده؟ فإن كانت الإجابات على هذه الأسئلة بنعم فهذا لا يحكم بكفره ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر، ومات بين أظهرهم فيخشى أن يكون داخلا في أهل هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97، 98].

ثانيا: أما إذا أظهر الموافقة للكفار على دينهم، وأن بدعتهم وكفرهم أصوب من الإسلام، واتهم الإسلام بالباطل والقصور، وقاتل معهم أهل التوحيد، بنفسه وماله ورأيه فهذا كافر مرتد، ولو عرف الدين بقلبه وكره الكفر بقلبه، لأن الأمر الذي يمنعه من الهجرة محبة الدينا على الآخرة، ويتكلم بكلام الكفر من غير إكراه ملجيء فهو داخل في قوله تعالى: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [النحل: 106، 107] (¬1) اهـ، وحتى المكره إكراها ملجئا لا يجوز له أن يحمل على أخيه السلاح فيقتله من أجل سلامة نفسه هو (¬2) فالإكراه يجوز معه التلفظ بكلمة الكفر ترضية للكفار أما من يحارب المسلمين بقوله وفعله ويناصر الكافرين من أجل أنه يشق عليه فراق أهله وأولاده وبلاده، فيقتل المسلمين، ويرمل نساءهم وييتم أطفالهم، ويخفي الإسلام وأهله، ويظهر الكفر ويجاري أهله، مقابل أن يسمل هو بنفسه فهذا ظلم وإعانة على الظلم، قال تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الأنعام: 164]. قال القرطبي في معنى هذه الآية: أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، أي: لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (284، 285) والدرر السنية (8/ 111، 112). (¬2) انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر فتح الباري (12/ 316) وانظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة (1/ 568). (¬3) انظر تفسير القرطبي (7/ 157).

وفي مختصر تفسير الطبري: أي لا تجترح نفس إثمًا فيؤخذ به غيرها (¬1) وعلى هذا إذا وجد حاكم ظالم يطارد أهل الحق ويبطش بهم، وينصر أهل الباطل ويدعم باطلهم، فلا يجوز لمن يلتزم بالإسلام قولا وفعلا، أن يعين هذا الظالم على ظلمه، لأنه حينئذ يخالف قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أرأيت إن كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره» (¬2). والذي يعين الظالم على المظلوم، إنما يعمل ضد مفهو م الحديث تماما، وهذا إثم عظيم وذنب كبير، وتلك هي الموالاة الظالمة حيث ينصر من يجب عليه خذلانه، ويخذل من تجب عليه نصرته. ونود أن نذكر في هذا المقام الذين يوالون الكفار ويطلبون رضاهما، بأن رضا الكفار لن يتم إلا بما هو دون الكفر، قال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120] فالكفار إذا أحسوا أن لدى المسلم إمكانية المتابعة لهم والموالاة لهم على كفرهم، فإنهم يتدرجون به رويدا رويدا حتى يخرجوه من الإسلام، فإذا آرادوا إقرار منكر ما فأول خطوة في ذلك هي أن يشتروا بعض العلماء الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، ثم يستصدرون الفتاوى التي هم أول من يعلم ببطلانها، ثم يطلبون التأييد على هذا المنكر الذي فعلوه بحجة أنه لا يعارض الشرع ثم يطلبون ممن يوافقهم مطاردة من ينكر عليهم تصرفهم هذا، وأن يحمل السلاح ويدفع المال لقتال المعارضين لهم، وإن كان المعارض هو صاحب الحق والذي مع الحق، وهكذا يفعل الكفار في مدعي الإسلام ترك بعض ¬

_ (¬1) انظر مختصر تفسير الطبري -ابن صمادح- الأندلسي على هامش المصحف المفسر عن (165). (¬2) رواه البخاري: انظر فتح الباري (5/ 98) باب المظالم

الواجبات وفعل بعض المحرمات تدريجا حتى ينسلخ المسلم من دينه ويخرج من مسمى الإسلام وهو لا يشعر (¬1) ومما تقدم يتضح أنه يجب على المسلم أن يقف موقفا صلبا من أعداء الإسلام والمسلمين وأن لا يتنازل عن شيء من واجبات الإسلام مهما كانت الدوافع والأسباب، وأن يقاطع أهل الشرك ويتبرأ منهم ومن شركهم ويجاهدون ويكفرهم، ويقر بإباحة دمائهم وأموالهم ما داموا على الكفر، فلا يكون المؤمن موحدا إلا بهذا وهو مقتضى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، حيث يقول الله عز وجل: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71]، فهذا شأن كل مؤمن مع المؤمنين، ويقول الله تعالى عن الكفار (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73]. فلا يصح للمؤمن دين إلا بموالاة أهل التوحيد، ومعاداة أهل الضلال وبغضهم والبراءة منهم، كما تبرأ إبراهيم والذين معه من الكفار، وكما تبرأ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه من كفار قريش ومن حذا حذوهم، وهذه هي الموالاة للمؤمنين، والمعاداة للمشركين التي هي أصل عرى الإيمان وأوثقها (¬2). فمعاداة الكفار واجبة وإن كان فيهم أخلاق طيبة، وصفات حميدة فمن لم يعاد الكفار ويتبرأ منهم لم يدخل في الإسلام، وإن كان يتعامل مع المسلمين معاملة حسنة ويقدم لهم دعما سخيا. فإن في قصة أبي طالب درسا وعبرة وعظة، أنه لا موالاة إلا بمعاداة فهذا الرجل قد بذل عمره وماله وأولاده وعشيرته في نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 66). (¬2) انظر الدرر السنية (2/ 95).

إن مات على ذلك، وصبر على المشقة العظيمة، والعداوة البالغة له من قومه، وكان يحب من أسلم وينتقص أعمال المشركين وكان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حق وصواب كما يظهر ذلك من قوله في النونية: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا (¬1) ويقول في قصيدة أخرى: ولقد علموا أن ابنا لا مكذب ... لدينا ولا يعني بقول الآباطل حدبت (¬2) بنفس دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذري (¬3) والكلاكل (¬4) (¬5) ولكنه لما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب ويعلن عداوته لذلك، ولم يعلن موالاته لله ثم لرسوله والمؤمنين في الله، ما نفعه ذلك شيئا وقد استغفر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرا لنصرته له ودفاعه عنه، فأنزل الله قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113] لو كان هناك رجل من أهل الشرق أو أهل الغرب، يحب الدين الإسلامي، وينصر المسلمين باليد والمال والسلاح، ولكنه لم يعلن دخوله في الإسلام وانضمامه إلى جماعة المسلمين وبراءته وانفصاله وعداوته للمشركين لم يكن مسلما ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية لابن كثير (3/ 42). (¬2) أي تعطفت وأشفقت عليه، انظر لسان العرب لابن منظور (1/ 581). (¬3) الذري بالضم أعلى كل شي وذروة السنام والرأس أشرفهما المصدر السابق (1/ 1066). (¬4) الكلاكل: جمع كلكلة وهو الصدر من كل شيء وقيل هو ما بين الترقوتين وقيل هو باطن الزور وقيل القصير الغليظ الشديد المصدر السابق (3/ 290) وانظر المعجم الوسيط (2/ 801). (¬5) انظر البداية والنهاية لابن كثير (3/ 42).

ولم تصح موالاته من قبل المسلمين، وإنما يعامل على أساس البر والصلة بالمعروف، دون محبة القلب كمحبة أحد المسلمين، فهو وإن كان يحب لما فيه من صفات طيبة وأخلاق كريمة، كالكرم، والأمانة، والصدق والفواء فإن تلك الصفات لا تطغى ولا تنسينا صفة الكفر التي هو أسوأ صفة وأقبحها في الوجود، فمثل الكفار وصفاتهم الطيبة كمثل امرأة جميلة كريمة متواضعة ولكنها مع تلك الصفات عاهر بغي فإن تلك الصفة القبيحة تطغى على جميع صفاتها الحسنة وتذهب أثرها عند ذوي العقول السليمة والفطرة المستقيمة وتجعلهم يمقتونها ويعادونها وينظرون إليها نظرة احتقار وازدراء (¬1). إن موقف المسلم من الكفار، ليس مجرد العداء لهم، بل المطلوب منه جهادهم، والحرص على مراغمتهم، وإدخال الحزن عليهم (¬2)، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة: 123] فمن جهاد الكفار السعي إلى كسر شوكتهم ومراغمتهم وإدخال الهزيمة عليهم بكل الوسائل والأسباب المباحة، والتضييق عليهم والوقوف في وجه مكائدهم، بكل ثبات وإصرار، وكشف آباطيلهم وعورات نظمهم، وتعرية مفاسدهم لكل ذي عينين، حتى يحصل الإقبال على الإسلام والأدبار عن الكفر، نتيجة للفهم والوعي الصحيح، فإن لم يحصل من المسلم جهاد ومراغمة للكفار، فلا أقل من مقاطعتهم وعوراتهم وترك تبادل الأقوال والأفعال التي لا يقصد بها تقريبهم إلى إسلام وإنما يقصد بها التقرب إلى دنيا الكفار وما هم فيه من كفر. ومما تقدم نخلص إلى القول بأنه لا صحة لإسلام المسلم إلا بموالاة. ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (10/ 101). (¬2) انظر «مدارج السالكين» ابن قيم الجوزية (1/ 226).

أهل الإسلام ومعاداة أهل الكفر، فلو والى المسلم المسلمين ولم يعاد الكافرين لم يصح إسلامه، ولو عادى الكافرين ولم يوال المسلمين لم يصح إسلامه إلا بالجمع بين موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، وحول هذا المعنى يقول الشيخ سليمان بن سحمان شعرا: ومن كان ذا حب لمولاه إنما ... يتم بحب الدين دين محمد فعاد الذي عادى لدين محمد ... ووال الذي والاه من كل مهتد وأحبب رسول الله أكمل من دعا ... إلى الله والتقوى وأكمل مرشد وما الدين إلا الحب والبغض والولاء ... كذاك البرا من كل غاو ومعتد (¬1) ويقول أيضا: نعم لو صدقت الله فيما زعمته ... لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سرا وجهرة ... ولما تهاجيم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ... ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن ... بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتكفيرهم جهرا وتسفيه رأيهم ... وتضليلهم فيما اتوه وأظهروا وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم ... وتدعوهموا سرا لذاك وتجهر فهذا هو الدين الحنيفي والهدى ... وملت إبراهيم لو كنت تشعر (¬2) ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 294). (¬2) انظر ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ للشيخ سليمان بن سحمان (79).

المبحث الثامن: مكانة الموالاة والمعاداة في الإسلام

المبحث الثامن: مكانة الموالاة والمعاداة في الإسلام إن معرفة المسلم الملتزم بالإسلام عقيدة وعبادة لحكم الموالاة والمعاداة في الله تجعله ينطلق في تعامله مع الناس من فهم ثابت وتصور صحيح، في علاقاته مع الناس، فيعاملهم على أساس قربهم وبعدهم من الله، فكلما كان الإنسان إلى الله أقرب، كانت موالاته ومحبته ومناصرته في الله أعظم، وكلما انحرف الإنسان عن طاعة الله عز وجل، أبغضه المؤمن على قدر انحرافه، وعاداه على قدر بعده عن الله، لأن محبة الله عز وجل هي الأساس في كل تصرف يتصرفه العبد المسلم، فمحبة ما يحبه الله تابعة لمحبة الله منبثقة عنها، إذ المحبة هي أصل الموالاة في الله والبغض أصل المعاداة في الله، كما سبق إيضاح ذلك وقد أخبر الله عز وجل أنه هو الولي، والمتولي لنا في كل شأن من شئوننا وأنه لا يجوز أن نتخذ معه أو من دونه وليا، أو أولياء، قال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

قَدِيرٌ) [الشورى: 99] فالذين اتخذوا من دونه أولياء غلطوا أشد الغلط وأجرموا أشد الإجرام، عندما اتخذوا حثالة البشر أو بعض المخلوقات أولياء لهم من دون الله أو مع الله، قال تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 1]. وأصح القولين في ذلك أنهم يعدلون بالله غيره، في العبادة والمحبة والموالاة (¬1) كما في قوله تعالى: (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 98] وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة: 165] وقال تعالى: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف: 50] أي: أن يبدلوا عبادة الله ومحبته وموالاته بغيره من الأنداد. فالمسلم الحق هو الذي يتخذ الله وليا، ويرضي بولايته دون سواه ويعتقد جازما أن ولاية الله عز وجل هي التي تنفع في الدنيا والآخرة؛ لأن ذلك مما أخبر الله به في قوله تعالى: (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران: 150] فالله هو الولي للمؤمنين، وهو خير الناصرين لهم ففي ولايته وطاعته غنية وكفاية عن طاعة الكفار وموالاتهم، فيجب على المسلم أن يكون الله عز وجل هو الولي الذي يتقرب إليه العبد بالقول والعمل فهو يتولى عباده المؤمنين بإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإعانتهم في جميع أمورهم (¬2) قال تعالى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ ¬

_ (¬1) انظر مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين لابن قيم الجوزية (1/ 340). (¬2) انظر تفسير ابن سعدي (6/ 595).

الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 257] وقال تعالى: (فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101] وقال تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الأنعام: 14] قل يا محمد! أغير الله اتخذ وليًا؟ أي ربًّا ومعبودًا وناصرًا ومحبوبًا دون الله، وهو الذي فطر السموات والأرض، فكيف يليق أن اتخذ غير الخالق الرازق الغني الحميد (¬1)؟ قال الله تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 68] وقال تعالى: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) [فصلت: 31]. فإن كان الله عز وجل هو الولي والوالي والناصر والنافع والضار، فمن السفاهة والطيش بل ومن الكفر بعبادة الله، أن يتخذ المرء من دونه وليا أو نصيرا قال تعالى: (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) [النساء: 89]. وقال تعالى: (مَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [التوبة: 74]. فبين تعالى على جهة الإخبار بأن الله هو الولي وأنه لا ولي غيره وأنه ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (6/ 397) وانظر تفسير ابن سعدي (2/ 379 - 380).

هو ولي الصالحين قال تعالى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف: 196]. فالإنسان عندما يتخذ الله وليا إنما يفعل ذلك لأنه أمر كلفه الله به، حيث يريد سبحانه وتعالى، من المسلم التجرد لله من تعظيم سواه، لأن الموالاة والتولي لغير الله، تعظيم لمن والاهم وتولاهم من دون الله، وهذا شرك في التعظيم، فالموالاة هي لب المحبة وثمرتها والشرك في المحبة من أعظم أنواع الشرك قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة: 165]. فمتى أحب العبد غير الله لذاته والتفت إليه بقلبه كان عبدا لما أحبه ورجاه وإذا لم يحب أحدا لذاته سوى الله، وأحب ما يحبه الله تقربا إلى الله كان ذلك من تمام العبودية لله عز وجل، لأن العبد كلما ازدد حبا لله ولما يحبه الله، ازداد عبودية وقربا من الله وهذا الأمر هو جوهر الإسلام وحقيقته التي أرسل الله من أجلها جميع الرسل والأنبياء (¬1). فيجب علينا أن نعطي حبنا وولاءنا لله عز وجل أولا ثم لرسوله والمؤمنين بهذا الدين حتى نكون من حزب الله، وتنتفي عنا صفة الانتماء إلى الأحزاب الشيطانية، التي تعبدنا الله ببغضها وعداوتها وجهادها والقضاء عليها، فبالإضافة إلى أن موالاة غير الله شرك، هي كذلك موالاة غير نافعة في الدنيا والآخرة، حيث إن الإنسان يقصد بموالاة من تولاه، أن يتقوى بقوته ويعز بعزته، ويرتفع برفعته، وهل هناك أحد تنطبق عليه تلك الصفات بكمالها غير الله عز وجل؟ فالله يعد الذين آمنوا في مقابل الثقة ¬

_ (¬1) انظر رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية (54 - 58).

به، وصدق الالتجاء إليه، والولاء له وحده، ولرسوله وللمؤمنين يعدهم بالنصر والغلبة والتمكين، وقد جاء هذا الوعيد بعد بيان قاعدة الإيمان ذاتها في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56] فإذا كان النصر والغلبة والعزة والكرامة إنما تكون بموالاة الله ورسوله والذين آمنوا فمن الانحراف عن العقيدة السلمية أن يخلع الإنسان صفة الموالاة والتولي بكمالها لأعداء الله أو لمخلقوات ضعيفة، لا تنفع نفسها فضلا عن غيرها، فالذين يحبون غير الله، ويرجون سواه، في نصرة أو معونة أو تمكين، هؤلاء كأنما يتجاهلون مقام الباري عز وجل، ويتصغرون شأنه في المعونة والنصرة، عندما يلجئون بالمودة وطلب النصرة من غير الله، كحال الذين يستعينون ويستنصرون بالكفار الشرقيين أو الكفار الغربيين أو الهيئات الدولية، والأحزاب الجاهلية، وهذا منتهى الضلال والانحراف، فالله سبحانه وتعالى أمر عباده أن يتخذوه وليا، دون غيره من المخلوقات؛ لأن ذلك من مقتضى عبوديتهم له، واعترافهم بربوبيته، وألوهيته عليهم، كما يجب عليهم خوفه، ورجاؤه، يجب عليهم محبته، وموالاته دون غيره، وليس الدافع إلى موالاة الله، هو طلب النصرة والتمكين فقط، بل الدافع الأساسي أن هذا أمر تعبدنا الله به، أما ما يترتب على هذا الأمر من نصرة ومودة وفلاح، فهذه ثمار تأتي في حينها، وتأتي لتحقيق قدر الله في التمكين لهذه الأمة، لا لتكون بذاتها هي الأغراء الوحيد على الدخول في هذا الدين فانتصار المسلمين على أعدائهم، وتفوقهم على سواهم، لا شيء منه لذواتهم، وأشخاصهم إنما يكون ذلك لحساب عقيدتهم، فيكون لهم ثواب الجهد في ذلك، فالله عز وجل لا يطلب ولاية أحد من خلقه ليزداد بهم عزا أو قوة، أو أن يعينوه في شأن من شئونه فإنه سبحانه وتعالى هو الغني الحميد الذي لا يحتاج إلى أحد من خلقه في الأرض ولا في

السماء قال تعالى: (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) [سبأ: 22] وقال تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء: 111] قال مجاهد (¬1) المعنى لم يحالف أحدا، ولا ابتغي نصرا من أحد، أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل، يعني لم يذل فيحتاج إلى ولي أو إلى ناصر، لعزته وكبريائه (¬2) اهـ. وأما قوله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7] أي أن تكونوا سببا في نصر دين الله ينصركم الله على الكفار وقال قطرب (¬3): «إن تنصروا نبي الله ينصركم الله» (¬4) اهـ. وقال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40] أي من ينصر دين الله، وينصر رسوله فإن الله ناصره (¬5) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّأَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ) فقوله: (كونوا أنصار الله) معناه كونوا أنصارًا لدين الله ومعنى نحن أنصار الله أي نحن أنصار دين الله، وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام (مَنْ ¬

_ (¬1) هو مجاهد بن جبير المالكي أبو الحجاج ولد حوالي سنة 20 هـ توفي سنة 104هـ من آثاره تفسير القرآن الكريم، فهو مفسر تابعي جليل انظر معجم المؤلفين (8/ 177). (¬2) انظر تفسير القرطبي (10/ 345). (¬3) هو محمد بن المستنير بن أحمد البصري (المعروف بقطرب) (أبو علي) لغوي، نحوي، أخذ النحو عن سيبويه وغيره من علماء البصرة وأخذ عن النظام المعتزلي وكان يعلم أولاد أبي دلف العجلي وتوفي ببغداد، من تصانيفه في اللغة والتفسير: العلل في النحو، الاشتقاق المصنف الغريب في اللغة، الرد على الملحدين في متشابه القرآن توفي سنة 206 هـ، وله نحو عشرون كتابا انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (12/ 15)، وانظر الموسوعة العربية محمد شقيق غربال (2/ 1388). (¬4) انظر تفسير القرطبي (16/ 232). (¬5) انظر تفسير القرطبي (12/ 72).

أَنْصَارِي إِلَى اللهِ) أي من يكون معنيا إلي فيما يقرب إلى الله؟ (¬1). ومن خلال استعراض هذه الآيات والتي قبلها يتضح أن موالاة المسلم لربه ثم لرسوله ثم للمؤمنين عبادة تعبده الله بها، وحمله إياها، وإلا فإن الله عز وجل غني عن عباده ليس محتاجا إليهم في شيء، وهو كذلك قادر على نصرة دينه وأتباع دينه بقوله (كن فيكون) ولكنه جعل الموالاة في الله والمعاداة فيه أصلا من الأصول الشرعية ليختبر عباده بذلك وليمتحن خلقه بهذا الواجب العظيم فمن قام بذلك قام بواجب عظيم من واجبات الإسلام، ومن ضيع ذلك فهو لما سواه أضيع، والموالاة الحقيقية لله عز وجل توجب موالاة ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن من لوازم محبة الله محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموالاة الله توجب موالاة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه ويوالي من يوالي محبوبه ويعادي من يعاديه، وقد ذكر الله عز وجل وجوب محبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وموالاته في آيات وأحاديث كثيرة نذكر منها ما يلي: أولاً: قول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56]. ثانيًا: قول الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة: 55]. ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (18/ 89، 90) وانظر فتح القدير للشوكاني (5/ 223).

ثالثا: قول الله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب: 6]. قال ابن عطية (¬1) وبعض العلماء: هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك والضلال، وهو يدعوهم إلى النجاة (¬2) اهـ. ويؤيد هذا المعنى حديث: «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل أستوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزم وأنت تقتحمون فيها» (¬3). وأدلة وجوب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموالاته من السنة ما يلي: 1 - ما روي أن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهارًا غير سر يقول: «إن آل أبي ليسوا بأوليائي، إنما ولي الله وصالح المؤمنين» (¬4). قال النووي في معنى الحديث: إن ولي من كان صالحا، وإن بعد نسبه مني، وليس ولي من كان غير صالح، وإن قرب نسبه (¬5). 2 - وعن أنس رضي الله عنه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (¬6). ¬

_ (¬1) يوجد بهذا الاسم ابن عطية: عبد الله بن عطية بن حبيب أبو محمد مقرئ مفسر مات سنة ثلاث وثمانين وثلاث مائة من الهجرة ومن آثاره تفسير القرآن الكريم ويوجد أيضا بهذا الاسم ابن عطية/ عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي عالم بالتفسير والأحكام والحديث والفقه، والنحو والأدب توفي سنة (546) هـ في بلاد المغرب ولا أعلم أيهما المقصود بكلام القرطبي انظر فتح القدير للشوكاني (1/ 9)، وانظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (5/ 93) (6/ 83). (¬2) انظر تفسير القرطبي (14/ 122). (¬3) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 789) دار التراث العربي. (¬4) رواه البخاري انظر فتح الباري (10/ 419). (¬5) المصدر السابق (10/ 421). (¬6) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم (1/ 68) كتاب الإيمان.

فمحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الدرجة تقتضي أن مخالفة ذلك منقصة للإيمان (¬1): 3 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحب إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن انقذه الله منه، كما يكره أن يقذف بالنار» (¬2) ومحبة الرسول تستلزم محبة كل ما جاء به من عند الله ومعاداة كل من عاداه. 4 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» (¬3) وقد عد ابن القيم (رحمه الله) من أنواع الكفر، كفر الأعراض عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يصدقه، ولا يكذبه ولا يواليه، ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به البتة، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي - صلى الله عليه وسلم - (والله أقول لك كلمة، إن كنت صادقا، فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أكلمك) (¬4) اهـ. فمن هذه الأحاديث وتلك الآيات يزول الشك باليقين في وجوب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحبة كل ما جاء به من عند الله، من الأقوال والأفعال والاعتقادات، وأن من خالف ذلك فليس له في الإيمان حظ أو نصيب. ومن مقتضيات محبة الله ومحبة رسوله، ومحبة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحب المرء المسلم إخوانه المؤمنين وجماعة المسلمين فإن هؤلاء تجب محبتهم في الله، ومناصرتهم من أجل دين الله، فقد دلت ¬

_ (¬1) انظر تحفة العراقية لابن تيمية (35). (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (1/ 166) كتاب الإيمان. (¬3) قال النووي: حديث صحيح انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن (396). (¬4) انظر مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين ابن قيم الجوزية (1/ 338).

الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب محبتهم ومناصرتهم بالقول والفعل والاعتقاد ومن الأدلة على ذلك من كتاب الله قول الله تعالى: 1 - (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71] فقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) أي ذكورهم وإناثهم بعضهم أولياء بعض أي: في المحبة والموالاة والانتماء والنصرة والتعاطف (¬1). 2 - قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الأنفال: 72]. 3 - قول الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 55، 56]. ففي تلك الآيات عقد موالاة ومحبة ومناصرة عقدها الله عزوجل بين المؤمنين، في كل زمان ومكان، وذكر لنا نموذجا في موالاة الذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله، كيف استقبلهم إخوانهم الأنصار، الذين آووا ونصروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من أصحابه، وكيف أعانوهم بأموالهم وأنفسهم وديارهم، حسبما تقتضيه أخوة العقيدة الإسلامية، فصار بعضهم أولياء بعض لكمال إيمانهم، وتمام اتصال بعضهم ببعض (¬2). وقد دلت السنة النبوية المطهرة على وجوب موالاة المسلمين بعضهم لبعض وإليك بعض الأدلة على ذلك. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن سعدي (3/ 264)، وانظر تفسير القرطبي (8/ 203). (¬2) انظر تفسير ابن سعدي (3/ 193).

1 - ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوٌ تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (¬1). 2 - ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله» (¬2). 3 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه (¬3). 4 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أرأيت إن كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن فذلك نصره» (¬4). 5 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «وما أعددت للساعة؟» قال: حب الله ورسوله قال: «فإنك مع من أحببت» (¬5). قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنك مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله، وأبا بكر وعمر، فأرجوا أن أكون معهم، وإن لم أعمل أعمالهم (¬6). 6 - وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قضى صلاته أقبل إلى ¬

_ (¬1) رواه البخاري انظر صحيح البخاري (8/ 12) باب كتاب الأدب. (¬2) انظر تخريج هذا الحديث في (2) من هذه الرسالة. (¬3) متفق عليه، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 245). (¬4) رواه البخاري انظر المصدر السابق (1/ 252). (¬5) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 2032) (¬6) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 2032).

الناس بوجهه فقال: يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عباد ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله فجاء رجل من الأعراب من قاصية الناس ولوى بيده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغطبهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله، انعتهم لنا يعني صفهم لنا فسر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسؤال الأعرابي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة، ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (¬1). 7 - ورد في كتاب بعث به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع عمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك الحبشة، وكان من ضمن ما جاء فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني» (¬2). 8 - روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة ¬

_ (¬1) انظر مسند أحمد (5/ 343) وانظر سنن أبي داود (3/ 799 ح 3527) وإسناده صحيح تعليق عزت الدعاس. انظر منهاج المسلم/ لأبي بكر الجزائري (109) وقال عنه: إنه صحيح (ط- 1 - 1391) الناشر محمد علي السيد بسوريا. (¬2) رواه البيهقي في الدلائل عن الحاكم انظر البداية والنهاية لابن كثير (3/ 83) وانظر حياة الصحابة مجلد (1) ص (103) وانظر تاريخ الطبري (2/ 89).

الظلماء وأدناه أن تحب على شيء من الجور، وتبغض على شيء من العدل» (¬1). 9 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي» (¬2). 10 - وفي الحديث: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» (¬3). فهذه الأدلة لعلى وجوب محبة المؤمنين، ومولاتهم ومناصرتهم ودفع الأذى عنهم، وقد ذكر الله عز وجل أن الذين يعادون المؤمنين أو من دان بالإسلام وعمل به ودعا إليهم، ويسعون لإيصال الشر إليه، وتشريهدهم عن ديار الإسلام أن هؤلاء على خطر عظيم في خروجهم من الإسلام (¬4). قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [النساء: 112]. وفي الحديث: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم من المستدرك وقال صحيح الإسناد وأبو نعيم من الحلية عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا انظر تحفة الأخوان حمود بن عبد الله التويجري وانظر مجموعة التوحيد (118). (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 1988). (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعا، وهو حسن، انظر الإيمان لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت 235) (45) تحقيق ناصر الدين الألباني المطبعة العمومية بدمشق وانظر مسند الإمام أحمد (4/ 286). (¬4) انظر الجواب الفائض للرد على الرائض تأليف سليمان بن سحمان مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (3413) الورقة (33). (¬5) رواه البخاري في باب التواضع، انظر فتح الباري (11/ 340).

وفي حديث آخر: «وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب» (¬1). وقد جعل الله حب الصحابة، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين علامة، ودليلا من دلائل الإيمان، كما ذكر أن بغضهم وبغض من يقتدي بهم، وبمن اقتدوا به، من دلائل الكفر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «آية المنافق بغض الأنصار» «وآية المؤمن حب الأنصار» (¬2) وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حب الأنصار آية الإيمان، وبغضهم آية النفاق» (¬3) وعن البراء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» (¬4)، وفي حديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «عهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إلي أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق» (¬5). ومعنى هذه الأحاديث، أن من عرف رتبة الأنصار، وما كان منهم في نصرة الإسلام والسعي في إظهاره، وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات الإسلام حق القيام وحبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحبه إياهم وبذلهم أموالهم، وأنفسهم بين يديه، وقتالهم معه، ومعاداتهم سائر الناس، من غير المسلمين إيثارا للإسلام، ومن عرف فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحب النبي - صلى الله عليه وسلم - له وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه فيه: ثم أحب الأنصار وعليا لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه، وصدقه في إسلامه، لسروره بظهور الإسلام، والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن أبغضهم كان بضد ذلك واستدل ببغضه لهم على نفاقه وفساد سريرته (¬6) ويقاس على ذلك حب، أو بغض من سار ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (483). (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (1/ 85). (¬3) المصدر السابق نفس المكان. (¬4) المصدر السابق نفس المكان. (¬5) المصدر السابق (86). (¬6) المصدر السابق (85).

على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل فرس في أخيته يجول ثم يرجع إلى أخيته، وإن المؤمن يسهو ثم يرجع إلى الإيمان فأطعموا طعامكم الاتقياء، وأولوا معروفكم المؤمنين» (¬1) فهذا الحديث يدل على وجوب إعطاء المعروف لأهل الإيمان وأهل التقى الذين هم عون للمؤمن في الدنيا والآخرة. وقد دلت بعض الأحاديث أن القطعية بين الأخوة المسلمين وعدم الموالاة في الله من علامات الساعة وأشراطها، فقد روي عن حذيفة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة فقال: «علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ولكن أخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها، أن بين يديها فتنة وهرج» قالوا يا رسول الله الفتنة قد عرفناها، فالهرج ما هو؟ قال: بلسان الحبشة القتل، ويلقي بين الناس التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحدًا (¬2). وهذا للأسف هو الحاصل بين عامة المسلمين في العصر الحاضر. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث طويل أن من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك وعدوا لأعدائك نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من خالفك» (¬3). ومما تقدم يتضح لنا بكل جلاء ووضوح، وجوب موالاة الله ورسوله والمؤمنين، موالاة وتوليا بالقول والفعل والاعتقاد، إذا كنا صادقين في انتسابنا إلى أمة الإسلام، فالحب في الله والبغض في الله أصل عظيم من ¬

_ (¬1) انظر مسند أحمد (3/ 55). (¬2) مسند أحمد (5/ 389). (¬3) سنن الترمذي (5/ 148).

أصول الإيمان يجب على العبد مراعاته، ولهذا جاء في الحديث «المتقدم أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ... » الحديث. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والدعوة إلى ذلك والموالاة فيه، وتكفير من تركه قال تعالى: (إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الممتحنة: 4]. الثاني: الإنذار عن الشرك، في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعادة فيه وتكفير من فعله (¬1). ثم يقول جاء في الحديث الصحيح من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله (¬2) فقوله وكفره بما يعبد من دون الله، تأكيد للنفي، فلا يكون معصوما إلا بذلك، لأن شهادة أن لا إله إلا الله قيدت في الأحاديث بقيود ثقال، منها العلم، والإخلاص، والصدق واليقين وعدم الشك، وقبول ذلك ومحبته والمعاداة فيه والموالاة عليه (¬3) اهـ. فمن والى الله ورسوله والمؤمنين، ولم يعاد المشركين، لم يصح إيمانه ولم يستقم إسلامه لأن عداوة الكفار واجبة، بالقدر الذي يجب فيه، موالاة الله ورسوله، والمؤمنين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (33، 34). (¬2) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم (1/ 53). (¬3) انظر مجموعة التوحيد (35).

الله: الإخلاص محبة الله وإرادة وجهه فمن أحب الله أحب دينه وما لا فلا (¬1) اهـ. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: الواجب على كل عبد أن يعرف أن من صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووحد الله، لا يجوز له أن يواد من حاد الله، ورسوله، حتى يتوب المحاد من المحادة لله ورسوله (¬2) اهـ. والدليل على ذلك، قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22] فإذا كان الله عز وجل قد نهى عن موادة الأب والابن والأخ والعشيرة، إذا كانوا كفارة فما بالك بمن يواد الكفار، الذين لا يرتبط بهم بنسب أو سبب مباح، وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله: في معرض شرحه لكلام الشيخ ابن القيم رحمه الله في باب التوبة، قال: يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم، وإن لم يفعل فعلهم (¬3). ولأن محبة الله ومحبة الكفار، لا تجتمع في قلب مؤمن، حتى في حال الإكراه الملجئ الذي يعذر فيه الإنسان بالنطق في كلمة الكفر، لا يعذر الإنسان برضا القلب عنهم، لأنه إذا رضى بقلبه، فليس بعد ذلك في قلبه ذرة من إيمان. وفي كتاب وقعه علماء مكة المكرمة، بعد فتحها، على يد سعود ¬

_ (¬1) المصدر السابق (36). (¬2) المصدر السابق نفس المكان. (¬3) انظر مجموعة التوحيد (35).

ابن عبد العزيز بن محمد بن سعود قالوا فيه: ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به، ويوالي أهله، ويعادي أعداءه، فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر، وواجب على إمام المسلمين جهاده وقتاله، حتى يتوب إلى الله مما هو عليه، ويعمل بهذا الدين (¬1) اهـ. وقد وقع عليه أحد عشر عالما من علماء مكة الأجلاء ولكن للأسف الشديد أن كثيرًا من ولاة المسلمين المعاصرين، الذين فرض عليهم محاربة من يوالي الكفار، هم قد سبقوا غيرهم في ذلك فركنوا إلى الذين ظلموا واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين. يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لا تضيعوا حظكم من الله وتحبوا دين اليهود والنصارى، على دين نبيكم، فما ظنكم بين واجه الله، وهو يعلم من قلبه أنه عرف التوحيد، وأنه يعلم، أنه دين الحق، وهو يبغضه ويبغض من أتى به، ويبغض من اتبعه، ويعرف أن دعوة غيره هي الكفر ولكن مع ذلك يحبه ويحب من اتبعه أتظنون أن الله يغفر لهذا (¬2). إن الموالاة كما قلنا في التعريف الشرعي هي المحبة القلبية وما يترتب عليها من أقوال وأفعال. والمحبة لغير الله شرك كما تقدم إيضاح ذلك، فإخلاص الموحد لله يقتضي الحب في الله، والبغض فيه، والمعاداة في الله، والموالاة فيه لأن العبد إذا أخلص لله في المحبة، أحب طاعته وأهل طاعته، وأبغض معصيته وأهل معصيته، على معاصيهم، فعلى قدر المحبة لله، تكون الموالاة بين المسلمين والمعاداة للكافرين (¬3). ¬

_ (¬1) الدرر السنية (1/ 318). (¬2) انظر الدرر السنية (1/ 61) (¬3) انظر الدرر السنية (11/ 52).

والمحبة لله وفي الله ليست من قبيل محبة العوض فقط، بل هي أيضا إضافة لما يجده المسلمين في الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر محبة يجد المؤمن في قلبه وفعله آثارها الحسنة ونتائجها المحمودة في دار الدنيا قبل الآخرة، بخلاف محبة الأجير والعامل الذي يعمل لمحبة العوض فقط، أما حال العمل فلا يجد إلا التعب والضيق والنصب، وإنما يدفعه للعمل محبة العوض الذي ينتظره بعد تمام العمل. حيث إن محبة الله وحده ومحبة ما يحبه الله، تنفق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فلا تعارض أو تناقض بين أمر الله به وبين ما هو مودع في نفس الإنسان من حب وبغض ولذلك كانت الموالاة في الله والمعاداة فيه ملة أبينا إبراهيم عليه السلام وهدى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ) [المائدة: 51] والموالاة في الله، هي سبب تناصر المسلمين فيما بينهم وتعاونهم على ما يحقق لهم العزة والكرامة في الدنيا والأآخرة. وقد عد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نواقض الإسلام العشرة: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين (¬1) مستدلا بقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 51]. وقد أجمع علماء الإسلام أن من لم يكفر المشركين أوشك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، أو اعتقد أن نظامهم أهدى وأفضل من هدي الله ورسوله، أو أبغض شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (28).

ولو عمل به فهو كافر، لعدم استسلامه وانقياده انقيادا كاملا لله عز وجل (¬1) اهـ. وعداوة الكفار أمر واجب على المسلم، ولو كان هذا الكافر من القرابة في النسب قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 23، 24]. فنهى سبحانه وتعالى في الآية الأولى، المؤمنين عن موالاة وموادة أقرب الناس إليهم إذا كانوا كفارا وبين أن الذي يتولى أباه أو أخاه الكافر، ظالم لنفسه، يحملها على محمل قد حرمه الله عليها فكيف بمن تولى الكافرين وهم أعداء له ولآبائه ولدينه؟ أفلا يكون هذا ظالما، بلى، والله إنه أظلم الظالمين وقد عرف العلماء الظلم، بأنه وضع الشيء في غير موضعه (¬2). ثم بين في الآية الثانية أن هذه الأعذار الثمانية التي يعتذر بها المعتذرون لا تصح أن تكون عذرا في موالاة وموادة الكافرين فليس لأحد أن يواليهم، خوفا على أبيه، أو أخيه، أو بلاده أو ماله أو مركزه أو زوجته وأولاده فإن الله قد سد باب الأعذار بهذه الأمور ونحوها وعد من يعتذر بها من المنافقين قال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) [الفتح: 11]. ¬

_ (¬1) الدرر السنية (2/ 176). (¬2) انظر مورد الظمآن لدروس الزمان تأليف عبد العزيز السلمان (3/ 105).

وقد يعترض معترض على أن هذه الآية والتي قبلها نزلت في شأن الجهاد فما علاقتهما بالموالاة والمعاداة، فنقول: إن علاقتهما بالموالاة والمعاداة من وجهين: الأول: إذا كانت هذه الأعذار الثمانية المذكورة في الآية ليست عذرا في ترك الجهاد، الذي هو فرض كفاية في بعض أحواله، فكونها لا تكون عذرا، في ترك عداوة المشركين ومقاطعتهم بطريق الأولى. الثاني: قوله تعالى: (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ) [التوبة: 24] فمحبة الله ورسوله، توجب إيثار عداوة المشركين ومن في حكمهم، ومقاطعتهم على هذه الثمانية، كما أن محبة الجهاد توجب إيثاره عليها (¬1). وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: أن المبغض لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كافر بالإجماع ولو عمل به (¬2)، ثم يقول في موضع آخر فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يرد شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكونه مخالفا لهواه أو لما عليه أهل وقته، ومشايخه، فإن الكفر كما قال ابن القيم رحمه الله في نونيته: فالكفر ليس سوى العناد ورد ما ... جاء الرسول به لقول فلان فانظر لعلك هكذا دون التي ... قد قالها فتبوء بالخسران (¬3) وقال تعالى: (إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73] اهـ. ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (262). (¬2) انظر الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (230). (¬3) المصدر السابق (240).

أي إن لم تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المسلم بالكافر، على غير تمييز فيقع بذلك فساد عريض (¬1). وفي رسالة بعث بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى عبد الله بن علي ومحمد بن جماز، يأمرهما بمخاطبة من لديهم، قال فيها: ولكن أخبروهم أن الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، لا يصير للرجل دين إلا بها، فلا ينفعهم ترك الشرك، ولا ينفعهم قول (لا إِلَهَ إِلا اللهُ) حتى يبغضوا لله (¬2). وقال: أبلغوهم أن المعاداة ملة أبينا إبراهيم عليه السلام ونحن مأمورون في متابعته قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) إلى قوله تعالى: (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} (¬3). ثم قال: واذكروا لهم إن الواجب على الرجل أن يعلم علياله وأهل بيته الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة فيه، مثل تعليم الوضوء والصلاة، لأنه لا صحة لإسلام المرء، إلا بصحة الصلاة ولا صحة لإسلامه أيضا إلا بصحة الموالاة والمعاداة في الله (¬4)، وفي مسائل لخصها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عن ابن تيمية رحمهما الله قوله: إن الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة، لأنها إما فعل مأمور، أو ترك محظور، والترك أمر وجودي، فتركه لما عرف أنه ذنب، وكراهته له، ومنع نفسه منه، أمور وجودية، وإنما يثاب على الترك، على هذا الوجه، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) ملحق المصنفات مختصر تفسير سورة الأنفال للشيخ محمد بن عبد الوهاب (25) (¬2) الرسائل الشخصية محمد بن عبد الوهاب (322) (¬3) المصدر السابق نفس المكان. (¬4) الرسائل الشخصية محمد بن عبد الوهاب (323).

البغض في الله، من أوثق عرى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله، من كمال الإيمان، وهو أصل الترك أيضا، فبراءة الخليل عليه السلام من قومه المشركين ومعبوداتهم ليست تركا محضا، بل صادرا عن بغض وعداوة لهم، لبغضهم ومعاداتهم لله (¬1). ثم يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب إن الله سبحانه وتعالى يحب عباده المؤمنين، فيريد الإحسان إليهم، وهم يحبونه فيريدون طاعته، وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله ورسوله والمؤمنين، والمحبة هذه تكون لكل محبوب بحسبه محبة الله هي الأساس، ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله، ومحبة المؤمنين من محبة الله ومحبة رسوله، فإذا سمع المؤمن، من يسب أحد هؤلاء المحبوبين لديه، هان عليه ذلك الساب وانعقد القلب على عداوته، ومهاجرته، بل وجب السعي إلى إرجاعه إلى الحق أو محاربته على ذلك، خاصة إذا كان السب لله أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن ذلك لا يصدر إلا عن كافر أو مرتد عن الإسلام (¬2) قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة: 22]. وعلى هذا فإن بغض الكفار واجب ومحبتهم ممتنعة، وعلى العكس من ذلك أهل الإيمان، فإن حبهم واجب وبغضهم ممتنع، يقول الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمهم الله وهو من العلماء العاملين في رسالة بعث بها إلى بلاد العجم وبلاد الروم قال فيها: نحن لا نكفر إلا من عرف التوحيد وسبه وسماه دين الخوارج، وعرف الشرك وأحبه وأحب أهله ودعا إليه وحض الناس عليه، بعد ما قامت عليه الحجة، وإن لم يفعل الشرك أو فعله وسماه بغير اسمه، بعد ما عرف أن ¬

_ (¬1) ملحق المصنفات للشيخ محمد بن عبد الوهاب (36). (¬2) انظر العقيدة الإسلامية، محمد بن عبد الوهاب (ص385).

الله حرمه، أو كره ما أنزل الله أو أبغض ما أنزل الله (¬1) قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 9]. فنستنتج من ذلك، أن أكبر ذنب وأضله وأعظمه منافاة لأهل الإسلام الولاء لأعداء الله، من حب معاونة ومناصرة لهم على كفرهم، لأن من أنواع الشرك الرئيسة شرك المحبة والولاء (¬2) والشرك بأنواعه المتعددة من أعظم الذنوب قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48] وشرك الولاء للأعداء يتخذ صورا متعددة منها السعي فيما يظهر به دين الكفار، وما هم عليه من باطل وشرك يضاف إلى ذلك انشراح الصدر لهم، وطاعتهم والثناء عليهم ومدح من دخل تحت أمرهم المنكر، وانضم إلى سلكهم وحرض على ترك جهادهم ومسالمتهم ودعا إلى عقد الأخوة معهم والطاعة لهم وتكثير سوادهم (¬3). وقد روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ستكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولست منه، ولن يرد عليّ الحوض» (¬4). وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أعان على خصومة بظلم أو يعين على ظلم لم يزل في سخط الله تعالى حتى ينزع» (¬5). ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 145، 146). (¬2) انظر مقرر علم التوحيد للصف الثاني الثانوي بالمملكة العربية السعودية/ تأليف محمد قطب (1) سنة 396هـ، (36). (¬3) انظر الدرر السنية (11/ 80). (¬4) رواه أحمد، مسند أحمد (2/ 95). (¬5) رواه ابن ماجه، سنن ابن ماجه (2/ 52) وانظر الحلية لأبي نعيم (5/ 74) (248).

وروي أيضا عن امرأة يقال لها فسيلة قالت: سمعت أبي قول سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: لا «ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم» (¬1). ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: إن الله افترض على المؤمنين عداوة المشركين من الكفار والمنافقين ومن حذا حذوهم، وقطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين وبين أن من تولى الكفار فهو منهم (¬2) قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) إلى قوله: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 1 - 9]. فنأخذ من تلك الآيات، أن موالاة الكافرين أمر عظيم، ومبدأ خطير وذلك مما عرضته الآيات من شدة النهي والزجر، مع صحابي علم الله واطلع رسوله - صلى الله عليه وسلم - على أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه فعل ذلك مع سلامة القصد، ويقين القلب بالإسلام، ولكن مع ذلك أنزل فيه آيات بينات ووقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثائرا يقول: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فقد نافق، فيرد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يا عمر إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (¬3). فأعطت الآيات التسع من أول سورة الممتحنة حجمًا عظيمًا لهذه الحادثة، ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه المصدر السابق (2/ 463). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (113). (¬3) تفسير القرطبي (18/ 50).

لكن لا تكون سابقة لمثلها، في هذا الدين، مع أنه كان يمكن أن تمر هذه الحادثة لو قدرناها باعتبارها حادثة فردية بطريق أسهل وأخف، من أن ينزل الله بها وحيا يتلى إلى قيام الساعة، ولكن إرادة الله ومشيئة هي التي قدرت لهذه الحادثة أن تكون، وأن تكشف فصاحب القصة هو أحد الأفراد القلة الذين استودعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سر هذه الغزوة ثم تدركه لحظة الضعف البشري، فيبوح بذلك السر، ويجري قدر الله وإعجازه، بكف ضرر هذه الحادثة، قبل تمامها، باطلاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأمر (¬1) فيتحقق بذلك أمر الله في منع موالاة الكافرين ومودتهم، وبخاصة الذين يحاربون أهل الإسلام في دينهم وديارهم وأنفسهم حيث قال: (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أما لو رجعنا إلى الكتاب الذي بعث به حاطب بن أبي بلتعة، إلى قريش لوجدنا أن ما فيه من كلمات، تعتبر بمثابة حرب نفسية للكفار حيث يقول فيه: أما بعد فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره (¬2) ولكن نظرا إلى أن الأمر تم بتصرف فردي واجتهاد شخصي لمصلحة خاصة، اعتبر ذلك الأمر في غاية الخطورة والشدة، حيث إن في ذلك إذاعة لسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللجماعة المسلمة بدون مراجعتها وإقرارها لذلك. فاعتبر ذلك انحيازا إلى الكفار وموالاة لهم، ولكن حاطب بن أبي بلعتعة رضي الله عنه قد استثنى من طائلة هذا التصرف وعفا الله عنه لاعتبارات تقدم ذكرها (¬3) وهي لا تنطبق على سواه، أما من يفعل ذلك ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (8/ 65، 66). (¬2) تفسير القرطبي (18/ 50) وانظر نيل الأوطار للشوكاني (8/ 156). (¬3) انظر (172) من هذه الرسالة.

من المسلمين بعده، فهو مرتكب لذنب عظيم وإثم كبير، إذا فعل ذلك لغرض دنيوي وكان سليم الاعتقاد، نحو الله ورسوله ودين الإسلام والمسلمين حيث إن حاطب رضي الله عنه أراد بعمله ذلك أن يتخذ يدا عند الكفار يحمون بها أبناءه وأهله، ولو ينو الردة عن الدين ومع ذلك وصف هذا العمل بالضلال قال تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [االممتحنة: 1]. أما من فعل ذلك مع فساد النية وخبث الطوية فهو كافر مرتد (¬1) وهذا الحكم ينطبق على الذين يستدعون الكفار إلى بلاد المسلمين ثم يطيعونهم فيما يأمرون به من كفر وضلال، ويظهرون لهم الموافقة على دينهم الباطل، ويعينونهم عليه بالمال والرجال والسلاح، بينما يقطعون صلتهم بالمؤمنين خاصة والمسلمين عامة، وربما ناصبوا المسلمين العداء في أقوالهم وأفعالهم فهل يشك أحد في كفر هؤلاء وردتهم عن الإسلام؟ إن من يفعل ذلك يكون خارجا على منهج الله ومنهج رسوله، فإن كان حاكما سقطت ولايته وانحلت بيعته، ووجب عصيانه وعدم طاعته، وإن كان من أدعياء العلم، ثبت إلحاده وانحرافه وزندقته، وإن كان جاهلا، أو متهاونا ثبت ضلاله لعدم سعيه وسؤاله عما لا يعلم حيث إن الله تعالى يقول: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 7]. فكثير من مدعي الإسلام في عصرنا الحاضر داخلون تحت هذا لاحكم فالذين يصححون مذاهب الكفر ويعظمون أحزابه وينتمون إليها ويدعون لها، كفارا وإن اعتقدوا الإسلام أو زعم بعضهم بجهل أو تجاهل أن لا تعارض بين الإسلام وتلك الأحزاب. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن القيم (4/ 1771).

فالذين ينادون بالشيوعية، أو الاشتراكية، أو يدعون إلى الأحزاب البعثية، أو القومية، أو العلمانية، أو الماسونية هؤلاء كفار وإن عاشوا بين المسلمين، وتسموا بأسماء أهل الإسلام، لأنهم لم يرضوا بالإسلام دينا، ولم يعتقدوا بكماله وتمامه، وإلا لم ينتموا ويدعوا إلى تلك الأحزاب الكافرة قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) [المائدة: 3]. وقال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]. وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85]. فالذين يوالون الكفار على تلك الصفات المتقدمة حكمهم الكفر، لأن هؤلاء الذين يوالون الكفار غالبا ما يكونون مبغضين لحكم الله ورسوله ودين الإسلام، معادين لأوليائه موالين لأعدائه، فهم والحالة هذه جمعوا بين سببين مكفرين: الأول: تفضيل أحكام الكفار وأنظمتهم على حكم الله ورسوله. الثاني: بغضهم لما جاء عن الله وعن رسوله من دين الإسلام فهم يحاولون تأويل النصوص الشرعية وتفسيرها حسبما يتفق مع أهوائهم ورغباتهم المنحرفة فهم وإن عملوا ببعض أحكام الإسلام فليسوا مسلمين بالمعنى الصحيح، لأنهم لم يستسلموا لله، وينقادوا له بالطاعة، ويذعنوا لأحكام الإسلام ففي أنفسهم حرج مما قضى الله به وشرع وهذا ينفي عنهم صفة الإيمان، قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ

لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65}. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمة ووقع فيه وأقره ودعا إليه، وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره أو شر منه، أو دونه فتنقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان (¬1) اهـ. وقد رأى ذلك من قبلنا، ورأيناه في عصرنا الحاضرة بصورة لا مثيل لها فقد ابتلينا بجهلة يدعون علما بلا عمل، ويحملون شهادات كبيرة ولكنهم مع ذلك أشربت قلوبهم حب الشرك والبدع، وقلدوا اليهود والنصارى وأهل الوثنية حذو القذة بالقذة، فقد استحسنوا البدعة، وأنكروا التوحيد والسنة وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل وجهلوا أو تجاهلوا أن الله تعالى عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم، من يهود ونصارى ومجوس، ومشركين وملحدين ومارقين ومرتدين، وغيرهم ممن ثبت في الكتاب والسنة والحكم بكفرهم، فعليهم وعلى أمثالهم ممن لم يصلوا إلى درجتهم أن يعلموا أن الله عز وجل، قد أوجب على كل مسلم محبة كل مؤمن موحد، تارك لجميع المكفرات الشرعية، وأن عليه موالاته ونصرته بنفسه، وماله، واعتقاده وكل من كان بخلاف ذلك من أهل الزيغ. ¬

_ (¬1) مجموعة التوحيد (319، 320).

والإنحراف والضلال، فإنه يجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان فما الولاء والبراء، إلا الحب والبغض في الله، وهما أصل الإيمان، فأصل الإيمان، أن تحب في الله أنبياءه، ورسله وأتباع رسله، وتبغض في الله، أعداءه، وأعداء رسله، وأعداء المؤمنين في كل زمان ومكان، وكل من حكم الشرع بتكفيره فإنه يجب تكفيره ومن لم يكفر من كفره الله ورسوله، فهو كافر مكذب لله ورسوله، وذلك إذا ثبت عنده كفره بدليل شرعي (¬1) اهـ. وقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم، وسنة رسوله المصطفى العظيم أن الناس في هذه الحياة قسمان لا ثالث لهما، حزب الله، وحزب الشيطان، وأمر المسلم أن ينضم إلى حزب الله، يحبه ويواليه ويناصره بجميع ما يملك، إن أراد أن يكون من جزب الله المفلحين، قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}. إلى قوله: (أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22] أما من ضل وانحرف، وشقي في دنياه وأخراه فهو الذي يتولى ويوالي حزب الشيطان، وحزب الشيطان يتخذ مظاهر متعددة وإشكالا مختلفة، ولكن يجمعها شيء واحد هو تعارضها مع الإسلام جملة وتفصيلا فكل حزب يتعارض مع الإسلام هو حزب الشيطان مهما أطلق عليه من أسماء براقة وألفاظ ممنمقة قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة: 19] فيجب على المسلم أن يتعامل مع الناس، على أساس أن هناك من الناس من هم أولياء لله، ومنهم من هم أولياء للشيطان، وقد فرق الله بينهم بقوله تعالى في شأن أوليائه (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ ¬

_ (¬1) انظر في هذا المعنى الفتاوى السعدية (1/ 98) عبد الرحمن بن سعدي

عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس: 62]. وقوله تعالى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 257]. وقال تعالى عن أولياء الشيطان: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) [الأعراف: 27]. وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) [الأنعام: 121]. وقال تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف: 50] فإذا عرف الناس أن فيهم أولياء للرحمن، وأولياء للشيطان، فيجب على المسلم أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء، كما فرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهما (¬1). فأولياء الله لا تجوز معاداتهم أو محاربتهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» (¬2) .. الحديث فيؤخذ من ذلك أن من كره من أحب الله خالف الله، ومن خالف الله عاذده، ومن عانده أهلكه الله. وإذا ثبت ذلك في جانب المعاداة ثبت ضد ذلك في جانت الموالاة لأولياء الله، فمن والى أولياء الله أكرمه الله، ومن عاداهم عاداه الله. قال الطوفي (¬3): لما كان ولي الله هو من تولى الله بالطاعة ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (482). (¬2) رواه البخاري انظر فتح الباري (11/ 340). (¬3) هو سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري البغدادي الحنبلي ولد سنة (657) ونشأ نشأة العلماء فهو فقيه أصولي، مشارك في أنواع العلوم، ولد بقرية طوفي من أعمال بغداد، وتوفي في الخليل بفلسطين سنة (716) من تصانيفه الكثيرة بغية الشامل في أمهات المسائل في أصول الدين مختصر الحاصل في أصول الفقه، شرح مقامات الحريري في مجلدات الإكسير في قواعد التفسير مختصر الجامع الصحيح للترمذي. انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (4/ 266).

والتقوى تولاه الله بالحفظ والنصرة، وقد أجري الله العادة بأن عدو العدو صديق، وصديق العدو عدو، فعدو ولي الله، عدو الله ومن عادى إنسانا كان كمن حاربه، ومن حارب ولي الله كان كمن حارب الله (¬1) اهـ. وفي الحديث إني لأثار لأوليائي كما يثأر الليث الحرب (¬2). أي آخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره لأن الله عز وجل يدافع عن الذين آمنوا قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج: 38] فهذه كرامة من الله عز وجل للذين آمنوا به، ووالوه وأحبوه، وأحبوا ما يحب، وابغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر به، ونهوا عما نهى عنه، وأعطوا لمن يحب أن يعطي، ومنعوا من يحب أن يمنع، فمن أجل ذلك أحاطهم الله بعناية ورعايته قال تعالى: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. فمن لم يعاد الكافرين ويوال المسلمين فليس من حزب الله ولا من أهل ولايته، يقول الشاعر سليمان بن سحمان: فمن لم يعاد المشركين ومن لم ... يوال ولم يبغض ولم يتجنب فليس على منهاج سنة أحمد ... وليس على نهج قويم معرب (¬3) ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (11/ 343). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (383) ضمن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. (¬3) عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان (248).

ويقول في موضع آخر: ومن كان ذا حب لمولاه إنما ... محبته للدين شرط فقيد ومن لا فلا والحب لله إنما ... يتم بحب الدين دين محمد فعاد الذي عادى لدين محمد ... ووال الذي والاه من كل مهتد وأحبب رسول الله أكمل من دعا ... إلى الله والتقوى وأكمل مرشد أحب من الأولاد والنفس بل ومن ... جميع الورى والمال من كل اتلد واحبب لحب الله من كان مؤمنا ... وأبغض لبغض الله أهل التمرد وما الدين إلا الحب والبغض والولا ... كذاك البراء من كل غاو ومعتد (¬1) ويقول المجاهد مروان حديد (¬2) من قصيدة طويلة: ومرضاة الإله بحرب كفر ... وبغض الكفر في لحمي ودمي فخلاصة القول في هذا المبحث إننا محتاجون إلى ولاية الله ونصرته وعونه لنا وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت موالاتنا في الله، ومعادالتنا فيه وأن من لم يوال في الله ويعاد فيه فليس بمسلم، وأنه لا عز لنا في الدنيا ¬

_ (¬1) المصدر السابق (259). (¬2) ولد الشاعر المجاهد مروان حديد في مدينة حماة عام (1938) وعاش في أسرة عرفت بتمسكها بالإسلام تلقي العلم بمدارس حماة ومساجدها وبعد أن أتم دراسته الثانوية انتقل إلى مصر والتقى بكثير من علمائها، وعلى رأسهم الشيخ حسن البنا رحمه الله ثم بعد ذلك تخرج من كلية الزراعة مهندسا زراعيا، وعاد إلى سوريا داعية إلى الله، يزرع بدعوته الإيمان في القلوب المجدية، ولكن البعثيين الكفرة تصدوا له فاعتقلوه وقضى سنوات طويلة في سجن تدمر الصحراوي ثم خرج منه عام (1967) بعد الهزيمة المصطنعة التي سلم فيها الخائن النصيري هضبة الجولان لأخوانه اليهود، فتألم المجاهد مروان حديد لاستيلاء اليهود على القدس، وشكل مجموعة من الشباب المسلم واتخذوا قاعدة لهم في غور الأردن ينطلقون منها إلى قلب فلسطين، مجاهدين لليهود، فتأمر عليهم اليهود مع النصيريين الكفرة وعندما عاد مروان حديد إلى حماة داهمته القوات البعثية صباح اليوم الأول من شهر يوليو 1975م وصعدت روحه الطيبة إلى بارئها انظر شعراء الدعوة الإسلامية (5/ 95 - 97).

والآخرة إلا بالموالاة في الله التي تجعل المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولا فوز لنا في الآخرة إلا بذلك، فمن والى الكفار فهو معهم دنيا وأخرى، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء: 140]، وقال تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا) [النساء: 139].

المبحث التاسع: صلة المداهنة والمداراة بالموالاة والمعاداة

المبحث التاسع: صلة المداهنة والمداراة بالموالاة والمعاداة يختلط على كثير من الناس مفهوم المداهنة بالمداراة، فيحتج البعض منهم بمفهوم إحداهما على الأخرى، رغم أن هناك فرقا بينهما لا يخفى على ذوي الاطلاع، من أجل ذلك أردنا في هذا المبحث أن نوضح حسب اطلاعنا المحدود الفرق بين هذين المفهومين اللذين يلتبسان على كثير من الناس فنقول: بأن في هذا المبحث مطلبين: المطلب الأول: هو تعريف المداهنة وحكمها. المطلب الثاني: هو تعريف المداراة وحكمها والفرق بينها وبين المداهنة المطلب الأول: المداهنة وحكمها المداهنة: هي ترك ما يجب لله، من الغيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغافل عن ذلك، لغرض دنيوي وهوى نفساني، لزعم هؤلاء

أن المعيشة لا تحصل لهم إلا بذلك، فالمداهنة هي المعاشرة والاستئناس مع وجود المنكر والقدرة على الإنكار (¬1). فالمداهنة محرمة، وهي نوع من أنواع الموالاة للكفار (¬2). فمن داهن أهل الكفر والظلم والفجور وهو قادر على الإنكار عليهم فقد خالف نهج الرسل والأنبياء وأتباعهم، وخرج عن سبيلهم ومنهاجهم، فالذين يداهنون الكفار، يرون العقل في إرضاء الناس على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم، بغض النظر عمن هو صاحب الحق ومن صاحب الباطل، فهم يسالمون الجميع ويستجلبون مودتهم ومحبتهم، إيثار للحظوظ الدنيوية، وحبا للدعة والراحة، وطلبا للسلامة العاجلة، في ترك المعاداة في الله، والموالاة فيه، وتحمل الأذى في سبيله، وهذا الاعتقاد والعمل هو التهلكة في العاجلة والآجلة، حيث إن المداهنة بهذا الوصف تتعارض مع آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان: 17]. فالمداهن بالإضافة إلى تركه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكتسب إثما جديدا وهو إشاعة الفحشاء والمنكر في المجتمع، لأن الفجرة والطغاة إذا آمنوا من مغبة الإنكار عليهم، ازدادوا في فجورهم وطغيانهم لأنهم يرون أن الكلم يعلم فجورهم، ومع ذلك يسكت ويداهن، فالمداهنة مشاركة بجريمة اقتراف المنكر والسكوت عليه في الدنيا، ولذلك استحق من يفعل ذلك اللعن والطرد من رحمة الله، كما ذكر الله عز وجل عن بني إسرائيل قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) الدرر السنية (11/ 85). (¬2) الدرر السنية (7/ 38، 39).

كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ) [المائدة: 79]. فلا يجوز ترك إنكار المنكر ممن يراه، فالذي يسكت عن إنكار المنكر خوفا أو هيبة من أحد من الناس، يكون مداهنا في دين الله، والله عز وجل حرم المداهنة يقول تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم: 9]. فالذي يرى المنكر ينكر على فاعله بالحكمة والموعظة الحسنة التي يراها مناسبة لمثل تلك الحالة، فالمنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه، وإذا فشا ولم ينكر ضر العامة كلهم (¬1). وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها» وقال مرة: أنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها (¬2)، فعلى هذا يكون الاستئناس والمعاشرة عند رؤية المنكر مع القدرة على الإنكار، هو عين المداهنة (¬3) فما ذاق طعم الإيمان، من لم يوال في الله ويعاد فيه فالعقل كل العقل ما أوصل إلى رضا الله ورسوله وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله، وإيثار مرضاته على مرضاتهم، والغضب إذا انتهكت محارمه فالغضب ينشأ من حياة القلب وغيرته وتعظيمه لله، وإذا عدمت الحياة في القلب تبعها انعدام الغيرة والتعظيم والغضب لله فتساوى عند هؤلاء الناس الخبيث والطيب، في المعاملة وفي الموالاة والمعاداة فأي خير يبقى في قلب كهذا؟ ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (11/ 4). (¬2) انظر سنن أبي داود (4/ 124) رقم الحديث (4345) كتاب الملاحم,. (¬3) انظر الدرر السنية (7/ 35، 36).

إن المداهن الذي يطلب رضا الخلق، أخبث حالا من الزاني والسارق وشارب الخمر. قال ابن القيم رحمه الله: ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة بل القيام مع ذلك بالأمور المحبوبة عند الله، وأكثر المنتسبين إلى الدين لا يعبئون منها، إلا بما يشاركهم فيه عموم الناس، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله، ورسوله وعباده المؤمنين، ومناصرتهم والجهاد معهم فلا يخطر ببال كثير ممن يدعون الإسلام فضلا عن أن يريدوا فعلها، أو أن يفعلوها وأقل الناس دينا، وأبعدهم من الله، من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها، حيث يندر من هؤلاء من يحمر وجهه ويتمعر غضبا لله، إذا انتهكت محارمه، فهم لا يجودون بالأنفس والأموال في نصرة الحق وقمع الباطل، فأصحاب الكبائر أحسن حالا عند الله من هؤلاء (¬1) اهـ. ثم يقول الشيخ حمد بن عتيق معلقا على كلام ابن القيم رحمهما الله جميعا: لو قدر أن رجلا يصوم النهار ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب ولا يتمعر وجهه، ويحمر لله غضبا عند رؤية المنكر وأهله، فهذا من أبغض الناس عند الله وأقلهم شأنا، نظرا لعدم تحمله الأذى في سبيل الدعوة إلى الله (¬2) اهـ. ثم يقول حدثني من لا أتهم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه قال مرة: عندما رأى أناسا يجلسون في المسجد على مصاحفهم يقرءون ويبكون، فإذا علموا معروفا لم يأمروا به، وإذا رأوا منكرا لم ينهو اعنه، ورأى أناسا يعكفون عندهم، ويقولون هؤلاء لحي ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (7/ 38). (¬2) انظر الدرر السنية (7/ 38، 39).

غوانم (¬1) وأنا أقول إنهم لحي فوائن (¬2) فقال السامع أنا لا أقدر أن أقول: إنهم لحي فوائن فقال الشيخ: أنا أقول إنهم من العمي البكم (¬3). يشهد لهذا ما جاء عن بعض السلف قولهم: إن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق (¬4) فلو علم المداهن الساكت أنه من أبغض الخلق إلى الله وهو في تلك الحالة، لتكلم بالخير وصدع بالحق، ولو علم طالب رضا الخلق بترك الإنكار عليهم، أنه لن يناله من ذلك إلا غضب الله عليه، ومن يغضب الله عليه يغضب الناس عليه، كما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» (¬5). فالمداهنة سبب للغضب والعذاب في الدنيا والآخرة يقول الشاعر: وثمود لو لم يداهنوا في ربهم ... لم تدم ناقتهم بسيف قدار (¬6). وعلى هذا فالحاكم المسلم يجب عليه موالاة أهل الإيمان ونصرتهم، وقمع أهل الباطل والبغي والفساد وكسر شوكتهم، وقد أخذ بهذا المبدأ عبد الله بن سعود بن عبد العزيز في رسالة بعث بها إلى أمراء بعض الجهات التابعة له، قال فيها: بلغنا الخبر أن بعض الأمراء متسلط على أهل الدين، بأمور ظاهرها حق وباطنها باطل ومغشة، ولا يفعل هذا أمير مع ¬

_ (¬1) أي فائزة من غنم الشيء غنما أي فاز به، انظر المعجم الوسيط (2/ 670). (¬2) فوائن جمع فينة وهي الأمر الدريء (¬3) انظر الدرر السنية (7/ 39). (¬4) المصدر السابق نفس المكان. (¬5) انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (350، 351) انظر سنن الترمذي (4/ 34). (¬6) انظر الدرر السنية (7/ 36).

المطلب الثاني: المداراة وحكمها والفرق بينها وبين المداهنة

أهل الدين فأدعه يوما واحدا في الأمارة فكل يأخذ حذره ويبدل ما كان عليه ومضى ما فيه الكفاية (¬1) اهـ. ومما تقدم يتضح أن المداهنة مذمومة، وقد نهي عنها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [سورة القلم: 9]. والمداهنة مذمومة لأنها وسيلة إلى تزيين القبيح وتصويب الباطل والسكوت على المنكر فهي من الموالاة المحرمة (¬2) اللهم إنا نعوذ بك من كل عمل يغضبك علينا، ومن كل سجية تقربنا من التشبه بالشياطين الساكتين والناطقين، أو أن نداهن في ديننا أهل الشبهات والشهوات والنفاق والكفر، إنك حسبنا ونعم الوكيل. المطلب الثاني: المداراة وحكمها والفرق بينها وبين المداهنة المداراة: هي درء الشر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة أو الإعراض عنه إذا خيف أشد منه، أو مقدار ما يساويه (¬3). حكم المداراة لأهل الشر والفجور: تجوز مداراة أهل الشر والفجور فيما لا ينتج عنه قدح في أصل من أصول الإسلام وواجباته، وهذه المداراة ليست داخلة في مفهوم الموالاة المحرمة (¬4) فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداري الفساق والفجار فقد روى البخاري بسند منقطع قوله، ويذكر عن أبي الدرداء إنا لنكشر ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (11/ 85). (¬2) انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري (13/ 52، 53). (¬3) انظر الدرر السنية (11/ 85) وانظر (7/ 36). (¬4) المصدر السابق نفس المكان.

في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم (¬1) وفي حديث آخر عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها أخبرتها أنه استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) رجل فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله! قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول فقال: أي عائشة: إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه (¬3). قال بعض العلماء: تجوز المداراة، فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير، فأما إن كانت المدارة في أمور تخالف أصول الدين فهي مداهنة لا مداراة فلا يجوز مداراة الناس في مظالمهم من قتل نفس أو سرقة أموال، أو انتهاك أعراض، أو شهادة زور أو نحو ذلك من الأمور المحرمة (¬4). قال ابن بطال (¬5): المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (10/ 527) وقد ضعف الألباني هذا الحديث في كتابه سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 252) رقم (216). (¬2) هو عيينة بن حصن، ولم يكن أسلم حينئذ وإن كان قد أظهر الإسلام فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين حاله ليعرفه الناس، ولا يغتر به من لم يعرف حاله، قال القاضي: وكان مثله في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده ما دل على ضعف إيمانه، وارتد مع المرتدين، وجيء به أسيرًا إلى أبي بكر رضي الله عنه ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه بئس أخو العشيرة من أعلام النبوة لأنه ظهر كما وصف، وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام، والمراد بالعشيرة قبيلته أي بئس هذا الرجل منها انظر صحيح مسلم (4/ 2002) كتاب في البر والصلة. (¬3) انظر فتح الباري (10/ 528). (¬4) انظر روائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن (1/ 404) تأليف محمد علي الصابوني. (¬5) هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري، القرطبي المالكي ويعرف بابن اللحام أبو الحسن محدث فقيه، استقضي بحصن الورقة وتوفي في آخر يوم من شهر صفر سنة 449 هـ من آثاره: شرح الجامع الصحيح للبخاري في عدة أسفار، والاعتصام في الحديث، انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحالة (7/ 87).

الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول والعمل، وذلك من أقوى أسباب الألفة (¬1) اهـ. أما المداهنة فهي من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه. أما المداراة فهي تعني: الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حتى لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بطلف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه على الخير ومنع ما يحصل منه من شر (¬2). فقد روى أبو نعيم في الحلية عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأقبل رجل فلما نظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بئس أخو العشيرة وبئس الرجل» فلما دنا منه أدنى مجلسه فلما قام وذهب قالوا: يا رسول الله حين أبصرته قلت: بئس أخو العشيرة وبئس الرجل، ثم أدنيت مجلسه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنه منافق أداريه عن نفاقه، فأخشى أن يفسد علي غيره» قال أبو نعيم هذا حديث غريب (¬3). ومن ذلك نستنتج أن المداراة جائزة فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وفيما لا يخالف أصلا من أصول الإسلام وواجباته، وإن مداراة أهل الفسق والفجور ليست قاعدة مطردة يؤخذ بها في كل وقت وحال، وإنما يجوز العمل بها فقط إذا خيف حصول شر أعظم مما هو كائن، أو مثله، وكان المداري غير قادر على إنكار هذا المنكر ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (10/ 528). (¬2) المصدر السابق (10/ 528، 529). (¬3) الحلية لأبي نعيم (4/ 191).

بالقول أو الفعل، فيجوز له درء الشر بالقول اللين، أو الإعراض عنه لهذه الأسباب، أما إذا زالت الأسباب الموجبة للمداراة، أو كانت المداراة تؤدي إلى ضرر الغير أو إلى مخالفة أصل من أصول الإسلام وواجباته فإن المداراة حينئذ لا تصح ولا تجوز، لأنها انتقلت من كونها مداراة إلى كونها مداهنة، والمداهنة محرمة في الإسلام كما سبق بيان ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) انظر صفحة (204 - 208) من هذه الرسالة.

المبحث العاشر: تغيير الأسماء لا يغير حقيقة المسمى وحكمه

المبحث العاشر: تغيير الأسماء لا يغير حقيقة المسمى وحكمه يعبر القرآن الكريم عن مفهوم الخيانة بكلمة الولاء للأعداء والتولي لهم، وهذا يبدو واضحا جليا في آيات القرآن الكريم المتناولة لهذا الموضوع، فإنه يطلق ذلك اللفظ على أولئك الذين خانوا الله ورسوله والمؤمنين فآثروا العدو والسعي في رضاه، علي رضي الله ورسوله وجماعة المسلمين وآثروا خدمة العدو الكافر على خدمة دين الإسلام ومبادئه العظام. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27] فقيل إنها نزلت في أبي لبابة رضي الله عنه حين أشار إلى بني قريظة عدم النزول على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال: لا تفعلوا فإنه الذبح، وأشار على حلقة وقيل نزلت في قوم كانوا يسمعون الشيء من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيلقونه إلى المشركين ويفشونه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر جامع النقول في أسباب النزول ابن خليفة عليوي (2/ 68) (ط-1)

فالخيانة تعني في مفهوم الإسلام والمسلمين، موالاة العدو توليه، وخيانة كل الفضائل والمبادئ التي جاء بها الإسلام، وطبيعي أن يعدل الناس الذين ابتعدوا عن مفهوم الإسلام، عن استعمال التعبير القرآني في أقوالهم وأفعالهم لأنهم يعلمون أن التعبير القرآني يشتمل على ما لا يريدون من مفاهيم تتنافى وسلوكهم العملي في واقع الحياة (¬1). ولذلك فهم يصفون موالاتهم للأعداء وتوليهم لهم، وخيانتهم لله ورسوله والمؤمنين، بأوصاف الصلاح والإصلاح، وهم في الحقيقة إنما يلبسون باطلهم ثوب الحق، وينفذون مؤامراتهم وخياناتهم مع أعداء الإسلام تحت هذه الأغطية الجوفاء فقد قتلوا المسلمين الغيورين على دينهم باسم حفظ مصالح الأمة وأمنها، وهم أول البائعين لمصالح الأمة باسم التعاون المشترك والمصالح المشتركة، وباعوا بلاد المسلمين بمن فيها من المسلمين تحت شعار المصالح القومية للأمة العربية، إلى آخر ما حواه قاموس أولئك الخونة الأنذال من ألفاظ الدجل والتضليل، وهم بهذا النهج لم يأتوا بجديد إنما هم يسيرون على طريق أسلافهم، من طواغيت الأرض ومجرميها، فهذا فرعون كما يذكر عنه القرآن الكريم قد سبق هؤلاء على هذا الأسلوب من التحريف والتزييف قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26]. فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني، عن موسى رسول الله عليه السلام إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ؟ أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد، عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع والتضليل الماكر الخبيث لإثارة دهماء الناس ¬

_ (¬1) انظر مجلة الأمان عدد (79) السنة الثانية في 27/ 9/ 1400 هـ (17، 18).

في وجه الحق وأهله، وعبر الزمان والمكان؟ تتكرر كلما تقابل الحق مع الباطل والإيمان مع الكفر (¬1). ثم يقول الله عز وجل عن فرعون هذا في موضع آخر: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29]. انظر كيف نجد فرعون يتحدث عن نفسه حديث المخلص لقومه الساعي لمصلحتهم فيقول: إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابًا وأعتقده نافعًا، وهل يرى الطغاة أفعالهم إلا أنها الخير والرشاد؟ فالخير والرشاد في مفهوم أولئك المجرمين، أن ينالوا شهواتهم وملذاتهم كاملة دون نقص، ولو فنيت الأمة كلها، أما لو كانوا يسعون في مصلحة الأمة كما يدعون، لسمحوا للأمة أن تقول لهم أنتم مخطئون، وأنتم غير صالحين للقيادة فتنحوا عنها، وأعطوا القوس باريها ولكن الحاصل من الطغاة من فرعون الغابر إلى فراعنة العصر الحاضر، أنهم لا يسمحون لأحد أن يرى رأيا يخالف رأيهم، أو أن يقول كلاما يخالف قصدهم، ولو لم يكونوا بهذا الوصف لما كانوا طغاة مستبدين وفراعنة مجرمين (¬2). قال تعالى: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 12] فباسم الإصلاح والمحافظة على حقوق الأمة، يوالون الكفار، وينشرون كفرهم، ويحاربون المؤمنين، ويطفئون نور الله بأفواههم ويعبثون في الأرض فسادا، وإذا أنكر عليهم أحد من المسلمين جريمتهم (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فهم كما يقول الشاعر: كم أضاعوا باسم الشعوب شعوبا ... طحنتها المكائد الهوجاء ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (24/ 178). (¬2) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (24/ 180).

ولو نوقشوا في هذا الأمر قالوا: نحن نريد أن نحقق رغبة الأمة، وندري مصالحها، ونرضي من فيها على اختلاف أنواعهم، كفارا كانوا أو مسلمين ونعطي لكل فريق رغبته بلا حدود أو قيود، وهم يدركون أن قولهم ذلك مجرد دعوى، يبررون بها باطلهم، ولكنهم يرون هذا الباطل في تصورهم الخاطئ صحيحا، إلى حد ما وهم لذلك يجمعون بين المتناقضات ويؤلفون بين المتضادات وهو أمر ممتنع الحصول عقلا وشرعا، ولذلك يبين الله عز وجل أن عملهم هذا قمة في الفساد، ونهاية في الضلال، وكأنه ليس هناك مفسد في الوجود غيرهم، فقال تعالى عنهم: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فما يزعمونه إصلاحا هو عين الفساد، ولكن من جهلهم المطبق وانحرافهم السحيق، لا يشعرون أن عملهم هذا هو الفساد (¬1). فالإفساد في الأرض من وجهة نظر هؤلاء، هو الدعوة إلى الله وتحكيم شرعه، حيث يترتب تلقائيا بطلان حكم الفراعنة، وسقوط نظامهم كله، لأن نظام الطغاة قائم أساسا على عبودية البشر للبشر، أو بتعبير أدق على أساس ربوبية الفراعنة على عبيدهم المستعبدين لهم، ولذا قرنوا الفساد في الأرض بتحطيم الجذور التي يقومون عليها، لأن بتحطيمها تحطيما لهم، وإن كان في ذلك صلاح المجتمعات كلها وتحريرها من عبوديتهم الظالمة، وطغيانهم المميت (¬2). ومثل هذا ما قاله النمرود وقومه: لإبراهيم عليه السلام عندما كسر أصنامهم كما ذكر الله عنهم في قوله تعالى: (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 59] فأطلقوا وصف الظلم على إبراهيم بينما الظلم الحقيقي في عبادتهم للنمرود وأصنامه، ومحاربتهم لدين الله ورسوله (¬3). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (257، 258). (¬2) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (3/ 9/ 610، 611). (¬3) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (5/ 17/ 549).

ولكن النمرود وفرعون والفراعنة من بعدهما ما كان لهم أن يصنعوا ما صنعوا لولا وجود الفراعنة الصغار، الذين أيدوهم على الباطل، وزينوا لهم مطاردة المؤمنين، فهذا فرعون يشير عليه قومه بملاحقة موسى ومن معه، بحجة ألا يفسدوا في الأرض، والفساد في الأرض في نظر هؤلاء كالفساد في نظر الفراعنة الكبار قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف: 127]. ألا ما أشبه الليلة بالبارحة، إن الإنسان لتنشل أعضاؤه ويقشعر بدنه عندما يسمع حديث أحد المعذبين الأبرياء بأيدي جلادي الطغاة وزبائنهم المجرمين حتى لا يكاد يصدق أن هؤلاء الذين يفعلون بالناس تلك الأفاعيل آدميون من بني الإنسان يقول أحد المعذبين بأيدي الفراعنة الصغار يصف السجن وبعض ما لقيه فيه في قصيدة تربو على مئتين وتسعين بيتا نختار منها ما يلي كدليل على ما نقول، يقول: فيه زبانية أعدوا للأذى ... وتخصصوا في فنه الملعون متبلدون .. عقولهم بأكفهم ... وأكفهم للشر ذات حنين لا فرق بينهم وبين سياطهم ... كل أداة في يد مأفون يتلقفون القادمين كأنهم ... عثروا على كنز لديك سمين بالرجل بالكرباج باليد ... بالعصا وبكل أسلوب خسيس دون لا يقدرون مفكرا ولو أنه ... في عقل سقراط وأفلاطون لا يعبئون بصالح ولو أنه ... في زهد عيسى أو تقى هارون لا يرحمون الشيخ وهو محطم ... والظهر منه تراه كالعرجون أترى أولئك ينتمون لآدم؟ ... أم هم ملاعين بني ملعون؟ لا تحسبوهم مسلمين من اسمهم ... لا دين فيهم غير لعن الدين (¬1) ¬

_ (¬1) انظر نافذة على الجحيم لعدد من الكتاب (136، 137).

فهؤلاء المجرمون وأمثالهم هم الذين كانوا سندا للطغاة في حربهم للذين آمنوا ولا شك أنهم مؤاخذون بما يفعلون، فمن يعتذر لهم بأنهم أدوات وآلات في يد الحاكم، لم يفهم ما قاله الله عنهم في قوله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص: 8]. فقرن تعالى جنودهما بهما لمشاركتهم لهما في الظلم، والضلال، والإعراض عن الحق. وقال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [القصص: 40] وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود: 96 - 98] فذكر تعالى أنهم جميعا ظالمون، وأنهم قادمون على النار، على حد سواء لا فرق بينهم وبين كبيرهم فرعون. ومما تقدم يتضح أن الفراعنة وأعوانهم يسمون الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية، تعمية على الناس وتضليلا لهم، ولكن دجلهم ومكرهم لا يخفى على من رزقه الله فهما وعلما وعملا، فقد ظهر في عصرنا الحاضر مصطلاحات لفظية تحمل معنى موالاة الكفار بغير هذا اللفظ المتداول في لغة القرآن الكريم فيطلقون على مداهنة الكفار والركون إليهم، صداقة وتعاون ويطلقون على ملء البلاد الإسلامية بالجواسيس من اليهود والنصارى والوثنيين ومن يزاولون مهمة التكفير للمسلمين، بأن ذلك سياسة وانفتاح على العالم، كما يرسلون عشرات الآلاف من الأطفال والمراهقين إلى الأعداء، كي يربوهم ويعدوهم على طريقتهم الخاصة باسم العلم،

كما يسمون تبادل الزيارات مع الكفار، واستقبالهم بالأحضان، ومعاشرتهم وذكر ما فيه تعظيمهم والتبسم في وجوههم تسامحا ومراعاة للمشاعر الإنسانية، فنقول لهؤلاء ومن هم على شاكلتهم: إن موالاة الكفار تعني محبتهم وإظهار الود لهم بالقول والفعل والنية، فمهما أطلق على هذا المفهوم من أسماء فإنها لا تخرجه عن كونه موالاة للكفار يستحق فاعل ذلك ما تقدم من الوعيد في شأن من والي الكفار أو تولاهم، فالحكم يدور مع الحقيقة لا مع مجرد اللفظ فلو سمى الزنا متعة، لم يخرجه ذلك عن مفهومه الشرعي، ولو سميت الخمر مشروبًا روحيًا، لم يخرجها عن كونها خمرًا ولو سمي الربا عمولة، أو قرضا بفائدة، أو تعاونا اقتصاديًّا، لم يخرجه عن كونه ربا (¬1). فقد ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها» (¬2). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من أظهر الولاية لله وهو لا يؤدي الفرائض ولا يتجنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي الله» (¬3). لقد درج الناس في هذا العصر، على اطلاق مسميات الإسلام مثل لفظة شهيد، ومجاهد على أناس هم أشد كفرًا من اليهود والنصارى، لأنهم مرتدون في عرف الإسلام والمرتد أعظم كفرًا، ممن لم يعرف الإسلام ابتداء لأن المرتد عرف الحق ورجع عنه إلى الباطل. كما أن هناك مسميات باطلة ظالمة تطلق على أهل التوحيد ورجال الإسلام من قبل أعداء الإسلام، مثل لفظ الخونة، والعملاء والمتعصبين ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (136) وانظر الدرر السنية (1/ 285). (¬2) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 136). (¬3) انظر مجموعة التوحيد (515)

والمتطرفين والمحتجزين وغير ذلك من الألفاظ التي يقصد بها التضليل، وصرف الناس عن الحق إلى الباطل، وهم بهذا لم يأتوا بجديد في ذلك إنما يحيون سنة فرعون الذي قال عن موسى وصحبه، كما ذكر الله تعالى ذلك حكاية عنه (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشعراء: 54 - 56] فعلى المسلم أن يعرف الفراعنة في كل زمان ومكان، وعليه أن يميز بين الغث والسمين من تلك الأقوال، وأن يعرف الحق من الباطل بناء على الحقائق الثابتة لا على الدعاية المضللة، وألا يكون صدى للأبواق المأجورة يردد بلا وعي ولا إدراك ما يقوله الأعداء وفي هذا المعنى يقول الشاعر عبد المنعم محمد الهاشمي ما يلي: فهم قد زينوا البطلان حتى ... كسوه ثوب حق خادعنيا وما الحق فاتهموه حتى ... كسوه ثوب بطلان ضغينا (¬1) وفي هذا المعنى يقول الشاعر سليمان بن سحمان الدوسري ما يلي: وفي زعم هذا الأحمق الوغد أنه ... وأصحابه أهل الهدى حين يرسما وأن ذوي الإسلام أهل ضلالة ... وأهل ابتداء بئسما قال إذ رمى أيوصف بالإسلام من كان مشركا ... ويوصف بالإشراك من كان مسلما لعمري لقد جئتم من القول منكرا ... وزورا وبهتانا وأمرا محرما (¬2) فخلاصة القول في هذه المسألة أن المسلم عليه التثبت فيما يأخذ ويدع من أقوال الناس وأفعالهم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]. ¬

_ (¬1) مجلة البلاغ عدد (568) في 22/ 1/ 1401 هـ ص (53). (¬2) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان (153).

فلا يجوز لمسلم أن يوالي قوما بناء على ما تلوكه وسائل الأعلام الموجهة لخدمة أغراض معينة، أو بناء على ما يتفوه به سواد الناس ممن لا دراية لهم، وليس لديهم دين مصحوب بعلم وعمل، كما أنه لا يجوز له أن يعادي قوما تعاديهم تلك الوسائل وهذه الفئات من الناس، ما لم تتبين له الحقائق من مصادر مؤكدة مأمونة موثوقة في نقلها وحكمها على الأشياء، ونظرتها إلى الأمور من وجهة النظر الإسلامي الصحيح، فعندئذ يوالي أهل الحق ويعادي أهل الباطل، كما شرع الله وأمر عباده المؤمنين بذلك كما هو مقرر في الكتاب والسنة.

الفصل الثاني: التطبيق العملي للموالاة والمعادة في الشريعة الإسلامية

الفصل الثاني: التطبيق العملي للموالاة والمعادة في الشريعة الإسلامية وتحت هذا الفصل خمسة مباحث هي: المبحث الأول: أسباب تحقيق الموالاة في الله. المبحث الثاني: الحقوق التي تقتضيها الموالاة في الله. المبحث الثالث: حقوق الأقليات الإسلامية. المبحث الرابع: أسباب تحقيق المعاداة في الله. المبحث الخامس: صور من الموالاة والمعاداة في الله.

المبحث الأول: أسباب تحقيق الموالاة في الله

المبحث الأول: أسباب تحقيق الموالاة في الله إن الإسلام ليس دعوة نظرية لإمتاع العقول وتزكية الخيال، بقدر ما هو عمل واقعي، ومنهج تطبيقي لإصلاح شأن الإنسان وشأن الناس جميعا لقد كانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة أو الحادثة المعينة تحدث للناس عما في نفوسهم، وتصور لهم منهج العمل في ذلك الموقف أو غيره من المواقف، وتصحح لهم الأخطاء في الشعور والسلوك، وتربطهم في هذا كله بالله عز وجل، ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم العملية والنفسية، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم (¬1). لقد أكد الله عز وجل على العمل في آيات كثيرة من القرآن الكريم فقد ورد ذكر العمل مقرونا بالإيمان في أكثر المواضع، ومفردا تارة أخرى وقد بلغ ذلك أكثر من ثلاثمائة وسبعين موضعا من القرآن الكريم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر معالم في الطريق سيد قطب (18، 19). (¬2) انظر المعجم المفهرس لإلفاظ القرآن (483 - 488).

ليكون ذلك دليلا على أن العمل هو البرهان الحقيقي على صدق القول من كذبه، ذلك أن العمل أشق من مجرد القول الذي لا يكلف الإنسان إلا بضع كلمات عابرة، ولكن بالأفعال يظهر الصدق من الكذب. فمن سمات هذا الدين البارزة وخصائصه الفريدة أنه يربط القول بالعمل، فهو ليس مجموعة من النصوص المثالية النظرية، بقدر ما هو عمل تطبيقي واقعي طبقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطبقه أصحابه، ولا يزال المسلمون المتمسكون بهذا الدين يطبقون نصوص الكتاب والسنة حتى هذا اليوم تطبيقا عمليا في صغير الأمور وجليلها، وهذا هو معنى الإسلام والإذعان الحقيقي لله عز وجل، وقد ذم الله عز وجل الذين يقولون ما لا يفعلون، بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف: 2]. وأسباب تحقيق الموالاة في الله كثيرة ومتنوعة ولكن حسبنا أن نذكر أهم تلك الأسباب العملية للذكرى والتنبيه وهي كما يلي. السبب الأول: إن من أهم أسباب تحقيق الموالة في الله، أن يكثر المسلم من مطالعة كتاب الله عز وجل وتدبر آياته، حيث إن المسلم يرى من خلال آيات الكتاب الكريم ما يجب عليه نحو ربه ثم نحو رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم نحو إخوانه المؤمنين، من محبة وطاعة ومناصرة، فقراءة الكتاب الكريم جلاء للبصائر الكليلة، وشفاء للصدور العليلة، فإن من دوام على قراءته في تمهل وترو، وتدبر، انفتحت أغلاق قلبه وسطعت أنوار القرآن في آفاق نفسه، وانمحت منها غياهب الظلام والفجور، ولذلك يدعونا الله عز وجل إلى هذا الأمر بقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعلموا القرآن وسلوا الله به الجنة، قبل أن

يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله» (¬1). وقد ذكر في تفسير قوله تعالى: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) [الكهف: 100، 101] إنهم هم الذين كانوا يعرضون عن القرآن الكريم، وعن الاستماع إليه، والتأمل في معانيه، والتدبر في آياته (¬2). وأخرج ابن حبان من حديث طويل عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أوصني قال: «عليك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله»، قلت: يا رسول الله زدني قال: «عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذكر في السماء» (¬3). ويروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: «لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله». وللقرآن تأثير مباشر على قوة الإيمان وضعفه، فكلما قويت الصلة بكتاب الله وتدبر معانيه، كلما ازداد الإيمان في النفس وظهرت آثاره على الأقوال والأفعال، وكلما ضعف الإيمان بضعف الصلة بكتاب الله وتدبر معانيه، كلما ازداد الإنسان بعدا عن محبة الله ومحبة رسوله ومحبة المؤمنين، وصار مهيئا لمحبة الكفار وأفعال الكفر وصفات الكافرين. ¬

_ (¬1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 118) رقم الحديث (258). (¬2) انظر تفسير الطبري (11/ 64) والطبري (16/ 25) وفي ظلال القرآن (16/ 414). (¬3) انظر الترغيب (3/ 8) وانظر أحاديث تاريخ الخطيب (7/ 393).

السبب الثاني: إن السبب الثاني من أسباب تحقيق الموالة في الله هو الإيمان الله. إن الفرد بغير الإيمان الحقيقي بالله، ريشة في مهب الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، والإنسان بغير الدين الإسلامي، إنسان لا قيمة له ولا جذور، فهو عندما ينسلخ من الدين الإسلامي يتحول إلى حيوان شره، أو وحش مفترس، لا تستطيع الثقافة الوضعية ولا القانون الجاهلي أن يحدا من شراهته أو يمنعاه من الافتراس، والمجتمع بغير دين صحيح، وإيمان قوي، مجتمع متوحش مظلم متألم، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة المهترئة وامتلأ بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم الحسي، فهو مجتمع البقاء فيه للأقوى، لا للأفضل والأتقى مجتمع تقرأ التعاسة والشقاء في وجوه أصحابه، وإن زينوا وجوههم بأنواع الأصباغ والمحسنات وركبوا الطائرات وسكنوا العمارات واغتصبوا أعظم الثروات، فهو مجتمع تافه رخيص هزيل، لأن غايات أهله غايات ساذجة سطحية هزيلة لا تتجاوز شهوات البطون والفروج قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12] بخلاف مجتمع الإيمان والإسلام المبني على الحب في الله والرضا بكل ما صدر عن الله عز وجل، إن المؤمن بعقيدة الإسلام قد نفذ إلى سر الوجود فأحب الله عز وجل واهب الحياة ومنشئ الخلق وصاحب الأمر والنهي المطلق في الوجود كله، وهذا أمر طبيعي، في أن يجب الإنسان ربه، وخالقه ورازقه، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر وشرع فيسر، وجعل الإنسان في أحسن تقويم، ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لهذا كله ولأكثر منه أحب المؤمنون ربهم حبًّا لا يقاس بغيره مما هو دونه، فقدموا أنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله بلا تردد أو منة، بل اعتبروا ذلك تفضلا من الله عليه، أن فتح لهم باب

الجهاد والاستشهاد في سبيله ويسر لهم أسبابه فقاموا بذلك الواجب خير قيام (¬1). أحب المؤمنون ربهم وكل ما يصدر عن ربهم من أمر ونهي، وكل ما يحبه سبحانه وتعالى، أحبوا الكتاب الذي أنزله ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، وأحبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله رحمة للعالمين وأحبوا إخوانهم في الله من أهل الخير والصلاح في كل زمان ومكان، لأن محبة المؤمنين أمر لازم على كل مسلم، ومناصرتهم واجب شرعي لا يتخلى عنه إلا من لا إيمان له، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:74]. فالحب في الله أخص من الرضا وأعمق أثرا حيث إنه الضمان الوحيد لترابط المجتمع واحترام حقوقه، ولذلك ورد في الحديث الشريف: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (¬2). إن الحب في الله يحول المر حلوا، والكدر صفاء، والألم شفاء، والنصرة جهادا والابتلاء رحمة، والإحجام عن نصرة أهل الحق خيانة، وتراجع عن الإسلام. إن الإيمان الحقيقي بالله، هو الذي ينبعث منه الحب في الله الذي يحرك إرادة القلب، ويوجهها إلى المحبوبات وترك المحظورات وكلما ازداد الإيمان بالله في نفس المؤمن كلما ازدادت المحبة في الله لديه قوة صلابة. ¬

_ (¬1) انظر كتاب الإيمان وأثره في الحياة د/ يوسف القرضاوي (5 - 12). (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (1/ 74) كتاب الإيمان.

فحقيقة المحبة في الله لا تتم إلا بموافقة الباري جل وعلا في حب ما يحب، وبغض ما يبغض (¬1). ولذلك فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم إيمانا من كان أقربهم إلى الله في محبته، وأقواهم في طاعته، وأتمهم عبودية له (¬2) وهذه الصفات تستلزم بطبيعة الحال محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحبة ما جاء به من عند الله، ومحبة المؤمنين بهذا الدين، وإيثارهم على النفس بالمال والنصرة والتأييد، والانضمام في حزبهم حيث إنهم حزب الله ومن انضم إلى حزب الله فقد أفلح في دنياه وأخراه. إن الإيمان بالله، والحب في الله، وما يترتب عليهما قواعد متلازمة ينبني بعضها على البعض الآخر، ويتأثر اللاحق منها بالسابق فإذا قوي الإيمان بالله في نفس المؤمن ازداد الحب في الله، وازدادت الأفعال المترتبة على ذلك، حتى تصبح الجماعة المسلمة، كخلايا الدم في الجسم تعمل لغرض واحد، وهدف واحد، وفي إطار واحد، عند ذلك تصبح الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة قادرة على أداء رسالتها ودورها العظيم في حق نفسها، وفي حق البشرية جمعاء (¬3). إن أي ارتباط بين شخصين أو أكثر لا بد أن يكون مسبوقا برابطة تربط بينهما، وهذه الرابطة قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، بحسب أسسها وركائزها، والأهداف المقصودة منها. أما الرابطة في دين الإسلام فهي الرابطة في الإيمان بهذا الدين قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (422، 423). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (422، 423). (¬3) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (12/ 560 - 562).

كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103]. إن رابطة الإسلام تغنينا عن جميع الروابط الجاهلية الفاسدة مثل رابطة الدم، أو رابطة اللون أو اللغة، أو رابطة الوطن أو الإقليم أو رابطة الحرفة أو الطبقة، أو غير ذلك من الروابط الجاهلية التي تختلف اختلاف جذريا مع أصول الإسلام ومنطلقاته في الموالاة والمعاداة، والحب والبغض فالدعوة إلى القومية والتجمع العربي فقط على أساس العروبة لغةً ونسبًا هي دعوة جاهلية خارجة عن منهج الإسلام يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]. فمن أجل ذلك جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإخوة في الله هي الأساس والرابطة التي جمع عليها أفئدة أصحابه، حيث إن العقيدة الإسلامية التي جاء بها من عند الله تضع الناس كلهم في مقام العبودية لله تعالى، دون أي اعتبار لفارق اللون، أو الدم أو الوطن، أو الطبقة، أو غير ذلك من الفوارق القائمة في المجتمعات الجاهلية. فالمقياس لتفاوت الأفراد في الإسلام هو التقوى والعمل الصالح، وهذا المبدأ يحقق العدل بالنسبة لكافة المنتمين إليه ويسع العالم أجمع دون أي تمييز بينهم فيما عدا التقوى والعمل الصالح. إن البشرية قد جربت في الماضي المعهود والحاضر المشهود روابط عديدة، من قومية ووطنية، ومنظمات حزبية كافرة، وقد باءت كلها بالفضل الذريع، فهي لم تستطع أن تجمع المتفرقين، أو توحد المختلفين، أو تنصر المهزومين، ولم تنصف المظلومين من الظالمين.

إن مفتاح القلوب لإدخال الحب والألفة والتعاون والتناصر بين الناس، يكمن في الانتماء إلى هذا الدين، وفهمه فهما مستقيما والعمل به قولاً وفعلاً، قال تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 62، 63]. فلا ألفه ولا تعاون ولا تناصر، إلا بتعميق مفهوم الإيمان في النفوس، ولنا في هذا تجربة فريدة مضيئة سوف تبقى مثلا أعلى ما بقيت الحياة فقد كانت حياة العرب قبل الإسلام أشبه بحالنا اليوم من الفرقة والقتال والتناحر والخصام والأنانية، وحب الذات، وعدم التمييز في النصر بين الظالم والمظلوم، وعدم الإيثار، والتضحية للمضطهدين والمحتاجين والمشردين من الضعفاء والمساكين، وعندما شع نور الإسلام في قلوب أولئك القوم قلب أفعالهم وأقوالهم رأسا على عقب فاستيقظوا بعد الضلالة والعمى وأدركوا أن التآخي في الله ليس مجرد شعار في كلمة يجرونها على ألسنتهم وتتناقلها أفواههم وإنما هو حقيقة عملية يتصل بواقع الحياة، وبكل أوجه العلاقات القائمة من تعاون وتناصر، وتناصح وإيثار ومحبة، وقد قام بتطبيق ذلك تطبيقا عمليا كل من المهاجرين والأنصار، رضوان الله عليهم، ثم تبعهم على ذلك عامة المسلمين على درجات متفاوتة. وهذا يؤكد لنا أن مناط التآخي والمحبة والتناصر بين المسلمين هو فهم الإسلام فهما صحيحا، وتطبيقه تطبيقا تاما كما فهمه وطبقه أولئك الصفوة الأفاضل الأبرار، بلا تردد أو مداهنة أو احتيال (¬1). إن الفهم الحقيقي للإسلام، هو الذي ينبعث منه شعور صادق يحل ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي (156 - 159).

في كيان المرء وإحساسه، ويستولي على شعوره ووجدانه، فيدرك به من حقائق الرسالة ما لا يستطع أن يدركه من يعيش على هامش الحياة، ومن علامات هذا الفهم المستنير لمقاصد الإسلام، أن يرى المرء متجافيا عن دار الغرور منيبا إلى دار الخلود، مستعدا للموت قبل الفوت، منبعثا إلى الدعوة إلى الإسلام في همة وجد ونشاط، مطبقا أحكامه على نفسه وأهل بيته، في غير هوادة أو مداهنة. ومن علاماته أيضا، شعور المرء بالغيرة والغضب إذا انتهكت حرمات العقيدة، أو اعتدي على حمى الإسلام والمسلمين. إن من لوازم الإيمان بالله، الحب في الله، والحب في الله يورث الموالاة والمناصرة والتعاون بين الإخوة في الله، فعلينا أن نسعى لغرس الإيمان في النفوس وأن نقتلع كل عوامل الضعف أو العوائق التي تمنع وصول التصور الإسلامي الصافي إلى النفوس، إذا أردنا تحقيق الموالاة في الله والمعاداة فيه (¬1). السبب الثالث: من أهم أسباب تحقيق الموالاة في الله تجنب الخلاف بين المسلمين حيث يؤدي الخلاف بين المسلمين إلى الانقسام وإلى ضعف الموالاة وربما إلى المعاداة بين الطرفين المتنازعين، وقد نهى الله عن التنازع والاختلاف والمجادلة بغير التي هي أحسن قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام: 159]، وقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) [الروم: 159]، وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ¬

_ (¬1) انظر تذكرة الدعاة - لبهي الخولي (233).

وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103]. فالأخوة المعتصمة بحبل الله، هي الأخوة التي تؤلف بين المسلمين بغض النظر عن مراكزهم، وألوانهم وبلادهم وكان بعضهم يقرأ الآية أو الحديث فيفهم منه فهما معينا، ويفهم غيره فهما آخر، فيناقش كل صاحبه بالتي هي أحسن، فإن كانت النتيجة اتفاقا حمدًا الله تعالى، وإن كانت الأخرى عذر كل صاحبه، وانصرفا صديقين متحابين. وكان من أثر ذلك في علاقة بعضهم ببعض، نمو روح التسامع فيما بينهم، وقوة المحبة والأخوة في الله وفي سبيل الحق، والتعاون عل كل ما يوصل إلى إرضاء الله تعالى، وإلى سعادة الأمة فبارك الله لهم في أعمارهم، وأعمالهم، وحفظها من أن تضيع في جدل عقيم، ومراء سقيم، ليس له من باعث سوى العناد للرأي، والانتصار للمذهب، مهما بعد عن الحق أو ظهر خطؤه (¬1). لقد نفعهم الله سبحانه وتعالى بوحدة الكلمة والرأي، فسلموا من التخاصم والتحاسد، ومن كل ما يفسد القلوب، ويحبط الأعمال، فنفعهم الله بأعمالهم ونفع بها الأمة. وها هي ذي آثارهم، لا زالت منارا يهتدي به من أراد سلوك طريقهم ونموذجا لمن وهبه الله الفقه في الدين وحرص على تحري الحق، وأراد أن ينفع كما نفعوا، ويثمر كما أثمروا ولعل من أسلوب نجاحهم أنهم كانوا جميعا يغترفون من نهر واسع الجنبات عميق الغور، ¬

_ (¬1) انظر ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين عبد الجليل عيسى (6).

وذلك هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرتوي منه كل منهم على قدر استعداده ولا يقابل من غيره بعتاب ولا ملام. أما اليوم ونقولها بكل مرارة وأسى، فقد وصل الاختلاف بين المسلمين المحسوبين على الإسلام، إلى درجة ينفطر لها قلب المسلم الغيور حسرة وألما، وكأنهم عفا الله عنهم، لم يكفهم التمزق الذي أصابهم من أعدائهم من الخارج، فراحوا يوسعون شقة الخلاف، ويعينون أعداءهم على أنفسهم، بتفرقهم شيعا وأحزابا يخاصم كل حزب غيره ويعاديه (¬1). بدلاً من الانضمام تحت حزب واحد وراية واحدة وقيادة واحدة، فالحزب هو حزب الله والراية هي راية الإسلام راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، والقيادة هي قيادة محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام. هذا هو طريق العزة والنصر، طريق الموالاة في الله، والوحدة على رضاه: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا ... وإذا افترقن تكسرت آحادا فالخلاف المذموم، هو الذي يؤدي إلى نشوء العصبية بين المختلفين وتراشقهم بسهام اللجاج والجدل، حتى ينتهي بهم إلى التفرق والتناحر، وعلى هذا فلا يجوز للمسلم أن يتعصب لقول في مذهبه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله بل يجب الرد والرجوع إليها قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]. فالاختلاف الناجم عن الهوى والتعصب، هو بلا شك شر على ¬

_ (¬1) انظر في هذا المعنى في كتاب ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين عبد الجليل عيسى (6).

الأمة، وقد حصل بسببه آثار سيئة ومفاسد كبيرة، فالتخلص من الاختلاف الذي هو من هذا النوع، واجب ورحمة للأمة كما قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]. فينبغي للعلماء والمجتهدين، التقارب والبعد عن الاختلاف، تبعا لقوة الدليل وغلبة الظن أنه الحق، لأن اجتماع المسلمين وتوحد كلمتهم وتقاربهم وتعاونهم واحترام بعضهم لبعض أمر، حث عليه الإسلام وهو الضمان الحقيقي لدوام الأخوة والموالاة والنصرة فيما بينهم (¬1) ويجب أن يدرك الأخ المسلم في تعامله مع إخوانه أنه لا يتعامل مع ملائكة لا يعضون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، بل يتعامل مع بشر يخطئون ويصيبون في اجتهادهم في أقوالهم وأفعالهم، فعلى الأخ أن لا يضيق ذرعًا بأي بادرة خطأ أو اجتهاد في غير محله، بل يحسن التوجيه، فيعذر الجاهل وبينه الغافل، ويذكر المتهاون والله الهادي إلى سواء السبيل. السبب الرابع: من أسباب تحقيق الموالاة في الله صحبة أهل الخير وأهل المعرفة بالله، وتلك الصحبة مما أمر بها الإسلام وحث عليها، وأهل الخير الذي تستحب صحبتهم، هم من يشتغلون بعيوب أنفسهم عن عيوب الناس، يلتزمون أمر الشرع، ونهيه في صدق وطاعة، ويقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوة وإيمان، فصحبة هؤلاء تلين القلوب، وتطهر من الذنوب وهي بيئة طيبة يحيى فيها القلب حياة كريمة (¬2). فقد ورد في الحديث الصحيح أن أعرابيًا قال لرسل الله - صلى الله عليه وسلم - متى الساعة؟ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما أعددت لها؟» قال: حب الله ورسوله قال: «أنت مع من أحببت» (¬3). ¬

_ (¬1) انظر أسباب اختلاف الفقهاء د/ عبد المحسن بن عبد الله التركي (34 - 36). (¬2) انظر تذكرة الدعاة لبهي الخولي (205). (¬3) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 2032).

وفي حديث آخر: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك، إما أن يحذيك (¬1) وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة» (¬2)، وفي الحديث أيضًا: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (¬3). وفي الحديث القدسي: «وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتزاوين فيَّ والمتباذلين فيَّ» (¬4)، وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (¬5)، وذلك أن ترابط القلوب برباط العقيدة الإسلامية يورث أنسا وسعادة واستقامة في الحياة وأقل درجات الحب في الله، سلامة الصدر من الغل والحسد والضغينة نحو الإخوان في الله، وأعلى درجات الحب في الله والموالاة فيه مرتبة الإيثار، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في وصفه للأنصار حين أكرموا إخوانهم المهاجرين قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]. وفي الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضًا» (¬6). ¬

_ (¬1) يحذيك أي يعطيك. (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 2026). (¬3) المصدر السابق (4/ 1988، 2566). (¬4) رواه مالك في الموطأ انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 352). (¬5) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 633). (¬6) رواه البخاري ومسلم، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 245) باب تعظيم حرمات المسلمين.

وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71]. فالأخ المسلم الصادق يرى أن إخوانه أولى به من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، فحاجته إليهم أشد من حاجتهم إليه (¬1). قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54]. فالأخ يتقوى بإخوانه ويسترشد بهم فبدلا من أن يفكر بعقل واحد يفكر بعدة عقول عندما يطرح أي مشكلة من مشاكل الحياة التي تواجهه فيجد من إخوانه تنويرًا وتبصيرًا لما قد يغيب عنه أو يخفى عليه، ويجد منهم عونا معنويًا وماديًا له في الحياة. السبب الخامس: من أسباب تحقيق الموالاة في الله، سلامة الصدر من الغش والحسد والضغينة نحو الإخوان في الله. فقد أخرج أحمد بإسناد حسن والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوسا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة» فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه، وقد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى فلما كان اليوم الثالث، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - تبعه ¬

_ (¬1) انظر مجموعة رسائل البنا (276).

عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقال: إني لاحيت (¬1) أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤيني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال: أنس فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار (¬2) تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث ليالي وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرات: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك فاقتدي بك فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق (¬3). هذه حال أولئك الصفوة، صدق وصفاء ونقاء في الظاهر والباطن، ولكن للأسف إن هذا الأمر مفقود بين المسلمين في عصرنا الحاضر إلا ما شاء الله، فحتى أولئك الذين ينصبون أنفسهم للدعوة إلى الإسلام نرى كثيرًا منهم يضمرون ويظهرون أنواعًا من الغش والحس نحو إخوانهم في الإسلام حيث إن هم أحدهم هو التجريح لكل من ينتمي إلى الدعوة. ¬

_ (¬1) أي خاصمته انظر المعجم الوسيط (2/ 826). (¬2) استيقظ وأصابه الأرق، وتقلب في فراشه ليلا مع كلام وصوت، انظر المعجم الوسيط (2/ 598). (¬3) رواه أحمد انظر مسند أحمد (3/ 166)، وقال الهيثمي: رجال أحمد ورجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 79)، وقال ابن كثير في تفسيره (4/ 338) لحديث أحمد: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين اهـ.

الإسلامية أو يحسب عليها، فلا يبقون على أحد يمثل الإسلام أو يتمثل فيه الإسلام سوى خاصة أنفسهم وقلة من أتباعهم، وينظرون إلىمن سواهم نظرة الند للند، وهذا أمر في غاية الخطورة على واقع المسلمين وحياتهم، وهو أمر يمنع تحقيق الموالاة والمناصرة بين عموم المسلمين، ويبقي الفئات العاملة للإسلام مزع متناثرة متناخرة، لا تشكل بوضعها هذا أي خطر على الأعداء ولا تحقق، لها ولدينها العزة والكرامة. إن المسلم الحق الذي يحرص على مصلحة الإسلام والمسلمين هو الذي يواجهه إخوانه ويكاشفهم بآرائه عنهم وعن عملهم للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فقد يتصور خطأ أنهم على خطأ وهو المخطئ في الحقيقة وقد يكون العكس صحيحا، كما أن الأخ أو الجماعة المسلمة التي يوجه إليها النقد يجب أن تتحلى برحابة الصدر وباحترام آراء إخوانهم الآخرين وإن اشتملت على شيء من الاجتهاد المخالف للصواب في مسألة فرعية فإن الكمال لله عز وجل فظاهر العتاب خير من باطن الحقد. فكثير من المنتسبين إلى الدعوة تقاعسوا عن الانتماء إليها بسبب أنهم طرحوا بعض القضايا والآراء حول طريقة الدعوة وسبلها فلم يلق لها بال ولم يؤبه (¬1) لها فكان ذلك سببا من أسباب إعراضهم عن الدعوة عن الانتماء إليها، وهو سبب غير وجيه بطبيعة الحال، ولكنه واقع فعلا ومنهم من يختزن في ذهنه مجموعة من الملاحظات التي يظنها أخطاء تيردى فيهال العاملون للإسلام ثم تزداد في نفسه يوما بعد يوم دون أن يبديها لأخوانه أو يناقشهم عليها ويرى رأيهم فيها وفي النهاية تشكل تلك الملاحظات مبررا شرعيا في نظره للانفصال عن الجماعة المسلمة وعن الدعوة التي ينتمون إليها دون أن يكلف نفسه عرض تلك الملاحظات على إخوانه ومعرفة وجه الحق فيها له أم عليه. ¬

_ (¬1) لا يؤبه له: لا يحتفل به، ولا يلتفت إليه انظر المعجم الوسيط (1/ 3).

إن الشجاعة في نقد الأخ لأقوال إخوانه وأفعالهم معدومة تقريبا بين العاملين للإسلام، كما أن رحابة الصدر وتقبل النقد عند بعض الإخوة مفقود أيضا، وهذا يؤدي إلى استمرار الأخطاء، وانطواء النفوس على ما يزعزع ثقتها بإخوانها، وبالتالي تضعف الموالاة والمناصرة بين الأخ وإخوانه وربما تقطع الصلة بينه وبين إخوانه بسبب ذلك. وللأسف فإن هذا الأمر الذي أضعناه أو تهاونًا فيه قد أخذ به أعداؤنا فهم أكثر منا شجاعة في نقد بعضهم لبعض، كما أنهم أقدر منا على تحمل النقد وتقبله ممن جاء به، وإن بدا هذا النقد واهيا ضعيفًا. فعلى كل أخ إذا أراد أن تستمر الموالاة والمناصرة بينه وبين إخوانه، أن يكون صريحا مع إخوانه، وأن لا يضمر لهم خلاف ما يظهر وأن يكون لهم مرآة يرون من خلاله عيوبهم ويكونوا له مرآة يرى عيوبه من خلالهم، حتى يصل الجميع إلى التكامل والتكاتف وتجنب الأخطاء. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه» (¬1). السبب السادس: من أسباب تحقيق الموالاة في الله الفرح بحسن حال المسلمين واسترضاء المسلم لأخيه المسلم وقضاء حاجته أخرج الطبراني عن ابن بريدة الأسلمي قال: شتم رجل ابن عباس رضي الله عنهما فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وإنَّ فيَّ ثلاثَ خصالٍ، إني لآتي على الآية في كتابِ الله فلوددت أن جميعَ الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلي لا أقاضي ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي انظر سنن أبي داود (4/ 280) كتاب «الأدب» باب في النصيحة والحياطة، وانظر سنن الترمذي (3/ 218) باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم.

إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة (¬1). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل أبو بكر أخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أما صاحبكم فقد غامر، فسلَّم، وقال: يا رسول الله إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعَّر حتى أشفق عليه أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم «مرتين»، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ «مرتين» فما أوذي بعدها (¬2). وفي قضاء حاجة المسلم لإخوانه يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف به عنه كربةً أو يقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولئن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليَّ من أن اعتكف في هذا المسجد (يعني: المسجد النبوي) شهرًا ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له، أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني انظر: «مجمع الزائد ومنبع الفوائد للهيثمي» (9/ 284) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه البخاري انظر فتح الباري (7/ 18) كتاب فضائل الصحابة. (¬3) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 608) رقم الحديث (906).

فالفرح بحسن أحوال المسلمين والحرص على رضاهم، وإدخال السرور عليهم، والاهتمام بالمسلم أثناء تقديم حاجته، والإنصات إليه، كل هذه المعاني قد أمر بها الشرع وهي من حسن الخلق، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقًا» (¬1) حيث إنَّ عدم تقدير المتكلم وعدم المبالاة بكلامه أو الاهتمام به، وبما يطلبه يورث في نفس المتكلم ردود فعل خطيرة، ومداخل لشياطين الجن والإنس في إيقاع الفرقة ونشوء العداوة بين المسلمين. وقد أمر الله عز وجل بفعل الخير في حق المسلمين جميعًا قال تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77]. ومما يثبت المودة ويزيد المحبة زيارة الأخ المسلم لإخوانه، فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زار أهل بيت من الأنصار فطعم عندهم طعاما فلما أراد أن يخرج أمر بمكان من البيت فنضح (¬2) له على بساط، فصلى عليه ودعا لهم (¬3)، وورد في فضل الزيارة أحاديث منها ما رواه الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رفعه: «من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد طبت وطاب ممشاك وتبوَّأت من الجنة منزلاً» (¬4). وفي حديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: «حقت محبتي للمتزاورين فيَّ» (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (1/ 174) رقم الحديث (433). (¬2) أي: رش الماء على بساط انظر «المعجم الوسيط» (2/ 936). (¬3) رواه البخاري انظر: «فتح الباري» (10/ 499). (¬4) المصدر السابق (10/ 500). (¬5) انظر فتح الباري (10/ 500).

والزيارة توجب إكرام الزائر في حدود القدرة والاستطاعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» الحديث (¬1). والزيارة يجب أن تتم وفق ضوابط وحدود معينة بلا إفراط أو تفريط فيها، ويحكم هذه الضوابط العرف السليم والفهم المستقيم، والحكمة التي تضع الأشياء في مواضعها المناسبة، ومقتضياتها السليمة حتى تحقق الزيارة الهدف المقصود منها، ولا تؤدي إلى مردود عكسي يضعف الموالاة أو ينقصها بين الإخوة في الله. السبب السابع: من أسباب تحقيق الموالاة في الله حفظ السر للأخ المسلم، فالمسلم إذا استودع أخاه سرًّا وجب عليه المحافظة على ذلك، فقد روي أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت (¬2) حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي رضي الله عنهما وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أهل بدر توفي بالمدينة، فقال عمر: لقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه فقلت إن شئت أنكحتك حفصة، فقال سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت إن شئت أنكحتك حفصة، فلم يرجع إلى شيئا فلبثت ليالي فخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال قلت: نعم قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك شيئًا حين عرضتها علي إلا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرها ولم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو تركها نكحتها (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (10/ 532). (¬2) أي فقدت زوجها، انظر المعجم الوسيط (1/ 34). (¬3) رواه البخاري والنسائي انظر فتح الباري (9/ 183) وانظر سنن النسائي (6/ 77، 78).

وروي عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم خلفه فأسرَّ إلى حديثًا لاأحدث به أحدًا من الناس .. الحديث (¬1). فهذه الأحاديث تدل على وجوب حفظ السر وهو نوع من الأمانة التي أمر الله بحفظها حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27] وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون: 8]. ولذلك فإنه من أعظم الذنوب، أن يتظاهر المرء بالصلاح والتقوى والصدق والإخلاص فإذا استودعه أحد الإخوة في الله سرًا؛ أذاع به ونشره، إما لأنه منافق في الأصل من الذين (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) [البقرة: 9]، وإما لأنه من الذين يعبدون الله على حرف كما في قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج: 11]، وإمَّا لأنه جهول لا يقدِّر حق الأمانة التي اؤتمن عليها فيبوح بأسرار إخوانه بلا وعي أو إدراك، وكل هذه الأمور سبب في إضعاف روح الموالاة والمناصرة بين الإخوة المؤمنين. السبب الثامن: من أسباب تحقيق الموالاة في الله، مواساة الأخ لإخوانه بفضل ماله قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم (1/ 268، 269) دار إحياء التراث.

وقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان: 8]. وقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له» قال فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل (¬1) وأخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، وإنا في زمان الدينار والدرهم أحب إلينا من أخينا المسلم» (¬2). ففي هذه الأدلة دلالة واضحة على الحث على الصدقة والجود والمواساة للمحتاجين، عند وجود الأسباب المقتضية لذلك، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وإنه يكفي العلم بحاجة المحتاج، دون اضطراره إلى السؤال وإراقة ماء وجهه في المسألة والاستجداء. فالبذل والعطاء من فضل المال لمن هو محتاج إلى ذلك أمر مؤكد على المسلم الواجد، فالذي يبخل بفضل ماله على إخوانه وهم بأشد الحاجة إليه، فهو ناقص الإيمان قليل الفلاح قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]. والأدلة المتقدمة في وجوب مواساة الأخ لإخوانه في الإسلام لا يستدل ¬

_ (¬1) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم (3/ 1354) باب اللقطة. (¬2) رواه الطبراني بأسانيد بعضها حسنة. انظر مجمع الزوائد» ومنبع الفوائد للهيثمي (10/ 285).

بها على جواز الاشتراكية، أو شيوعية المال بين المسلمين، كما يحاول ذلك عبيد ماركس اليهودي، فإن المسلم الحقيقي يندفع ذاتيًا إلى مساعدة إخوانه بفضل ماله عن رضا نفس وطيب خاطر نتيجة إيمانه بالله وبما عند الله من عظيم الجزاء، وقد يقول بعض دعاة الاشتراكية والشيوعية في العالم الإسلامي: إننا نشاهد كثيرًا من الدول والشعوب التي تدعي الإسلام، تبذر الأموال على الغانيات والراقصات، وفي أمور هزيلة ساذجة في حين أن معظم الشعوب الإسلامية تعاني من الفقر المدقع، ومشكلات الحروب الشيء الكثير، ومع ذلك ما قدم لها الإقطاعيون (¬1) في العالم الإسلامي أية مساعدات مالية على المستوى المطلوب كما يأمر بذلك الحديث. فنقول للإجابة عن هذا الاحتجاج الموهم: إن تقصير هؤلاء عن القيام بواجبهم الشرعي نحو إخوانهم لا يعني ذلك خطأ النظام الاقتصادي في الإسلام وتقصيره في سد حاجات المسلمين، وإنما الخطأ مرجعه إلى سوء التطبيق من هؤلاء الذين يملكون الأموال الطائلة في العالم الإسلامي ولا يؤدون الحق الشرعي عليهم، فهم ليسوا من الملتزمين بالإسلام التزاما حقيقيا بل هم صورة مزيفة للمسلمين، ولذلك يجب أن لا نحمل الإسلام أخطاء أولئك الخارجين عليه، ولا نتخذ ذلك مبررًا للدعوة إلى غير الإسلام وإلى غير نظامه الاقتصادي العادل الرحيم. السبب التاسع: من أسباب تحقيق الموالاة في الله، الاحتراز من سوء الظن بالمسلم. فقد أخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً مر بمجلس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم الرجل فردوا عليه فلما جاوزهم قال أحدهم: إني لأبغض هذا، قالوا: مه فوالله لننبئنه بهذا انطلق يا فلان فأخبره بما قال له فانطلق الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه بالذي كان ¬

_ (¬1) هم الذين يتحكمون بالأرض ومن فيها من الناس، انظر المعجم الوسيط (2/ 752).

وبالذي قال: قال الرجل: يا رسول الله ارسل إليه فاسأله لم يبغضني؟ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لم تبغضه؟» قال: يا رسول الله أنا جاره وأنا به خابر، ما رأيته يصلي صلاة إلا هذه الصلاة التي يصليها البر والفاجر، فقال له الرجل: يا رسول الله سله هل أسأت لها وضوءا أو أخرتها عن وقتها فقال: لا ثم قال: يا رسول الله أنا له جار وأنا به خابر، ما رأيته يطعم مسكينا قط إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر، فقال: يا رسول الله سله هل رآني منعت منها طالبها؟ فسأله، فقال: لا، فقال يا رسول الله أنا له جار وأنا به خار، ما رأيته يصوم يوما قط إلا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، فقال الرجل: يا رسول الله سله هل رآني أفطرت يوما قط لست فيه مريضًا ولا على سفر؟ فسأله عن ذلك، فقال: لا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فإني لا أدري لعله خير منك» (¬1). وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن سوء الظن بالمسلم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» (¬2) فإن المسلم بناء على ذلك مأمور بأن يحسن الظن بإخوانه، وأن يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على محمل حسن ما لم يتحول الظن إلى يقين جازم، فالله عز وجل أمرنا بالتثبت فيما يصدر من الغير نحونا ونحو إخواننا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6] فكم أوقع سوء الظن السيئ من فراق بين المتحابين، وقطيعة بين المتواصلين، ولو لم يكن الظن على درجة عظيمة من الخطورة والأهمية في إضعاف روح الموالاة بين المؤمنين لما أكد الباري عز وجل على ذلك في الكتاب والسنة ومن استعراض الأسباب المتقدمة نجد أن ما أصاب المسلمين اليوم من قطيعة وتناحر وتنكر بعضهم للبعض الآخر، إنما هو بسبب تجافيهم عن الأخذ بالأسباب التي تحقق الموالاة في الله والتي أشرنا إليها فيما تقدم من هذا ¬

_ (¬1) كنز العمال (2/ 170) وانظر حياة الصحابة (2/ 513، 514). (¬2) رواه البخاري انظر فتح الباري (9/ 198) باب النكاح (45).

المبحث وإقبالهم على بدائل مستمدة من مخططات اليهود والنصارى لتدمير هذه الأمة. فقد استبدل معظم المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مطالعة الصحف والمجلات والنشرات والكتب التي يصدرها ويسيطر عليها أعداء الإسلام والمسلمين، سواء كانوا أعداء أصلاء أم أعداء عملاء. ونتيجة لذلك فقد ضعف الإيمان في النفوس وشوهت حقيقته بواسطة وسائل الإعلام المعادية للإسلام، في داخل البلاد الإسلامية وخارجها ووقع الاختلاف بين المسلمين نتيجة اختلاف مصدر التلقي والتوجيه فمن الناس من يستوحي أقواله وأفعاله من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن الناس من يستوحي أقواله وأفعاله من أسائده من اليهود والصليبيين ومنهم من يستوحي أقواله وأفعاله من الشيوعيين الوجه الثاني للعملة الكافرة ولذلك فشا التناحر والخصام بين مختلف فئات المجتمع الواحد تبعا لاختلاف التبعية والولاء، وهذا ما جعل المسلمين كاليهود تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وكثر التأسي بالأشرار والمصاحبة لهم نظرا لكونهم يتمتعون بمركز القوة في عامة البلاد الإسلامية، وانزوى ضعاف الإيمان عن صحبة الأخبار نظرا لما تنطوي عليه من أخطار جسيمة، حيث إن أهل الخير تحت المراقبة الدائمة والخطر المستمر نظرا إلى أن السلطات الكافرة لا تريد للخير أن ينتشر أو أن يستمر. وقد تداعت على المسلمين المصائب في كل قطر وبلد حتى شغل البعض منهم بمصيبته عن مصيبة إخوانه، مما أعطى للأعداء فرصة الضربات القاضية للمسلمين في بعض البلاد الإسلامية، دون أن يقابل عملهم هذا بأي رد إسلامي كبير، يكون تأديبا لهم ولأسيادهم من ورائهم وذلك كله بسبب غيبة الموالاة الحقيقية في الله، التي تجعل المسلمين كالجسد الواحد إذا اشكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر واللحمى.

المبحث الثاني: حقوق الموالاة بين المسلمين

المبحث الثاني: حقوق الموالاة بين المسلمين لقد أكرم الله عز وجل المسلمين حين جعل من دينه رابطة تربط المسلم بأخيه المسلم مهما نأى المكان واختلف الزمان، وأصبحت العقيدة الإسلامية تجمع بين القلوب المؤمنة، وتنشئ العطف والرحمة فيما بينها. ومن أول خصائص المجتمعين على الحق أن يسوسوا به أنفسهم، وأن تقوى به المحبة بينهم وأن تكون له مناصرتهم وتأييدهم قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10] وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103]. وعلى هذا إذا قلنا: إن الإسلام هو العروة الوثقى بين اتباعه جميعا، فإن التناصر بينهم يتم في حدود الشريعة الإسلامية ولذلك فلا مجال

للاعتراض عليه، من فرد أو جماعة، أو دولة لأن من اعترض على ما شرعه الله وأوجبه على المسلمين فحكمه الكفر (¬1). فقد أمرنا الله عز وجل بأوامر وكلفنا بتنفيذها ونهانا عن محرمات وطلب منا عدم مقارفتها قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2]. فأي مسلك ينافي أمر الله أو نهيه يعد خروجًا على الإسلام ولكن هذا الخروج منه ما هو كفر ومنه ما هو أقل من ذلك بمراتب متفاوتة. وقد ذكر الله عز وجل نموذجا حيا للموالاة الصحيحة بين الإخوة في الله، ثم ذكر الهدف من الموالاة في الله في مجال الدعوة، بذكر قصة موسى وهارون عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، قال تعالى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا) [طه: 29 - 35]. فبين الله تعالى الغاية من الأخوة في الله والموالاة فيه، أن المؤمنين بعضهم سند لبعض كما كان هارون سندًا لموسى عليهما السلام فموسى طلب من ربه أن يجعل له وزيرا يشدُّ عضده، ويقوي همته، ويعينه على نوائب الحياة، في القول والعمل، وإذا فهو يريد شريكا في أمره كله، يقاسمه بؤسه ونعيمه ويتبادل معه الرأي، ويتحمل معه أعباء الدعوة إلى الله، على بصيرة وهدي من الله، يشاركه في ذكر الله، وتسبيحه ويتحمل معه الصبر والابتلاء في إبلاغ الدعوة إلى الطغاة والمنحرفين ¬

_ (¬1) انظر زاد المسير في علم التفسير (2/ 366، 367) وانظر تفسير الطبري (6/ 163) وانظر تفسير القرطبي (6/ 190).

فمجابهة الطغاة تحتاج إلى معين وناصر، والمعين والناصر بعد الله، هو الأخ المؤمن الصادق، الذي يقدم نفسه، وماله وجميع ما يملك في نصرة دين الله ونصرة أخيه في العقيدة بلا ملل أو منة قال تعالى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) [طه: 42، 43] وما دام هذا شأن موسى مع هارون كما هو شأن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته، والتابعين لهم بإحسان، ألا يجب علينا الاقتداء بهم، في أن نذهب دعاة إلى الحق، كما ذهب موسى وهارون (اذهب أنت وأخوك بآياتي) ألسنا مكلفين بحمل هذا الدين كما حمله موسى وهارون وكما حمله رسلنا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 110] ألا يجب علينا التحمل والصبر في سبيل الدعوة كما صبر موسى وهارون (ولا تنيا في ذكري) ألا يجب أن نبلغ الطغاة والفراعنة في كل زمان ومكان دعوة الحق ونلزمهم بالأخذ بها وعدم إضلال الناس، وتعذيبهم بمناهج الكفر والضلال. فالموالاة في الله لا تصدر من طرف واحد، وإنما هي شركة بين المؤمنين يكمل بها بعضهم بعضًا، فالأخ الذي تبحث عنه ليعينك دائما على طاعة الله ويواليك ويناصرك على ذلك، هو أيضا يبحث عنك لنفس الغرض، حيث إن الموالاة تضامن في المال والنفس واللسان والقلب، والأخ مع أخيه مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وتعين إحداهما الأخرى في مجالات الحياة المختلفة والحقوق التي تقتضيها الأخوة في الله هي كما يلي: أولا: الحق الأول من حقوق الموالاة في الله الإيثار: إن من الصفات الكريمة التي امتدح الله بها الأنصار صفة الإيثار قال تعالى:

(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9] فالمسلم الذي يؤثر إخوانه في الله بماله ونفسه، فينزلهم أعظم من نفسه، فإن ذلك دليل على كمال إيمانه وعظيم حبه لله تعالى، ولمن يحبهم الله من خلقه، وهذه أعظم منزلة في الإيثار، ودونها منزلة أخرى وهي أن ينزل المسلم إخوانه المؤمنين منزلة نفسه فتسمح نفسه بمشاركتهم له في ماله ومنزله إذا اقتضى الأمر ذلك. قال الحسن: «كان أحدهم يشق إزاره لأخيه مناصفة بينهما» (¬1). ودون المرتبتين السابقتين مرتبة ثالثة، وهي أن ينزل المسلم أخاه مرتبة الصاحب لديه، فيقوم بحاجته من فضل ماله، إذا عرضت له حاجة وهو يملكها بين يديه قدمها دون أن يلجئه إلى السؤال إذا علم بحاله، فإن ألجأه إلى السؤال فهو دليل على تقصيره في حق أخيه عليه، فإذا لم تجد نفسك في رتبة من هذه الرتب مع إخوانك الذين انعقدت رابطة الأخوة بينك وبينهم فاعلم أن الجاري بينكم مخالطة وهمية ليست ذات صفة شرعية صادقة. فقد روي أن أبا هريرة رضي الله عنه جاءه رجل فقال: إني أريد أن أواخيك في الله فقال: أتدري ما حق الإخاء في الله؟ قال له عرفني قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني، فقال الرجل: لم أبلغ هذه المنزلة بعد قال: إذا فاذهب عني (¬2) اهـ. ثانيًا: من حقوق الموالاة في الله قضاء حاجات الإخوان والقيام بها ¬

_ (¬1) انظر فضيلة الألفة والأخوة، مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1605) (556/ 6) الورقة (37) المؤلف غير معروف كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبًا. (¬2) انظر فضيلة الألفة والأخوة، مخطوط بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1605) فيلم (556/ 6) الورقة (37) المؤلف غير معروف، كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبا.

على قدر الاستطاعة والقدرة، مع البشاشة، وإظهار الفرح والاستبشار بها قال بعض السلف (¬1): إذا استقضيت أخاك الحاجة فلم يقضها لك فذكره ثانية فلعله قد نسيها، فإن لم يقضها لك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم كبر عليه واقرأ هذه الآية: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام: 36] اهـ. وكان بعض السلف الصالح يقوم بتفقد عيال أخيه في الله بعد موته عشرات السنين، فيقضي حاجاتهم، ويلبي مطالبهم، ويتودد لهم، ويتردد عليهم، كأنهم بمنزلة أولاده، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه (¬2). قال ميمون بن مهران: (من لم ينفعك بصداقته، لم يضرك بعداوته (¬3)) اهـ. وروي في الأثر: ألا إن لله أواني في أرضه وهي القلوب فأحب الأواني إلى الله أصفاها وأصلبها وأرقها، وأخلصها من الذنوب وأصلبها في الدين وأرقها على الإخوان (¬4). وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: «إخواننا أحب إلينا من أهلينا وأولادنا لأن أهلينا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا الآخرة» (¬5). ثالثا: من حقوق الموالاة في الله أن يسكت الأخ المسلم عن عيوب إخوانه في غيبتهم وحضرتهم، إذا كانت هذه العيوب لا تمس شيئا من واجبات الدين وأركانه وذلك مثل قلة الأكل عند البعض منهم أو زيادته ¬

_ (¬1) نفس المصدر السابق نفس المكان. (¬2) المصدر السابق الورقة (40). (¬3) المصدر السابق نفس المكان. (¬4) فضيلة الألفة والأخوة، مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (1605) فيلم (556/ 6) الورقة (40) المؤلف غير معروف، كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبًا. (¬5) المصدر السابق الورقة (40، 41).

عند البعض الآخر أو كثرة النعاس لدى بعضهم أو قلة الكلام من بعضهم وكثرته عند البعض الآخر، فإن هذه الأمور ونحوها من الأولى أن يتجاهلها الأخ من إخوانه فلا يبديها لهم إذا خاف في إبدائها لهم أو مناقشتهم فيها ما يحملهم على قطع رابطة الأخوة ومفارقة الجماعة، فلا يبديها لهم ولا يناقشهم فيها مواجهة، ولكن يعرض بما هو شبيه بحالتهم، فيكون ناصحا لهم بطريق غير مباشر. وعلى الأخ أن لا يكثر من مفاتحة إخوانه بأشياء لم يذكروها مخافة أن يحملهم على الكذب اضطرارًا في ذلك، وأن يسكت عن القدح في أحباب إخوانه والمقربين إليهم، ممن لا يظهر عليهم فعل المعاصي والمجاهرة بها. قال ابن المبارك: «المؤمن يطلب لهفوات إخوانه المعاذير والمنافق يطلب العثرات» (¬1) اهـ. ومن حقوق الموالاة في الله (¬2) ترك سوء الظن بالأخ المسلم، فسوء الظن غيبة القلب، وذلك أمر منهي عنه المسلم، ما لم تتوافر الأدلة اليقينية في حصول الأمر المظنون به، وسوء الظن هو أن تحمل فعل أخيك على ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن المروزي مولى بني حنظلة كانت أمه خوارزمية وكان أبوه عبد تركيا لرحل من تجار همدان من بني حنظلة ولد عبد الله بن المبارك في سنة 118 هـ وتعلم العلم حتى أصبح يلقب بأمير المؤمنين في الحديث قدم هارون الرشيد إلى الرقة في غرب بغداد فاستقبله أفراد من الحرس والشرطة، وعندما قدم عبد الله بن المبارك من نفس المكان خرج الناس عن بكرة أبيهم لاستقباله فنظرت جارية في قصر الخليفة إلى المنظر فقالت ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلى بشرط وأعوان، وقد سئل ابن المبارك من الناس؟ فقال: العلماء، قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد قيل فمن السفلة؟ قال: الذين يعيشون بدينهم توفي رحمه الله مجاهدا في بلاد الروم سنة 181 هـ انظر تاريخ بغداد الخطيب البغدادي (1/ 152) وانظر حلية الأولياء لأبي نعيم (8/ 167). (¬2) انظر فضيلة الألفة والأخوة، مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات (1605)، فيلم (556/ 6) المؤلف غير معروف الورقة (41، 42) كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبًا.

وجه فاسد مع إمكان أن تحمله على وجه حسن، وسوء الظن يمكن تقسيمه إلى قسمين: القسم الأول: هو ما يسمَّى فراسة المؤمن، وهو الظن الذي يستند إلى علامات ودلائل تشير إلى ذلك فإن هذا يحرك الظن تحريكًا لا يقدر الإنسان على دفعه. القسم الثاني: الظن السيئ ومنشؤه سوء اعتقاد الأخ بأخيه، فإذا صدر من الأخ المظنون به سوء فعل له وجهان، دفعه سوء اعتقاده بأخيه أن ينزل فعله هذا على الوجه الرديء من غير علامة يقينية ترجع ذلك الأمر الذي حمل فعل أخيه عليه، وهذا الظن المبني على أمور وهمية جناية على الأخ بغير ما اكتسب وهذا هو الظن الذي حذرنا الله منه وحذرنا منه رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث (¬1)» وأقل درجات المعاملة في الأخوة في الله أن يعامل أخاه بمثل ما يجب أن يعامل هو به (¬2). رابعا: من حقوق الموالاة في الله أن يذكر الأخ محاسن إخوانه في الله، لأن المحاسن تغطي المساوئ وتجلب المحبة، وهذه الصفة من أخص خصال الأخوة في الله. فعلى الأخ المسلم أن يتودد لأخيه بلسانه ويتفقده في أحواله التي يحب أن يتفقد فيها فمعنى الموالاة في الله هي أن يساهم الأخ مع إخوانه ¬

_ (¬1) رواه البخاري انظر فتح الباري (9/ 198) باب النكاح 45. (¬2) فضيلة الألفة والأخوة مخطوطة بجامعة الرياض برقم (1605) فيلم (556/ 6) الورقة (42).

في السراء والضراء، ولذلك روي عن أبي كريمة المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» (¬1). والحكمة من إخبار الأخ أخاه بمحبته إياه لتحصل بينهما المودة والصلة والتزاور والمناصحة والتعاون، فتزداد المحبة وتتقوى الصلة بينهما وتتوثق عرى الأخوة بين الإخوة في الله (¬2) حيث أن الأخ إذا عرف أنك تحبه أحبك على ذلك ومعرفة الحب تكون بالقول والفعل، فإذا حصل ذلك بدأ الحب يتزايد بين الجانبين ويتضاعف والمحبة بين المؤمنين مطلوبة في الشرع ولذلك أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أسبابها القولية والفعلية ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (¬3) هذا في أسباب المحبة القولية. أما المحبة الفعلية فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت» (¬4) وفي حديث آخر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهداية ويثيب عليها (¬5). ومن مقتضيات الموالاة في الله أن يدفع المسلم عن أخيه في الله ذم ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 352) رقم الحديث (9/ 384). (¬2) انظر: نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 352). (¬3) رواه مسلم انظر: صحيح مسلم (1/ 74). (¬4) رواه البخاري انظر: فتح الباري (5/ 199). (¬5) المصدر السابق (5/ 210).

الذامين وقدح القادحين، وأن يرد تعنت المتعنتين وتشويه الحاقدين الذين يريدون أن يصفوا كل مسلم بأوصاف النقيصة والازدراء حتى لا يبقوا لأحد من المسلمين صفة العزة والكرامة والإيمان الصحيح، وإن تسليط الجهال وأنصاف المتعلمين على القدم وتكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات وأقبح الصفات، لأن هؤلاء لا يريدون أن يبقوا على فرد أو جماعة تمثل الإسلام تمثيلا صحيحا وبالتالي كأنهم بلسان حالهم يقولون أن لا وجود للإسلام والمسلمين فينشرون اليأس والتخاذل بين المسلمين، ولم يسلم من تلك المصيدة الخبيثة حتى أولئك الذين يتزعمون الدعوة إلى الله، فهم يربون أتباعهم على الحقد والضغينة نحو الآخرين، وكأن الإسلام وقف عليهم دون غيرهم من الناس، وكأنهم وحدهم المعصومون من الخطأ الذي يشترك فيه عامة الناس، إن المبدأ والمنهاج في تقييم المسلمين إذا انتشر وشاع على هذا الأساس، فسوف تفقد الأمة الثقة بجميع المسلمين عامة والعاملين للإسلام خاصة، وعند ذلك تضيع في متاهات الضلال والانحراف لعدم توفر القيادة الفكرية والقدوة العلمية والجماعة المستقيمة التي يمنحها المسلم ولاءه وانتماءه ونصرته وتأييده في هذه الحياة. وهذا لا يعني عدم محاسبة الإخوان عن أعمالهم وعيوبهم ومناصحتهم في تقصيرهم، ولكن الذي نقصده هو عدم التجريم الخفي الذي يهدم ولا يبني ويفسد ولا يقوم والذي قد يكون للكذب والمكر السيء مجال واسع فيه. فالإغضاء عن عيوب الإخوان يعتمد على الغرض الباعث على الإغضاء فإذا أغضيت لسلامة دينك، ولما ترى فيه من إصلاح أخيك بالإغضاء منه، فأنت مدار له والمداراة جائزة كما تقدم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر ص (209 - 211) من هذه الرسالة.

وإن أغضيت عن فعل محرم أو ترك واجب، أو أغضيت لحظ نفسك واستجلاب شهواتك، وسلامة جاهك فأنت مداهن والمداهنة محرمة مذمومة كما تقدم إيضاح ذلك. خامسًا: من حقوق الموالاة في الله أن لا يسب المسلم إخوانه من أجل الدفاع عن كافر أو نحوه، ودليل ذلك أن أبا سفيان رضي الله عنه أتى قبل إسلامه على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: والله ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها فقال أبو بكر رضي الله عنه أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك. فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي (¬1). فهم قالوا هذا الكلام موالاة لله ورسوله والمؤمنين، ومعاداة لأعدائهم ولذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إثارة غضبهم بهذه الصورة سببًا في غضب الله على من أغضبهم، فإذا كان أبو بكر رضي الله عنه رغم منزلته في الإسلام يقول له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك. فكيف حال الذين يعاندون المؤمنين في وسائل الإعلام المختلفة فيمدحون الكفار وينشرون الكفر ليل ونهار، ويسخرون من المؤمنين بأقوالهم وأفعالهم؟ أليس هؤلاء قد باءوا بغضب على غضب؟ ¬

_ (¬1) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 1947) كتاب فضائل الصحابة، وانظر التحفة العراقية لابن تيمية ص 35.

واستحقوا لعنة الله وعذابه قال تعالى: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) [البقرة: 90]. سادسًا: من حقوق الموالاة العفو عن هفوة الأخ والكف عن عثرته وهي لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية، أو في دنياه بتقصيره في حقك. فأما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية وترك واجب أو اقتراف محرم فلا يخلو ذلك من أمرين: 1 - أن تكون تلك المعصية التي اقترفها، أو الواجب الذي تركه زلة قد ندم عليها وتاب عنها فالعفو والصفح واجب في ذلك. 2 - أن يكون مصرًا على المعصية متلبسًا بها، فالأولى التلطف في نصحه بما يقيم عوجه، ويجمع شمله، ويعيد الورع والصلاح إليه، فإن لم تستطع وبقي مصرًّا، فقد اختلفت طرق الصحابة في حق مودته واستمرار موالاته، أو مقاطعته ومعاداته، ولهم في هذه المسألة قولان: القول الأول: قول أبي ذر (¬1) رضي الله عنه حيث يرى أن ¬

_ (¬1) هو جندب بن جنادة بن قيس بن عمرو بن مليل الغفاري، وأمه رملة بنت الوقيعة من بني غفار، وكان أبو ذر رضي الله عنه من كبار الصحابة وفضلائهم، قديم الإسلام يقال: أسلم بعد أربعة وكان خامس من أسلم، ثم انصرف إلى بلاد قومه وأقام بها حتى هاجر رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فقدم عليه وعندما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك تخلف أبو ذر قليلا ثم ركب بعيره ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الطريق كان بعيره بطيئا فتركه وحمل متاعه على ظهره وانطلق ماشيا على قدميه حتى لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر أحد المسلمين إليه وهو مقبل فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: كن أبا ذر فقالوا: يا رسول الله هو أبو ذر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يرحم الله أبا ذر يمشي على الطريق وحده ويموت وحده ويحشر وحده، وقد توفي رضي الله عنه على طريق الربذة في أطراف الشام سنة (32) هـ وصلَّى عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (5/ 186 - 188).

المسلم إذا انقلب على إخوانه وعصى ربه، وأصرَّ على معصيته، أنه يجب بغضه ومعاداته حيث يقول: إذا انقلب أخوك عمَّا كان عليه من الاستقامة فأبغضه من حيث أحببته، فإنَّ ذلك من مقتضى الحب في الله والبغض فيه (¬1). القول الثاني: قول أبي الدرداء رضي الله عنه وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم حيث ذهبوا إلى خلاف القول الأول فقالوا: إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى (¬2) اهـ. وقال إبراهيم النخعي (¬3): لا تقطع أخاك، ولا تهجره عند الذنب بذنبه، فإنه يركبه اليوم ويتركه غدا (¬4) اهـ. وهذه الطريقة يرى البعض أنها أقوم وألطف وأفقه، وقد احتج أهل القول الأول بأن مرتكب المعاصي لا تجوز مؤاخاته ابتداء، فيجب مقاطعته انتهاء لأن الحكم إذا ثبت بعلة فالقياس أن يزول بزوالها، وعقد الأخوة في الله لا يستمر مع من يقارف المعاصي ويصرُّ عليها. وأجاب أهل القول الثاني على ذلك، بأنه إذا قوطع من انحرف عن طريق الأخوة في الله، وانقطع عن صحبة إخوانه الأفاضل الكرام، فإنَّ ذلك يزيده إصرارًا واستمرارًا على معصيته، ويتيح فرصة للشيطان وحزبه، ¬

_ (¬1) انظر فضيلة الألفة والأخوة، مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (1605) فيلم (556/ 6) المؤلف غير معروف، كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبًا الورقة (55). (¬2) المصدر السابق الورقة (56). (¬3) هو إبراهيم بن يزيد النخعي من كبار التابعين علمًا وورعًا، توفي سنة (95) هـ انظر البداية والنهاية لابن كثير (9/ 140). (¬4) انظر فضيلة الألفة والأخوة، مخطوطة بجامعة الرياض برقم (1605) على ميكروفيلم رقم (556/ 6) الورقة (56).

أن يجُّروا العاصي من الساحل إلى محيط الكفر والضلال، مما يتحقق معه غلبة الهلاك. والأصل أن ينزل عقد الأخوة في الله منزلة عقد القرابة فإذا انعقدت القرابة تأكَّد الحق ووجب الوفاء به، وكذلك الأخوة في الله، إذا انعقدت وجب بقاؤها حتى ولو حصل ما يناقضها من معصية لا توجب الكفر، أو حصل ما ينقصها أو يضعفها، لأن استمرار الملاطفة والرفق والاستمالة، يفضي إلى الرجوع والتوبة إلى الله، عند استمرار الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولأن استمرار الصحبة يؤدي إلى استمراء الحياء عند العاصي أو المخالف مما قد يكون سببا معينا على الإقلاع عن المعصية ومخالفة الجماعة، ولأن من الحق الوفاء بحق الأخوة في الله والأخ العاصي أو المخالف لنهج الجماعة المسلمة بأشدَّ الحاجة إلى من يقف معه في مصيبته تلك، أرأيت هذا الأخ لو كان مستقيما على الصراط السوي، وأصابته حاجة مالية أو فقر شديد، ألا يجب شرعًا مساعدته ومعاونته؟ وكذلك الأمر بالنسبة لمصائب الاعتقاد والعمل، فإن فقر الدين أعظم رزية من فقر المال، فهذا الأخ الذي انحرف بعصيانه وخرج على منهج الجماعة قد أصابته مصيبة وألمت به نازلة، حيث افتقر في دينه وأصيب في عقيدته فينبغي أن يراقب وأن يراعى ولا يهمل بل يجب أن يتلطف به، ليعان على الخلاص من الواقعة التي ألمت به، فأخوة الإيمان عدة للنوائب وحوادث الزمان، فهي مؤازرة في البلاء ومشاركة في الرخاء وأي حادثة أشد من حادثة الإصابة في الدين؟ وأما ابتداء مصاحبة الفاسق أو مؤاخاته فلا تقاس على هذه الحال، فمؤاخاة الفاسق ابتداء لم يتقدم لها حق سابق، ولذلك يجوز ترك المؤاخاة له ابتداء، وهذا ليس بمذموم ولا مكروه، بل قال البعض: إن هذا هو الأولى (¬1). ¬

_ (¬1) انظر فضيلة الألفة والأخوة، مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (1605) على ميكروفيلم (556/ 6) الورقة (56).

أما قطع الأخوة بعد اتصالها فمنهي عنه، ومذموم في نفسه، ونسبة قطعها إلى تركها ابتداء، كنسبة الطلاق إلى ترك النكاح. فالطلاق في معظم أحواله أبغض إلى الله من ترك النكاح، فمخالطة الفساق ابتداء محذورة، ومفارقة إخوان العقيدة والإيمان أيضا محذورة حيث إن المسلم مطلوب منه شرعا، أن يصحب الأخيار وينبذ الأشرار، لأن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، وهذا الأخ الذي شذ عن إخوانه في الله هو كالمريض الذي يجب الاعتناء به وعلاجه بكل مستطاع فالمريض لا ييأس منه أهله بمجرد ظهور المرض عليه، فيسعون إلى قبره ودفنه وهو على قيد الحياة، بل الواجب بذل الطاقة واستفراغ الوسع في معرفة أسباب المرض ونوعه، ثم معرفة العلاج النافع لمثل تلك الحال, وكذلك الشأن في معاملة من يشذُّ عن طريق الجماعة المسلمة، فإنه يجب أن تصله وإن قطعها، وأن تترفق به وإن جفاها، وأن تحسن إليه وإن أساء إليها، وأنت تصبر عليه كصبر أهل المريض على علاج مريضهم ما لم تيأس منه كيأس أهل المريض من مريضهم بالموت (¬1). وهذا القول هو القول الراجح في نظري للأسباب التي ذكرتها فيما سبق، لأن القول الأول وهو قول أبي ذر رضي الله عنه في وجوب معاداة من انحرف بمعصيته عن طريق الأخوة في الله، فيه شدة وخشونة وغلظة قد يترتب عليها من المفاسد أكثر مما يترتب عليها من المصالح. وإن كان الأمر في نظري أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأوضاع المحيطة بالجماعة المسلمة، لأن هذه المسألة مما يدخل في نطاق السياسة الشرعية لمصلحة الدعوة إلى الله عز وجل. هذا الكلام المتقدم يتعلق بالخلاف بين الإخوة في الله، إذا ارتكب أحدهم معصية تؤدي به إلى الانحراف عن طريق الجماعة المسلمة. ¬

_ (¬1) المصدر السابق نفس المكان.

أما ما يتعلق بتقصير الأخ في حق أخيه بما يوجب إيحاشه وإثارة غضبه فالأولى أن لا يلجأ المسلم إلى ذلك مع إخوانه، ولكن لو حصل زلة من أخ على أخيه فالواجب العفو والاحتمال، وأن يحمل أقواله وأفعاله على المحمل الحسن، وأن يطلب له العذر في ذلك. وعلى الأخ المسلم أن يكون معتدلاً مع إخوانه في الحب، فلا يتكلف ما لا يطيق، ويكون معتدلا مع أعدائه في البغض فلا يبالغ في البغض عند الوقيعة بالأعداء، فقد يتحول الأعداء إلى أصدقاء يوما من الأيام قال تعالى: (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة: 7] كما أن تحول الأصدقاء إلى أعداء أمر غير ممتنع الحصول، روي الترمذي عن علي موقوفًا: «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما» (¬1). وروي عن عمر رضي الله عنه قوله: لا يكن حبك كلفًا ولا بغضك تلفًا (¬2) اهـ. أي لا يكن حبك شديدًا إلى درجة الهيام والإفراط، فيكون مشقة على النفس والمال، ولا تلفًا وهو أن تحب تلف صاحبك، ولو كان في هلاكه هلاكك. سابعًا: من حقوق الموالاة بين الإخوة في الله دوام المحبة والمودة إلى الموت، فالمحبة والموالاة والمناصرة للمؤمنين عبادة يتقرب بها العبد ¬

_ (¬1) رواه الترمذي: وقال: عن علي موقوفًا، انظر سنن الترمذي (3/ 234). (¬2) انظر فضيلة الألفة والأخوة مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1605) فيلم (556/ 6) المؤلف غير معروف كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبا (57).

إلى ربه والعبادة ليس لها أجل دون الموت قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]. قال القرطبي: اليقين الموت (¬1) فمعنى ذلك أن المحبة في الله يجب أن تستمر مع أهل الإيمان إلى الموت، وحتى ولو مات بعض الإخوة في الله فإن المحبة تستمر مع أولادهم وقراباتهم حيث إن الحب في الله يراد به الآخرة فإذا انقطع قبل الموت بغير عذر شرعي حبط العمل وضاع السعي بين المنقطعين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» وذكر منهم رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه (¬2). فإذا قصَّر العبد في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه وذلك أن مجالسة الإخوان في الله مسلاة من الهموم، وعون على الدين والدنيا. ولذلك قال ابن المبارك: ألذُّ الأشياء مجالسة الإخوان والاجتماع بهم (¬3) اهـ. والمودة الدائمة هي التي تكون بسبب الموالاة في الله والحب فيه، أما المودة لغرض دنيوي فهي تزول بزوال الغرض الذي حدثت المودة من أجله. ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (10/ 64). (¬2) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم (2/ 715) كتاب الزكاة باب: فضل إخفاء الصدقة. (¬3) انظر فضيلة الألفة والأخوة، مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (1605) فيلم (556/ 6) المؤلف غير معروف، يعتقد أنها كتبت في القرن التاسع الهجري الورقة (57).

فقد روي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما توادَّ اثنان في الله عز وجل، أو في الإسلام فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما» (¬1). ومن الوفاء بحق الأخوة في الله، عدم موافقة الأخ على ما يخالف الحق، بل من الوفاء المخالفة في ذلك إذا كان لدى المخالف دليل صريح فيما ذهب إليه. ثامنا: من حقوق الموالاة في الله أن الإنسان إذا عجز عن تقديم العون المادي لإخوانه فلا أقلَّ من أن يدعو لهم في حياتهم بالنصر والتمكين، وبعد مماتهم بالمغفرة والرضوان، فقد ورد في الحديث: «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الملك: ولك بمثل» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 232). (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 2094) باب الذكر (23).

المبحث الثالث: موالاة الأقليات الإسلامية

المبحث الثالث: موالاة الأقليَّات الإسلامية إن موالاة ونصرة الأقليات المسلمة، بل الأكثرية المسلمة الممزقة تحت أقدام المجرمين الكفرة واجب شرعي لا يعذر المسلمون بتركه ويأثمون إثما عظيمًا في تقاعسهم عن ذلك، كيف لا يكون ذلك؟ والله عز وجل يقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال: 72] فيتبين من هذه الآية أن الأصل أن يكون المجتمع المسلم كلاًّ لا يتجزأ وجماعة لا تفترق، ووحدة لا تنفصم، والأصل أيضًا أن يفتح المجتمع المسلم أبوابه لتقبل كل من يدين بالإسلام بلا فارق أو تمييز على أساس من اللون، أو العرق، أو لنشأة أو مكان الولادة أو غير ذلك من

الفوارق الجاهلية، فبلاد الإسلام هي المأوى الشرعي لكل مسلم، فالدخول إلى دار الإسلام حقٌّ شرعي لكل مسلم على المسلمين جميعا، لا فضل لهم بذلك أو منة إذا كانوا مسلمين يطبقون الإسلام تطبيقا صحيحا. ولكن مع ذلك لو بقيت قلة من المسلمين بدار الكفر، ثم اعتدى عليها بعد التسهيلات التي يمنحها المسلمون لهذه القلة في الدخول في دار الإسلام، فإن الواجب الإسلامي يفرض على المسلمين مناصرة تلك الأقلية المسلمة التي رضيت بالبقاء في دار الكفر بدون عذر أو مبرر شرعي، حيث إن دار الإسلام قد فتحت أبوابها لدخولهم ودخول كل مسلم إليها، قال تعالى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال: 72]. فهؤلاء ليسوا من أعضاء المجتمع الإسلامي الموحد المتحد على الإسلام قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) [الأنفال: 72] ومع ذلك أوجب علينا مناصرتهم بموجب رابطة الإسلام والإيمان ثم استثنى في مناصرة هؤلاء، أن لا تكون مناصرتهم مخلة بشرط من شروط الاتفاق بين المسلمين والكفار، لأن مصلحة المجتمع المسلم في دار الإسلام أولى من مصلحة قلة من المسلمين اختارت البقاء في دار الكفر على النزوح إلى دار الإسلام مع تمكنها من الدخول في دار الإسلام لو أرادت ذلك (¬1). فإذا كانت مناصرة هذه القلة بتلك الصفات واجبة في الإسلام فما ظنك بمناصرة المسلمين المأسورين عند الكفار، والذين لا يستطيعون للخروج حيلة ولا يهتدون سبيلا، ولو خرجوا من دار الكفر لما وجدوا دار إسلام تؤويهم أو تضمهم، أو تدافع عنهم؟ ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب (10/ 73).

إن الواجب الإسلامي يفرض على الدول والشعوب المنتسبة إلى الإسلام أن تكون بين خيارين في تعاملها مع المسلمين المضطهدين. الأول: أن تفتح أبواب بلادها لتقبل المضطهدين من المسلمين من مختلف أنحاء العالم، فتؤويهم في دار الإسلام وتقدم لهم المساعدات السخيَّة، وفرص العمل الشريف ويشتركون معهم في جميع الحقوق والامتيازات كما اشترك المهاجرون والأنصار بالمدينة عند قدوم المهاجرين إليها، وهذا الأمر قد يترتب عليه بعض الصعوبات نظرا إلى أنه قد يهاجر إلى البلاد الإسلامية من لا يعمل بالإسلام على الوجه الصحيح، ونظرا لوجود فئات كثيرة من أهل الكفر والنفاق تعيش بداخل البلاد الإسلامية، ولا ترضى بمثل هذا الإجراء حيث يتعارض مع رغباتها ومنهجها في الحياة، ولذلك فإن من الأولى في بداية الأمر أن لا يكثر المسلمون من سواد خصومهم بمثل هذا التصرف حتى يتكون لديهم القاعدة الصلبة التي تتحدى قوى الكفر والنفاق في الداخل والخارج، كما أن فتح باب الهجرة لبعض الأقليات الإسلامية قد يؤدي إلى أن تكون هجرتهم لمصالح دنيوية ويؤدي إلى خلو كثير من البلاد التي كانت تحكم بالإسلام إلى أن تكون دار كفر لا وجود للمسلمين فيها، مع أن المسلمين اليوم ليسوا بحاجة ماسة إلى العدد الكمي بقدر ما هم بحاجة ماسة إلى النوعية المخلصة الصادقة التي تفهم الإسلام كما فهمه السلف الصالح. الثاني: أن يعدل المسلمون عن فتح باب الهجرة للأكثرية المسلمة المضطهدة في معظم البلاد الإسلامية، وأن يستبدلوا ذلك بالدعم السخيّ لإخوانهم بالمال والنفس والرأي، فيكون المسلمون بدار الكفر مجاهدين في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم ويكون إخوانهم في الإسلام مجاهدين معهم بالمال والرأي والنفس إن تطلب الأمر ذلك وبذلك يتحقق للمسلمين هدفان:

(1) كسر شوكة الكفار وحماية المسلمين من سيطرة الكفر وهيمنته على المسلمين (2) رفع راية الجهاد التي أمر الله بها أن ترفع حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ) [الأنفال: 39]. يقول أبو بكر بن العربي: إذا كان من المسلمين أسراء أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن والمال والرأي وبأن لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى اسنتقاذهم، إن كان عددنا يحتمل لذلك، وأن نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد منا درهم أو دينار يبخل به عن ذلك (¬1) اهـ. ولا ريب أن تطيبق مثل هذه التعاليم كان هو السبب الرئيسي في نصرة المسلمين وعزتهم عبر قرون طويلة من تاريخ هذه الأمة المجيدة كما أن إهمالهم لهذا الأمر هو الذي أطمع الأعداء في بلاد المسلمين، فبدءوا في كل يوم يفترسون جزءا من المسلمين، والبقية الباقية من المسلمين في لهو وعبث ومجون وضياع (¬2). فالدول المحسوبة على الإسلام اليوم لا تقوم بواجب الأقليات الإسلامية على المستوى المطلوب منها شرعا وإنما اكتفت بإنشاء إدارة هزيلة ضعيفة واهية بموجب قرار وزراء خارجية المؤتمر الإسلامي التاسع الذي عقد في داكا عام (1398هـ -1978) ونشاط هذه الإدارة محدود جدًّا فهي تقوم بطلب المساعدات من الأعضاء ثم تقوم بتوزيعها على المراكز الإسلامية بشكل إعانات نادرة محدودة لا تسمن ولا تغني من جوع ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن لابن العربي (2/ 876) وانظر تفسير القرطبي (8/ 57، 58). (¬2) انظر فقه السير محمد سعيد رمضان البوطي (139).

فقد ذكر أحد المسئولين في هذه الإدارة أنهم قدموا مساعدة مالية إلى خمسة عشر مركزا بالولايات المتحدة الأميركية ودول الكاريبي، وعشرين مركزا في أوروبا، وثلاثين مركزا في آسيا، وستة وستين مركزا في أفريقيا، ولم يذكر المسئول الرقم الخاص بكل قارة ولا الرقم الإجمالي لهذه المساعدات (¬1) مما يدل على أن المساعدات ليست على المستوى المطلوب وأنها لا تعادل ما يتقاضاه حمار من الحمير الناهقة أو الرافسة، والآثار الظاهرة لتلك المراكز تدل على ضعفها وعجزها عن الجدية والنشاط، فهي لا تخدم المسلمين إلا في قضايا جزئية، أما أن تتبنى قضايا الاعتقاد والعبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع ونحو ذلك فهي غير مؤهلة لذلك، ولا يسمح لها الأعضاء بمزاولة مثل ذلك، في الوقت الذي نجد فيه أن مجلس الكنائس العالمي قد اعتمد مبلغ خمسين مليون دولار لإنفاقها على مراكز تكفير المسلمين في كل من تركيا وسوريا والأردن ومصر والسودان وتونس والجزائر والسنغال وملاوي وباكستان وبنغلاديش، وهذه كلها دول إسلامية فيما مضى من الزمن (¬2). ولم يكتف الصليبيون بذلك بل إن قضايا النصارى في مصر والشام ترعى من قبل الدول الكبرى الصليبية في العالم أجمع. ولذلك نحن لا نطالب بمثل تلك الإدارة الهزيلة لحقوق الأقليات الإسلامية في العالم، بل نطالب الأمة بأجمعها أن تكون في حسها ووجدانها مساعدة الأقليات الإسلامية، وأن تضغط على الحكومات التي تمثلها تمثيلاً زائفًا في أن تهتم بأمور المسلمين وقضاياهم في العالم أجمع، لأن ذلك من مسئوليات المسلمين عامة وحكوماتهم خاصة وقد تعتذر ¬

_ (¬1) انظر مجلة البلاغ عدد (533) في (29/ 4/ 1400) هـ (26). (¬2) انظر مجلة الدعوة السعودية عدد (809) في (17/ 10/ 1401) هـ (12).

بعض الحكومات بأنها تلتزم مبدأ الحياد مع شقيقاتها، أو مع دول العالم، والحق أنه لا حياد مع من حارب الله ورسوله والمؤمنين قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22] فهذا العذر غير مقبول فأي ارتباط يتعارض مع الكتاب والسنة يجب أن يضرب به عرض الحائط، والأدلة على وجوب مناصرة الأقليات الإسلامية سبق ذكر البعض منها والبعض الآخر كما يلي: (1) قال تعالى: (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء: 148]. (2) وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [الشورى: 39]. (3) قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى: 40، 41]. ومن السنة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يلي: (1) روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما (¬1)». (2) وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع، فذكر عيادة المريض واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار القسم (¬2). (3) قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل ¬

_ (¬1) رواه البخاري. انظر فتح الباري (5/ 98) كتاب المظالم. (¬2) المصدر السابق (99).

الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (¬1)». فهذه الآيات والأحاديث تدل على وجوب الانتصار للمظلومين من الظالمين، وللمضطهدين المعذبين من قبل الكفار والمجرمين، سواء كان الذين يعذبون المسلمين كفارًا صرحاء أو مرتدين عملاء. إن في تلك الأدلة تقريرًا خالدًا لصفة من صفات هذه الأمة المسلمة صفة الانتصار من كل باغ ومعتد وظالم مهما كان مركزه ووجوده في الأمة الإسلامية، إن الدين الإسلامي لا يحابي أحدا على حساب الآخرين. ولذلك حرم الإسلام الخضوع للظالم أو مساعدته في ظلمه أو التستر على مظالمه، أو تبرير جرمه وطغيانه. إن الأمة المسلمة مطالبة شرعًا بالانتصار ممن يظلمها، مطالبة بالرد على سيئات الظالمين بمثلها، وهي في عملها هذا تزاول حقها المشروع في دفع الظلم عنها وعن أفرادها ورعاياها من المسلمين في كل مكان من الأرض، فلا عبرة بأي أعراف أو مفاهيم جاهلية، من شأنها أن تهدر حقوق المسلمين وتدوس كرامتهم، في الوقت الذي تتجاوز به دول الكفر جميع القوانين التي وضعتها بنفسها، عندما ترى أن هذه القوانين لا تخدم أهدافها ومصالحها ومصالح عملائها. فالهيئات الدولية التي يدير شئونها أعداء المسلمين، كأنما وضعت لتكبيل المسلمين وتقييدهم والقضاء عليهم فوجًا إثر فوج (¬2). إن وضع الأكثرية الإسلامية في عصرنا الحاضر وضع حرج للغاية. ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 246) رقم الحديث (226). (¬2) انظر تفسير القرطبي (6/ 1 - 4) وانظر في ظلال القرآن سيد قطب (6/ 577 - 579) (25) (301 - 403).

حيث أقام أعداء الإسلام دويلات وإمارات مبعثرة، أحاطوها بحدود جغرافية مصطنعة، وأعطوها جنسيات متباينة، ووضعوا على رأس كل واحدة منها إلا ما ندر منها دكتاتورا متسلطا يفتك بالمسلمين فتكا ذريعا فلا هي تستطيع الانتصار عليه بمفردها، ولا تستطيع أن تستنصر عليه بجيرانها، لأن القائمين على مسئوليات الدول المجاورة يقومون بنفس الدور، ويسيرون على نفس المخطط. والشعوب الإسلامية مطحونة غارقة في بحر الشهوات والشبهات بحيث لا تشعر بعملية الانسلاخ من الإسلام وعملية التصفية الجسدية للمسلمين الغيورين على دينهم فنجد أن عامة الشعوب الإسلامية مشغولة بالفن الماجن القابع بين وجه المرأة ونحرها، والبعض الآخر مشغول بالرياضة التي تروض الناس على الضياع والذل والانحطاط والنوع الثالث مشغول بعبادة الدرهم والدينار يلهث وراء ذلك ويطلب حصوله بكل وسيلة وأقبح سبيل، وإذا وجدت قلة مؤمنة في خضم هذا المجتمع المنحرف عن الإسلام يعز عليها ما يعانيه إخوانها تحت وطأة الطغاة المجرمين وما أكثرهم فإنها قد لا تجد إلى مساعدتهم سبيلا، وذلك أن معظم الدول المنتسبة إلى الإسلام لا تسمح بجمع أي نوع من أنواع التبرعات للأقليات الإسلامية المضطهدة في العالم بل الأكثرية المضطهدة في العالم الإسلامي، وبعض الدول قد تسمح في ظروف معينة بجمع التبرعات لبعض المنكوبين من المسلمين إذا كان ذلك يناسب وضعها السياسي وقضاياها الأمنية فتسمح بجمع التبرعات تحت إشرافها وإطلاعها بحجة تنظيم ذلك وصيانته، ثم تدفع ما تحصل عليه أو بعض ما تحصل إلى الموالين لها في طرف النزاع في فلسطين، أو في أفغانستان أو غيرها من البلاد الإسلامية وقد لا يأتي أصحاب الشأن من ذلك شيء، سوى إعطاء بعض المنافقين والعملاء كي يصوروا في المرائي والصحف والمجلات وينشر ذلك في نشرات الأخبار وأقوال الصحف المحلية والعالمية.

ولذلك يحجم كثير من المسلمين عن المشاركة في دعم الأقليات الإسلامية لأنه لا يطمئن إلى سلامة وصول هذه الإعانات إلى المستحقين لها شرعا، نظرا لبعد القائمين على مقاليد السلطة في معظم الدول الإسلامية عن جوهر الإسلام وحقيقته. ولكن لو قامت دولة إسلامية حقيقية صادقة مخلصة، وأرادت أن تقوم بمساعدة المسلمين المعذبين في العالم الإسلامي بجدية وإخلاص، فإنها تزاول بعملها هذا أمر مشروعا وتؤدي واجبا نحو هذا الدين ونحو المسلمين عامة وهي تنطلق في عملها هذا من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته (¬1)» ورعاية المسلمين لإخوانهم لا تحدها حدود، ولا تمنعها قيود غير شرعية وقد يعترض معترض فيقول: كيف تستطيع دولة صغيرة من الدول أن تتدخل في الشئون الداخلية لدولة أخرى؟ والجواب: أن نقول: إن المسلمين في مودتهم وتراحمهم وتناصرهم يجب أن يكونوا أشد من تناصر الكفار فيما بينهم، لقد تضامنت دول الكفر جميعًا مع اليهود من حين إعلانهم لدولتهم حتى هذا التاريخ وهم يلقون الدعم البشري، والعسكري والاقتصادي والمعنوي من دول الكفر عامة والدول الكبرى منها خاصة، وتضامنت دول الكفر كلها مع أميركا في قضية الرهائن الأميركيين لدى إيران، رغم قوة أميركا وتفوقها في مجالات عديدة وتضامن اليهود مع نصارى لبنان فضلا عن نصارى العالم أجمع، وتضامن الشيوعيون في كوبا وبولندة والدول العربية مع روسيا في غزوها لأفغانستان رغم أن روسيا ليست بحاجة إلى فلك فهل ما تبيحه دول الكفر لنفسها من تعاون وتناصر يحرم تطبيقه بين المسلمين؟ إن لدى الحكومات القائمة في البلاد الإسلامية وسائل كثيرة تستطيع ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 288) رقم الحديث (285).

من خلانها الضغط والتأثير على من يطاردون الأكثرية المسلمة فضلا عن الأقليات الإسلامية ومن هذه الوسائل ما يلي: أولاً: استخدام الاقتصاد كوسيلة قوية ومؤثرة على أوضاع هؤلاء المجرمين، فلا نصدر لهم ما يحتاجون إليه ضرورة ولا نستورد منهم ما يمكن أن نجده عند غيرهم ممن هم على علاقة حسنة بالمسلمين. ثانيًا: من وسائل الضغط على أعداء الله وأعداء رسوله والمؤمنين عدم التعاون معهم في أي مجال من مجالات الحياة، فلا نعينهم ولا نستعين بهم في أي أمر من أمور المسلمين، ما دمنا نجد في غيرهم من يسد مسدهم، ولو اضطررنا إلى التعامل معهم فنتعامل معهم معاملة تجارية دون محبة أو مودة فهاهم ينهبون ثروات المسلمين وخيراتهم ولا يضمرون لهم سوى الحقد والكراهية والمكر الخبيث. ثالثًا: يجب على المسلمين أن يكشفوا مخططات الكفار ويوضحوا جرائمهم تجار الإسلام والمسلمين، في مناهج التعليم ووسائل الأعلام وأن لا يسلكوا معهم سبيل المداهنة والنفاق. رابعًا: يجب على المسلمين شعوبًا وحكومات أن يمدوا يد العون والمساعدة بسخاء إلى المسلمين الذين يقاومون الحكومات الطاغية والأحزاب الكافرة، ودعمهم في ذلك بلا خجل أو حياء أو خوف من الناس، لأن هذا واجب شرعي من واجبات الإسلام، يؤديه المسلمون كما يؤدون غيره من الواجبات الشرعية. خامسًا: أن يستقدم المسلمون بعض اللاجئين من المسلمين الذين يطردون من بلادهم والذين لا يشكلون إلا قلة قليلة في بلاد الكفار مثل لاجئي كمبوديا، وكوريا، وفيتنام، وتايلند، وبعض بلدان أفريقيا وأوروبا الشرقية، ثم يتقاسمهم أهل البلاد الإسلامية فيما بينهم.

كما تفعل الدول الصليبية مع النصارى في شرق آسيا، فإن المسلمين بحاجة إلى الأيدي العاملة، فبدلاً من أن يستقدموا مئات الآلاف من الصليبيين واليهود وأهل الأوثان، يأتون بإخوانهم في الإسلام فيستفيدون منهم في مجال الأعمال المختلفة، ويفيدوهم بالنصرة والمأوى وإتاحة العيش الكريم لهم مع المسلمين، والدول الإسلامية تتمتع بمساحات شاسعة من الأرض وبأنهار كبيرة وكثيرة، وبثروة بترولية كبيرة، فهي قابلة للنمو في مجال الزراعة والصناعة ومختلف جوانب الحياة، وهي قادرة على استيعاب الملايين من البشر، ففي السودان وجنوب مصر وليبيا وتونس صحارى شاسعة يمكن استغلالها وإسكان آلاف اللاجئين فيها. ولكن أين من يفكر في مثل هذا ويعمل له؟ إن معظم الدول التي تحكم الشعوب الإسلامية لا تفكر بمثل ذلك ولا تخطط له، لأنها قصيرة الأجل في نظرها فاقدة للثقة بنفسها، لأنها أصلا ما قامت ولا انطلقت من منطلق صحيح، يجعلها تطمئن في تخطيطها وتصرفها في سائر أعمالها. فهي تنتظر الوقيعة بها صباح مساء، ولذلك كل هم تلك الدول هو أن تعض على مكانها بالنواجذ ولو كان في ذلك تدمير لأمة الإسلام كلها. فهي على استعداد أن تبيع بلاد المسلمين بمن فيها من المسلمين مقابل الحصول على مال كثير وكرسي وثير، فحكومات كهذه لا تبني ولا تهتم بشعوبها المحدودة بحدود ضيقة، فضلاً عن أن يرجى فيها الخير في نصرة شعوب وبلاد بعيدة عنها، ففاقد الشيء لا يُعطيه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

المبحث الرابع: أسباب تحقيق المعاداة في الله

المبحث الرابع: أسباب تحقيق المعاداة في الله إن المسلم مأمور بإظهار العداوة لأعداء الله ورسوله والمؤمنين وهذا الأمر لا يتحقق إلا بخمسة أسباب رئيسة هي على النحو التالي: السبب الأول: هو ترك اتباع أهواء الكفار أو تحقيق رغباتهم في معصية الله قال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 120]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فانظر كيف قال في الخبر ملتهم، وقال في النهي أهواءهم، لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير (¬1). ¬

_ (¬1) انظر سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك للشيخ حمد بن علي بن عتيق تحقيق إسماعيل بن عتيق (28).

وقال تعالى لموسى وهارون: (فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [يونس: 89] وقال موسى لأخيه هارون كما ذكر الله عنه بقوله تعالى: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف: 142] وقال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115] وقال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) وقال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 48]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لقد جعل الله عز وجل لرسوله شريعة شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعة الإسلام واتبع الكفار قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ) [الجاثية: 18، 19] فمن دلائل الإيمان تعمد مخالفة أهواء الكفار وصد رغباتهم التي يقصدون بها جر المسلم إلى الكفر وإخراجه من الإسلام (¬1) اهـ. السبب الثاني: هو معصية الكفار فيما أمروا به فإن الله تعالى نهى عن طاعة الكافرين، وأخبر أن المسلمين إن أطاعوهم ارتدوا عن الإيمان ¬

_ (¬1) انظر سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك للشيخ حمد بن علي بن عتيق تحقيق إسماعيل بن عتيق (29).

إلى الكفر قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران: 100] وقال تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28] وقال تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام: 121] وقال تعالى: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52]. فيجب على المسلمين حكاما ومحكومين عدم طاعة الكفار وإظهار المعصية لهم بالقول والعمل ومعاملتهم بالغلظة التي تجعلهم لا يطمعون بأكثر مما يستحقون بموجب شريعة الإسلام. السبب الثالث: عدم الركون إلى الكفار أو الظالمين، أو اتخاذهم أمناء أو مستشارين فإن ترك ذلك دليل على معاداتهم كما أمر الله عز وجل، فإن الله قد وعد بمسيس النار في الآخرة وعدم النصرة في الدنيا لمن ركن إلى الكفار أو تولاهم قال تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]. وهو أمر متحقق فعلا حيث نرى أن الموالين للأعداء لم ينتصروا على أعدائهم، ففي الحروب التي خاضها المناوئون لليهود اسما لا حقيقة لم ينتصروا على اليهود في حرب (1367) هـ وحرب (1387) وحرب (1393) أي بالتاريخ الميلادي حرب (1948) وحرب (1967) وحرب (1973)؛ لأنهم قد ارتموا بأحضان أعدائهم وأطاعوهم ووالوهم واتبعوا أهواءهم فكان ما توصلوا إليه من هزائم فادحة، أمر جار وفق سنة.

الله في الكون والحياة حيث وعد الله عز وجل بحرمان من تولى غيره من العزة والتمكين قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا) [النساء: 139]. السبب الرابع: من أسباب تحقيق المعاداة في الله ترك مواداة الكفار والبشاشة في وجودهم، والمبالغة في استقبالهم وفي إكرامهم لغير نية الدعوة إلى الله، فالكافر عدو الله ورسوله والمؤمنين والمحارب منهم أشد عداوة من غيره قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله يخبرنا بهذه الآية أنه لا يوجد مؤمن، يواد من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم فمن واد كافر فليس بمؤمن لأن مودة الله ومودة عدوه ضدان لا يجتمعان في قلب واحد (¬1) اهـ. السبب الخامس: من أسباب تحقيق المعاداة في الله مراغمة الكفار في ترك التشبه بهم في أقوالهم وأفعالهم، فقد حث الله المؤمنين على ترك الأقوال والأعمال التي تحمل مفهوما خاصة وسيئا في استعمال الكفار وعرفهم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 104]. فنهى عن التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، وقد دلت السنة على النهي عن مشابهة الكفار بالملبس ونحوه، فقد روي عن عبد الله بن عمرو ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (271).

ابن العاص رضي الله عنه قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها (¬1). فنهى عن لبس هذه الثياب لعلة مشابهتها للزي الخاص بالكفار. وفي رواية أخرى عنه قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفرين فقال: أأمك أمرتك بهذا؟ قلت: أغسلهما قال: بل احرقهما (¬2)، وفي الحديث «ليس منا من تشبه بغيرنا» (¬3). فشدة النهي عن التشبه بالكفار حتى تتحقق المفاصلة التامة بين منهج الحق وطرق الباطل، لأن المشابهة في الأقوال والأفعال تورث نوعا من المودة والمحبة، والمناصرة بين المتشابهين، ولذلك نهى الله ورسوله عن مشابهة الكفار بالأقوال والأفعال التي هي من خصائص كفرهم نهيا شديدا، لأن المشابهة لهم سبب يفضي إلى محبتهم ومودتهم وموالاتهم ومناصرتهم وقد حرم الإسلام كل سبب يوصل إلى المحرم أو يعين عليه. ولكن للأسف الشديد إن واقع المسلمين اليوم بعيد كل البعد عما يجب أن يكون عليه، فكل هذه الأسباب الخمسة معدومة تماما على مستوى الحكومات القائمة في البلاد الإسلامية، وعلى مستوى الأكثرية من الشعوب الإسلامية، فمعظم الدول الإسلامية تتبع هوى الكفار، وتطيعهم في معصية الله، وتتخذهم بطانة من دون المؤمنين وتظهر لهم المودة والإكرام قولا وفعلا، وتبالغ في إكرامهم بغير نية دعوة إلى الإسلام. ¬

_ (¬1) رواه مسلم انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 159) (2836) وقال: عنه ضعيف الإسناد ولكن الألباني حسنه، انظر صحيح الجامع الصغير (5/ 101/ 5310). (¬2) المصدر السابق نفس المكان. (¬3) انظر مجموعة التوحيد (272).

وبعض الدول المحسوبة على الإسلام تلزم رعاياها بالتشبه بالكفار في أقوالهم وأعمالهم، وتحارب أخلاق الإسلام عبر وسائل التعليم والإعلام، ومع ذلك لو تكلم أحد أو وصفها بالكفر لزجت به في غياهب السجون وأذاقته أصناف العذاب الأليم. أما على مستوى الشعوب الإسلامية، فإن معظم الشعوب الإسلامية تنقسم إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول: قسم مؤمن مبتلى في عقيدته وعبادته أين ما اتجه وحيثما سار، لا يجد إلا أعداء يتربصون بالمؤمنين الدوائر، فهو متألم لهذا الواقع المر الحزين ولكنه لا يستطيع أن يفعل حيال ذلك شيئًا ذا بال، لأن الجماعة المسلمة الملتزمة بالإسلام تعيش وسط جموع كبيرة من المرتدين والمنافقين والانتهازيين والجاهلين الذي يشكلون بمجموعهم كتلة واحدة تقف ضد الحق وأهله، وتحاربه بكل ما تملك من سلاح. القسم الثاني: طبقة المنافقين وأخماس المسلمين وأسداسهم الذين لا هم لهم إلا شهواتهم ومنافعهم العاجلة، فعليها يوالون ومن أجلها يعادون وهذه الفئة في الغالب تكون مع الأقوى سواء من أهل الخير أو من أهل الشر، فهم أتباع لمن يأخذ بزمان المبادرة ويعتلي مركز القيادة. القسم الثالث: فئة المرتدين والمتحزبين الكافرين الذين ينتمون إلى أحزاب الكفر والضلال، كحزب البعث، أو الحزب الشيوعي، أو الحزب الاشتراكي أو غير ذلك من أحزاب الكفر التي تتقنع بأقنعة ظاهرها الدعوة إلى الإصلاح وباطنها الدعوة إلى الكفر البواح. فوجود هذه الفئات وسيطرتها على مقاليد الأمور معظم البلاد الإسلامية هو الذي أدى إلى انعدام تحقيق الموالاة في الله والمعاداة فيه على مستوى الدول والشعوب الإسلامية. والمخرج من ذلك كما أعتقد والله أعلم هو السعي الجاد من قبل

المؤمنين العاملين للإسلام في تحويل أكبر قدر ممكن من البشر المتواجدين في البلاد الإسلامية إلى الإسلام الصحيح وعند ذلك يسهل القضاء على أعداء الإسلام والمسلمين، ويسهل تطبيق الموالاة في الله والمعاداة فيه كما حصل في أول هذه الدعوة. والله الهادي إلى طريق الحق والصواب.

المبحث الخامس: صورة من الموالاة في الله والمعاداة فيه

المبحث الخامس: صورة من الموالاة في الله والمعاداة فيه إن هذا الدين من سماته العظيمة ومميزاته الكريمة أنه ينقل النص الموحى به من عند الله إلى التطبيق العملي في واقع الناس وحياتهم فمجرد العلم بالأحكام الشرعية لا يغني صاحبه شيئًا ما لم تتحول هذه المعرفة إلى عمل واقعي مشاهد محسوس، وإن القرآن الكريم والسنة النبوية ليسا للمتاع العقلي ولا للمعرفة المجردة، وإنما جاء بهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ليكونا منهاج حياة، ولذلك لم ينزل الله عز وجل هذا القرآن جملة واحدة، وإنما نزل وفق الحاجات المتجددة ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية، يقول سيد قطب رحمه الله: لقد كانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة أو الحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم، وترسم لهم منهج العمل في المواقف المتعددة (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) انظر معالم في الطريق سيد قطب (18 - 19)

وكان من ضمن هذه المواقف التي تناولها القرآن الكريم والسنة النبوية موقف الموالاة والمعاداة، فنزلت الآية القرآنية وتحدث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذه القضية بما لا يدع زيادة لمستزيد، وقد طبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن سار على نهجهم الموالاة في الله والمعاداة فيه كما رسمها الله عز وجل فوالوا أولياءه وعادوا أعداءه، على هدى وبصيرة من وحي الله، فكانوا بذلك قدورة وأسوة حسنة لمن وفقه الله إلى عمل الخير وهداه إلى الصواب، وفي هذا المبحث سنعرض صورا ومشاهد واقعية حقيقية، عن الموالاة والمعاداة في الله، وكيف وصل الإسلام باتباعه إلى هذه الدرجة العظيمة من الحب في الله والبغض في الله، بصورة لا مثيل لها في غير تاريخ الإسلام وسنعمل على ترتيب هذه الصور حسب أهميتها وإن كانت كلها مهمة وهي صور للذكرة وليست للحصر فصور الموالاة والمعاداة في الله أكثر من أن تحصر، حيث ما من عمل من الأعمال إلا والباعث عليه الحب في الله أو البغض في الله، وهذه الصور تتخذ أشكالا متنوعة في الموالاة والمعاداة في الله بحيث تكون نموذجا متكاملا للمجتمع المسلم فهي لا تقتصر على جانب دون جانب آخر، ومن هذه الصور ما يلي: أولا: من صور الموالاة في الله الإيثار: فقد روي في سبب نزول قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 19] إنما هم الأنصار فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله.

- صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله هذه الآية (¬1). وقد روى البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا فقالوا تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة قالوا سمعنا وأطعنا (¬2) وقد أخرج الإمام أحمد عن أنس، أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قدم المدينة، فآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه فقال له سعد: أي أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها فقال عبد الرحمن، بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق فدلوه فذهب، فاشترى وباع فربح فجاء بشيء من أقط وسمن، ثم لبث ما شاء الله أن يلبث، فجاء وعليه درع زغفران فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهيم؟ (¬3) فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، فقال: «ما أصدقتها؟» قال: وزن نواة من ذهب، قال: «أو لم ولو بشاة» (¬4). ثانيا: من صور المعاداة في الله، معاداة ذوي القرابة وهجرهم، عند استمرار عداوتهم ومحاربتهم في الله: ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 119) كتاب مناقب الأنصار. (¬2) رواه البخاري انظر صحيح البخاري (3/ 136) دار إحياء التراث العربي. (¬3) أي ما أمرك وشأنك انظر صحيح مسلم (2/ 1042). (¬4) رواه البخاري ومسلم انظر صحيح البخاري (7/ 5) وانظر صحيح مسلم (2/ 1042).

قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22]. روي في سبب نزول هذه الآية أقوال متعددة، نذكر منها قول ابن جريج (¬1) حيث يقول: حدثت أن أبا قحافة سب النبي - صلى الله عليه وسلم - فصكه ابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك فقال: أو فعلته؟ لا تعد إليه فقال: والذي بعثك بالحق نبيا لو كان السيف مني قريبا لقتلته، هذا والله أعلم كان في أول الإسلام فإن أبا قحافة أسلم عام الفتح (¬2) وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن الآية المتقدمة نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ورضي الله عنه حيث قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم بدر، وكان ابن الجراح يتصدى لأبي عبيدة عدة مرات، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما كثر من ذلك قصد إليه أبو عبيدة فقتله أي قتل الشرك الممثل في شخص أبيه ولو لم يكن مشركا لكان من أبر الناس بوالده (¬3). وقد أنكر الواقدي ذلك وقال: إن والد أبي عبيدة قد توفي قبل الإسلام ورد بعض أهل العلم قوله ذلك (¬4). ومن صور المعاداة في الله، أنه لما أكثر اليهود من نقضهم العهود مع ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن جريج الأموي المكي ولد سنة (80) هـ وتوفي سنة (150) هـ محدث حافظ فقيه مفسر، رومي الأصل ولد بمكة وقدم العراق وحدث بالبصرة وأكثروا عنه الرواية من آثاره السنن مناسك الحج، وتفسير القرآن الكريم انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (6/ 183، 184). (¬2) انظر تفسير القرطبي (17/ 307) وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (3/ 85). (¬3) انظر تفسير القرطبي (17/ 307) وانظر صور من حياة الصحابة د/ عبد الرحمن رأفت الباشا (2/ 11). (¬4) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (3/ 85).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاروا ينسجون المؤامرات بالمدينة أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة في قتل اليهود المحاربين لله ورسوله، وكان ذلك في السنة الثالثة للهجرة حيث قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» فوثب محيصة بن مسعود رضي الله عنه على ابن سنينة اليهودي وهو من تجار يهود فقتله، وكان ابن سنينة يبايعهم في تجارته، فقال له أخوه حويصة بن مسعود وهو حينئذ مشرك، يا عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله يلوم أخاه على قتل هذا التاجر اليهودي، فقال محيصة: لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك فقال: «إن دينا بلغ بك هذا لعجب» فأسلم حويصة لذلك (¬1). ومن صور الموالاة في الله ما حصل من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع أمه عندما امتنعت عن الأكل والشرب وأقسمت أن لا تطعم حتى يرجع عن الإسلام، وأخذت على ذلك ليالي وأياما، وبدأت تستقبل سعدا بالبكاء والدموع، لعلها تبلغ بدموعها ما لم تبلغه بتوسلاتها وكان معروفا أنه من أبر الأبناء بأمهاتهم، لكنه وقف من أجل دينه ذلك الموقف الحازم الشديد فقال لها: والله لو كان لك ألف نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني هذا. وعند ذلك أدركت أن هذا الأمر ليس فيه مجال للمساومة أو الإغراء أو التهديد أو الوعيد، فرجعت عن ذلك (¬2) وقريب من هذه الحادثة ما حصل من الطفيل بن عمرو الدوسي حيث أسلم وأقام بمكة زمنا تعلم فيه وتفقه في أمر دينه ثم عزم على الرحيل والعودة إلى قومه دوس التي كانت تعبد أصناما منها ذوى الشرى، وذو الكفين، وعندما وصل إلى أهله قال: ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق (4/ 334، 335). (¬2) انظر كتاب سعد بن أبي وقاص عبد الحميد جودة السحار (8 - 13) وانظر صور من حياة الصحابة د/ عبد الرحمن رأفت الباشا (4/ 111 - 113).

استقبلني والدي وكان شيخًا كبيرًا فقلت له: إليك عني يا أبت فلست منك ولست مني، قال: ولم يا بني؟ قلت: لقد أسلمت واتبعت دين محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: أي بني، ديني دينك، فقلت: اذهب واغتسل وطهر ثيابك ثم تعالى حتى أعلمك ما علمت، فذهب واغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم، وهكذا فعل مع زوجته وأمه وبعض قومه، وكان أبو هريرة رضي الله عنه ممن أسلموا على يد الطفيل بن عمرو الدوسي (¬1). وقد أخرج ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى بدر أن يسحبوا (¬2) إلى القليب، فطرحوا فيه ثم وقف وقال: يا أهل القليب هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا، فقالوا يا رسول الله تكلم قومًا موتى؟ قال: «لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقا» فلما رأى أبو حذيفة بن عتبة رضي الله عنه أباه عتبة يسحب إلى القليب عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكراهية في وجهه فقال: يا أبا حذيفة كأنك كاره لما رأيت فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أبي كان رجلاً سيدًا فرجوت أن يهديه ربه إلى الإسلام، فلما وقع الموقع الذي وقع أحزنني ذلك فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي حذيفة بخير (¬3) اهـ. وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسعيد بن العاص رضي الله عنه وقد مر به إني أراك كأنك في نفسك شيء أراك تظن أني قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام ابن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو ¬

_ (¬1) انظر صور من حياة الصحابة د/ عبد الرحمن رأفت الباشا (1/ 29، 30) (7/ 91). (¬2) أي يجر على وجه الأرض. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 223) وقال صحيح الإسناد على شرط مسلم.

يبحث بحث الثور بروقه (¬1) فحدت عنه وقصد له ابن عمه علي فقتله فقال سعيد بن العاص: لو قتلته لكنت على الحق وكان على الباطل فأعجبه قوله (¬2). ومن صور الموالاة في الله والمعاداة فيه، ما أخرج البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي بن سلول وهو في ظل أطم (¬3) فقال ابن سلول: غبر علينا ابن أبي كبشة (¬4)، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله عنه يا رسول الله والذي أكرمك لئن شئت لآتينك برأسه فقال: لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته (¬5). وأخرج ابن شاهين بإسناد حسن عن عروة قال: استأذن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله عنهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبويهما فنهاهما عن ذلك (¬6). وأخرج ابن أبي شيبة عن أيوب قال: قال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما لأبي بكر: رأيتك يوم أحد فصدفت (¬7) عنك قال أبو بكر رضي الله عنه لكني لو رأيتك ما صدفت عنك، وقد أسلم عبد الرحمن رضي الله عنه في هدنة الحديبية (¬8). ¬

_ (¬1) الروق أي القرن انظر لسان العرب (1/ 1257). (¬2) انظر البداية والنهاية لابن كثير (3/ 290) وانظر أسد الغابة (2/ 310) (5/ 170، 171) وانظر حياة الصحابة (2/ 292). (¬3) الأطم البناء المرتفع انظر المعجم الوسيط (1/ 20). (¬4) أبي كبشة هو زوج حليمة السعدية مرضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجد المنافقون من عيب في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسبوه إلى زوج مرضعته. (¬5) انظر مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي (9/ 318) قال الهيثمي: رجاله ثقات. (¬6) انظر الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر (1/ 361). (¬7) أي أعرضت انظر المعجم الوسيط (1/ 512). (¬8) انظر سنن البيهقي (8/ 186) وانظر كنز العمال (5/ 274).

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها في معركة بدر، استشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه رضي الله عنهم في أسرى بدر فقال ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال عمر قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فاضرب عنقه، وتمكن عليّا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، وحتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة (¬1) للمشركين (¬2). وروي عن الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه المدينة جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام فدخل على ابنته أم حبيبة زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته دونه، فقال: أي بنية أرغبت بهذا الفراش عني؟ أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال يا بنية لقد أصابك بعدي شر (¬3)، ومن صور المعاداة في الله أيضا، ما حصل في معركة بدر الكبرى حينما مر مصعب بن عمير بأخيه أبي عزيز بن عمير وقد خاض معركة بدر مع الكفار ضد المسلمين، فمر به مصعب وأحد الأنصار يضع القيد في يده، فقال مصعب للأنصاري شد يديك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب: أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب إنه أي الأنصاري أخي دونك (¬4) ومن صور الموالاة والمعاداة التي حصلت في موقف واحد وحادثة واحدة ما روي في حادثة زيد بن سعنة رضي الله عنه وكان يهوديا قبل إسلامه أنه أقرض النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم قرضا اقترضه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسد به خللا في ¬

_ (¬1) هوادة: أي لين ورقة انظر المعجم الوسيط (2/ 1009). (¬2) انظر البداية والنهاية لابن كثير (3/ 297). (¬3) انظر البداية والنهاية لابن كثير (4/ 280) وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (5/ 457) وانظر الطبقات لابن سعد (8/ 70) (¬4) انظر غزوة بدر تأليف أحمد محمد باشميل (176، 177).

شئون نفر من المؤلفة قلوبهم، ثم رأى زيد بن سعنة أن يذهب لطلب الوفاء من الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل ميعاد الوفاء المحدد، قال: أتيته يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب إلا مطلا ولقد كان لي بمخالطتكم علم ونظر إلىَّ عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟ فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته (¬1) لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليَّ في سكون وتؤدة (¬2) اهـ. ومن الصور في مثل هذا الموقف ما كان من عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع عمير بن وهب الجمحي رضي الله عنه حيث كان قبل إسلامه مع صفوان بن أمية رضي الله عنه وكان ذلك قبل إسلام صفوان أيضا فتحدث عمير بن وهب عن أسر ابنه في بدر، وحدث صفوان برغبته في قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لولا دين عليه وأولاد صغار لهم من ينفق عليهم، فقال صفوان بن أمية رضي الله عنه أنا أتحمل ذلك عنك وتعاهد الرجلان بجوار الكعبة على ذلك، ثم مضى عمير بن وهب في مهمته حتى قدم المدينة ونزل على مقربة من المسجد النبوي وبينما هو متجه إلى المسجد إذ التفت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان مع جماعة من الصحابة خارج المسجد فقال عمر: هذا عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر امضوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكونوا حوله، ثم انطلق عمر إليه وأخذ بمجمع ثوبه من عنقه وطوق عنقه بحمالة سيفه، ثم مضى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الحال قال لعمر أطلقه يا ¬

_ (¬1) أي لولا ما أخشى أن يفوتني من رضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفعلت. (¬2) انظر حقوق الإنسان محمد الغزالي (59) وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (2/ 231، 232).

عمر فأطلقه ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الذي جاء بك يا عمير؟ قال جئت أرجو فكاك هذا الأسير الذي في أيديكم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما بال السيف معك؟ قال: وهل أغنت عنا شيئا يوم بدر؟ ثم أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاقه مع صفوان وخطتهما لقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال والله لقد أيقنت أنه ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني إليك سوقا ليهديني إلى الإسلام، ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لخنزير كان أحب إلي من عمير بن وهب حين قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو اليوم بعد إسلامه أحب إلي من بعض أبنائي (¬1). ومن تلك الصور العملية في الموالاة والمعاداة في الله ما حصل من المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وذلك عندما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية أتاه عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه قبل أن يسلم (¬2) وكان سيد ثقيف وكان خلال حديثه يتناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكلمه جريا على عادة العرب في ذلك عند الملاطفة والرغبة في التواصل والتراحم، وكان المغيرة بن شعبة هو ابن أخي عروة بن مسعود (¬3) واقفا على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما مد عروة يده إلى لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرع المغيرة يد عمه بكعب السيف وهو يقول: أكفف يدك عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ألا تصل إليك، فيقول عروة، ويحك ما أفظك وما أغلظك فيبتسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر صور من حياة الصحابة د/ عبد الرحمن الباشا (1/ 58 - 68) وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (4/ 149) وانظر كتاب الجرح والتعديل (4/ 421). (¬2) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (3/ 405) ابن الأثير. (¬3) المصدر السابق (3/ 406، 407).

وانصرف عروة وهو مأخوذ بما رأى من فعل ابن أخيه فيه وحرصه على سلامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إلى قريش وهو يقول لهم: «يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، والله ما يحدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما عليه إلا أن يشير إلى امرئ فيفعل» (¬1). ومن الصور العملية في ذلك أيضا أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعث بعثة استطلاعية مكونة من اثنين من جنوده للوصول إلى القسطنطينية وتفقد أحوالها، وسافر الاثنان متنكرين حتى وصلا عاصمة الروم واختلطا بأهلها وجمعا ما يريدان من معلومات، وكانت خطتهما أن يمشيا متباعدين حتى إذا قبض على أحدهما كان بوسع الآخر العودة والإخبار عنه، ودخل أحدهم قصر الملك في أحد احتفالاتهم، وحاول التعرف على القصر ومداخله، وأحوال الملك وجماعته، ولكنه اكتشف أمره وقبض عليه، وكان أخوه في الإسلام يراقب ذلك فلما تأكد من أنه سجن كر راجعا ليخبر الخليفة بأمره. وقدم الجندي الأموي المسلم إلى ملك الروم الذي كان مغرورا بأبهته وحاشيته كالديك الرومي محاطا بالحاشية والحرس، فاتهم الجندي المسلم باللصوصية وقال له: ماذا يريد خليفتكم من الإغارة علينا، أما تكفيكم بلادكم؟ ورد عليه الجندي بعزة وإباء: نحن لا طمع لنا في بلادكم وأموالكم وإنما نهدف إلى نشر الإسلام وإقامة موازين العدل التي افتقدها الناس بسبب ضلالهم عن الدين الحق وتحريفهم لكتب الأنبياء السابقين ولتأليههم البشر وعبادتهم للملوك والجبابرة، وغضب عند ذلك البطريرك الذي كان ¬

_ (¬1) رواه البخاري، انظر فتح الباري (5/ 329 - 333).

جالسا قرب الملك وقام من مجلسه وصفع الجندي على وجهه صفعة مؤلمة، وأمر به إلى السجن ومرت الأيام وجرى تبادل الأسرى بين المسلمين والروم وعاد الجندي المسلم الأسير إلى أهله، واستدعاه الخليفة وأكرمه وسمع خبره، ثم أمر بتوجيه بعثة من الجنود تنكروا على شكل صيادين حتى وصلوا إلى القسطنطينية فدخلوها واحتالوا على البطريرك فقبضوا عليه وجاءوا به مكبَّلا إلى أن أدخل على مجلس الخليفة الذي زانه الوقار والحكمة والهيبة فأوقف أمامه، وكان الجندي الذي أسر بجانب الخليفة: فقال له: معاوية أهذا هو؟ أي الذي صفعك فقال: نعم يا أمير المؤمنين فقال له دونك فاقتص منه، فقال الجندي باستعلاء وعزة: بل عفوت عنه يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة للبطريرك: اذهب إلى ملكك وقل له: إن أمير المؤمنين يقيم العدل ويقتص من الجاني حتى في مملكته، ورجع البطريرك يرجف فؤاده خزيًا وهيبة، وقد أذله وقهره عفو الجندي وتوبيخ الأمير بالرغم مما أساء إليهما به هو وملكه المتعجرف وهكذا لم يقر قرار للخليفة المسلم حتى أعاد لجندي صفع ظلمًا، حقه من عدوه، وحفظ له كرامته وللدولة هيبتها أمام أعتى دول الأرض حينذاك وأكثرها غنى ورفاهية وتجبرا (¬1). ورحم الله معاوية بن أبي سفيان الذي ضرب بتلك الحادثة المثل الكبير للحاكم المسلم الذي يدافع عن حق الفرد وحق الجماعة على حد سواء. ولكن أين حكام اليوم من مثل تلك الحادثة العظيمة؟ لقد أضاعوا حقوق الأفراد وحقوق الأمة كلها فهناك شعوب مسلمة تقتل وتعذب بأشد أنواع العذاب وتستعبد من قبل طغاة كافرين، ومع ذلك لا نسمع ممن ¬

_ (¬1) انظر تأملات تاريخية في مجلة المجتمع عدد (534) السنة الحادية عشرة في (28/ 8/ 1401) هـ (49).

يدعون الإسلام من الحكام والمحكومين حتى مجرد الاستنكار بالقول فضلا عن الاستنكار بالعمل بل ربما قدم بعض أدعياء الإسلام العون المادي والمعنوي لمن ينتهكون حرمات المسلمين وإعراضهم فرحمتك يا رب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثالثا: من صور المعاداة في الله ما قام به بعض المسلمين من هجمات جريئة وتصفية جسدية لأعداء الله، لم يدفعهم إلى ذلك حب مرتبة دنيوية ولا راتب أو مكافأة شهرية، وإنما فعلوا ذلك موالاة لله وحبا له، وعداوة لأعداء الله وبغضا لهم. قال ابن إسحاق لما انتهى أمر الخندق، كان سلام بن أبي الحقيق اليهودي، فيمن حزب الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف من كبار اليهود فاستأذن الخزرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو مقيم بخيبر فأذن لهم، فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر، هم عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم، وأمر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا غرفة في الدار حتى أغلقوها على أهلها، وكان هو في علية (¬1) إليها عجلة قال: فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا فخرجت امرأته إليهم فقالت من أنتم؟ قالوا أناس من العرب نلتمس الميرة (¬2) قالت ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة، تخوفا أن يكون دونه محاولة تحول بيننا وبينه، قال: ¬

_ (¬1) أي غرفة مرتفعة على أخرى. (¬2) الميرة أي الطعام.

فصاحت امرأته فنوهت بنا فابتدرناه وهو على فراشه، بأسيافنا فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة (¬1). قال فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل قال فلما ضربنا بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول قطني قطني أي حسبي حسبي قال وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك ضعيف البصر، قال: فوقع من الدرجة فوثبت يده وثبا شديدا، وحملناه حتى نأتي به نهرًا من عيونهم، فندخل فيه، فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجهة يطلبوننا حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه وهو يقضي، فقلنا كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات؟ قال فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل مع الناس قال: فوجدتها يعني امرأته ورجال من اليهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه، وتحدثهم وتقول: أما والله قد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي، وقلت: أني لابن عتيك بهذه البلاد؟ ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه، فقالت: فاظ وإله يهود قال فما سمعت كلمة كانت ألذَّ على نفسي منها. وفي هذه الحادثة يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه: لله در عصابة لاقيتهم ... يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد في عرين مغرف حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذنف مستنصرين لنصر دين نبيهم ... مستصغرين لكل أمر مجحف (¬2) فهؤلاء الذين قاموا بهذا العمل لم يدفعهم إلى ذلك رغبة في مالٍ يمنحه ¬

_ (¬1) القبطية: ثياب من كتان بيض رقاق، كانت تنسج بمصر، وهي منسوبة إلى القبط على غير قياس: انظر المعجم الوسيط (2/ 718). (¬2) انظر في هذا البداية والنهاية لابن كثير (4/ 137، 138).

لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو رهبة من بطش الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهم لو لم يقوموا بذلك وإنما هم الذين استأذنوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه المهمة العظيمة حبا لله ورسوله ونصرة دينه، وعداوة لمن حارب الله ورسوله وكان بإمكانهم أن يعيشوا كما عاش غيرهم من الجبناء والمنافقين الذين يدسون رءوسهم بالرمال ويتملقون كل كافر وفاجر، ولكن الحب الحقيقي لله ورسوله والمؤمنين والبغض والعداوة للكافرين، لا بد أن يتحول إلى عمل واقعي مشهود ليظهر صفاء الإيمان في أعماق النفس المسلمة. ومن صور المعاداة في الله ما حصل في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث كان هناك رجل نصراني اسمه عساف من أهل السويداء فشهد عليه جماعة من أهل الإسلام أنه يسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندما طلب هرب واستجار بأحمد بن حجي أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين ابن تيمية والشيخ زين الدين الفارقي (¬1) شيخ دار الحديث، ودخلا على الأمير عز الدين أيبك الحموي فكلماه في أمره، فأجابهما إلى ذلك وأرسل معهما من جنده من يحضره فخرج الشيخان من عنده ومعهما خلق كثير من الناس وفي الطريق التقوا بعساف النصراني ومعه رجل من العرب فسب المسلمون عسافًا وشتموه فقال ذلك الرجل الأعرابي هو خير منك يعني النصراني فرجم الناس ذلك الأعرابي حتى مات، وأما عساف النصراني فقد قدم إلى الوالي وأعلن إسلامه وحقن الوالي دمه بسبب إسلامه (¬2). رابعًا: من صور الموالاة في الله عدم الرضوخ للإغراءات المادية ¬

_ (¬1) هو عمر بن إسماعيل بن مسعود بن سعد الدين الربعي الفارقي الشافعي ولد سنة 598 وتوفي سنة 689 وهو محدث فقيه أصولي أديب مشارك في أنواع العلوم وله عدد من المؤلفات انظر معجم المؤلفين (7/ 277) وانظر البداية والنهاية لابن كثير (13/ 318). (¬2) انظر البداية والنهاية لابن كثير (13/ 335، 336).

وذلك في مثل ما حصل من عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه حيث أسر في إحدى المعارك مع الروم ثم ذهبوا به إلى ملك الروم، وعرض عليه أن يتنصر، ويخلي سبيله ويكرم مثواه، فرد عليه بعزة وثقة وأنفة وإباء، قائلا: إن الموت أحب إلي ألف مرة مما تدعوني إليه. فقال قيصر: أجبني إلى النصرانية، فإنك إن فعلت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني، فقال عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت ذلك. قال: إذن أقتلك، قال: أنت وما تريد، ثم صلبوه على خشبة الصلب فرموه قريبا من رجليه، وقريبا من يديه وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى، ثم أمر بقدر عظيمة، فصب فيها الزيت، ثم أوقدت تحته النار حتى اشتدت حرارته ثم دعا بأسيرين من أسارى المسلمين، فألقي أحدهما فإذا لحمه يتفتت، وإذا عظامه تبدو عارية، ثم التفت إلى عبد الله بن حذافة ودعاه إلى النصرانية فكان أشد إباء لها من قبل، فلما يئس منه، أمر به أن يلقى في القدر التي ألقي فيها صاحبه، فلما ذهبوا به دمعت عيناه، فقال رجال قيصر لملكهم: إنه قد بكى فظن أنه قد جزع من الموت، وقال ردوه إلي، فلما مثل بين يديه عرض عليه النصرانية فأباها. فقال: ويحك، فما الذي أبكاك إذن؟ قال: أبكاني أني قلت في نفسي: تلقى الآن في هذه القدر، فتذهب نفسك وقد كنت أتمنى أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر، أنفس فتلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله. فقال الطاغية، هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ فقال عبد الله له: وعن جميع أسارى المسلمين أيضًا؟ قال عبد الله: فقلت في نفسي: عدو من أعداء الله أقبل رأسه فيخلي عني وعن أساري المسلمين جميعا لا

ضير في ذلك علي ثم دنا منه وقبل رأسه، فأمر الملك بإطلاق سراحه وسراح جميع المسلمين المأسورين لديهم (¬1). إن هذا البطل المسلم المجاهد قد أضاف بعمله هذا مجدا إلى بطولاته العظمى في الإسلام حيث لم يدفعه هذا الترغيب والترهيب حب السلامة لنفسه فقط، ولم يطغ حب الذات أو حب المنصب أو حب المال أو الجاه على حب الله، ولم يخضع إلى الإغراءات المادية والمعنوية التي أراد ملك النصارى أن يرجعه بها عن الإسلام، رغم عظمة الإغراء وهول الموقف، لقد رفض أن يقبل رأس هذا الكافر إلا إذا كان ثمن هذه القبلة جميع أسارى المسلمين. إنها قبلة ما أعظم ثمنها وأجل قدرها. ولكن شتان بين الأمس واليوم، لقد أصبح المسلمون اليوم يتسابقون إلى تقبيل السفاحين لدماء المسلمين من الكفرة والمرتدين أمثال بيغن وريغان، وبريجنيف، ورؤساء الأحزاب البعثية والماسونية في البلاد العربية، لقد قبل عبد الله بن حذافة السهمي رأس ملك الروم بعزة واستعلاء بعد أن أملى عليه شروطه، أما مدعي الإسلام اليوم فيقبلون رءوس الطواغيت وهم أذلاء صاغرون يقبلونهم وقد سلبوهم دينهم إن كان لديهم بقية من دين يقبلونهم وقد عاثوا في أرض الإسلام والمسلمين بكل أنواع الجرائم والمنكرات، ونهبوا خيرات البلاد، وشردوا الملايين ممن يدعونه أخوتهم إن كانوا يعرفون للأخوة معنى، ومع ذلك يقبلونهم بأفواههم، وترتجف لمحبتهم قلوبهم، وتشهد على مودتهم للكفار أفعالهم. أما عبد الله بن حذافة السهمي فقد قبل حاكم الروم وقلبه يكاد ينفجر غيظًا وعداوة له ولكنه الإكراه الذي عذر الله المسلم فيه أن يقول كلمة ¬

_ (¬1) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (3/ 142، 144) وانظر صور من حياة الصحابة د/ عبد الرحمن رأفت الباشا (1/ 51 - 57).

الكفر قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل: 106]. إن قبلات العبيد لأسيادهم اليوم في الشرق والغرب ليس ثمنها مشاطرة أولئك العبيد أسيادهم في ملكهم وأموالهم، كما عرض على عبد الله بن حذافة السهمي من قبل قيصر، وإنما ثمنها مشاطرة الأسياد لأولئك العبيد في نهب خيرات المسلمين وثرواتهم فهل هذه هي التقدمية والحرية والاشتراكية التي ينادون بها؟ خامسا: من صور الموالاة في الله استخدام الاقتصاد في الموالاة في الله والمعاداة فيه وذلك مثل ما فعل ثمامة بن أثال ملك اليمامة رضي الله عنه عندما أسلم فقد آذى المسلمين في أول أمره ثم أسر فمن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد أن أسلم قال يا رسول الله والله ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض إلي من وجهك قبل أن أسلم، وقد أصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي، ووالله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، ووالله ما كان بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ، ثم قال: كنت أصبت في أصحابك دما، فما الذي توجبه علي فقال النبي:) - صلى الله عليه وسلم - لا تثريب عليك يا ثمامة، فإن الإسلام يجب ما قبله)، ثم ذهب معتمرًا إلى مكة، وهو حديث عهد بالإسلام وأقبل على قريش بكل عزة وكبرياء فثاروا في وجهه ووصفوه بمختلف الأوصاف، وكادوا يقتلونه لأنهم كانوا يعدونه سندا ومعينا لهم، ثم قال لقريش: أقسم برب هذا البيت، إنه لا يصل إليكم بعد عودتي إلى اليمامة حبة من قمحها أو شيء من خيراتها حتى تتبعوا محمدا عن آخركم وفعل ما قال بكل حزم وقوة حتى فشا في قريش الجوع واشتد عليهم.

الكرب فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر وقالوا قتلت الرجال بالسلاح، والأطفال والنساء بالجوع وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشفقا حتى على أعدائه فكتب عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بن أثال (¬1) بأن يطلق ما منعه عنهم من الميرة من تمر وطعام ففعل ذلك. سادسا: من صور الموالاة في الله مشاركة المسلمين ولو بالقلب والشعور إذا عجز المرء عن المشاركة الفعلية فيشاركهم في أفراحهم وآلامهم فيفرح بما يفرحهم ويتألم لما يتألمون منه. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق (¬2) قال القرطبي: إن من لم يتمكن من عمل الخير، فينبغي له العزم على فعله إذا تمكن منه ليكون عزخمه بدلا من فعله، فأما إذا خلا عنه ظاهرا، وباطنا فذلك شأن المنافق الذي لا يعمل الخير ولا ينويه خصوصا الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام (¬3). فالمسلم لا بد أن يوالي أولياء الله وينصرهم ويحب نصرتهم ويعادي أعداء الله ويشارك في كسر شوكتهم بنفسه وماله وأقواله فإن لم يستطع فلا أقل من المشاركة بقلبه ووجدانه، فقد روي عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فقال: إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم حبسهم المرض وفي رواية إلا شركوكم في الأجر (¬4). وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة ¬

_ (¬1) انظر صور من حياة الصحابة د/ عبد الرحمن الباشا (1/ 102 - 116). (¬2) صحيح مسلم (3/ 1517) كتاب الإمارة باب ذم من مات ولم يغز. (¬3) انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (2/ 929) مؤسسة الرسالة. (¬4) رواه مسلم صحيح مسلم (3/ 1518) دار إحياء التراث العربي.

تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن أقواما بالمدينة ما سلكنا شعبا، ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر» (¬1) وفي قصة الذين جاءوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه أن يأخذهم معه إلى الجهاد، فردهم لأنه لم يجد ما يحملهم عليه، وهم لا يجدون ما ينفقون سوى أعز ما يملكون من تضحية في نفوسهم دليل على المشاركة بالشعور عند عدم المشاركة بالفعل فقد انصرفوا وهم يبكون حزنا على ما فاتهم من شرف الجهاد قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 91، 92]. فالمسلم إذا عجز عن المشاركة بالمال أو النفس أو القول فلا أقل من المشاركة بمشاعر الحب والبغض، ولذلك فعذر الله للمذكورين في الآيتين ليس على إطلاقه بل هو مشروط بقوله (إذا نصحوا لله ورسوله) أي: إذا عرفوا الحق وأحبوه وأحبوا أهله، وأحبوا انتصارهم، وعرفوا الباطل وعادوه وأبغضوه وعادو أهله، فعند ذلك تزول عنهم التبعة ويدخلون في عداد المحسنين (¬2) قال تعالى: (إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ولكنهم مع ذلك نجد أن أعينهم تفيض من الدمع حزنا على ما فاتهم من شرف الجهاد مع أن طبيعة معظم الناس الذين يفقدون حرارة الإيمان أن يفرحوا بنجاتهم من الأخطار، وابتعادهم عن غائلة الحروب ولكن الإيمان جعل هؤلاء يرون في فوات هذه الغزوة عليهم فوات شيء ثمين يستحق أن تسكب عليه العبرات وتحزن له النفوس، وعلى عكس هذا ¬

_ (¬1) انظر صحيح البخاري (4/ 31) ط دار إحياء التراث العربي. (¬2) انظر تفسير القرطبي (8/ 226).

الموقف المتسامح مع أصحاب الأعذار الذين شاركوا بقلوبهم ومشاعرهم عند عجزهم عن المشاركة بأفعالهم نجد موقف الشدة والتأنيب لأولئك الذين تخلفوا عن المعركة نفسها بدون عذر شرعي وذلك في قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي (¬1). وذلك نتيجة لحظات من الضعف البشري، وإيثارا للراحة على التعب والظل على الحر، والإقامة على السفر، مع أنهم مؤمنون صادقون، فقد استيقظ الإيمان في نفوسهم بعد قليل من سفر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلموا أنهم ارتكبوا بتخلفهم عنه وعن المؤمنين إثما كبيرا، ومع ذلك فقد كانت عقوبتهم قاسية رادعة مؤلمة، فقد عزلوا عن المجتمع عزلا تاما، واعتزلهم المؤمنون اعتزالا كاملا، ونهي الناس عن كلامهم والتحدث معهم لمدة خمسين يوما حتى زوجاتهم أمروا بمفارقتهن مفارقة سكنى واستئناس بهن، ورغم المقاطعة الشديدة لهم، لم نجد منهم من ركن إلى أقوال المنافقين أو اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين ولم نجد منهم من استحباب إلى دعوة حاكم غسان الذي سمع بالخبر، فأراد أن يستغل تلك الفرصة بدعوة أحد الثلاثة أو جميعهم إليه، ولكن كتابه أحرق بالنار، لأن جذوة الإيمان مشتعلة في النفوس كما نجد في هذه القصة الوحدة الحقيقية في القول والعمل والالتزام الصارم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقاطعة من يؤمرون بمقاطعته ولو كان أقرب قريب، وهذه الصفة هي روح الموالاة والمعاداة في الله، فلم يهم أحد من المسلمين بمسارقة أولئك النفر في الحديث خفية أو خلسة، لاعتقادهم اعتقادا جازما بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتخلف ثلاثة نفر من ثلاثين ألف مجاهد ليس له تأثير مباشر في نتيجة المعركة أو طبيعتها ولكن القضية هي أكبر من ذلك حيث إن الأمر يتعلق بمبدأ المشاركة والالتزام بمفهوم الإيمان، ولا يجوز للمسلم أن ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية لابن كثير (5/ 23).

يتحول من المشاركة الفعلية إلى المشاركة القلبية والشعورية إلا عند وجود الأسباب المبيحة لذلك أما ترك المشاركة الفعلية والقولية والقلبية فهذا لا يحصل من مسلم صادق في انتمائه للإسلام فلا يجوز للمؤمن الصادق في إيمانه أن يتخلف عن عمل يقتضيه الواجب، أو يرضى لنفسه بالراحة والناس من إخوانه يتعبون، أو يستغرب في الملذات والنعيم وإخواته يبتئسون وتلك هي سمة الإيمان وسمة المؤمن دائما وأبدا إنه فرد من جماعة، وجزء من كل وعضو من جسم، وإن ما يصيب هذه الجماعة يصيبه من باب أولى، وما يفيد هذه الجماعة يفيده، وإن النعيم لا معنى له ولا قيمة له مع شقاء الأمة وبؤسها، والراحة لا لذة لها، مع تعب الناس وعنائهم، وإن التخلف عن الواجب نقص في الإيمان، وخلل في الدين وإثم لا بد فيه من التوبة والإنابة إلى الله عز وجل (¬1). ولذلك فإحساس المؤمن وضميره الحي يدفعانه إلى ذلك الواجب بسلطان من داخل نفسه لا من خارجها فهذا أبو خيثمة رضي الله عنه بعد ما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك المتقدم ذكر طرف منها دخل على أهله في يوم شديد الحر، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه وقد رشت كل واحدة منهما عريشها بالماء ليزداد برودة، وبردت فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب كل عريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له. فقال في نفسه: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضح (¬2) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأتين حسنوين في ماله مقيم ما هذا بالنصف (¬3)؟ والله لا أدخل عريش واحدة منكن حتى ألحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهيأ لي زادا، ففعلتا ثم خرج في طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى أدركه ¬

_ (¬1) انظر في هذا المعنى كتاب السيرة دروس وعبر تأليف د/ مصطفى السباعي (172). (¬2) الضح لهب الشمس وحرارتها انظر المعجم الوسيط (1/ 536). (¬3) النصف أي: العدل والإنصاف انظر المعجم الوسيط (2/ 934).

حين نزل تبوك، وقد قال وهو في الطريق شعرا بهذه المناسبة نذكر منه ما يلي: تركت خضيبا بالعريش وضرمة ... صفايا كراما بسرها قد تحمما وكنت إذا شك المنافق أسحمحت ... إلى الدين نفسي شطره حيث يمما (¬1) إن المسلم الحق ليضيق صدره بمأكله ومشربه ومسكنه وهو حر طليق، إذا كان إخوانه يتقلبون في حالة بؤس وشقاء وضيق. ومثل أبي خيثمة عثمان بن مظعون رضي الله عنه حيث دخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى عثمان ما يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من الأذى وهو يغدو ويروح بأمان الوليد بن المغيرة قال عثمان: والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل مشرك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص شديد في نفسي فمضى عثمان إلى الوليد بن المغيرة فقال: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك قد كنت في جوارك وقد أحببت أن أخرج منه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلي به وبأصحابه أسوة فقال الوليد فلعلك يا ابن أخي أوذيت أو انتهكت قال لا: ولكن أرضى بجوار الله ولا أريد أن استجير بغيره، قال الوليد فانطلق إلى المسجد فاردد على جواري علانية كما أجرتك علانية، فانطلق إلى المسجد ثم قال الوليد هذا عثمان بن مظعون قد جاء ليرد على جواري فقال عثمان صدق، وقد وجدته وفيًّا كريما، وقد أحببت أن لا أستجير بغير الله عز وجل، ثم حضر مجلسا لقريش وفيه لبيد ينشد. ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فقال: عثمان صدقت ثم قال: وكل نعيم لا محالة زائل، فقال عثمان كذبت. فقال لبيد: يا معشر قريش ما كانت مجالسكم هكذا فقام سفيه منهم ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية لابن كثير (5/ 8).

فلطم عثمان بن مظعون على عينه حتى أثر فيها فقال له بعضهم لقد كنت في ذمة منيعة وكنت في غنية عما لقيت فقال عثمان جوار الله آمن وأعز (¬1). فهذا ما فعله السلف الصالح وما يفعله كل مسلم غيور في عصرنا الحاضر فمهما انحرفت الأمة عن جادة الصواب فإنها لا تعدم الخير وقد عبر عن هذا المعنى من المسلمين المعاصرين عصام العطار (¬2) بقصيدة نجتزئ منها قوله ما يلي: فلا راحة حتى ولو لأن مضجع ... ولو كنت حتى في ظلال البواسق إذا كان في خلف السجون أشاوس ... تعذب بأيدي كل طاغ ومارق تمنيت حتى ضجعة السجن بينكم ... على الصخر في جو من الجور خانق صلابة أرض السجن إن كان بينكم ... أحب وأشهى من طري النمارق (¬3) سابعًا: من صور الموالاة في الله أن يكون المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وقد تحقق هذا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد الخلفاء الراشدين من بعده، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لأن استنقذ رجلا من المسلمين من أيدي الكفار أحب إلي من جزيرة العرب (¬4) وقد روي أن أحد الجنود المسلمين وقع أسيرا في حوزة الرومان وأنهم حملوه إلى إمبراطورهم ¬

_ (¬1) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (3/ 385، 386). (¬2) هو الشيخ عصام العطار تعلم في دمشق وعمل في مجال التربية والتعليم ثم وهب حياته للدعوة إلى الإسلام وقد حقد عليه حزب البعث الكافر فخرج يبحث عن مكان أمين في بلاد الله فلم تتسع له البلاد الإسلامية واستقر في ألمانيا سنوات ولكنه مع ذلك لم يسلم من حقد الطائفة النصيرية الكافرة حيث قد تطاولوا عليه في منفاه فقتلوا زوجته بنان الطنطاوي ولا زال الصراع بينه وبين أعداء الله قائم ومستمر، انظر شعراء الدعوة الإسلامية (1/ 75 - 92) (¬3) شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث (1/ 91) تأليف أحمد الجمع، حسني جرار. (¬4) انظر كنز العمال (2/ 312).

الذي حاول أن يكرهه على ترك إسلامه، ورفض الأسير المسلم، وثبت على عقيدته فثار الإمبراطور وأمر أن تفقأ عيناه .. وسمع عمر بن عبد العزيز فكتب إلى ملك الروم يقول: أما بعد. فقد بلغني ما صنعت بالأسير المسلم، وإني أقسم بالله لئن لم ترسله إلي من فورك لأبعثن إليك من الجند ما يكون أولهم عندك وآخرهم عندي. وعندما وصل الخطاب تراجع ملك الروم أمام هذه العزمة وأمر بإعادة الأسير المسلم إلى أهله وقومه (¬1) وفي موقف المعتصم (¬2) صورة من صور الموالاة في الله فهو الخليفة الثامن من خلفاء الدولة العباسية وبطل عمورية العملاق الذي ضرب بتلك المعركة المثل الأعلى في استراداد الكرامة والذود عن حياض المسلمين وقصة عمورية كما ذكر بعض المؤرخين هي: أن نوفيل ملك الروم أغار على حدود الدولة العباسية وعلى زبطرة بالذات وهي مسقط رأس المعتصم وعلى أهل ملطية وغيرها من حصون المسلمين وأسر مجموعة من المسلمين من الرجال والنساء والأطفال فمثل بهم فمنهم من سمل عيونهم، ومنهم من قطع أنوفهم وآذانهم ومنهم من قتل، وكان من بين الأسرى امرأة هاشمية، كبر عليها الضمير وعظمت عليها القسوة، فصاحت بأعلى صوتها وامعتصماه، ونقل بعض الحاضرين هذه الصيحة إلى المعتصم، فما أن وصلت إلى مسمعه حتى صرخ بأعلى صوته في المجلس ونهض مرددا لبيك، لبيك يا أختاه ¬

_ (¬1) انظر مجلة الدعوة المصرية عدد (47) السنة التاسعة والعشرون (421) في جمادى الأولى (1400) (55) مقال عن عمر بن عبد العزيز بقلم محمد الخطيب. (¬2) هو أبو إسحاق المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بويع بالخلافة يوم وفاة أخيه المأمون في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة (218 هـ 833) ولسنة (180هـ 795) وتوفي سنة (226 - 841) فتح عمورية من بلاد البيزنطيين الشرقية، وشيد مدينة سامراء سنة (222هـ 838) بعد أن ضاقت بغداد بجنده من الأتراك وتوفي بها، انظر تاريخ الطبري (10/ 304، 367) وانظر الموسوعة العربية الميسرة (2/ 1718).

وأمر بالنفير العام، واستدعى القضاة والشهود، وأشهدهم على وصيته، أن ماله إذا استشهد في هذه المعركة فيقسم إلى ثلاثة أقسام ثلثه صدقة وثلثه لأولاده، وثلثه لمواليه، وسار بنفسه ومن معه من خيرة قواده ورجاله سنة (223) هـ فحاصر عمورية وهي عين النصرانية ومركز قوتها ومسقط رأس نوفيل ملك الروم، ففتحها بعد حصار شديد رغم حصانة أسوارها وقوة رماتها فخرت صريعة بين يديه، وثأر المعتصم، من أعداء الله ولمن نكل بهم من المسلمين والمسلمات، واسترد كرامة الأمة الإسلامية وبين كيف تكون غضبة الحاكم المسلم إذا انتهكت حرمات العقيدة أو اعتدى على حمى الإسلام والمسلمين (¬1) وقد عاد إلى بغداد مكبرا مهللا واستقبلته الأمة بالفرح والغبطة والسرور، وأنشد أبو تمام قصيدته المشهورة: السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب وجاء من هذه القصيدة: لبيت صوتا زبطريا هرقت له ... كأس الكرى ورضاب الخرد العرب وجاء من هذه القصيدة أيضًا: كم كان في قطع أسباب الرقاب بها ... إلى المخدرة العذراء من سبب (¬2) وفي مثل هذه الصورة المشرقة من صور الوفاء والغيرة على حمى الإسلام ما روي أن الحجاج بن يوسف الثقفي غضب على واليه في السند غضبا ¬

_ (¬1) انظر في هذا البداية والنهاية لابن كثير (10/ 286 - 288) أحداث سنة (223) وانظر تاريخ الأمم والملوك للطبري (10/ 332) وانظر موسوعة التاريخ الإسلامي (3/ 262 - 266). (¬2) انظر ديوان أبي تمام (14 - 18).

شديدا وذلك بسبب امرأة أسرت من المسلمين وأدخلت إلى بلاد السند فجهز الجيوش المتواصلة، وأنفق بيوت الأموال حتى استنقذ المرأة وردها إلى أهلها ومدينتها (¬1). هذه حال المسلمين في عهدهم الزاهر عهد الجسد الواحد إذا اعتدى على طرف منه تقلص الجسم وارتعش وانتفض انتفاضة تدمر الأعداء، ولكن شتان بين الأمس واليوم، وأين الثرى من الثريا؟ إن ملايين المسلمين اليوم من الرجال والنساء والأطفال يصرخون ليل نهار، في مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها ووسطها، يصرخون وينادون بلسان الحال والمقال وامعتصماه، ولكن هيهات هيهات لا مجيب. يقول الشاعر عمر أبو ريشة: أمتي كم غصة دامية ... خنقت نجوى علاك في فمي تسمعي نوح الحزانى وتطربي ... وتنظري دمع اليتامى وتبسمي رب وامعتصماه انطلقت ... ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها ... لم تلامس نخوة المعتصم (¬2) لقد أصبح معظم المسلمين اليوم كالسائمة من بهيمة الأنعام التي يذبح الجزار من طرفها وتفقد كل يوم فردًا من أفرادها، ومع ذلك فهي تأكل بكل طمأنينة وتجتر، وتعطي الدر بسخاء لمن يحد السكين لنحرها، لقد أصبح الكفار في هذا العصر أكثر موالاة مع بعضم من المسلمين مع بعضهم وهذا ليس من قبيل التشهير بل هو الواقع فعلا، فإذا اعتدي على يهودي أو نصراني أو شيوعي قامت قيامة العالم كله، أما عندما يكون الضحية من المسلمين فإننا نرى التجاهل المفرط من المسلمين وأعداء الإسلام على حد سواء، وكدليل على ما نقول نسوق بعض الأحداث المشهورة للعبرة ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري (10/ 352) أحداث سنة 224. (¬2) انظر مجلة الدعوة السعودية عدد (815) الاثنين (3/ 11/ 1401) (30، 31).

والذكرى فعندما قتل قادة الثورة الإيرانية أحد التجار اليهود قامت قائمة إسرائيل واليهود في أمريكا وروسيا وأوروبا وحاصروا إيران محاصرة اقتصادية وإعلامية وعسكرية، وعندما قبضت الحكومة الإيرانية على خمسين فردا من الصليبيين واليهود لديها قامت الدنيا كلها فما من صحيفة تصدر أو مجلة أو نشرة أخبار في إذاعة أو تلفاز في كل صباح ومساء في العالم كله، إلا وتذكر عنهم كلاما مستفيضا وجدلا كلاميا وآخر ما دار بشأنهم ولم يكتف الصليبيون واليهود بذلك بل حركوا شركاءهم وعملاءهم في داخل إيران وخارجها كي يطوقوا تلك الثورة ويقضوا عليها في مهدها. وعندما قتل مزارع أبيض من النصارى البريطانيين في روسيا قامت بريطانيا في كل نشرة من أخبارها، تذكر الملابسات والمحاكمات والتقارير الإخبارية عن ذلك (¬1) وفي بولندا دعت نقابة العمال الحرة إلى إضراب في العاصمة البولندية، في أكثر من ثلاثين دائرة عمل وذلك بسبب احتجاز السلطة الحكومية، أحد عمال الطباعة لديها حيث إن هذا العامل عضو في هذه المنظمة (¬2). فهل يكون الكفار أوفى لأهل ملتهم منا نحن المسلمين؟ هذا هو حاصل فعلا في واقعنا الحاضر، وحتى نكون موضوعيين في هذا نسوق حادثة واحدة من مئات الحوادث التي تبين مدى ظلم المسلمين بعضهم لبعض، وعدم موالاة بعضهم لبعض، على المستوى الرسمي، والمستوى الشعبي، وذلك أنه حدث في يوم الجمعة 27/ 6/ 1980م، وفي الساعة التاسعة صباحا توجهت اثنتا عشرة طائرة هليوكبتر تابعة لسرايا الدفاع بقيادة المجرم الطاغية رفعت الأسد فنزلت في مطار حماة ثم انتقلت إلى سجن تدمر الصحراوي حيث المعتقل الكبير لخيرة المسلمين ¬

_ (¬1) إذاعة لندن صباح يوم الأربعاء 20/ 12/ 1400 هـ الساعة السابعة زوالي. (¬2) إذاعة لندن صباح يوم الثلاثاء 26/ 12/ 1400 هـ الساعة السابعة زوالي.

العاملين المجاهدين وأخرجوهم خارج السجن بطريقتهم الخاصة ثم أطلقوا عليهم النار فاستشهدوا جميعًا، وقال الذين شهدوا العملية: إن عددهم ما بين الثمان مائة والألف، من خيرة أهل الإسلام، ثم دفنوا في الصحراء التي قتلوا فيها بواسطة جرافتين كبيرتين (¬1) إن هذا الخبر الذي يدمي القلب ويبكي العين ويحزن النفس لم نسمع عنه في وسائل الإعلام التي تدعي الإسلام، ولا وسائل الإعلام العالمية التي تدعي المحافظة على حقوق الإنسان أي تعليق أو بيان، في الوقت الذي تتحدث فيه هذه الوسائل عن أخبار القطط والكلاب والفئران، وهذا يؤكد لنا أن الإعلام في العالم كله كأنه يعمل تحت إدارة واحدة، تهدف إلى طمس معالم الإسلام وإخفاء قضاياه وتجاهل حقوقه وحقوق أهله. إن هؤلاء الذين استشهدوا تحت وطأة الحكم النصيري الكافر، لو كانوا من أهل الفن الماجن المصاب بجنون الشهوة الجنسية أو كانوا ممن يحلون عقولهم في أقدامهم من أصحاب الكرة الذين تتقاذفهم مخططات اليهود والنصارى كما يتقاذفون الكرة بينهم، لبكت عليهم وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة بدلا من الدموع دمًا، ولأجمعت وسائل الإعلام كلها في بلاد الإسلام وخارجها على تأبينهم بما يصك الآذان ويذهل الأسماع ولترك سماسرة اليهود والنصارى في المنظمات الدولية والمنظمات الخاصة إلى إصدار بيانات الاستنكار والاحتجاج أما عندما يكون القتلى من المسلمين المخلصين بأيدي الشيوعية في أفغانستان، أو على يد الصليبي ماركس في الفلبين أو بأيدي عبدة البقر في الهند، أو على يد الطاغية المجرم النصيري في سوريا فإن العالم كله يلتزم الصمت نحو تلك الأحداث الدامية ويتجاهلها لأن الضحية في ذلك هم أهل الإسلام. بل لقد ابتكرت وسائل الإعلام الغربية المعادية للإسلام مصطلحات ¬

_ (¬1) انظر مجلة النذير العدد التاسع عشر الاثنين 18/ 8/ 1400 هـ دمشق (16).

إعلامية تطلقها على أهل الإيمان والإسلام، لقصد تعمية المسلمين في العالم عما يصيب إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها من تصفيات جسدية وتعذيب وحشي فهي تصف المسلمين الغيورين على الإسلام بأنهم يمينيون متطرفون، وفي هذا إدخال للمسلمين في عداد النصارى، ومحاولة صبغهم بصيغة العمالة للغرب وتارة تصفهم بأنهم مسلمون متعصبون أو متطرفون وفي هذا تضليل للسامع بأن هؤلاء يستحقون ما يلقون من قتل وتعذيب لأنهم ليسوا مسلمين معتدلين، ولو سألنا هؤلاء أو سألنا عملاءهم في البلاد الإسلامية عن المسلم المعتدل في مفهوم هؤلاء لوجدناه المسلم الذي لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا يختلف عن اليهود والنصارى في شيء سوى تسمية بالإسلام وانتسابه إليه اسما لا حقيقة، فهذا هو المسلم المعتدل في مفهوم أعداء الإسلام. وبناء على ذلك فإن المسلم المعتدل في نظر أعداء الإسلام غير مسلم في مفهوم الإسلام الصحيح، لأن الإسلام الذي يرضى عنه أعداء الإسلام ليس إسلاما حقيقيا قال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 120] .. ولذلك يجب على المسلم أن لا يصدق أبواق اليهود والنصارى ومن يدور في فلكهم في إطلاق المفاهيم والأوصاف على العاملين للإسلام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6] بل يجب أن يسمَّى المسلمون بما يسمون به أنفسهم، لا بمسميات أعداء الإسلام لهم، فإن أعداء الإسلام يكيدون للإسلام والمسلمين بالقول والفعل وهذا الأمر ليس غريبا منهم، ولكن الغريب في ذلك أن يصدق أقوالهم وأفعالهم بعض من ينتسب إلى الإسلام فلا حول ولا قوة إلا بالله.

الباب الثاني: في عوامل ضعف الموالاة في الله والمعاداة فيه

الباب الثاني: في عوامل ضعف الموالاة في الله والمعاداة فيه وفي هذا الباب تقديم وخمسة فصول: التقديم: في تحديد قضية هذا الباب. الفصل الأول: الجهل وصلته بالموالاة والمعاداة. الفصل الثاني: الاختلاف في مسألة أو مسائل فرعية. الفصل الثالث: الاعتزال عن الجماعة المسلمة. الفصل الرابع: دعوى الإكراه في عدم الموالاة والمعاداة. الفصل الخامس: العملاء الذين يوالون الأعداء للمصلحة الشخصية.

التقديم: تحديد قضية هذا الباب

التقديم: تحديد قضية هذا الباب قد يستغرب الإنسان المسلم ويصاب بالدهشة والحيرة والاضطراب حينما يطلع على ما سبق عرضه في الباب الأول بشأن الموالاة في الله والمعاداة فيه من وجهة النظر الإسلامية، وبين ما هو حاصل في واقع المسلمين المعاصرن من الناحية التطبيقية، فيجد البون الشاسع بين ما هو كائن في واقع المسلمين وبين ما يجب أن يكون عليه المسلمون بمقتضى الكتاب والسنة. وكتوضيح للعوامل التي أدت إلى هذا الواقع المتردي المؤلم الحزين أردنا التعرف على أهم هذه العوامل وبيانها لعلنا نتجنب الوقوع في تلك المزالق التي مزقت شمل المسلمين وفرقت كلمتهم وجعلت بعضهم أعداء لبعض. في حين أن العدو الحقيقي يتمتع بالأمن والطمأنينة والسلامة في بلاد الإسلام.

ويمنحه أبناء المسلمين خالص المودة والمحبة والمناصرة والولاء ويجد من أبناء المسلمين من يحميه ويدافع عنه ويستميت دونه وما كان من الممكن أن يحصل ذلك لولا تلك المفاهيم المغلوطة والتصورات المنحرفة التي قلبت موازين الموالاة والمعاداة رأسا على عقب، فوالى من ينتسب إلى الإسلام أعداء الإسلام، وعادى من ينتسب إلى الإسلام أهل الإسلام الصحيح، وقد قسمنا تلك العوامل إلى خمسة فصول رئيسية.

الفصل الأول: الجهل وصلته بالموالاة والمعاداة

الفصل الأول: الجهل وصلته بالموالاة والمعاداة الجهل في اصطلاح أهل الكلام: هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه حقيقة وهو ينقسم إلى قسمين: 1 - بسيط. 2 - مركب فالجهل البسيط: هو عدم العلم بما من شأنه أن يكون به عالما. والجهل المركب: هو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع (¬1) ويخلط كثير من الناس بين الجهل والخطأ في المفهوم والآثار المترتبة على ذلك مع أن هناك فرقا واضحًا بينهما. ¬

_ (¬1) انظر المعجم الوسيط (1/ 144) قال الراغب الأصفهاني رحمه الله الجهل على ثلاثة أضرب: الأول: وهو خلو النفس من العلم، وهذا هو الأصل، الثاني اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل عليه انظر مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني (102).

فالخطأ هو أن يقصد بفعله فعلاً مباحًا فيقع في محذور لم يقصده كأن يرمي طيرا في غابة فيقتل إنسانا لم يقصد قتله. بخلاف الجهل فإنه تهاون مبعثه عدم بذل الجهد واستفراغ الوسع في معرفة الحق واتباعه (¬1). وكل من الجهل والخطأ يؤاخذ عليه في جناية عدم التثبت ولكن العقوبة في ذلك لا تقدر بقدر الجريمة الخالية من الخطأ أو الجهل (¬2). فالخطأ ينقسم إلى قسمين: خطأ في حقوق الله. وخطأ في حقوق العبيد. فأما الخطأ في حق الله فقد جعل الشارع الخطأ عذرًا، إذا اجتهد المخطئ في التثبت على ما يمكنه (¬3). أما الخطأ في حقوق العبيد، فليس الخطأ عذرًا فيها فيضمن المتلف خطأ قيمة ما أتلف، فعليه الدية في القتل تعويضا عما أصاب ورثة المقتول من الضرر فخففت العقوبة من القصاص إلى الدية المخففة نتيجة لوجود الخطأ في ذلك (¬4). والجهل يعذر صاحبه في أمور قد تخفى على كثير من الناس ولكنه يؤاخذ على ذلك بتساهله عن البحث والسؤال قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] والجهل كالخطأ في أقسامه فمنه ما يتعلق بحق الله تعالى ومنه ما يتعلق بحق الناس. ¬

_ (¬1) انظر أصول الفقه محمد الخضري (105). (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) المصدر السابق المكان نفسه، محمد الخضري (105) أصول الفقه. (¬4) انظر أصول الفقه محمد الخضري (105).

فإن كان الجهل بحكم يتعلق بحق الله تعالى من حيث الإباحة والتحريم، فإن صاحبه لا يؤاخذه عليه حتى يبلغه الدليل، فقد روى مسلم (¬1) في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر (¬2) فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هل علمت أن الله قد حرمها؟.» قال: لا، فسار إنسانا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «بم ساررته؟» فقال: أمرته ببيعها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» قال: ففتح المزاد حتى ذهب ما فيها. وفي ذلك يقول النووي لعل سؤال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن علمه بالتحريم ليعرف حاله فإن كان عالما بتحريمها أنكر عليه هديته، وعزره على ذلك فلما أخبره أنه كان جاهلاً بذلك عذره وفي هذا دليل على أن من ارتكب معصية جاهلاً تحريمها، فلا إثم عليه ولا تعزير (¬3) ,. ولكن إذا تعلقت جناية الجاهل بحق الناس فالقاعدة أنه لا يعذر أحد بجهالته حفاظًا على حقوق الناس روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه» (¬4) فمن يدعي الجهل بالأمور الظاهرة في الإسلام سواء كانت في حق الله أو حق عباده لا يقبل منه ذلك إذا كان يعيش في وسط إسلامي. أما من كان حديث عهد بالإسلام، وكان قد نشأ في مجتمع غالب سكانه غير مسلمين فقد يعذر ببعض أنواع الشرك إذا وقع فيه وهو لا يدري، والدليل على ذلك طلب الصحابة رضوان الله عليهم أن يجعل لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط، فحلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (3/ 1206) باب المساقاة. (¬2) أي قربة ممتلئة خمرًا. (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي (11/ 4). (¬4) المصدر السابق (12/ 2).

أنها مثل قصة قوم موسى عندما قالوا: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) فلا خلاف أن الذين قالوا ذلك لم يعلموا الحكم، ولكن لو فعلوا ذلك بعد نهيه لكفروا، ومن ذلك نستنتج أن المسلم إذا تكلم بكلام الكفر وهو لا يدري أنه كفر، فنبه إلى ذلك فرجع عنه وأباب من ساعته أنه لا يكفر (¬1). أما من لم يكلف نفسه بمعرفة الشرك، ولا إنه كاره، فوقع فيه أو أيد أهله، فهو آثم وعلى خطر من خروجه عن الإسلام، لأن من جهل الشرك، لا يحصل منه شيء مما دلت عليه لا إله إلا الله، ومن لم يقم بمعنى هذه الكلمة وما دلت عليه، عن علم ويقين وصدق وإخلاص ومحبة وقبول وانقياد فليس من الإسلام في شيء (¬2) وكثير من الناس لا يميزون بين ما أمروا به، وما نهوا عنه، ولا بين ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ما كذب عليه، ولا يفهمون حقيقة مراده، ولا يتحرون طاعته، بل هم جهال لما أتوا به معظمون لأغراضهم وأهوائهم متبعون لشهواتهم وملذاتهم (¬3) ولا ريب أن الله عز وجل لم يعذر أهل الجاهلية الذين لا كتاب لهم بهذا الشرك الأكبر الذي حصل منهم والدليل على ذلك حديث عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (¬4) فكيف يعذر الله أمة كتاب الله بين أيديهم يمكنهم أن يقرءوه ويفهموا ما فيه قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر: 17] فهو حجة الله على عباده كما قال تعالى: (هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) [إبراهيم: 52]. ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (84). (¬2) انظر الدرر السنية (2/ 98) وانظر مجموعة التوحيد (37). (¬3) انظر الدرر السنية (2/ 99). (¬4) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 2197، 2198) رقم الحديث (2875).

يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنَّ الإنسان يكفر بكلمة يخرجها لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل (¬1) اهـ. ويستدل على ذلك بحديث: «إن الرجل يتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه» (¬2) والإنسان قد يكفر بالمقالة الكافرة وفعل الكفر، وإن كان عند نفسه أنه لم يأت بمكفر، كما حصل من المنافقين في غزوة تبوك قال تعالى: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 66] فهؤلاء ظنوا أن ذلك ليس بكفر، ولكن الآية، دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولو لم يعلم، أو يعتقد أنه كافر، لا يعذر بذلك بل يكفر بفعله القولي والعملي، ومن أجل ذلك فالذي يسب الإسلام أو شعائره كافر بطريق الأولى، وإن لم يعتقد أنه كافر (¬3). وقد يعلم الإنسان أن الشيء يضره ويفعله، ويعلم أن هذا الشيء ينفعه ويتركه، لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى، أو دفع ألم آخر فيكون جاهلاً ظالمًا حيث قدَّم هذا على ذلك، ولهذا قال أبو العالية سألت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: (يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) [النساء: 17] فقالوا كل من عصى الله فهو جاهل (¬4)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 50). (¬2) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 579). (¬3) انظر تيسير العزيز الحميد (554، 555). (¬4) ملحق المصنفات محمد بن عبد الوهاب (193) وانظر لطائف المعارف للحافظ ابن رجب (350).

بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179] وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (¬1) ولا يجوز أن ينسب الكفر إلى شخص معين ما لم تقم عليه حجة البلاغ والعلم التي يعتبر من خالفها كان كافرا، تارة، أو فاسقا أو عاصيا أخرى وهذا في الأمور الخفية مثل الصرف والعطف، التي قد يقال فيها إنه مخطئ ضال. أما الأمور التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بإيجابها مثل أركان الإسلام الخمسة، والأشياء التي ظاهر تحريمها مثل الزنا والخمر والميسر، والربا ونحو ذلك من المحرمات والواجبات فلا يعذر أحد بجهالتها ما لم يكن حديث عهد بالإسلام (¬2) وعلى هذا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر، فقد كان بعض الصحابة ظنوا إباحة الخمر كقدامة بن مظعون وأصحابه فظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة: 93] وقد اتفق علماء الصحابة رضي الله عنهم كعمر وعلي وغيرهما، على أنهم يستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا، إذا كان قد بلغهم الدليل، فلم يكفروهم ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق، فإن أصروا بعد معرفة الحق كفروا بجحودهم وإصرارهم (¬3) وعلى ذلك فمن أعان على ترك واجب، أو إباحة محرم من شعائر الإسلام الظاهرة ¬

_ (¬1) العقيدة والآداب الإسلامية الأولى (24) تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب. (¬2) انظر الدرر السنية (8/ 29) وانظر المصدر نفسه (8/ 90). (¬3) انظر الجامع الفريد/ تأليف مجموعة من أئمة الدعوة (327، 328).

المعلومة من الدين بالضرورة فحكمه الكفر وإن ادعى الإسلام (¬1) وعند ذلك يجوز قتله، لأنه لا عذر له في مثل ذلك بالجهل إلا من هو حديث عهد بالإسلام. فقد أخبر سبحانه وتعالى بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم ووصف بني إسرائيل بالجهل مع أنه لا يشك أحد في كفرهم قال تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف: 138] فنحن نقطع بأن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ولكن مع ذلك نعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم قال تعالى: (فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [يونس: 89] وقد دل القرآن الكريم على أن الشك في أصول الدين كفر ونوع من أنواع الردة عن الإسلام. والشك هو التردد بين شيئين كأن لا يجزم بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا كذبه، ولا بوقوع البعث، ولا بعدم وقوعه ونحو ذلك، أو كأن لا يعتقد بوجوب الصلاة، ولا بعدم وجوبها، ولا بتحريم الزنا أو عدم تحريمه ونحو ذلك فهذا كفر بإجماع العلماء (¬2). ولا عذر لمن كانت هذه حالته، بكونه لم يفهم حجج الله، وبيناته فعذره غير مقبول بعد بلوغه الحجة وإن لم يفهمها لأن طلب الفهم والعلم بالحجة راجع إليه هو (¬3) قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم لم يتفهموا ما أنزل الله عليهم بواسطة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (8/ 28، 29). (¬2) انظر الدرر السنية (8/ 213). (¬3) انظر الدرر السنية (8/ 90).

فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 57] فبين سبحانه وتعالى أنهم لم يفقهوه والفقه لغة الفهم فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا بل صرح القرآن الكريم بكفرهم ويكفر من اعتقد الصواب، وهو على الباطل، لعدم تحريه الصواب تحريا دقيقا قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103، 104]. وقد سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين: أن هناك فئة من الناس لا تعرف الإيمان بالله على الوجه الحقيقي، ولا تعرف معنى الكفر بالطاغوت، ولكنها تلتزم ببعض شرائع الإسلام على الإجمال. أما على التفصيل فهي تبغض أهل التوحيد، وتمقتهم وترى منهم الخطأ في الأمور التي تخالف عاداتها وشهواتها وهواها وما تعارفت عليه حيث يعتقد هؤلاء أن كل شيء خلاف ما تعارفوا عليه هو خطأ لأن في ذهنهم أن كل ما تعارفوا عليه هو الصواب وهو الدين، ولو كان هو عين الخطأ، والصواب مع من يعتقدونه مخطئا، فهم لا يأخذون بالدليل الذي يرد به عليهم، ولا يلتفتون إليه، ولا يرعوون من فيهم، أو يرجعون عن باطلهم لأنهم يرون الدين الحق هو ما تظاهر به المنتسبون إليه من عامة الناس، ولو كان هؤلاء العامة مع قادتهم من علماء السوء وحكام الضلال منحرفين عن الإسلام الصحيح، فهم يصرحون في بعض الأحايين بالبغض والعداوة لأهل الحق، ويصفونهم بأوصاف الكفر والضلال جهلا أو نفاقا ويحرصون على تتبع عوراتهم والوقوع في عثراتهم والتجسس عليهم لحساب أهل الكفر والضلال.

فأجاب رحمه الله بكفر هؤلاء وخروجهم عن الإسلام لعدة أسباب هي: أولاً: أنهم لم يكلفوا أنفسهم في معرفة الإسلام ولم يستسلموا لله وينقادوا له في كل أمر أو نهي. ثانيًا: إنهم عادوا أهل الحق، وأبغضوهم وخطئوا طريقهم ورأوا الدين هو ما عليه أكثر المنتسبين إليه من الناس الذين لا علم لديهم ولا عمل (¬1). ولا يعني هذا أننا نكفر كل مسلم لا يفهم الإسلام ويعرفه كمعرفة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بل إن المسلم إذا كان معه أصل الإسلام الذي يدخل به الإنسان في عداد المسلمين فهو مسلم، ولو كان جاهلا بتفاصيل أحكام الإسلام الخاصة، فإنه ليس على عوام المسلمين ممن لا قدرة لهم على معرفة تفاصيل ما شرعه الله ورسوله، أن يعرفوا على التفصيل ما يعرفه من أقدره الله على ذلك من علماء المسلمين، وأعيانهم بل عليهم أن يؤمنوا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيمانا عاما مجملا، ويعملوا بذلك وإذا اشتبه عليهم الأمر لجأوا إلى أهل الذكر فسألوهم عما لا يعلمون أما إذا لم يوجد مع الجاهل، الأصل الذي يدخل به الإنسان في عداد المسلمين، فهو كافر، وكفره، هو بسبب الإعراض عن تعلم دينه فلا هو علمه، ولا تعلمه، ولا عمل به، فمن كان ظاهره الكفر فهو كافر ومن كان ظاهره العصيان فهو عاص، ولا نكفر إلا من كفره الله ورسوله بعد قيام حجة البلاغ عليه (¬2) وقد عد الفقهاء أنواع الردة أربعة ذكروا منها الشك، والشك إنما يكون بسبب الجهل في عدم معرفة أقوى الدليلين، دليل الإثبات ودليل النفي، ولو قلنا بعدم تكفير الجاهل مطلقا لكان لازم هذا أن ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (8/ 232). (¬2) انظر الدرر السنية (8/ 257).

لا نكفر جهلة اليهود والنصارى ومن على شاكلتهم من أهل الأوثان لجهلهم بأحكام الإسلام، وقد أجمع المسلمون على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى، أوشك في كفرهم، وإن كان كفر بعض هؤلاء مبينا على الجهل بأحكام الإسلام، ولكن يكفي في إقامة الدليل عليهم أن يعلموا باسم الإسلام، وأن الله لا يقبل من إنسان غير الإسلام دينا، ثم يبقى عليهم بعد ذلك معرفة هذا الدين، ومعرفة صفاته وخصائصه وذلك من واجبات الفرد نفسه أن يسأل عن الخطأ والصواب، كما يفعل ذلك في أمور معيشته وعلى هذا فمرتكب الكفر، وإن كان متأولا أو مجتهدا أو مخطئا أو مقلدا أو جاهلا ليس معذورا في ذلك فليس حكم الكفر والردة مقصورا على من عاند مع معرفة وعلم، فنحن لا نعرف المعاند حتى يقول: أنا أعلم أن ذلك حق ولكن لا ألتزمه ولا أقول به، وهذا الصنف بهذا الوصف لا يكاد يوجد (¬1). وقد قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48] وقال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72] فلم يستثن سبحانه وتعالى من ذلك الجاهل، ولم يخص المعاند، فمن أخرج الجاهل والمتأول، والمقلد، فقد شاق الله ورسوله وخرج عن سبيل المؤمنين (¬2) وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام: 111] والجهالة معصية في صغائر الذنوب وفيما دون الكفر، فإن تاب من ارتكب الذنب بجهالة فقبول توبته راجع إلى الله عزوجل قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (9/ 241). (¬2) انظر الدرر السنية (9/ 246).

لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 17]. قال مجاهد الجاهل من لا يعلم حلالا من حرام، ومن جهالته ركب الأمر المحرم، فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل، سواء كانت هذه الجهالة تصل إلى الكفر، أو إلى ما دونه فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، وإنما سمواجهالا لمعاصيهم لأنهم غير مميزين ولا متبعين للحق ولذلك فعملهم هذا إثم يؤاخذون عليه إلا إذا تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (¬1). والجهل صفة موجودة في حياة الناس ولكنه يختلف باختلاف الأفراد والأمم فمن الجهل ما يكون كفرا بواحا ومنها ما يكون كبيرة من كبائر الذنوب ومنه ما يكون معصية من صغائر الذنوب ولكي يتخلص المسلم من الجهل صغيره وكبيره عليه أن يتخذ من رسول الله أسوة حسنة له في حياته قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21] وبسؤال أهل العلم العاملين بعلمهم كما تقدم بيان ذلك. فعلى هذا نقول أن كثيرا ممن يدعون الإسلام في عصرنا الحاضر وهم يقفون في صف الطغاة والمجرمين ويوالونهم ويناصرونهم ضد الحق وأهله على خطر من خروجهم من الإسلام وإن اعتذر البعض منهم أو عنهم بأنهم جهلة لا يعلمون الحق والحقيقة لأن الواجب الشرعي عليهم هو التثبت والبحث عن الحق والصواب قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (5/ 91، 92) و (6/ 436).

أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6] ولقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجاهلين من البقاء على جهلهم وحثهم على طلب العلم وعلى تحطيم ربقة الجهل، وحثهم على قرع أبواب المعرفة، ويتجلى هذا بوضوح فيما رواه عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن جده قال خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات مرة فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا، ثم قال: «ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون؟ والله ليعلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة ثم نزل» (¬1) ولقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مسئولية العلماء كما بين واجب من لا يعلم، وحث الفريقين على أداء واجبهما أهل العلم ينشرون العلم ويبينونه والجاهل يسعى إليهم ويتعلم منهم، وقد رتب على إخلال أحد الفريقين أو كليهما بواجبه عقوبة زاجرة رادعة من خلال هذا الحديث، وهذا يدل على أن الجهل ليس عذرا في ترك الأحكام أو إعفائه من المسئولية (¬2). يقول الشاعر: إذا كنت لا تدري ولم تك بالذي ... يسائل من يدري فكيف إذًا تدري؟؟ (¬3) ¬

_ (¬1) انظر مجمع الزوائد (1/ 164) وقد رواه الطبراني في مجمعه الكبير وفيه بكير ابن معروف قال البخاري: ارم به، ووثقه أحمد من رواية وضعفه من أخرى، وقال: ابن عدي أرجو أنه لا بأس به، فالحديث فيه لين، وأخرجه المنذري من الترغيب والترهيب (1/ 86، 87) بلفظ عن إشارة إلى أنه وجد من صحح الحديث أو حسنه ممن أخرجه. (¬2) انظر لمحات من المكتبة والبحث والمصادر (23) تأليف د/ محمد عجاج الخطيب. (¬3) الدعوة السعودية عدد (815) من 30/ 11/ 1401 هـ ص 34.

لقد أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، والحق باطلا والباطل حقا في مفهوم كثير ممن ينتمون إلى الإسلام اسما لا حقيقة ولكن مع ذلك يعتقدون جهلا أو تجاهلا أنهم هم أصحاب الإسلام الصحيح فالإسلام الذي يريدونه ويعتقدون صحته هو إسلام لا يمنعهم عما حرم الله ولا يلزمه بما أوجب الله، ولذلك تراهم يفقهون في وجه كل داعية مخلص يريد إرجاع الأمة إلى الصواب، ويصفون الدعاة إلى الله أبشع الأوصاف التي هم في الحقيقة جديرون بها، إن هؤلاء الجهال وما أكثرهم في عصرنا الحاضر، هم من أهم عوامل ضعف الموالاة بين المسلمين نظرا إلى أنهم يشكلون أكثرية ساحقة ساذجة تافهة في المجتمع الإسلامي ولذلك نرى لزاما على الأمة الإسلامية والعلماء خاصة أن يهتموا بتلك الفئة من الناس اهتماما يناسب حجم المشكة ويدرأ خطرها عن الدعاة إلى الله وأن يوجهوهم إلى التصور السليم، ويلقنوهم الفهم المستقيم، وأن يحولوهم من موقف الرفض والعداء للدين وأهله، إلى موقف التأييد والموالاة والمناصرة على الحق. لقد أصبح الجهر بكلمة الحق في وسط هذه الجموع المضللة من قبل أعداء الإسلام جريمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام، لقد جهلت الشعوب الإسلامية هذا الدين، وأخذت عنه تصورات خاطئة، بفعل أعداء الإسلام في داخل البلدان الإسلامية وخارجها، ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن ودفعه، ووقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية ونظيره، أو شر منه أو دونه. فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرًا والمنكر معروفًا والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومفارقة الأهواء والبدع ومن له

بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، والله المستعان (¬1) اهـ وقد أصبح هذا القول حقيقة واقعة في أيامنا هذه، والدليل على ذلك أن الإسلام عاش محنتين عظيمتين على يد طاغيتين مجرمين هما مصطفى كمال أتاتورك وجمال عبد الناصر ومع ذلك كان موقف الجماهير الجاهلة المضللة عن حقيقتهما هو موقف التأييد المطلق والمناصرة التامة لهما والهيام في حبهما إلى درجة الشرك قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ) [البقرة: 165] ونحن نذكر هذين الشخصين كمثالين للقيادات الضالة التي يصفق لها الدهماء من الناس ويهيمون في حبها، ويبذلون دماءهم وأموالهم وكل ما يملكون في سبيل حفظها وبقائها، وما علموا أن الواجب الشرعي يفرض عليهم أن يحطموا تلك الزعامات الفاجرة الخارجة على الإسلام وأن يعادوها ويبغضوها كما أمر الله في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن الجهل المطبق هو الذي حال دون معرفة حقيقة الأعداء وحقيقة الأصدقاء وهو الذي جعل هؤلاء الجهال يوالون أعداء الإسلام موالاة مطلقة ويحاربون أهل الإيمان، إن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن يعرف من الإسلام الذي يدعيه أكثر من أن اسمه مصطفى في السجل الرسمي للدولة أما حقيقته فهو صنيعة للحاخام اليهودي نعوم منفذ الخطة اليهودية لهدم الخلافة الإسلامية (¬2). لقد كان أتاتورك مجرما بمعنى الكلمة سواء كان في حياته الخاصة أم في مسئولياته العامة، ويشهد على ذلك أحد وزرائه عصمت اينونوا حيث قال له مرة: هل سنأخذ أوامركم من على مائدة العرق (¬3). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (319، 320). (¬2) انظر كتاب الرجل الصنم (563) تأليف ضابط تركي سابق ترجمة عبد الله بن عبد الرحمن. (¬3) انظر المصدر السابق (523).

إن هذا الرجل بعد أن وصل إلى سدة الحكم وقضى على الخلافة الإسلامية، وقع معاهدة لوزان المعقودة بينه وبين بريطانيا المجرمة التي قضت على الخلافة الإسلامية، ومكنت اليهود من احتلال فلسطين كما هو معروف عن دور بلفور، وزير خارجية بريطانيا آنذاك. وقد كان يمثل بريطانيا في معاهدة لوزان، اللورد كيرزون ورومبولد، وكانت هذه المعاهدة تشتمل على أربعة شروط رئيسية هي: أولا: إلغاء الخلافة الإسلامية. ثانيا: قطع كل صلة بالإسلام. ثالثا: طرد وقتل أنصار الإسلام المتحمسين له. رابعا: تغيير الدستور الإسلامي إلى دستور علماني (¬1). ولقد طبق أتاتورك هذه المعاهدة تطبيقا تاما، فألغى الخلافة الإسلامية ومنع تدريس مواد الشريعة الإسلامية ومنع الزي الإسلامي، واستبدل بلغة القرآن الحروف اللاتينية، كما ألغى الحكم بالشريعة الإسلامية، ووضع مكانها القوانين الوضعية التي جلبها من أوروبا. وكان قصده من ذلك كله جعل تركيا وما حولها من بلاد الإسلام قطعة من أوروبا وأقسام مبدأ علمانية الدول والحكم، وعدم اعتبار الدين في أي شأن من شئون الحياة. هذا الشخص الذي فعل بالمسلمين هذا الفعل ما زال تمثاله الذي يرمز إلى الخيانة والعمالة للأعداء، أول ما تقع عليه عين القادم في مطار استنبول، وتماثيله الأخرى منتشرة في كل منعطف وميدان، وصوره تباع للسياح، وكأنه منقذ أمة أو فاتح عظيم، ولو كان كذلك لما جاز ذلك. فكيف به وهو خائن لئيم؟ والأعجب من ذلك أن الدستور الوضعي ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق (283، 294) وانظر المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام تأليف محمد محمود الصواف (128).

في تركيا لا يزال حتى هذا اليوم حارسا أمينا على نظام أتاتورك العلماني الجاهلي ولا يستطيع أحد من أبناء الشعب المسلم في تركيا أن يجهر بانتقاد هذا الطاغية الهالك أو يكشف مخازيه وفضائحه التي بقيت سرا لأكثر من خمسين عاما. وفي هذه الأيام تجري محاكمة للدكتور نجم الدين أربكان زعيم حزب السلامة الإسلامي بتهمة السعي لإقامة دولة إسلامية في تركيا وقد طالب المدعي العام العسكري بإنزال عقوبة السجن لمدة (36) سنة على الدكتور نجم الدين كما طالب بإنزال عقوبة السجن لمدة (17) سبع عشرة سنة على ثلاثة وثلاثين من أعضاء حزب السلامة الإسلامي لأنهم يسعون لإقامة دول إسلامية وهذه يرون أنها جريمة لأنها تخالف نظام أتاتورك العلماني (¬1). ولم يكن تمجيد هذا الطاغية مقصورًا على تركيا وحدها بل إن كثيرا من الكتاب وأصحاب الأقلام المأجورة والمخدوعة يمجدون هذا المجرم ويمتدحونه، وكأن تحطيم الخلافة الإسلامية نصر عظيم وفتح مبين ولا غرابة على معظم الذين فعلوا ذلك لأنهم ينظرون إلى الأمور من خلال منظار اليهود والنصارى إليها، ولكن الغرابة في الأمر أن ينساق من يدعي الإسلام إلى الوقوف بجانب أعداء الإسلام، بينما يكيلون السباب والشتائم على سلاطين الدولة العثمانية وخاصة عبد الحميد الثاني الذي وقف في وجه المؤامرة اليهودية الصليبية رغم الضعف الشديد الذي يحيط بالدولة في عهده ورغم قوة أعدائه فقد أبى إباء المؤمن المعتز بإيمانه بالله عندما عرض عليه قره صو (¬2) المرسل من قبل هرتزل قائد اليهودية وحامي حماها مبلغ مائة مليون ليرة ذهب باسم قرض طويل الأجل وبدون فائدة. ¬

_ (¬1) انظر مجلة الإرشاد العدد العاشر للسنة الثالثة شوال (1401) (73). (¬2) انظر المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف (129).

وتعهد أيضا باسم اليهود ببناء أسطول بحري لمشاركة الدولة العثمانية في صد الأعداء عنها، وتعهد كذلك ببناء جامعة في القدس كل ذلك مقابل التنازل عن قطعة صغيرة، من أرض فلسطين لليهود. فأبي السلطان رغم حاجته إلى المال والاستقرار وقال للوسيط قره صو وهو عثماني الجنسية: اغرب عن وجهي أيها الخنزير، أنا لن أستطيع أن أبيع شبرا واحدا من أرض فلسطين لأنها ليست ملكي، بل هي ملك المسلمين جميعا أخذوها بدمائهم، ولن يعطوها إلا بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم وإذا مزقت دولتي يوما فإنهم سيأخذونها بلا ثمن أما وأنا حي فإن عمل المشرط في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين بترت من دولتي وهذا أمر لن يكون، إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة (¬1). رحمك الله يا عبد الحميد، لقد ظلمك التاريخ، وظلمك أصحاب الأقلام الذين يتخذون من مؤلفات جورجي زيدان، وفارس نمر وسلامة موسى مصدرا لتاريخهم ومعلوماتهم، وما أدرك أولئك الجهلة أن ثلاثتهم قد تربوا في أحضان الصليبية وأنهم يعملون لها، وأن مؤلفاتهم سلاح من الأسلحة التي تشهر في وجه الإسلام والمسلمين. إن هذا الموقف في معاداة عبد الحميد، وموالاة ومناصرة أتاتورك يعطي صورة واضحة على من يجهل معظم أفراد الأمة بأعدائها الحقيقيين إلى حد يجعلهم ينصرون الظالم على المظلوم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولم يتعظ المسلمون من نتائج هذا الموقف مع أتاتورك وما حصل من ذلك من جرائم أو سيئات بل مر هذا الحدث بما فيه من مصائب ودواه عظام أثقلت وتثقل كاهل الأمة الإسلامية حتى هذا اليوم، ومع ذلك لا زال بعض المنتسبين إلى الإسلام يمتدح ذلك العدو اللدود للإسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) انظر محاضرات في تاريخ فلسطين تأليف د/ أحمد طربين ص4.

أما المأساة الثانية التي كرر فيها الأعداء مواقف أتاتورك في صورة شخص آخر فهي مأساة المسلمين في مصر، وخارج مصر، تلك المأساة التي عاشها أبناء مصر الأوفياء لدينهم وإسلامهم، وعاشها معهم كل مؤمن مخلص غيور، وذلك حين تآمر حفيد فرعون (¬1) جمال عبد الناصر مع أعداء الإسلام والمسلمين، العميل المزدوج للأمريكان واليهود والشيوعيين فلقد قال عنه خالد محيي الدين وهو من المقربين إليه إن عبد الناصر كان على علاقة مع وكالة المخابرات الأمريكية عن طريق كيرميت روزفلت المهندس الأمريكي لثورات المنطقة (¬2) وقد ذكر مايلزم كوبلاند صديق عبد الناصر الحميم عن تلك العلاقة بين عبد الناصر والإدارة الأمريكية فيقول عن عبد الناصر: إنه لا يعمل كما يظن كثيرون نتيجة استئثار أو نزوة أو أي دافع من البواعث السطحية، إننا نحن رجال المخابرات الأمريكية قد رسمنا له الطريق فسار فيه، وقد تكون النتائج غير ذلك لو أنه أعد إعداد من نوع آخر (¬3). وقد أشار الدكتور محمد صادق إلى هذا الارتباط بما لا يدع مجالا للشك بأن عبد الناصر تآمر مع أعداء الإسلام الصليبيين للقضاء على الإسلام والمسلمين (¬4) وعبد الناصر كما هو عميل للصليبيين هو كذلك عميل لليهود لأن اليهودية والصليبية يعملان معًا ضد الإسلام وينسقان الخطط فيها بينهما لحرب الإسلام والمسلمين، والأدلة على عمالة عبد الناصر لليهود ما يلي: أولاً: صرح رجل عدل كان أحد أبطال فلسطين، الذي عرفه اليهود قبل ¬

_ (¬1) الحفيد ولد الولد انظر المعجم الوسيط (1/ 183). (¬2) مذبحة الإخوان جار رزق ص13. (¬3) انظر لعبة الأمم مايلز كوبلاند (239) ترجمة إبراهيم جزيني. (¬4) انظر الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الأمريكية الدكتور محمد صادق (17، 18).

أن يعرفه غيرهم، وهو اللواء معروف الحضري رحمه الله الذي كان أحد أبطال الحرب (1948) وهو الذي مد يد العون للجنود المصريين المحاصرين في الفالوجة وكان عبد الناصر أحد هؤلاء المحاصرين هناك وبعد فك الحصار ورجوعهم إلى المخيم قال معروف الحضري أنه شاهد عبد الناصر يخرج من بين خطوط الحصار ويدلف إلى خطوط اليهود بعد منتصف الليل بغير علم قيادته وبغير أمرها، وأنه شاهده أكثر من مرة يفعل ذلك تحت جنح الظلام وكانت سيارة عسكرية يهودية تنتظره على مقربة من خط المواجهة يستقلها ثم يعود فيها مع خيوط الفجر الأولى، ولا ندري ماذا كان يفعل إلا ما دهمت به مصر بعد ذلك بثلاث سنوات. ثانيا: يوجد وثيقة بخط عبد الناصر كتبها بيده بعد أن وقع معروف الحضري بأسر اليهود، وصلت إلى معروف يطلب منه فيها التعاون مع ضابط المخابرات اليهودية المدعو كوهين الأمر الذي رفضه معروف الحضري رحمه الله. ثالثا: صرح ابن غورين مؤسس دولة إسرائيل في عام (1950) في الكنيست الإسرائيلي قائلا: إن انقلابا عسكريا سيقع في مصر لن نكون نحن معاشر اليهود أقل فرحًا به من المصريين أنفسهم، ويقصد بذلك الانقلاب الذي أوصل عبد الناصر إلى الحكم في مصر، فكان ما كان في مصر مما أثلج صدور الكفار أجمع ما عدا أهل الإسلام. رابعا: جاء في مجلة يهودية تدعى يدعوت أحرينوت قولها: إن إسرائيل مارست ضرب الحركات الإسلامية، خلال الثلاثين عاما الماضية عن طريق أصدقائها في العالم العربي (¬1) وهذا ما حصل في مصر ¬

_ (¬1) انظر فيما تقدم محاضرة مسجلة للدكتور/ علي جريشة بعنوان أعداء في طريق الدعوة تسجيلات اليمامة الرياض/ بطحاء- عمارة النيل.

على يد ذلك السفاح وما يحصل في وقتنا الحاضر على يد عملاء الكفار الشرقيين والغربيين. خامسًا: نشرت إحدى المجلات الإنجليزية نيوستيتسمان في عددها الصادر في الثاني من أكتوبر عام (1970) بعد أن جللته بالسواد حدادا على عبد الناصر مقالا للمستر سكوتسمان الذي يعترف بأنه صهيوني بارز ولكنه يرثي جمال عبد الناصر، لما قدمه لليهود من خدمات لا تعوض بثمن وصدق الله العظيم حين قال: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120] ويضيف سكوتسمان قائلا: كان أول لقاء لي مع عبد الناصر سنة (1953) الأمر الذي جعلني أرتبط معه بصداقة شخصية استمرت سنوات طويلة، ثم يقول: لقد نزلت ضيفًا عند عبد الناصر في إحدى الليالي بمنزله الكائن بجوار الثكنات منشية البكري وقد شهر بتكريمه لي عندما جلست معه جلسة خاصة للعشاء على مائدة المطبخ، لا على مقاعد غرفة الطعام بالصالون المعتاد ولقد دعاني إلى رؤية بناته في غرفة النوم بعد أن سارعت زوجته إلى الاختفاء (¬1). سادسًا: جاء في مذكرات موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي سابقا أن حسن التهامي قال له: إنه كان للاستخبارات المصرية عميل إسرائيلي في منصب استراتيجي وكان ضابطا كبيرا في الجيش الإسرائيلي وقد أبلغ المصريين بأن الحرب ستقوم خلال الفترة ما بين (3 أو 6) من حزيران وردا على السؤال: لماذا لم يوضع سلاح الجو المصري في حالة تأهب قصوى؟ ولماذا لم تكترث ¬

_ (¬1) انظر الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الأمريكية د/ محمد صادق ص ز من المقدمة.

القيادة المصرية بهذه المعلومات؟ قال التهامي: إن الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر كان شريكا في المؤامرة الإسرائيلية (¬1). سابعًا: نقلت وكالة أ. ب فيلادليفيا أن هناك عدة صحف أمريكية نشرت سلسلة من التصريحات أدلى بها إيلمورجاكسون مراقب لجنة خدمة أصدقاء أمريكا لدى الأمم المتحدة وعضو كنيسة الكويكا قال: إن الرئيس المصري جمال عبد الناصر أجرى اتصالات مع الإدارة الأمريكية عام 1955 من خلال سفيره في واشنطن أحمد حسين لمصالحة اليهود وقال جاكسون في ختام تصريحاته: إن كثيرين ممن وضعوا ثقتهم في الرئيس المصري جمال عبد الناصر: وكانوا من أنصاره قد يدهشون لقيامه بهذه الجهود لكن الحقيقة أنه قام بذلك، وقد حال دون ذلك استراتيجية السياسة اليهودية في ذلك الوقت اهـ (¬2). إن الدور الذي لعبه جمال عبد الناصر في تحطيم عقيدة الأمة وأخلاقها وتسليم المساحات الشاسعة من أرض الإسلام والمسلمين بما فيها القدس لليهود بلا ثمن لهو دور عظيم لا يقارن به إلا الدور الذي قام به كمال أتاتورك من قبله. فكلاهما لعب دورًا مأسويًا في تاريخ الإسلام والمسلمين، وكلاهما صنعا مأساة لم يصنعها أحد غيرهما في زمانهما ومكانهما فالاثنان حققا لليهود .. أغلى أمانيهم. الأول: أسقط الخلافة الإسلامية وشتت البلاد الإسلامية دويلات وإمارات مبعثرة متناحرة وأنشأ مبدأ العلمانية في الحكم والتشريع. ¬

_ (¬1) انظر مجلة المجتمع عدد 522 السنة الحادية عشرة ف 25/ 5/ 1401 هـ (16). (¬2) انظر مجلة الإصلاح السنة السادسة العدد (58) ربيع الأول عام 1403 هـ (27).

والثاني: منح اليهود نصرا مؤزرا وأعطاهم أرضا وأماكن لم يحلموا بالوصول إليها بهذه السرعة، وبمثل هذه السهولة أعقبه السادات فمنح اليهود صك التملك الشرعي لأراضي المسلمين ومقدساتهم. هذه نماذج للقيادات الظالمة الطاغية التي لم تترك وراءها أي معلم من معالم البناء الحقيقي للأمة سوى الهزائم المتكررة في مجال الحرب العسكرية والحرب الثقافية، والحرب الأخلاقية والتي جميعها أثقلت كاهل الأمة في حاضرها ومستقبلها، إن البناء في مفهوم تلك القيادة الضالعة في موالاة أعداء الإسلام وتبعيتهم هو نشر الفساد الأخلاقي والانهيار الاجتماعي، وقتل عشرات الآلاف من أبناء المسلمين في الحرب العشوائية، وداخل السجون والمعتقلات الرهيبة أن جرائم هؤلاء قد تجاوزت البالغين إلى الأطفال الرضع ونسوق حادثة واحدة من آلاف الحوادث إلى الذين استعبدهم حب عبد الناصر، ليروا مدى العطف والعناية التي يقدمها محبوبهم إلى أبناء المسلمين. لقد ذهب عبد الناصر في زيارة لروسيا الشيوعية وعدوة الإسلام الأولى، ومن أجل ترضية سبعة عشر يهوديًا أعضاء في مجلس السوفيت الأعلى (¬1) أمر عبد الناصر وهو في موسكو باعتقال جميع الإخوان المسلمين وكان من ضمن الإخوان أخ كريم يعيش بالإسكندرية وكان الضابط المكلف باعتقاله يدعى عبد العزيز الصوابي فذهب إليه مع بعض زبانيته في ساعة متأخرة من الليل. ثم اعتقله واعتقل زوجته معه، وترك في البيت ثلاثة أطفال أكبرهم دون الخامسة وأصغرهم رضيع وفي الصباح استيقظ الأطفال فوجدوا الباب مغلقًا وليس عندهم أحد، وعند منتصف النهار مر شقيق الزوجة في زيارة عابرة فنادى على من في الدار فلم يجبه إلا صياح الأطفال وصراخهم وخاطب أكبرهم أين أمك؟ وأين أبوك؟ وأجاب: قمنا من النوم فلم نجدهما ¬

_ (¬1) انظر الكيد الأحمر/ عبد الرحمن حنبكة (93).

وفتح الباب بعد مخاطرة عظيمة فوجد الأطفال الثلاثة في وضع تتفطر له الأكباد. إن هذه الصورة وغيرها مئات وآلاف الصور المحزنة المبكية، ومن أراد المزيد من تلك الصور فليرجع إلى الكتب المطولة في ذلك (¬1). إن هذا ليس غريبا من شخص باع دينه بدنياه واستعبده حب المنصب والجاه حتى ولو كان على أشلاء الأبرياء والمظلومين، من الذين لا ذنب لهم إلا أنهم قالوا ربنا الله ثم استقاموا هذه معاملة عبد الناصر لأبناء المسلمين أما سكوتسمان اليهودي الصهيوني فله مكان خاص في بيت الرئيس (¬2) إن تآمر عبد الناصر مع اليهود والنصارى وغيرهم من كفار الأرض أمر لا غرابة فيه. ولكن الغريب في الأمر أن يفعل بالمسلمين هذا الفعل هو وزبانيته ومع ذلك كله نجد الملايين في مصر وخارج مصر تسبح بحمد هذا العميل وتقدسه، وتمنحه أعظم الأسماء وأجل الأوصاف والألقاب، وما ذلك إلا نتيجة جهلها بحقائق الأمور، واعتمادها على وسائل التجهيل والتضليل في الداخل والخارج التي جعلت من الدمية أعظم أسطورة ومن الفأر أسدا ضرغاما، وذلك حتى تتم فصول المؤامرة ويتحقق الدور الذي رسمه أعداء الإسلام لها بسلام فقد استشهد سيد قطب رحمه الله وغيره من العلماء الأجلاء ولم نر أو نسمع من الملايين المضللة التي خرجت تطالب ببقاء عبد الناصر بعد هزيمته المنكرة أي احتجاج أو استنكار في الوقت الذي كان يجب على الجماهير أن تفعل عكس ذلك تماما، ولكن من يعي ويبصر أو من غير العرب يصفق لقائد مهزوم؟ ¬

_ (¬1) انظر مذبحة الإخوان في ليمان طرة جابر رزق وانظر البوابة السوداء أحمد رائف وانظر القابضون على الجمر/ محمد أنور رياض وانظر نافذة على الجحيم، لعدد من الكتاب وانظر الفراعنة الصغار د/ جابر رزق (102). (¬2) انظر صفحة 330 من هذه الرسالة.

عجبت لمصر تهضم الليث حقه ... وتفخر بالسنور ويحك يا مصر سلام على الدنيا سلام على الورى ... إذا ارتفع السنور وانخفض النسر (¬1) ويقول الشاعر: ولا خير من قوم تذل كرامهم ... ويعظم فيهم نذلهم ويسود (¬2) إن من العقبات الشديدة في وجه الدعاة والمصلحين في هذا العصر تلك الجموع البشرية المضللة التي تعيش على هامش الحياة وهي سلاح قوي في يد أعداء الإسلام، ودعاة الضلال والانحراف، وهم لا يتكلفون في توجيه هؤلاء الدهماء ضد الإسلام والمسلمين، بأكثر من دغدغة عواطفهم بالمال والجنس ولغو الحديث، مع إيغار صدورهم ضد الحق ودعاته وعندئذ تكون هذه الفئة سلاحا بأيدي أعداء الإسلام والمسلمين. إن انتشار هذه الفئة الجاهلة الغبية في معظم أقطار المسلمين كان من أهم أسباب ضعف الموالاة والمعاداة في الله ولذلك يجب على كل مسلم أن يساهم في حل هذه المشكلة الحادة المعقدة. والحل لا يخرج عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما دورنا هو كيف نجعل الناس يفهمون الإسلام فهمًا صحيحًا ويلتزمونه قولاً وفعالاً. والطريق في نظري لإفهام الناس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: هو دور الاتصال الشخصي في نشر التصور الإسلامي الصحيح فلو أخذ كل منا على عاتقه إبراز مفاهيم الإسلام وقيمه العادلة للناس في كل لقاء يلتقي به مع غيره من الناس لكان لذلك أثر عظيم في جلاء ظلمة الجهل عن الناس وتصحيح نظرتهم للإسلام ومقاصد المسلمين. ¬

_ (¬1) انظر مجلة الإصلاح عدد (26) في جمادى الثاني (1400) ص (18). (¬2) معجم الأدباء لياقوت الحموي (8/ 258).

القسم الثاني: هو دور التعليم ووسائل الإعلام في تعميق مفهوم الإيمان وإعطاء التصور الصحيح للدين الإسلامي ونظامه في الحياة مع بيان الخصائص التي تميزه عن النظم الجاهلية كلها، إننا لو استطعنا أن نجعل الناس يهتمون بالإسلام وقضاياه المختلفة كاهتمامهم بقضاياهم الشخصية لكان ذلك فاتحة خير وطريقا إلى الوصول إلى الهدف الأسمى في تطبيق الإسلام وتنفيذ أحكامه. ولكن للأسف الشديد فإن غالبية الناس عن الاهتمام بالدين وقضاياه غافلون فكل ما يفهمه أو يهتم به بعض المنتسبين إلى الإسلام هو تأدية الشعائر التعبدية من صلاة وزكاة وصوم وحج، أما الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ومحاربة المنكرات الظاهرة ظهور الشمس في رابعة النهار وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، فهم عنها غافلون وعن التشبث بها معرضون. ومن الأمثلة على جهل بعض المسلمين بالإسلام وتصوره تصورا ناقصا خاطئا ما ذكره جمال الدين الأفغاني رحمه الله حيث يقول: إنك إذا سألت الهندي المسلم عن الإسلام، كان يجيبك بأنه يحمد الله على أنه من أكلة لحوم البقر، هذا كل ما يفهمه عن الإسلام أنه يبيح لحم البقر طعامًا للناس (¬1) اهـ وليس كل أهل الهند المسلمين بهذا الوصف، ولكن الغالبية العظمى منهم ومن غيرهم في البلاد الإسلامية لا يخرجون عن نطاق هذا الفهم القاصر للدين الإسلامي. والسبب في ذلك والله أعلم أن أكثر المسلمين يأخذون إسلامهم عن طريق التقليد لأناس هم أبعد ما يكونون عن الإسلام الصحيح علما وعملا وهذا الأمر هو أعظم مصدر من مصادر الجهل المنتشر بين المسلمين وقد اختلف العلماء في التقليد على قولين: ¬

_ (¬1) انظر الإيمان وأثره في نهضة الشعوب/ يوسف العظم (134).

القول الأول: قول جماعة نفت التقليد وأنكرته وذمته وقالت في تبرير ذلك أن الناس أحد رجلين. أ- إما عامي فيجب عليه أن يتعلم ما يستقيم به دينه، ولا فائدة له في لزوم مذهب معين، فإنه كالأمي الذي يدعي أنه يقرأ وهو ليس بقارئ أو يدعي أنه كاتب وليس بكاتب فيدعي أنه على مذهب وهو لا يعرفه ولا يعرف الصحيح من الضعيف. ب- والرجل الثاني فقيه عالم بالكتاب والسنة، فلا يصح أن يقدم على شيء بغير حجة ولا دليل (¬1). وقد ذم الله التقليد والاتباع على غير هدى كما ذكر الله عن الكفار في قوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 23] وقال تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب: 66 - 68]، وقد أمر الله عباده باتباع ما أنزل على رسوله قال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 3]. وقد بين تعالى أن الذين يقلدون غيرهم بلا وعي، ولا تعقل يندمون على ذلك يوم القيامة عندما يرون العذاب الأليم قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة: 167]. ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (150) وانظر أصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله عبد المحسن التركي (675 - 689) وانظر إيقاظ همم أولى الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار/ صالح بن محمد نوح الفلاني (153 - 214).

القول الثاني: قول من يقول إن التقليد أمر ضروري يباح عند الضرورة فليس في قدرة كل الناس معرفة الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة ولكنهم اشترطوا أن يكون التقليد لأحد الأئمة في ما وافق الكتاب والسنة فقد صرح الأئمة بأنه لا يجوز تقليدهم تقليدا مطلقا في كل شيء لأن التقليد المطلق خاص بالمعصوم - صلى الله عليه وسلم - فيما لم ينسخ أو يكون مخصوصا به دون غيره (¬1) فقد أمرنا الله بمتابعته بقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) [الأحزاب: 21]. أما ما عدا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيؤخذ من قوله ويرد ولذلك نرى أن الأئمة والفقهاء قد أوثر عن كل واحد منهم ما يدل على ذم التقليد والمتابعة المطلقة لغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ومن الأقوال التي رويت عنهم ما يلي: 1 - قال أبو حنيفة رحمه الله: هذا رأيي فمن جاءنا برأي خير منه قبلناه وقال: هل لأحد قول مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ (¬3). 2 - قال بشر بن الوليد (¬4) قال أبو يوسف (¬5) صاحب أبي حنيفة (لا يحل) ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (150 - 152) وانظر أصول مذهب أحمد د/ عبد الله التركي (676 - 689). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (150 - 152). (¬3) المصدر السابق (151). (¬4) هو بشر بن الوليد بن عبد الملك ابن الخليفة الوليد الأول من أم ولد وقد عرف بعالم بني مروان لغزارة علمه، وكان بشر أميرًا للحج عام 95 هـ كما اشترك في بعض الفتوحات الإسلامية في آسيا الصغرى وتولى قيادة الأسطول المصري فرسًا في تراقيا ووصل في توغله حتى أدرنة ولا يعرف تاريخ وفاته انظر دائرة المعارف الإسلامية (3/ 660). (¬5) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي أبو يوسف ولد بالكوفة سنة 113 هـ وتفقه علي أبي حنيفة وسمع من عطاء بن السائب وطبقته وروى عن محمد بن الحسن الشيباني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو يوسف فقيه محدث أصولي، مجتهد حافظ عالم بالتفسير والمغازي وأيام العرب، ولي قضاء بغداد لثلاثة من الخلفاء العباسيين وتوفي بها في ربيع الآخر سنة 182 هـ ودفن بكرخ بغداد بقرب أم جعفر زبيدة من آثاره كتاب الخراج المبسوط في فروع الفقه الحنفي ويسمى بالأصل كتاب في آداب القاضي على مذهب أبي حنيفة انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (13/ 240).

لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا (¬1). 3 - قال الإمام مالك رحمه الله: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا قول صاحب هذا القبر يشير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أيضًا: من ترك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب فكيف من ترك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن هو دون إبراهيم النخعي (¬2). 4 - قال الإمام الشافعي رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي وفي لفظ: إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط (¬3). 5 - قال أبو داود: قلت لأحمد الأوزاعي أهو أهل أن يقلد؟ أم مالك؟ فقال: لا تقلد في دينك أحدا من هؤلاء إلا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذوه (¬4). 6 - قال أحمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الأستاذ وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]. 7 - قال عبد الله (¬5) بن المعتم: لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد (¬6). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (151). (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) انظر الدرر السنية (1/ 123). (¬4) انظر مجموعة التوحيد (151، 152). (¬5) هو عبد الله بن المعتم كان على إحدى المجنبتين يوم القادسية وأرسله سعد بن أبي وقاص من العراق إلى تكريت ففتحها وأرسل عبد الله بن المعتم ربعة بن الأفكل إلى نينوي والموصل ففتحهما وكان ذلك سنة (20 هـ) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (3/ 263، 264). (¬6) انظر مجموعة التوحيد (152).

8 - قال ابن مسعود (¬1) رضي الله عنه لا يقلدن أحدكم رجلا إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر (¬2). قال الشاعر: تخالف الناس فيما قد رأوا ورووا ... وكلهم يدعون الفوز بالظفر فخذ بقول يكون النص ينصره ... إما عن الله أو عن سيد البشر (¬3) وهذا لا يعني حرمة اتباع العلماء فيما يقولون من حق وصواب ولكن الأمر الذي نريد تقريره، إنه ليس واجب على الأمة اتباع العلماء كاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وبناء على ذلك لا يحرم تقليدهم فيما وافق الحق والصواب، كما يحرم تقليد من يقول بغير علم، أو من يستمد أقواله وأفعاله من مناهج الكفر والضلال (¬4). فالعلماء يجري عليهم الخطأ والنسيان، ومنهم من يقع في مصائد الولاة الكفرة فيبيع دينه بعرض من الدنيا. من أجل ذلك كله فهم ليسوا معصومين من الخطأ وليس البعض منهم ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب حليف بني زهرة، كان أبوه مسعود قد حالف بني زهرة في الجاهلية، وأمه أم بنت الحارث من هذيل كان إسلامه قديما أول الإسلام حين أسلم سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها وذلك قبل إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وروي عن ابن مسعود أنه قال: رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا، وهو أول من جهر بالقرآن بمكة وهاجر الهجرتين وصلى القبلتين وشهد بدرا وأحد والخندق وبيعة الرضوان وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي أجهز على أبي جهل، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وقد توفي ابن مسعود رضي الله عنه بالمدينة سنة 23 هـ ودفن بالبقيع انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (3/ 256 - 260). (¬2) انظر مجموعة التوحيد (152). (¬3) انظر مجموعة التوحيد (331). (¬4) انظر مجموعة التوحيد (578، 579).

حجة في موافقة في بعض القضايا والأحداث فمن أحسن الظن ببعضهم من غير نظر إلى الكتاب والسنة هلك (¬1) وخلاصة القول في هذه المسألة أن التقليد مذموم فيما يتعلق بأصول الأحكام دون فروعها. أما من تحرى الحق في مسألة فرعية والتزم ذلك في حياته فلا ضير عليه سواء كان ذلك علما تعلمه أو تقليدا لمن وافق عمله الكتاب والسنة (¬2) فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا باتباع أهل العلم فيما يفتون به من أحكام قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]. لذلك فإن كان تقليد العلماء العاملين بالشريعة الإسلامية عليه بعض التحفظات فما عذر أولئك الذين يقلدون اليهود والنصارى والمرتدين والمنافقين بغير سلطان آتاهم؟ إنه لا عذر لهم سوى اتباع الهوى والشيطان والمكابرة عن الحق وأهله أعاذنا الله من ذلك. يقول الشاعر سليمان بن سحمان فمن كابر النص الصريح معاندا ... وحلل تقليدا لما الله حرما وقلد متبوعا له ومقلدا ... فهل كان ذا من أناب وأسلما؟ (¬3) وقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن غربة الإسلام بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء» (¬4). فهذا الحديث يدل على أن للدين إقبالا وإدبارا، وأن من إقباله أن ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 270). (¬2) انظر أصول الفقه/ تأليف محمد الخضري بك (380). (¬3) انظر ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان (215، 216). (¬4) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (1/ 130).

تفقه القبيلة وتسترشد حتى لا يوجد فيها إلا منافق أو منافقان فهما خائفان مقهوران ذليلان وإن من علامات غربته أن تجفوا القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا مؤمن أو مؤمنان فهماخائفان مضطهدان (¬1) وقد وقع مصداق ذلك في هذا العصر حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا في كثير من بلاد المسلمين وفشى الجهل بين الناس والتقليد الأعمى لأهل الكفر والضلال فنشأ على ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، واعتقد أكثر الناس أن ما هم عليه من عادات الكفر وصفات الكفار لا تتعارض مع الإسلام لعظيم جهلهم، وشدة غفلتهم، وبعدهم عن أحكام الإسلام، بل إنهم يصفون من ينكر عليهم باطلهم وضلالهم بالكفر والتطرف والانحراف عن الإسلام، وينسبون إليه العمالة للأعداء والرجوع بالأمة إلى الوراء والتخلف، وتحطيم منجزات الأمة وإيجاد بذور الفتنة والانقسام وللأسف فإن هذه الفرية التي يرددها أعداء الإسلام لتشويه الحق وأهله تنطلي على كثير من مدعي الإسلام وهذا الفهم الخاطئ لما يقال عن الإسلام والمسلمين لا يعفي هؤلاء من المسئولية أمام الله عزوجل. فقد قال الفقهاء: إنه يكفي في العلم بالشيء إمكان العلم به، فمتى بلغ الإنسان سن التكليف وهو عاقل مختار، وكان ميسرا له أن يعلم الحق من الباطل، والحرام من الحلال، إما بالرجوع للنصوص الموجبة للتحريم والتحليل وإما بسؤال أهل الذكر اعتبر عالما بالأفعال المباحة والأفعال المحرمة ولم يكن له أن يعتذر بالجهل، أو يحتج بعدم العلم، ولهذا يقول الفقهاء: لا يقبل في دار الإسلام العذر بجهل الأحكام (¬2). ويعتبر المكلف عالما بالأحكام بإمكان العلم لا يتحقق العلم فعلا ومن ثم يعتبر النص المحرم معلوما للكافة ولو أن أغلبهم لم يطلع عليه، أو يعلم عنه شيئا، ما دام العلم به ممكنًا لهم بسؤال أهل الذكر عنه. ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (11/ 106، 107) (¬2) انظر التشريع الجنائي الإسلامي/ عبد القادر عودة (1/ 430).

ولم تشترط الشريعة تحقق العلم فعلا، لأن ذلك يؤدي إلى الحرج وفتح باب الادعاء بالجهل على مصراعيه، ويعطل تنفيذ النصوص الشرعية بدعوى الجهل بها، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم» ... الحديث (¬1). ولذلك لم يجعل الباري عز وجل دعوى الجهل سببا لرفع الجناية عن المعتدي فلا ترتفع عن المعتدي المسئولية الجنائية فيما اعتدى عليه بدعوى جهله بذلك (¬2). ومن ذلك يتأكد لي أنه لا عذر للذين يدعون الإسلام وهم يناصبون المسلمين العداء في البلاد الإسلامية فيقفون مع كل طاغية ضد كل داعية ولو جهلوا أو ادعوا الجهل في فهم حقيقة الإسلام والمسلمين، لأن الواجب الشرعي عليهم يقتضي التثبت في اتخاذ المواقف من أهل الخير أو أهل الشر قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]. إن واجب المنتمين إلى الإسلام أن يعرفوا نوعية من يتعاملون معهم وينزلوهم حسب المنزلة التي ينزلهم الشرع إياها، ولا يكونوا إمعات تصفق لكل ناعق وتصدق كل منافق، فهذا الصنف من الناس هو الذي اعتمد عليه الطغاة في حرب الإسلام والمسلمين. يقول الشاعر: فكم خائن باع البلاد سموا به ... إلى الأوج فهو الفارج الكربات وكم ملحد مستهتر العرض قد غدا ... بسحرهم يدعى أبا لبركات وكما سارق قوت المساكين صوروا ... على الطرس منه مبدع الحسنات ¬

_ (¬1) رواه مسلم انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 2). (¬2) انظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة (1/ 430، 431).

أراقوا على أقدامه المدح خشعا ... كما عكف الغاوون حول منات أضاليل أملاها النفاق وحطمت ... بقية ما للدين من حرمات فواها على الإسلام تهوي صروحه ... بأيدي جناة من بنية عماة (¬1) ويقول الأديب المصري: توفيق البكري مشيرا إلى أن أسباب الطغيان وأساسه هو الجهل: لا تعجبوا للظلم أن يغشى أمة ... فتبوء منه بفادح الأثقال ظلم الرعية كالعقاب لجهلها ... ألم المريض عقوبة الإهمال (¬2) ¬

_ (¬1) انظر شعراء الدعوة الإسلامية (5/ 33، 34). (¬2) انظر بروتوكولات حكماء صهيون (84) ترجمة محمد خليفة التونس.

الفصل الثاني: الاختلاف في مسألة من مسائل الفروع

الفصل الثاني: الاختلاف في مسألة من مسائل الفروع إن الاختلاف من الظواهر العادية بين الناس نظرا لاختلاف القدرات الفكرية والجسمية والعقلية بين البشر، فما يراه إنسان مصلحة قد يراه إنسان آخر مفسدة وما يحبه شخص قد يبغضه شخص آخر، ولهذا كله أنزل الله تعالى للناس تشريعا يحقق لهم الخير في كل زمان ومكان، ويجنبهم شر تضارب الآراء واختلاف النزعات، كما هو حاصل في الأنظمة الوضعية (¬1). ولذلك فإن الاختلاف بعد نزول القرآن الكريم والسنة النبوية يجب حسمه عن طريق الكتاب والسنة قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]. ¬

_ (¬1) انظر أسباب اختلاف الفقهاء، د/ عبد الله عبد المحسن التركي (9).

والخلاف الذي يجري بين المنتسبين إلى الإسلام يمكن تقسيمه إلى قسمين: (1) اختلاف في فروع الشريعة الإسلامية. (2) اختلاف في أصول الإسلام. وحيث إن هذا الفصل خاص باختلاف الفروع فسوف نؤجل البحث في مسألة الاختلاف في الأصول إلى مبحث الموالاة والمعاداة للفرق التي تدعي الإسلام. أما الاختلاف في الفروع فينقسم إلى قسمين: (أ) اختلاف تنوع في الفروع. (ب) اختلاف تضاد في الفروع. واختلاف التنوع في الفروع ينقسم إلى أربعة أقسام هي: أولا: أن يكون الحق في كل من القولين مع اختلاف الصور في ذلك وذلك مثل صلاة الخوف بصورها المتعددة (¬1). ثانيا: أن يكون كل من القولين في معنى الأخر مع اختلاف لفظهما وذلك مثل ألفاظ الحدود والتعريفات. ثالثا: أن يكون المعنيان متغايرين ولكن كل قول صحيح مع اختلاف العبارة مثل تفسير القرء بالحيض أو الطهر (¬2). رابعا: أن يكون الخلاف في طريقين مشروعين كلاهما حسن، ولكن الجهل والظلم يحمل على ذم أحدهما دون الآخر وذلك مثل صفة صلاة التراويح (¬3). ¬

_ (¬1) انظر المغني والشرح الكبير/ لابن قدامة (2/ 262 - 269). (¬2) انظر المعجم الوسيط (2/ 729). (¬3) انظر الفقه على المذاهب الأربعة عبد الرحمن الجزيري (1/ 340 - 342).

والخلاف في مثل تلك الصور المتقدمة وأمثالها يجب أن لا يورث عداوة ولا بغضاء، بل هو من اختلاف التنوع الذي فيه رحمة وتيسير على المسلمين في عباداتهم وفي شئون حياتهم العامة (¬1). أما النوع الثاني من أنواع الاختلاف في الفروع: وهو اختلاف التضاد في الفروع، فهذا لا يوجب الكفر أو الخروج من الإسلام ما دام هذا الاختلاف مبنيا على تأويل من دليل يعتقد المخالف صحته، وذلك مثل بعض فرق أهل الكلام (¬2) فلا يجوز تكفيرهم إلا إذا أنكر المخالف حكما شرعيا ثابتا بالتواتر القاطع والإجماع الصحيح، أو خالف بتأويل مجرد عن الدليل (¬3) وإنما لمجرد الظن والهوى فإنه يكفر بمثل هذه المخالفة التي لا تستند إلى دليل وهذا النوع من الخلاف في المسائل الفرعية هو الممنوع وقوعه بين المسلمين، لأن أحد المخالفين لا بد أن يكون مخطئا وضالاً عن طريق الصواب. فاختلاف التضاد في مسائل الفروع، هو أكثر أنواع الاختلاف خطورة حيث يئول بالأمة إلى العداوة والبغضاء بل إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والأعراض، وهذا كله سببه الجهل بأحكام الإسلام وعدم فقهها وفهمها فهما صحيحا، وذلك راجع إلى سوء الطوية عند المخالف كما يفعل بعض المنافقين أو إلى التقليد الأعمى لأهل النفاق والضلال الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ومثل أولئك أهل التأويل الذين يئولون آيات القرآن الكريم والسنة النبوية تأويلات ضالة، بعيدة كل البعد عن منطوق النصوص ومفهومها، وإنما حملهم على ذلك، الهوى وما تعودوه، من أخلاق منحرفة ذميمة، ومفاهيم خاطئة وذلك هو ما حصل لأهل السنة والجماعة ¬

_ (¬1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ابن تيمية ص (38 - 42) وانظر أسباب اختلاف الفقهاء د/ عبد الله التركي ص (30 - 36). (¬2) انظر ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين/ عبد الجليل عيسى (116 - 121). (¬3) المصدر السابق ص (132 - 133).

مع فرق أهل التأويل في مسائل القدر والصفات وفي شأن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفي هذا العصر يقف أهل السنة والجماعة مع أدعياء العلم والمتاجرين في الفتوى موقفا خلافيا شديدا، نظرا إلى أن أكثر المنتسبين إلى العلم يشاركون بتأويلاتهم الضالة والفتيا الكاذبة في إفساد الامة وانحلالها فقد أفتى بعضهم بجواز نزع الحجاب عن المرأة المسلمة، الأمر الذي تبعه تعري النساء وتبرجهن تبرج الجاهلية الأولى، كما أفتى البعض منهم بجواز عمل المرأة مع الرجل الأجنبي في مجالات مختلفة، وقد ترتب على ذلك مفاسد كثيرة لا يعلمها إلا الله كما أباح البعض منهم الاستماع إلى الأغناني الماجنة والصور الخليعة، بتأويلات باطلة، حتى أصبحت هذه المحظورات الشرعية مباحة في نظر كثير ممن يدعي الإسلام. ومخالفة هؤلاء لمذهب أهل السنة والجماعة لا توجب كفرهم في مثل هذه المسائل نظرا إلى أن معظم المخالفين في مثل هذه القضايا إنما خالفوا بناء على تأويل واجتهاد أخطئوا فيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن أهل السنة المتبعين للرسول - صلى الله عليه وسلم - يلتزمون الحق، ويرحمون من خالفهم عن اجتهاد حيث عذره الله ورسوله (¬2). وعلى هذا فالمخالفة المبنية على التكذيب، وهو أن ينفي وجود هذه الأشياء التي ورد الشرع بها بالتواتر القاطع توجب كفر المنكر لها فلو أن إنسانا خالف في وجوب الاتجاه إلى الكعبة في صلاة الفريضة، ورأى جواز الاتجاه إلى أي جهة أخرى، بدون عذر شرعي، فهذا حكمه الكفر لأنه أنكر شيئا ثابتا بالتواتر القاطع، لأن ذلك يتصل بركن من أركان الإسلام وهي ¬

_ (¬1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ابن تيمية ص (38 - 42). (¬2) انظر ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين/ عبد الجليل عيسى ص (120).

الصلاة، وفي مثل هذه الحالة يجوز إطلاق الكفر على من فعل مثل ذلك (¬1) أما إن كان القول أو الفعل الصادر مبنيا على تأويل فاسد مستوحي من دليل ثابت، فإنه ينبغي أن لا يكفر كل فريق خصمه إذا رآه مخطئا في فهم الدليل وإن كان يجوز أن يصفه بالخطأ أو الضلال عن الطريق الذي يراه صوابا (¬2). وحينئذ يعامل المخالف في ذلك معاملة العصاة والفسقة في شأن الموالاة والمعاداة فيحبه على قدر ما معه من الخير ويبغضه على قدر ما معه من الشر ولا يصل في بغضه وعداوته إلى مرتبة بغض الكفار وعداوتهم لأنه لم يخرج بهذا الخلاف من عداد المسلمين. فقد كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالة بعث بها إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، قال فيها: اعلموا وفقكم الله أن المسائل المجمع عليها لا مجال للنزاع فيها، وأما المسائل الاجتهادية فمعلوم أنه لا إنكار على من يسلك الاجتهاد في مسألة من مسائل الاجتهاد (¬3) اهـ. وقال أيضا في رسالة بعث بها إلى أحمد بن يحيى إمام أهل رغبه قال فيها: إن تفضل الله عليك بفهم ومعرفة، فلا تعذر عند الله ولا عند خلقه إلا باتباع الحق، فإن كان الصواب معنا فالواجب عليك الدعوة إلى الله وعداوة من صرح بسب دين الله ورسوله، وإن كان الصواب مع غيرنا أو معنا شيء من الحق وشيء من الباطل فالواجب عليك مذاكرتنا ونصيحتنا وإطلاعنا على الحق، وعلى عبارات أهل العلم لعل الله أن يردنا بك إلى الحق، أما إذا كانت المسألة من مسائل الاختلاف عند الحنفية والشافعية ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص (133). (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) انظر الدرر السنية (ج1/ ص43).

والمالكية والحنابلة فتلك مسألة أخرى لا توجب خلافا، ولا عداوة بين المسلمين (¬1) اهـ., ويقول في موضع آخر نحن لا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي مخالف لمذهب أحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعار، ظاهر كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي والمالكي مثلا بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين لوضوح الدليل على ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار فيها، والفرق بين المسألتين لاختلاف دلالة الدليلين فيهما (¬2) اهـ. لذا فإن مما يجب أن يتنبه إليه كل مسلم أن الاختلاف في مسائل الفروع ومسائل الاجتهاد يقع بين المسلمين ولكن يجب أن لا يحملهم هذا الاختلاف على الفرقة والمقاطعة قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 9، 10]. فلم يقطع سبحانه وتعالى الأخوة بين المسلمين وإن وقع بينهم القتال الذي يستلزم كون أحدهم ظالما والآخر مظلوما (¬3) ولم يقطع الأخوة الإسلامية أيضا بين القاتل والمقتول ظلما مع شدة الوعيد لمن قتل مؤمنا ظلما حيث قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ¬

_ (¬1) انظر الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص (300، 301). (¬2) انظر الدرر السنية (1/ 127). (¬3) انظر الدرر السنية (7/ 40).

وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 178] فسماه أخا له رغم شدة ما بينهما فما دون ذلك أهون وأولى فلا يجوز أن يؤدي الخلاف في مسائل الاجتهاد إلى العداوة والبغضاء والتناحر والكراهية لكل ما هو مع الخصم من حق أو باطل (¬1). إن من أعظم الدسائس الشيطانية على أهل الإسلام الاختلاف والتناحر بينهم على جميع المستويات وهذا هو الحاصل فعلاً في عصرنا الحاضر وذلك يدلنا على أننا واقعون فيما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» (¬2) وهذا الحديث لا يعني الاستسلام للفرقة والرضى بها، وإنما هو من قبيل التنبيه على الخطر الذي يجب أن لا نقع فيه حيث أمرنا الله عز وجل بالاعتصام والاجتماع على الحق قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103]. يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إن الله أمر بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرقة فيه فبين هذا بيانا شافيا كافيا يفهمها العوام قبل غيرهم، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (¬3) اهـ. وقد اختلفت وجهات النظر حول وجوب الانضمام إلى الجماعة المسلمة أو جواز الانفراد عنها على قولين: ¬

_ (¬1) انظر الدرر النسية (7/ 40). (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (4/ 2166) كتاب صفات المنافقين. (¬3) انظر الدرر السنية (1/ 99).

القول الأول: قول جماعة من الصحابة ومن التابعين بأن الانضمام إلى الجماعة المسلمة واجب شرعي، ومفارقتها أمر محرم، لأنه لا إسلام إلا بجماعة كما سبق أن ذكرنا في الأدلة الدالة على الاجتماع وعدم الفرقة ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية» (¬1) وورد من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام»؟ قال: «فاعتزل الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (¬2). وورد في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع والطاعة، والجهاد والهجرة والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (¬3) وروى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب» (¬4)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلاة إلى الصلاة التي قبلها كفارة والجمعة إلى الجمعة التي قبلها كفارة والشهر إلى الشهر الذي قبله كفارة إلا من ثلاث» قال: فعرفنا أنه أمر حدث، إلا من الشرك بالله ونكث الصفقة وترك السنة قال: قلنا يا رسول الله هذا الشكر بالله قد عرفناه فما نكث الصفقة وترك السنة؟ قال: «أما نكث الصفقة فأن تعطي رجلا بيعتك ثم تقاتله بسيفك وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة» (¬5). ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم (3/ 1476) كتاب الإمارة (¬2) انظر فتح الباري (13/ 35) كتاب الفتن (11). (¬3) المصدر السابق (13/ 316) كتاب الاعتصام (19) (¬4) رواه أحمد انظر مسند أحمد (4/ 278). (¬5) رواه أحمد. انظر مسند أحمد (2/ 229) و (506).

وقد خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته المشهورة التي خطبها بالجابية: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد» (¬1). القول الثاني: هو ما ذهب إليه النجدات من الخوارج (¬2) وبعض المعتزلة (¬3) من جواز الفرقة وعدم وجوب الجماعة (¬4) وهذا القول ظاهر البطلان عقلاً وشرعًا وهو مخالف لما أجمع المسلمون عليه في عصورهم المختلفة. وبطلان هذا القول من حيث العقل أن الاجتماع قوة؛ لأن المجتمعين يتقوى بعضهم ببعض ولذلك فإنا نجد حتى من لا دين لهم يلتزمون بذلك ويسعون لتحقيقه بينهم وفي فائدة الاجتماع يقول الشاعر: تأبي الرماح إذا اجتمعن تكسرا ... وإذا افترقن تكسرت آحادا وأما في الشرع فللأدلة السابقة ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حديث طويل «فمن أراد منكم بحجة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد» الحديث (¬5). وحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه» (¬6). ووجوب لزوم الجماعة المسلمة وفائدة ذلك أمر لا يحتاج إلى جدال أو مناقشة فهو كما يقول الشاعر وليس يصح في الأفهام شيء ... إذااحتاج النهار إلى دليل ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (13/ 316). (¬2) انظر الملل والنحل للشهرستاني على هامش الفصل لابن حزم (1/ 167 - 168) وانظر الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 88). (¬3) انظر الفرق بين الفرق للبغدادي (163 - 166). (¬4) انظر الدرر السنية (1/ 104). (¬5) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 173) رقم الحديث (431) (¬6) رواه البخاري ومسلم انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (1/ 245).

فيجب على كل مسلم أن يعمل مع الجماعة المسلمة في بلده ومحيطة وأن يشاركها مشاركة إيجابية بقوله وفعله ويبذل لها ماله ونفسه إذا اقتضى الأمر ذلك، كما يجب على الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي أن تشكل بمجموعها جماعة واحدة متحدة متضامنة فيهما بينها على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن توثق المحبة والمودة فيما بينها، وأن لا تتفرق وتتطاحن ويهدم بعضها ما بناه البعض الآخر عن غفلة أو جهل أو غباء أو حسد ممقوت أو بغض دفين. فإن الفرقة هي أهم ما تطمح إليه نفوس الأعداء، وتسعى جاهدة لتنميته بين المسلمين، وما نال الأعداء منا غايتهم حتى أوقعوا الخلاف بيننا ففضلوا الأتراك المسلمين عن العرب المسلمين والأكراد المسلمين عن إخوانهم من الأجناس الأخرى وهكذا العجم والبربر وبقية الأجناس فأصبح المسلمون شعبًا وقبائل يتناحر بعضهم مع البعض الآخر. يقول الدكتور عبد الله رشوان: يجب علينا أن نتضامن ونتكاتف ونتعاون في تنفيذ ما اتفقنا عليه، قولاً وفعلاً .. وليعذر بعضنا بعضًا فيمًا اختلفنا فيه، والاتفاق تام وواجب في الأصول ولا اختلاف إلا في الفروع وليعلم الدعاة أننا جميعًا، نجتهد لنصرة الدين كل على قدر قدرته ووسع طاقته، فينا من يخطئ وفينا من يصيب، ونرجو من الله أن نكون جميعا من الموفقين (¬1) اهـ، وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران: 106] فقال: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف (¬2) اهـ. وقد ذم الله التفرقة في قوله تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ ¬

_ (¬1) انظر مقالة له في مجلة المجتمع عدد 478 السنة الحادية عشرة في 14/ 6/ 1406 هـ (27). (¬2) انظر الرسائل الشخصية، محمد بن عبد الوهاب (305).

حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 53] والزبر الكتب أي كل فرقة صنفت كتبا أخذت بها دون كتب الآخرين كما هو واقع الحال في العصر الحاضر بين عامة المنتسبين إلى الإسلام، وهذا من أكبر الأخطاء في منهج التربية الإسلامية حيث إن الواجب يقتضي أن نأخذ الحق من مصادره الأصلية كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما وافقهما من أقوال أهل العلم، وأن نرفض الباطل والخطأ من أي شخص كان عدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يقر على خطأ حيث عصمه الله من الزلل. فإن من الواجب على أهل المعرفة والاجتهاد أن لا يكونوا مقلدين لغيرهم بلا فهم وتدبر وإدراك، بل عليهم أن يقارنوا بين الأدلة والأقوال ويستنتجوا القول الوسط الموافق للنص الشرعي، وأن يتسامحوا مع من خالفهم في فهم الدليل إذا كان هذا الخلاف في مسألة فرعية من فروع الشريعة: أما صغار المتعلمين فالأولى أن يختار لهم بعد كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أسلم الكتب وأقومها، وأبعدها عن التعصب لمذهب معين، حتى لا نغرس الحقد والكراهية في نفوس الأبناء لكل من يختلف معنا في مسائل الفروع. وعندما تتكون عند المبتدئين القدرة على الاستنتاج والتحليل ومعرفة الدليل فإن لهم أن يعملوا باجتهادهم وما فهموه من الأدلة الشرعية بشرط أن لا يتعارض الاجتهاد أو الفهم مع النصوص الشرعية من الكتاب والسنة. كما أن الأدب الشرعي أن الإنسان إذا تكلم مع من يختلف معه وجب أن يكون الكلام بحكمة وعلم وعدل، فإن العدل واجب مع كل واحد على كل أحد، والظلم محرم مطلقا، لا يباح بحال من الأحوال، قال تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8]

وهذه الآية نزلت في المسلمين بسبب بغضهم للكفار وهو بغض مأمور به المسلم، فكيف بمن أبغض مسلما بتأويل أو شبهة أو هوى وآذاه على ذلك، ألا يكون هذا مرتكبا لإثم عظيم وذنب كبير (¬1) قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 58]. فلا نكفر أحدا من مدعي الإسلام بذنب دون الشرك، ولا نخرجه من دائرة الإسلام بارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب، ما لم يستبح لنفسه أو لغيره فعل المحرم أو تحريم المباح (¬2). وخلاصة القول في ذلك أن الخلاف في مسألة أصولية يوجب كفر المخالف للحق وعداوته كعداوة الكفار سواء بسواء. أما الخلاف في مسألة فرعية باجتهاد أو تأويل يعتقد المخالف صحته فلا يكفر بذلك، وحينئذ لا تصح معاداته كمعاداة أهل الكفر، بل يوالى على قدر ما معه من الخير ويبغض على قدر ما معه من الشر، ويجوز وصف المخالف في المسائل الفرعية في خلاف التضاد بالخطأ والبعد عن الحق ولكنه لا يوصف بالكفر أو يعادى معاداة الكفار، ما لم يكن هذا الخلاف مبنيا على الهوى والتأويل المجرد من الدليل، فإذا كان بهذا الوصف فإن أول ما يجب على صاحب الحق في حق من خالفه أن ينصحه ويبين له الدليل بيانا شافيا كافيا، بعد أن يوضح له الخطأ فيما ذهب إليه من قول أو فعل أو اعتقاد وإن استمر على خطئه عامله معاملة العصاة والفساق من المسلمين، فيحبه على قدر ما معه من الخير ويبغضه على قدر ما معه من ¬

_ (¬1) انظر ملحق المصنفات محمد بن عبد الوهاب (52، 53) وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 109، 110). (¬2) انظر الدرر السنية (1/ 288).

الشر ولا يحمله الخلاف على القطيعة والهجران كحال من يخالفوننا في مسائل أصولية. هذا فيما يتعلق بخلاف التضاد في المسائل الفرعية، أما اختلاف التنوع في المسائل الفرعية فهو رحمة بالأمة وتيسير عليها ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يحجر على أحد في شيء من ذلك. ومن ذلك نستنتج أن الخلاف في المسائل الفرعية من أعظم أسباب الفرقة بين المسلمين فقد أدى إلى عدم تعاونهم وتناصرهم مع بعضهم، مما مكن لأعداء المسلمين من التغلب عليهم كما يقول الشاعر: الخلافات بالخلافة أودت ... واقتسمنا وسادنا الدخلاء (¬1) ¬

_ (¬1) انظر شعراء الدعوة الإسلامية (2/ 22).

الفصل الثالث: الاعتزال عن الجماعة المسلمة

الفصل الثالث: الاعتزال عن الجماعة المسلمة وتحت هذا الفصل ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الاعتزال بدعوى جواز الاعتزال. المبحث الثاني: اعتزال المؤمنين خوفا من أعداء أهل الإيمان. المبحث الثالث: العلماء بين طريق الجهاد وطريق الاعتزال.

المبحث الأول: الاعتزال بدعوى جواز الاعتزال

المبحث الأول: الاعتزال بدعوى جواز الاعتزال الاعتزال: هو الابتعاد والتنحي (¬1) قال تعالى: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) [الدخان: 21] ويستدل طائفة من الناس من علمائهم وعامتهم على جواز اعتزال أهل الحق والباطل والبعد عن الصراع بينهما بعموم بعض النصوص من الكتاب والسنة متخذين من ذلك ذريعة لهم في ابتعادهم عن الانضمام إلى أهل الحق والجهاد معهم ضد الكافرين المحاربين لله ورسوله والمؤمنين. وجملة النصوص التي يستدل بها أولئك هي ما يلي: 1 - قول الله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]. ¬

_ (¬1) انظر المعجم الوسيط (2/ 605)

2 - قول الله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105]. 3 - قول الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29]. وبما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الواردة في مثل هذا الموضوع وهي كما يلي: 1 - ما روي عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني قال: قلت كيف نصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية تريد؟ قلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال: سألت عنها خبيرا سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا يدان لك به، فعليك خويصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون بمثل عمله» (¬1). 2 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم» قال زيد: ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه انظر سنن ابن ماجه (2/ 478 - 488) وانظر جامع الأصول (10/ 3/ 7453) ورواه الترمذي في التفسير (3060) وقال حديث حسن غريب

تفسير معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - والعلم في رذالتكم أي: إذا كان العلم في الفساق (¬1). 3 - وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (¬2). 4 - ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا؟ وشبك بين أصابعه، قال» قلت يا رسول الله ما تأمرني؟ قال: «عليك بخاصتك، ودع عنك عوامهم» (¬3). 5 - ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه» قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال يتعرض «من البلاء لما لا يطيقه» (¬4). 6 - وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرف لها تستشرفه فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به» (¬5). وقد أجاب القائلون بعدم جواز الاعتزال بإجابات على هذه الأدلة نوجزها فيما يلي: ¬

_ (¬1) المصدر السابق نفسه (2/ 488). (¬2) رواه البخاري انظر فتح الباري (1/ 69). (¬3) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 3/ 26) رقم الحديث (206). (¬4) انظر المصدر السابق (2/ 172) رقم الحديث (613) وانظر: مسند أحمد (5/ 405) وانظر سنن ابن ماجه (2/ 488). (¬5) رواه البخاري انظر صحيح البخاري (9/ 64).

أولاً: إن المقصود بالتهلكة في الآية من سورة البقرة هو ترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله كما روى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم بن عمران عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم صف من المسلمين مثلهم أو أكثر فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله: يلقي بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو قمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية يرد عليه ما قلنا، فكانت التهلكة، الإقامة على الأموال، وإصلاحها وترك الجهاد، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم مجاهدا في سبيل الله» (¬1). ثانيا: إن المقصود بآية المائدة في قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ليس الغرض منها بيان أن المؤمن غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا اهتدى هو بذاته فقط فهذه الآية لا تسقط عن الفرد أو مجموعة من الأفراد التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال، ومحاربة الطغيان فقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنَّ ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (2/ 361، 362) وانظر صور من حياة الصحابة د. عبد الرحمن رأفت الباشا (1/ 131).

الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقاب من عنده (¬1) وهكذا صحح الخليفة الأول رضوان الله عليه ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة. ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق وأثقل في مجتمع يتتبع القاعدون فيه كل عذر يعفيهم من المسئولية فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآيات على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاق الدعوة، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه (¬2). ثالثا: إن المقصود من سورة النساء في قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) هو النهي عن أن يقتل بعض المسلمين بعضا وقد أجمع أهل التفسير على ذلك، وإنما عبر بذلك باعتبار المسلمين كالجسد الواحد والنفس الواحدة، وأن ما يضر الكل يضر الجزء مثل قول الله تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات: 11] فغير متصور أن يعيب الإنسان نفسه ولكنه تعبير يوحي بعظم الرابطة وعظم الوحدة بين المسلمين (¬3). أما الإجابة عن الأحاديث المتقدمة فكما يلي: أولاً: إنها معارضة بآيات من القرآن الكريم وبأحاديث قد ورد معظمها في الصحيحين وذلك فيما يتعلق بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولزوم جماعة المسلمين. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود: انظر سنن أبي داود (4/ 122) رقم الحديث (4338) رواه الترمذي في سننه انظر (4/ 322) ورواه أحمد في مسنده انظر (1/ 2 - 5 - 7) ورواه ابن ماجه في سننه انظر (2/ 484) رقم الحديث (4069). (¬2) انظر في ظلال القرآن سيد قطب (2/ 7/ 63). (¬3) انظر تفسير القرطبي (5/ 156).

ثانيًا: أنه يمكن الجمع بين الأدلة الدالة على جواز الاعتزال وبين أدلة المنع عن الاعتزال بأن الاعتزال يجوز عند توفر أحد الأسباب الآتية: السبب الأول: عدم معرفة صاحب الحق من صاحب الباطل. فيجوز الاعتزال عندما يتعذر على الإنسان المسلم معرفة صاحب الحق من صاحب الباطل، ففي حالة التباس الأمر عليه يجوز له اعتزال المتخاصمين كما فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم فقد اعتزل سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وابن عمر في طائفة أثناء الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهم والسبب في ذلك عدم وضوح الدليل مع أحد الطرفين المتنازعين في نظرهما، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: عندما أمره رجل بالقتال بدعوى أنهم بغاة فقال: لا أدري من هي الفئة الباغية؟ ولو علمنا ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها (¬1) اهـ. أما إن استبان له الحق والصواب فالجمهور متفقون على منع الاعتزال زمن الفتنة لما يترتب على ذلك من خذلان أهل الحق وتقوية أهل الباطل ويستدلون على ذلك بفعل بعض الصحابة رضي الله عنهم الذين اشتركوا في القتال في موقعة الجمل وصفين، وبفعل خزيمة (¬2) بن ثابت رضي الله عنه حيث كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان لا يقاتل فلما قتل عمار قاتل حينئذ وحدث بحديث «يقتل عمارًا الفئة الباغية» (¬3). السبب الثاني: فقدان القدرة القولية أو الفعلية على إظهار الحق وقمع ¬

_ (¬1) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل علي بن أحمد بن حزم (4/ 171). (¬2) هو خزيمة بن ثابت بن ثعلبة الأنصاري يكنى أبا عمارة وهو ذو الشهادتين جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته عن شهادة رجلين شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضر الجمل وصفين مع علي ولم يقاتل حتى قتل عمار وقاتل وقتل سنة (37) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (2/ 114، 115). (¬3) انظر فتح الباري (13/ 42، 43).

الباطل، فيجوز للإنسان الاعتزال إذا لم يكن لديه القدرة القولية أو الفعلية على إظهار الحق وقمع الباطل، وذلك بموجب الأعذار الشرعية، لا بموجب هوى النفس ورغبتها (¬1) قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]. السبب الثالث: إذا تيقن الإنسان أنه ليس له أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجا إلى ذلك. فيجوز للمسلم أن يعتزل مواجهة الكفار وأن يمسك عن محاربتهم حتى تحين الفرصة المناسبة لذلك، كما أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجهاد في مكة حتى صار له شوكة وأنصار بالمدينة، فإذا وجد الأنصار وإن قلوا وجب التناصر بينهم، ولا يصح ترك أحدهم للآخر بلا نصرة أو معونة طلبا للراحة وإيثارا للسلامة لأن ذلك مما يتعارض مع المبادئ العامة لرسالة الإسلام (¬2). ولذلك أجمع الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدة بحيث يغلب على الظن عند أهل الحل والعقد في الأمة، أنهم سيقتلون من غير نكاية في أعدائهم، إذا ما أجمعوا على قتالهم، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس، لأن المصلحة المقابلة لذلك وهي مصلحة حفظ الدين منتفية الحصول في غلبة الظن (¬3). ويقرر عبد العزيز (¬4) بن عبد السلام حرمة الخوض في مثل هذا ¬

_ (¬1) انظر مختصر إغاثة اللهفان (80). (¬2) انظر فتح الباري (13/ 42، 43) وانظر مختصر إغاثة اللهفان (80). (¬3) انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي (77). (¬4) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم بن الحسن المعروف بـ عز الدين بن عبد السلام ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة من الهجرة وسمع الكثير من العلوم ثم علم جمعا كثيرا من طلاب العلم بدمشق وولي خطابتها ثم سافر إلى مصر مهاجرا بسبب إنكاره على حاكم دمشق فأكرمه صاحب مصر وولاه القضاء والخطابة فيها ثم أنكر الشيخ على الحاكم بعض مواقفه فانتزع منه الخطاية والقضاء وسمح له بالتدريس وتوفي الشيخ العز بن عبد السلام في العاشر من جمادي الأولى سنة ستين وست مائة من الهجرة وقد نيف على الثمانين ودفن في سفح المقطم وحضر جنازته السلطان الظاهر وخلق كثير رحمه الله رحمة واسعة وله من المصنفات التفسير واختصار النهاية، والقواعد الكبرى والصغرى، وكتاب الصلاة والفتاوى الموصلية، وغير ذلك انظر البداية والنهاية لابن كثير (13/ 235) وانظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (5/ 249).

الجهاد قائلا: فإذا لم تحصل نكاية وجب الانهزام، لما في الثبوت من فوات النفس، مع شفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت في هذه الحال مفسدة محضة، ليس في طيها مصلحة (¬1) اهـ,. وتقديم مصلحة النفس هنا ليس خاصا بالنفس فقط كما هو الظاهر بل إن ذلك هو مصلحة الدين أيضا، إذ المصلحة الدينية تقتضي في مثل هذه الحال أن تبقى أرواح المسلمين سليمة لكي يتقدموا ويجاهدوا في الميادين المفتوحة الأخرى. حيث إن هلاكهم يعتبر إضرارًا بالدين نفسه، لأن ذلك سوف يفسح المجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدودا أمامهم من السبل ويحتثوا أهل الإسلام من أساسهم، وخلاصة القول في هذه المسألة أنه لا يجوز للمسلم أن يعتزل المسلمين إلا وفق الشروط الخاصة التي تقدم ذكرها وهو وإن اعتزلهم عمليا لا يعتزلهم شعوريا في جميع تلك الحالات بل الواجب أن يكون مع المسلمين ومع أصحاب الحق منهم خاصة ولو بمشاعره فإن القلب لا سلطان لأحد عليه، كما يجب أن يعمل للإسلام في الميادين المفتوحة أمامه ولو سرا إذا كان الجهر بالدعوة والانتساب إليها مما يترتب عليه ضرر بالدعوة وأصحابها. فالإسرار بالدعوة سنة عند الحاجة إلى ذلك فنوح عليه السلام دعا قومه سرا وجهرا قال تعالى: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) [نوح: 9]. ¬

_ (¬1) انظر قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لعز الدين بن عبد السلام (1/ 95).

والرسول - صلى الله عليه وسلم - أقام يدعو بمكة سرا ثلاث سنوات، حتى نزل عليه قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر: 94]. فإذا أمكن الجهر بالدعوة ومنازلة أعداء التوحيد بالقوة وجب الإسراع إلى ذلك عند غلبة الظن في توفر الأسباب وانتفاء الموانع. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يزال هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» (¬1) وفي حديث آخر: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة» (¬2) فالصبر على الابتلاء مع أهل الحق، والاختلاط مع الناس لإبلاغ الدعوة إليهم أولى من العزلة عن ذلك (¬3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم» (¬4). فاللجوء إلى تأييد الظالم وإعلان التخلي والتبرؤ من الجماعة المسلمة ومهاجمتها كوسيلة للإعفاء من الإيذاء والسجن والتعذيب خلاف الأصل فالأصل أن نصبر ونتحمل الأذى ونثبت ولا نتخلى أو نتنكر للطريق الذي ارتضيناه واعتقدنا صحته والجماعة التي اعتقدنا اجتماعها على الحق، لتظل راية الحق مرفوعة يحملها الرجال جيلا بعد جيل، فهذا هو الأصل وإن كان قد يباح لبعض الأفراد والجماعات الصغيرة الذين يشتد بهم الإيذاء بصورة لا يحتملونها أن يلجئوا لمثل هذه التصرفات أو بعضها مع اطمئنان القلب ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي (77). (¬2) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 688) رقم الحديث (963). (¬3) المصدر السابق (1/ 144) رقم الحديث (403). (¬4) انظر الدرر السنية (11/ 86).

بالإيمان وبالالتزام مع الجماعة المسلمة، لكن يكون ذلك استثناء وليس القاعدة للمجموع، فالأصل العزيمة والترخص هو الاستثناء لأن الدعوات تقوم على العزائم وأولي العزم، لا على الرخص والمترخصين (¬1). ففيما عدا هذه الصور المتقدمة لا يجوز الاعتزال كما هو مذهب جمهور العلماء بناء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي على الأمة المسلمة ممثلة في أفرادها كل بحسب قدرته، قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 104] فالآية وردت بصيغة من صيغ الطلب وهي المضارع المقرون بلام الأمر، والأمر للوجوب ما لم توجد قرينة تصرف المعنى إلى ما هو دونه ولا قرينة في الآية من هذا القبيل، فيثبت وجوب العمل بالمطلوب في الآية، فهي إذا في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬2) وقال تعالى مشيرا إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيغة الإفراد (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان: 17]، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142]، وقال تعالى: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) [التوبة: 88] فمن رغب بنفسه عن الجهاد فقد خالفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه ثم بين تعالى نتيجة عدم إنكار المنكر بقوله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى ¬

_ (¬1) انظر مجلة الدعوة المصرية عدد (91) السنة (33) جمادى الأولى (1404) (10) موضوع طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف (7). (¬2) انظر التشريع والفقه في الإسلام لفضيلة الشيخ مناع القطان (59).

لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ) [المائدة: 78، 79]. فمن اعتزل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيه شبه من بني إسرائيل ما لم يكن له عذر شرعي في ذلك، والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا تربو على عشرين آية (¬1). ومن الأحاديث الصحيحة في هذا الموضوع ما روى مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (¬2) وفي مسلم أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون، ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (¬3) وفي حديث آخر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (¬4) وفي حديث أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها» وقال مرة أنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها (¬5). ¬

_ (¬1) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (458، 459). (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (1/ 69)). (¬3) المصدر السابق (1/ 70). (¬4) رواه أبو داود كتاب الملاحم (4/ 514) وابن ماجه في الفتن (2/ 1329) والترمذي في كتاب الفتن (6/ 338/ 1175) وقال حديث حسن غريب وقال عنه الألباني إنه صحيح انظر مشكاة المصابيح (2/ 1094). (¬5) رواه أبو داود في سننه (4/ 124) رقم الحديث (4345) كتاب الملاحم قال في التقريب (إنه صحابي) ورمز السيوطي لصحته انظر جند الله ثقافة وأخلاقا سعيد حوى (183).

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ويأتي في مقدمتها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما أرأيت إن كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره» (¬1). ولهذا قال جمهور أهل العلم بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا واحتجوا بالأدلة المتقدمة آنفا. وقالت طائفة أخرى يجب الإنكار بشرط أن لا يلحق المنكر بلاء، لا قبل له به، من قتل أو تعذيب ونحوه، وحجتهم في ذلك الآيات والأحاديث التي قد يستدل من ظاهرها بجواز الاعتزال كما تقدم. ولحديث أم سلمة رضي الله عنها مرفوعا ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتتابع قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا: ما صلوا (¬2). فدل الحديث على أن الإنسان لا يأثم بمجرد السكوت، وإنما يأثم برضى القلب والمتابعة كما دل الحديث على عدم جواز الخروج على الولاة ما لم يغيروا شيئا من قواعد الدين، فذكر الصلاة على سبيل المثال، لا على سبيل التخصيص (¬3) وقال الطبري وغيره: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن قدر عليه (¬4) اهـ. وقال ابن عطية (¬5): الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وعلم به، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر صاحب المنكر ولا يخالطه (¬6) اهـ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في باب المظالم، انظر فتح الباري (5/ 98). (¬2) رواه مسلم انظر صحيح مسلم (3/ 1480). (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 243، 244) باب الإمارة. (¬4) انظر فتح الباري (13/ 52، 53). (¬5) انظر ترجمته (178) من هذه الرسالة (¬6) تفسير القرطبي (6/ 253).

ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة (¬1) اهـ. ومن الأدلة على أن من أنكر سلم ومن وافق بالرضى والسكوت أثم، ما حصل في غزوة تبوك عندما قال أحد المنافقين ما قال مستهزئا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه فكان معهم اثنان من الصحابة هما مخشي بن حمير وعوف بن مالك رضي الله عنهما على أرجح الروايات في ذلك، فمخشي سمع وسكت، فأنزل الله قول تعالى: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة: 66] فعد من ضمن المنافقين لسكوته ومداهنته إياهم، ثم استثناه الله فعفى عنه تفضلا منه وكرما بعدما كاد أن يدخل في عداد المنحرفين، وهذا دليل على أن الشخص الذي لا يغضب لله ورسوله، ولا ينكر المنكر إذا سمعه أو شاهده أنه على خطر من الدخول مع أصحاب المعصية ومشاركتهم في الإثم والحكم والجزاء إن لم يتداركه الله بعفوه وغفرانه. والصحابي الآخر وهو عوف بن مالك رضي الله عنه فما أن سمع هذا الكلام حتى غضب لله ورسوله وأظهر العداوة لهؤلاء ووصفهم بالنفاق والكذب وقابلهم بهذا الوصف، وأعلمهم أنه سيخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك وذهب فعلا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوجد القرآن قد سبقه بذلك الخبر، فسلم من تبعة تلك المقالة بإنكارها والرد القوي على الباطل وأهله (¬2). وإنكار المنكر لا يلزم من منكره أن يكون سليما من المعاصي معصوما من الخطأ، فإنه يجب الأمر بالمعروف ولو كان الأمر متلبسا ببعض ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية (1/ 30). (¬2) انظر في ذلك تفسير القرطبي (8/ 197، 198) وانظر تيسير العزيز الحميد (557، 558) وانظر مجموعة التوحيد (213).

المعاصي، لأنه في الجملة، يؤجر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا سيما إذا كان مطاعا في قومه أما إثمه الخاص به، فقد يغفره الله له، وقد يؤاخذه به، أما من قال: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من ليست فيه نقيصة من المعاصي، فالجواب أنه إذا أراد بذلك الأولى والأفضل فهو أمر جيد أما إذا أراد بذلك المنع فيلزم من ذلك سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعدم وجود الشخص أو الأشخاص الخالين من المعاصي أو الأخطاء (¬1). والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عمل للنفس في الدنيا والآخرة فالإنسان وإن شعر بأنه لا يناله أذى مباشر من بعض معاصي الناس ومنكراتهم إلا أن الحقيقة أن المعصية إذا وجدت والمنكر إذا حصل ولم يقم الناس بالواجب عليهم في ذلك عمهم الله بآفة العقوبة في الدنيا والآخرة كما حصل لبني إسرائيل قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَت لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) [المائدة: 78 - 80] وقد حذرنا الله عز وجل من ترك أهل المعاصي دون الإنكار والأخذ على يديهم فقال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال: 25] وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» (¬2) ولذلك فإن الأمر بالمعروف ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (13/ 52، 53). (¬2) انظر فتح الباري (5/ 132) كتاب الشركة.

والنهي عن المنكر إصلاح للدنيا والآخرة معا، ومن ذلك يتقرر أن المسلم يجب عليه الانضمام إلى المسلمين والجهاد معهم والميل إليهم ومناصرتهم باليد والمال واللسان، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [التوبة: 16]. فالاعتزال جائز عند توفير الأسباب الثلاثة التي تقدم ذكرها وفيما عدا هذه الصور الثلاث لا يجوز الاعتزال كما هو مذهب جمهور العلماء وهو مقتضى الأدلة الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكثر الناس الذين يلجئون إلى دعوى الاعتزال في هذا العصر لا تنطبق بحقهم الأسباب المبيحة للاعتزال، ولذلك فهم آثمون فيما ذهبوا إليه موالين لأعداء الإسلام متخاذلين في نصرة الحق وأهله وقد توعد الله من خذل مسلما أو تقاعس في نصرته بماورد على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من امرئ يخذل امرءا مسلما عند موطن تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نصرته وما من امرئ ينصر امرءا مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته» (¬1). وروي أيضا أن معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» (¬2). وروي أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أحمد، انظر مسند أحمد (4/ 30). (¬2) رواه البخاري انظر فتح الباري (6/ 632) كتاب المناقب (28). (¬3) رواه البخاري انظر فتح الباري (12/ 323) باب الإكراه: 7.

وروي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجهاد، فمر رجل بغار فيه شيء من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى عن الدنيا فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ولكني بعثت بالحنفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة» (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (¬2). فهذه الأدلة كلها تدل على عدم جواز التخلي عن المسلمين واعتزالهم في مجاهدتهم لأهل الكفر والضلال، وأن من لم يقف مع المسلمين وينحز إلى صفهم ويجاهد معهم عدوهم، وينصرهم عليه بكل ما يملك من قوة فإنه على خطر من خروجه من مسمى الإسلام حيث إن المسلم الحقيقي هو الذي يكون مع المسلمين كالعضو من الجسد كما يقرر ذلك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن يعتزل المسلمين في آلامهم وآمالهم فهو كالعضو البائن من الجسد أو كالعضو الميت من الجسم الحي وحينئذ فإن العضو الموصوف بتلك الصفة يعتبر وجوده كعدمه لعدم مشاركته للجسم في صفة الحياة وما يترتب عليها من تكاليف وواجبات وهكذا شأن من يهتم بنفسه فقط، غير مبالٍ بأمر المسلمين وقد ذكر الله عز وجل أن الاعتزال مناف لشرط الإيمان قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) [الدخان: 21] فمن اعتزل فليس بمصدق ومن آمن بنبي وجب عليه عدم اعتزال دعوته وأهل دعوته كما يفهم مما ذكره الله تعالى عن موسى وقومه. ¬

_ (¬1) انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص (280) (ط1 إدارة الطباعة المنيرية). (¬2) رواه البيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا، انظر كتاب جند الله ثقافة وأخلاقا سعيد حوى ص (141).

وأما المسألة الأصولية في شرع من قبلنا هل يكون شرعا لنا؟ فقال بعضهم إذا أورد النص في شرعنا حكاية عن شرع من قبلنا على جهة الاستدلال والإقرار من غير إنكار، تقرر ضمنا الاستدلال بذلك والعمل بموجبه (¬1). وعلى هذا فإن الذين يرضون أن يكونوا في عزلة عن الأمة في صراعها مع أعدائها ويتخذون السلبية منهجًا وطرقًا للهروب من مواجهة المشاكل والأحداث ليسوا من المؤمنين حقيقة، بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا وإلا لما وقفوا متفرجين في صراع الحق مع الباطل كأن الأمر لا يعنيهم وكأنهم لا شأن لهم بما يجري من أحداث إن هؤلاء الذين يدسون رءوسهم بالتراب طلبا للسلامة لو أخلصوا لله ولدينه، ووالوا أهل الإيمان وعادوا أهل الكفر والعصيان، وواجهوا الحوادث بثبات المؤمن وصبر الموحد لقطعوا الطريق على أهل الباطل، ولما وجدت الفوضى الإلحادية إلى أوطان المسلمين سبيلا. لقد أمر الله بسلوك سبيل المؤمنين وبالاعتصام معهم على الحق، قال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115]. وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]. فقد حث الله على الاعتصام بالحق وهو أقوى من مجرد الاجتماع ثم أكد على ذلك بقوله: جميعا ثم نهى عن الصد وهو التفرق فهذه ثلاثة مؤكدات على وجوب لزوم الجماعة والتماسك معها (¬2)، وقد أمر الله بذلك أمرا صريحا في سورة الكهف فقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ¬

_ (¬1) انظر أسباب اختلاف الفقهاء د/ عبد الله عبد المحسن التركي (125). (¬2) انظر في ظلال القرآن (2/ 4/ 23 - 26).

رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28]. فالآية أمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمته من بعده بلزوم جماعة المسلمين وعدم الخروج عنهم طلبا لزينة الحياة الدنيا وشهواتها المحدودة الفانية، أو إرضاء للغافلين اللاهين عن الآخرة بالدنيا المفرطين بدنياهم وأخراهم لحساب شهواتهم وأهوائهم. فمن اعتزل أهل الإيمان وجماعة المسلمين فقد اتبع غير سبيلهم وافترق عنهم، واستحق الوعيد الشديد على ذلك، لأن ذلك خذلان للمسلمن وقد ورد عن سهل بن حنيف رضي الله عنه مرفوعًا «من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر أن ينصره أذلة الله على رءوس الخلائق يوم القيامة» (¬1). ويمكن أن يحتج البعض بما روي عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خمس صلوات في اليوم والليلة» فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصيام رمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع قال، وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة، قال: هل علي غيرها، قال: لا، إلا أن تطوع قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفلح إن صدق» (¬2). وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ¬

_ (¬1) رواه أحمد انظر مسند أحمد (3/ 487) وانظر كتاب الكبائر للشيخ محمد بن عبد الوهاب (71) طبع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء تحقيق إسماعيل بن محمد الأنصاري. (¬2) رواه البخاري ومسلم انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1/ 2، 3).

دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» (¬1). فالذين يحتجون بهذين الحديثين على جواز الاقتصار على هذه الأعمال دون اللجوء إلى مجاهدة الكفار مع المؤمنين، ودون تحمل تبعة الولاء والعداء في الله، ودون القيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هؤلاء الذين يفهمون هذا الفهم مخطئون في فهمهم لعدة أسباب هي كما يلي: أولا: إن هذين الحديثين لم يذكر فيهما الشهادة والحج وهما من أركان الإسلام فلو اقتصر أحد على العمل بما في ظاهر الحديثين دون هذين الركنين لعد كافرا بالإجماع. ثانيًا: إن هذين الحديثين إنما كانا إجابة لسائل سأل عن أركان الإسلام الفعلية التي كانت مفروضة حين زمن السائل فكانت الإجابة مطابقة لمقتضى الحال عن السؤال. ثالثًا: إن الحديثين لم يتضمنا بنصهما جميع الواجبات وجميع المنهيات وإن كان هذا الأمر قد يدخل في عموم الأمر بعبادة الله والنهي عن الشرك. رابعًا: إن الحديث الثاني وهو حديث أبي هريرة يكون مخصصًا لعموم الحديث الأول ومقيدا لإطلاقه حيث قد تضمن قوله - صلى الله عليه وسلم - «تعبد الله لا تشرك به شيئا» وجوب عبادة الله عز وجل في المسائل المذكورة بالحديث وغيرها من الأوامر والنواهي (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم المصدر السابق (1/ 3). (¬2) انظر فتح الباري (1/ 106 - 108) وانظر (3/ 263 - 265) وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 166 - 169) (173 - 175) وانظر شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/ 357 - 359).

وحينئذ فإن موالاة الله ورسوله والمؤمنين من أهم أصول العبادة لله عز وجل، كما أن محبة الكفار وتوليهم لون من ألوان الشرك قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة: 165]. وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 51]. وعلى هذا فلا صحة لما يتوهمه بعض ضعاف المسلمين من أنه يجوز لهم الاقتصار على بعض الواجبات المذكورة في الحديث الأول دون أن يتحملوا تبعة الموالاة في الله والمعاداة فيه، بالانضمام إلى حزب الله ومحاربة حزب الشيطان لأن الله تعالى يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56] ويقول تعالى: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22] ومن لم يكن في حزب الله فهو في حزب الشيطان، قال تعالى: (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وعلى هذا فليس هناك منزلة وسط بين حزب الله وحزب الشيطان فيجب على الإنسان أن يراجع نفسه إلى أي الحزبين ينتمي قولا وفعلا واعتقادا، فالكيس من دان نفسهه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين، وله من المؤيدين والمناصرين واصرف قلوبنا عن محبة وتأييد ومناصرة أحزاب الشياطين يا أرحم الراحمين إنك حسبنا ونعم الوكيل.

المبحث الثاني: اعتزال المؤمنين خوفا من أعداء أهل الإيمان

المبحث الثاني: اعتزال المؤمنين خوفا من أعداء أهل الإيمان يعلم كثير من الناس أن الحق مع طائفة أو جماعة من المسلمين ولكن الخوف على النفس أو المال أو الأهل يدفع بعض المنتسبين إلى الإسلام إلى اعتزال الجماعة المسلمة، وعدم تأييدها أو الجهاد معها، طلبا للراحة وخوفا من الفتنة والامتحان والابتلاء في طريق الدعوة، ولا شك أن الخوف مما فطرت عليه النفس البشرية ولكن هذا الخوف إما أن يجد مكانه الصحيح والطبيعي، وهو الخوف من الله عز وجل ومن عذابه، فعند ذلك يبادر المسلم إلى فعل الطاعات وترك المحرمات، بدافع الخوف من عذاب الله ورجاء ثوابه وعظيم جزائه، وإما أن ينحرف بتلك الصفة عن مسارها الصحيح فحينئذ يخشى ويخاف من أهل الزعامات الأرضية حتى يقدم الخوف منهم على الخوف من الله لقصر نظره وضعف عقيدته، وهذا النوع من الخوف هو الذي ورد الذم لفاعله في الكتاب والسنة، قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].

وقال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18] فدلت الآيات على أن التخلص من الخوف من غير الله من كمال الإيمان ولذلك مدح الله المؤمنين بعدم الخشية من سواه كما ذم الله عز وجل الذين يدعون الصلاح والإصلاح في وقت الرخاء والسعة، فإذا حانت ساعة الشدة والبأس، وبلغت القلوب الحناجر تنصلوا من الإسلام ومن المسلمين وأنكروا الانتماء إليهم خوفا على أنفسهم وأموالهم وحظوظهم من الدنيا الفانية، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ) [العنكبوت: 10] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الخوف من عبودية القلب لله تعالى فلا يصلح الخوف إلا من الله تعالى، فهو كالذل والمحبة والتوكل، والرجاء وغير ذلك من أنواع عبودية القلب (¬1) اهـ. فالخوف الذي يجعل الإنسان يترك ما يجب عليه من الدعوة والجهاد ومناصرة المؤمنين بالقول والفعل، خوفا من بعض الناس هو نوع من أنواع الشرك المنافي لكمال التوحيد (¬2). وفي الآية المتقدمة رد على المرجئة، والكرامية ومن حذا حذوهم من المتأخرين الذين يقولون إن من آثر الخوف فترك الجهاد، واعتزل الفئة المؤمنة، ولم يجاهد معها فإنه لا يترتب على عمله هذا كفر (¬3) بناء على أصلهم أن الإيمان هو مجرد التصديق ويستدل البهنساوي على ذلك بقوله: ¬

_ (¬1) انظر الجامع الفريد (142). (¬2) انظر فتح المجيد (344). (¬3) انظر المصدر السابق نفس المكان، وانظر الحكم وقضية تكفير المسلم (55 سالم البهنساوي).

تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) [الأنفال: 72] فيذكر أن القرآن أقر لهم بوصف الإيمان مع أنهم تركوا الهجرة خائفين ولم ينضموا إلى المسلمين بالمدينة وكتوضيح لهذا الكلام نقول: أولا: إن الذين لم يهاجروا إلى المدينة لم يكن الخوف هو السبب في إقامتهم بمكة، وأنهم رغبوا بأنفسهم عن الاشتراك مع المسلمين لهذا السبب بدليل أن عامة كتب التفسير لم تذكر هذا السبب الذي جعله علة لإقامتهم (¬1). ثانيا: إن الذين أقاموا بمكة من المستضعفين الذين عذرهم الله بالإقامة حيث إن الاستضعاف نوع من الإكراه (¬2) بخلاف الخوف (¬3) فإنه مغاير للاستضعاف فالإكراه هو إلزام شخص بما لا يريده، والخوف، هو ترك ما يريده الشخص خوفا مما لا يريده شخص آخر، فالإكراه شيء حاصل على الإنسان وواقع عليه، والخوف صادر منه في شيء لم يحصل له بعد، وقد دل القرآن الكريم على أن غير المستضعفين لم يعذروا بالإقامة بمكة بل أخبر تعالى بوجوب الهجرة عليهم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (8/ 56) وانظر تفسير الطبري (10/ 36 - 40) وانظر زاد المسير (3/ 38) وانظر مختصر تفسير ابن كثير للصابوني (2/ 121) وانظر في ظلال القرآن (4/ 72) وانظر تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس (3/ 11). (¬2) انظر المعجم الوسيط (1/ 542) وانظر فتح الباري (12/ 311). (¬3) انظر المعجم الوسيط (1/ 261).

يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97 - 99]. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في قنوته اللهم نج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنينا كسني يوسف (¬1). ثالثا: وردت الأحاديث بذم من سكن مع المشركين وهو ليس من الضعفاء المعذورين، ولم يستطع إظهار دينه بينهم، ومعلوم أن الكفار بمكة كانوا محاربين لكل مسلم غير مجيزين إظهار الإسلام لديهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم (¬2)». وقال عليه الصلاة والسلام: «إني بريء من كل مسلم مع مشرك» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا لا تراءى نارهما» (¬3) وقال عليه الصلاة والسلام: «أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين» (¬4) فالخوف ليس عذرا في ترك الدعوة واعتزال الجماعة، فمن منا لا يخاف على نفسه وماله وأهله وعرضه؟ ولو كان مثل هذا الخوف يبيح ترك الدعوة واعتزال الجماعة لما نهض أحد بتكاليف الإسلام وقام بحق هذا الدين. إن من يترك العمل للإسلام مع الجماعة الإسلامية بدون عذر شرعي ¬

_ (¬1) انظر الفتاوى ابن تيمية (35، 36). (¬2) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 411). (¬3) رواه النسائي انظر سنن النسائي (8/ 36) وقال الألباني: حديث حسن. انظر: صحيح الجامع الصغير (2/ 17/ 1474). (¬4) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/ 230) رقم الحديث (636).

وإنما خوف من نقص يصيبه في نفسه أو أهله أو ماله فإنه مرتكب لإثم عظيم وذنب كبير وتلك هي أعذار المنافقين قال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [الفتح: 11] وهذا هو النفاق المحض (¬1) مع أن مقتضى الإيمان الصحيح أن لا يخشوا أحدا غير الله، ولذلك قال في آخر الآية المتقدمة (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) فالذين يعتزلون شعائر الإسلام والجماعة المسلمة، خوفا وتحسبا لنقص يصيبهم في أنفسهم أو أموالهم أو أهليهم، فهم مفضلون للدنيا على الآخرة وهم حينئذ داخلون تحت قول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) [النحل: 107]. وقوله: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) [إبراهيم: 3] فلو كان هناك طريق للجهاد لا يخسر فيه الإنسان قطرة من دمه ولا درهما من ماله، ولا يفارق فيه أهلا ولا ولدا، لتسابق إليه المنافقون، ولما تحمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبعة التضحية بالمال والنفس والأهل في سبيل الله مع وجود ما يقوم مقام ذلك، فإذا كان التخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة واحدة موجب لوصف هؤلاء المتخلفين بالنفاق كما في قوله تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة: 81، 82] فإذا كان هؤلاء سينالهم العذاب بتخلفهم عن معركة واحدة فما ظنك بمن يقف موقف المتفرج في صراع الحق مع الباطل بصفة ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (16/ 268).

مستمرة، إيثارا للسلامة، وطلبا للراحة، واستصغار للدعوة وأصحابها، ألا يكون هذا أعظم إثما ممن تخلف عن معركة واحدة. ألا يكون موقف هذا المعتزل للدعوة والدعاة يوحي بعدم اكتراثه واهتمامه بالإسلام والمسلمين؟ إن الخوف من أهم الأسباب التي تقعد بضعاف الإيمان عن الموالاة في الله والمعاداة فيه. إن الذين يعيشون لبطونهم وفروجهم، أخوف ما يخافون على حظوظهم الدنيوية، ولذلك تراهم يضحون بالإسلام والمسلمين، من أجل ذلك، فيدفعهم الخوف والجبن إلى تملق كل صاحب سلطة، ومجاراة كل طاغية، وإلى تحريف الكلم عن مواضعه طلبا لرضا ذوي السلطان، وأقل هؤلاء درجة من يلوذون بالصمت، في أشد المواقف حاجة إلى كلمة الحق عند السلطان الجائر. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: «إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره» (¬1) وهذا يدل على أن إيثار رضا المخلوق بما يجلب له سخط خالقه، نوع من الشرك، لأنه قدم رضا المخلوق على رضا الخالق عز وجل، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» رواه ابن حبان في صحيحه (¬2). فالواجب على المسلم إذا عرف الحق أن يتبعه وأن يقول به دون ¬

_ (¬1) الجامع الفريد ص (144). (¬2) المصدر السابق ص (145).

خوف من أحد، أو مجاملة لأحد، لأن هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والساكت عن الحق شيطان أخرس فكيف ينزل الخوف من الناس منزلة أعظم من منزلة الخوف من الله؟ إن هذا الأمر لا يجوز سواء في حق الفرد أو الجماعة المسلمة لأن المسلم إذا عرف الحق يجب عليه أن يتوكل على الله في الدعوة إليه وبيانه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64] وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3] وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له (¬1): (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]. أما إذا قصد الإنسان بأعماله الدنيا خاصة، فطبيعي أن يخشى على فراقها ويضحي بكل شيء في سبيل بقائها حتى ينسلخ من عقيدته وهذا لون من ألوان الشرك، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15]. وعلى هذا فإن الخوف من غير الله الذي يجعل الإنسان يترك ما أوجب الله عليه من الواجبات الشرعية، هو نوع من أنواع الشرك يجب على المسلم الابتعاد عنه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري والنسائي انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (356، 357) وانظر مجموعة التوحيد (200، 201). (¬2) انظر الفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، عبد الرحمن بن حسن (344).

قال تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]. وقد يقول قائل لماذا إذًا نرى بعض العلماء والمفكرين يتغاضون عن كثير من المنكرات والمحرمات في بلادهم ويتجاهلون وجودها؟ ألا يعني ذلك خوفهم من صاحب السلطان وبطشه؟ والجواب على ذلك في رأيي أنه ليس كل من رأى منكرا وسكت عنه يكون راضيا به أو خائفا من أن ينكره، ولكن قد يكون الإنكار في بعض الأحوال ليس هو الأصلح للدعوة والدعاة إلى الله وإن كان الإنكار بصفة عامة أمرا صالحا، وذلك راجع إلى طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه المسلم فقد يعيش المسلم في مجتمع ملتزم بالإسلام وفي هذه الحال يكفي أن يجهر بإنكار المنكر فيجد من السلطة والمجتمع العون الكامل لتغيير هذا المنكر وإزالته، وقد يكون المسلم في مجتمع أفراده مسلمون وسلطته كافرة، وفي هذا الحال يتوجه بالإنكار والدعوة إلى المجتمع لأن السلطة ليست مستعدة للاستجابة إلا بمنطق القوة، والقوة ليست متوفرة بأيدي الدعاة في كل الظروف. وقد يكون المسلم في مجتمع كافر، بدولته وأفراده وفي مثل هذه الحال ليس من الحكمة الوقوف في وجه المجتمع كله وهو قطرة في بحر. ففي مثل هذه الحال يلجأ إلى الدعوة الخاصة عن طريق الاتصال بالأفراد وربما بسرية تامة كما فعل نوح عليه السلام مع قومه وكما فعل نبينا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في مكة حيث أمضى ثلاث سنوات يدعو الناس سرًا وتلك الأساليب في الدعوة هي من الحكمة التي أمرنا الله بها في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ

أَحْسَنُ) [النحل: 125] وقال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) [البقرة: 269] وبناء على ذلك فإن من يسلك إحدى هذه السبل مع مجتمعه الذي يعيش فيه لا يعتبر من المنقطعين عن الدعوة ولا يوصف بالخوف أو الجبن في تجاهله لبعض المنكرات، لأنه ينظر إلى الأمور بحكمة وروية تختلف عن نظرة أهل الضحالة في العلم والتفكير الذين يقعد بهم الخوف عن العمل للإسلام في كل الميادين، أو الذين يندفعون بلا حكمة ورؤية في محاربة قشور الباطل وأغصانه ناسين أو متناسين العمل الجاد لاقتلاع جذور الباطل واجتثاث أصوله من أعماقها، فالباطل كالشجرة التي كلما قطع منها غصن خرج بدل منه ولا يزول الباطل إلا باقتلاع أصله قال تعالى: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 26، 27] ولذلك يجب أن نميز بين من يعمل لله بحكمة ومن يترك العمل لله خوفا من الناس.

المبحث الثالث: العلماء بين طريق الجهاد وطريق الاعتزال

المبحث الثالث: العلماء بين طريق الجهاد وطريق الاعتزال إن مما لا شك فيه أن العلماء هم ورثة الأنبياء وهم الأتقى لله قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]. ولو وجد هؤلاء العلماء أن طريق الاعتزال يقودهم إلى بر الأمان في الدنيا والآخرة لسلكوه ودعوا الناس إليه، لأنهم هم الأعرف بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهم أقدر على استنباط الأحكام ومعرفتها كما قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] فلو استنبط العلماء جواز الاعتزال عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتخلي عن جماعة المسلمين والاكتفاء بإصلاح النفس وتأدية الشعائر التعبدية المتعلقة بذات الفرد لما وقف العلماء تلك المواقف التي جعلتهم يقدمون أنفسهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله.

لقد كان بإمكان أولئك المجاهدين أن يلجئوا إلى الآيات والأحاديث التي قد يستوحى من ظاهرها جواز العزلة عن الصراع بين الحق والباطل، فيفسروا تلك النصوص على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه المضنية ويريحهم من سياط المتسلطين ومعتقلات الطغاة المجرمين ولكنهم أدركوا أن هذا الطريق الذي سلكوه هو الطريق الصحيح، فمشوا فيه مستهينين ومستصغرين وصابرين على جميع العقبات التي تواجههم فيه حيث إن ذلك الطريق هو طريق الجهاد الموصل إلى مرضاة الله وجنته يقول أحد هؤلاء المجاهدين: وسبيل دعوتنا الجهاد، وإنه ... إن ضاع ضاعت حرمة الأوطان والموت أمنية الدعاة، فهل ترى ... ركنا يعاب بهذه الأركان؟ (¬1). وسنعرض في هذا المبحث نماذج حية لرجال عمر الإيمان قلوبهم فلم يأبهوا بجاه أو سلطان، ولم يرضخوا لجبروت أو طغيان، بل لقد كافحوا الطغيان في أوج قوته وبطشه وقهروا الجبروت في عنفوانه وتطاوله ولم يكن لهم من سلاح سوى سلاح الإيمان الذي يعلو به المؤمن فوق كل سلاح لقد كان بإمكان هؤلاء جميعا أن يعيشوا مع أممهم وحكامهم بغير هذا الأسلوب وغير هذا الطريق، لو أنهم أرادوا العيش الرغيد والمتاع الزهيد الذي يتكالب عليه علماء السوء وسماسرة الطغاة، ولكنهم كانوا أكبر من أن تفتنهم الدنيا أو تقعد بهم الشهوات والشبهات، ومواقف العلماء في ذلك أكثر من أن تحصر ولكن حسبنا أن نذكر بعض الصور للذكرى إن الذكرى تنفع المؤمنين فمن هذه المواقف ما يلي: أولا موقف سعيد بن جبير (¬2) مع الحجاج: كان سعيد بن جبير رحمه الله معروفا بشدة الورع والتقوى قد أوتي ¬

_ (¬1) انظر شعراء الدعوة الإسلامية أحمد الجدع وحسني جرار (5/ 7). (¬2) هو سعيد بن جبير الأسدي الوالبي من أكابر أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما كان من أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم وكثرة العمل الصالح مات رحمه الله سنة (95 هـ)، وله من العمر (74) سنة انظر البداية والنهاية لابن كثير (9/ 98، 99) وانظر الإسلام بين العلماء والحكام للبدري (138 - 143).

لسانا ناطقا بالحق، وقلبا حافظا للعلم، وسرعة بديهة بإلقاء الحجة القوية في وجه الخصم، وكان الحجاج معروفا بالفسق والتعدي على حرمات الناس في أنفسهم وأموالهم، فخاف من وجود سعيد بن جبير بين الرعية نظرا لحبها له وثقتها به فقرر التخلص منه بالترغيب والترهيب. فقد حمل سعيد بن جبير إلى الحجاج ولما دخل عليه سأله الحجاج عدة أسئلة كلها سخرية وتبكيت واستهزاء فرد عليه سعيد ردًا مفحمًا. ثم أمر الحجاج بطبق مملوء باللؤلؤ والزبرجد، والياقوت فجمعه بين يده لعل ذلك يغري سعيد بن جبير فيكون ثمنا لصمته وسكوته، ولكن سعيدا أدرك الهدف من ذلك وقال للحجاج: إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ولا خير في شيء للدنيا إلا ما طاب وزكا (¬1). فلم ينفع الحجاج هذا الإغراء بالمال والذهب، فليس ابن جبير من عباد المال، ولا من الذين يبيعون دينهم بدنياهم، ولذلك ضاق الحجاج ذرعا بسعيد فقال له: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟ فقال سعيد: اختر أنت لنفسك فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، فقال: أتريد أن أعفو عنك؟ فقال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر. فأمر به الحجاج فذبح من الوريد إلى الوريد ولسانه رطب بذكر الله (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الإسلام بين العلماء والحكام (141). (¬2) انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 112) وانظر الإسلام بين العلماء والحكام عبد العزيز البدري (138 - 143).

وقد قيل للحسن البصري رحمه الله: إن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير فقال: اللهم أنت على فاسق ثقيف، والله لو أن من بين المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عز وجل في النار (¬1) اهـ. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه (¬2) اهـ. ثانيًا: عندما قام المأمون بتأييد المعتزلة ضد أهل السنة والجماعة في مسألة القول بخلق القرآن، وقف الإمام أحمد رحمه الله ناصر السنة وهازم البدعة كالطود الشامخ لم يرهبه تهديد أو يرغبه إغراء ووعيد، حتى لقد أشفق عليه بعض تلاميذه وأقربائه، فقد جاءه عمه إسحاق فقال: يا أبا عبد الله قد أجاب أصحابك، وقد أعذرت فيما بينك وبين الله، وبقيت أنت في الحبس والضيق، فقال: يا عم إذا أجاب العالم تقية والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟ (¬3) اهـ. ثالثًا: عندما سجن الإمام أبو حنيفة رحمه الله بعد أن ضرب بأمر أبي جعفر المنصور، زارته أمه في السجن فقالت له: يا نعمان إن علما ما أفادك غير الضرب والحبس لحقيق بك أن تنفر عنه فأجابها: يا أمه لو أردت الدنيا لوصلت إليها، ولكني أردت أن يعلم الله أني صنت العلم ولم أعرض نفسي فيه للهلكة (¬4). رابعًا: إن الجهاد والتعرض للاستشهاد أعظم أجرا وأنفع للمسلمين من الذين يخفون رءوسهم في التراب رغم رؤيتهم للمنكرات ظانين أن قيامهم ببعض شعائر الإسلام التي لا تكلفهم شيئا من أنفسهم وأموالهم كافية في حملهم إلى مراتب الشهداء والصالحين والمجاهدين في سبيل الله. ¬

_ (¬1) المصدر السابق نفس المكان. (¬2) المصدر السابق نفس المكان. (¬3) انظر الإسلام بين العلماء والحكام للبدري (165 - 166). (¬4) انظر المصدر السابق رقم الصفحة (221).

ومع أن الحق خلاف ما توهموه، حيث إن الواجب هو الجمع بين تأدية شعائر التعبد، مع الجهاد مع الجماعة المسلمة لنصرة هذا الدين بالقول والفعل، وهذا ما فهمه العالم المجاهد عبد الله بن المبارك (¬1) رحمه الله حيث كان يحج سنة ويجاهد أخرى حتى توفي وهو في درب الجهاد، وكان هذا العالم الجليل صديقا للفضيل بن عياض (¬2) وكان الفضيل منقطعا للعبادة في أشرف مكان وهو المسجد الحرام، فكتب عبد الله بن المبارك رسالة وقصيدة إلى أخيه الفضيل بن عياض يقول في بعض أبياتها: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب (¬3) لقد كتب ابن المبارك هذا الكلام في وقت لم يكن الجهاد فيه فرض عين كما هو الحال حيث يستبيح اليهود والنصارى والشيوعيون معظم البلاد الإسلامية، وقد وصف ابن المبارك انقطاع صديقه لنوافل العبادات بأنها لعب وهي عبادة تقع في أشرف بقعة على هذه الأرض، ترى ماذا يقول ابن المبارك عن أدعياء العلم الذين يفتون بمصالحة اليهود على مقدسات المسلمين والذين يركعون تحت أقدام الطغاة المستبدين؟ رحم الله العلماء العامملين الذين لا يبررون أخطاءهم وأخطاء حكام السوء في عصرهم بمبررات واهية، تبيح لهم ترك الجهاد، وتبرر للطغاة المجرمين البطش والتنكيل بأهل الحق والرشاد. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته ص (251) من هذه الرسالة. (¬2) انظر ترجمته ص (144) من هذه الرسالة. (¬3) انظر الإسلام بين العلماء والحكام للبدري ص (229)، وانظر تذكرة الدعاة لبهي الهولي ص (212)

خامسا: إن في موقف العز بن عبد السلام من الملك الصالح أيوب صاحب مصر درسا لمن لا يخشى إلا الله تعالى فقد استضاف الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الملقب بالعز بن عبد السلام الملك الصالح أيوب حيث نزل الشيخ ضيفا عنده في مصر بعد أن طرد الشيخ من الشام، وفي يوم من الأيام كان الملك أيوب في محفل من المحافل، قد أحاط به الأمراء والحكام ورجال الجيش وسراة الحاشية، وأقبل الناس عليه يقبلون يديه ويحنون له الهامات ويطأطئون له الرءوس في موكب يشعر بالذلة والخضوع لغير الله فخرج العز بن عبد السلام يشق الصفوف المتراصة ويفري الجموع المحتشدة ليهتف في وجه الملك في قوة المؤمن وعزم الموحد لم تباع الخمور في عهدك وأنت ساه لاه في هذه الأبهة وهذا النعيم؟ وما كان للسلطان إلا أن يعتذر في رفق، ويجيب في لين أنا ما علمت بهذا .. لعله من زمان أبي فيعيد العز بن عبد السلام قولته أشد مضاء من سابقتها فيقول: ما زدت عن كونك من الذين يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف: 23] فيأمر السلطان بإغلاق تلك الخمارة فيسأل الشيخ رجل من خاصته ممن أدهشتهم جرأة الشيخ في الحق أمام هذه الجموع فيقول: أما خفته؟ فقال الشيخ: والله يا بني .. لقد استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط الصغير (¬1). سادسا: موقف الشيخ ابن تيمية رحمه الله وهو في السجن حيث كتب إليه بعض إخوانه يشيرون عليه بالموافقة والمجاراة والمداهنة لخصومه ليتخلص من السجن فقال في رسالة رد بها عليهم قوله: أما بعد فقد وصلت الورقة التي ذكر فيها الشيخان الناسكان، ما ذكرا، جعلهما الله من الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، وعلموا أن الله ناصر حزبه ومنجز وعده، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن، ولكن بما اقتضت. ¬

_ (¬1) انظر الإيمان وأثره في نهضة الشعوب، يوسف العظم (59 - 62).

حكمته ومضت به سنته، من الابتلاء والامتحان الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان (¬1). قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1 - 3]. سابعا: من المواقف العلماء الذين اختاروا طريق الجهاد والدعوة إلى الله على طريق العزلة والاعتزال، موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وذلك أنه ثار في وجه الشرك والمشركين غير مبال بما يلاقيه في سبيل الله، وبعد أن شاع أمر الدعوة وأصبحت خطرا يهدد أهل الفسق والفجور، تآمر عليه بعض الفسقة وسطوا على بيته ليلا لاغتياله، فعلم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا، فلم يطمئن الشيخ بعد هذه الحادثة إلى المقام في حريملاء، فانتقل منها إلى العيينة وتلقاه أميرها ابن معمر بالقبول والمناصرة في أول الأمر ولكنه كان واليا من قبل ابن عرير حاكم الأحساء، وقد وشى بعض دعاة السوء وجهل الضلال بالشيخ إلى ابن عرير فكتب إلى ابن معمر خطابا يأمره فيه بطرد الشيخ من بلده فما كان من ابن معمر إلا أن ينفذ أمر سيده، ومنها انتقل الشيخ إلى الدرعية حيث كتب الله له النصر بالتعاون مع الإمام محمد بن سعود (¬2). ثامنا: من مشاركة العلماء في قضايا أمتهم وجهادهم الذي يستعلي على الإغراءات المادية ما حصل من جمال الدين الأفغاني (¬3) مع سلطان ¬

_ (¬1) انظر العقيدة والآداب الإسلامية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (325 - 329). (¬2) هو الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن من قبيلة عنزة تولى حكم الدرعية سنة (1139) وبعد توليه بتسعة عشر عاما التقى بالشيخ محمد بن عبد الوهاب وتعاونا معا في مجاهدة أهل الشرك والضلال إحدى وعشرين سنة حتى توفي الإمام سنة (1179) بعد إمارة دامت أربعين سنة انظر عنوان المجد في تاريخ نجد عثمان بن بشر (63). (¬3) هو جمال الدين الأفغاني من أشهر أعلام الإسلام في القرن التاسع عشر الميلادي القرن الثالث عشر الهجري ولد في أسعد آباد على مقربة من كنار من أعمال كابل في أفغانستان عام 1254 هـ الموافق (1838) من أسرة حنفية المذهب درس العلوم الإسلامية في صباه ثم انصرف وهو في الثانية عشرة من عمره إلى دراسة الفلسفة وقام بعدة جولات في العالم الإسلامي والعالم كله، وهو يجمع بين الكتابة والخطابة والصحافة والسياسة، كان من أكبر الدعاة إلى فكرة الجامعة الإسلامية وأنشأ في فرنسا مجلة العروة الوثقى بالاشتراك مع تلميذه محمد عبده وتوفي جمال الدين الأفغاني عام (1897) انظر دائرة المعارف الإسلامية (7/ 95، 100) وانظر الموسوعة الحركية فتحي يكن (1/ 21 - 26).

تركيا حيث أراد السلطان عبد الحميد أن يشتري صمته فمنحه رتبة قاض عسكري وهي وظيفة يسيل لها لعاب كثير من أصحاب المناصب والشهوات بما تقتضيه من رواتب وحلل زاهية ومركز مرموق في نظر عبدة الدرهم والدينار، ولكن جمال الدين الأفغاني لم يكن من هذا النوع فعندما جاء رجال السلطان يتسابقون إليه بهذه البشرى قال لهم: قولوا لمولاكم السلطان: إن جمال الدين الأفغاني يرى رتبة العلم هي أعلى رتبة ثم قولوا له: إنني لا أستطيع أن أكون مثل البغل المزركش (¬1). وفي موقفه الثاني درس للذين لا يهتمون إلا بمصلحتهم الخاصة وراحتهم النفسية ولو كان ذلك على حساب الإسلام والمسلمين فقد هبط إلى مطار تركيا منفيا من إيران فسأله أحد مستقبليه عن حقائب متاعه فقال: أما صندوق الكتب فها هنا، مشيرا إلى صدره، وأما صندوق الثياب فهذه مشيرا إلى الجبة التي يرتديها ثم قال: كنت في أول عهدي بالنفي أستصحب جبة ثانية وسراويل ولكن لما توالى النفي صرت أستثقل الجبة الثانية، فآثرت ترك التي علي إلى أن تخلق فأستبدلها بغيرها (¬2). تاسعا: يقول الشيخ عمر التلمساني رئيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر: إنني في كل ما أسعى إليه أبتغي مصلحة الدعوة الإسلامية. ¬

_ (¬1) انظر الإيمان وأثره في نهضة الشعوب يوسف العظم (65، 66). (¬2) انظر المصدر السابق.

وليست لي مصلحة خاصة، فأنا لا أطمع أن أكون وزيرا أو مديرا وقد بلغت من العمر ستة وسبعين عاما فماذا انتظر بعد ذلك؟ ولولا أنها بيعة لله تتطلب وفاء وتضحية في سبيله، لاعتزلت العمل في ذلك ولكني أريد أن ألقى الله عز وجل ببيعي وليكن ما يكون (¬1). ولم يمنع رئيس دولة العلم والإيمان، كما يدعي زورا وبهتانا، من أن يعتقل هذا الشيخ المسن الذي بلغ من العمر سبعة وسبعين عاما بغيرذنب سوى أن يقول ربي الله في الوقت الذي يكتفي فيه السادات بتجريد صوري للبابا شنودة من منصب لا يملك فيه حلاً ولا عقدًا (¬2). لقد كان بإمكان هؤلاء العلماء المجاهدين، أن يتحولوا إلى علماء انعزاليين ووعاظ مسكنة، يقرءون أفكار الحكام ورغباتهم قبل أن ينطقوا بها فيصدروا لهم الفتاوى المعلبة الجاهزة ويلوون أعناق النصوص ويتكلفون في التأويل البعيد عن مدلول النص ومفهومه، ويستدلون بالضعيف من الأدلة كي يكسبوا مقعدا وثيرا بجانب حاكم ظالم، ويقبضوا مالا وفيرا ولو كان هذا المال قد سلب من عرق الكادحين، وقوت الضعفاء والمساكين ولكن العلماء العاملين أدركوا بما فتح الله عليهم من علم نافع وفهم ثاقب وهداية في القول والعمل أن الجهاد في سبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته وجنته، وأن الجهاد يكون بالحسنى تارة عندما يكون الضالون أفرادا يحتاجون إلى الإرشاد والتقويم، وتنوير الأفهام وإيضاح الطريق المستقيم، ويكون تارة بالقوة حين تملك الفئة الباغية قوة تقف بها في طريق الناس لتصدهم عن الحق والهدى وتعطل بقوتها تنفيذ شريعة الله (¬3). فهل يبقى لدعاة الاعتزال مستمسك بعد هذا التوضيح والبيان؟ ¬

_ (¬1) المجتمع الكويتية عدد 476 السنة الحادية عشرة في 29/ 5/ 1400 ص (25). (¬2) انظر المجتمع الكويتية عدد (5422) السنة الحادية عشرة في (9/ 11/ 1401) هـ ص (18) وانظر صحيفة الأنباء العدد (2050) السنة السادسة في (8/ 11/ 1401) ص (1/ 19). (¬3) انظر هذا المعنى في ظلال القرآن سيد قطب (7/ 63).

الفصل الرابع: دعوى الإكراه في عدم الموالاة في الله والمعاداة فيه

الفصل الرابع: دعوى الإكراه في عدم الموالاة في الله والمعاداة فيه الإكراه هو حمل الإنسان على ما لا يرضاه من القول أو الفعل بحيث لو خلي ونفسه لما باشر ذلك القول أو الفعل (¬1). والذين يدعون الإكراه في عدم موالاة المسلمين، أو معاداة الكافرين يلجئون إلى الاعتذار والاحتجاج ببعض النصوص من الكتاب والسنة. فمن الكتاب قول الله تعالى: 1 - (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28]. 2 - قول الله تعالى: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: 106]. ¬

_ (¬1) انظر أصول الفقه، محمد الخضري بك ص (106).

3 - قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ) إلى قوله: (عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97، 99]. 4 - (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) [النساء: 75]. ومن السنة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: 5 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬1). فدل الحديث بعمومه على عدم مؤاخذة المكره فيما أكره عليه من قول أو فعل، وتلك جملة أدلة الذين يدعون الإكراه في عدم موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين حيث يقولون إن الله عذر المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به لولا استضعافهم والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به من قبل الكفار وأشباههم (¬2). والرد على دعوى من يعممون الإكراه في كل قول أو فعل يرتكبونه أن نناقش تلك الأدلة واحدًا بعد الآخر حتى يتضح المفهوم الصحيح للإكراه ونوع ما يجوز الإكراه فيه، وما لا يجوز فيه الإكراه فنقول وبالله التوفيق: أولاً: إن المراد بقول الله تعالى: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي إلا أن تخافوا منهم خوفا جازما، فلا بأس حينئذ بإظهار مودتهم باللسان تقية ومداراة ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه انظر سنن ابن ماجه (1/ 630) رقم الحديث (2070). (¬2) انظر فتح الباري (12/ 311).

لهم ودفعا لشرهم وأذاهم، مع طمأنينة القلب إلى بغضهم وعداوتهم (¬1). وقد اختلف أهل العلم في جواز التقية (¬2) مع الكفار: 1 - فقال معاذ بن جبل (¬3) ومجاهد رضي الله عنهما: كانت التقية قبل قوة الإسلام، أما اليوم فقد أعز الله الإسلام وأعز المسلمين أن يتقوا من عدوهم (¬4). 2 - قال الحسن البصري رحمه الله: التقية جائزة للمسلم إلى يوم القيامة ولا تقية في القتل (¬5). فالآية دليل على جواز التقية، ولكن التقية المقصودة في هذه الآية كما فهمها السلف الصالح من هذه الأمة، هي جواز النطق بالإيمان، أما تفسير التقية بأنها جواز الكذب المطلق بالقول والفعل بلا حدود أو قيود فهذا تفسير خاطئ وهو ما ذهب إليه بعض مفسري الشيعة حيث يوجبون التقية ويرون أنها واجب شرعي حتى يقوم القائم المنتظر (¬6). ¬

_ (¬1) التقية الخشية والخوف والتقية عند بعض الفرق إخفاء أمر ومصانعة الناس في أمر أو أمور أخرى انظر المعجم الوسيط (2/ 1063 - 1065). (¬2) انظر روائع البيان في تفسير آيات الأحكام محمد علي الصابوني (1/ 398). (¬3) هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري، وهو أحد السبعين الذين شهدوا بيعة العقبة الثانية من الأنصار، وقد شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حقه: «خذوا القرآن من أربعة» ذكر منهم معاذ بن جبل، وقد أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وبقي فيها حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انتقل بعد ذلك إلى الشام فتوفي هو وبعض أفراد عائلته في طاعون عمواس سنة (18) هـ وكان عمره ثمانية وثلاثين سنة انظر أسد الغابة (4/ 376 - 378). (¬4) انظر تفسير القرطبي (4/ 57). (¬5) انظر تفسير القرطبي (4/ 57). (¬6) انظر السنة والشيعة إحسان إلهي ظهير (156 - 158).

والعدو الذي يتقى شره نوعان: (1) عدو سبب عداوته على الأغراض الدنيوية، فإذا كانت العداوة بسبب المال أو المنصب أو أذى النفس فهو حق راجع للإنسان نفسه، فإن داراهم بترك بعض حقه لهم فهو جائز، لأن ذلك الترك لا يلحق الدين منه نقصان مباشر (¬1). (2) عدو سبب عداوته الاختلاف في الدين، والعداوة من هذا النوع توجب على المسلم الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع فيه إظهار دين الله، أما إذا لم يستطع لكونه ممن رخص الله لهم من العجزة والنساء والصبيان الذين أذن الله لهم بالبقاء مع الكفار نظرا لأنهم من المستضعفين أو لم يجد مكانا يستطيع أن يتجه إليه ليظهر فيه دين الله، كما هو واقع المسلمين اليوم في عامة بلاد المسلمين، جاز له المكث بين الكفار والموافق لهم ظاهرا بقدر الضرورة مع السعي الجاد لتغيير الواقع الجاهلي الذي يعيش فيه إلى صالح الإسلام والمسلمين، فإن عجز سعى في حيلة للخروج والفرار بدينه من هذه القرية الظالم أهلها، فإن عجز عن الخروج جاز له موافقة الكفار في الظاهر دون الباطن على الأمور القولية، دون الأعمال الفعلية، والموافقة لهم بهذه الشروط حينئذ رخصة، وإظهار ما في قلبه من عزيمة فلو جاهدهم فقتل فهو شهيد كما سيأتي بيان ذلك قريبا بإذن الله تعالى في ثنايا هذا المبحث. ثانيًا: إن المراد بالآية في قوله تعالى: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) الإكراه على التلفظ بكلمة الكفر عندما يكون المسلم بيد الكفار يعذبونه على ذلك، فيجوز أن ينطق بكلمة الكفر ترضية لهم، إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، وذلك مثل ما حصل مع عمار بن ياسر رضي الله عنه ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (5/ 124).

عندما أجاب الكفار إلى التلفظ بكلمة الكفر بعد تعذيبه واستشهاد والديه، ثم إنه لما قال هذه الكلمة التي طلب الكفار منه أن يقولها أتى بعد قولها وهو يبكي حزنا وغما على موافقتهم فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن عادوا فعد» (¬1). ثالثًا: إن المستضعفين بمكة لم يكن منهم مجاراة للكفار في كل ما يريدون بحجة الاستضعاف أو الإكراه، فهم لم يسجدوا لصنم ولم يشربوا خمرا، ولم يرتكبوا فاحشة إرضاء للكفار، وكل ما فعلوه هو أنهم أقاموا مع الكفار في دارهم، مع أنهم أحاطوا أنفسهم بعزلة قولية وفعلية عن الكفار وما يعبدون من دون الله. أما ما ورد في بعض روايات أسباب النزول من أن سبب نزول قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 97] هو أن بعض المسلمين المستضعفين في مكة أجبرهم الكفار على الخروج معهم إلى معركة بدر فقتل عدد منهم فأنزل الله هذه الآية (¬2). فالصحيح أن الذين خرجوا مع الكفار ليسوا من المستضعفين للأسباب الآتية: 1 - إن الكفار لم يكرهوا من خرج من المسلمين مع المشركين في بدر إكراها ملجئا بدليل أن الروايات تذكر عن ابن عباس قوله: أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) فأنزل الله قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (10/ 180). (¬2) انظر الصحيح المسند من أسباب النزول مقبل بن هادي الوادعي (51). (¬3) رواه البخاري انظر فتح الباري (8/ 262) كتاب التفسير (4596).

ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97 - 99]. ولو أكرهوا على ذلك إكراها ملجئا لورد من البيان ما يوضح تلك الحال. 2 - إن إقامة هؤلاء الذين خرجوا مع الكفار في بدر، إقامة غير شرعية في الأصل، حيث إن الله عز وجل لم يعذر أحدا في الإقامة بدار الكفار سوى المستضعفين، والقادرين على حمل السلاح ليسوا من المستضعفين. 3 - إنه لو قدر فرضا على أنهم خرجوا مكرهين إكراها ملجئا فإن الواجب عليهم هو الانضمام إلى المسلمين، لأن الإكراه مهما يكن مصدره لا يبيح للمسلم حمل السلاح على أخيه بحجة الإكراه (¬1) وحيث إن خروج هؤلاء لم يكن مشروعا للأسباب المتقدمة لم يعذرهم الله تعالى ولذلك قال في حقهم: (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. وقد يقول قائل: إن المسلمين في مكة من غير المستضعفين لم يكونوا معذورين أصلا في البقاء في مكة لإمكان الهجرة إلى المدينة. لكن ما هو الحكم وما هو المخرج الشرعي للمسلمين الذين يعيشون اليوم تحت ظل حكومات كافرة تدفع بهم في معظم الأحيان إلى محاربة ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (12/ 316، 317). وانظر التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة (1/ 568). وانظر جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354).

الإسلام والمسلمين في الداخل والخارج، وهم مكرهون على ذلك، حيث لا يجدون بلدا أو دولة إسلامية تحميهم وتؤويهم وإن وجدوا فلا يستطيعون الخروج إلا بإذن هؤلاء الكفار، وهم لا يسمحون لهم حتى بالتفكير في الخروج فهم بين نارين إما أن يحملوا السلاح في وجه إخوانهم المؤمنين وإما أن يعلنون الرفض والعصيان فيكون مصيرهم الموت على أيدي هؤلاء الكافرين بدعوى الخيانة والعصيان، فما العمل في مثل تلك الحال التي يعاني منها معظم المسلمين اليوم في بلاد الإسلام؟ والجواب كما يظهر لي والله أعلم يتمثل في سلوك أحد الطرق التالية: (1) إذا كان هناك جماعة مسلمة قائمة منحازة بنفسها في داخل هذه الدولة التي تحارب الإسلام وجب عليه شرعا الانضمام إلى تلك الجماعة والعمل معها بشكل ظاهري أو خفي، ووجب بذل المال والنفس في مناصرتها وتأييدها والجهاد معها، واعتبر التخلي عنها أو خذلانها من التولي يوم الزحف كما أن محاربتها بالفعل بدعوى الإكراه موجب لعذاب النار كما بين الله ذلك في حق من خرج من المسلمين مع المشركين ضد المسلمين في بدر. (2) أن يفارق المشركين مفارقة سكن ومقام إذا استطاع إلى ذلك سبيلا فإن لم يستطع فيلجأ إلى المكر بأعداء الإسلام كما فعل نعيم بن سعود رضي الله عنه حين أوقع الفرقة بين الأحزاب، فمن لا يجد جماعة إسلامية منظمة ينضم إليها في بلده ولا يستطيع الخروج إلى بلاد المسلمين ودعي لحرب أناس مؤمنين فعليه أن يمكر بأعداء الله ويعاملهم بنقيض قصدهم ويطعنهم من خلفهم ويقوم بعمل كل ما من شأنه أن يثبطهم ويخذلهم ويلحق الهزيمة الساحقة بهم، وحينئذ يكون جنديا مجاهدا بين صفوف الأعداء وهو في تلك الحال أشد على الأعداء من المؤمنين الذين يعلنون حربهم على الكفر وأهله في شكل مستقل فهو إن صدق في النية مع

الله عز وجل أدرك فضل المجاهدين وأصاب المقتل من الكافرين، وحينئذ يظفر بما يظفر به المؤمنون المجاهدون. (3) إذا عجز عن الانضمام إلى الجماعة الإسلامية في بلده أو خارج بلده وعجز عن المكر بأعداء الإسلام والمسلمين، وأكرهه أعداء الإسلام على إيذاء المؤمنين وجب عليه شرعا الامتناع عن فعل ما أكره عليه. حيث قد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز للمسلم ولو أكره أن يفدي نفسه بغيره من إخوانه، بل عليه أن يصبر على البلاء ويسأل الله العافية، ولا يحول الظلم عن نفسه إلى غيره من إخوانه المؤمنين (¬1) وخاصة في مسألة القتل فإنه إن قتل مسلمًا بغير حق شرعي بحجة الإكراه وجب عليه شرعا القصاص (¬2) وأثم إثما عظيما، أما الإكراه فيما دون القتل في حق الغير ففيه قولان: القول الأول: من يرى أن الأفضل في حق المكره في حق الغير أن يأخذ بالعزيمة والشدة وأن يمتنع عن ما أكره عليه وإن ضرب أو قتل أو عذب في ذلك فهو أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة، وهذا القول يقول به أصحاب الإمام مالك رحمهم الله (¬3) حيث يرون أنه إذا اجتمع مبيح ومحرم قدم المحرم (¬4). القول الثاني: هو قول من يرى جواز الأخذ برخصة الإكراه فيما عدا القتل فلا يرى أحد جواز قتل المسلم ظلما بدعوى الإكراه، فالذين يرون جواز الأخذ برخصة الإكراه فيما دون القتل لا يبيحون الأخذ برخصة الإكراه على الإطلاق، وإنما يقولون بدفع أعظم الضررين بأدناهما في حق نفسه. ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر فتح الباري (12/ 316، 317) وانظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة (1/ 568). (¬2) انظر المصادر المتقدمة نفس المكان، وانظر أصول الفقه، محمد الخضري (109). (¬3) انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183). (¬4) انظر أصول الفقه، محمد الخضري بك (307).

وحق أخيه الذي أكره على إيذائه بناء على القاعدة الفقهية في دفع أعظم الضررين بأدناهما (¬1). رابعًا: إن الحديث الوارد في موضوع الإكراه وهو «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهو عليه» لفظ عام قد ورد تخصيصه بأدلة منها ما يلي: 1 - قول الله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]. فقد أجمع أهل العلم المعتد بهم، أنه لا يجوز للإنسان أن يفتدي نفسه من القتل بقتل غيره من الأبرياء (¬2). 2 - إن حديث إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه حديث في جميع طرقه ضعف وإن كان مشهورا، فقد أنكره الإمام أحمد بن حنبل جدا، وسئل أبو حاتم فقال هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة (¬3). 3 - إن القتل للغير بدعوى الإكراه معارض بالنهي الشديد عن قتل المؤمن لأخيه المؤمن قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [آل عمران: 94] وفي الحديث كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركا، أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا (¬4). والمكره على القتل ظلما متعمدا للقتل، عندما يعلم أنه يقتل إنسانا ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر فتح الباري (5/ 24) وانظر كشف الخفا (2/ 269). (¬2) انظر جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354 - 355). (¬3) المصدر السابق (350). (¬4) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 24) رقم الحديث (511).

بغير حق وقد ذكر علماء الأصول أنه إذا اجتمع مصلحة ومفسدة قدم درء المفسدة على جلب المصلحة، وبنوا على ذلك قاعدة أنه لو تعارض مبيح ومحرم قدم المحرم على المبيح (¬1). والذي أراه في مثل هذا المقام هو دفع أعظم المفسدتين بأدناهما كما هو مقرر عند عامة العلماء (¬2) اهـ. وعلى القول بصحة حديث: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فإن الحديث عام قد ورد تخصيصه بما يلي: (1) قول الله تعالى: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: 106]. فقد ذكر هل التفسير أنها نزلت في عمار بن ياسر، وعمار أكره على القول دون الفعل (¬3). (2) إن الله عز وجل قد ذم الذين خرجوا من المسلمين مع أهل مكة لمحاربة المسلمين في بدر على القول بأنهم خرجوا مكرهين فإن الآية مخصصة للحديث إذ لو كان الإكراه عذرا شرعيا في مثل هذه المسألة لما قال الله في حقهم (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 97]. وخلاصة القول في مسألة الإكراه أن الإكراه ينقسم إلى قسمين وكل قسم ينقسم إلى عدة أقسام، ونظرًا إلى أن معظم هذه الأقسام لا يدخل في موضوعنا هذا فسنقتصر على ذكر ثلاثة أنواع لها صلة بموضوعنا وهي: (أ) الإكراه المعنوي. ¬

_ (¬1) انظر إرشاد الفحول في علم الأصول للشوكاني (1284) (ط دار المعرفة (1399)) وانظر أصول الفقه، محمد الخضري بك (307). (¬2) انظر تفسير القرطبي (10/ 180)، وانظر مجموعة التوحيد (237). (¬3) انظر تفسير القرطبي (10/ 180)، وانظر مجموعة التوحيد (237)

(ب) الإكراه الفعلي في مجال القول. (ج) الإكراه الفعلي في مجال الأفعال في حق الغير. أولا: الإكراه المعنوي: هناك طائفة من الناس ممن يعز عليهم أن يعرضوا أنفسهم وأولادهم وأموالهم، للتضحية في سبيل الله، يقولون بأنهم مكرهين إكراها معنويا على التلفظ بالكفر، وإقراره لأنه يغلب على ظنهم أنهم إذا لم يقولوا الكفر ويقروا بألفاظه، فسوف يتعرضون للأذى والفتنة في أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وقد يستدل هؤلاء بقصة عمار بن ياسر التي تقدم ذكرها قريبا (¬1) ولكن أين هؤلاء من عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي تبرأ من المشركين وسبهم وسب دينهم، ومعبوداتهم واستشهدت والدته تحت التعذيب وعذب هو في نفسه عذابا شديدا؟ حتى كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمر بهم وهو يقول: «اصبروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ومع هذا كله لم يقع من عمار رضي الله عنه إلا موافقة الكفار على قوله واحدة تحت وطأة التعذيب والتهديد ولم ينشرح صدره بقولها بل ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكي ولم يطمئن إلى تكرار تلك الكلمة أو ما يماثلها عند الكفار ولم يوافقهم في أي فعل من أفعال الكفر، فكيف يحتج بقصة عمار هؤلاء الذين يسارعون بدون إكراه فعلي إلى التملق والمداهنة للكفار وأشباه الكفار وهم لم يطلب منهم ذلك فضلا عن أن يكرهوا عليه؟، ثم إذا ناقشهم أحد بذلك قالوا نحن مكرهون على هذا السلوك. والصحيح أن الاستجابة القولية والفعلية للكفار من غير إكراه ملجئ غير معتبرة ولا جائزة عند جمهور أهل العلم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر (398) من هذه الرسالة. (¬2) انظر فتح الباري (12/ 315، 316) وانظر مجموعة التوحيد (297).

حيث يرى الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما لله أن الإكراه لا يكون معتبرا إلا بمباشرة التعذيب، من ضرب أو إرادة قتل أو سجن مغلظ أو نحو ذلك. أما التهديد اللفظي والمعنوي، من قبل الكفار وأشباههم فلا يكون إكراها فالأسير المسلم إن خشي من الكفار أن يعذبوه أو يسجنوه أو يحولوا بينه وبين امرأته، وأولاده وماله لم يصح له التكلم بكلمة الكفر حتى يحصل الإكراه بالفعل، أما الخوف من أن يحول الكفار بينه وبين أهله وماله أو أن يعذبوه في نفسه فلا يكون ذلك إكراها، لأن الخوف من الشيء قبل وقوعه ليس إكراها (¬1) ولأنه ما من مسألة من مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ويخشى الإنسان أن يصيبه منها أذى، فلو جاز للمسلم أن يترك كل مسألة يخشى الأذى منها لما وجدنا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد في سبيل الله. ثانيًا: الإكراه الفعلي على النطق بألفاظ الكفر: خصص بعض العلماء الإكراه بأنه رخصة في جواز النطق بكلمة الكفر في الأقوال فقط دون الأفعال عند وجود الشروط اللازمة لذلك وهي: 1 - طمأنينة القلب بالإيمان في موالاة الله ورسوله والمؤمنين ومعاداة أعدائه. 2 - وجود الإكراه الملجئ بالفعل الحامل للإنسان على إرادة التخلص من أذى الكفار وعذابهم. ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد (297) وانظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن الجوزي (4/ 496، 497).

قال بذلك الحسن البصري والأوزاعي (¬1) وسحنون (¬2) وأحمد بن حنبل وإن كان الإمام أحمد يرى أن الأولى الثبات على الحق ولو قتل على ذلك (¬3). وأما ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوصى طائفة من أصحابه وقال: «لا تشركوا بالله وإن قطعتم وحرقتم» (¬4) فالمراد به الشرك بالقلوب لا بالألفاظ كمثل قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا) [العنكبوت: 8] وسائر الأقوال متصور عليها الإكراه، ولهذا إذا أكره بغير حق على قول من الأقوال لم يترتب عليه حكم من الأحكام، ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة، إذا كان قلبه مطمئمنا بالإيمان وهذا هو الفارق بين المكره والناسي والجاهل (¬5). ثالثا: الإكراه الملجئ على الأفعال التي تخالف الإسلام. سبق أن أوضحنا في أول هذا المبحث أن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز لمسلم أن يقتل مسلما بدعوى الإكراه (¬6) أما إيذاء المسلم لأخيه المسلم فيما دون النفس تحت وطأة الإكراه فالراجح من الأقوال عدم جواز ¬

_ (¬1) انظر ترجمته (132) من هذه الرسالة. (¬2) هو عبد السلام بن سعيد التنوخي الحمصي الأصل القيرواني المالكي ويلقب بسحنون أبو سعيد ولد سنة (160) هـ وأصبح فقيها ثم تولى القضاء بالقيروان وارتحل في طلب العلم وسمع من سفيان بن عيينة وغيره، وتوفي في اليوم الخامس من شهر رجب من سنة (240) من مصنفاته المدونة الكبرى في الفقه المالكي في أربعة مجلدات، وعليها يعتمد فقهاء القيروان، انظرالبداية والنهاية لابن كثير (10/ 323) وانظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (5/ 224). (¬3) انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183) وانظر زاد المسير في علم التفسير (4/ 496) وانظر الإيمان أركانه حقيقته نواقضه د/ محمد نعيم ياسين (191 - 194). (¬4) انظر تفسير القرطبي (19/ 293). (¬5) انظر جامع العلوم والحكم عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354، 355). (¬6) انظر فتح الباري (12/ 316، 317) وانظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة (1/ 568).

ذلك، كما هو رأي الذين يرون أن الصبر على الابتلاء أولى من الأخذ بالرخصة وعلى رأس هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (¬1). وفي رأيي أنه في مثل هذه الحال التي يتعرض فيها المسلم للإكراه في إيذاء أخيه أن يدفع أعظم المفسدتين بأدناهما في حقه وحق أخيه على حد سواء، وهذا على قول من يرى جواز الأخذ بالرخصة أما من يرى أن الصبر على الأذى أولى من دفع الضرر عن النفس ليقع على نفس أخرى بريئة، فأقول: إنه ليس من حق المسلم أن يدفع الضرر عن نفسه بضرر مثله أو أشد منه في حق أخيه، ولكن لو دفع أعظم الضررين بأدناهما سواء في حق نفسه أو حق أخيه لكان ذلك عدلا وإنصافا في حق الاثنين معا بحسب القدرة والاستطاعة فيما دون مسألة القتل (¬2). أما من قتل مؤمنا بدعوى الإكراه فقد احتمل إثما وذنبا كبيرا، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93]. وقد ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن المسلم إذا قتل مؤمنا متعمدا لا تقبل له توبة. وقال الجمهور: إن القاتل للمؤمن عمدا تقبل توبته إذا كانت توبة صادقة، وتوبة نصوحا، واستدلوا على ذلك أن الكفر أعظم من القتل، والتوبة عن الكفر مقبولة فعن القتل أولى (¬3)، وعلى كل حال فإن من المرجح قبول توبة القاتل للمؤمن عمدا وإن كان الوعيد في حقه شديدا فقد ¬

_ (¬1) انظر المصدرين السابقين نفس المكان وانظر تفسير زاد المسير (4/ 496). (¬2) انظر التشريع الجنائي الإسلامي (1/ 575، 576). (¬3) انظر تفسير آيات الأحكام، محمد علي السايس (126، 127).

أكدت الآية المتقدمة قريبا أن من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وعليه غضب من الله ولعنة وله عذاب عظيم، ووردت أحاديث بهذا المعنى وإن كان في طرقها ضعف مثل حديث: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» (¬1). وحديث: «يجيء المقتول ظلما يوم القيامة معلقا رأسه بإحدى يديه إما بشماله وإما بيمينه أخذا صاحبه بيده الأخرى تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن يقول: يا رب سل عبدك هذا علام قتلني»، يقول ابن عباس فما جاء بعد نبيكم نبي، ولا نزل كتاب بعد كتابكم (¬2) ولهذا ذهب ابن عباس إلى القول بعدم قبول توبة من يقتل مؤمنا متعمدا وقد ذكرنا أن الراجح هو قبول التوبة، ولكن على كل حال فإن الوعيد في هذه المسألة شديد فيجب على كل مسلم أن ينشد الحيطة والسلامة لنفسه في دنياه وأخراه فلا يقتل مسلما ولا يعين على قتل مسلم بغير حق سواء بالقول أو الفعل حتى ولو أكره على ذلك فإن الإكراه في مسألة القتل لا يعفى من المسئولية الجنائية ولذلك اختلف الفقهاء في أمثال هذه الحال، هل يكون القصاص على الآمر أم على المأمور أم عليهما جميعا؟ وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال هي: 1 - قول جمهور الفقهاء أن القصاص على الآمر والمأمور على حد سواء لاشتراكهما في جريمة القتل، وهو قول مالك والشافعي والمشهور عن أحمد (¬3). 2 - قال جماعة يجب القود والقصاص على الآمر دون المأمور، لأن المكره صار كالآلة في يد الآمر، وهذا القول هو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير آيات الأحكام، محمد على السايس (126، 127) وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (2/ 1، 2) رقم الحديث (503). (¬2) انظر تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس (2/ 126، 127). (¬3) انظر جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354، 355). (¬4) انظر المصدر السابق المكان نفسه وانظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183).

3 - قول زفر (¬1) إن القصاص على المأمور وحده دون الآمر لأنه قادر على الامتناع وهو إثم بالاتفاق (¬2) من الجميع. والذي نرجحه في هذه المسألة هو أن القصاص على الآمر والمأمور جميعا، لأن الآمر وهو صاحب السلطة والولاية، أمر ظلما وهو خلاف ما يجب عليه، وذلك إثم يؤاخذ عليه، والمأمور نفذ هذا الظلم وأجراه بفعله، وهو كذلك يؤاخذ على تنفيذ الظلم وإجرائه، ومن يحتج بأن العقوبة على الآمر دون المأمور بقوله تعالى: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) فالجواب أن لا تقية في الأعمال ولا إكراه عليها كما تقدم بيان ذلك (¬3). فماذا يعمل جلادو الطغاة وزبانيتهم الظالمون حيال هذه النصوص العظيمة من الوعيد لمن آذى مسلما، وبأي وجه يقدمون على الله، وأيديهم تقطر من دماء الأبرياء والمظلومين، والمقهورين بغير حق، أيظن أولئك أن الله غافل عما يعملون؟ قال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم: 43] وقال تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ¬

_ (¬1) هو زفر بن الهذيل بن قيس العنبري أبو الهذيل فقيه، تفقه على أبي حنيفة له مصنفات مات سنة (158) هـ انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة (4/ 181). (¬2) انظر جامع العلوم والحكم عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (354، 355) وانظر أصول الفقه محمد الخضري بك (106، 108). (¬3) المصدر السابق نفسه.

ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت: 19 - 24]. وقد اختلف العلماء عند حصول الإكراه على الشخص أيهما أفضل في حقه الأخذ بالرخصة فيما أكره عليه، أم الصبر على الأذى وعدم تنفيذ ما أكره على فعله ولو أدى ذلك إلى استشهاده؟ وفي هذه المسألة قولان: القول الأول: من يقول إن الأخذ برخصة الإكراه أولى من الصبر على الأذى، قال بذلك ابن مسعود رضي الله عنه حيث يروي عنه أنه قال: «ما من كلام يدرأ عني سوطين من أذى سلطان إلا كنت متكلما به» (¬1) اهـ .. وقال بعض أهل العراق إن الشخص إذا تهدد بقتل أو قطع أو ضرب يخشى منه التلف فالأولى له أن يفعل ما أكره عليه فيما لا يتعلق بحق الغير، مثل أن يكره على شرب خمر، أو أكل لحم الخنزير فإن لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما لأنه في هذه الحال كالمضطر لأكل الميتة وشرب الماء النجس (¬2). ولو ترك المضطر أكل الميتة أو شرب الماء النجس حتى مات لأثم في ذلك. وقال ابن العربي: إن التلفظ بالكفر عند الإكراه عليه ناسخ لآيات وأحاديث المصابرة على العذاب اهـ. فهو يستوي عنده الأمران، التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه عليها، أو الصبر على العذاب حتى القتل ويكون قتله شهادة (¬3). القول الثاني: قول من يقول إن الصبر على الأذى وتحمل القتل أو ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي (10/ 182، 183). (¬2) انظر المصدر السابق (10/ 188). (¬3) انظر أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1165 - 1170).

الضرب أو الحبس أولى من الأخذ بالرخصة وإجابة الطالب إلى ما طلب من محرم تحت وطأة الإكراه، وقد استدل أصحاب هذا القول بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون (¬1). ففي هذا الحديث وفي قصة بلال، ووالدي عمار سمية وياسر وقصة خباب بن الأرت في بطحاء مكة، وخبيب بن عدي وقصة أصحاب الأخدود وقصة الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ممن صبروا على العذاب في سبيل الله أكبر دليل على أن الصبر على الأذى أولى لمن وثق من نفسه في قوة التحمل وصلابة العقيدة (¬2). إن قمة الإيمان تتمثل بأولئك الذين بلغوا القمة في الصبر والتضحية واليقين، ولم يدفعهم الخوف أو الإكراه إلى تنفيذ أوامر الطغاة والظلمة والمجرمين فلم يهرولوا أمام أعداء الإسلام ويلهثوا تحت أقدامهم، ويكيلوا لهم المدح الكاذب وينفذوا أوامرهم في معصية الله، فما ظنك بمن ينفذ ¬

_ (¬1) رواه البخاري انظر فتح الباري (12/ 316) باب الإكراه. (¬2) انظر المغني والشرح الكبير (10/ 107) وانظر تفسير القرطبي (19/ 286 - 294) وانظر في ظلال القرآن، سيد قطب (م8/ج 30/ 528 - 530) وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (2/ 98 - 100) وانظر تفسير الأحكام، محمد على السايس (3/ 54، 55) وانظر روائع البيان في تفسير آيات القرآن محمد علي الصابوني (1/ 402، 403).

أوامر الطغاة وهو لم يضرب سوطا في سبيل الله؟ كيف لو ضرب أو منع راتب شهر واحد ماذا يفعل بالإسلام والمسلمين؟ إن مفهوم الإكراه قد اعتراه شيء من الغبش وسوء التصور عند بعض المسلمين حتى أصبح هذا الأمر مشجبا يعلق عليه المتخاذلون في نصرة الإسلام والمسلمين كل أسباب التخاذل والقصور في شأن الموالاة والمعاداة في الله، وقد أوضحنا المفهوم الصحيح للإكراه بما فيه الكفاية كما أعتقد، والله الهادي إلى سواء السبيل.

الفصل الخامس: العملاء الذين يوالون الأعداء للمصلحة الشخصية

الفصل الخامس: العملاء الذين يوالون الأعداء للمصلحة الشخصية العملة باطنة الرجل في الشر (¬1) والعملة السرقة والخيانة (¬2) والعميل هو من يعامل غيره في شأن من الشئون والجمع عملاء (¬3) وقد استطاع أعداء الإسلام نظرا لجهودهم المتواصلة ونظرا لبعد كثير من المسلمين عن التمسك بالإسلام قولا وفعلا أن يتخذوا من مدعي الإسلام عملاء لهم ودمى يحركونها ضد الإسلام والمسلمين وقد تعاون اليهود والنصارى والملحدون الوثنيون على شراء ذمم بعض المنتسبين إلى الإسلام اسما لا حقيقة بغية مساعدة هؤلاء الكفار في هدم الإسلام وتجزئة المسلمين، وقد نجح هؤلاء في تكوين العملاء الذين يعملون كأجراء لروسيا الشيوعية أو يعملون لحساب التحالف اليهودي الصليبي فمعظم الدول في البلاد الإسلامية إما عميلة لروسيا الشيوعية، أو للدول الغربية في أوروبا أو أمريكا ولذلك تجدهم ¬

_ (¬1) انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي (4/ 21). (¬2) المصدر السابق (4/ 22). (¬3) انظر المعجم الوسيط (2/ 634).

يختلفون في كل لقاء قمة بينهم تبعا لاختلاف الولاء والانتماء للدول الكبرى فهم يعلنون استقلالهم في الظاهر وهم عبيد أرقاء، وعملاء أجراء، في حقيقة الأمر والواقع، حيث باعوا أنفسهم لأعداء دينهم وأمتهم بثمن بخس زهيد مقابل دراهم معدودة، ومنافع محدودة، ومناصب موعودة، وشهوات مبذولة ومتع مرذولة، وشهرة ثمنها الخيانة والردة عن الإسلام، وهؤلاء العملاء تختلف تخصصاتهم ومراكزهم في الأمة، فمنهم حكام ظالمون يحاربون الفضيلة وينشرون الرذيلة ومنهم سياسيون ينفذون سياسة أعداء الإسلام في عزل المسلمين والقضاء عليهم، ومنهم خبراء ماليون ينفذون خطط أعداء الإسلام عن طريق المصالح المالية، إما بتطبيق النظام الرأسمالي الغربي بما فيه من ربا واحتكار واستغلال، أو بالتلويح بالاشتركية وتأميم الأمور الخاصة والعامة. ومنهم عسكريون ينفذون خطط أعداء الإسلام في تعويد الجنود على الطاعة العمياء وعبادة أشخاص الحكام والانهماك في لذة الكأس والجنس، والحيلولة بين أهل الإيمان وبين الوصول إلى قطاعات القوات المسلحة حتى لا يكون بيد أهل الحق سلاح يدافعون به عن حقهم (¬1). ومنهم إعلاميون ينفذون خطط أعداء الإسلام، من خلال الكلمة المكتوبة ومن خلال المقالة المسموعة ومن خلال الصورة المرئية، وعمالة أهل الإعلام لأعداء الإسلام أشد من غيرها نظرا لتأثير الإعلام على كل إنسان وكل بيت ولذلك تجد العملاء لأعداء الإسلام من الإعلاميين يحرصون على نشر الفاحشة في الذين آمنوا من خلال الكلمة والصورة فما من مشهد من المشاهد المرئية إلا والتركيز على الجنس ظاهر فيها بشكل ظاهر أو خفي، ويستعملون لهذه الغاية الدنيئة كل الحيل والمبررات التي تجعل عملهم هذا مستساغا مقبولا عند عامة الناس حتى يتدرجوا بالناس خطوة خطوة إلى عقر الرذيلة ونهايتها. ¬

_ (¬1) انظر أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها عبد الرحمن الميداني (19 - 22).

ومنهم جواسيس يتجسسون على أهل الإسلام والإيمان يتظاهرون بالصلاح والتقوى والزهد والورع وهم في حقيقتهم وواقع أمرهم يعملون جواسيس لأعداء الإسلام، والذين يتجسسون على المسلمين، فيهم شبه باليهود المنافقين الذين كانوا يتجسسون على المسلمين بالمدينة المنورة، لينالوا من الإسلام وأهله، فقد تظاهر بعض اليهود بالدخول في الإسلام والالتزام به، ولكنهم في حقيقة الأمر منافقون، ومن هؤلاء: داعس، وسعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، ورافع بن حريملة، وغيرهم وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رافع يوم مات: اليوم مات منافق عظيم (¬1) اهـ. وقد كان هؤلاء يتخذون المسجد وحلقات العلم مجلسا لهم ليتسقطوا أخبار المسلمين، ويطلعوا على أسرارهم، وينقلوا ذلك إلى حلفائهم من المشركين، ولكن المسلمين شكوا في تهجدهم وفي أفعالهم فراقبوهم حتى ظهر منهم ما ينقل الشك إلى اليقين، فانقض عليهم المسلمون وأخرجوهم من المساجد وأنفذوا فيهم حكم الله (¬2). وكون المسلم يمتهن مهنة التجسس على المؤمنين لصالح الكافرين وإخوان الكافرين جريمة كبيرة وخيانة عظمى، وهو حينئذ يضع نفسه في مصاف اليهود والمنافقين لأنهم هم الذين كانوا يتعاملون مع المسلمين بهذا الأسلوب الماكر الخبيث، وهذا العمل مضر بالإسلام والمسلمين من طريقين. الأول: أن استباحة المسلم للتجسس على أهل الإسلام وخاصة المعروفين بالصلاح والتقوى والاستقامة لصالح حكام لو حوكموا بحكم الشرع لوجب قتل الكثير منهم لخروجهم عن الإسلام بالردة والكفر، فلا يليق بمسلم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يفعل ذلك لأن تولي الكفار ¬

_ (¬1) انظر مقارنة الأديان (1) اليهودية د. أحمد شلبي (322، 323). (¬2) المصدر السابق نفس المكان وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (2/ 239، 240).

كفر وموالاة من يتولاهم كذلك كما هو واضح من الأدلة في الكتاب والسنة التي تقدمت في أول هذه الرسالة (¬1) وقد ورد في الحديث الصحيح الذي منه «لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف» (¬2) والتجسس على المؤمنين لصالح الطواغيت والمجرمين معصية كبيرة وإثم عظيم، كيف لا وقد نهى الله عز وجل عن التجسس على المؤمنين بما هو دون ذلك؟ قال تعالى: (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات: 12] وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، وكونوا إخوانا» (¬3). وفي رواية أخرى تتمة لهذا الحديث: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره» (¬4) وأي ظلم وخذلان واحتقار أشد من تجسس المسلم على أهل الإسلام، إن الفاعل لذلك قد جمع بين صفتين من صفات الذم الشنيع والكفر الصريح. الأولى: إنه شابه اليهود الذين يحضرون مجالس الذكر ويدعون الإسلام لمعرفة أسرار المسلمين والوقيعة بهم كما حصل من الأشخاص الذين تقدم ذكرهم وكما حصل من ابن سبأ وأعوانه من دس على الإسلام والمسلمين. الثانية أن الذين يتجسسون على المسلمين بظهورهم بمظاهر الصلاح والتقوى مع أنهم يبطنون الولاء للكفار وأشباه الكفار هؤلاء منافقون وهم الذين قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا ¬

_ (¬1) انظر (57 - 106) من هذه الرسالة. (¬2) رواه مسلم في صحيحه (3/ 1469) ورواه البخاري انظر فتح الباري (13/ 203) ورواه أحمد في مسنده (3/ 67). (¬3) رواه البخاري انظر فتح الباري (9/ 198). (¬4) رواه البخاري ومسلم، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين (2/ 1080) رقم الحديث (1572).

هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 8 - 10] وقد قال الله عز وجل في شأنهم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 145] فمثل هذا العمل هو منتهى العداء للمؤمنين والتولي للكافرين، وهو غاية التعاسة وقمة الضلال والانحراف أعاذنا الله من مضلات الفتن ومزالق الانحراف. فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن اكتسى برجل مسلم ثوبا، فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مسلم مقام سمعة، فإن الله يقوم به مقام سمعة يوم القيامة» (¬1). وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة عبد أذهب آخرته بدنيا غيره» (¬2). ويقول ابن القيم رحمه الله: ويا موقدا نارا لغيرك ضوءها ... وحر لظاها بين جنبيك يضرم أهذا جني العلم الذي قد رضيته ... لنفسك في الدارين جاه ودرهم (¬3) ¬

_ (¬1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2) رقم الحديث (934). (¬2) انظر سنن النسائي (2/ 1312) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي طبع عيسى الحلبي عام 1372هـ 1952. (¬3) انظر موارد الظمآن لدروس الزمان تأليف عبد العزيز بن سلمان (2/ 10/ 740).

ويقول الشاعر: لا تقنطن فإن الله ذو كرم ... وما عليك إذا تلقاه من بأس إلا اثنتين فلا تقربهما أبدا ... الشرك بالله والإضرار بالناس (¬1) وقد سأل سليمان بن عبد الملك (¬2) رجلا من أهل العلم والعمل يقال له أبو حازم (¬3) أسئلة كان منها: من أحمق الناس يا أبا حازم؟ فقال أبو حازم: من حط نفسه في هوى رجل ظالم فباع آخرته بدنياه (¬4) وقد نصح رجل المتوكل عندما قرب أهل الذمة وولاهم بعض الأعمال التي كان يجب أن يتولاها المسلمون فقال له ضمن كلام طويل وإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته (¬5) وهكذا يفعل من يتجسس ¬

_ (¬1) انظر عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة، تأليف أبي الحسن بن علي بن الهذيل (40). (¬2) هو سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي ولد عام (60) هـ بويع بالخلافة بعد موت أخيه الوليد بن عبد الملك وكان ذلك سنة (96) هـ وقد توفي سليمان بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليالي خلت من صفر سنة (99هـ -717) م. انظر البداية والنهاية لابن كثير (9/ 166 - 183). وانظر دائرة المعارف الإسلامية (12/ 173، 174). (¬3) هو هاشم بن بشير بن أبي حازم أبو معاوية السلمي الواسطي كان أبوه طباخا للحجاج بن يوسف ثم بعد ذلك يبيع الكوافخ أي ما يؤتدم به وكان يمنع ابنه من طلب العلم ليساعده على شغله، فأبى الابن إلا أن يسمع الحديث، ومرض هاشم فجاء أبو شيبة قاضي واسط عائدا له، ومعه خلق كثير، فلما رأى والده ما بلغ من أمر ابنه سمح له بطلب الحديث فكان هاشم من سادات العلماء، حدث عنه مالك وشعبة والثوري وأحمد بن حنبل، وخلق كثير كان من الصلحاء العباد وقيل إنه مكث يصلي الصبح بوضوء العشاء قبل موته بعشر سنين، توفي سنة (1086) انظر البداية والنهاية لابن كثير (10/ 183، 184). (¬4) انظر حقوق الإنسان في نظر الشريعة الإسلامية د. عبد السلام الترمانيني (34، 35). (¬5) انظر أحكام أهل الذمة، ابن قيم الجوزية (1/ 221).

على المسلمين يصلح دنيا الطواغيت وحكام السوء مقابل دريهمات قليلة فيفسد على نفسه آخرته باستحقاقه للعذاب الأليم. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لما ذكر الظلمة: «من صدقهم بكذبهم وأعان على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد عليَّ الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني، وأنا منه وسيرد علىَّ الحوض» (¬1). الثاني: إن من سيئات التجسس على المؤمنين، أن امتهان هذه المهنة يشيع بين المسلمين فقدان الثقة والشك الدائم بمن حولهم من أهل الخير فتضعف الموالاة ويقل الإخلاص بين المؤمنين بسبب ذلك وربما انقطعت الموالاة والصلة بين الإخوة المؤمنين نتيجة لبعض الشكوك التي يحدثها الظن السيئ والحذر المفرط وهذا من أهم مقاصد الأعداء في زرع الشكوك وإحداث البلبلة بين المسلمين وحكم من يتجسس على المسلمين لصالح أعداء الإسلام وهو القتل (¬2) كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معاوية بن المغيرة بن أبي العاص حيث أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة وعمار بن ياسر أن يتعقباه ويقتلاه فوجداه على بعد ثمانية أميال من المدينة، المنورة فقتلاه رميا بالنبل (¬3). وكما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع درباس، الذي كان يخاطب المشركين بعورات المسلمين، فصلبه ابن الجارود، فصاح: يا عمراه ثلاث مرات، فأرسل إليه عمر فلما جاءوا به أخذ عمر الحربة فعلا بها لحيته وقال: لبيك يا درباس (¬4) ثلاث مرات، فقال: لا تعجل إنه ¬

_ (¬1) انظر السنة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية ابن تيمية (7) ورواه الترمذي والنسائي انظر جند الله سعيد حوى (391). (¬2) انظر تفسير القرطبي (18/ 52، 53) وانظر الدرر السنية (1/ 236). (¬3) انظر غزوة أحد محمد أحمد باشميل (279 - 280). (¬4) انظر أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1770 - 1772).

كاتب العدو وهم بالخروج إليهم فقال قتلته على الهم وأينا لا يهم؟ فلم يره عمر موجبا للقتل ولكنه أنفذ اجتهاد ابن الجارود فيه (¬1). إن تتبع المؤمنين والتجسس عليهم والتظاهر بالتقوى والصلاح من أجل الوقيعة بهم، جريمة عظيمة وإثم كبير وقد يكون فاعل ذلك كافرا مرتدا إذا استباح تتبع أسرار المؤمنين وإفشاء خطط الإصلاح التي يقصدونها وتعمد الوقيعة بهم لحساب فئة كافرة ظالمة، مع محبته لظهور تلك الفئة الكافرة على أهل الحق، واستعلاء الكفر على الإسلام. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما من امرئ مسلم يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته، وما من امرئ ينصر امرءا مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته» (2) وقد ورد في حديث آخر «يامعشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» (¬2). هذه الأحاديث كلها وعيد لمن يتتبع عورات المسلمين ويتجسس عليهم لصالح الكفار الأصلاء أو الكفار العملاء من المرتدين والمنافقين، أما التجسس لصالح المسلمين على الكفار والطغاة الظالمين فمستحب وقد يكون واجبا إذا عين الحاكم المسلم العدل ذلك على فرد من أفراد المسلمين أو جماعة منهم، كما فعل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حيث تسلل بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى صفوف الكفار ونقل صورة صادقة عن أحوالهم وانهيار عزيمتهم وعزمهم على الرحيل، وذلك في غزوة ¬

_ (¬1)، 2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب (4/ 271) رقم الحديث (4884) وقال الألباني حديث حسن انظر صحيح الجامع الصغير (5/ 160/ 5566). (¬2) المصدر السابق (4/ 270) رقم الحديث (4880).

الأحزاب (¬1) هذا الصحابي وأمثاله نموذجا فريدا للعين المسلمة وللباحث الحقيقي الذي يجعل مصلحة الإسلام والمسلمين فوق كل اعتبار ولكن للأسف الشديد أن هذا النوع قد انقطع وانعكس المفهوم فأصبح كثير من رجال المباحث والاستخبارات في بلاد المسلمين همهم كله منصب على حماية شخص الحاكم وأفراد حكومته المقربين وإن كان هذا الحاكم وتلك الحكومة كافرة خارجة على الإسلام والمسلمين. لقد تحول رجال المباحث والاستخبارات في أغلب الدول المنتسبة إلى الإسلام إلى وحوش كاسرة وكلاب نتنة تنهش لحوم المؤمنين، الاتقياء الانقياء الأبرياء بلا خوف ولا خجل ولا حياء من الله (¬2). لقد أصبح معظم هؤلاء ينظر إلى السلطة الحاكمة بأنها إله يعبد من دون الله، فيقدمون رضاها على رضى الله، وأمرها على أمر الله ورسوله. إن تقديس الزعامات الكافرة والمرتدة عن الإسلام موالاة لأعداء الله كما أن محاربة المؤمنين بالله، معاداة لله ورسوله والمؤمنين، وأغلب الذين يوالون الزعامات الكافرة إنما يفعلون ذلك من أجل مالها ومناصبها وجاهها وهذا لا ينفعهم في مقياس الإسلام شيئا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 57، 58]. وأي أذى أشد من العمالة لأعداء الإسلام والخيانة للمسلمين؟ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]. ¬

_ (¬1) انظر غزوة الأحزاب محمد أحمد باشميل (264). (¬2) انظر نافذة على الجحيم وانظر البوابة السوداء أحمد رائف وانظر القابضون على الجمر، محمد نور رياض، وانظر مذبحة الإخوان في ليمان طرة جابر رزق.

تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني إن شاء الله

الباب الثالث: الموالاة والمعاداة لأهل الأهواء والفرق

الباب الثالث: الموالاة والمعاداة لأهل الأهواء والفرق وتحت ذلك فصلان: الفصل الأول: الموالاة والمعاداة لأهل الأهواء. الفصل الثاني: الموالاة والمعاداة للفرق التي تدعي الإسلام.

الفصل الأول: الموالاة والمعاداة لأهل الأهواء

الفصل الأول: الموالاة والمعاداة لأهل الأهواء وتحت هذا الفصل خمسة مباحث: المبحث الأول: موالاة العصاة ومعاداتهم. المبحث الثاني: موالاة المنافقين ومعاداتهم. المبحث الثالث: موالاة المرتدين ومعاداتهم. المبحث الرابع: موالاة الخارجين على السلطة ومعاداتهم. المبحث الخامس: موالاة السلطة ومعاداتها.

المبحث الأول: موالاة أهل العصيان والفسوق ومعاداتهم

المبحث الأول: موالاة أهل العصيان والفسوق ومعاداتهم الأصل في منهج الإسلام أن لا يعطي الإنسان ولاءه التام إلا لمن يسير على الصراط المستقيم، من أهل الإيمان قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (¬1). فمن سلك الطريق المستقيم في قوله وفعله واعتقاده وجب شرعًا موالاته قولاً وعملاً بدليل قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (¬2). وحرمت معاداته بالقول والفعل والاعتقاد قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (153). (¬2) سورة المائدة آية (55، 56). (¬3) سورة الحشر آية (10).

أما من انحرف عن الإسلام انحرافًا يوجب الكفر والخروج عن الإسلام فهذا يعادي معاداة الكافرين المحاربين لله ورسوله والمؤمنين؛ لأنه مرتد، سواء كانت ردته قولية أو فعلية أو اعتقادية. وإن كان الانحراف عن الإسلام لا يوجب كفر المنحرف وإنما يستحق أن يوصف بانحرافه بالفسق والعصيان، فإن واجب المسلم أن ينظر إلى مقدار ما مع الشخص أو الجماعة من خير وشر، فإن رجح الخير على الشر، رجحت محبته ومودته على بغضه وعداوته، وإن كان العكس رجح جانب البغض والعداوة على جانب المحبة والمودة، وإن تساوى ما فيه من خير وشر تساوى حبه وبغضه، وخلاصة ذلك أن الإنسان يُوالي على قدر ما معه من الحق ويُعادي على قدر ما معه من الباطل، بشرط أن لا يكون ذلك خاضعًا لأغراض شخصية ومنافع خاصة، وإنما يجب أن يتخذ هذا الموقف من منطلق الحب في الله والبغض في الله مجردًا عن أي اعتبارات مادية أخرى، وإن كان هناك عوامل تزيد الموالاة وتقويها مثل القرابة في النسب والجوار، والعمل ولكنها تابعة للولاءة في الله لا متبوعة، وطريقة التعامل مع من لم يظهر إلا الطاعة، أو لم يظهر إلا الكفر والفجور واضحة لا غبار عليها، وإنما الذي يشكل على بعض الناس إذا خلط الإنسان بين الطاعات والمعاصي وجمع الشخص الواحد أو الجماعة بين المتضادات والمتناقضات فكيف يعامل؟ وكيف يجمع له بين الموالاة والمعاداة! والجواب: أنه مهما اجتمع في شخص واحد خصال تحب بعضها وتكره البعض الآخر، فإن هذه الخصال لا بد أن تتفاوت في الخير والشر، حسب أهميتها وكثرتها، فمن ترك الواجبات ما يكون كفرًا صريحًا، ومنها ما يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومنها ما هو من صغائر الذنوب، وفعل المحرمات بهذا الترتيب كذلك، فلكل مرتبة حقُها من الموالاة والمعاداة، فالمسلم تحبه لإسلامه، ثم يزاد الحب ويقوى كل ما يزداد تمسكه وعطاؤه للإسلام والمسلمين، وتبغضه لمعصيته وتزداد العداوة كل ما زاد في عصيانه

وضلاله، فتحبه على قدر ما معه من خير وتبغضه على قدر ما معه من شر وهذا مقتضى العدل، أن يُنَزَّل كلُ شخص منزلة ما معه من خير أو شر - حسب ظاهر حاله، ونحن كبشر، نخطئ في تقدير هذه المنزلة تقديرًا دقيقًا في تعاملنا مع الناس، ولكننا مأمورون بالاجتهاد في ذلك، حسب القدرة والطاقة، قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا) (¬1)، وعلى هذا يجب أن يجتهد المسلم في تعامله مع الناس، بإعطاء كل صاحب منزلة ما يستحق من حب وبغض، بلا إفراط ولا تفريط، فمن غلبت عليه الطاعة أو غلبت عليه المعصية، أو اجتمع فيه شيء من الطاعة والمعصية، عامل كلاً بحسب حاله، بأن يعطي كل صفة حظها من الحب والبغض في الله وما يترتب على ذلك من إقبال وصحبة، وإعراض وقطيعة، وسائر الأفعال المرتبة على الحب والبغض في الله، ومثال ذلك من كان له زوجة حسناء أو ولد ذكي، ولكنهما فاسقان بسبب ارتكابهما بعض صغائر الذنوب، فإنه يحبهما من وجه ويبغضهما من وجه آخر، ويكون معهما على حالة بين حالتين من الحب والبغض، وكذلك لو كان لرجل ثلاثة أولاد، الأول ذكي صالح بار، والثاني فاسق بليد عاق، والثالث ذكي عاق، فإنه يجعل نفسه معهم على ثلاثة أحوال متفاوتة بحسب تفاوت خصالهم (¬2). فالحب والبغض للناس عامة وللمسلمين خاصة، يجب أن يكون بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية، وسبب العداوة، والحب والبغض، فيكون محبوبًا من وجه مبغوضًا من وجه آخر، والحكم في ذلك للغالب منهما (¬3). ¬

_ (¬1) سورة التغابن آية (16). (¬2) انظر فضيلة الألفة والأخوة / مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (1605) الورقة من (8 - 9) المؤلف غير معروف - كتبت حوالي نهاية القرن التاسع الهجري. (¬3) انظر شرح الطحاوية ص 318.

فإن قال قائل: كيف يمكن إظهار البغض للفساق الذين يجمعون بين صفات حسنة وأخرى سيئة؟ والجواب: كم يظهر لي أن إظهار البغض لهؤلاء ليست له قاعدة مطردة: بل الأمر يختلف باختلاف الأشخاص الواقعين في المعصية، وباختلاف المعاصي، وباختلاف الأشخاص المظهرين للبغض كذلك. فهذه المسألة شبيهة بمسألة المريض والمرض والطبيب فالمرض شيء موجود، ولكن لكل مرض علاج وعلاج المرض الواحد يختلف باختلاف المرضى، وباختلاف الأطباء فتكون المسألة مسألة اجتهادية في حدود السياسة الشرعية، ولكن إذا اقتضى الأمر إظهار البغض فإن إظهاره تارة يكون بالقول، وتارة بالفعل، وتارة بهما جميعًا. فأما إظهار البغض بالقول فيكون بكف اللسان عن مكالمته ومحادثته مدة، أو بالاستخفاف به والتغليظ له في القول تارة أخرى، وأما إظهار البغض بالفعل، فبقطع السعي في إعانته مرة، وبالسعي في إساءته وإفساد مآربه مرة أخرى، ويكون تارة بإظهار الأعمال الصالحة التي تغيضه، وتنغص عليه حياته المتعفنة، وهذه الأمور بعضها أشد من بعض، ولكن يجب ربط هذه الأمور بشيء واحد، وهو أن الإنسان ينوي بهذه الأعمال، والأقوال إظهار البغض في الله، مع محاولة إشعار الطرف الثاني بأن التعامل معه على هذا الأساس إنما هو من منطلق المعاداة في الله، لا لمصالح ذاتية عاجلة ولا لأغراض شخصية، فلعل إظهار البغض بهذه الصفة يحقق الأغراض التأديبية المطلوبة في ذلك وإن كان الطرف الآخر قد يصور العداوة والبغض في الله، بأنهما عداوة شخصية، إما جهلاً، وإما تضليلاً وعنادًا، ولكن لا يضير ذلك المسلم الواثق في سلامة قصده وإخلاص ضميره لله، فإن كل إنسان يفسر تعامل الناس معه على حسب غايته وهواه، ولكن العدل هو تنزيل الإنسان حسب منزلته في القرب أو البعد عن الإسلام.

يقول سليمان بن سحمان: فحق لذي فضل مراعاة فضله ... بقدر الذي قد يستحق به الأجل يوالي على هذا وترعى حقوقه ... وكل على مقدار فضله قد حصل ويبغض من وجه على هفواته ... وزلاته والسيئات من العضل يراعي الذي قد كان أصلح للفتى ... وأنفع للدنيا وللدين والعلل يعادى على هذا بمقدار ذنبه ... ويرحمه بالزجر عنها لينفتل فليس يواليهم لأجل حظوظهم ... ولكن لأجل الله قصدًا إذا فعل وليس يعاديهم لذلك أو لم ... يكن لمكنون النفوس من الدغل (¬1). وإظهار العداوة، فيما تقدم إنما يكون مع الأشخاص الذين أظهروا المعصية ولم يندموا عليها. أما من أظهر الندامة، وأقلع عن المعصية فالأولى أن نصفح عنه ونستره، ولا نظهر له العداوة، هذا بحال من اجتمعت فيه أفعال الطاعة وأفعال المعصية، فيوالى على قدر طاعته ويبغض على قدر معصيته. وهذا المنهج ضروري للإنسان في تعامله مع الناس، حيث إن ¬

_ (¬1) انظر ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص 147.

الإنسان بفطرته ميال إلى الاجتماع والاختلاط مع بني جنسه ولا يستغني عن التعامل مع تقيهم وفاجرهم وهذا أمر لا حرج فيه ولا إثم (¬1). وإنما الإثم في المخالطة العشواء التي لا يبالي فيها الإنسان بمن يخالط أو يصاحب، فلا يحب تقيًا ولا يعادي شقيًا. فالواجب على المسلم أن يستصحب أحكام الإسلام في مثل هذه الأحوال، فمن يفهم الإسلام بأنه مجرد شعائر تعبدية لا دخل له في تقييم الناس وتقييم التعامل معهم يكون مخطئًا في فهمه ناقصًا في إدراكه لمفهوم الإسلام الصحيح الذي يحكم حياة الإنسان وحركته من المهد إلى اللحد. إن هناك كثيرًا من الناس ليس لديهم منطلق مستمد من عقيدة الإسلام في مخالطة الناس ومعاملتهم، فهم لا يبالون بمن يخالطون أو يتعاملون معهم سواء كانوا مؤمنين أو عصاة، أو كافرين، وهذا مخالف لأمر الله عز وجل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (¬2)، وقوله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (¬3)، وقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ) (¬4). ففضول المخالطة داء عضال، فكم سلبت المخالطة العشواء من نعمة وكم جلبت من نقمة. وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من مرارة ولا يسلم من ضرر المخالطة وغوائلها المميتة إلا من جعل الناس في المخالطة أربعة أقسام: ¬

_ (¬1) انظر مقدمة ابن خلدون ص (42 - 43) (ط - دار إحياء التراث العربي). (¬2) الممتحنة آية (1). (¬3) سورة القلم آية (35، 36). (¬4) سورة السجدة آية (18).

الأول: من يجعل مخالطته لهم بمنزلة غذائه، فلا يستغني عنهم في اليوم والليلة، بل يشعر بالحاجة لهم على الدوام، ويشتاق إلى رؤيتهم وحديثهم، اشتياق العطشان إلى الماء الزلال. وهؤلاء هم العلماء العاملون، والفتية المؤمنون الملتزمون بالإسلام قولاً وفعلاً فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في الحث على طلب أهل الخير في الصحبة والصداقة: (عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يجيئك ما يغلبك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين في القوم، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك فيخونك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله) (¬1). اهـ. وقال بعض العلماء: لا تصحب إلا أحد رجلين رجل تتعلم منه شيئًا من أمر دينك فينفعك، أو رجل تعلمه شيئًا من الدين فيقبل منك، والثالث فاهرب منه (¬2). الثاني: من تكون مخالطة الإنسان لهم، كالدواء يستعمله وقت الحاجة عند المرض، فإذا شُفِيَ تركه، وهؤلاء هم الذين لا يستغنى عنهم في مصلحة معاشه، وتأمين ما يحتاج إليه من أنواع المعاملات، فهو يلتقي معهم بمفهوم وتصور معين ويتجرع مرارتهم كما يتجرع مرارة الدواء لحاجته إلى ذلك. الثالث: من تكون مخالطتهم كمخالطة أهل الأمراض المعدية على اختلاف أنواعها قوة وضعفا، وهؤلاء هم العصاة والفساق الذين لا يستفيد منهم في دين ولا دنيا، فمخالطتهم داء وبلاء يجب على من ينشد الحيطة ¬

_ (¬1) انظر فضيلة الألفة والأخوة/ مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1605) الورقة (35) المؤلف غير معروف، وانظر حياة الصحابة (جـ 3 ص 502). (¬2) المصدر السابق من المخطوطة الورقة (36).

والحذر لنفسه الابتعاد عنهم إلا لغرض دعوة، ونية إصلاح، فهذا أمر مخصص من ذلك العموم. الرابع: من مخالطتهم مهلكة وزيغ وإلحاد وكفر وضلال، وهؤلاء هم دعاة السوء ونواب الشيطان في الدعوة إلى الضلال والانحراف الداعون لكل بدعة الصادون عن كل فضيلة، فهؤلاء لا يكتفي الإنسان بالعزلة عنهم وعدم مخالطتهم بل الواجب السعي بكل وسيلة للقضاء عليهم وتحطيمهم، قبل أن يحطموا قوة الإسلام والمسلمين (¬1). والدعوة إلى الله في هذه الأقسام -والثلاثة الأخيرة منها خاصة- واجب شرعي تقتضيه أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومباشرة ذلك تحتاج إلى الحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (¬2) فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يعرف أسلوب الدعوة مع الأشخاص كل حسب علمه وفهمه، ولا بد أيضًا أن يقدم في الدعوة الأصلح على الصالح، فلا يحمل على إنسان لا يؤدي السنن، وهو لا يؤدي الواجبات، ولا بد كذلك من ملاحظة ما يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مفاسد قد تكون أكثر مما يراد تحقيقه من مصالح فلا بد من دفع أعظم الضررين بأيسرهما والداعية يجب أن يتحلى بالسكينة والوقار وإظهار الحرص والعطف على ما يأمره أو ينهاه، وأن يثبت ويتحرى اليقين فيما يأمر به وينهى عنه فإن في ذلك خيرًا كثيرًا. والمخالفون للطريق المستقيم يمكن تقسيمهم إلى الأقسام الآتية: 1 - المخالفون باعتقادهم وأفعالهم وهؤلاء هم الكفار. ¬

_ (¬1) انظر في هذا المعنى الدرر السنية جـ 11ص 94. (¬2) سورة النحل آية (125).

2 - المخالفون في اعتقادهم دون أفعالهم، وهؤلاء هم أهل البدع والاعتقادية مثل فرق أهل الكلام ونحوهم، ويدخل في عداد هؤلاء أهل النفاق. 3 - المخالفون في أفعالهم دون اعتقادهم وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: أ- من تكون أفعالهم مكفرة لمن يفعلها فهؤلاء كفار وإن اعتقدوا الإسلام. ب- من تكون أفعالهم لا توجب كفر فاعليها وهؤلاء هم عصاة المسلمين وفساقهم، ولكل من هؤلاء أسلوب في التعامل معه من حيث الموالاة والمعاداة. وسوف نقتصر في هذا المبحث على تناول أهل البدع الذين لا يكفرون ببدعتهم، وكذلك تناول العصاة والفساق من المسلمين، أما من يخالف مخالفة توجب الكفر فسوف نتناول ذلك بإذن الله تعالى في المباحث التالية بعد هذا الموضوع. وبناء على ذلك فإن موالاة ومعاداة أهل البدع والمعاصي تكون على النحو التالي: أولا: المبتدعون. والمبتدعون في اعتقادهم ينقسمون إلى قسمين: 1 - مبتدع يدعو إلى بدعته. 2 - مبتدع مقلد غير قادر على الدعوة إلى بدعته الاعتقادية. فالمبتدع الذي يدعو إلى بدعته ينظر إلى نوع البدعة، فإن كانت البدعة من النوع الذي يكفر فيها مبتدعها فأمره أشد من الكافر الأصلي الذي يمكن إقراره على الكفر في عقد الذمة أو العهد معه أما هذا المبتدع بدعة مكفرة فإنه لا يقر على كفره فهو مرتد حيث لا يقبل منه جزية ولا عقد ذمة. أما إن كانت مما لا يكفر فيها فأمره أخف من أمر الكافر لا محالة، ولكن

يجب الإنكار عليه أشد من الإنكار على الكافرين؛ لأن شر الكافر غير متعد لمعرفة الناس بكفره، وهذا شره متعد إلى غيره من المسلمين؛ لأنه يدعي لنفسه الإسلام والاستقامة على الحق، فينخدع به بعض المسلمين، ولهذا يجب إظهار وإشهار بغضه وعداوته، والانقطاع عنه، وتحقيره والتشنيع عليه ببدعته، وتنفير الناس عنه وعن فعله بأعظم ما يكون. وإن سلم في خلوة، فلا بأس برد جوابه، وإن تيقن أو غلب على ظنه، أن الإعراض عنه والسكوت عن جوابه يكسر على نفسه بدعته، ويؤثر في زجره، فترك الجواب أولى؛ لأن الجواب وإن كان واجبًا، فيسقط بأدنى غرض مثل كون الإنسان في الحمام، أو في قضاء الحاجة، وغرض الزجر مثل هذه الأغراض (¬1). أما إن كان في ملأ من الناس فترك الجواب أولى تنفيرًا للناس عنه وتقبيحًا لبدعته في أعينهم وكذلك كف الإحسان والإعانة عنه، لا سيما فيما يظهر للخلق (¬2). يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله): «وأرى هجر أهل المعاصي والبدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله» (¬3). اهـ. ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف (¬4)، والشيخ عبد الله بن عبد ¬

_ (¬1) انظر فضيلة الألفة والأخوة مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (1605) على ميكروفيلم (556/ 6) الورقة (29 - 30). (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) انظر الدر السنية جـ 1 ص 30. (¬4) هو الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب من علماء نجد ولد بالرياض سنة (1282هـ - 1866م) وتفقه بها ورحل إلى عمان وقطر، ثم اليمن، ثم عين بعد ذلك قاضيًا بشقراء ثم نقل إلى قضاء الرياض وتوفي بها سنة (1367هـ) من آثاره، كتاب الدعوة إلى حقيقة الدين. انظر مشاهير علماء نجد ص 117 وانظر معجم المؤلفين عمر رضا كحاله جـ 10 ص 193.

العزيز العنقري (¬1) (رحمهما الله) في رسالة مشتركة بينهما: «إن المجاهر بالمعاصي يشرع هجره إذا كان في هجره مصلحة راجحة، ولم يترتب على ذلك مفسدة أعظم من تلك المفسدة التي حصل الهجر بسببها، وذلك حسب غلبة الظن في ذلك؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» (¬2). أما المبتدع المقلد وهو العامي لا يقدر على الدعوة إلى بدعته ويحث الناس عليها، فالأولى أن لا يفاتح بالتغليظ والإهانة بل يتلطف به في النصح فإن قلوب العوام والمقلدين سريعًا ما تنقلب إلى الصواب، إذا وجدت من يعالجها بحكمة وبصيرة، فإن لم ينفع النصح وكان في الإعراض عنه تقبيحًا لبدعته في عينه وعين أمثاله فالأولى فعل ذلك، وكذلك لو علم أن الإعراض عنه لا يؤثر فيه لجمود طبعه وتحجر عقله، وخبث طويته، فإن الإعراض أولى؛ لأن البدعة إذا لم يبالغ في تقبيحها شاعت بين الخلق وعم فسادها (¬3). ثانيًا: العصاة أو الفساق: العاصي أو الفاسق هما لفظان مترادفان لمعنى واحد (¬4). والعصاة المخالفون ببعض أفعالهم لما يوجبه دين الإسلام فهؤلاء لا يخلو أمرهم من شيئين. 1 - أن تكون معاصيهم مما يتأذى بها الغير مباشرة، مثل الظلم والغصب وشهادة الزور والغيبة والنميمة ونحو ذلك. 2 - أن لا تكون مما يتأذى بها الغير مباشرة، وذلك مثل الفسق بشرب خمر ¬

_ (¬1) انظر ترجمته ص 15 من هذه الرسالة. (¬2) الدرر السنية جـ 7 ص 296. (¬3) انظر فضيلة الألفة والأخوة / مخطوطة بجامعة الرياض برقم (1605)، على ميكروفيلم (556/ 6) الورقة (29 - 30) المؤلف غير معروف كتبت بالقرن التاسع الهجري تقريبًا. (¬4) انظر المعجم الوسيط جـ 2 ص 612، 695.

أو نحوه من المخدرات، والمفترات، أو مخالفة سنة كحلق لحية أو إسبال ثوب أو تختم بذهب ونحو ذلك، فهذه المعاصي قد لا يتأثر بها الغير مباشرة ولكن يجب عليه أن ينكر على فاعلها بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يرضى بها أو يرضى عن صاحبها وهو متلبس بها؛ لأن إحن المعاصي تجر المحن على الجميع وقد قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (¬1)، والعاصي أو الفاسق، إذا عصي بشيء يخصه أو يتعدى إلى غيره، فهو إما أن يكون داعيًا إلى المعصية والفسوق كالذي يبيع الخمر للناس، أو يزين الفاحشة في أعين الناس كي يوقعهم فيها، فهذا أشد إثمًا وأعظم جرمًا وأكثر خطرًا من الفاسق الذي يقتصر فسقه على نفسه بأن يفعل مثل هذه الأمور. ويتستر على ذلك فقد ورد في الحديث المتفق على صحته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه» (¬2). وهذه المعاصي التي يرتكبها العصاة، أما أن تكون كبيرة من كبائر الذنوب، أو من صغائر الذنوب وأدناها، وفي كل واحدةٍ من تلك الذنوب الكبيرة أو الصغيرة، إما أن يكون مصرًا عليها، وإما أن يكون غير مصر عليها فمن هذه التقسيمات يتحصل لدينا ثلاثة أقسام رئيسة ولكل منها مرتبة تختلف عن غيرها (¬3). القسم الأول: إن من أشد المعاصي إضرارًا ما يستضر به الناس من ظلم وغصب، وشهادة زور، وغش، وتطفيف ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (25). (¬2) انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين جـ 1 ص 255 (باب ستر عورات المسلمين) رقم الحديث (243). (¬3) فضيلة الألفة والأخوة (مخطوطة - الورقة) (30) جامعة الرياض برقم (1605).

فهؤلاء مع ما يلزم عليهم من عقوبة تعزيرية تقوم بها الدولة المسلمة نحوهم يجب أيضًا على المجتمع، أن يقاطعهم، وينبذ مخالطتهم ويظهر عدم الود والاستئناس لهم، ما لم يتوبوا إلى الله توبة صادقة في أقوالهم وأفعالهم؛ لأن المعصية شديدة فيما يرجع إلى إيذاء الخلق، فالله عز وجل قد يعفو عما بينه وبين العبد ولكن ما بين العبد والناس لا بد فيه من القصاص والجزاء، والمستحب مع من يفعل ذلك أن ينصحه ويعظه بالتي هي أحسن، فإن رأى منه تجاوبًا وتقبلاً أحسن مصاحبته وأدام مودته، أما إن رآه باقيًا على فسقه وعصيانه استحب له إهانته والإعراض عنه، وإظهار بغضه وعداوته. القسم الثاني: من معصيته بينه وبين ربه وهي المعاصي التي لا يكون أثرها مباشرًا على الغير، كصاحب الماخور (¬1) الذي يهيئ الفساد ويسهل طريقه على الناس فهذا لا يؤذي الناس في العرف الخاطئ عند البعض؛ لأن الناس يأتون إليه برضاهم، ولكنه في الحقيقة يؤذيهم في دينهم وفي دنياهم على حد سواء وربما كان سببا في حلول نقمة أو عذاب عليهم، فهو قريب من الأول ولكنه أخف منه من حيث إن المعصية بين العبد وبين الله وهي إلى العفو أقرب والأمر في ذلك مرجعه إلى الله عز وجل إن شاء عفا وإن شاء عاقب، وهذا النوع من المعاصي إن ظهرت وجب أولاً استيفاء الحد الشرعي أو التعزير على فاعل المعصية، ثم نصحه ليقلع عن تلك المعصية، فإن استمر على ذلك وجب الإنكار عليه، ومن الإنكار عليه الإعراض عنه ومقاطعته، وترك السلام عليه، أو إجابته إذا ظن أن في ذلك نوعًا من الزجر له، أو لغيره. القسم الثالث: الذي فسقه مقصور على نفسه، بشرب خمر، أو ¬

_ (¬1) بيت الريبة، ومجمع الفساق والعصاة، انظر المعجم الوسيط جـ 2 ص 863.

ترك واجب أو مقارفة محظور يخصه، فالأمر في ذلك أخف من سابقيه، ولكن إن وافقه شخص قبل الوقوع في المنكر وجب عليه منعه من المنكر، بما يمنع به عادة من هو في مثل حالته، ولو بالضرب أو السخرية والاستخفاف به، فإن النهي عن المنكر واجب، حسب القدرة والاستطاعة (¬1)، فإن لم يعلم بالمنكر إلا بعد وقوعه، والفراغ منه، نصحه فيما بينه وبين نفسه، وتلطف في نصحه، وأظهر له الشفقة والعطف والرحمة به، فإن رجع عن عصيانه، فهذا ما يقصده الأخ لأخيه، وإن رأى أنه مستمر في معصيته، نظر إلى حاله، فإن كان الهجر لا يزداد به المهجور سوءًا، فإن هجره مستحب، وإن كان الهجر والمقاطعة يجره إلى معصية فوق معصيته، فإن هجره منهي عنه (¬2). وقد اختلف العلماء في مسألة الهجر والمقاطعة، ومسألة المداراة والملاطفة، وما هي القاعدة والمعيار في ذلك، والصحيح والله أعلم أن كل ذلك متعلق بالنية والقصد عملاً بالحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» الفرق والنظر بعين الرحمة إلى الخلق نوع من التواضع، وفي العنف والإعراض نوع من الزجر، والمستفتى في ذلك هو القلب، إذ قد يكون الزجر والتأنيب عن كبر وعجب، ونوع من التلذذ بإظهار العلو والإذلال بدعوى الإصلاح، وقد يكون الرفق والتلطف ناتجين عن مداهنة ومصانعة، واستمالة قلب للوصول به إلى غرض من أغراض الدنيا، من مال أو جاه أو شهوة، فعلى كل راغب في أعمال الخير من حب في الله وبغض في الله، أن يجتهد مع نفسه في التفتيش عن هذه الدقائق، ومراقبة هذه الأحوال في سويداء القلب وأعماق النفس، حيث إن مسألة التعامل مع العصاة تشبه إلى حد بعيد مسألة ¬

_ (¬1) فضيلة الألفة والأخوة (مخطوطة) الورقة (31)، وانظر رسالة في الجهاد للشيخ / عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص 22. (¬2) انظر رسالة في الجهاد / للشيخ عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص 22.

المريض والطبيب والعلاج، فهي مسألة اجتهادية تحدد حسبما تقتضيه السياسة الشرعية لمصلحة الدعوة إلى الله (¬1). فطرق السلف الصالح قد اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي وإن كان كلهم قد اتفقوا على أن العاصي إذا نصح فلم يرجع ولم يتب عن معصيته وجب بغضه ووجب إظهار البغض له، ما لم يخش ترتب مفسدة أعظم من تلك المفسدة الحاصلة التي يريد أن يبغضه عليها. فقد كان من العلماء من يتشدد في الإنكار، ويختار المهاجرة ولو كان سبب الهجر شيئًا يسيرًا ولكنه إذا صدر ممن يُقْتَدى بهم صار كبيرًا، فقد هجر الإمام أحمد رحمه الله يحيى بن معين في قوله: «كل ولا تسأل أحدًا شيئًا، ولو حمل الشيطان إلي شيئًا لأخذته منه» (¬2)، فاستعظم الإمام أحمد هذه المقالة وهجر صاحبها فدل ذلك على أن بغض أهل المعاصي أمر واجب شرعًا وقد تقدمت أدلة متواترة على ذلك ولا بأس أن نشير إلى بعض تلك الأدلة أو غيرها من الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (¬3) وفي الحديث: «من أحب الله، وأبغض لله وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» (¬4). فالبغض إنما ينتج عن المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا البغض يتخذ مراتب متفاوتة، فقد يقوى في نفس صاحبه حتى يحمله على تغيير المخالفة باليد، فإن قل عن ذلك كان التغيير بالكلام أو بترك ¬

_ (¬1) انظر فضيلة الألفة والأخوة (مخطوطة) الورقة (32)، وانظر الدرر السنية جـ 7 ص 40، 41. (¬2) انظر فضيلة الألفة والأخوة الورقة (27). (¬3) سورة المجادلة آية (22). (¬4) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني جـ 1 ص 112 رقم الحديث (380).

الكلام والسلام، وقد يضعف فيكون محبوسًا في داخل القلب وذلك أضعف الإيمان ومن الأمثلة العملية على هجران أهل المعاصي ما ورد في قصة كعب بن مالك ومن معه رضي الله عنهم فقد روي عن كعب أنه قال: «ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا، وذكر خمسين ليلة» (¬1). وقد رُوي في الأثر عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ: «لا تسلموا على شراب الخمر» (¬2)، فإن قال قائل: كيف الجمع بين ترك السلام والكلام في الحديث المتقدم وبين حديث: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالي يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (¬3) فالجواب: 1 - أن الهجر المنهي عنه قد يحمل على الهجر الذي يكون سببه البغض من أجل مصالح دنيوية لا من أجل معصية شرعية بحتة. 2 - أن أحاديث جواز الهجر قد خصَّصَت عموم الأمر بإفشاء السلام كما هو مذهب الجمهور (¬4). 3 - أن الحديث الذي قيد الهجر بثلاث ليال فقط حمله بعض العلماء على ما إذا كان بغير موجب لذلك أو كان الموجب لا يتحمل ذلك، وإلا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك خمسين يومًا وهجر أزواجه شهرًا وبعضهن أقل من ذلك وبعضهن أكثر. وعلى هذا فليس تحديد المدة شرطًا معينًا نظرًا لاختلاف العصاة والمعاصي التي يكون الهجر بسببها، وقد يعترض أحد على ذلك فيقول: لماذا العاصي أو ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري ج 10 ص 497. (¬2) انظر فتح الباري ج 11 ص 41. (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي ج 16 ص 117 (باب تحريم الهجر فوق ثلاث). (¬4) فتح الباري ج 11 ص 41.

الفاسق أو المبتدع مشروع هجره ولا يشرع هجر الكافر ابتداء، وهو أشد جرمًا من أهل المعاصي؟ والجواب: أن الهجران على نوعين: هجران يكون بالقلب، وهجران يكون باللسان، فهجران الكافر بالقلب وهو هجران بغض وعداوة، بترك التودد إليه والتعاون والتناصر معه، ولا سيما إذا كان حربيًا، ولم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، وإن كان لا يستحب بدؤهم بالسلام، بخلاف العاصي المسلم، فإنه ينزجر ويشعر بالخطيئة والخجل، عند مقاطعته وهجرانه، ويشترك كل من الكافر والعاصي بجواز المكالمة لغرض الدعوة إلى الله والتزام طاعته، وإنما المنهي عنه في حقهما المكالمة بالموادة مع المعصية والكفر وتمسكهما في ذلك (¬1). ومفهوم كلام السلف أن موالاة أهل البدع ضلالة لا تخرج عن الإسلام، ولكنهم شددوا في ذلك وحذروا منها لأمرين: الأمر الأول: أن البدعة في الدين عند جمهور العلماء أعظم من ارتكاب الكبيرة من كبائر الذنوب، لذلك يعاملون أهلها أعظم مما يعامل به مرتكب الكبيرة، وذلك لأن البدعة يخشى من انتشارها واستمرار أهلها عليها، بخلاف الذنب الذي يرتكبه صاحبه وهو يعلم خطأه وتعديه ويعلم الناس أنه خلاف الصواب، ولذلك فإن دعاة البدع وسماسرة المعاصي، ولو كانوا ممن يتقمصون ثياب العلم ويتظاهرون بالزهد والصلاح، يجب أن يشد أهل الحق الوطأة عليهم؛ لأن هؤلاء يغتر بعض العامة بهم، فيقودونهم إلى الهاوية والعذاب السحيق. الأمر الثاني: أن موالاة أهل البدع والمعاصي قد تجر إلى أكبر من ذلك حيث تؤدي بأصحابها في نهاية الأمر إلى الردة والكفر أعاذنا الله من ذلك، فكثير من الناس بدءوا، مع أهل المعاصي ببعض أنواع الموالاة ثم ¬

_ (¬1) المصدر السابق ج 10 ص 497.

انتهى بهم الأمر إلى التوالي الكامل للكفار، فخرجوا بذلك عن دائرة الإسلام والمسلمين؛ لأن مخالطة الكفار والاستئناس بهم بلا وعي صحيح ولا عقيدة راسخة تؤول إلى المشابهة والمماثلة لهم في الأقوال والأفعال مما ينتج عن ذلك محبة لهم ولأفعالهم وأقوالهم؛ لأن المحبوب له تأثير على من يحبه، حتى يصل الأمر إلى محاكاتهم في كل شيء بغض النظر عن كون ذلك حرامًا أو مباحًا وهذه صفة من صفات الردة الكاملة التي يحل فيها سبي الأموال وقتل الأنفس وأما موالاة العصاة والمبتدعة للبدع التي لا تخرج عن الإسلام، فهي فتنة وضلالة وانحراف، لا يحل معها سبي الأموال وقتل الأنفس؛ لأن صاحبها لا يزال معصوم الدم والمال ما لم يستبح لنفسه فعل المعصية أو البدعة، فإن من استباح فعل المعاصي والبدع التي اتفق علماء الإسلام على تحريمها بموجب الكتاب والسنة فهو كافر مرتد (¬1). وقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: (من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: 1 - إما أن يكون فتنة لغيره بالجلوس معه، وقد ورد في الحديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (¬2). 2 - أن يقع في قلبه شيء من الاستحسان فيزل به فيدخله الله النار بسبب ذلك. 3 - أن يقول: والله ما أبالي بما تكلموا وإني واثق من نفسي فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه الله إياه) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي ج 6 ص 190. (¬2) رواه مسلم، انظر صحيح مسلم ج 4 ص 2059 (كتاب العلم). (¬3) انظر العقيدة والآداب الإسلامية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ج 1 ص 317.

قال أبو قلابة (لا تجالسوا أهل البدع، والأهواء، ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون) (¬1). وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» (¬2)، وللحديث الصحيح «أنت مع من أحببت» (¬3). وطريقة إظهار البغض لأهل المعاصي إذا اقتضى الأمر ذلك تكون في الإعراض والتباعد عنهم، وتارة بقلة الاهتمام بهم وعدم الالتفات إليهم وأخرى بالاستخفاف بهم وتغليظ القول عليهم، وهذا أشد من الإعراض والمقاطعة، وفي جميع الأحوال يكون الأمر بحسب غلظة المعصية وخفتها. ولذلك فالمعاداة لأهل المعاصي بالفعل لها طريقان: الأول: قطع المعونة والرفق والنصرة لهم، وذلك أقل درجات البغض لأهل المعاصي، إذا رأى أن هذا هو الأسلوب الأجدى معهم. الثاني: السعي الجاد لإفساد مراميهم ومقاصدهم السيئة بقطع الطريق عليهم وخاصة فيما يفسد عليهم طريق الوصول إلى المعصية وذلك مثل لو كان هناك إنسان يستغل وظيفته لأخذ الرشوة نظرًا لارتباط عمله بالجمهور ومصالحهم فيمكن نقله إلى وظيفة تفقده ذلك بعد تعزيره على ما ارتكب كأن ينقل إلى وظيفة حفظ الملفات والصور المنتهية، أما ما لا يؤثر في منعه من المعصية بصورة مباشرة، فإن المبغض للعاصي بالخيار بين الإفساد عليه، أو عدم ذلك ومثال ذلك، لو أن شخصًا يعصي الله بشرب الخمر ثم تقدم لخطبة امرأة، لو تيسر له نكاحها لكان مغبوطًا فيها، لما فيها من عفة ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 318. (¬2) يقول الشيخ ناصر الدين الألباني: هذا الحديث ضعيف ولكن ليس شديد الضعف، فيصلح للاستشهاد به، فالحديث به حسن. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج 2 ص 633 رقم الحديث (927). (¬3) رواه مسلم، انظر صحيح مسلم ج 4 ص 2032.

وجمال ومال، وأنت ترى أنك قادر على التأثير في هذا الموضوع بالموافقة أو عدمها، ولكنك تظن متيقناً أيضًا أن ذلك لا يؤثر في منعه من المعصية بشرب الخمر فأيهما أولى أن تعينه لينال مقصوده، أم تفسد عليه غرضه ومقصوده. إن الإنسان في مثل هذه الحالة أمامه ثلاثة طرق: الطريق الأول: أن يعينه على مقصوده بنية التلطف بإعانته، وإظهار الشفقة عليه، ليعتقد مؤدتك، ويتقبل نصحك فهذا حسن ومطلوب من المسلم في بعض الأحوال. الطريق الثاني: أن لا تعينه ولا تفسد عليه، فتتركه لمعصيته، ولا تفسد عليه لحق إسلامه، فذلك ليس بممنوع. الطريق الثالث: أن تفسد عليه غرضه وتفوت عليه تلك الفرصة، وذلك لعله يرجع عن معصيته فيدرك أن هذه المعصية حرمته من هذا الأمر الذي يتطلع إليه بشوق واهتمام، وليعلم هو وغيره أن هذا هو الواجب مع من يستهينون بالمحرمات ويرتكبون السيئات، ثم ليعلم الناس أن الموالاة في الله والمعاداة في الله يجب أن تحكم العلاقات بينهم. وأن ذلك من أصول الإيمان وواجباته على كل مسلم (¬1). هذا إذا كانت المعصية فيما يتعلق بحق الله، أو حقوق الآخرين أما إن كانت المعصية والجناية تتعلق بحقك الشخصي أيها الإنسان أو بحق من لك الولاية عليه، فإن لك العفو والمسامحة عن ذلك في مثل ما حصل في قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ ¬

_ (¬1) انظر فضيلة الألفة والأخوة الورقة (26، 27) قسم المخطوطات جامعة الرياض برقم (1605) على ميكروفيلم برقم (556/ 6) المؤلف غير معروف كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبًا.

اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (¬1) وذلك حين تكلم مسطح بن أثاثة في قصة الإفك، فحلف أبو بكر رضي الله عنه أن يقطع عنه النفقة لمشاركته في نشر تلك القصة التي لا أساس لها من الصحة، ولكن الله عز وجل عرض على أبي بكر العفو والصفح مقابل مغفرة الله فأجاب أبو بكر رضي الله عنه واستمر على ما كان يدفعه إلى مسطح بن أثاثِة ولا شك أن المعصية التعرض لحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولمكانة أبي بكر رضي الله عنه خاصة من أقرب الناس إليه حيث كان مسطح ابن خالة أبي بكر، ولكن لما كان المجني عليه في نفسه بتلك الواقعة قد ثبت له الحق في ذلك، فهو يملك العفو عمن ظلم، والإحسان إلى من أساء، وهذه من أخلاق الصديقين، لذلك عفا عنه وأحسن إليه أبو بكر رضي الله عنه وهذا يدل على أن الإحسان إلى من ظلمك أيها الإنسان جائز، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (¬2)، وهذا في غير مسألة الحد الشرعي، أما مسألة الحدود فقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أولاً: منع العفو عنها مطلقًا سواء من المجني عليه أو من الرئيس الأعلى للدولة (¬3). ثانيًا: جواز العفو عنها ما لم تبلغ الحاكم (¬4). ثالثًا: جواز العفو مطلقًا (¬5). وفي رأيي أن القول يجوز العفو ما لم تبلغ الحاكم هو القول الراجح ¬

_ (¬1) سورة النور (22). (¬2) رواه مسلم في البر والصلة (باب استحباب العفو والصلة ج 4/ 2001). (¬3) انظر التشريع الجنائي الإسلامي / عبد القادر عودة م 1 ص 81. (¬4) انظر فتح الباري ج 12 ص 87 - 96، وانظر بداية المجتهد / محمد بن أحمد القرطبي م 2 ص 452 - 454. (¬5) المصدرين السابقين نفس المكان.

خاصة في الاعتداء على المال أو النفس دون العرض ما لم تثبت البراءة الشرعية. ومقتضى الأحوال في هذه الأمور المتقدمة، أن يكون حب العصاة وأصحاب البدع الذين لا تصل بدعتهم إلى حد الكفر، مكروهًا، وبغضهم من المندوبات في الشرع، ولا يصل الأمر في كلتا الحالتين إلى التحريم أو الوجوب، حيث إن الداخل تحت التكليف في الوجوب أو التحريم هو أصل المحبة في الله، وأصل البغض في الله، وذلك قد لا يتعدى من المحبوب إلى غيره، بنفس القوة والحكم، وإنما المتعدي إفراط الحب واستيلاؤه بصفة غير شرعية، كغلو النصارى في عيسى، ومثل اللغو في الصالحين فهذا من قبيل التعدي والإفراط المذموم في الحب، فالمسلم يجب أن يكون واسطًا في ذلك وملتزمًا بالإسلام، فلا يغلو في باب الحب المشروع حتى يقع في الشرك كما حصل من البوصيري في قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم (¬1) ولا يكون من الذين قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (¬2) فترتيب المحبة هي أن يحب الله عز وجل قبل كل شيء ثم يحب الرسول محمدًا ثم بقية الرسل ثم الخلفاء الراشدين ثم الصحابة أجمعين ثم التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فمحبة عموم المؤمنين واجبة كما أوضحنا ذلك في مبحث متقدم (¬3) أما محبة أفراد المؤمنين فهي مستحبة غير واجبة في أعيانهم، وكذلك بغض العصاة والفاسقين فإنه واجب على جهة العموم، أما الأفراد الفاسقون أو العاصون ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد ص 316. (¬2) سورة البقرة آية (165). (¬3) انظر (141 - 151) من هذه الرسالة.

فإن بغضهم وهجرهم مستحب وليس بواجب حيث إن الذين وقعوا في بعض المعاصي في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كانوا يهجرون بالكلية ويبغضهم جميع الناس، بل كان الناس منقسمين فيهم إلى ثلاثة أقسام: 1 - فقسم يغلظ القول عليهم ويظهر البغض لهم. 2 - وقسم يعرض عنهم، ولا يتعرض لهم إلا بالنصح والتذكير أحيانًا. 3 - وقسم ينظر إليهم بعين العطف والرحمة، ولا يؤثر المقاطعة والتباعد عنهم، إما طلبًا لإصلاحهم ونصحهم، أو خوفًا من زيادة انحرافهم وضلالهم، فهذه من دقائق الأحكام الشرعية التي تختلف فيها طرق السالكين، واجتهادات المجتهدين ويكون فيها عمل كل واحد بحسب ما تقتضيه حاله ووقته ونيته (¬1). وعلى هذا لا يجب وجوبًا مطلقًا قطع الموالاة بين الفساق والعصاة من المسلمين وبين بقية المسلمين كما هو الشأن مع الكفار الخارجين على الإسلام (¬2). والله هو العالم والهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) انظر فضيلة الألفة والأخوة مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1605) على ميكروفيلم برقم (556/ 6) المؤلف غير معروف كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبًا. (¬2) انظر الفتاوى/ ابن تيمية ج 7 ص 671.

المبحث الثاني: موالاة المنافقين ومعاداتهم

المبحث الثاني: موالاة المنافقين ومعاداتهم إنه منذ أن بعث الله نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأعزه بالهجرة والنصر صار الناس معه ثلاثة أقسام: أ- قسم مؤمن مجاهد وهم الذين آمنوا بالإسلام ظاهرًا وباطنًا. ب- قسم كافرٌ معاند محارب وهم الذين أظهروا الكفر والعداوة للإسلام. ج- قسم نافق وداهن وتملق، وهم الذين آمنوا بالإسلام ظاهرًا لا باطنًا ونجد هذا التقسيم في الآيات الأولى من سورة البقرة حيث افتتح الله عز وجل سورة البقرة بخمس آيات في صفات المؤمنين، وآيتين في صفات الكافرين، وثلاثة عشرة آية في صفات المنافقين، وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة له دعائم وشعب. كما وضح ذلك الكتاب والسنة. والنفاق يمكن تقسيمه إلى قسمين: نفاق أكبر، ونفاق أصغر. القسم الأول: النفاق الأكبر وهو ما يكون صاحبه في الدرك الأسفل

من النار كنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من أتباعه في كل زمان ومكان، وهم الذين يضمرون تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه في كل ما أنزل عليه، أو أنهم يرون أنه يسعهم الخروج عن بعض ما أنزل الله على رسوله، أو الفرح بهزيمة المسلمين، والمسرة بانخفاض دين الإسلام، والكراهية عند انتصار الإسلام والمسلمين، وهذا النوع كان موجودًا في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما زال يزداد يومًا بعد يوم حتى عصرنا الحاضر، فإذا كان النفاق موجودًا في هذه الدعوة في أوج قوتها فما ظنك في وقتنا الحاضر الذي ظهر فيه أثر ضعف الإيمان في النفوس، وابتعادها عن منهج الحق والصواب (¬1). القسم الثاني: النفاق الأصغر: فهو نفاق يقتصر على بعض الأعمال مثل أن يكذب إذا حدث ويخلف إذا وعد، ويخون إذا أؤتمن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» متفق عليه. وفي رواية: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» (¬2). ونحن لا نريد أن ندخل في تفاصيل صفات المنافقين وأوصافهم لأن ذلك مما هو معلوم لدى معظم الناس، ولأنه يخرج بنا عن نطاق الموالاة والمعاداة، ولكن نحاول تحديد طبيعة العلاقة بين المؤمنين والمنافقين في الموالاة والمعاداة من واقع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة –رضوان الله عليهم– فلو تتبعنا ذلك لرأينا أن المنافقين داخلون في عموم المسلمين غير متميزين عنهم سوى ببعض الأقوال والأفعال التي قد يشترك فيها معهم بعض المؤمنين عن طريق الخطأ والاجتهاد، ولكن الأمر يختلف بالنسبة لكل منهما تبعًا لاختلاف النية والقصد، ولما كانت النيات والمقاصد من الأمور ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية ج1 ص108. (¬2) رواه البخاري ومسلم انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1 ص222 رقم الحديث (201، 689).

الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله أو من أطلعه الله على ذلك من رسله فإن الأمر بالنسبة إلينا في تعيين المنافق من سواه أمر ظني لا يرقى إلى درجة اليقين، لانقطاع الوحي بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخشى على من تشبث بصفة من صفات المنافقين أن يكون منهم، ولا نجزم لأحد بذلك لأنه لا يعلم السرائر إلا الله عز وجل، ومن أظهر علامات النفاق أو بعضها، كرجوع عن المؤمنين في حربهم مع الكفار وخذلانهم عند اجتماع العدو، وكقول بعض المنافقين لو نعلم أن قتالكم حق لاتبعناكم، ومثل التجاء بعض المنافقين إلى الأقوى، سواء كانوا المسلمين أم الكفار، ومدح المشركين في بعض الأحيان وتفضيل أخلاقهم وأعمالهم المنافية للإسلام، وموالاتهم من دون المؤمنين، فهذه العلامات وأمثالها من علامات النفاق وصفات المنافقين يجوز إطلاق النفاق على من اتصف بها من المسلمين، بشرط أن لا يحمله على ذلك هوى في نفسه أو عصبية جاهلية، أو شحناء في أمور دنيوية، أو خلاف على مصالح مادية، أو يبغضه لكونه، يخالفه في بعض الأمور التي لا يزال الناس فيها مختلفين، فليحذر الإنسان أشد الحذر عن إطلاق صفة الكفر أو النفاق، على مدعي الإسلام، إلا بعد البينة فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه» (¬1) وحيث إن النفاق وصف من أوصاف الكفر بل قد يكون من أشد أنواع الكفر فلا يجوز للمسلم أن يتساهل في إطلاق هذا الوصف على أناس لا يعلم حقيقتهم إلا الله، وقد تكون القرائن التي استند إليها في ذلك ظنية الدلالة على الوصف المقصود. أما إذا دل الدليل الثابت على صفة النفاق في شخص – ما – فإنه يجوز إطلاق وصف النفاق عليه كما فعل عوف بن مالك (رضي الله عنه) للمنافق ¬

_ (¬1) رواه البخاري. انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج2 ص1180 رقم الحديث (1735).

الذي تكلم بحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام: فقال له كذبت ولكنك منافق، وكذلك في قصة عمر (رضي الله عنه) مع حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) عندما قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق وفي رواية دعني أضرب عنقه فإنه منافق، وقال حذيفة (رضي الله عنه) إن الرجل وليتلكم بالكلمة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون بها منافقًا (¬1) وينبغي أن يُعْرَف أنه لا تلازم بين إطلاق النفاق عليه ظاهرًا وبين كونه منافقًا في الباطن، فإذا فعل علامات النفاق جاز تسميته منافقًا لمن أراد أن يسميه بذلك، وإن لم يكن منافقًا في واقع الأمر، لأن القلوب لا يعلمها إلا الله ولأن بعض صفات المنافقين قد يفعلها الإنسان مخطئًا كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) فقال له عمر ما قال ولم ينكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك بل أنكر عليه موضوع القتل دون وصفه بالنفاق مع أنه (رضي الله عنه) لم يكن منافقًا (¬2). وقد وقف المنافقون في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مواقف كثيرة تبين فيها نفاقهم وانكشف فيها حقدهم وذلك مثل ما حصل من عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة بني المصطلق عندما تخاصم غلام من المهاجرين والأنصار وكذلك تسلل المنافقين في غزوة الأحزاب بحجة أن بيوتهم عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارًا (¬3). وفي هذه المواقف وغيرها لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته الكرام يتخذون موقفًا عدائيًا من هؤلاء المنافقين بل نجد صفة التسامح والصفح عن هؤلاء المنافقين هي السمة البارزة في التعامل معهم، فعندما طلب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الإذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل عبد الله بن أبي رأس النفاق، رفض النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وقال له: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟» فقال عمر إن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر أنصاريًا بقتله. فلم ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد ص49. (¬2) انظر مجموعة التوحيد ص49، 50. (¬3) انظر غزوة الأحزاب/ محمد أحمد باشميل ص100 - 102.

يوافق النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. بل رفض هذا الاقتراح أيضًا قائلاً لعمر ... «ترعد له (إذن) أنف كثيرة بيثرب»، وكان يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله هذا لعمر ... إن قتل عبد الله بن أبي على هذه الصورة قد يكون سببًا في إثارة حرب أهلية بين المسلمين، لأنه كان يتوقع غضب رجال كثيرين من الخزرج لقتل زعيمهم، لا سيما وأن كثيرًا منهم لا يعلمون حقيقة نفاقه (¬1). ولا يجوز أن نطلق على من تظهر عليهم علامات النفاق أوصاف التبجيل والتفخيم فقد ورد في الحديث «لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل» (¬2) وترك استعمال مثل هذه الألفاظ دليل على جواز البغض له لما يظهر عليه من صفات النفاق ولكن هذا البغض لا يصل إلى درجة الإنكار بالوصف إلا إذا ثبت لزوم الصفة للموصوف بها كما حصل من عوف بن مالك للمنافق الذي ذم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولا يجوز أن يترتب على عمل المنافق جزاء، إلا إذا عمل المنافق أو المنافقون عملاً يراد به زعزعة الدعوة وإفسادها، مثل بناء المنافقين لمسجد الضرار فإنه لما كان هذا العمل لم يرد به وجه الله وثبت ذلك بطريق الوحي قام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهدمه، وإزالته قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (¬3) فإذا فعل المنافقون فعلاً مناهضًا للإسلام وأهله، وثبت الدليل على ذلك وجب تعزيرهم على ذلك بما يحفظ للإسلام والمسلمين عزتهم وكرامتهم، وذلك مثل ما حصل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك حيث بلغه أن أناسًا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص103. (¬2) رواه البخاري في الأدب المفرد. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج1 ص101 رقم الحديث (371). (¬3) سورة التوبة آية (107).

عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث إليهم نفرًا من أصحابه فيهم طلحة بن عبيد الله وأمرهم أن يحرقوا هذا البيت على من فيه نظرًا لموقفهم المعادي من الإسلام ورسول الإسلام (¬1). وقد هم عمر (رضي الله عنه) بقتل حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) وعلل ذلك بأنه منافق، فكان في موقفه ذلك دليل على أن المنافق إذا ثبت نفاقه بمخادعة المؤمنين والتجسس عليهم جاز شرعًا قتله، وقد منع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمر من قتل حاطب بذكر أسباب تنفي عنه صفة النفاق (¬2). وتلك الأحكام تطبق إذا وجدت الدولة الإسلامية التي تضرب على أيدي الكفار والمرتدين والمنافقين بيد من حديد، أما إذا حكم المنافقون وسادوا فمن يحاكمهم سوى الله عز وجل؟ وهذا هو الحاصل فعلاً فقد ورد في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» متفق عليه. وفي رواية: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» (¬3) وهذه الثلاث من صفات المنافقين هي مرتكز ومنطلق سياسة معظم الحكام في بلاد الإسلام اليوم فالكذب عبر وسائل الإعلام المتعددة عندهم سياسة والخيانة في قتل الأنفس البريئة، ومحاربة الشريعة المستقيمة، وسرقة الأموال الثمينة عندهم كياسة، والوعود بإصلاح المجتمع من خلال الخطب الرنانة والبيانات المستفيضة فراسة، والحديث يصف من توجد به هذه الصفات أو بعضها بالنفاق مع أنه يصوم ويصلي ويزعم أنه مسلم (¬4). فما رأيك أيها الأخ الكريم بمن يتصف بصفات المنافقين المتقدمين كلها مضافًا إليها ترك الصوم والصلاة، ثم بعد ذلك يدعي لنفسه الإسلام ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج5 ص3 - 4. (¬2) انظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1771. (¬3) انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1 ص 222 رقم الحديث (201). (¬4) انظر مجموعة التوحيد ص498.

ويزعم عبيده وسدنته أنهم وإياه على الحق والصواب، وهم في واقع حالهم أبعد ما يكونون عن الإسلام والمسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

المبحث الثالث: موالاة المرتدين ومعاداتهم

المبحث الثالث: موالاة المرتدين ومعاداتهم معنى الردة لغة: الرجوع. واصطلاحًا: رجوع المسلم البالغ العاقل عن الإسلام إلى الكفر، قال تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (¬1) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (¬2). والأصل في معاملة المرتد في الدولة الإسلامية، أن يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل بعد ثبوت البينة على ردته. لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة» (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (217). (¬2) سورة المائدة آية (54). (¬3) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج3 ص1302.

ولحديث «من بدل دينه فاقتلوه» (¬1). قال الشوكاني (¬2): «إن الردة موجب من موجبات القتل للمرتد بأي نوع من أنواع الكفر حصلت الردة» (¬3). اهـ. والمراد بمفارقة الجماعة، مفارقة جماعة المسلمين، الذين يلتزمون بالإسلام اعتقادًا وقولاً وفعلاً. والارتداد الجماعي هو أن تفارق الإسلام جماعة في بلد من البلدان كما حدث على عهد الخليفة الأول أبو بكر (رضي الله عنه) وكما هو حاصل في عصرنا الحاضر في معظم بلاد المسلمين فحكم هؤلاء القتل كما فعل أبو بكر (رضي الله عنه) إلا من رجع منهم إلى الحق قبلت توبته، وقد اختلف الفقهاء، هل تصير دار المرتدين دار حرب بحصول الردة من معظم السكان فيها، أم أن هناك شروطًا لإطلاق دار الحرب على دار المرتدين. والذي عليه جمهور الشافعية وأحمد ومالك بن أنس وأبو يوسف أن دار المرتدين تصير دار حرب، متى ارتد أهلها، وغلبوا عليها، وقال مالك تصير دار حرب بظهور أحكام الكفر فيها (¬4). اهـ. وهذا هو الشرط الرئيسي عند الفقهاء (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج6 ص149. (¬2) هو محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ولد بهجرة شوكان من بلاد خولان في 28 ذي القعدة سنة (1173هـ) ونشأ بصنعاء، وولي القضاء فيها فهو مفسر، محدث، فقيه، أصولي، مؤرخ، أديب، نحوي، منطقي، متكلم، حكيم، توفي بصنعاء في جمادي الآخرة، ودفن بخزيمة في سنة (1250هـ) من تصانيفه الكثيرة: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، الفوائد المجموعة في فن الأحاديث الموضوعة، والدر النضيد في إخلاص التوحيد وله شعر جيد. انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحاله ج11 ص53. وانظر مقدمة فتح القدير. (¬3) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص4. (¬4) انظر أحكام المرتد في الشريعة الإسلامية/ نعمان السامرائي ص170. (¬5) المصدر السابق نفس المكان.

ولم يتطرق الفقهاء إلى معاملة المرتدين في جوانب كثيرة، مثل الاستعانة بهم أو مصاحبتهم، أو صلتهم، أو التعامل معهم، لأنه أساسًا كان يجب أن لا يعيش بين المسلمين مرتد، فإما الإسلام، وإما الموت، ولذلك لا نستطيع أن نوجد صيغة في التعامل مع أناس كان يجب أن لا يعيشوا بدار المسلمين أصلاً فلا يمكن إيجاد حل صحيح لأوضاع قائمة على خطأ من أساسها ولذلك فالحل الوحيد مع هؤلاء المرتدين الذين انتشروا في أجزاء كثيرة من بلاد الإسلام هو الدعوة الجادة إلى الإسلام فمن تاب منهم قبلناه، ومن عاند واستمر في كفره قتلناه، وطهرنا الأرض منه، حيث إن المرتدين يجب أن يؤخذوا بالقوة والحزم، فعملية الترغيب قد لا تجدي معهم شيئًا، ولأنهم قامت عليهم الحجة بدخولهم ومعرفتهم لشرائع الإسلام، وقد انعقد إجماع الصحابة (رضي الله عنهم) في حربهم، حيث إن إقرارهم لأبي بكر (رضي الله عنه) في حربهم حجة في ذلك. فقد روى الإسماعيلي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال لما قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتد من ارتد من العرب، وقالوا نصلي ولا نزكي، فأتيت أبا بكر (رضي الله عنه) فقلت: يا خليفة رسول اللهّ تألف الناس وارفق بهم فإنهم بمنزلة الوحوش. فقال: أخرت نصرتك وجئتني بخذلانك، جبار في الجاهلية خوار في الإسلام ماذا خشيت أن أتألفهم؟ بشعر مفتعل أم بسحر مفترى، هيهات! هيهات! مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - وانقطع الوحي، والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي وإن منعوني عقالاً، كانوا يؤدونه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاربتهم عليه. قال عمر (رضي الله عنه) فوجدته في ذلك أمضى مني وأعزم وأدب الناس على أمور هانت على كثير من مؤنتهم حين وليتهم (¬1). والمتتبع لأحوال معظم المسلمين في ديار الإسلام يجد أن هناك مرتدين كثيرًا في معظم البلاد الإسلامية يتمتعون بالحماية والرعاية والعناية من قبل حكومات كافرة مرتدة، وفي مثل هذه الحال لا يستطيع المسلم أن ¬

_ (¬1) انظر كنز العمال ج3 ص300.

يتصرف تصرفًا مباشرًا مع هؤلاء كما يجب أن يتصرف معهم من منطلق الإسلام، لأن هؤلاء يقعون ضمن مشكلة كبرى وهي غياب دولة الخلافة الإسلامية التي تحكم بالإسلام وتنفذ أحكامه كلها، ولكن من الأمور التي يجب على المسلم اتباعها في حق هؤلاء بعد نصحهم وإرشادهم، أن يعاديهم ويبغضهم، وينفر الناس عنهم، وعن مذهبهم، وأن لا يزوج المرتد إن كان رجلاً، ولا يتزوج المرأة المرتدة وأن يمنع المرتد من الولاية على مسلم أو مسلمة مهما كانت درجة القرابة بينهما إن استطاع إلى ذلك سبيلا. يقول السرخسي (¬1) الحنفي: «وإذا ارتد المسلم بانت منه زوجته مسلمة كانت أو كتابية، دخل بها أو لم يدخل» (¬2). اهـ. وقال الإمام الشافعي (رحمه الله): «إن كان المسلم الذي ارتد إلى الكفر لم يدخل بالمرأة بطل العقد، وإن كان قد دخل بها فإن انقطاع النكاح متوقف على ثلاث حيضات من تاريخ الردة فإن رجع إلى الإسلام قبل انقضاء الثلاث حيضات فالعقد باقٍ وإن لم يرجع بانت منه المرأ» (¬3). اهـ. وقال الأحناف بأن توبة المرتد، وإسلامه بعد الردة لا ترفع الفرقة بين الزوجين، وإن كانا في العدة لأن الفرقة وقعت بالردة، فلا ترتفع بإسلامه (¬4). وقال الفقهاء: إذا ارتد الرجل أو المرأة عن الإسلام ثم تزوج فلا يصح زواجه عند سائر الفقهاء، لأنه لا ملة له، فالزواج باطل، فلا يصح لرجل مرتد أن يتزوج مسلمة، ولا كافرة ولا مرتدة، قال بذلك الأحناف والشافعية والحنابلة، والمالكية، والإمامية (¬5). كما أنه ليس للمرتد أن يزوج ¬

_ (¬1) هو محمد بن أحمد بن أبي بكر السرخسي (شمس الأئمة) متكلم. فقيه، أصولي، مناظر، من طبقة المجتهدين في المسائل الشرعية – توفي سنة (490هـ - 1097م) من آثاره: المبسوط في الفقه الحنفي. انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحاله ج8 ص239. (¬2) انظر المبسوط للسرخسي ج5 ص49. (¬3) انظر بدائع الصنائع للكاساني ج7 ص136. (¬4) انظر أحكام المرتد في الشريعة الإسلامية/ نعمان السامرائي ص267. (¬5) المصدر السابق ص268 – 269.

ابنته أو امرأة هو وليها قبل الردة لقصور ولايته بعد الردة قال بهذا الإمام الشافعي وقال به الحنابلة والحنفية والإمامية (¬1). وعلى هذا فمن ينتمي إلى الشيوعية فهو مرتد وإن كان يدعي الإسلام لأن الشيوعية مبدأ الحادي ينكر وجود الله ويكذب بالكتب والرسل وبجميع ما ورد عن الخالق من حيث نشأة الكون والحياة والإنسان ومن حيث البعث والنشور والجنة والنار (¬2). وقد ورد إلى الأزهر سؤال لأحد المواطنين بهذا الخصوص فأحاله إلى لجنة الفتوى بالأزهر. والسؤال هو كما يلي: ما رأي الإسلام في قضية شاب يعتنق الشيوعية ويصر عليها وتقدم لخطبة فتاة مسلمة، والشاب نفسه يحمل اسمًا إسلاميًا، ومن أسرة مسلمة فهل يجوز من وجهة نظر الإسلام أن يتم هذا الزواج؟ أفيدونا وفقكم الله؟ فقالت لجنة الفتوى: «إن الشيوعية مذهب مادي لا يؤمن بالله ولا برسوله، وينكر الأديان كلها ويعتبرها خرافة». فالشيوعي الذي يؤمن بتلك المبادئ الإلحادية يحكم عليه بالردة إن كان مسلمًا، ويحرم عقد الزواج له بمسلمة، حيث قد حرم الإسلام زواج المشرك بالمسلمة، فمن باب أولى أن يكون ذلك ممنوعًا لمن لا دين له (¬3). وتارك الصلاة عمدًا حكمه الكفر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة» (¬4) وقد سأل رجل من أهل الجنوب فضيلة الشيخ ¬

_ (¬1) المصدر السابق نفس المكان. (¬2) انظر نقد الاشتراكية الماركسية/ غانم عبده ص6 - 8 وانظر حكم الإسلام في الاشتراكية/ عبد العزيز البدري ص48 وانظر حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون ص60 - 65 تأليف/ عبد الكريم خفاجي. (¬3) انظر جريدة الأهرام المصرية العدد (28731) في 9/ 8/1965م. الصفحة الأولى العمود الأول. (¬4) صحيح مسلم ج1 ص88.

عبد العزيز بن باز فقال في سؤاله: إن أحد أقربائي لا يصلي وهو رجل كبير في السن وقد نصحته ونصحه كثير من الناس ولكنه متهاون جدًا في الصلاة ولا يصلي إلا نادرًا وأحيانًا لا يصلي إلا في رمضان أو الجمع فقط. فكيف تكون معاملتي معه؟ وهل أسلم عليه إذا وجدته في مجلس أم أقاطعه؟ فأجاب الشيخ: إن ترك الصلاة عمدًا كفر واستدل بالحديث المتقدم وقال للسائل: إذا استمر قريبك على ترك الصلاة وجب عليك هجره وترك السلام عليه وعدم إجابة دعوته ورفع أمره لولي الأمر ليستتاب فإن تاب وإلا قتل لقوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (¬1) فدل ذلك على أن من لم يقم الصلاة لا يخلى سبيله، والأدلة في هذا كثيرة، نسأل الله للمذكور ولأمثاله الهداية والتوفيق (¬2). اهـ. ويشمل حكم الردة كل من انتسب إلى حزب البعث في سوريا أو في العراق، أو ما تفرع عنهما في بقية البلاد الإسلامية. نظرًا إلى أن هذه الأحزاب خارجة عن عمد وإصرار على حكم الله وحكم رسوله، مبيحة لما حرم الله ومحرمة لما أباح الله في كثير من جوانب أنظمتها (¬3). ويكفي أن من شعارها قول قائلها عبر الإذاعة الرسمية: آمنت بالبعث ربا لا شريك له وبالعروبة دينًا ما له ثاني (¬4) فهذا القول كفر محض ومن شك في كفر من قال هذا القول فهو كافر ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (5). (¬2) انظر مجلة الدعوة عدد 961 في 20 محرم 1405 ص27. (¬3) انظر الإخوان المسلمين والمؤامرة على سوريا/ جابر رزق ص37 - ص86 وانظر سقوط الجولان/ خليل مصطفى/ ضابط استخبارات الجولان قبل الحرب ص32 - 33. (¬4) انظر الإخوان المسلمين والمؤامرة على سوريا تأليف جابر رزق ص111.

ومثل حزب البعث حزب القوميين السوريين في لبنان الذي أنشأه الصليبي الحاقد أنطون سعادة، وحزب القوميين العرب الذي أنشأه الصليبي قسطنطين زريق في الجامعة الأمريكية، وهذه الأحزاب كلها أحزاب كفر وضلال والدليل على ذلك أن مؤسسها من الصليبيين الحاقدين على الإسلام ابتداء من ميشيل عفلق مؤسس الأحزاب البعثية إلى مؤسس الأحزاب القومية الذين تقدم ذكرهم. ومع أن هذه الأحزاب خارجة عن الإسلام فكرًا وواقعًا، فإن المخدوعين من أبناء المسلمين يتهافتون على الانتساب إلى هذه الأحزاب تهافت الفراش على النار، نظرًا لغياب الوعي الإسلامي الصحيح عن مسرح الحياة، مع أن واجب المسلم الحقيقي أن يكون عداؤه لتلك الأحزاب أشد من عداوة اليهود والنصارى وأهل الأوثان. وقد ورد من بعض الأخوة الباكستانيين سؤال إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز يقول: «ما حكم الذين يطالبون بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية ويحاربون حكم الإسلام؟ وما حكم الذين يساعدونهم في هذا الطلب، ويذمون من يطالب: حكم الإسلام ويلمزونهم، ويفترون عليهم؟». وقد أجاب على ذلك بعد أن ذكر عددًا من الأدلة التي سبق ذكرها في مبحث متقدم من هذه الرسالة (¬1) بقوله: لقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو أن هدي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر ضال. كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال. وإن الذين يدعون إلى ¬

_ (¬1) انظر ص57 وما بعدها من هذه الرسالة.

الاشتراكية أو الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام كفار ضلال أكفر من اليهود والنصارى لأنهم ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر (¬1). اهـ. إن اتخاذه هذه الأحزاب لمسميات مناهضة للإسلام لهو دليل ضمني على مفاصلة تلك الأحزاب لحزب الله ومحاربته وجميع المنتمين إليه، ولو كانت هذه الأحزاب متمسكة بالإسلام لوجدت في حزب الله وأهله أعظم شعار ومحتوى يغنيها عن جميع أحزاب الشيطان وعن الانتماء إليها. فهل يعي المخدوعون، ويستيقظ النائمون، ويرجع المرتدون إلى الإسلام؟ هذا ما نرجوه، والله حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) انظر جريدة المسلمون الدولية السنة الأولى العدد الأول السبت 19/ 5/1405هـ. ص10.

المبحث الرابع: موالاة الخارجين عن السلطة ومعاداتهم

المبحث الرابع: موالاة الخارجين عن السلطة ومعاداتهم مما لا شك فيه أن الناس يختلفون في اجتهاداتهم ونظرتهم وتقديرهم للأشياء، فما يراه إنسان مصلحة قد يراه إنسان آخر مفسدة، وما يعتقده إنسان حقًا يعتقده إنسان آخر باطلاً ولذلك أنزل الله الكتاب وأرسل الرسول وأمر كلاً من الحاكم والمحكوم بالرجوع إلى ذلك قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (¬1). فإذا وجد حاكم مسلم ذو سلطة شرعية وبيعة حقيقية، فلا بد أن يوجد من يخالفه في الرأي ويختلف معه في الاجتهاد، وهذا أمر طبيعي ما لم يصل الأمر إلى العداوة والبغض، أو حمل السلاح بين هيئة الحكومة وبين بعض أفراد الرعية، وفي هذه الحالة يمكن تسمية أحد الطرفين المتنازعين بأنه باغٍ على خصمه، فإن كان الأفراد الذين ينازعون السلطة ويختلفون معها في الرأي، ينفردون عنها بمذهب ابتدعوه، فينظر إلى هذا المذهب، وإلى تلك المخالفة، فإن كان مذهبهم الذين يدعون إليه، ويختلفون مع السلطة عليه، مذهبًا إلحاديًا، يتعارض مع ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (59).

أصول الإسلام فهم كفرة خارجون عن طريق الحق والصواب، مرتدون بدعوتهم إلى تلك المذاهب التي ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك مثل دعاة الشيوعية في البلاد الإسلامية أو ما تفرع عنها من اشتراكيات مختلفة ويدخل في ذلك أصحاب الأحزاب الكافرة التي تخالف حزب الله جملة وتفصيلاً، فإن كل من خرج على الجماعة المسلمة وسلطانها الشرعي بغير تأويل صحيح وحجة شرعية فهم بغاة إن ادعوا الإسلام وكفار مرتدون إن أعلنوا شعائر الكفر أو أعلنوا موالاتهم للكفار عليها. وقد حارب أبو بكر (رضي الله عنه) مانعي الزكاة، واعتبروا لدى الصحابة (رضي الله عنهم) مرتدين، فما ظنك بمن يدعون إلى الشيوعية في ديار الإسلام وهي تنكر وجود الله، ووجود كتبه ورسله، ثم يجد هؤلاء الدعاة عناية ورعاية من بعض السلطات الحاكمة في ديار الإسلام ويتعاون مع هؤلاء كثير من الأفراد على هدم الإسلام وتضليل المسلمين، إنهم ليسوا بغاة فقط بل هم كفار مرتدون محاربون يسعون إلى الوصول إلى السلطة ليفرضوا كفرهم وانحرافهم على كل الناس من مركز القوة. وما ينطبق على دعاة الشيوعية ينطبق على كل من دعا إلى أحزاب الكفر ومبادئ الضلال مهما اختلفت أسماؤها وتباينت شعاراتها فإن كل من خرج على حزب الله وجماعة المسلمين، فهو كافر مرتد بغض النظر عن دعواه وانتمائه إلى أي لون من ألوان الكفر، فإن الكفر ملة واحدة والخروج أو النزاع على السلطة لا يخرج عن تسع حالات تختلف كل حالة عن سواها تبعًا لاختلاف طرفي النزاع وهي كما يلي: (أ) ... (ب) 1 - خروج كافر على كافر. ... 4 - خروج فاسق على كافر. 2 - خروج كافر على فاسق. ... 5 - خروج فاسق على فاسق. 3 - خروج كافر على مؤمن. ... 6 - خروج فاسق على مؤمن.

7 - خروج مؤمن على كافر. ... 8 - خروج مؤمن على فاسق. 9 - خروج مؤمن على مؤمن. وتفصيل كل حالة من هذه الحالات يطول بنا ولكن يجب أن ينصر المؤمن على الكافر والفاسق سواء كان المؤمن السابق أو اللاحق إلى السلطة وأن ينصر الفاسق على الكافر كذلك، أما إذا كانوا كلهم كفار فيتركون ينتقم الله من بعضهم ببعض، وإذا كانوا كلهم فساقًا فإن تساووا في درجة الفسق اعتزلهم، وإن كان بعضهم أفضل من بعض والي وانصر الأقرب إلى الشرع (¬1)، وإن كانوا كلهم مؤمنين، فإن علم أن الحق مع أحدهم على الآخر، وجبت نصرة صاحب الحق، عملاً بقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (¬2). وللحديث «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: تأخذ فوق يده» (¬3). وإن جهل من هو صاحب الحق منهما اعتزلهما كما فعل الصحابة (رضي الله عنهم) في النزاع بين علي ومعاوية (رضي الله عنهما) (¬4). فالبغاة كما يظهر من دلالة اللفظ لغة واصطلاحًا هم الظلمة المعتدون على إمامة إمام حق وحاكم عدل، بتأويل مخطئ في الدين أو لطلب الدنيا، وعلى هذا فمن خرج على حاكم غير شرعي وغير عادل في حكمه فليس باغيًا، وقد جزم ابن حزم (¬5) بأن من دعا إلى أمر بمعروف أو نهى عن ¬

_ (¬1) انظر الأحكام السلطانية – للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص38 - 39. (¬2) سورة الحجرات آية (9). (¬3) رواه البخاري، انظر فتح الباري ج5 ص98 (كتاب المظالم). (¬4) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل/ ابن حزم ج4 ص171. (¬5) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الأندلسي القرطبي (أبو محمد) أصله من فارس، ولد بقرطبة في آخر رمضان سنة (384هـ) ونشأ بها ثم طلب العلم على علمائها فهو فقيه، محدث، أصولي، حافظ، أديب، متكلم، مشارك في التاريخ والأنساب والنحو واللغة والشعر والطب والمنطق والفلسفة، وكان يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة، وانتقد كثيرًا من العلماء والفقهاء، فأجمع هؤلاء على تضليله، وحذروا منه أرباب الحل والعقد، ونهوا عوام الناس عن الدنو منه، والأخذ عنه فأقصي وطورد، فرحل إلى بادية لبلة بالأندلس فتوفي بها سنة (456هـ) من تصانيفه الكثيرة: الإيصال إلى فهم الخصال الجامعة، والفصل في الملل والأهواء والنحل، والمحلى في الفقه، شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام، المقرب في تاريخ المغرب، انظر معجم المؤلفين ج7 ص16.

منكر، أو إظهار القرآن والسنن والحكم بالعدل، وهو صادق بدعواه، فلا يعتبر باغيًا بل الباغي من خالف ذلك (¬1). فإذا كان البغاة يخالفون الحاكم المسلم العدل متهمين له ولحكومته بالتقصير في بعض الواجبات أو بمنع بعض المباحات بناء على تأويل واجتهاد مخطئين فيه، فإن أمرهم والحالة هذه لا يخلو من أربع حالات: الحالة الأولى: أن يكون البغاة منبثين بين أفراد الأمة، لم يتظاهروا بعصيان طاعة الإمام، ولم يتحيزوا بدار أو قلعة أو قرية، أو حصن، فهم أفراد، متفرقون، تنالهم قدرة الحاكم، وتمتد إليهم يده، فيجب على الحاكم والأمة في مثل هذه الحالة، تركهم وعدم محاربتهم وإن كانوا يظهرون عدم الرضي بأقوالهم، ويتذمرون من تصرفات الحاكم ومن معه، بناء على فهمهم وتصورهم الذي أخطئوا فيه، فتجري عليهم أحكام أهل العدل في الحقوق والواجبات، ويلزم الحاكم والأمة أن يوضحوا لهؤلاء فساد ما اعتقدوه وبطلان ما انتحلوه، لعلهم يرجعون عن رأيهم الذي ارتأوه واعتقادهم الذي اعتقدوه، واستدل القائلون بذلك، بما قاله علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لقوم من الخوارج: «لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيدكم معنا» (¬2). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم ج11 ص98. (¬2) انظر الأحكام/ للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص38 - 39.

الحالة الثانية: أن يكون البغاة قد تظاهروا باعتقادهم، وأعلنوا عصيانهم، بلا قوة يستخدمونها، وهم مع ذلك على اختلاطهم بالأمة وامتزاجهم بالرعية، وذلك مثل ما يحصل في بعض البلاد الإسلامية من تجمعات ومظاهرات يراد بها الاستنكار والاحتجاج بأسهل الطرق وأيسرها، للتعبير عن الرأي بغض النظر عن صواب هذا الرأي أو خطئه، ففي مثل هذه الأحوال، يجب على الحاكم والأمة دعوة هؤلاء إلى تحكيم كتاب الله بينهم في محكمة نزيهة ذات استقلالية كاملة تامة في اتخاذ الأحكام وتنفيذها عملاً بقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) فيوضح لهم إذا كانوا بحق بغاة فساد اعتقادهم، وخطأ فهمهم ليرجعوا إلى الاعتقاد الحق، وموافقة الجماعة، فإن أبوا بعد الدعوة والإقناع والتحكيم، جاز للإمام أن يعزر فقط من تظاهروا بالعناد والعصيان، أدبًا وتعزيرًا، يتناسب مع الخطأ الذي ارتكبه هؤلاء، وهذا التعزير والتأديب لا يقرره الحاكم بنفسه وهو لا يفقه من أحكام الإسلام شيئًا، وإنما تقرره السلطة القضائية من واقع التشريع الإسلامي بحيث لا تصل العقوبة التعزيرية في مثل هذه الأحوال إلى القتل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة» (¬1). الحالة الثالثة: أن يكون البغاة قد اعتزلوا الإمام الحق، وتحيزوا بدار قد تميزوا فيها عن بقية الأمة، ففي هذه الحالة ينظر في أمرهم، فإن لم يمتنعوا من تأدية حق، ولم يرفضوا أمر طاعة، لم يحاربوا، ما داموا مقيمين على الطاعة، وتأدية الحقوق، وقد استدل على ذلك أن طائفة من الخوارج الذين خرجوا على علي (رضي الله عنه) أقاموا بالنهروان، فأرسل إليهم علي عبد الله بن خباب عاملاً عليهم، فأقاموا على طاعته زمانًا، وهو لهم موادع (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج3 ص1302 – 1302. (¬2) انظر الأحكام السلطانية/ للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص58 - 59.

الحالة الرابعة: أن تمتنع الطائفة الباغية الخارجة على الإمام الحق وأن تمنع ما عليها من الحقوق، وترفض أمر الطاعة، وتنفرد باجتباء الأموال وتنفيذ الأحكام، سواء نصبوا لأنفسهم إمامًا أو لم ينصبوا فحينئذ يجب محاربتهم، حتى يفيئوا إلى الطاعة ويدخلوا في الجماعة عملاً بقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (¬1). وإذا قلد الإمام الحق، أمر قتال الفئة الباغية لقائد من قواده وجب على هذا القائد إنذارهم ودعوتهم إلى المسالمة، وتحكيم كتاب الله فيما شجر بينهم، فلا يصح منه الهجوم المباغت لهم لأنهم غير مشركين، ولا مرتدين فهم إخوة مؤمنون وأفراد مسلمون كما تدل الآية المتقدمة على ذلك، ولهذا يدعوهم بالتي هي أحسن، فإن أبوا قاتل المقاتلين المقبلين منهم، ويكف عن قتال المدبرين منهم، والفارين، ولا يقتل أسيرهم ولا جريحهم، ولا يعاملون معاملة أهل الحرب من المشركين والمرتدين، بل يعامل أسراهم معاملة كريمة، تليق بهم كمسلمين (¬2)، فمن أمنت منه الرجعة إليهم والقتال معهم، أطلق سراحه عند تحقق ذلك. ومن لم تؤمن منه الرجعة حبس حتى تضع الحرب أوزارها ثم يطلق ولا يحبس بعدها لزوال الشوكة التي كانت لهم، وأثناء الحرب، لا تغنم أموالهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا يستعان على قتالهم بمشرك، فقد منع الإمام أحمد الاستعانة بالمشركين في قتال أهل الحرب، فعدم الاستعانة بهم في قتال البغاة أولى (¬3). ومما تقدم يتضح لنا الفرق الواضح والبون الشاسع بين نظرة الإسلام ¬

_ (¬1) سورة الحجرات آية (9). (¬2) يقول ابن تيمية (رحمه الله): إن أهل البغي المجرد لا يكفرون باتفاق أئمة الدين فالقرآن قد نص على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي. انظر فتاوى ابن تيمية ج35 ص57. (¬3) انظر الأحكام السلطانية/ للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص39.

إلى البغاة، ومعاملته لهم، وبين ما هو حاصل في معظم ديار الإسلام، فمن يدقق النظر في السلطات الحاكمة في أكثر البلاد الإسلامية يجد أنها بمقياس الإسلام سلطات كافرة فاجرة قد اغتصبت السلطة بتآمر مع أعداء الإسلام في الخارج ومع زمرة من المنافقين في الداخل، ولذلك فموالاة ومناصرة تلك الحكومات أمر باطل من الأساس، باعتبار أنها حكومات كافرة كفرًا بواحًا لا لبس فيه ولا غموض، ولذلك فتأييدها والسكوت عليها أمر مخالف للشرع فكيف بالدفاع عنها ومناهضة من يريد هدمها، فالواجب والحالة هذه إن كان الخارج عليها مثلها في الكفر والفسوق، أن يعتزل المسلم الجميع حتى يُهْلِكَ الله بعضهم ببعض قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (¬1) وقد يكون بعضهما أقل من بعض في الفسق والظلم ففي هذه الحالة إن لم يجد أفضل منهما يكون نصره وتأييده للأقل منهما في الظلم والفسق بناء على القاعدة الفقهية في درء أعظم المفسدتين بأدناهما (¬2). وإن كان الإمام مالك بن أنس (رحمه الله) يرى عدم المشاركة في قتال البغاة للحكام الظلمة حيث يروى أن ابن القاسم سأل مالكًا عن قتال البغاة أيجوز قتالهم؟ فقال: إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز، قال: فإن لم يكن مثله؟ فقال: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما. فكانت الفتوى سببًا من أسباب محنته (¬3). وعلى هذا فليس كل من خرج على سلطة غير شرعية باغيًا بل قد يكون هو صاحب الحق والعدل ومن يقف في وجهه أو يحارب ضده هم البغاة ولكن رؤساء النظم الديكتاتورية في العصر الحاضر، كلما أحسوا بيقظة الشعوب وصحوتها واهتدائها إلى الطريق القويم والمنهج المستقيم، صبوا عليها صنوفًا من التنكيل وألوانًا من العقاب والعذاب ووصفوها بأنها ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (129). (¬2) انظر الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص39. (¬3) انظر الإسلام بين العلماء والحكام/ عبد العزيز البدري ص155.

شراذم متآمرة، أو فئات حاقدة، أو فلول مخدوعة، أو جماعات متحجرة، وهم لا يتريثون حتى يصل الخطر إلى مرحلة الخروج عليهم، بل إنهم ليحسبون على الناس كلماتهم وأنفاسهم وغدوهم ورواحهم، ويزجون بعشرات الآلاف من الناس بمجرد كلمة لا تنال رضا صاحب السيادة ولو كانت كلمة حق، فهم ليس لديهم معيار للحق أو الباطل سوى رضا الرئيس أو غضبه، فما يرضيه حق وما يغضبه باطل ولو كان الواقع الحقيقي خلاف ذلك، فهم يريدون من جميع الناس أن يمسحوا من عقولهم فكرة حق وعدل أو ظلم وجور، وأن يطيعوا الحاكم طاعة عمياء، ويتبعوهم تبعية عشواء، بلا سؤال أو مناقشة أو استفسار، وكم شهدت سجون مصر (¬1) وسوريا والعراق وليبيا والمغرب واليمن وغيرها ... إلخ) من مآسي تدمي القلب وينشق لهولها الفؤاد حيث عذب فيها عشرات الآلاف من الناس الذين هم من خيرة المؤمنين الطيبين لم يدخلوها بتهمة سرقة أو زنا أو شرب خمر ولم يدخلوها لأنهم يوالون اليهود أو النصارى حيث إن كل هؤلاء يتمتعون بالحماية والرعاية من قبل تلك السلطات وإنما دخلها المؤمنون الذين قالوا: (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (¬2) فأين ما فعل هؤلاء؟ بأولئك المؤمنين، مما قرره منهج الإسلام بحق أعداء السلطة الشرعية من تسامح واحترام لمشاعر المخالفين له رغم خطأهم فهو يعاملهم بمنتهى السماحة والملاطفة، والاحترام، ولا ينال من أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم شيئًا. أما أصحاب الفخامة والسيادة في بلاد المسلمين اليوم فيستصرخون الدول الكبرى في نظرهم، كي تمدهم بأحدث وسائل التعذيب في سلخ ¬

_ (¬1) انظر مذبحة الإخوان في ليمان طرة/ تأليف جابر رزوق، وانظر الفراعنة الصغار في هيلتون الناصرية/ د/جابر الحاج، وانظر البوابة السوداء/ أحمد رائف، وانظر نافذة على الجحيم/ عدة مقالات، وانظر القابضون على الجمر/ محمد أنور رياض. (¬2) سورة البروج آية (8).

الأجسام وتمزيقها، ولكي يمدوهم بأرقى ما وصلت إليه الهندسة المعمارية في تخطيط السجون والمعتقلات وهم لا يفعلون ذلك تحسبًا لأسرى اليهود أو النصارى وإنما يفعلون ذلك للشرفاء والأوفياء من أبناء جلدتهم الذين عظم عليهم الخنوع والركوع لغير الله، والذين رفضوا تسلط الكفار والمنافقين والمرتدين على شئون الأمة الإسلامية، أما الذين رضخوا واستكانوا تحت قهر السياط وبطش العساكر والمخابرات فهم في عرف الحكام المستبدين، مقياس الرضا الشعبي، وارتياح جماهير الأمة لهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

المبحث الخامس: موالاة السلطة الحاكمة ومعاداتها

المبحث الخامس: موالاة السلطة الحاكمة ومعاداتها إن موالاة ولاة الأمر وعدم عداوتهم، والسمع والطاعة لهم، عبادة يؤديها الفرد المسلم لوجه الله عز وجل، يثاب على فعلها ويعاقب على تركها قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (¬1) وقد ذكر الله عز وجل طاعته وطاعة رسوله فيما يقارب من أربع وعشرين آية في القرآن الكريم (¬2). بينما طاعة ولي الأمر لم تذكر إلا في الآية المتقدمة مقيدة بكونه من المسلمين، والإسلام في مفهومه الصحيح يعني تطبيق الأحكام الشرعية قولاً وفعلاً واعتقادًا، وهذا الحاكم الموصوف بالإسلام هو الذي تطلبه الأمة الإسلامية، وتريد وجوده، وتحرص على بقائه، وترى أن طاعته واجبة لأنها متصلة بطاعة الله ورسوله. وعلى ذلك تحمل الآيات والأحاديث الواردة في وجوب طاعة ولاة ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (59). (¬2) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم مادة (ط - و - ع) ص429 - 430.

الأمر وعدم الخروج عليهم ما لم يقترفوا كفرًا بواحًا (¬1)، فقد ورد في صحيح مسلم قال: قال حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه): قلت يا رسول الله! إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه. فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال «نعم» قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال «نعم» قلت: كيف؟ قال «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي. وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» قال قلت: كيف أصنع؟ يا رسول الله! إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير. وإن ضرب ظهرك. وأخذ مالك. فاسمع وأطع» (¬2). وفي مسلم أيضًا: أن سلمة بن يزيد الجعفر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعون حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه. ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث (¬3) بن قيس. وقال: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» (¬4). وفي مسلم أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم، وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فأكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعة» (¬5). فهذه الأحاديث وغيرها مما هو في معناها، تدل على أنه لا يجوز الخروج على الحكام والولاة أو بغضهم وعداوتهم أو قطع الموالاة والنصرة لهم، بمجرد الظلم والفسق والمعصية التي لا تبلغ حد الكفر، فلا يجوز ¬

_ (¬1) انظر نيل الأوطار – للشوكاني ج5 ص367 وج7 ص198، 199. (ط- مصطفى الحلبي – بمصر) الطبعة الأخيرة. (¬2) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج3 ص1476 (باب الإمارة). (¬3) انظر ترجمته في أسد الغابة في معرفة الصحابة ج1 ص97 - 99. (¬4) صحيح مسلم ج3 ص1474، 1475. (¬5) المصدر السابق ج3 ص1481.

إسقاط بيعتهم، ونبذ عهدهم، ما لم يغيروا شيئًا من قواعد الإٍسلام، التي يحكم بموجبها بكفرهم وخروجهم عن الإسلام، فعند ذلك لا يصبح الخروج عليهم مباحًا، وإنما هو واجب من واجبات الشرع عملاً بالآيات والأحاديث التي تأمر بعدم الطاعة في المعصية والآيات والأحاديث الواردة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل شخص كائنًا من كان (¬1). فمذهب أهل السنة والجماعة أن الأمراء الظلمة مشاركون فيما يحتاج إليهم فيه من طاعة الله، فيصلى خلفهم، ويجاهد معهم، إذا كان الجهاد في سبيل الله، ويستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حكم منهم بعدل نفذ حكمه، وإن أمكن تولية، عدل لم يجز تولية فاجر فيجتهد معهم في الطاعة حسب الإمكان (¬2). قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (¬3). ويجب أن يعلم الناس أن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لصلاح العباد، فإذا اجتمع صلاح وفساد رجحوا الراجح منها، فإذا ترجح لديهم أن إزاحة الظالم عن ظلمه لا يترتب عليها من المفاسد أكثر مما ينشدونه من إصلاح جاز لهم ذلك. وإلا فلا، فقلما خرج قوم على سلطان إلا كان ما تولد من الشر أكثر مما يحصل بعد ذلك من الخير، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا، وإن كان فيهم خلق كثير من أهل العلم والدين وهذا المعنى مقصود للشارع، بالأدلة الدالة على وجوب صبر الرعية على جور الأئمة، فإن الصبر والحالة هذه قد يكون هو الأصلح للرعية ما لم يتر كفرًا صريحًا عندها من الله فيه برهان، فالشارع الحكيم أمر كلاً بما هو أصلح له سواءٌ الراعي أو الرعية، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم، وأمر الرعية بالصبر على ما ترى من إيثار الولاة أنفسهم ببعض حظوظ الدنيا ووقوعهم في بعض المظالم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي ج21 ص243، 244. (¬2) انظر ملحق المصنفات/ محمد بن عبد الوهاب ص50. (¬3) سورة التغابن آية (6).

والمعاصي، لأن الفتن إذا وقعت ضرت الجميع، ولأنها تمنع معرفة الحق وقصده والقدرة عليه، حيث يحصل من الشبهات في الفتن، ما يلبس الحق بالباطل حتى لا يميز كثير من الناس من هو صاحب الحق من صاحب الباطل (¬1)؟ فالأحاديث المتقدمة يجب أن لا تحمل على جواز موافقة الحكام في ظلمهم وباطلهم، أو على جواز عدم الإنكار عليهم فيما يرتكبون من منكر، أو على طاعتهم في المعصية، وإنما تدل على أن من كره المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته، وهذا في حق من لا يستطيع إنكار المنكر بلسانه وإن من أنكر بلسانه برئ إذا لم يستطع أن ينكر بيده، فمن عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت، ولكن الإثم والعقوبة على من رضي وتابع هذا المنكر الذي يكفي إنكاره بالقلب هو المنكر الذي لا يصل إلى درجة الكفر والخروج من الإسلام فالحاكم لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات: (أ) حاكم مسلم عادل. (ب) حاكم مسلم فاسق. (ج) حاكم كافر ولكل من هؤلاء منزلة تناسبه ومعاملة تخصه، ودرجة تميزه عن غيره. أ- فالحاكم المسلم العدل تجب طاعته ومتابعته تحقيقًا لأمر الله في وجوب الطاعة ولزوم الجماعة، حيث إن ولاء المسلم لحاكمه ولاء عقيدة وعبادة وليس ولاء لأشخاص أو طبقة أو عرف جاهلي أو ولاء مصلحة أو منفعة، لأن الأشخاص يموتون ويتغيرون وينحرفون، والشريعة باقية خالدة ما بقيت الحياة. ب- أما الحكام العصاة الفسقة فيكرههم على ما معهم من معصية وفسق ويحبهم على قدر ما معهم من الحق ولا يقطع العهد معهم ولا يخرج عن طاعتهم إلا إذا رأى ما يوجب كفرهم وخروجهم عن الإسلام. ج- أما الحكام الكفرة وهم غالبًا المرتدون عن الإسلام فلا تجوز مودتهم ¬

_ (¬1) انظر ملحق المصنفات/ محمد بن عبد الوهاب ص50، 51.

ولا تشرع طاعتهم، والواجب محاربتهم وعدم متابعتهم وهؤلاء هم المقصودون في النهي عن الطاعة لهم قال تعالى: 1 - (فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين) (¬1). 2 - وقال تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (¬2). 3 - وقال تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (¬3). 4 - وقال تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (¬4). 5 - وقال تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (¬5). 6 - وقال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (¬6). 7 - وقال تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (¬7). 8 - وقال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (¬8). فأمر بالطاعة في آية واحدة ضمن وصف معين ونهى عن الطاعة المنحرفة في آيات كثيرة، ومن الأحاديث التي تنهى عن الطاعة العمياء والتبعية العشواء ما يلي: 1 - ما روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على المرء السمع ¬

_ (¬1) سورة الشعراء آية (150 - 151). (¬2) سورة الزخرف آية (54). (¬3) سورة الأنعام آية (121). (¬4) سورة الأحزاب آية (67). (¬5) سورة الأنعام آية (116). (¬6) سورة الكهف آية (28). (¬7) سورة القلم آية (8، 9). (¬8) سورة القلم آية (10).

والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية. فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة» (¬1). 2 - وفي مسلم أيضًا من حديث طويل «لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف» (¬2). 3 - وسئل عبد الله بن عمرو بن العاص عن طاعة معاوية (رضي الله عنه) فقال: «أطعه في طاعة الله، وأعصه في معصية الله» (¬3). 4 - وفي حديث آخر «سيلي أموركم من بعدي رجال يُعَرَّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله» (¬4). وقد عد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) إن من رءوس الطواغيت الحاكم الجائر المغير لأحكام الله واستدل بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) (¬5). اهـ. وقد يسأل سائل ما هي صفة ومواصفات الدولة الإسلامية الحقة التي يجب علينا موالاتها ونصرتها، ويحرم علينا بغضها وعصيانها والخروج عليها؟ فنقول إن الجواب على ذلك هو ما وضحه الله تعالى بقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (¬6) وقد شرح العلماء صفات هذه الدولة التي ¬

_ (¬1) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج3 ص1469 (باب الإمارة). (¬2) نفس المصدر ونفس المكان. وانظر فتح الباري ج13 ص203. (¬3) صحيح مسلم ج3 ص1473. (¬4) انظر فتح الباري ج13 ص8 وانظر مسند أحمد ج1 ص400. (¬5) سورة النساء آية (60). (¬6) سورة الحج آية (41).

تجب موالاتها وتحرم معاداتها، بأنها هي التي تتوفر فيها هذه الصفات التالية: 1 - أن يكون الحكم الحقيقي فيها من حيث التشريع والتكوين لله وحده. 2 - أن لا يكون فيها قانون خاص أو عام يخالف الكتاب والسنة وأن لا يصدر أي أمر إداري يخالف التشريع الإلهي. 3 - أن لا ترتكز الدولة في قيامها على أساسا إقليمي أو عرقي، وإنما تقوم على أساس شمولية الإسلام وعالميته للناس عامة. 4 - أن تأمر الدولة بالمعروف فتنشر الصفات الحسنة وتنهى عن المنكر فتستأصل الصفات السيئة، وتعمل على إحياء شعائر الإسلام وإعلائها بواسطة التعليم الإسلامي الحق وبواسطة وسائل الاتصال بالناس في الوسائل المتعددة، مع محاربة الإلحاد والمبادئ الضالة وكشف عورتها. 5 - أن تعمل الدولة على وحدة المسلمين في العالم أجمع قولاً وفعلاً وأن تكون معهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. 6 - أن تكفل الدولة الحاجات اللازمة لأفراد الأمة فيها من مأكل وملبس ومسكن وعلاج وتعليم، وخاصة من كان غير أهل لاكتساب الرزق، أو لم يعد قادرًا عليه، أو عجز عنه عجزًا مؤقتًا لسبب من الأسباب النازلة كالبطالة أو المرض، أو عجزًا كليًا كالعمى أو الشلل أو نحو ذلك، من غير أن يفرق بين الناس من أجل مراكزهم الاجتماعية أو سلالاتهم العرقية. 7 - أن يتمتع أهل البلاد في حدود الأحكام الإسلامية بجميع الحقوق التي منحتها إياهم الشريعة الإسلامية من حماية النفس والمال والعرض وحرية العبادة والحرية الشخصية وحرية إبداء الرأي وحرية التنقل وحرية

الاجتماع وحرية اكتساب الرزق بالطرق المباحة، والمساواة في فرص العمل والترقي، والاستفادة من المؤسسات الاجتماعية بلا تمييز. 8 - أن لا يسلب أحد من سكان الدولة حقًا من هذه الحقوق إلا إذا كان له مسوغ شرعي في الشريعة الإسلامية، ولا يعاقب أحد على ذنب أو جريمة إلا بعد ما يسمح له بالدفاع عن نفسه، وتحكم عليه محكمة شرعية عادلة بعد استنادها على النص والدليل من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع أو قياس معتبر شرعًا عند علماء الأصول وفقهاء الأمة. 9 - أن يكون رئيس الدولة مسلمًا ذكرًا عدلاً، يعتمد الجمهور أو ممثلوهم على تدينه وكفاءته وسداد رأيه. 10 - أن يكون رئيس الدولة هو المسئول الحقيقي عن تسيير شئون الدولة غير أنه يجوز له أن يفوض جانبًا من صلاحياته إلى فرد أو جماعة يوثق بدينها وأمانتها. 11 - أن لا يستبد رئيس الدولة بالأمر إنما يُسير أمر الحكومة على منهاج الشورى، في مشاورة أهل العلم الذين هم أهل الحل والعقد في الأمة. 12 - أن لا يعطل رئيس الدولة أحكام الشرع كليًا أو جزئيًا ويستبد بالحكم من دون أهل الشورى. 13 - أن يكون للجماعة حق انتخاب رئيس الدولة، وحق عزله عن منصبه بأغلبية أهل العلم الشرعي من أهل الحل والعقد في الأمة كما قرر الإسلام ذلك.

14 - أن يكون رئيس الدولة مساويًا لجمهور المسلمين في الحقوق والواجبات وأن لا يكون محصنًا من أن تجرى عليه الأحكام الشرعية. 15 - أن يكون لأعضاء الحكومة وعمالها وعامة من يسكنها نظام واحد، ولا ينفذه فيهم إلا المحاكم الشرعية في البلاد. 16 - أن تكون الهيئة القضائية في الدولة منفصلة عن الهيئة التنفيذية ومستقلة عنها في إصدار الأحكام، حتى لا تتأثر في القيام بواجباتها بما للهيئة الإدارية من السلطة. 17 - أن لا يقبل في الدولة تفسير شيء من الأحكام بما يخالف الكتاب والسنة. 18 - أن لا يسمح بالنشر أو الدعوة إلى الأفكار والنظريات التي تناقض المبادئ الأساسية للدعوة الإسلامية، والتي تهدد الأمة الإسلامية بالفساد والاضطراب. هذه جملة وأهم الشروط التي اشترطها واحد وثلاثون عالمًا من علماء الأمة الإسلامية على صحة «قيام الدولة الإسلامية» وجواز تسميتها بهذا الاسم إذا توفرت فيها جميع تلك الشروط. وذلك في أثناء انعقاد مؤتمر بهذا الخصوص في كراتشي في الفترة من 12 - إلى 15 من شهر ربيع الآخر سنة (1370هـ) الموافق (21 - إلى 24 - من يناير سنة 1951م). ونحن نقول إن دولة بهذه الصفات يجب موالاتها ونصرتها وحبها وعدم بغضها أما الدولة التي تخالف تلك الأسس وتعتدي على هذه المقومات الأساسية للدولة الإسلامية، فهي دولة خارجة عن الإسلام أو تتخذ من الإسلام ستارًا، لتخدع به السذج والبسطاء لتحقيق مآربها التي تتناقض مع الإسلام، وتتعارض معه، فليعرف كل مسلم شروط الدولة الإسلامية، ليتبين له في ظل أي دولة يعيش وكيف يجب أن يتعامل مع من يعيش معهم.

ودار الإسلام أو الدولة الإسلامية ليس هي التي يعيش فيها أكثرية مسلمة أو وطئتها أقدام المجاهدين المسلمين بل قد تصبح دار الإٍسلام دار كفر، ودار الكفر دار إسلام، والضابط لتلك الأحوال هو ما عرف به العلماء دار الإسلام ودار الكفر حيث يقولون: إن دار الإسلام هي التي يحكمها المسلمون وتجري فيها الأحكام الإسلامية، ويكون النفوذ فيها للمسلمين ولو كان جمهور أهلها كفارًا. وأما دار الكفر: فهي التي يحكمها الكفار، وتجري فيها أحكام الكفار ويكون النفوذ فيها للكفار، ولو كان جمهور أهلها من المسلمين (¬1) فالبلاد التي تخضع لنفوذ الكفار بالأصالة مثل فلسطين تحت الحكم اليهودي وأفغانستان التي يسيطر عليها الحزب الشيوعي فهذه وأمثالها بلاد كفر ودار كفر وإن كان أغلبية السكان من المسلمين لأن السلطة الحاكمة سلطة غير إسلامية. وكذلك ينطبق الحكم على كثير من الدول التي تدعي الإسلام وهي أبعد ما تكون عنه، وإن كان معظم سكانها مسلمين نظرًا لأنها لا تجري فيها جميع أحكام الإسلام، ولأن النفوذ والسلطة فيها لغير المسلمين فنجد أن كثيرًا منها قد وضعت قوانين تحمي الزنا والربا والخمر والميسر ولا تعاقب من يترك الواجبات من صلاة وصيام وزكاة وحج، ومع ذلك تتستر ببعض مظاهر الإسلام، وهي في حقيقة الأمر والواقع دار كفر وردة عن الإسلام. فمثلاً نجد أن قانون العقوبات في مصر والعراق في عهد الاحتلال يحمي الزنا ويشجعه بعدم تطبيق العقوبات الشرعية عليه. ¬

_ (¬1) انظر الفتاوي السعدية ج1 ص92/ عبد الرحمن بن سعدي. وانظر الحرب والسلم في شرعة الإسلام د/ مجيد خدوري ص209 وانظر الأحكام السلطانية للماوردي ص133، 151، 166 وانظر الجواهر المضيئة - للسرخسي ج2 ص28، 29 وانظر المواريث علمًا وعملاً ص85 وانظر الوصايا في الفقه الإسلامي ص54 وانظر شرح الأزهار/ ج2 ص572 وانظر الدرر السنية ج7 ص359.

ففي المواد من (267 - 279) من قانون العقوبات المصري العربي والمواد من (232 - 240) من قانون العقوبات البغدادي أن الزنا إذا وقع برضى الطرفين وهما غير متزوجين وسنهما فوق الثامنة عشرة فلا شيء عليهما. وإن كانا متزوجين فلا عقوبة عليهما ما لم يرفع أحد الزوجين دعوى ضد الزوج الخائن (¬1). فهل يجوز تسمية بلاد بمثل هذه الحال قديمًا أو حديثًا بدار إسلام والله عز وجل يقول: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (¬2) وهم يقولون بلسان حالهم ومقالهم لا! لن نجلد الزناة برضاهم ولو ثبتت عليهم البينة، أليس هذا استدراك على الله فيما حرم وتجهيل له فيما شرع؟ وهذا من أنواع الكفر حيث يقول تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (¬3) وحكم الكفر هذا لا يقتصر على شخص الحاكم فقط بل يتعداه إلى كل المؤيدين له على ذلك والمناصرين له والراضين به، فحكمهم كحكمه كما ذكر الله عن جنود فرعون وهامان قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (¬4) فأشرك الله قوم فرعون معه في الخطيئة والإثم، لسكوتهم ورضاهم ونصرهم وتأييدهم له. وعلى هذا فمن الواجب على الرعية إن كان الحاكم ظالمًا أن تنصحه بالتي هي أحسن كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة "ثلاثًا" قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله (عز وجل) ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة المسلمين ¬

_ (¬1) انظر قانون العقوبات المصري العربي رقم 58 لسنة 1937م وتعديلاته - المواد المشار إليها أعلاه. (¬2) وانظر قانون العقوبات البغدادي "العراقي" الصادر سنة 1917م. (¬3) سورة النور آية (2). (¬4) سورة المائدة آية (44).

وعامتهم» (¬1) فإن حصل اختلاف بين الراعي والرعية وجب عليهما الرجوع إلى الكتاب والسنة عملاً بقوله تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (¬2) حيث إن سلطة التشريع الإسلامي لها قوة فوق قوة الحاكم والمحكوم، فلو كان ولاة الأمر، وحكام البلاد تجب طاعتهم طاعة مطلقة، أو كانوا معصومين من الخطأ كما يدعي غلاة الشيعة لما كان لقوله: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) معنى بل كان يقول فردوه إلى الحاكم أو إلى الإمام، ومن ذلك يتبين ضعف هذا القول وصحة قول الجمهور من أنه لا طاعة في المعصية (¬3). لأن ذلك هو الموافق للأدلة، فقد روى مسلم من حديث أم الحصين: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله اسمعوا له وأطيعوا» (¬4) فجعل القيادة بكتاب الله سببًا للسمع والطاعة (¬5). وقد وضع النووي في شرحه لصحيح مسلم عنوانًا «باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية» (¬6) فدل بذلك على أن هذا هو ما يراه صوابًا. وفي الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (¬7). وقد اختلف العلماء في درجة الانحراف التي تسقط بها بيعة الحاكم وتنحل ولايته ويجوز عندها الخروج عليه على قولين: القول الأول: قول من يقول بوجوب الصبر على الإمام أو الحاكم وإن أخذ المال وضرب الظهر وأظهر المعاصي، ما دام يقيم الصلاة عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم (¬8): «ما أقاموا فيكم الصلاة»، واستدلوا أيضًا بقوله ¬

_ (¬1) رواه مسلم. انظر جامع العلوم والحكم/ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص72 - 73. (¬2) سورة النساء آية (59). (¬3) انظر تفسير القرطبي ج5 ص260 - 261. (¬4) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج3 ص1468 (باب الإمارة). (¬5) انظر في ظلال القرآن سيد قطب ج5 ص417. (¬6) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص222. (¬7) انظر مشكاة المصابيح ج2 ص1092 ح3696. (¬8) انظر ص468 من هذه الرسالة.

تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (¬1). وللحديث المروي عن خالد بن عُرفطة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا خالد إنها ستكون بعدي أحداث وفتن واختلاف فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل» (¬2). القول الثاني: قول الجمهور وهو أن الله عز وجل قد حرم الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض إلا بحق شرعي يبيح ذلك، فقد حرم قتل النفس بقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (¬3). وقال تعالى في حق الأموال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (¬4). وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحريم الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا ويشير إلى صدره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» (¬5). وروى مسلم في صحيحه أن من خطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (¬6). وقد علمنا أن كلام الله ورسوله لا يخالف بعضه بعضًا ولا يناقضه وقد امتدح الله هذا التنزيل بتلك الصفة فقال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (¬7). ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (29). (¬2) انظر مسند الإمام أحمد ج5 ص292. (¬3) سورة الإسراء آية (33). (¬4) سورة النساء آية (29). (¬5) رواه البخاري ومسلم. انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج2 ص1080. (¬6) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج2 ص889. (¬7) سورة النساء آية (82).

فالذي يسلم ماله للأخذ ظلمًا وظهره للضرب بغير حق وعرضه للانتهاك يكون آثمًا بنص الكتاب والسنة حيث إن الآيات والأحاديث متواترة على عدم الطاعة في المعصية والتعاون على الإثم والعدوان قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (¬1). وفي الحديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» قال: أرأيت إن قتلته؟ قال «هو في النار» (¬2). وعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنه) قال: أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد» (¬3). فإذا كان هذا في شأن المال فالدفاع عن الدين والنفس والعرض أولى من ذلك. والرد على الذين يرون وجوب الطاعة في المعصية، فيما دون ترك الصلاة. أن يقال لهم، ما رأيكم في إسلام من جعل اليهود خاصته وأصحابه، والنصارى جنده وبطانته، وحمل السلاح على كل من وحَّد الله من المسلمين، وحارب المؤمنين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وهو مع ذلك يتظاهر بالإسلام وبالصلاة في بعض المناسبات لتلتقط له الصور التي يضحك بها على السذج والبسطاء، أترون أنه يجوز الخروج عليه أم لا؟ فإن منعوا الخروج على مثل هذا فقد منعوا الخروج على كل كافر، وقد حارب الصحابة (رضي الله عنهم) المرتدين واعتبروهم كفارًا بمخالفتهم ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (2). (¬2) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج1 ص124 (كتاب الإيمان). (¬3) المصدر السابق ج1 ص125.

بالشهادتين وقد أجمع الفقهاء في مختلف العصور على كفر من يقف من أحكام الإسلام مثل هذا الموقف، فلو كان مجرد الاعتصام باسم الإسلام مع عدم العمل به يكفي في الانتماء إلى هذه الأمة، لكفى المنافقين والمرتدين من طائلة العذاب (¬1). فالواجب إذًا أنه إذا وقع الحاكم في شيء من الجور أو الظلم -وإن قل- أن ينصح ويكلم في ذلك، فإن اقتنع ورجع إلى الحق، وأذعن لاستيفاء الحق منه، وجبت طاعته، ولا سبيل إلى خلعه، فإن لم يمتنع عن جوره وظلمه، ولم يكن لأصحاب الحق أن يستوفوا حقهم منه، وجب خلعه وإقامة غير مقامه، ممن يقوم بالحق لأنه لا يجوز تضييع شيء من واجبات الدين مراعاة لأهواء الظلمة من الحكام والولاة (¬2). فمن أجاز اتباع شريعة غير شريعة الإسلام وجب خلعه، وانحلت بيعته وحرمت طاعته لأنه في مثل هذه الحال يستحق وصف الكفر (¬3) بخروجه على شرع الله عن عمد وإصرار، واستباحة واستصغار قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (¬4). فالكافر تحرم طاعته، وتجب معصيته ومقاطعته، وأما الحاكم المسلم العدل تجب طاعته وتحرم منازعته، أما الحاكم الفاسق أو العاصي فهو الذي يدور فيه الخلاف، وللعلماء في عزل الحاكم الفاسق والخروج عليه ثلاثة آراء هي: أولاً: وجوب العزل إذا ظهر الفسق بالقول أو الفعل. ثانيًا: منع العزل إذا كان العزل يفضي إلى فتنة متوقعة أشد من المصلحة المتوقعة من العزل. ¬

_ (¬1) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج4 ص171 - 175 وانظر الدرر السنية ج9 ص264 - 265. (¬2) انظر المصدر السابق الفصل ج4 ص175 - 176. (¬3) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص507. (¬4) سورة المائدة آية (44).

ثالثًا: منع العزل مطلقًا. وبما أن الاستطراد في توضيح هذه الأقسام الثلاثة قد يخرج بنا عن نطاق الموالاة والمعاداة إلى صلب النظرية السياسية في الإسلام، فإننا نكتفي بالإشارة إلى ما نراه راجحًا في هذه المسألة حيث إنه بإمكان القارئ أن يرجع إلى هذه الأقوال في مصادرها التي سنشير إليها في هامش هذه الرسالة تلافيًا لإطالة الموضوع بلا سبب قوي يوجب ذلك. والرأي الذي أرجحه من هذه الآراء الثلاثة أن الحاكم إذا عصى وارتكب أمرًا يوجب فسقه القولي أو الفعلي نُظِرَ إليه، فإن كان العزل يمكن أن يتم بطرق سلمية كما هو الأصل في الشريعة الإسلامية، وجب عزله عند حصول المعصية نظرًا إلى أن الأصل من شروط الولاية العدل في الخليفة وتحقق العدالة فيه، فإذا نقض هذا الشرط بنفسه وجب خلعه، كما يحصل في بعض الدول الكافرة التي أخذت ببعض المفاهيم السياسية الإسلامية في تعيين الحاكم وعزله، فنجد أن بعض الدول الكافرة تعزل رئيسها عند أدنى خطأ يرتكبه، بينما يتشبث المتسلطون على رقاب المسلمين بكرسي الحكم حتى لو أبادوا الشعب كله في سبيل ذلك، أو أن يلقي الشعب بجسد الحاكم من على كرسيه جثة هامدة. وهذا كله مخالف لأصول النظام السياسي في الإسلام. فإذا كان عزل الحاكم لا يتم بالطرق السلمية كما ذكرنا، فإني أرى الرأي القائل بكراهية الخروج على الحاكم وعزله ونقض بيعته إذا كان الغالب على الظن حصول فتنة بذلك كما هو رأي جمع من العلماء (¬1). فالعزل الذي يترتب عليه سفك الدماء ونهب الأموال والاعتداء على الأعراض وتعطيل الحدود الشرعية، لا شك أنه يجلب على الأمة ودينها أكثر ¬

_ (¬1) انظر رسالة ماجستير في عزل الرئيس الأعلى للدولة في نظام الحكم في الإسلام د/ علي بن فهيد السرباتي ص116 - 130.

مما ينشده المصلحون من دفع المفاسد الحاصلة بسبب فسق الحاكم وحكومته. فقد تكون مصلحة الأمة في بقائها وصبرها على المعاصي ومحاولة إصلاحها بالتي هي أحسن أعظم من وقوعها في دوامة الصراع والتناحر مع شخص الحاكم وحكومته، إذ لا يعلم نهاية الصراع وآثاره المدمرة وما يقع فيه إلا الله تعالى. كما أنه لا يجوز القول بوجوب العزل في كل مسألة فسق مهما صغرت، لأن ذلك يؤدي إلى عدم وجود دولة تحكم بالكلية، نظرًا إلى أن الإنسان غير معصوم من الخطأ وارتكاب بعض صغائر الذنوب، فلو أخذ أحد برأي المعتزلة الذين يرون وجوب العزل في كل معصية مهما صغرت، لتوالى أمر العزل والتولية بشكل مستمر، مما يفقد هذا المنصب أهميته واستقراره، وهيبة أهله التي يجب أن يكون لها في نفوس الناس وقع واحترام (¬1). وعلى هذا تحمل الأحاديث الواردة في المصابرة ووجوب الطاعة للولاة ما لم يظهروا كفرًا بواحًا. أما إذا كان الغالب على الظن عند ظهور فسق الحاكم ومعصيته أن عزله لا يترتب عليه حصول فتنة، وأن التغيير له يمكن أن يمر بسلام فيستحب عزله وذلك للأسباب الآتية: أولاً: أن احترام وطاعة رئيس الدولة ومحبته واجب شرعي بشرط أن يحترم نفسه، ومنصبه، ويحترم حق الأمة في هذا المنصب وأن يتبوأه بحقه أما إذا انحرف عن ذلك فإن للأمة الحق في تتبع المنحرف عن دستورها السماوي، ومجازاته على انحرافه لئلا يظن أن له حصانة تحميه من المحاسبة على أقواله وأفعاله فيشجعه هذا الظن السيئ على الفسق ¬

_ (¬1) انظر رسالة ماجستير في عزل الرئيس الأعلى للدولة في نظام الحكم في الإسلام د/ علي بن فهيد السرباتي ص 131 - 132.

والفجور، وديننا أسمى وأكمل من الأنظمة الوضعية التي تعزل الحاكم وتنزل به أشد العقوبات عند الخروج على نظامها. فكيف من يخرج على نظام شرعه الله من فوق سبع سموات؟!! ثانيًا: إن مبدأ التسامح مع الولاة الفساق والظلمة مبدأ خطير على الأمة لا يقف عند حد، حيث يفقد الأمة أهم خصائصها في إقامة العدل واستيفاء الحقوق، وتنفيذ الواجبات على الناس من القمة إلى القاعدة بلا استثناء أو تمييز، كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده» (¬1). ولكن للأسف الشديد إن القول بعدم جواز عزل الحاكم قد تجاوز مرحلة فسق الحاكم ومعصيته إلى القول بعدم جواز عزله مهما فجر وطغى، ومهما أباح وحرم، ومهما أظهر من ألوان الكفر الاعتقادي والقولي والعملي، وهذا القول -بحمد الله- لم يقل به أحد من علماء الإسلام المعتمدين، وإنما قال به جماعة من أدعياء العلم والفقه وسماسرة الكلمة الذين يبيعون ذممهم بحفنة من الدراهم، أو ينافقون مع الحكام الكفرة خوفًا من ظلمات السجن وأعواد المشانق، فيهرولون إلى عتبات الحكام الكافرين بالفتاوى المعلبة الجاهزة التي يعلمون مسبقًا أنها تنال رضى الحاكم وتبرق لها أسارير وجهه. لقد وجد الطغاة جمهورًا من علماء النفاق ووعاظ المسكنة الذين زينوا للطغاة انحرافهم، وبرروا لهم أخطاءهم وقاموا بمؤنة إقناع الناس نيابة عن سادتهم حتى وصل الأمر إلى ما هو مشاهد من ولاء للحكام الكافرين في معظم البلاد الإسلامية (¬2) وهؤلاء الذين يتزيون بزي العلماء وهم كمثل ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد بسند صحيح - انظر المسند بشرح أحمد شاكر ج1 ص168 (ط 4 - دار المعارف بمصر). (¬2) انظر الإيمان وأثره في نهضة الشعوب/ يوسف العظم ص25 - 50.

الحمار يحمل أسفارًا، قد جروا على البلاد الإسلامية مفاسد كثيرة لا تعد ولا تحصى وفيهم يقول ابن المبارك (رحمه الله): وهل أفسد الدين إلا الملو ك وأحبار سوء ورهبانها (¬1) ويقول الشاعر سليمان بن سحمان في وصف دار الكفر وحكم الكافرين ما يلي: إذا ما تولى كافر متغلب على دار إسلام وحل بها الوجل وأجري بها أحكام كفر علانيا وأظهرها فيها جهارا بلا مهل وأوهى بها أحكام شرع محمد ولم يظهر الإسلام فيها وينتحل فذي دار كفر عند كل محقق كما قاله أهل الدراية بالنحل وما كل من فيها يقال بكفره فرب امرئ فيهم على صالح العمل ولم تجر للكفار أحكام دينهم على أهلها لكن بها الكفر قد حصل وما كان فيها الجانبان على السوى فقال تقي الدين في ذلك المحل يعامل فيها المسلمون بحقهم وذا الكفر ما قد يستحق من العمل فلا تعط حكم الكفر من كل جانب ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية ج1 ص191.

ولا الحكم بالإسلام في قول من عدل ومن يتول الكافرين فمثلهم ولا شك في تكفيره عند من عقل ومن قد يواليهم ويركن نحوهم فلا شك في تفسيقه وهو في وجل وكل محب أو معين وناصر ويظهر جهرًا للوفاق على العمل فهم مثلهم في الكفر من غير ريبة وذا قول من يدري الصواب من الزلل فوالي الذي والي لدين محمد وعادى الذين عاداه من كل من جهل وأبغضهم في الله جل جلاله كما قد أحب المهتدين وما غفل (¬1) وخلاصة القول في هذه المسألة أن الدولة إذا كانت كافرة كحال معظم الدول المنتسبة إلى الإسلام وهي أبعد ما تكون عنه حيث تحرم ما أحل الله وتبيح ما حرم الله، وتجري بها أحكام الكفر علانية، فإن موقف المسلم منها أن يعاديها ويبغضها، ولا يناصرها بقول أو فعل عملاً بقوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (¬2). أما إن كانت الدولة فاسقة عاصية ظالمة، فإن مودتها غير جائزة، ومناصرتها غير مشروعة إلا ضد من هو أشد منها فسقًا وظلمًا، بناء على القاعدة الفقهية في درء أعظم المفسدتين بأدناهما (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص126 - 131. (¬2) سورة المجادلة آية (22). (¬3) انظر التشريع الجنائي الإسلامي/ عبد القادر عودة ج1 ص575.

ولو صبر على فسقها وظلمها في حالة عدم وجود من هو أصلح منها لكان ذلك أمرًا مباحًا، وإذا كان إحلال غيرها محلها يترتب عليه من المفاسد أعظم مما ينشده المصلحون من المصالح فإن الأولى الصبر عليها وعدم الخروج عن طاعتها، أما لو أخذ المسلمون بمبدأ نظام الحكم في الإسلام أخذ صحيحًا لوجب عزل الحاكم بالطرق السلمية عند فسقه وعصيانه (¬1). أما إذا وُجِدَ الحاكم المسلم العدل والحكومة الإسلامية الحقة فإن طاعتها واجبة ومناصرتها فريضة والخروج عليها معصية قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (¬2). وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم» (¬3). فحق الولاة على المسلمين طاعتهم في غير معصية الله ورسوله، ومناصرتهم وتأييدهم بما ليس فيه ضرر على المؤمنين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. وإذا فليطمئن الحاكم المسلم على نفسه ما دام يحكم بالإسلام حيث قد ضمن الإسلام وجوب طاعته وحرم الخروج عليه، وإذا انحرف الحاكم عن حكم الله وعطل شرع الله فالخطأ خطؤه والجريمة جريمته، وما يلقاه من عنت ومشقة حينئذ إنما سببه تعديه على حدود الله، كحال أي مجرم يتعدى على الحدود الشرعية، فيكون جزاءه الردع والتأديب، ولذا فإن دار الإسلام هي التي يحكم فيها الإسلام وحينئذ يجب أن يتولى المسلمون فيها بعضهم بعضًا، وما عداها فهي دار حرب، علاقة المسلم بأهلها إما القتال، ¬

_ (¬1) انظر رسالة ماجستير في عزل الرئيس الأعلى للدولة في نظام الحكم في الإسلام د/ علي فهيد السرباتي ص131 - 132. (¬2) سورة النساء آية (59). (¬3) رواه البخاري - انظر فتح الباري - ج13 ص5.

وإما المهادنة على عهد أمان، ولكن ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين (¬1). سواء كان حكامها من الكفار الأصلاء أم العملاء فهما وجهان لعملة واحدة هي الكفر. يقول الشاعر: سيان من جاء باسم الشعب يظلمه أو جاء من "لندن" بالبغي يبغيه (¬2) ¬

_ (¬1) انظر معالم في الطريق/ سيد قطب ص184 - 185. (¬2) انظر شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث ج1 ص45.

الفصل الثاني: الموالاة والمعاداة للفرق التي تنتسب إلى الإسلام

الفصل الثاني: الموالاة والمعاداة للفرق التي تنتسب إلى الإسلام 1 - تقديم لهذا الفصل حول افتراق هذه الأمة. 2 - المبحث الأول: موالاة ومعاداة الفرقة الزيدية. 3 - المبحث الثاني: موالاة ومعاداة الشيعة الاثنى عشرية. 4 - المبحث الثالث: موالاة ومعاداة الطائفة النصيرية. 5 - المبحث الرابع: موالاة ومعاداة الدروز.

تقديم: حول افتراق هذه الأمة

تقديم: حول افتراق هذه الأمة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»، وفي رواية «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة» (¬1)، والحديث بسنده ومعناه صحيح في الجملة، وقد اختلف العلماء في كون هذه الفرق في النار، فقال قوم هو أن هذه الفرق تدخل النار لبدعتها، وإن كانت، لا تخلد فيها، لأنه لا يخلد فيها منهم إلا من وصل ببدعته إلى حد الكفر، مثل الغلاة من الفرق الباطنية، الذي يؤلهون عليا، أو ينكرون تمام الرسالة أو القرآن أو يئولون أركان الإسلام تأويلاً فاسدًا مثل تأويلات الدروز والنصيرية لأحكام الإسلام. ¬

_ (¬1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج1 ص12 - 23، رقم الحديث (203، 204).

يقول ابن قيم الجوزية (رحمه الله): إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة» فيه دلالة على أن هذه الفرق كلها غير خارجة عن الإسلام، إذ قد جعلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم من أمته، وفيه أن المتأول لا يخرج من الملة وإن أخطأ في تأويله (¬1). اهـ. واختلف العلماء في أهل البدع: القول الأول: من كفرهم جميعًا وهذا القول قال به بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو إلى المتكلمين (¬2). القول الثاني: من كفر الجهمية دون الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة. وقد قال بهذا القول: يوسف بن أسباط وعبد الله بن المبارك وتبعهم على ذلك طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم (¬3). القول الثالث: من لا يكفر أحدًا من أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «في النار» مثل ما جاء في سائر الذنوب من أكل مال اليتيم ونحو ذلك (¬4). ويقول: ابن تيمية (رحمه الله) «وفصل الخطاب في هذا الباب يذكر أصلين: الأصل الأول: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقًا، وإذا كان الأمر كذلك، فأهل البدع فيهم الزنديق حيث كان ¬

_ (¬1) انظر تهذيب سنن أبي داود لابن قيم الجوزية ج7 ص154. وانظر إجابة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. مجلة الدعوة السعودية عدد (821) الاثنين 27/ 1/1402هـ. ص26. (¬2) انظر فيما تقدم مذكرة في الملل والنحل أملاها الدكتور/ محمد رشاد سالم على طلاب قسم العقيدة في كلية أصول الدين للعام الدراسي 96/ 1397هـ. من ص6 - 7. (¬3) المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) المصدر السابق المكان نفسه.

رؤساء أهل البدع منافقين زنادقة وهذا كفر ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطن وظاهر، ولكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ومن أهل البدع من يكون فيه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، لا يرقى به إلى درجة الكفر. ومن أهل البدع من يكون مخطئًا ومتأولاً مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى، ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه» (¬1). الأصل الثاني: إن المقالة الواحدة يختلف حكمها بحكم قائليها فمن جحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، أو أباح الزنا والخمر والربا ونكاح ذوات المحارم، فهذه المقالة كفر بواح لا غبار عليها. وقد يقول بذلك إنسان لم يبلغه الخطاب، ولم تبلغه الشرائع (¬2) الإسلامية فلا يكفر بذلك، لأنه لا يحكم بكفر من جحد شيئًا مما أنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يعلم أنه أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). اهـ. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الغلاة من الفرق الباطنية. فأجاب: أن كل من كان مؤمنًا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو خير من كل من كفر به، وإن كان في إيمانه ذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة التشيع، أو من المرجئة والقدرية وغيرهم، فإن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص7. (¬2) روى عبد الله بن بسر أن أعرابيًا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله». انظر سنن ابن ماجه ج4 ص418 رقم (3855) وانظر مسند أحمد ج4 ص188 - 190. (¬3) انظر فيما تقدم مذكرة في الملل والنحل أملاها الدكتور/ محمد رشاد سالم على طلاب قسم العقدية في كلية أصول الدين للعام الدراسي 96/ 1397هـ ص7.

للرسول - صلى الله عليه وسلم - لا مخالفًا له، لم يكن كافرًا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ويقول عبد القاهر بن طاهر البغدادي (¬2) إن وصف «أمة الإسلام» لا يشمل إلا من كان مقرًا بحدوث العالم، وتوحيد صانعه، وقدمه وصفاته، وعدله، وحكمته، ونفى التشبيه عنه، وآمن بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعموم رسالته إلى الكافة، وقام بتأييد شريعته، واعتقد أن كل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق وبأن القرآن الكريم خال من الزيادة أو النقص، وأنه مع السنة متبع أحكام الشريعة، وأن الكعبة هي القبلة التي تجب الصلاة إليها، فكل من أقر بذلك، ولم يشبه ببدعة تؤدي إلى الكفر فهو من أهل السنة الموحدين الداخلين في مسمى أمة الإسلام (¬3). ثم يقول: «إن فرقة الزيدية والإمامية معدودتان في فرق الأمة الإسلامية، ما عدا الغلاة منهما فخارجون عن الإسلام». أما الفرق الباطنية كالدروز والنصيرية والقرامطة ونحوهم فهي ليست من فرق الإسلام بل هي فرق خلطت بين المجوسية والنصرانية والإسلام فأخذت من كل بطرف زيادة في التضليل والنفاق (¬4). اهـ. ¬

_ (¬1) انظر الفتاوى لابن تيمية ج35 ص201. (¬2) هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله التميمي البغدادي الشافعي (أبو منصور) فقيه، أصولي، متكلم، أديب، مشارك في أنواع من العلوم، ولد ببغداد ونشأ بها وسكن نيسابور ودرس بها سبعة عشر عامًا وتوفي بأسفرايين سنة (429هـ) من مؤلفاته الكثيرة: الكلام في الوعيد الفاخر في الأوائل والآواخر، شرح المفتاح لابن القاص في فروع الفقه الشافعي، الملل والنحل للبغدادي، كتاب التفسير، التكملة في الحساب، وله أشعار كثيرة. انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحاله ج5 ص309. (¬3) انظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص12 - 13. (¬4) انظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص21.

وقد عدَّ ابن تيمية (رحمه الله) فرقة النصيرية التي تدعى العلوية من الفرق الخارجة عن الإسلام (¬1). اهـ. وعلى هذا فإن الحكم على الفرق المنتسبة إلى الإسلام يختلف باختلاف نظرتها واعتقادها في أصول الإسلام، فمن يعتقد في أصل من أصول الإسلام ما يوجب الكفر يحكم بكفره ومن يعتقد تأويلاً باطلاً في أصل من الأصول فإنه لا يحكم بكفره ولكنه يوصف بالفسق والعصيان إذا كان هذا التأويل لا يوجب الكفر وذلك مثل اعتقاد بعض الشيعة بأن الصلاة جماعة غير واجبة حتى يخرج المهدي المنتظر في زعمهم فمن حافظ على الصلاة منفردًا منهم فلا يكفر بترك الجماعة لأن مسألة حضور الجماعة ليست أصولية يحكم بكفر من تركها. فالخلاف في الأصول الشرعية لا يعذر فيه أحد، ولذلك لما كتب أحمد بن علي القاسمي رسالة إلى عبد العزيز بن محمد بن سعود (رحمه الله) يقول فيها «ولا يعترض أحد منا على أحد في مذهبه، وكل مجتهد مصيب» فرد عليه عبد العزيز - وهو من العلماء العاملين والحكام العادلين - بقوله «هذا في مسائل الفروع، لا في الأصول، حيث إن المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم يدَّعون أنهم مصيبون (¬2). قال تعالى: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (¬3)». وقال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (¬4). اهـ. فمن المعلوم أن أهل السنة والجماعة وإن اختلفوا في بعض المسائل ¬

_ (¬1) انظر الفتاوى لابن تيمية ج32 ص145 - 161 وانظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص252 - 255. (¬2) انظر الدرر السنية ج1 ص148 - 150. (¬3) سورة الأعراف آية (30). (¬4) سورة الكهف آية (103، 104).

الفقهية الفرعية، فإن اختلافهم ناجم عن اجتهاد محض، ودوافع بريئة من كل شائبة في غالب أحوالهم، وهذا الاختلاف إن كان اختلاف تنوع في بعض المسائل الفرعية فهو أمر لا يعيب المختلفون فيه بعضهم بعضًا. وإن كان اختلاف تضاد في مسائل فرعية فيجوز وصف أحد المخالفين بالخطأ والآخر بالصواب، ولكن المخطئ لا يخرج من ملة الإسلام ما لم يتعمد سلوك الخطأ عن علم ويقين، أما من أخطأ عن اجتهاد منه في مسألة فرعية، فلا ضير عليه (¬1). أما الخلاف في أصل من أصول الإسلام فهو أمر لا يجوز قولاً واحدًا، ومن خالف في أصل من أصول الإسلام فحكمه الكفر، ومن يخالف في أصل واحد كمن يخالف في سائر الأصول، ومذهب أهل السنة والجماعة فيمن خالف في أصل من أصول الإسلام أنهم يوجبون البراءة منه ومن قوله وفعله واعتقاده (¬2). ولذلك فإن دراستنا لأي فرقة من الفرق المنتسبة إلى الإسلام يقودنا إلى دراسة أهم الأصول الاعتقادية والشعائر التعبدية لتلك الفرقة من واقع مصادرها الأصلية، وما قاله عنها جهابذة العلماء عبر التاريخ، ثم بعد الاطلاع على الأسس والمنطلقات العقائدية لتلك الفرق نستطيع تصنيفها وترتيبها، ومعرفة درجة الموالاة والمعاداة التي ينبغي لأهل الإسلام الالتزام بها من واقع أقوال وأفعال مؤسسي تلك الفرق وأتباعهم إلى عصرنا الحاضر. وقد يقول معترض أن البحث في الفرق الإسلامية وخلافها من أهل السنة والجماعة عمل سلبي وتحصيل حاصل لا يترتب عليه فائدة لأطراف ¬

_ (¬1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص37 - 39. (¬2) انظر تبديد الظلام وتنبيه النيام/ إبراهيم سليمان الجيهان ص63.

النزاع سوى إذكاء روح العداوة بينهما كلما هدأت الفتنة بمرور الزمن وحانت فرصة الوحدة والالتقاء. ونحن نرد على هذا الاعتراض بأن غرض العلماء من بيان هذا الأمر في كل زمان ومكان، هو بيان بطلان الباطل من تلك العقائد الضالة، لئلا تتخذ مع مرور الزمن، أمور مسلمة عند سلامتها من النقد والمناقشة والاعتراض، فإن رجع أصحابها عنها فقد رجعوا إلى الحق، وإن تمسكوا بها فقد تمسكوا بالباطل، فبيان بطلانها واجب على المسلمين للمسلمين، وللكفار الذين يتخذون من اعتقادات بعض فرق الباطنية وسيلة للطعن في الإسلام وتشويه نظامه المميز الفريد. ونحن قد نلجأ إلى الغلظة في الكلام بناء على الحقائق المذهلة التي قد يكون إثباتها جارحًا لبعض الفرق، مما قد يجعلهم يصفون هذا الأسلوب بأنه نوع من التطرف والتشنج والانفعال الخالي من الحوار الهادئ، والجدل الموضوعي. ونحن نرد: بأن المقام مع من يعبثون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويتسلون بدماء المسلمين وأعراضهم ليس مجرد الغلظة في الكلام ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل.

المبحث الأول: موالاة ومعاداة الفرقة الزيدية

المبحث الأول: موالاة ومعاداة الفرقة الزيدية الزيدية أو المذهب الزيدي ينسب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم) المتوفي سنة (132هـ - 740م)، ويطلق على هذا المذهب في الأوساط الفقهية المذهب الخامس لأنه يلحق بالمذاهب الفقهية الأربعة نظرًا لاعتداله في بعض المسائل الفقهية (¬1). وقد ألحقه كثير من الدارسين لأحوال الفرق الإسلامية بالمذهب الشيعي، لأن أهم رجال هذه الفرقة ممن يروي عن أئمة الشيعة، وموقفهم من الخلافة، أنهم يختلفون عن سائر فرق الشيعة حيث يرى البعض منهم جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وموقف المعتدلين منهم عدم جواز سب الصحابة (رضوان الله عليهم) فهم يرون أن عليًا بن أبي طالب (رضي الله عنه) أولى بالإمامة هو وأبناؤه بلا تمييز بين الأبناء وأبناء ¬

_ (¬1) انظر دائرة المعارف الإسلامية ج11 ص14 - 20.

الأبناء، وإذا قارنا بين آراء الزيدية في مسألة العصمة والإمامة والتقديس والرجعة والمعجزة والتقية والمهدية وتخطئة الصحابة، بآراء الشيعة الإمامة وببقية الفرق الأخرى لوجدنا أن هناك فرقًا كبيرًا بينهما، ولا يعني هذا خلو المذهب الزيدي من بعض المسائل والشوائب التي دخلت عليهم عن طريق التشيع لآل البيت فالمذهب الزيدي في جملته ينحو فيما يتعلق بالأسماء والصفات ونحو المعتزلة حيث إن زيد بن علي تتلمذ على يد واصل بن عطاء مؤسس مذهب الاعتزال في الأسماء والصفات (¬1). وفيما يتعلق بالمسائل الإيمانية مخالف للمرجئة الذين يرون الإيمان مجرد التصديق بالقلب (¬2)، كما أن المذهب الزيدي يحمل طابع التشدد في الدين في بعض القضايا، ويشترك الزيدية مع الشيعة في قولهم في الآذان: (حي على خير العمل). والتكبير خمس مرات في صلاة الجنازة، ورفض المسح على الخفين ورفض الصلاة خلف الفاجر، وعدم أكل ذبائح غير المسلمين (¬3). هذا هو مذهب جمهور الزيدية، وقد شذ منهم بعض الفرق التي ضلت بسبب غلوها المفرط في التشيع وذلك مثل الجارودية وهم أتباع أبي الجارود بن المنذري العبدي، فقد خالفوا منهج الزيدية وضللوا الصحابة في اختيارهم غير الإمام علي (رضي الله عنه) ويرفضون إمامة أبي بكر (رضي الله عنه) وهم يعتبرون عند جمهور الزيدية، رافضة غلاة متطرفين. أما البترية، والسليمانية من فرق الزيدية فهما أكثر اعتدالاً من ¬

_ (¬1) انظر كتاب الملل والنحل للشهرستاني ح1 ص120، 124، 166، (طبعة القاهرة 1347هـ). (¬2) انظر دائرة المعارف الإسلامية ج11 ص15. (¬3) انظر تاريخ الطبري ج4 ص264 - 269 وانظر الفصل في الملل والنحل/ لابن حزم وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص207 - 218. وانظر دائرة المعارف الإسلامية ج11 ص15 وانظر تاريخ الفكر الإسلامي في اليمن/ أحمد حسين شرف الدين ص130 - 131 وانظر فجر الإسلام/ أحمد أمين ص272.

الجارودية في نظر عامة الزيديين لعدم تخطئتهما الصحابة، إلا أنهما اشترطا شروطًا حول الإمامة لم يوافق عليها جمهور الزيدية (¬1). ويقول أحمد أمين (¬2): «إن مذهب الزيدية من أعدل مذاهب الشيعة وأقربها إلى أهل السنة حيث لا يسبون الصحابة (رضوان الله عليهم) وينظرون إلى الإمامة نظرة اعتدال، ولا يقولون بوجوب النص ولا بعصمة الأئمة» (¬3). اهـ. أما اليزيدية من الخوارج وهم أتباع يزيد بن أبي أنيسة الخارجي فليست هذه الفرقة من فرق أهل الإسلام، لأنها تقول: «إن شريعة الإسلام تنسخ في آخر الزمان بنبي يبعث من العجم» (¬4). اهـ. وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) عن مذهب الزيدية المنسوب إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) فقال: «زيد عندنا من علماء هذه الأمة فما وافق من أقواله الكتاب والسنة قبلناه، وما خالف ذلك رددناه، كما نفعل مع أقوال غيره من الأئمة والعلماء، هذا إذا صح النقل عنه بذلك ولكن أكثر ما ينسب إليه ويروى عنه، كذب وافتراء عليه، كما يفعل غلاة الشيعة مع علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأهل بيته حيث يروون عنهم، أقوالاً وآحاديث ¬

_ (¬1) المصادر السابقة المكان نفسه. (¬2) هو أحمد أمين/ عضو المجمع اللغوي بالقاهرة، والمجمع العلمي بدمشق والمجمع العلمي ببغداد، ولد بالقاهرة سنة (1295هـ وتوفي بها سنة 1373هـ) تولى القضاء بمصر، ودرس بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم انتخب عميدًا لها، ورأس لجنة التأليف والترجمة، وأصدر مجلة الثقافة، ثم شغل منصب مدير الإدارة الثقافية بالجامعة العربية. ومن مؤلفاته: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام، وفيض المخاطر، والنقد الأدبي، انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحاله ج1 ص169. (¬3) انظر فجر الإسلام/ أحمد أمين ص272. (¬4) انظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص279 - 280. وانظر الفصل في الملل والأهواء والنحل/ لابن حزم/ وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص183.

مخالفة لأصول الإسلام ولما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق متواتر، وما أثبته العلماء الثقات بالنقل الصحيح». ثم يقول والمذهب الزيدي الصحيح منه ما وافق الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وما خالف ذلك فهو باطل سواء كان ذلك مذهبًا زيديًا، أو أي مذهب كان (¬1). اهـ. ويظهر مما تقدم أن فرقة الزيدية هم أقرب الفرق إلى أهل السنة والجماعة، فمن كان منهم يختلف مع أهل السنة في مسألة فرعية وقضية اجتهادية فهذا الخلاف لا يقطع مودة، ولا يوجب عداوة لأنه يجري بين جميع المسلمين. أما الخلاف في مسائل أصولية، مثل سلوكهم طريق المعتزلة في موضوع الأسماء والصفات، فهذا الخلاف الصحيح أنه ينقل عن الملة إذا كان القول كفرًا كإنكار علم الرب جل وعلا بالأمور قبل حدوثها والقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة، وأنه ليس في السماء فهذه المسائل توجب معاداة من يعتقدها مثل معاداة الكفار وتقتضي عدم موالاته ما دام متمسكًا بتلك الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومدلول اللغة ومنطق العقل السليم. وعلى هذا فإن منهج التعامل مع الزيدية هو منهج التعامل مع غيرهم من الناس، فمن خالف بذنب دون الكفر، عاملناه معاملة الفساق والعصاة (¬2) بعد نصحه وبيان الحق له، ومن خالف بما يوجب الكفر أبغضناه وعاديناه، وقطعنا عنه الموالاة والمودة والمناصرة وسلكنا معه سبيل المرتدين عن الإسلام (¬3)، وحاولنا حمله هو وأمثاله على الحق بما نستطيع من وسائل لتحقيق ذلك، والله الهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية ج1 ص139. (¬2) انظر مبحث العصاة والفساق من هذه الرسالة ص425 - 445. (¬3) انظر مبحث المرتدين من هذه الرسالة ص452 - 457.

المبحث الثاني: موالاة ومعاداة الشيعة الاثنى عشرية

المبحث الثاني: موالاة ومعاداة الشيعة الاثنى عشرية إن دراستنا لبعض الفرق المنتسبة للإسلام ليست دراسة تفصيلية لهذه الفرق بقدر ما هو معرفة أهم الأسس العقائدية لتلك الفرقة التي هي مجال بحث حتى يتسنى لنا النظر إليها من خلال منظار صحيح فلا نغالي في عداواتها بما يخالف منهج الإسلام، ولا نتسامح في موالاتها ونصرتها بما يضر الإسلام ويحبط العمل، بل يجب أن نحكم القرآن الكريم والسنة النبوية مع من نختلف معهم، عملاً بقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (¬1). فالعدل مطلوب مع كل أحد والتعصب مذموم، إذا كان مبعثه الهوى والعاطفة المجردة من الحقيقة والدليل ودراستنا لفرقة من الفرق لا يعني أن كل المنتمين إليها يعتقدون ذلك الاعتقاد الفاسد ويتصورون ذلك التصور السخيف، فهناك من تراجع عن هذه الأفكار والاعتقادات وهناك من يجتهد في تطبيقها وتعلمها وهو على ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (59).

خطأ في ذلك ولكنه من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ونحن ندرك أن الذين بدأوا خط الانحراف لتلك الفرق، إنما كانوا منافقين زنادقة تظاهروا بالإسلام، وهم أشد الكفار كفرًا ونفاقًا (¬1)، يقول الأستاذ أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام إن أول من قال بالرجعة عند الشيعة هو عبد الله بن سبأ وهو يهودي حاقد تظاهر بالإسلام كما تظاهر سلفه بولس بالنصرانية لإفسادها، وقد نقل ابن سبأ فكرة الرجعة هذه عن بولس حيث ورد في الإصحاح الثاني والعشرين والثالث والعشرين حكاية عن بولس «أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس كيليكة ولكن ربيت في هذه المدينة "أورشليم" وقال في الثالث والعشرين «أنا فريسي ابن غريسي على رجاء قيامة الأموات» فنقل بن سبأ فكرة الرجعة وفكرة التقديس للأئمة ورفعهم إلى مرتبة الألوهية» (¬2). اهـ. وكل هذه المسائل التي انفردت بها الشيعة لها نظائر عند اليهود والنصارى، وهي أمور يأباها الدين الحق، ولقد أجمع المؤرخون المنصفون من الشيعة (¬3) والسنة (¬4) أن الذي أضرم نار الفتنة وسعى بالفرقة بين المسلمين، وحرض على أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين عثمان بن عفان، هو ذلك اللعين ابن سبأ وشرذمته من اليهود الذين أدمى الحقد قلوبهم وأعمى النور أبصارهم، فعمدوا إلى تفتيت قوة الإسلام من داخله وتمزيق وحدته، وإثارة العداوة بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان وقد أصاب هذا الدعي بعض النجاح بزرع أسباب الفتنة بين المسلمين التي ما زال المسلمون يعانون من آثارها حتى عصرنا الحاضر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل/ علي بن حزم ج2 ص115. (¬2) انظر ضحى الإسلام أحمد أمين ص247 وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص54 وانظر محاضرات في النصرانية/ محمد أبو زهرة ص70 - 71. (¬3) انظر رجال الكشي ص101 (ط مؤسسة الأعلمي بكربلاء - العراق). (¬4) انظر تاريخ الطبري ج5 ص66 (ط - مصر). (¬5) انظر الشيعة والسنة/ إحسان الهي ظهير ص19 - 31.

وسنقتصر على محاكمة هذه الفرقة من خلال النصوص المعتمدة في كتبها القديمة والحديثة، وعندما نتخذ حكمًا حول أصل من أصولهم فإنما يصدق هذا الحكم على من قال ذلك الكلام، وعلى من صدقه أو اعتقد صحته، في أي زمان ومكان، سواء كان ممن ينتسب إلى الشيعة أو ينتسب إلى غيرهم ولا ينطبق ذلك الحكم على عموم الأفراد من الشيعة الذين لا يؤمنون بتلك الأقوال، التي ظهر عيبها، وبان عورها عند كثير من الشيعة أنفسهم في العصر الحاضر، فضلاً عن غيرهم من الناس وسنتناول عقيدة الشيعة الاثنى عشرية في القرآن الكريم، وفي تفسير بعض الآيات من القرآن الكريم، ونظرتهم إلى الإمامة وغلوهم في الأئمة وعقيدتهم في العصمة، والرجعة والبَدَاء على الله وهذه بعض الفوارق بينهم وبين أهل السنة والجماعة والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل. (أ) (عقيدةُ الشيعةِ الاثنى عشرية في القرآن الكريم): إن الشيعة الاثنى عشرية فيهم الغلاة الذين صرحوا بنقصان القرآن الكريم وتحريفه، وفيهم المعتدلون الذين قالوا بتمام القرآن، ولكنهم لم يتبرأوا ممن قال بنقيض قولهم، بل سكتوا عن ذلك وتغافلوا عنه، وإن عدم الإيمان بحفظ القرآن الكريم وصيانته من التحريف يجر إلى إنكار القرآن وتعطيل الأحكام التي جاءت من عند الله، لأنه حينئذ يحتمل في كل آية من آيات القرآن الحكيم أنه وقع فيها تبديل وتحريف، وحين يقع الاحتمال يبطل الاستدلال، وعند ذلك تبطل الاعتقادات، لأن الإيمان لا يكون إلا باليقينيات وأما الظنيات والمحتملات فلا يبنى عليها اعتقاد جازم. وإذا رجعنا إلى قول علماء الشيعة في القرآن الكريم، نجد أن جمهور علماء الشيعة، وخاصة المعتمدون لديهم من السابقين، يقولون بأن القرآن الموجود لدى أئمتهم عدد آياته سبعة عشر ألف أية وأن الموجود لدى المسلمين في العصر الحاضر لا يساوي إلا الثلث وها هي النصوص من

كتبهم المعتمدة لديهم تنطق بذلك حتى لا يتوهم أحد أننا نتقول عليهم غير ما يقولون. أولاً: يروي المحدث الشيعي الكبير (الكليني) (¬1) الذي هو حجتهم ومعتمدهم ومرجعهم في عقيدة الاثنى عشرية في أقوالهم وأفعالهم، والذي كتبه لديهم بمنزلة صحيحي البخاري ومسلم عند عامة أهل السنة يقول: الكليني في كتابه «الكافي في الأصول» رواية عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إن القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر ألف آية» (¬2). ومعنى هذا أن الشيعة فُقِدَ في اعتقادهم ثلثا القرآن الكريم وفي رواية أخرى يرويها الكليني: «أنا أبا الحسن موسى عليه السلام كتب إلى علي بن سويد وهو في السجن: «ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك، ولا تحبّن دينهم، فإنهم الخائنون، الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا أمانتهم، وهل تدري ما خانوا أماناتهم؟ ائتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه»» (¬3). اهـ. هذه نماذج مما كتبه الكليني عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثانيًا: ما يروى ععن صدوق الشيعة «كما يزعمون» ابن باويه القمي ¬

_ (¬1) هو محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني البغدادي (أبو جعفر) من فقهاء الشيعة سكن في بغداد، بباب الكوفة، وتوفي بها سنة 329هـ، من تصانيفه - الكافي ويشتمل على ثلاثين كتابًا، العقل وفضل العلم، والتوحيد، الحجة، فضائل القرآن. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحاله ج12 ص116. (¬2) انظر الكافي في الأصول (كتاب فضل القرآن) باب النوادر ص634 ج2 (ط - طهران - 1381هـ). (¬3) انظر الكافي في الأصول (كتاب الروضة) ص125.

قال: رواية عن ابن الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون - المِصْحَف، والمسجد - والعترة - يقول المصحف يا رب حرقوني ومزقوني (¬1). ثالثًا: من أشد كتاب الشيعة تطرفا ومغالاة في ذلك المدعو - مرزا حسين بن محمد التقي النور الطبرسي، وهو من أجل علماء الشيعة لديهم ألف كتابًا سنة (1292هـ) سماه فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب (¬2). وعندما طبع هذا الكتاب قام بعض زعماء الشيعة باحتجاج على مؤلفه لأنهم كانوا يريدون أن يبقى التشكيك في صحة القرآن محصورًا بين خاصتهم، ومتفرقًا في الكتب المعتبرة لديهم، وإلا لو كانوا صادقين في إنكار ذلك لما قاموا بطبع الكتب وترويجها وهي التي في الحقيقة مصدر لذلك الكتاب الذي كتبه المرزا حسين، فهو لم يأت بشيء جديد سوى جمع ما تفرق من إثم وباطل في حيز واحد؛ ولكنهم قالوا إن إصدار مثل هذا الكتاب يكون حجة واضحة ماثلة أمام أنظار الجميع. ثم ألف كتاب آخر سماه «رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب» والكتابين فيهما من السخف ما لم يقل به متعصبوا اليهود والنصارى في عداوة الإسلام، فقد ذكر في كتابه الأول في الصفحة (180) منه أن القرآن الموجود في أيدي الناس تنقصه سورة الولاية التي مذكور فيها ولاية علي بن أبي طالب، وعندما مات هذا الشخص بعد كتابه الأخير بسنتين كافأه عامة الشعية على هذا المجهود في محاولة إثبات ¬

_ (¬1) انظر كتاب (الخصال) لابن بابويه القمي ص83 (ط إيران سنة 1302هـ). (¬2) يوجد منه نسخة في مكتبه محمد حسين نصيف/ جامعة الملك عبد العزيز بجده - انظر فهرس مكتبة محمد حسين نصيف بجامعة الرياض قسم المخطوطات وعدد صفحات هذا الكتاب تبلغ 398 صفحة ويوجد منها نسخة في الخزانة التيمورية التابعة لدار الكتب المصرية - وقد طبع سنة 1291هـ. طبع فارس على الحجر.

تحريف القرآن بأن دفنوه في ذلك المكان المقدس لديهم في بناء المشهد العلوي في النجف المشرف لديهم (¬1). وهذا لا يعني أن كل الشيعة الاثنى عشرية يقولون بذلك فإنا نجد منهم من ينكر تحريف القرآن الكريم وهذا هو الصواب إن لم يكن تقية من بعضهم، فإن التقية من مبادئهم وهي تعني إظهار شيء وإخفاء ضده، ولكننا لسنا مكلفين ولا قادرين على معرفة ما تحويه القلوب فنحكم على الظاهر والله يتولى السرائر، فنجد أن الشيخ الشيعي لطف الله الصافي في كتابه مع الخطيب في خطوطه العريضة ينكر تحريف القرآن الكريم (¬2)، وكذلك إبراهيم الموسوي الزنجاني من كتابهم المعاصرين يذكر في كتابه «عقائد الأمة الاثنى عشرية» ما نصه: «ولقد اتفقت الإمامية الاثنى عشرية بكلمة واحدة على أنه لا زيادة في القرآن، وجزموا بكلمة قاطعة أن الذي بين الدفتين هو القرآن المنزل، دون زيادة أو نقصان، واليوم أصبح هذا القول ضرورة من ضرورات الدين ثم يقول: وذكر سيدنا وأستاذنا في العلوم العقلية، آية الله السيد أبو القاسم الخوئي النجفي في تفسيره وأصوله، قوله: وأما دعوى تحريفه، فإنا نمنع وقوعه أولاً، ولم يقل به إلا بعض العامة، وتبعهم نفر من الخاصة الذين لا تحصيل لديهم» (¬3). ومناقشة هذا القول على النحو التالي: أولاً: إن ما قال به أبو القاسم الخوئي ولطف الله الصافي وإبراهيم الموسوي الزنجاني وغيرهم من عدم تحريف القرآن حق لا غبار عليه وشجاعة منهم ومن أمثالهم في قول كلمة الحق في وسط ينكر ذلك، ولكن ¬

_ (¬1) انظر الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الأمامية الاثنى عشرية/ محب الدين الخطيب ص9 - 10. (¬2) انظر كتاب مع الخطيب في خطوطه العريضة ص48 - 82. (¬3) انظر عقائد الأمامية الاثنى عشرية/ تأليف/ إبراهيم الموسوي الزنجاني ص186.

ثمة تقصير منهم في عدم كشف الحقيقة كاملة حيث إن ما ادعاه لطف الله الصافي من أن الشيعة لا تعتقد بتحريف القرآن وتغييره إنكار لا يستند إلى دليل. 1 - فهو لم يستطع إنكار كتاب -الحاج- مرزا حسين بن محمد التقي النوري الطيرسي- ولم يبين مرتبته وشأنه عند الشيعة، بل بالعكس، قد اعترف بتضلعه في الحديث، وعلو مقامه عندهم (¬1). 2 - لم يتبرأ من الذين قالوا بتحريف القرآن الكريم أمثال الكليني، وابن بابويه القمي، ومرزا حسين وغيرهم، ولم يذكرهم بأسمائهم فهو إما لا يعلمهم وتلك مصيبة، وإما أن يعلمهم، ولا يريد ذكرهم وهذه مصيبة أخرى (¬2). إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم ثانيًا: إن ما قاله إبراهيم الموسوي الزنجاني في كتابه المشار إليه آنفًا سلك فيه نفس المسلك والطريق الذي سلكه صاحب لطف الله الصافي من قبل: 1 - فهو ادعى الإجماع على عدم القول بتحريف القرآن الكريم وهذا كذب واضح وافتراء مكشوف، حيث نقض دعوى الإجماع بعد ستة أسطر من كلامه المشار إليه فقال وأما دعوى تحريفه ... 2 - أنه نسب القول بتحريف القرآن إلى بعض العامة أو الخاصة الذين ليسوا لديهم تحصيل علمي وهذه مغالطة واضحة، حيث إن الحقيقة تدل على أن الذين قالوا بالتحريف، هم العلماء المعتمدون لدى الشيعة ¬

_ (¬1) انظر الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة/ محب الدين الخطيب ص9010. (¬2) انظر السنة والشيعة/ تأليف إحسان الهي ظهير ص78 - 79.

فهل الكليني والطبرسي وابن بابويه القمي والسيد نعمة الله الجزائري وعلي أصغر البرجردي، وعلي الحائر اللاهوري (¬1). من العامة أو من الذين لا تحصيل لهم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يرجعون إلى مؤلفاتهم وأقوالهم في كل كلمة يتكلمون بها وفي كل فعل يفعلونه ويفضلون نقل رواياتهم التي تعمدوا فيها الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتركون كلام الله وكلام رسوله الذي لا يأتي عن طريق هؤلاء، إن الواجب مقاطعة كل ما كتبه هؤلاء من حق أو باطل، لأن الحق الذي شابه الباطل يوجد في مصادر أخرى نزية من الباطل، ولكن الواقع غير ذلك فما من مكتبة أو مدرسة أو بيت إلا وتجد فيها كتب هؤلاء الذين يطعنون في صحة القرآن الكريم وتمامه، وما تجد مؤلفًا حديثًا أو مقالاً في مجلة من مجلات هؤلاء إلا وترجع في معلوماتها إلى من أنكروا تمام القرآن وكماله، فهذا الكاتب إبراهيم الموسوي الزنجاني - والذي يدافع بحرارة عن كمال القرآن وتمامه - قد رجع واعتمد في معظم ما كتب على كتاب (الكافي في الأصول) للكليني وإلى كتاب (الخصال) لابن بابويه القمي مع قولهما بنقصان القرآن الكريم وتحريفه فالكليني يروي عن جابر الجعفي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزل إلا علي بن أبي طالب والأئمة بعده (¬2). ونحن نقول أين هذا الكتاب الذي جمعه علي بن أبي طالب والأئمة بعده قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين! أم أن هذا الكتاب مع المهدي الثاني عشر الذي أصبح خرافة من خرافات التاريخ! إننا لم نجد حتى من كتاب الشيعة المحدثين والذين يدعون العقلانية والاعتدال من تجرأ على ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق ص121. (¬2) انظر الكافي في الأصول (كتاب الحجة) باب، «إنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة» ج1 ص228 (ط- طهران).

البراءة من أولئك الذين تزخر مؤلفاتهم بدعوى تحريف القرآن الكريم فضلاً عن أن يعلنوا كفرهم وخروجهم من الإسلام وأن يمنعوا كتبهم من التداول، ويقاطعوا طبعها وشراءها، وأن يضعوا المؤلفين لها في القائمة السوداء، بدلاً من مدحهم وإطرائهم على رؤوس الأشهاد، والرجوع إلى مؤلفاتهم صباح مساء وهم قد دسوا الكفر والضلال بين طياتها، فإنه لا ولاء إلا ببراء كما يزعمون ذلك في شأن الصحابة (رضي الله عنهم) فعدم براءتهم ممن يقول بنقص القرآن وتحريفه، دليل واضح على الموافقة والرضى بذلك، والساكت على المنكر شيطان أخرس فإن كل شيعي يقرأ كتاب الكافي في الأصول للكليني أو يقرأ كتاب الخصال لإبن بابويه القمي أو يقرأ كتاب السيد نعمة الله الجزائري أو غيرها من الكتب التي تنكر تمام القرآن وكماله ثم يعتقد بصحة ذلك يكون قد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وكذب ما دل عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) فمن أنكر تمام القرآن وكماله أو اعتقد وجود الزيادة والنقص فيه فهو كافر كائنًا من كان وحكم موالاته ومعاداته حكم موالاة ومعاداة الكفار سواء بسواء. (ب) (عقيدة الشيعة الاثنى عشرية في الإمامة): يقول إبراهيم الموسوي الزنجاني «الإمامة هي الأصل الرابع في معتقدنا وهي أصل الخلاف بين الشيعة وسائر الطوائف الإسلامية» (¬1). والإمامية يعتقدون أن الإيمان بالإمامة والانضواء إلى الأئمة ركن سادس من أركان الإسلام، ولذلك يعدون من ينكر الإمامة كافرًا وهذا قول أشهر محدثيهم وعلمائهم. فيروي الكليني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس ¬

_ (¬1) انظر عقائد الإمامية الاثنى عشرية/ إبراهيم الموسوي الزنجاني ص305.

بجهالتنا من عرفنا، كان مؤمنًا، ومن أنكرنا كان كافرًا، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة» (¬1). فعلى هذا كل من عدا الشيعة الاثنى عشرية فهم كفار في نظر الكليني لأنهم لم يؤمنوا ولم يعرفوا الأئمة الاثنى عشر الذي يدعي وجوب إتباعهم وكفر من خالفهم. وقد علل الشيعة الاثنا عشرية ذلك بأن نصب الإمام واجب على الله لأنه ألطف بالعباد، ونحن لا نريد أن نخوض في ذلك الجدل الكلامي والتعللات الواهية حيث يجد القارئ الكريم ذلك مبسوطًا في كتب الفرق التي تناولت ذلك بالتفصيل ولكن نشير إلى قولهم هذا بأنه لو تنازلنا فرضًا على صحة قولكم فهل يكون اللطف بإمام قائم ظاهر قادر، يرجى نفعه ويخشى عقابه، أم يكون اللطف بإمام مقهور مستور في سرداب سامر منذ ثلاثة عشر قرنًا كما تعتقدون؟ فأنتم تعتقدون وجوب موجودين، لا ترون وجوب وجودهم، وهذا غاية التناقض والضلال، لأنه لا سبيل إلى معرفة الإمام بنفسه، فما بالك بمعرفة أوامره ونواهيه وأخباره؟ وقد شكا أحد رؤساء الشيعة إلى المقدسي فساد الخلق ثم قال له وما يصلحهم، قال المقدسي يصلحهم خروج المهدي، فقال السائل هل لخروجه وقت معلوم؟ فأجاب نعم: قال متى يكون؟ قال: إذا فسد الخلق، فقال السائل وهل تحبسونه عن الخلق وقد فسدوا كلهم غيركم، فلو فسدتم لخرج، فأسرعوا به إلينا، وأطلقوه من سجنه بدخولكم معنا (¬2). وقد غلوا في الأئمة كما غلت النصارى في عيسى بن مريم فرفعوا الأئمة على الرسل والأنبياء ووصل الأمر عند بعض الفرق إلى تأليه الأئمة ¬

_ (¬1) انظر كتاب الحجة من الكافي - للكليني ج1 ص187 (ط - طهران). (¬2) انظر تبديد الظلام وتنبيه النيام/ إبراهيم سليمان الجبهان ص365. نقلاً عن كتاب الإسلام الصحيح للنشاشيبي.

فهذا الكليني كبير محدثي الشيعة يروى في الكافي الذي هو عندهم بمنزلة صحيح البخاري تحت باب «أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا» ويروى عن جعفر أنه قال: «إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم» (¬1). وفي رواية مكذوبة على علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه -كثيرًا ما يقول: «أنا قسيم الله بين الجنة والنار ... ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل- بمثل ما أقروا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولقد حملت مثل حمولته، وهي حمولة الرب، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعى فيكسي، وادعى فأكسي ... ولقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد قبلي، علمت المنايا والبلايا، والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني، ولم يعزب عني ما غاب عني أبشر بإذن الله، وأؤدي عنه» (¬2). وهذا نماذج وغيض من فيض وإذا أردت أن تعرف ذلك مفصلاً فارجع إلى كتبهم المشار إليها أو إلى الكتب التي كتبت عن ذلك (¬3). ولم يسلم من هذا الأمر حتى المتأخرين والمعاصرين منهم، رغم محاولتهم الشديدة في الاعتدال والبعد عن الغلو. فهذا آية الله الخميني وهو من أشهر علمائهم المعاصرين ورئيسهم الحالي يقول عن الأئمة «وإن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا منزلة لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل» (¬4). وقد جرهم الغلو في الأئمة والتقديس لهم إلى القول بعصمتهم من الخطأ وعدم حصول الذنوب منهم. يقول: أحد كتابهم المعاصرين «اعتقادنا أن الأئمة معصومون ¬

_ (¬1) الكافي في الأصول (باب كتاب الحجة ص258 ج1 ط - إيران). (¬2) الكافي في الأصول - باب كتاب الحجة ص196، 197 ج1 ط - إيران. (¬3) انظر الخطوط العريض للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ص25/ محب الدين الخطيب. وانظر الشيعة والسنة/ لشيخ الإسلام ابن تيمية. (¬4) الحكومة الإسلامية/ آية الله الموسوي الخميني ص52 (ط-4).

ومطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنبًا لا صغيرًا ولا كبيرًا ولا يعصون الله في شيء مما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم، فقد جهلهم، ومن جهلهم فهو كافر» (¬1). ففي نظر هذا الكاتب كما هو نظر غيره من عامة الشيعة أن جمهور المسلمين الذين لا يقولون بذلك كفار لعدم موافقة هؤلاء على غلوهم وجهلهم في الأئمة وفي عصمتهم، والصحيح أن الإسلام لا يعطي صفة العصمة لأحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يقر على خطأ، أما ما عداه من الناس فهم مجتهدون يخطئون ويصيبون، ولو قلنا بتسلسل العصمة لجعلنا من الإسلام دينًا كهنوتيًا يحتكر فهمه وتفسيره أفراد من الناس والقائلون بعصمة الأئمة يريدون ذلك، بأن الإمام، لا يسئل ما يفعل، ولا يجوز مناقشة الأئمة فيما يعملون، وأنهم يعلمون الغيب ويعرفون ما صار وما يمكن أن يصير ومتى يموتون، إلى غير ذلك من الصفات الكمالية التي لا تليق إلا بالله عز وجل، وقد صور هذا المعنى الذي يظهر الغلو في الأئمة الشاعر الفاسق ابن هانئ الأندلسي يخاطب المعز الفاطمي فقال له: ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار فمثل هذا الغلو كفر يخرج فاعله عن دائرة الإسلام (¬2). ونجد التناقض البين فيما يعتقدونه في الأئمة من عصمة وعدم ارتكابهم أي ذنب من الذنوب، وبين ما يدعون به من دعاء في مزاراتهم ويروونه عن أئمتهم بأنهم مذنبون مخطئون وهذا تجده في الكتاب الواحد فقد ذكر إبراهيم الزنجاني أن الأئمة لا يذنبون كما تقدم (¬3). ثم ذكر بعد ذلك دعاء يروونه عن الرضا عليه السلام «اللهم أني أبرأ ¬

_ (¬1) عقيدة الإمامية الاثنى عشرية ص157/ تأليف/ إبراهيم الموسوي الزنجاني. (¬2) انظر المجتمع عدد 477 السنة الحادية عشرة في 7/ 6/1400 هـ ص11. (¬3) انظر ص509 من هذه الرسالة.

إليك من الذين قالوا فينا ما لم نعلمه في أنفسنا، اللهم لك الخلق ومنك الأمر، وإياك نعبد وإياك نستعين. اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين. اللهم لا تليق الربوبية إلا بك، ولا تصلح الإلاهية إلا لك، فالعن النصارى الذين صغروا عظمتك، والعن المضاهين لقولهم من برئيتك. اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك، لا نملك لأنفسنا ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورا، اللهم من زعم أن لنا الخلق، وعلينا الرزق، فنحن إليك منه براء كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، اللهم لم ندعهم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون،، واغفر لنا ما يزعمون» (¬1). فانظر إلى الفرق الشاسع والتناقض الواضح بين كتب وكتاب الشيعة أنفسهم وفي الكتاب الواحد غلو إلى درجة التقديس ودعاء يشعر بارتكاب الخطايا والذنوب ففي دعاء يروونه عن الحسين أنه قال «فإني لم آتك بعمل صالح قدمته، أرجو عفوك الذي عدت به على الخطائين، عند عكوفهم على المحارم» (¬2). وفي دعاء يروونه عن جعفر الصادق قوله أنه قال: «اللهم إني أسألك أن تتجاوز عن سيئاتي وما عندي بحسن ما عندك، وأن تعطيني من عفوك ما استوجب به كرامتك» (¬3). ثم يقول في موضع آخر من كتابه: «سلام على القائم المهدي المنتظر وابن الأئمة الهداة الهادي المعصوم وابن الأئمة الهداة المعصومين. ثم يقول: السلام عليك يابن الهداة الحجج المعصومين» (¬4). اهـ. وإذا أردت مزيدًا من الأدعية التي تدل على أن الأئمة معصومون وفي ¬

_ (¬1) انظر عقائد الأمامية/ إبراهيم الموسوي الزنجاني ص310، 302. ثم قارن ذلك بما ورد في ص157 من الكتاب نفسه تجد التضارب والتناقض. (¬2) مفاتيح الجنان/ عباس القمي ص42. (¬3) مفاتيح الجنان/ عباس القمي ص43. (¬4) المصدر السابق نفسه ص116.

الوقت نفسه مذنبون خطَّئون آثمون فارجع إلى كتاب مفاتيح الجنان، لترى ما فيه من الأدعية المتناقضة التي ما انزل الله بها من سلطان (¬1). ومن المسائل التي انفردت بها الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مسألة البَدَاء على الله، ومعنى ذلك أن الله يبدو له علم ما لم يكن يعلم من قبل، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وقد قال الكليني فيما يكذبه على جعفر أنه قال: يبعث عبد المطلب أمة وحدة، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء، وذلك أنه أول من قال بالبداء (¬2). وهم بذلك يريدون أن ينزعوا من الله تعالى صفة العلم الكامل. قال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (¬3). وقال تعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (¬4). وقد ذكر النوبختي أن جعفر بن محمد الباقر نص على إمامة إسماعيل ابنه وأشار إليه في حياته، ثم إن إسماعيل مات وهو حي فقال: ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني (¬5). والقول بالبداء على الله إنما يريد به الزنادقة الذين أسسوا هذا المذهب، تبرير ما يقولون من كذب وافتراء على الله فهم إذا قالوا بقول أو تكلموا بأمر، ثم كان الواقع خلاف ذلك قالوا بدا لله أن لا يفعل ذلك فيخرجون من تبعة الكذب وانكشاف الباطل بهذا العذر الموهم الخداع. (ج) (عقيدة الإمامية الاثنا عشرية في الرجعة): يعتقد الإمامية الاثنا عشرية بأن هناك بعثة لبعض الأموات قبل قيام الساعة وذلك عند خروج المهدي المنتظر كما يزعمون. ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص10، 40، 42، 43، 116، 199، 298، 562. (¬2) انظر الكافي في الأصول (كتاب الحجة) ص283 (ج 3). (¬3) سورة الحشر آية (22). (¬4) سورة الطلاق آية (12). (¬5) فرق الشيعة للنوبختي ص84 ط -

قال الصدوق - أي ابن باويه القمي - والحق أنه الكذوب - اعتقادنا في الرجعة أنها حق. وهي تختص بمن محض الإيمان ومحض الكفر والباقون سكوت عنهم (¬1) والرجعة عبارة عن حشرة قوم وبعثهم عند قيام القائم محمد بن الحسن العسكري، فيبعث أناس ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونة ويبتهجوا بظهور دولته وقوم من أعدائه يبعثون لينتقم منهم، وينالوا بعض ما يستحقونه من العذاب والقتل على أيدي شيعته وليبتلوا بالذل والخزي بما يشاهدونه من علو كلمته (¬2). ويستدلون على ذلك بآيات من القرآن الكريم يؤلونها حسب مزاعمهم الباطلة منها ما يأتي: 1 - قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا) (¬3). فيقولون إن هذه الآية تدل على أن هذا الحشر خاص ببعض دون بعض فيتعين أن يكون غير الحشر الأكبر. 2 - قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (¬4). فيروون عن الصادق في تفسيرها أنه قال: لا والله لا تنقضي الدنيا ولا تذهب حتى يجتمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي فيلتقيان بالثوية -وهو موضع بالكوفة- في مسجد له اثنا عشر ألف باب (¬5). 3 - قوله تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). فالعذاب الأدنى عذاب الرجعة عندهم والعذاب الأكبر عذاب القيامة. وعلى هذا المنوال من التأويلات الباطلة والأقوال المنحرفة التي لا ¬

_ (¬1) انظر عقائد الإمامية الاثنى عشرية/ إبراهيم الموسوي الزنجاني ص228. (¬2) المصدر السابق ص229. (¬3) سورة النمل آية (83). (¬4) سورة القصص آية (85). (¬5) انظر عقائد الإمامية الاثنى عشرية ص229.

تحتمل الآيات معناها ولا تدل عليها بمقتضاها، والتي لا تدل عليها اللغة العربية الفصحى، ولا عجب في ذلك فقد وصفوا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بالدابة في قوله تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ) (¬1). قال الطبرسي في تفسيره، قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان آية في كتاب الله أفسدت قلبي. قال عمار وأي آية هي؟ فقال هذه الآية: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) الآية ... قال عمار والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها، فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين (رضي الله عنه) وهو يأكل تمرًا وزبدًا فقال: يا أبا اليقظان؛ هلمّ فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل سبحان الله حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها قال عمار أريتكها إن كنت تعقل (يقصد علي بن أبي طالب) وروي عن العياش هذه القصة بعينها (¬2). ويرون الرجعة أصلاً من أصول عقيدتهم وأن الإيمان بها كالإيمان بالصراط والميزان (¬3). فيروون عن جابر الجعفي عن أبي عبد الله قال: «إذا قام قائم آل محمد ضرب فساطيط يعلم فيها القرآن على ما أنزل، فيقول محب الدين الخطيب معلقًا على ذلك: لماذا لم يفعل ذلك جده علي بن أبي طالب مدة ولايته الخلافة؟ فهل حفيده الثاني عشر أوفى منه للقرآن والإسلام؟!» (¬4). ولا شك أن مثل هذه الأقوال ما هي إلا تخيلات وهمية ونوع من أحلام اليقظة، يتلذذ بها هؤلاء لتخفيف ما أنزل بهم من بأس وقنوط، وإلا فإن مثل هذه القضية ليست من السهولة أن تخفى على صحابة رسول الله0 ¬

_ (¬1) سورة النمل آية (82). (¬2) مجمع البيان في تفسير القرآن/ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي م5 ص251. (¬3) عقائد الإمامية الاثنى عشرية/ إبراهيم الموسوي الزنجاني ص (238 - 241). (¬4) انظر الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الاثنى عشرية. محب الدين الخطيب ص25.

- صلى الله عليه وسلم - أو أن لا يوضحها الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضيحًا جليًا فلم ينقل عن الله ولا عن رسوله ولا عن صحابته ولا عن التابعين أن هناك بعث قبل بعث يوم القيامة، ومن نسب شيئًا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يثبت عنه فهو من أهل النار إن كان معتمدًا ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب عليّ معتمدًا فليتبوء مقعده من النار» (¬1). (د) (موقف الشيعة الإمامية الاثنى عشرية من الصحابة): إن الشيعة عامة والاثنى عشرية خاصة وقفوا من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موقف الإفراط والتفريط فغلوا في جانب من الصحابة إلى درجة رفعهم فوق الملائكة والرسل، وتدنوا تدنيًا مقذعًا في حق عامة الصحابة وخاصة الخلفاء الثلاثة إلى درجة لم يبلغها الحاقدون من اليهود والنصارى وحتى يتبين لك ذلك نذكر نماذج من التقديس والاستغاثة التي لا تصح إلا لله عز وجل فمن أدعيتهم عند زيارة المهدي المنتظر هذا الدعاء الذي يعتبر شركًا أكبر حيث يقولون في دعائهم: «يا محمد يا علي يا علي يا محمد اكفياني فإنكما كافيان، يا محمد يا علي يا علي يا محمد انصراني فإنكما ناصراى، يا محمد يا علي يا علي يا محمد أحفظاني فإنكما حافظاى، يا مولاي يا صاحب الزمان -يكرر ذلك ثلاث مرات- الغوث الغوث الغوث، أدركني أدركني أدركني، الأمان الأمان الأمان» (¬2). وفي الجانب الآخر نجد أن عامة كتب الشيعة الاثنى عشرية تزخر بسب أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد تعبدوا بتأليف اللعنات الملتهبة وخصوا بها آكابر الخلفاء وعامة الصحابة، وهم يعتقدون كفر كبار الصحابة وخاصة الخلفاء الثلاثة وكفر من والاهم في جميع العصور، والنقل في كتبهم لا يحصره كتاب، ولا يحويه مجلد وهذه نماذج مما يقولون في حق صحابة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم ج1 ص10. (¬2) انظر مفاتيح الجنان/ عباس القمي ص46.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن الأدعية التي يرددونها عند زيارة الحسين في يوم عاشوراء من كل عام ما نصه: «اللهم خصّ أنت أول ظالم باللعن مني وابدأ به أولاً ثم العن الثاني والثالث والرابع، اللهم العن زيدًا خامسًا والعن عبيد الله بن زياد وابن مرجانة وعمر بن سعد وشمرا وآل أبي سفيان وآل زياد، وآل مروان إلى يوم القيامة» (¬1). وقد روى الكليني عمدة الشيعة ومرجعهم أن المراد بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) (¬2). قال: نزلت في فلان (¬3) وقد بين شارح الكافي أن المراد من فلان وفلان وفلان، أبو بكر وعمر وعثمان (¬4). ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): لقد فضلت اليهود والنصارى على الرافضة من الشيعة بخصلة - حيث سئلت اليهود من خير أهل ملتكم قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم قالوا: حواري عيسى وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم قالوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم (¬5). اهـ. وقد ذكر النوبختي وهو من العلماء المؤرخين لفرق الشيعة أن أول من أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان، وهو عبد الله بن سبأ ومنذ ذلك اليوم إلى عصرنا الحاضر والشيعة متمسكون بهذه العقيدة المنحرفة، لأنهم يرون ¬

_ (¬1) مفاتيح الجنان/ تأليف عباس القمي ص458. (¬2) سورة النساء آية (! 37). (¬3) انظر الكافي في الأصول (كتاب الحجة ص420 ج1 ط إيران). (¬4) انظر الصافي في شرح الكافي - عند شرحه لهذه الآية باللغة الفارسية (ط - إيران). (¬5) منهاج السنة النبوية ج1 ص8.

أن من لا يبغض خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووزراءه الثلاثة ومحبيه. ولا يطعن فيهم فليس بشيعي (¬1). والشيعة ليس كلهم يقدمون على هذا المبدأ عن عناد، وقصد، وكره للإسلام والمسلمين، ولكن ذلك كان من قلة من الزنادقة السابقين الذين تبنوا هذه الأفكار، وروجوها بين الناس، ثم سار على طريقهم من أتى بعدهم تبعية عمياء قال تعالى: في شأن الذين يقلدون غيرهم بلا وعي أو بصيرة: (إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (¬2). فهم يزعمون ذلك وإن كان الواقع أنهم مخطئون، فكثير منهم مجتهدون صادقون مخلصون في حب الإسلام والعمل به، ولكنهم مخطئون للطريق الحق في كثير من مسائل الإيمان، ومثلهم في ذلك كمثل ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر براهب في صومعته، فنودي بالراهب وقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطلع فإذا به إنسان به من الضر والاجتهاد وترك الدنيا الشيء الكثير، فلما رآه عمر بكى فقيل له أنه نصراني، فقال عمر: قد علمت. ولكني رحمته، ذكرت قول الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) (¬3) فرحمت نصبه واجتهاده وهو في النار (¬4). وحال أولئك الذين يقفون من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الموقف كحال من قال الله فيهم: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (¬5) وإلا فكيف يستسيغ مسلم يدعي الإسلام بحق أن يسب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين قال الله فيهم: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) الشيعة والسنة/ إحسان إلهي ظهير ص32. (¬2) سورة الزخرف آية (23). (¬3) سورة الغاشية آية (2، 3، 4). (¬4) كنز العمال ج1 ص175. (¬5) سورة الكهف آية (104).

اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (¬1) وقال تعالى في حقهم: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (¬2)، وقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (¬3) وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) عن قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (¬4). من هم المؤمنون الذين أمر الله باتباع سبيلهم؟ فإن قلتم هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأي الفريقين؟ هل هم علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأولاده ومن معه؟ أم هم معاوية بن أبي سفيان؟ أم هم طلحة والزبير وغيرهم؟. فأجاب بقوله: نتولى الجميع ونكف عما شجر بينهم، وندعو لهم بالمغفرة كما أمرنا الله بذلك (¬5). بقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (¬6). اهـ. وقد ورد في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (¬7). وقد روى أبو نعيم في الحلية عن زيد بن وهب أن سويد بن ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (117). (¬2) سورة الفتح آية (18). (¬3) سورة التوبة آية (100). (¬4) سورة النساء آية (115). (¬5) انظر الدرر السنية ج1 ص138. (¬6) سورة الحشر آية (10). (¬7) انظر فتح الباري ج7ص21.

غفلة دخل على علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في إمارته فقال: يا أمير المؤمنين: إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر (رضي الله عنهما) بغير الذي هما له أهل، فنهض فرقي المنبر فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما إلا شقي مارق، فحبهما قربة وبغضهما مروق، ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين؟ فأنا بريء مما يذكرهما بسوء وعليه معاقب (¬1). وما أحسن ما قال عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) عندما سئل عما وقع بين الصحابة من قتال فقال: «تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر لساني من الكلام فيها» (¬2). اهـ. وقد سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمهما الله) هل من سب الصحابة يكفر أو يفسق وما هو الدليل على ذلك؟ فأجاب فسقه لا خلاف فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (¬3) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتد عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك» (¬4). وأما الكفر فقد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: أن من سب الصحابة فحكمه الكفر للحديث المتقدم ولقوله تعالى: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (¬5). فلا يغتاظ من الصحابة إلا كافر ¬

_ (¬1) انظر منتخب كنز العمال على هامش مسند الإمام أحمد ج4 ص443 - 444. (¬2) انظر الدرر السنية ج1 ص120. (¬3) رواه البخاري ومسلم. انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج2 ص1073 رقم الحديث (1561). (¬4) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج10 ص464 (كتاب الأدب). (¬5) سورة الفتح آية (29).

وهذا القول يروى عن الإمام مالك (¬1) وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقهم (¬2). القول الثاني: قول جماعة ترى عدم تكفير من سب الصحابة (رضي الله عنهم) ولكنها ترى أن من فعل ذلك مرتكب لذنب كبير) (¬3). وقد توقف الإمام أحمد (رحمه الله) في مسألة تكفير وقتل من سب الصحابة، أما التعزير والتأديب بما دون القتل فلا خلاف فيه بين أهل السنة والجماعة (¬4). وقد حكم أحد القضاة المالكية بقتل أحد الروافض الذي سب أبا بكر وعمر وعثمان علنًا، فقد روى ابن كثير أنه حصل في يوم الاثنين السادس عشر من جمادي الأولى من عام (755هـ) أن جاء رجل من الروافض بجامع دمشق، فاعتزل المصلين ثم لعن أبا بكر وعمر وعثمان، ومعاوية ويزيد فأعاد ذلك مرتين، فأمر به الحاكم إلى السجن، ثم استحضره المالكي وجلده بالسياط وهو مع ذلك يصرخ بالسب واللعن، ثم لما كان يوم الخميس التاسع عشر من شهر جمادي الأولى من تلك السنة عُقِدَ له مجلس قضاء وحضره القضاة الأربعة، فحكم نائب المالكي بقتله، فأخذ سريعًا فضربت عنقه تحت القلعة، وحرقه العامة وطافوا برأسه ونادوا عليه هذا جزاء من يسب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). اهـ. ومما تقدم يتضح لنا بجلاء أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة الإمامية الاثنى عشرية خلاف في مسائل أصولية تمس أصل الإسلام وذلك في مثل قولهم في القرآن الكريم وهجرهم للأحاديث الصحيحة في البخاري ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية ج8ص164، ص234. (¬2) انظر الدرر السنية ج7ص 214. (¬3) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل/ ابن حزم ج4 ص19. (¬4) انظر الدرر السنية ج8 ص164، 234. (¬5) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج14 ص250.

ومسلم واعتمادهم على أحاديث مكذوبة على علي بن أبي طالب وأولاده واعتقادهم الإمامة والعصمة والرجعة وغلوهم في بعض الصحابة إلى مرتبة التقديس وبغضهم لآخرين إلى درجة وصفهم بالكفر وإطلاق أوصاف عليهم يمجها كل صاحب عقل سليم وفهم مستقيم، وبعد هذا التيه في أعماق الضلال والانحراف يتقدم بعض علماء الشيعة بطرح فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة، وكأن الخلاف بينهم على قطعة أرض يمكن أن يصطلحا عليها في التقسيم، مع أن الخلاف بين الشيعة والسنة هو خلاف بين الكفر والإسلام فالعقل والمنطق يدل على أن أحدهما على حق والآخر على باطل والمصالحة الحقيقية هي أن يتنازل صاحب الباطل للأخذ بقول صاحب الحق، أما أن يترك صاحب الحق بعض الحق الذي معه ويترك صاحب الباطل بعض الباطل الذي معه، فهذا لا يكون إلا ضلال للطرفين، ولا يمكن أن يلتقي أهل السنة مع الشيعة إلا إذا تركت الشيعة اعتقادها في القرآن الكريم بالنقص والزيادة وتراجعت عن غلوها في الأئمة والعصمة وقولها بالرجعة، ولعن أبي بكر وعمر وعثمان وبقية الصحابة أجمعين وتركت البراءة من كل من ليس شيعيًا منذ وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وحتى يتبرأ عامة الشيعة من غلوهم في أهل البيت والاستغاثة بهم، وتعليقٌ الرجاء بهم من دون الله، وتعظيم قبورهم ومزاراتهم أكثر من تعظيم المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فإن لم تترك الشيعة هذا البغي على الإسلام وعقيدته وتاريخه فإنها سوف تبقى منفردة معزولة بأصولها المخالفة لأصول الإسلام منبوذة من جميع المسلمين، معاداة من كل مسلم غيور على إسلامه، وفي لله ورسوله وأصحابه، فخلاف الشيعة من أهل السنة الذين هم أهل الإسلام الصحيح إما أن يكون في مسألة توجب كفر المخالف وفي هذه الحال يعامل المخالف من الشيعة معاملة الكفار سواء بسواء من حيث الموالاة والمعاداة كما سيأتي توضيح ذلك في الباب الرابع بإذنه تعالى. وإما أن يكون الخلاف في مسألة توجب فسق المخالف وعصيانه، وفي هذه الحال يعامل

المخالف معاملة أهل الفسق والعصيان من حيث الموالاة والمعاداة، وقد تقدم تفصيل ذلك. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

المبحث الثالث: موالاة ومعاداة الطائفة النصيرية

المبحث الثالث: موالاة ومعاداة الطائفة النصيرية إن هذه الطائفة تعتبر من أضل الفرق الباطنية، وأعظمها انحرافًا وشذوذًا وهي فرقة غير مسلمة كما سيتضح لك ذلك بالدليل والبرهان سواء في مجال اعتقادها أو في مجال أعمالها فهي تتظاهر باسم الإسلام مع أنها من أشد أعدائه عبر التاريخ، والنصيرية تدعي أنها علوية من شيعة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ولذلك تسموا أخيرًا بهذا الاسم تعمية وتغطية على تاريخهم الأسود ولكنَّ كثيرًا من كتاب الشيعة، ينكرون ويتبرأون من الفرقة النصيرية ويصفونها بالكفر وعدم دخولها في الإسلام (¬1). وسنتناول هذه الفرقة بالدراسة والنظر على النحو التالي:- 1 - نشأتها. 2 - عقيدتها. 3 - تعاونها مع أعداء الإسلام. ¬

_ (¬1) انظر كتاب العلويون أو النصيريون/ تأليف عبد الحسين بن مهدي العسكري ص24.

4 - حكمها في الإسلام وعند علماء المسلمين. 5 - حكم موالاتها ومناصرتها في الإسلام. أ- نشأة الفرقة النصيرية: تمتد جذور الفرقة النصيرية إلى (ميمون القداح الديصاني) وهو يهودي فارسي كان ذا ميول شعوبية ترمي إلى هدم الإسلام وإعادة النفوذ إلى الفرس وكان يشتغل بمهنة طب العيون واستخراج الماء منها وتحت هذا الغطاء استقر بالشام للدعوة إلى المذهب الذي عرف فيما بعد بالمذهب الإسماعيلي حيث تفرعت عنه الفرق الباطنية الأثيمة وقد خلفه بعد موته ابنه عبد الله الذي أقام بسلمية من قرى حماة في بلاد الشام، ثم خلفه ابنه أحمد حتى ظهور عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية ويذهب بعض المؤرخين إلى أن عبيد الله المهدي من نسل رجل يهودي كان يعمل حدادًا بسلمية ولما مات أبوه تزوجت أمه أحد الأثرياء العلويين فلما بلغ ادعى لنفسه نسبًا علويًا (¬1)، والنصيرية تنسب إلى (أبي شعيب محمد بن نصير النميري) عاش في القرن الثالث الهجري (ت – 270هـ) وعاصر ثلاثة من أئمة الشيعة الاثنى عشرية وهم – علي الهادي (214 – 254هـ) والحسن العسكري (230 – 260هـ) ومحمد المهدي (255هـ) وزعم ابن نصير أنه الباب الثاني إلى الإمام الحسن و (الحجة) من بعده، فتبعه طائفة من الشيعة سموا بـ (النصيرية) ولكن ابن نصير لم يكتف بذلك، وإنما ادعى النبوة والرسالة ونسب الأئمة إلى الألوهية (¬2). والنصيرية: هو الاسم الديني والتاريخي لهذه الفرقة، وقد قيل أن النصيرية تنسب إلى نصير غلام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقد استدل أصحاب هذا القول في الرد على ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الإسلام السياسي/ د: أحمد شلبي، ج3 ص192 - 196. (¬2) المصدر السابق في نفس المكان. وانظر العلويين أو النصيرية/ عبد الحسين بن المهدي العسكري ص7 - 9.

القول الأول بأن النصيرية معروفة من قبل القرن الثالث الهجري حيث إن أول من عرف من مؤلفيها هو المفضل الجُعفي المتوفى سنة (180هـ) وعلى هذا فتسمية هذه الطائفة بهذا الاسم راجع إلى اسم أحد هذين الشخصين وإن كان اشتهارها بهذا الاسم يُرجح بأنه عائد إلى (محمد بن نصير النميري) وذلك للأسباب التالية:- 1 - إن المصادر التي ذكرت النسبة إلى (ابن نصير) لا تعني (نصيرًا) وإلا كانت ابن زائدة. 2 - إن نصيرًا غلام علي بن أبي طالب هذا لم يعثر له ذكر في كتاب التراجم أو كتب التاريخ. 3 - إن كتب الفرق القديمة لا تذكر طائفة باسم النصيرية، مما يدل على أن هذه الطائفة ليست من الطوائف الموغلة في القدم. ولكن الذي أميل إليه أن هذه الطائفة موجودة قبل أن تشتهر بالنصيرية حيث كانت تسمى قديمًا بالخطابية نسبة إلى أبي الخطاب المجوسي الذي يمت بصلة القربى لأحد الكهان اليهود في البصرة وذلك حوالي سنة (143هـ) ثم سميت بعد ذلك بالنميرية نسبة إلى محمد بن نصير النميري، وقد ذكر ابن طاهر البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق، فرقة النميرية مع فرقة أخرى هي الشريعية (¬1)، وذكر الشهرستاني النصيرية في كتابه "الملل والنحل" مع طائفة أخرى هي الإسحاقية (¬2)، والذي يظهر لي أن الناس صاروا يطلقون عليها اسمين في وقت واحد فمنهم من يسميها بالنميرية نسبة إلى النميري ومنهم من يسميها بالنصيرية نسبة إلى ابن نصير وكلا الاسمين لمسمى واحد واشتهرت بعد ذلك بالنصيرية، وإن كان هذا ¬

_ (¬1) انظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص255. (¬2) انظر الملل والنحل للشهرستاني حاشية الفصل في الملل والنحل/ ابن حزم ج2ص15 - 24. وانظر مجلة الاعتصام عدد (9) سنة (42) رمضان (1399) ص22 - 26.

الاسم هو في مراحل الطمس النهائية في وقتنا الحاضر ليحل محله المسمى الجديد (العلويون) (¬1). والطائفة النصيرية طائفة قليلة تسكن الشمال وبعض أجزاء من غرب سوريا وهي لا تمثل سوى 8% من سكان البلاد، وللنصيرية أسماء محلية يعرفون بها في أماكن سكناهم مثل: "التختجية" و"الخطابون" في غرب الأناضول ويمكن أن يكون هؤلاء من بقايا الخطابية، فتكون الخطابية إما أصل فرقة النصيرية أو قسمًا منها وهناك تشابه كبير بين أصول عقيدة الخطابية وبين عقيدة النصيرية كما أن هناك تعاطفًا كبيرًا حتى يومنا الحاضر بين النصيرية بالشام و (الخطابون) أو (الحطابون) في تركيا (¬2). والنصيريون كما هي عادتهم يغيرون أسماء مذهبهم كلما تلطخ اسم من أسمائهم بجرائمهم التي لن ينساه التاريخ ويظنون أنهم بهذا التغيير يسدلون الستار على ما مضى من تاريخهم الأسود، وأنهم يواجهون الناس بالاسم الجديد بتاريخ ناصع جميل والدليل على ذلك أنه بعد الاحتلال الفرنسي لسوريا وضعت هذه الطائفة يديها بيد المستعمر، ووجد فيها الفرنسيون خير معين لهم نظرًا لما تنطوي عليه نفوس أهل هذه الطائفة من حقد دفين على الإسلام والمسلمين فأراد الفرنسيون بالتآمر مع هذه الطائفة أن يغيروا اسمها وأن يطلقوا عليها اسم (العلويين) لتأليههم لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وذلك إمعان في الحقد من المستعمر الفرنسي الذي أراد أن يخدع أهل سوريا بأن هناك من المسلمين من يتعاون معه بإخلاص ووفاء وأراد المستعمر بهذه التسمية أن يخفف ويخفي آثار هذه الطائفة القذرة، وأن يخلص الطائفة النصيرية مما علق تاريخيًّا باسمها من ذم شنيع وكفر بواح ¬

_ (¬1) انظر تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين/ تأليف فيليب حتي، ج2 ص143 - 144، وانظر الفتاوى/ لابن تيمية ج35 ص161. وانظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص255. (¬2) انظر تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين/ فيليب حتي ج2، ص143 - 144.

فأطلقوا عليهم اسم (العلويين) كي تفتح هذه التسمية لهم آفاقًا جديدة مع أعداء الإسلام وجهلة المسلمين وقد ارتاحوا لهذه التسمية حيث ستفتح لهم مجالاً أرحب في التقارب مع الشيعة، ولتلقى الدعم والتأييد منهم (¬1). والنصيرية يدعون أنهم شيعة اثنا عشرية وأن ابن نصير كان (الباب) إلى الإمام الحادي عشر وارث علمه والمرجع للشيعة من بعده، وأن صفة المرجعية والبابية بقيت معه بعد غيبة الإمام الثاني عشر (¬2). ولكن أحد كتاب الشيعة المعاصرين المدعو/ عبد الحسين بن مهدي العسكري/ يكفرهم ويتبرأ منهم (¬3). كما تبرأ منهم قدماء الشيعة حيث يقول عنهم سعد بن عبد الله القمي (ت301هـ) في كتابه المقالات والفرق ما نصه: «وقد شذت فرقة من القائلين بإمامة علي بن محمد» في حياته فقالت بنبوة رجل يقال له (محمد بن نصير النميري) كان يدَّعي أنه نبي رسول وأن علي بن محمد العسكري أرسله وكان يقول بتناسخ الأرواح، ويغلو في أبي الحسن، ويقول فيه بالربوبية، ويدعو إلى إباحة نكاح ذوات المحارم ويحلل نكاح الرجال بعضهم لبعض (¬4). وقد ذم هذا المبدأ عامة علماء الشيعة ومؤرخوهم، ومن ذلك يتضح عدم صحة دعوى النصيرية بأنهم شيعة، أو أنهم داخلون تحت مسمى الفرق الإسلامية ويذكر الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين أن النصيرية مثل واضح للجماعة التي انتقلت من ¬

_ (¬1) انظر العلويين والنصيرية عبد الحسين العسكري ص7 - 9 وانظر تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين/ تأليف فيليب حتي ج2، ص143 - ص144. (¬2) انظر تاريخ العلويين/ تأليف النصيري/ محمد أمين الطويل ص202. (¬3) انظر العلويون أو النصيرية/ عبد الحسين بن مهدي العسكري ص25. (¬4) انظر المقالات والفرق سعد بن عبد الله القمي. ص100 - 101. وانظر فرق الشيعية/ تأليف الحسن بن موسى النوبختي ص41، 78. وانظر الفرق بين الفرق/ عبد القاهر بن طاهر البغدادي ص252.

الوثنية إلى دعوة التشنيع بلا علم ولا فهم، حيث يتحدث أهل السنة الذين يجاورون النصيرية أن النصيرية لا تزال تمارس بعض الطقوس النصرانية كالاحتفال بالأعياد النصرانية مثل عيد الميلاد، وعيد الفصح، ويعتبرونها من الأعياد الكبرى، كما أن بعضهم يحمل أسماء نصرانية مثل، متى ويوحنا وهيلانة، بالإضافة إلى المبادئ التي اقتبستها النصيرية من النصرانية، فإن عقيدة الطائفة النصيرية تحتفظ بقسط من الأسرار كما هو الشأن عند النصارى، وكما أن النصارى يرمزون إلى عقيدتهم بثلاثة هي: «الله - الابن- روح القدس» وكذل كالنصيرية يرمزون إلى عقيدتهم بثلاث حروف هي (ع، م، س) حيث يقولون أن الله حل في ثلاثة هم علي، ومحمد، وسلمان الفارسي (¬1). وصلتهم بالمجوسي لم تنقطع، فهم يحتفلون بعيد النيروز وهو عيد فارسي يحتفل به في أول الربيع ويزعم بعضهم أنه اليوم الذي خلق فيه النور، وهو أشبه بالعشاء الرباني عند النصارى والنصيرية يحتفلون به باعتباره من أعيادهم المقدسة وأعيادهم تبلغ عشرة أعياد خلال السنة الواحدة (¬2). وقد بقيت هذه الفئة الخبيثة محتفظة بحقدها وعدائها للإسلام والمسلمين حتى يومنا الحاضر فهي كالأمراض الخبيثة عندما تجد مقاومة ومضادات حيوية تقبع داخل الجسم وعندما تحين الفرصة لها تخرج إلى السطح، وكان من متأخري دعاتها وقادتها سلمان بن مرشد بن يونس: علوي متأله من النصيرية من قرية (جوبه برغال شرقي اللاذقية بسوريا تلقب بالرب – وقد بدأت حركته سنة 1920م وسجن سنة (1923م) ونفي ¬

_ (¬1) انظر مقالات الإسلاميين للأشعري ج1، ص102، 105. وانظر تاريخ الإسلام السياسي. د/ حسن إبراهيم ج4، ص265 - 267. (¬2) انظر صبح الأعشى ج2 ص409 وانظر مجموع الأعياد والدلالات في الأخبار المبهرات لميمون بن القاسم الطبراني المشهور (بأبي سعيد) حدث به في طرابلس سنة (398هـ).

إلى الرقة حتى سنة (1925م) وعاد من منفاه فتزعم طائفة النصيرية في تأليه علي بن أبي طالب والقول بالحلول، وكانت الثورة أيام عودته قائمة على الفرنسيين وانتهت بتأليف حكومة وطنية لها شيء من الاستقلال الداخلي فتآمر معه الفرنسيون واستخدموه كعميل من الدرجة الأولى وجعلوا للبلاد النصيرية نظامًا خاصًا فقويت شوكته وشوكة أتباعه، وتلقب برئيس الشعب العلوي الحيدري الغساني، وقد عين سنة (1938م) قضاة وفدائيين وفرض الضرائب على المدن والقرى التابعة له، وأصدر قرارًا جاء فيه: نظرًا للتعديات من الحكومة الوطنية والشعب السني فقد شكلت لدفع هذا الاعتداء جيشًا لحماية الشعب العلوي، وقد جعل لمن أسماهم الفدائيين ألبسة عسكرية خاصة بهم، وكان يزور دمشق نائبًا عن العلويين في المجلس النيابي السوري فلما تحررت سوريا اسميًا، وجلا عنها الفرنسيون ترك المستعمر سلاحه وقوته في يد هذا العميل الخائن، مما أغراه بالعصيان والتمرد، فجردت حكومة سوريا في ذلك الوقت قوة كبيرة بمساعي المرحوم عادل العظمة، فتكت بهذا المتأله وببعض أتباعه واعتقلته مع آخرين من جنده ثم قتل شنقًا في دمشق سنة (1366هـ - 1946م) (¬1). ولأمين حداد كتاب في سيرته سماه (مدعي الألوهية في القرن العشرين) ومنذ عام (1949م) أي منذ انقلاب حسني الزعيم الذي دبرته المخابرات الأمريكية والخطر النصيري يتزايد ويتعاظم مستترًا خلف أقنعة خفية، فقام النصيري "زكي الأرسوزي" والنصراني الصليبي اليوناني "ميشيل عفلق" وكلا الرجلين من ألد أعداء الإسلام، وقد جعلا من حزب البعث مباءة لتجميع أبناء الأقليات غير الإسلامية، والتي تبطن أحقادًا ضد الإسلام والمسلمين مثل – النصيرين، والنصارى، والدروز، والإسماعيلية (¬2). أما أهل ¬

_ (¬1) انظر الأعلام للزركلي ج3 ص170. (¬2) الإخوان المسلمون والمؤامرة على سوريا/ تأليف جابر رزق ص25 - 111.

السنة، فلم ينتم منهم إلى هذا الحزب إلا قلة ضعيفة غافلة ساذجة ممسوخة أمثال أمين الحافظ وصلاح البيطار وقد تخلص النصيريون منهم فيما بعد. ب- عقيدة الطائفة النصيرية: يعتقد غلاة الطائفة النصيرية وخاصتهم أن عليًا هو الإله، ولذلك أطلق عليهم اسم العلويين منذ الانتداب الفرنسي (¬1). وهم يزعمون أن الله حل في علي وأن عليًا كان موجودًا قبل خلق السموات والأرض، وقد قال ابن نصير بربوبية أبي الحسن العسكري، وزعم لنفسه أنه نبي ورسول بعثه أبو الحسن، وقد اعتقد أتباعه من بعده أن الله حل فيه كذلك (¬2). والنصيرية من أِشد الفرق إيغالاً في التأويلات الباطنية من سائر فرق الغلاة، فقد كان ابن نصير يقول «بإباحة المحارم ويحلل نكاح الرجال بعضهم لبعض، ويزعم أن ذلك من التواضع والتذلل، من المفعول به والفاعل، وأن ذلك إحدى الشهوات والطيبات، وأن الله لم يحرم شيئًا من ذلك (¬3). ومن أجل ذلك اتفقت الشيعة الاثنا عشرية مع أهل السنة في عدم اعتبار النصيرية من الفرق الإسلامية، ويعتبرونها خارجة عن الإسلام ويصفونها بالزندقة والكفر، لأن عقيدتها واعتقادها يدل على ذلك، وعليه فإن النصيرية وإن نسبوا إلى الفرق الإسلامية وانتسبوا إليها، لا يعدون من المسلمين، ولا يعاملون معاملة المسلمين» (¬4). ¬

_ (¬1) انظر مقالات الإسلاميين للأشعري ج1 ص102، 105. وانظر تاريخ الإسلام السياسي. د/ حسن إبراهيم ج4 ص265 - 267. (¬2) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل/ حاشية الشهرستاني ج2، ص24. وانظر تاريخ الإسلام السياسي د/ حسن إبراهيم ج4 ص265 – 267. وانظر مقالات الإسلاميين للأشعري ج1 ص82. وانظر اعتقادات فرق المسلمين والمشركين فخر الدين الرازي ص82. (¬3) انظر المقالات والفرق تأليف/ سعد بن عبد الله القمي ص100. (¬4) انظر العلويين أو النصيرية/ عبد الحسين مهدي العسكري ص7 - 9. وانظر الفتاوى/ لابن تيمية ج35 ص161 - 162.

وقد ذكر الدكتور/ منير موسى مشابك – وهو شيوعي من نصارى الشام – في رسالته الجامعية أن النصيرية في الأصل كانوا نصارى، وقد دخلوا في الإسلام اسمًا لا حقيقة، وقد أكد ذلك بعض الباحثين، ويقوي هذا الرأي أن النصيرية لا يزالون يحتفظون ببعض التقاليد والطقوس والاعتقادات النصرانية (¬1). ويذكر حمزة بن علي (ت 422هـ) وهو من أشهر أئمة الدروز في رسالة له سماها (الدامغة في الرد على الفاسق النصيري) (¬2). ما يلي: أنه ورد إلى كتاب ألفه أحد النصيرية الكافرين المشركين ... سماه كتاب (الحقائق وكشف المحجوب) فمن قبل كتابه عبد إبليس واعتقد التناسخ وحلل الفروج واستحل الكذب والبهتان (¬3). فكتب هذه الرسالة ردًا على ما ألفه هذا الفاسق النصيري (¬4). الذي يقول: بأن جميع ما حُرَّم من القتل والسرقة والكذب والبهتان والزنا واللياطة فهو مطلق للعارف والعارفة (¬5). ومما قاله في كتابه بأنه يجب على المؤمنة أن لا تمنع فرجها أخاها، وأن تبذله له مباحًا حيث يشاء، وإن المجامعة الظاهرة تزيد في الدين، وأن الدين لا يتم إلا بهذا (¬6). ومما قاله أن المشركين هم النواصب الذين يشركون بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (¬7)، ثم يروي حمزة بن علي عن هذا النصيري أنه عدَّ إبليس وهامان والشيطان، هم – أبو بكر التيمي، وعمر العدوي، وعثمان الأموي (¬8). وهذا يوضح لنا بجلاء عقيدة النصيرية في صحابة رسول ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الإسلام السياسي. د/ حسن إبراهيم ج4 ص265 - 267. (¬2) انظر هذه الرسالة في مجموعة رسائل الدروز مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات. برقم (982) تأليف/ حمد بن علي الدرزي الرسالة الأولى. (¬3) المصدر السابق الورقة الأولى ص2. (¬4) المصدر السابق الورقة الثانية ص3. (¬5) المصدر السابق الورقة الثالثة ص6. (¬6) المصدر السابق الورقة الرابعة والخامسة ص8 - 9. (¬7) المصدر السابق الورقة الحادية عشرة ص22. (¬8) انظر هذه الرسالة في مجموعة رسائل الدروز مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (982) تأليف/حمد بن علي الدرزي الرسالة الأولى – الورقة الثالثة عشرة ص26. وانظر الفتاوى/ ابن تيمية ج35 ص161 - 162.

الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد بذلت الإرساليات النصرانية جهودًا مضنية في سبيل الحصول على معرفة أسرار العقيدة النصيرية، والوقوف على تعاليمها، وقد أفلح أحد المستشرقين الأمريكيين، في إقناع أحد أبناء شيوخ الطائفة النصيرية ويدعى (سليمان الأطنه وى) (¬1) بالكشف عن أسرار ديانة الفرقة النصيرية فألف كتابًا سماه "الباكورة السليمانية". فقام الأمريكيون بطبعه في بيروت سنة (1863م) وأهم ما جاء في الكتاب مما يتعلق بعقائدهم ما يلي (¬2): 1 - أن النصيرية علويون يعتقدون بألوهية الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وهم قسمان:- الشمالية منهم يقولون: إنه حال في القمر، وهم الذين يسكنون الساحل في لواء اللاذقية، والكلازية وهم الذين يسكنون الجبال إلى أنه حال في الشمس ولذلك فالنصيرية عمومًا يقدسون الشمس والقمر وسائر النجوم ومن السّمات المميزة بين الشمالية والكلازية أن الشمالية يعفون اللحى بخلاف الكلازية فإنهم يحلقونها. 2 - يعتقد النصيرية بتناسخ الأرواح، فالأرواح الصالحة عندهم تحل في النجوم ولهذا يسمون عليًا (أمير النحل) أي أمير النجوم، والأرواح ¬

_ (¬1) هو سليمان الأطنه وي، وفي بعض المصادر (سليمان الأدنى) الأنطاكي من علماء النصيرية ولد في أنطاكية سنة (1250هـ - 1834م) وألف الباكورة السليمانية، وكان يقيم في جنوب تركيا ثم أرسل إليه بعض قراباته في سوريا رسائل استعطاف واستلطاف كي يزورهم، وعندما استجاب لهم وزارهم، قاموا بإحراقه بالنار جزاء ما أفشى من أسرارهم، وأظهر من خيانتهم. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحاله ج4 ص256. وانظر معجم المطبوعات، سركيس ص1041. (¬2) انظر دائرة المعارف القرن العشرين ج10 ص249 - 250. وانظر العقيدة والشريعة ص220 - 223 تأليف/ أجناس جولد تسيهر. وانظر تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين د/ فيليب حتى ج2 ص220، 221. ترجمة د/ كمال اليازجي.

الشريرة تحل في أجسام الحيوانات التي هي في نظرهم نجسة كالخنازير، والقرود وبنات آوى. 3 - إن كلمة السر عندهم ثلاثة أحرف وهي: ع، م، س، أي علي، محمد، سلمان. 4 - إن للنصيرية كتابًا مقدسًا يعتمدونه ويرجعون إليه وهو غير القرآن الكريم ولا يحتل القرآن عندهم إلا مكانًا ثانويًا. 5 - يتضح من ذلك الكتاب أن العقيدة النصيرية غير متجانسة، فهي وثنية قديمة، ورواسب من تعليم النصرانية، وآراء مغلفة بغشاء من تعاليم ومذاهب غلاة الشيعة واعتقاداتهم الباطلة. ومن كتبهم المعتبرة – كتاب تعليم الديانة النصيرية، وهذا الكتاب يوجد منه مخطوطة في المكتبة الأهلية بباريس برقم (6182) وقد حلله بالألمانية القس الدكتور/ فولف ( WOLF) من روتفيل ROTIWELL في ألمانيا بمقال في ( ZDMG) جـ3 سنة (1849م) ص302 - ص309 وهو على طريقة السؤال والجواب ويتألف من (101) سؤال وجواب ونحن نورد نماذج من هذه الأسئلة والأجوبة ليتبين لكل ذي عينين كفر هؤلاء وخروجهم عن الإسلام. س1 من الذي خلقنا. ج علي بن أبي طالب: أمير المؤمنين. س3 من الذي دعانا إلى معرفة ربنا؟ ج محمد كما قال هو في خطبته التي ختمها بقوله: (أنه - أي علي - ربي وربكم). س 76 ما "القداس"؟ ج تقديس الخمر التي تشرب على صحة النقباء أو النجباء.

س79 ما سر الله الأعظم؟ ج هو سر الجسد والدم، الذي قال عنه يسوع: (هذا جسدي وهذا دمي فكلوا منهما تظفروا بالحياة الدائمة). س100 ما هي أسماء أشخاص الصلاة، وساعتها المفروضة؟ ج أول وقعت للصلاة المفروضة هو الظهر، وصلاة الظهر تتألف من (8) ركعات والوقت الثاني هو العصر، ويتألف من أربع ركعات والوقت الثالث صلاة المغرب وتتألف من خمس ركعات والرابعة صلاة العشاء وتتألف من أربع ركعات والخامسة صلاة الفجر وتتألف من ركعتين. فانظر كيف غيروا عدد الركعات في صلاة الظهر والمغرب فالظهر زادوها من أربع إلى ثمان ركعات والمغرب من ثلاث إلى خمس والزيادة في الدين كالنقصان منه، وهذه نماذج من كفر هؤلاء وتبديلهم في شعائر الإسلام (¬1). والنصيرية لم تتورع عن القول: «إن علم الباطن مختص بالعلويين وأن الأحكام الإسلامية لم تكن ظاهرة كما يظن البعض» (¬2). وللنصيرية قسم يقسمون على كتمان دينهم ومشائخهم، وعلى أن لا ينصح أحد منهم لمسلم ولا غيره إلا من كان على مذهبه وعندهم أن النصيري لا يصير نصيريًا مؤمنًا يجالسونه ويشربون معه الخمر ويطلعونه على أسرارهم ويزوجونه من نسائهم حتى يقسم بهذا القسم: (إني وحق العلي الأعلى، وما اعتقده في المظهر الأسنى، وحق النور وما نشأ منه، والسحاب ¬

_ (¬1) انظر مذاهب الإسلاميين للأشعري ج2 ص474 - 487 د/ عبد الرحمن بدوي، وانظر العلويون أو النصيرية ص82 - 96 تأليف عبد الحسين مهدي العسكري. (¬2) انظر تاريخ العلويين/ تأليف/ محمد أمين غالب الطويل وهو علوي نصيري من المحدثين ص196 - 199 وانظر ص481.

وساكنه، وإلا برئت من مولاي (علي) العلي العظيم، وولائي له، ومظاهر الحق، وكشفت حجاب سلمان بغير إذنه، وبرئت من دعوة الحجة (ابن نصير) وخضت مع الخائضين في لعن ابن ملجم، وكفرت بالخطاب – (أي الديانة والدعوة) – وأذعت السر المصون وأنكرت دعوى أهل الحق وإلا قلعت أصل شجرة العنب من الأرض بيدي حتى أجثت أصولها، وأمنع سبيلها، وكنت مع قابيل وهابيل ومع النمروذ على إبراهيم، وهكذا مع كل فرعون قام على صاحبه إلى أن ألقى العلي العظيم، وهو علي ساخط، وأبرأ من قول قنبر وأقول أنه بالنار ما تطهر (¬1). وهذا القسم إذا حللناه وجدناه كما يلي:- 1 - أن علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) يلقب بلقب العلي العظيم وهما من أسماء الله تعالى. 2 - أن سلمان الفارسي هو صاحب الحجاب أي الباب الذي يفضي إلى العلم والحكمة وأسرار الباطن وباطن الأسرار. ج- تعاون النصيريين مع أعداء الإسلام: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): «إن النصيريين كانوا دائمًا مع أعداء الإسلام على المسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، فقد ساعدوا الصليبيين ضد المسلمين، وكانوا مع التتار ضد المسلمين، فقد كان ابن العلقمي وزيرًا لهولاكو خان التتري، وكان نصير الدين الطوسي أيضًا من خاصته، وهو من غلاة الرافضة الموالين للنصيرية» (¬2) اهـ. ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: «إن النصيرية من الطوائف التي ¬

_ (¬1) العلويون أو النصيرية/ تأليف عبد الحسين مهدي العسكري ص3. (¬2) انظر الفتاوى لابن تيمية ج35 ص152 وانظر البداية والنهاية لابن كثير ج13 ص201.

انخلعت من الإسلام، وقد كانوا أثناء الهجمة الصليبية على العالم الإسلامي خير معين للصليبيين على المسلمين، وعندما استولى الصليبيون على بعض البلاد الإسلامية قربوهم، وأدنوهم وجعلوا لهم مكانًا مرموقًا عندهم، وكانوا موالين للتتار ضد المسلمين أثناء غزو التتار لبلاد الشام» (¬1). اهـ. وفي سنة سبع عشرة وسبعمائة من الهجرة خرجت الفرقة النصيرية عن الطاعة للولاة المسلمين بزعامة رجل منهم سموه محمد بن الحسن المهدي (القائم بأمر الله) وتارة يطلقون عليه أنه (علي بن أبي طالب) وأنه فاطر السموات والأرض -تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا- وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين، ويستبيح دماءهم وأموالهم وشنَّ هو وعصابته هجمة شرسة على مدينة (حبلة) فدخلوها وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها، وخرجوا منها يقولون: «لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان» وسبوا الشيخين، وأمر أصحابه بهدم المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: «قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي الذي يحي ويميت، حتى يحقن دمك ويكتب لك بذلك». وقد ارتكبوا جرائم لا تعد ولا تحصى، وقد أمر المستكفي بالله في حربهم ثم جهز لملاقاتهم عساكر وخلقًا كثيرًا، فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وقتل مدعي الألوهية وقائدهم إلى الضلال (¬2). وقد سار منهم الخلف على طريقة سلفهم الضال وقد أشرنا إلى أنه ظهر منهم أيام الاحتلال الفرنسي نصيري يدعي الألوهية واسمه (سلمان المرشد) وقد تعاون مع الفرنسيين إلى أبعد الحدود (¬3). وقد قتل بعد تحرير سوريا من الفرنسيين اسميًا. ¬

_ (¬1) انظر المذاهب الإسلامية/ تأليف محمد أبو زهرة ص94 - 96. وانظر النكبات/ أمين الريحاني ص142 وانظر مختصر الفتاوى المصرية ابن تيمية/ محمد بن علي الحنبلي ص474. (¬2) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج14 ص83 - 84. (¬3) انظر ص527، 528 من هذه الرسالة.

د- "حكم الطائفة النصيرية في الإسلام وعند المسلمين": حكم الطائفة النصيرية في الإسلام أنها طائفة كافرة خارجة عن الدين الإسلامي كما يتضح من عقيدتها في تأليه علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) واستباحتها للمحرمات، واعتقادها لتناسخ الأرواح وسب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتكفيرهم إلى غير ذلك مما سبق بيانه في عقيدتها مما يتعارض مع الإسلام جملة وتفصيلا. أما ما قاله علماء المسلمين فيهم فهو ما يلي: 1 - يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): إن هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنة أكفر من اليهود والنصارى بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله، ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يدينون بملة من الملل، سوى عبادة الملذات واستباحة الشهوات (¬1). اهـ. وقال عنهم الإمام الغزالي (¬2): ¬

_ (¬1) انظر الفتاوى، لابن تيمية ج35 ص149. (¬2) هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي والمعروف بالغزالي (زين الدين حجة الإسلام، أبو حامد) حكيم متكلم، فقيه، أصولي، صوفي، مشارك في أنواع من العلوم ولد بالطابران إحدى قصبتي طوس بخراسان سنة (450هـ) ثم ارتحل في طلب العلم إلى أبي نصر الإسماعيلي بجرجان، ثم إلى إمام الحرمين أبي المعالي الجويني بنيسابور، ثم تولى التدريس بنظامية بغداد، ثم أقبل على العبادة والسياحة، فخرج إلى الحجاز فحج، ورجع إلى دمشق فاستوطنها عشر سنين، ثم سار إلى القدس، والإسكندرية ثم عاد إلى وطنه بطوس وتوفي بالطابران سنة (505هـ) من تصانيفه: إحياء علوم الدين، الحصن الحصين، في التجريد والتوحيد، تهافت الفلاسفة، الوجيز في فروع الفقه الشافعي، المستصفى في أصول الفقه. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحاله ج11 ص266.

«إن النصيريين مرتدون في الدم ولمال والنكاح والذبيحة والواجب قتالهم، حتى يسلمون، أو يهلكوا» (¬1) اهـ. فهم ليسوا مسلمين، ولا يهود، ولا نصارى، فعلى المسلم الذي يمر بهم أن يأكل من ذبائحهم نظرًا لأنهم بمثابة عبدة الأوثان (¬2). وليست هذه النظرة وهذا الحكم بحق هذه الطائفة مما تفرد به أهل السنة والجماعة، بل إن الفرقة الأخرى كالشيعة الإمامية والدروز والنصارى قد أطلقوا الكفر على هذه الفرقة كما هو موجود في كتبهم:- 1 - يقول عبد الحسين مهدي العسكري: إن النصيرية وإن نسبوا إلى المسلمين لا يعدون من المسلمين، ولا يعاملون معاملة المسلمين (¬3). 2 - ويقول حمزة بن علي، وهو أشهر أئمة الدروز، أن النصيرية ممثلة في كاتبها النصيري كفار مشركون، ليس لهم بغية غير الفساد في الدين (¬4). 3 - ويقول الدكتور منير موسى مشابك، وهو نصراني شيوعي: إن النصيرية دخلوا في الإسلام اسمًا لا حقيقة (¬5). ولذلك فإنه ليس لإلحادهم حد محدود، فحتى أركان الإسلام يئولونها تأويلات باطنية، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة أسماء أئمتهم الخمسة وهم: علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة، والصيام كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم إلى غير ذلك من التخرصات والأوهام (¬6). التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكيف يعتقد إنسان بعد ذلك أن هذه الفرقة وأصحابها داخلون في مسمى الإسلام. ¬

_ (¬1) انظر المختار الإسلامي عدد (16) السنة الثانية 15/ 11/1400 هـ ص39. (¬2) انظر الفتاوى/ لابن تيمية ج35 ص161. (¬3) انظر العلويين أو النصيرية ص8. (¬4) انظر مجموعة رسائل الدروز مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات ص6. (¬5) انظر تاريخ الإسلام السياسي، د/ حسن إبراهيم ج4 ص266. (¬6) انظر الفتاوى/ لابن تيمية ج35 ص152.

هـ- حكم موالاة الطائفة النصيرية في الإسلام: سبق أن تقرر بما لا يدع مجالاً للشك أن الطائفة النصيرية طائفة كافرة وإن كان من انتسب إليها وأيدها ظاهرًا أو باطنًا فحكمه حكمها لأن مناصرة الكافر وتأييده في حرب الإسلام والمسلمين كفر قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (¬1) وهذه الطائفة كما هو معروف في تاريخها قد تتقنع بأقنعة كثيرة، فيسمون أنفسهم بالعلويين تارة، والنصيرين تارة أخرى ولكن تغيير الأسماء لا يغير حقيقة المسمى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم، لأنهم أشبه حالاً بأهل الأوثان، ولا يصلي على من مات منهم ولا يجوز استخدامهم في أعمال المسلمين، فإنهم من أغشى الناس للمسلمين ثم يقول: ولا ريب أن جهادهم، وإقامة الحد عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق (رضي الله عنه) وسائر الصحابة بدءوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، حيث إن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين التي يريد هؤلاء أن تكون مرتدة عن الإسلام ويجب على كل مسلم أن يقوم بذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب (¬2). فهم أشدّ على المسلمين من اليهود والنصارى كما هو حاصل في وقتنا الحاضر، بل هم يقدمون أعظم الخدمات لليهود والنصارى في إراقة دماء المسلمين. ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (51). (¬2) انظر الفتاوى/ لابن تيمية ج35 ص155 - 161. وانظر مختصر الفتاوى المصرية/ لابن تيمية/ مجمع محمد بن علي الحنبلي ص476 - 478.

وقد أحكموا عقد الأخوة بينهم ... وبين النصارى واليهود الموارق وقد أحكم الله العداوة بيننا ... وبين ذوي الكفران أهل الشقاشق ونحن براء من ذوي الكفر جملة ... فلسنا وإياهم بحكم التوافق (¬1) وعلى هذا فالطائفة النصيرية طائفة كافرة محاربة للإسلام والمسلمين فيجب على المسلمين معاداتها ويحرم عليهم موالاتها، فمن تولاهم أو نصرهم فهو منهم. قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (¬2). إلا من تاب منهم وأناب إلى الحق ودخل في الإسلام الصحيح فهو من المسلمين ويستحق أخوة الإسلام وموالاة المسلمين لأن الإسلام يجب ما قبله، والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) ديوان: عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص99. (¬2) سورة المائدة آية (51).

المبحث الرابع: موالاة ومعاداة الدروز

المبحث الرابع: موالاة ومعاداة الدروز الدروز جماعة من الناس يقدر عددهم ما بين (150 - 200) ألف نسمة تقريبًا يعيشون في لبنان وسوريا وفلسطين، وأصلهم الجنسي غامض ويعتقد بعض المؤرخين أن الدروز من بقايا الشعوب القديمة، احتموا بالجبال أيام الفتوحات الإسلامية، واحتفظوا على الدوام بقدر من الاستقلال، وهم بصفة عامة لا يتمسكون بعقيدتهم إلا قليلاً: فهم مسلمون مع المسلمين، ونصارى مع النصارى، ويهود مع اليهود، وليس لديهم أماكن للعبادة خاصة بهم (¬1). وعقيدة الدروز أول ما ظهرت كطائفة مستقلة على يد: حمزة بن علي بن أحمد، رأس الطريقة الدرزية، ومصنف أهم رسائلهم التي غدت من الكتب المقدسة عندهم، ولا يعرف عن حياة هذا الشخص إلا القليل، ويقول النويري (¬2): «إنه من زوزن في بلاد ¬

_ (¬1) انظر دائرة المعارف الإسلامية ج9 ص214 - 217. (¬2) يوجد بهذا الاسم أكثر من أربعة علماء ولم يتبين لي من المقصود منهم: انظر معجم المؤلفين ج15 ص296.

فارس» (¬1). اهـ. والظاهر أن الدروز من فرق الإسماعيلية القديمة ولكنهم برزوا كطائفة جديدة عندما قال زعيمهم حمزة بن علي بألوهية الحاكم بأمر الله سنة (408هـ) ويقول الدكتور/ محمد كامل حسين: إن المؤرخين يذكرون ثلاثة من الدعاة الكبار الذين أسسوا هذا المذهب وهم:- 1 - الحسن الفرغاني - المعروف بالأخرم، قتل بعد أيام قليلة من ظهور الدعوة في تألية الحاكم بأمر الله قتله رجل من المسلمين السنة سنة (408هـ). 2 - حمزة بن علي بن أحمد الزوزتي ويعرف باللباد وهو فارسي الأصل من زوزن بين نيسابور وهراة. 3 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الدرزي -يعرف بأنوشتكين أو نوشتكين وكان من أتباع حمزة بن علي بن أحمد ولكنه خرج عليه وأراد أن يستأثر بالرياسة، فأسرع بالكشف عن المذهب ولم يستمع إلى النصائح التي أسداها حمزة بالتريث وعدم الخروج على طاعته (¬2). اهـ. وقد أعلن محمد بن إسماعيل الدرزي ألوهية الحاكم بأمر الله في الجامع الأزهر بالقاهرة، فلما ثار عليه الناس وقصدوا قتله، أظهر الحاكم براءته منه، وفي نفس الوقت حماه، حتى توفي سنة (410هـ) وقيل إنه قتل باتفاق بين الحاكم وحمزة بن علي بن أحمد ليخلوا المكان لدعوة حمزة دون منازع (¬3). والدروز يهاجمون محمد بن إسماعيل الدرزي رغم أنهم ينسبون إليه. ويقف حمزة بن علي من نشتكين الدرزي والبرذعي وأصحابهما موقف العداء، ويصف حمزة بن علي نشتكين الدرزي بالجهل حيث يقول: إن ¬

_ (¬1) انظر دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص103. (¬2) انظر عقيدة الدروز عرض ونقض/ محمد أحمد الخطيب ص56. (¬3) المصدر السابق نفس المكان.

الذي تطلبه أنت من الكشف ليس لك عليه قدرة، ولا بفعله طاقة، ثم يقول: «لأن الروح هو العلم الحقيقي وأنت صفر اليدين منه، فإن كنت تدعي الإيمان، فأقر لي بالإمامة كما أقررت لي في الأول، حتى تخاطب أصحاب الزبور من زبورهم، وأصحاب التوراة من توراتهم، وأصحاب القرآن والنزيل، وأصحاب الباطن من نفس التأويل، وأصحاب المنطق من الآفاق والأفلاك، والدلائل العقلية ومن أنفسهم حتى يتبين لكل واحد منهم عوار ما في يده من دينه» (¬1). وعقيدة الدروز شبيهة بعقيدة النصيرية حيث تضم أخلاطًا من التأويلات الباطنية، فهو يدعي -أي حمزة بن علي- أن له صلة بالله على طريقة تعبير النصارى فيقول: «ورسلي واصلة بالرسائل والوثائق إلى الحضرة اللاهوتية، التي لا تخفى عنها خافية لا في السراء ولا في العلانية، ثم يدَّعي أنه أصغى للإمام الذي يؤلهه فيقول: «كتب في شهر شعبان الثاني من سنة عبد مولانا جل ذكره وصفيه حمزة بن علي بن أحمد (¬2). ثم يرى تأليه الحاكم بأمر الله حيث ردد كلمة مولانا جل ذكره في كل رسالة من رسائله عشرات المرات، وخلع عليه جميع الصفات المتعلقة بالله، وفي رسالته السادسة المعنونة بعنوان: "نسخة سجل المجتبى" قال فيها ما يلي: «من عبد مولانا ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين المنتقم من المشركين والمنافقين والناكثين بسيف مولانا أمير المؤمنين جل ذكره وشد سلطانه وحده، ولا نستعين بغيره، ولا ترجى رحمة أحد سواه» (¬3). وفي الرسالة الثانية والعشرين ادعاء للألوهية، وبصفة التقدير والتدبير وهذيان بالكفر الواضح وإظهار للحقل المرير الذي يكنه هذا الضال المضل ¬

_ (¬1) انظر الرسالة الثانية من مجموعة رسائل الدروز/ حمزة بن علي ص45 - 47. مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (982). (¬2) المصدر السابق الرسالة الخامسة (الصحبة الكاينة الورقة (4، 5) من المخطوطة. (¬3) المصدر السابق الرسالة السادسة الورقة (2).

لكل الأديان والشرائع السماوية، حيث يقول: «الحمد لله الذي أبدعني من نوره، وأيدني بروح قدسه، وخصني بعلمه، وفوض إليّ أمره وأطلعني على مكنون سره، فأنا أصل مبدعاته، وصاحب سره وأماناته، المخصوص بعلمه وبركاته، أنا صراطه المستقيم، وبأمره حكيم عليم أنا الطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور، أنا صاحب البعث والنشور، النافخ بإذن المولى سبحانه في الصور، أنا إمام المتقين، والعلم المبين، ولسان المؤمنين وسند الموحدين، أنا صاحب الرجفة، وعلى يدي تكون النعم المترادفة أنا ناسخ الشرائع ومهلك أهل الشرك والبدائع، أنا مهدم القبلتين، ومبيد الشريعتين، ومدحض الشهادتين أنا مسيح الأمم، ومني أفاضة النعم، وعلى يدي يحل بأهل الشرك النقم، أنا النار الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، أنا قائم الزمان، وصاحب البرهان والهادي إلى طاعة الرحمن (¬1). إلى آخر هذا السخف وذلك الهذيان الذي لا يصدر عن شخص سوي إلى أن يقول: «واشكروني على نعمي واعرفوني حق معرفتي، فأنا القائم فيكم بأمر المؤيد بروح قدسه، واعرفوا منزلتي من حدودي ودعائي» (¬2). اهـ. ومعنى قوله: أنا مهدم القبلتين يقصد قبلة بيت المقدس، وقبلة الكعبة وأما قوله مبيد الشريعتين فيقصد الشريعة الظاهرة التي عليها المسلمون والشريعة الباطنة التي يقول بها الباطنية من الإسماعيلية وغيرهم. وقوله: مدحض الشهادتين، أي مبدل شريعة الإسلام ومبتدع شريعة مكانها. وينقسم الدروز إلى قسمين: 1 - (العُقَّال) وهم فقهاء الدروز، وعلماؤهم حيث يشتركون دون سواهم في الجلسات الدينية التي تعقد كل ليلة جمعة، ويعرف مكان الاجتماع بالخلوة ويصبح خير العقال (أجاود). ¬

_ (¬1) انظر الرسالة الثانية من مجموعة رسائل الدروز/ حمزة بن علي ص - الورقة (21 - 4). (¬2) انظر مجموعة الدروز الرسالة الثانية والعشرون الورقة (4) مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (982).

ولهما رئيسان دينيان يسميان بشيخي العقال، والعقال يتميزون بملبسهم إذ يتعممون بعمامة بيضاء أسطوانية ويلبسون قباء وعباءة لونها أزرق غامق، ويجب أن يتصف العقال بصفات مختلفة عن صفات الجهال فليلزمهم شيء من الزهد والعفة، والفضيلة، والنسك. 2 - أما الجهال فهم سائر أبناء الطائفة الدرزية وهؤلاء لا يجوز لهم قراءة رسائل الدروز، ولا القرآن الكريم، ولكن يجوز لهم مطالعة بعض الشروح للرسائل الدرزية، والجهال وإن كانوا مطالبين بالفضائل والصدق إلا أنه يتسامح معهم في كثير من الأمور المحرمة على العقال ولهم لباس خاص بهم. ومن العقائد الشائعة عند الدروز عقيدة تناسخ الأرواح فخيار الناس تتقمص أرواحهم المواليد، أما شرارهم فتتقمص أرواحهم أجسام الكلاب (¬1). ويعتقد الدروز بوجود إمام مهدي لهم كما يعتقد الشيعة الاثنا عشرية ولذلك كتب حمزة بن علي رسالة بهذا الموضوع ذكر فيها «وإلى من شك في وليد قائم الزمان عليه» (¬2). وقال في موضع آخر «بلغني ما أصابكم من الضعف في أديانكم والشك في صاحب زمانكم» (¬3). ثم يدعي الإمامة لنفسه حيث يقول: «والإمام عبد مولانا جل ذكره ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد- هادي المستجيبين المنتقم من المشركين» (¬4). وعقيدة الدروز في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين له بإحسان لا ¬

_ (¬1) انظر عقيدة الدروز عرض ونقص محمد أحمد الخطيب ص238 - 240. وانظر دائرة المعارف الإسلامية ج9 ص217. (¬2) انظر مجموعة رسائل الدروز الرسالة الثانية/ حمزة بن علي ص29. من المخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (982). (¬3) المصدر السابق ص32، 33. (¬4) المصدر نفسه ص37.

تخرج عن نظرة أهل الفرق الباطنية فيذكر حمزة بن علي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوصف والاسم فيقول: «إن النواصب يأتون في إذن كل واحد منهم علاقتان من الحديد» ثم يقول إنهم يهود أمة محمد، وتارة يقول: هم المشركون وهم نصارى أمة محمد (¬1). ثم يقول حسب زعمه الباطل إنه يؤتى (بأبي بكر وعمر وعثمان) فيقال لهم: عُلِمتم فعلمتم ثم غلبتم صاحب الأمر وتشبهتم بأوليائه وادعيتم ما ليس لكم بحق (¬2). ثم يتناول التابعين من الفقهاء والمحدثين فيقول: «وقد اعتقد المسلمون في كثير من العلماء الإمامة مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك وسفيان الثوري وغيرهم مما يطول به الشرح، وإنما قالوا إنهم أئمة حيث بقولهم يحرمون الحرام ويحللون الحلال، واقتدوا بهم فوقع عليهم اسم الإمامة، فهؤلاء الذين ذكرتهم كل واحد منهم إمام لمن يطيعه ويتبعه، ويقبل منه ... فقاتلوهم بقلوبكم وتبرأوا مما يعتقدونه في مولانا جل ذكره» (¬3). اهـ. وقد سئل شيخ الإٍسلام ابن تيمية (رحمه الله) عن الدروز فأجاب قائلاً: كفر هؤلاء لا يختلف فيه المسلمون بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم، بل هم أضل من اليهود والنصارى والمشركين، فلا يباح أكل طعامهم، ولا تنكح نساؤهم، ويجوز أن تسبى أموالهم ونساؤهم، لأنهم زنادقة مرتدون يقتلون أينما ثقفوا، ولا يجوز استخدامهم عند مسلم ويجب قتل علمائهم لئلا يضلوا غيرهم، وتحرم مجالستهم إلا لمذكر وداع لهم إلى الإسلام، ويحرم على ولاة الأمر من المسلمين الاستعانة بهم، أو إقرارهم على ما هم عليه (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص49 - 50. (¬2) المصدر السابق ص57. (¬3) المصدر السابق الرسالة الثالثة ص67. (¬4) انظر الفتاوى/ لابن تيمية ج35 ص162. وانظر عقيدة الدروز عرض ونقض/محمد أحمد الخطيب ص265 - 273.

هذه نبذة قليلة عن طائفة الدروز وعقيدتها وحكمها في نظر الإسلام والمسلمين والدروز المعاصرون لا أدري ما هو موقفهم من تلك العقيدة التي قال بها أسلافهم، وما مدى تمسكهم بها واعتقادهم لها وعلى كل حال فإن من تمسك بمثل تلك العقائد السخيفة فحكمه الكفر والخروج عن دائرة الإسلام، وحينئذ يعادى معاداة الكافرين، ويعامل معاملة المرتدين، والدروز المعاصرون يوالي كثير منهم أعداء الإسلام ضد المسلمين وذلك أن قوام الجيش الإسرائيلي من الدروز (¬1). وفي سوريا اعتمد حزب البعث والنصيريون قادته على الدروز وتعاونوا معهم حتى وصل النصيريون إلى السلطة، فانقلبوا على القادة من كبار الدروز وأقصوهم وقتلوا منهم من قتلوا أمثال الرائد سليم حاطوم الذي أعدمه النصيريون في عام (1967م) (¬2). فمن تولى الكفار أو اعتقد الكفر، وجب إظهار العداوة له وإعلان البراءة منه سواء كان من هذه الفرق أو من غيرها، وقد اكتفينا بذكر هذه الفرق الأربع لأن بقية الفرق لا تخرج عن دائرة هذه الفرق، وعلى هذا أمكن قياس بقية الفرق وإعطاؤها نفس الحكم عند تطابق المعتقدات وتوافق الصفات. والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء الصراط. ¬

_ (¬1) انظر عقيدة الدروز ص265. (¬2) انظر حصيلة الانقلابات الثورية في بعض الأقطار العربية/ محمد سعيد ص175 - 181.

الباب الرابع: موالاة الكفارة ومعاداتهم

الباب الرابع: موالاة الكفارة ومعاداتهم وتحت هذا الباب أربعة فصول هي كالتالي: 1 - الفصل الأول: منهج التعامل مع الكفار. 2 - الفصل الثاني: مظاهر الولاء للكفار. 3 - الفصل الثالث: الآثار المترتبة على موالاة الكفار. 4 - الفصل الرابع: واقع المسلمين اليوم من موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين.

الفصل الأول: منهج التعامل مع الكفار

الفصل الأول: منهج التعامل مع الكفار وتحته المباحث التالية: 1 - المبحث الأول: الإسلام بين دعوى التعصب والتسامح مع الكفار. 2 - المبحث الثاني: مفهوم الحرب والسلم في الإسلام. 3 - المبحث الثالث: تعامل المسلمين مع أهل الذمة والعهد في دار الإسلام. 4 - المبحث الرابع: تعامل المسلمين مع الكفار المحايدين. 5 - المبحث الخامس: تعامل المسلمين مع الكفار المحاربين. - الفرع الأول: المحاربون من أهل الأوثان. - الفرع الثاني: المحاربون من اليهود. - الفرع الثالث: المحاربون من النصارى.

المبحث الأول: الإسلام بين دعوى التعصب والتسامح مع الكفار

المبحث الأول: الإسلام بين دعوى التعصب والتسامح مع الكفار قد يتبادر إلى ذهن البعض منا، من خلال ما تقدم عرضه في موضوع الموالاة والمعاداة في الإسلام، أن الإسلام يأمر بالانطواء والعزلة عن غير المسلمين، وأنه يربي أتباعه على إضمار الحقد والكراهية لغير المسلمين وأن أتباعه يتعصبون لأنفسهم وأهل عقيدتهم، دون أن يراعوا حقوق الطوائف الأخرى، ولا شك أن هذا الفهم الخاطئ مبعثه الجهل أو الحقد الدفين في النيل من الإسلام والمسلمين، وإلا فالحقيقة أنه لم يوجد مبدأ من المبادئ في الكون كله وعبر تاريخه الطويل تسامح مع أعدائه وعاملهم بالعدل مثل الدين الإسلامي، وهذا القول ليس مجرد ادعاء وإنما هو واقع يشهد له التاريخ وتبرهن عليه الأحداث فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أقام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة كان فيها ثلاث قبائل من اليهود، هم بنو قريظة، وقنو قينقاع، وبنو النضير، فلو كان الرسول بغير هذه الصفة لما احتاج أن يوقع معهم معاهدة تعاون وحسن جوار، ولأمكنه أن يفعل بهم مثل ما يفعل الشيوعيون بالمعارضين لهم في روسيا وتشيكوسلفاكيا وغيرها من بلدان

العالم، وأن يضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التبعية المطلقة أو الموت ومن يطالع نصوص المعاهدة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود يعلم علم اليقين أن الإسلام عادل مع أهل الكتاب فقد ورد في الوثيقة النبوية المبرمة بين المهاجرين والأنصار التي وادع فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - اليهود ما نصه (لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ... وإن بينهم النصر على من حاربهم، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، ... وإن من خرج آمن ومن قعد آمن إلا من ظلم أو أِثَم) (¬1). وفي فتح مكة دليل واضح وبرهان ساطع على تسامح الإسلام ورحمته حتى بأعدائه، فهل عرف التاريخ أن جماعة غلبت على أمرها وطردت من بلدها، وأوذيت في نفسها ومالها، فلما استطاعت العودة إلى ديارها، وتمكنت من رءوس أعداءها، لم تمتد يدها إلى عدوها بسوء، ولم تأخذ منه بثأر؟ وهل عرف في التاريخ أن عدوين يلتقيان بعد طول صراع مرير مخضب بالدماء فلا يكون في لقائهما شحناء ولا بغضاء؟ إنما روح الإسلام الخالدة، التي لا تنتصر للنفس والذات بقدر ما تنتصر للإسلام، إنها القيادة الرحيمة، حتى بمن كانوا بالأمس أعداءها، لقد اجتمعت قريش حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذهول واستسلام، وفي داخل كل نفس صراع من الخوف والرجاء، حتى هتف فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما تظنون أني فاعل بكم؟». قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». هذا كل الحساب بين الجيش الزاحف المنتصر وبين أهل مكة المستسلمين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تهذيب سيرة ابن هشام/ عبد السلام هارون ص140 - 143. وانظر تاريخ الإسلام السياسي د/ حسن إبراهيم ج1 ص102. وانظر البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص224 - 225. (¬2) انظر موسوعة التاريخ الإٍسلامي/ أحمد شلبي ج1ص342. وانظر فتح مكة/ محمد أحمد باشميل ص296.

إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الداعية الذي لا يجد الحقد على مقاوميه إلى نفسه سبيلا، فقد مَنَّ عليهم بعد كفاح دام بينه وبينهم إحدى وعشرين سنة، لم يتركوا فيها طريقًا للقضاء عليه وعلى أتباعه وعلى دعوته إلا سلكوه، فلما تم له النصر عليهم وفتح عاصمتهم، لم يزد أن استغفر لهم وأطلق حريتهم، إن هذا لا يصدر إلا عن رسول كريم لم يرد بدعوته ملكًا ولا سيطرة، وإنما أراد الله له أن يكون هاديًا وفاتحًا للعقول والقلوب (¬1). وفي كتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأساقفة نجران قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير! جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك. جوار الله ورسوله أبدًا ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين» (¬2). وهذا الكتاب يبين مدى التسامح مع النصارى واحترام حقوقهم وأنهم لا يظلمون ولا يُظْلَمون، وقد سار على ذلك خلفاءُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام فهذا عمرو بن العاص (رضي الله عنه) عندما فتح المسلمون مصر كتب بيده أمانًا للبطريق بنيامين ورده إلى كرسيه بعد أن تغيب عنه زهاء ثلاثة عشرة سنة، وأمر عمرو باستقباله عندما قدم من الإسكندرية أحسن استقبال (¬3). وعندما تمكن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي من دحر الصليبيين بعد تسعين سنة من مجازر الغدر والخيانة والفساد في الأرض لم يعاملهم بالمثل، إذ إنه لما أسلمت له الحامية النصرانية، أمنهم على حياتهم، وكانوا أكثر من مائة ألف نسمة وسمح لهم بالخروج في أمان ¬

_ (¬1) انظر السيرة النبوية دروس وعبر د/ مصطفى السباعي ص230 - 131. (¬2) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج5 ص55، وانظر حياة الصحابة ج1 ص123. (¬3) تاريخ الإسلام السياسي/ حسن إبراهيم ج1 ص240.

وسلام وأعطاهم مهلة أربعين يومًا للخروج وقام بمداواة جرحاهم وتمريض مرضاهم وسمح لهم بحمل ما يحملون من أموال منقولة (¬1). وعندما هجم قائد التتر قطلوه شاه على دمشق وأسر عددًا من المسلمين والذميين من اليهود والنصارى، ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) معه جمع من العلماء وطلبوا فك الأسرى فسمح لهم قائد التتر بأسرى المسلمين دون غيرهم فرفض الشيخ ومن معه وقالوا: لا بد من افتكاك جميع الأسرى هم أهل ذمتنا، ولا نرضى ببقاء أسير من أهل الملة ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فأطلق القائد التتري جميع الأسرى، وقد تكرر هذا الموقف من شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) عندما كتب رسالته إلى ملك قبرص سراجون لافتكاك أسرى المسلمين وأهل الذمة من رعايا الدولة الإسلامية (¬2). ومن هذا العرض الموجز يتضح أن الإسلام يقف مع الكفار موقفًا معتدلاً، في السماحة من غير ذل وهوان، فأصحاب الإسلام لا تنطوي ضمائرهم على الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بالآخرين، فبسماحة الإسلام يتعامل المسلم مع الناس جميعًا على أساس العدل والاحترام المتبادل دون أن يكون ذلك على حساب الاستهانة بالعقيدة الإسلامية وشعائر الإسلام، فالمعاملة شيء، ومحبة القلب ومودته للكفار شيء آخر حيث إن الإنسان يتعامل في أغلب الأحوال مع من يحب ومن لا يحب في بيعه وشرائه ونحو ذلك، أما مودة القلب والنصرة والمساعدة، فلا يمنحها إلا لمن يحب، وهذه هي الموالاة المنهي عن بذلها للكفار قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا ¬

_ (¬1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامة الدقس ص334. (¬2) انظر الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام/ علي علي منصور ص358.

لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (¬1) فالآيات تأمر المسلم أن لا يتخذ بطانة من الكفار وأن لا يحبهم وهم لا يزالون متلبسين بصبغة الكفر، وأن لا يناصرهم أو يؤيدهم بقول أو فعل ما لم يسلموا، إن تلك الآيات تنوير وتبصير للمسلمين في كل زمان ومكان، بأن لا ينخدعوا في معاملة أعدائهم وبهرج ألسنتهم فيندفعوا بسذاجة وغباء إلى اتخاذهم بطانة وأصحابًا وأصدقاء وأصفياء، فإن عداوة الكفار للمسلمين عداوة متأصلة، لا تغسلها سماحة أو مودة من المسلمين للكفار أو حسن صحبة لهم، والتحذير في هذه الآيات المتقدمة ليس مقصورًا على فترة تاريخية معينة، وإنما هو حقيقة دائمة تواجه واقعًا دائمًا، كما نرى مصداق ذلك في ماضينا المعهود وحاضرنا المشهود، وقد بين الله ذلك في آيات متعددة قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (¬2)، وقال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (¬3). وقد عبرت الآيات عن قوة الإصرار والاستمرار في العداوة من قبل الكفار وذلك بالتعبير بالفعل المضارع (لا يزالون) و (ولن ترضى) و (وما تخفي صدورهم أكبر) ونسوق بعض النماذج الواقعية عبر فترات تاريخية متباعدة لنبرهن على تسامح الإسلام وتعصب أعدائه ضده، عندما تكون للأعداء الغلبة والنصر على المسلمين، ونستدل على تعصبهم من أقوالهم وشهادة بعض المنصفين منهم يقول: (جيبون) «إن الصليبيين خدام الرب يوم استولوا على بيت المقدس في 15/ 7/1099م رأوا أن يكرموا الرب ¬

_ (¬1) سورة آل عمران من آية (118) إلى آية (121). (¬2) سورة البقرة آية (109). (¬3) سورة البقرة آية (120).

بذبح سبعين ألف مسلم، ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء، في مذبحة استمرت ثلاثة أيام بلياليها، ولم تنته إلا لما أعياهم الإجهاد من القتل فقد حطموا رءوس الصبيان على الجدران وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل، وشووا الرجال والنساء بالنار، وبقروا البطون ليروا هل ابتلع أهلها الذهب، ... ثم يقول: كيف ساغ لهؤلاء بعد هذا كله أن يضرعوا إلى الله طالبين البركة والغفران» (¬1). وقد سبق أن ذكرنا موقف صلاح الدين الأيوبي عندما تغلب على هؤلاء وحاصر مائة ألف صليبي ومع ذلك تركهم يرتحلون بسلام فمن المتعصب يا ترى؟؟ ومثال آخر، ما فعله الصليبيون في الأندلس عندما تغلبوا على المسلمين، فقد قال أحد كتاب الغرب أنفسهم وهو المدعو (جوستاف لوبون) قال: لما أُجْلِيَ العرب (¬2) سنة (1610م) اتخذت جميع الذارئع للفتك بهم فقتل أكثرهم، وكان مجموع من قتل إلى ميعاد الجلاء ثلاثة ملايين من الناس في حين أن العرب لما فتحوا أسبانيا، تركوا السكان يتمتعون بحريتهم الدينية محتفظين بمعاهدهم ورئاساتهم غير مكلفين إلا بدفع الجزية وهي بمقدار ما كنوا يبذلونه لملوك الْقوط، وقد بلغ من تسامح العرب طول حكمهم في أسبانيا مبلغًا قلما يصادف الناس مثله هذه الأيام (¬3). ولو انتقلنا من مواقف الصليبين إلى مواقف اليهود لرأينا العجب العجاب، فإن نظرة اليهود الدينية إلى غير اليهود تشبه نظرة الإنسان إلى الحيوان، فقد جاء في الوثيقة الرابعة من وثائق اليهود التاريخية فيما نشره ¬

_ (¬1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامة الدقس ص333. (¬2) المراد بالعرب في هذا الكلام هم المسلمون ولكن أعداء الإسلام يحاولون تغيير المفاهيم الإسلامية إلى مفاهيم قومية عرقية ضيقة سخيفة. (¬3) انظر حضارة العرب/ جوستاف لوبون ص 279 ترجمة عادل زعيتر.

السيد – جواد رفعت في كتابه الوثائقي (الإسلام وبنو إسرائيل) حيث ورد من ضمن ما تضمنته هذه الوثيقة قولهم ما يلي: «يا أبناء إسرائيل، اسعدوا واستبشروا خيرًا، لقد اقتربت الساعة التي سنحشر فيها هذه الكتل الحيوانية في اصطبلاتها، وسنخضعها لإرادتنا ونسخرها لخدمتنا» (¬1). ولو نظرنا إلى ما فعله ويفعله اليهود في فلسطين من قتل وتشريد وظلم وبطش وعدوان، وما يفعله صنائع اليهود وعملاؤهم حول فلسطين لوجدنا أن ذلك أعظم برهان على تعصب اليهود وأذنابهم ضد المسلمين. ولو تجاوزنا اليهود والنصارى إلى الملحدين من أهل الأوثان لرأينا ما تقشعر لهوله الأبدان، وتتفطر له الأكباد، فقد روى ابن كثير فيما رواه من أحداث عام 656هـ عندما تغلب مشركو التتار على المسلمين في بغداد شنوا حملة حقد وتعصب وظلم وطغيان فأبادوا الرجال والنساء صغارًا وكهولاً، وفر من فر من الناس إلى المقابر، وأغلق البعض منهم على نفسه في الحانات ودخل البعض منهم في قنى الأوساخ، ولكن القلوب المسعورة في حب الإجرام وإراقة الدماء، والمملوءة بالحقد والكراهية على أهل الإسلام، طاردت كل هؤلاء، وبواسطة بعض أهل الذمة من اليهود والنصارى، الذين تنكروا للمسلمين ولما قدموه لهم من حسن المعاملة واحترام الحقوق، ولم يمض على بغداد أربعين يومًا حتى أصبحت خاوية على عروشها، وتراكمت الجثث كالأطواد في الطرقات، ثم سقط عليها المطر فانتفخت وتغير الهواء وحصل الوباء، وسار الهواء إلى الشام فمات بسبب ذلك خلق كثير، هذه صورة من صور التعصب قام بها أعداء الإسلام والمسلمين في حق أهل الإسلام، وهي حقيقة تاريخية وقصة واقعية ليست من نسج الخيال، وقد اختلف المؤرخون في عدد القتلى في بغداد، إلا أن ¬

_ (¬1) انظر مكايد يهودية عبر التاريخ/ عبد الرحمن حسن الميداني ص446، 447.

تقديراتهم تقول أن عدد القتلى ما بين الثمانمائة ألف إلى المليون نفس (¬1)، ولو مررنا بروسيا وما فعلته الثورة الشيوعية بالمسلمين في بخارى وسمرقند وغيرها من الولايات الإسلامية لرأينا ما لم يحصل له مثيل في التاريخ حيث أقدم الشيوعيون على قتل كل من يتفوه بكلمة لا إله إلا الله فقد نشروا في عام (1923م) أنه يوجد داخل الاتحاد السوفيتي ثلاثون مليونًا من المسلمين يحافظون على عقائد باطلة وخرافات من العصور الوسطى وإننا قد اتخذنا الخطط والتدابير اللازمة لإزالتها (¬2). وفعلاً فقد باشر الشيوعيون تنفيذ مخططاتهم في مصادرة الحريات وكبت المعتقدات، وحاولوا بقوة الحديد والنار إلزام الناس بالأوهام الماركسية والخرفات اللينينية فقد أغلقت حكومة روسيا الشوعية في مقاطعة تركستان (14) أربعة عشر ألف مسجد، وفي منطقة الأورال (7) سبعة آلاف مسجد وفي منطقة القوقاز (4) أربعة آلاف مسجد، فبلغ مجموع المساجد التي منع المسلمون من الصلاة فيها (25) خمسة وعشرين ألف مسجد، وقد حولت هذه المساجد إلى دور للبغاء ومباءات للخمر، ونوادي للمجون - واسطبلات للخيول وحظائر للبهائم، وقد حول جامع سمرقند الفخم الجميل إلى ناد لكبار الملحدين (¬3). وهل تظن أن الأمر توقف عند ذلك الحد، بل لقد تجاوز ذلك إلى التصفية الجسدية للمسلمين، ولو أردنا استعراض تلك المآسي الدامية لما وسعتها المجلدات والأضابير، ولكن حسبنا أن نقول أن الروس قبلة الأقزام في الشرق المنكوب قد قتلوا في ربع قرن ستة وعشرين مليونًا من المسلمين بمعدل مليون كل سنة، وقد تفننوا في طريقة التعذيب والقتل حتى وصل بهم الأمر إلى أن يأتوا بأحد زعماء المسلمين فيحفروا له حفرة في الطريق العام ثم يكلفون المسلمين وجميع ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج13 ص202. (¬2) انظر الإسلام والمبادئ المستوردة ص22، 23. (¬3) انظر التضليل الاشتراكي د/ صلاح الدين المنجد ص84.

السكان في تلك المدينة تحت وطأة التعذيب والإرهاب أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية التي تتسلمها الدولة من الأهالي كل يوم لتستخدمها في السماد فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته ... وقد ظلت هذه العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات بصورة لا مثيل لها في التاريخ، وكان قصدهم تنفير الناس عن كل ما له صلة بالإسلام. وقد سارت يوغسلافيا على طريقة روسيا بعد تحولها إلى الشيوعية فقد أباد (تيتو) ما يقارب المليون من المسلمين (¬1). ولكن الغريب ولا غرابة في هذا العصر أن السفاكين في روسيا ويوغسلافيا يستقبلون بكل حفاوة وتكريم في بعض الأقطار الإٍسلامية، وكأن شيئًا لم يكن، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولو ألقينا نظرة على ما حصل ويحصل للمسلمين من الوثنيين الهنود لوجدناه لا يقل شناعة عما حصل من غيرهم، فعندما أعلن انفصال باكستان عن الهند، فر ثمانية ملايين من المسلمين مهاجرين إلى الباكستان ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة، من عباد البقر ولكنهم لم يتركوهم يذهبون بسلام، بل طوقت مسيرتهم الحكومة الهندية المجرمة فذبحتهم وأفنت الكثير منهم، ولم يصل إلى الباكستان سوى ثلاثة ملايين أما الخمسة الباقية، فقد قضي عليها، ثم أعلنت الحكومة عن خدعة جديدة حيث زعمت أنها ستنقل الموظفين المسلمين الذين يرغبون التحول إلى باكستان عبر قطارات النقل وقد شحنت أول دفعة منهم وكان عددهم خمسين ألفًا، وعندما اقترب القطار بين الحدود الهندية والباكستانية ودخل في أحد الأنفاق خرج من الناحية الثانية وليس فيه إلا أشلاء ممزقة من عوامل التخريب التي دبرت وخططت لهذا الغرض (¬2). فيا ترى من المتعصب ومن المتسامح؟؟ إن ما ذكرناه عن مواقف ¬

_ (¬1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامه الدقس ص163 – 165. (¬2) المصدر السابق ص163.

أعداء الإسلام والمسلمين، عند تمكنهم من أهل الإسلام، غيض من فيض، وقطرة من بحر، وهذا كله مصداق لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (¬1). إن من تسامح المسلمين مع أهل الذمة والمستأمنين أن يقروا في بلاد الإسلام على تعاطي بعض المحرمات في الدين الإسلامي إذا كان ذلك على جهة التخفي والإسرار وقصروه على أنفسهم مثل شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ويطبق عليهم في المحاكم قانون الأحوال الشخصية المنبثق عن عقيدتهم في قضايا الزواج والطلاق والمهر والأولاد والنفقة وما إلى ذلك. بينما نجد أن المسلمين الذين يقيمون في بلاد الغرب والشرق الكافر لا يطبق بحقهم قانون الأحوال الشخصية للمسلمين وإنما يطبق بحقهم القانون المحلي لتلك الدولة وتلك البلاد فلو تزوج المسلم بأكثر من زوجة واحدة، فزواجه باطل بمقتضى قوانينهم الوضعية، وقد يحاكم كمجرم، أما لو زنيا برضاهما فلا شيء عليهما، ولو طلبت الزوجة من زوجها المسلم تأمين النفقة والسكن، أو الطلاق، فلا يمكن للمحاكم الوضعية الكافرة أن تحقق لها ذلك (¬2). وفي أمريكا لو أرادت المسلمة أن تتزوج بنصراني وهي لا تزال في عصمة زوجها المسلم، فإن القوانين الأمريكية تبيح ذلك ولا تسمح للزوج الأول المسلم حتى في إبداء حق المطالبة بزوجته أو الاعتراض على عقد الزواج الثاني (¬3). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (118). (¬2) انظر نظرية الإسلام وهديه/ أبو الأعلى المودودي ص186 – 188. (¬3) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل الدقس ص316 - 317.

وقد صدر في إنجلترا قانون يمنع الاعتراف بأي زواج يتم على الطريقة الإسلامية، فلا يعتبر العقد قد وجد بحكم القانون لديهم، فلو تزوجت المرأة بعد زواجها الشرعي في الإسلام بدون طلاق لاعتبر الزواج الثاني دون الأول في القانون الإنجليزي (¬1). وقد طلبت إحدى السيدات المسلمات المطلقة في جنوب أفريقيا مؤخر مهرها بعد طلاقها فرفضت المحكمة ذلك مدعية بطلان شرعية الزواج المعقود حسب الشريعة الإسلامية (¬2). ومع ذلك وللأسف الشديد يصف الببغاوات الإسلام والمسلمين بالتعصب والتشدد والجمود والتطرف وكبت الحريات بينما يصفون أجنحة المكر الثلاثة، النصارى، واليهود، وأهل الأوثان بالتسامح والاعتدال والمحافظة على حريات الأفراد وحقوقهم، فيا ترى من الذي يشهد له الواقع ويصدقه التاريخ نحن المسلمين أم هؤلاء الحاقدون؟؟؟ ¬

_ (¬1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامة الدقس ص316، 317. (¬2) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد 538 السنة الحادية عشرة في 11/ 10/1401هـ ص35.

المبحث الثاني: مفهوم الحرب والسلم في الإسلام

المبحث الثاني: مفهوم الحرب والسلم في الإسلام إن من حق الدين الإسلامي أن يتحرك ابتداء في كل اتجاه، وأن ينساح في الأرض متى وجد إلى ذلك سبيلا، فهذا الدين ليس رسالة خاصة بالعرب، بل إنه دين للإنسان أينما وجد في المكان والزمان، فالله عز وجل ليس ربًا للعرب وحدهم، ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإٍسلامية وحدهم بل هو (رب العالمين) وهذا الدين أراد الله به أن يرد العالمين إلى ربهم وأن ينتزعهم من العبودية لغير الله، إن الإسلام ليس مجرد عقيدة، حتى يقنع الناس بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان، إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس وإخراجهم من عبودية العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل جميع الأنظمة الطاغية والتجمعات الكافرة بوصفها من معوقات إبلاغ الدعوة للناس وليحرر بإزالتها الأفراد من التأثيرات الفاسدة، التي تقيد حرية الاختيار لدى الأفراد، وتحجب عنهم رؤية النور الإلهي، وإلا فإن الله عز وجل قد قرر مبدأ (لا إكراه في الدين) ... أي لا إكراه على اعتناق العقيدة، ولكن متى

يكون ذلك؟ يكون ذلك إذا خرج العباد من سلطان العبيد، إلى سلطان الله وإذا خرجوا من ظلم المناهج الكافرة إلى عدالة الإسلام، وإذا استقى الناس من نبع الإسلام الصافي بدلاً من كدر الجاهلية، وبعبارة أدق إذا كان الدين كله لله، أما أن تتأصل مناهج الكفر والضلال في الأرض وتعلو راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها، ويصل الخطر إلى أن يُغْزَى المسلمون في عقر دارهم وتستباح مقدساتهم وتسلب منهم أموالهم وديارهم، وينشر الكفر بينهم بوسائل إعلامهم، ومناهج تعليمهم، ومع ذلك نرى ونسمع من يدعو إلى ترك الجهاد ومسالمة أعداء الله فهذا مخالف لمنهج الإسلام. إن الإسلام ليس مجرد مجموعة من النصوص الكلامية، أو جملة من المناسك والشعائر التعبدية. كما يفهم معظم الناس في هذه الأيام عندما يسمعون كلمة (دين) يتبادر إلى ذهنهم أن ذلك محصور في الصلاة والصيام والزكاة والحج فقط. والحق أن الدين الإسلامي نظام كامل يحكم حياة الفرد والجماعة والدولة والعالم أجمع، ومن ذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، والجهاد في الإسلام يعني القضاء على سائر النظم الباطلة الجائرة في العالم، وأن يقطع دابرها، ويمحوا آثارها من الوجود، ويستبدل الناس عن تلك الأنظمة الجاهلية بنظام صالح مصلح للحياة، يرى أنه خير للإنسانية جمعاء من النظم الأخرى، وقد أثبت التطبيق العملي عبر التاريخ كله أن الإسلام هو النظام الصالح المصلح للحياة الذي يحمي البشرية من أدواء الشر والطغيان، وإن فيه سعادة البشرية في العاجلة والآجلة (¬1)، في الوقت الذي ظهرت فيه ضحالة الأنظمة الرأسمالية والشيوعية بين الإفراط والتفريط. إن أمة الإسلام أمة دعوة وجهاد، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وما يفهمه البعض أو يحتج به البعض الآخر من وجود نصوص قرآنية تدعو إلى مسالمة الكفار وعدم قتال من لم يقاتل منهم، والأمر بالعفو والصفح عن الكفار ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب م3 ج9 ص756 - 759.

فنقول إن هذه النصوص قد ورد من الآيات ما خصصها أو نسخ حكمها فاقرأ إن شئت من أول سورة التوبة إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها، تجد تحديدًا دقيقًا لطبيعة العلاقة مع الكفار، وهذا المقطع من تلك السورة من آخر ما نزل من القرآن الكريم حيث نزلت تلك الآيات في نهاية السنة التاسعة من الهجرة (¬1). أما الكف عن القتال في مكة فهو لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة الأمد. وهناك سبب آخر وهو أن حرية الدعوة وحرية إبلاغها للناس كانت مكفولة بحماية بني هاشم، حيث كان أبو طالب يحمي ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شر أعدائه، فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصدع بالدعوة، ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب، ولم يكن هناك سلطة سياسية منظمة وأجهزة بوليسية تمنع من الدعوة، أو تمنع الأفراد من سماعها، ومن ثم فلا يجوز اتخاذ تلك الفترة، حجة في ترك الجهاد ومسالمة الكفار، أو موادعتهم لأن قياس واقع المسلمين في العصور المتأخرة على تلك الفترة في مثل هذا الوجه أمر لا تتوفر فيه شروط القياس الصحيح. إن من البديهيات التي يجب أن يدركها كل مسلم أن الكفار لم ولن يسالموا المسلمين أبدًا، وإن وجد شيء من ذلك نادرًا، فهو لا يصدر عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين، وإنما يكون نتيجة اضطرار واقعي إلى حين، وإلا فإنه متى شعرت قوى الكفر والضلال أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده، أو على الأقل تجعل الانقضاض عليه مأمون العاقبة في حقهم انقضوا عليه ومزقوه إربًا وهذا ما حصل للمسلمين في الأندلس فقد روى المقري أنه في ربيع الأول سنة (897هـ) ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب م4 ج10 ص82.

اصطلح النصارى مع المسلمين ووقع معهم المسلمون شروط الصلح وكانت سبعة وستين شرطًا منها ما يلي: 1 - تأمين حياة جميع الأفراد المسلمين وتركهم في أماكن سكناهم. 2 - عدم التعدي على الممتلكات المنقولة وغير المنقولة. 3 - إبقاء المساجد على ما هي عليه، وأن لا يدخل اليهود والنصارى بيت مسلم. 4 - لا يولى على المسلمين نصراني ولا يهودي، وأن يفك جميع أسرى المسلمين. 5 - أن لا يؤخذ أحد بذنب غيره. 6 - أن لا يقهر من أسلم بالعودة إلى الكفر قهرًا حسيًا أو معنويًا. 7 - أن توفر الحماية للمسلم على نفسه وماله وعرضه. وغير ذلك من الشروط: ثم عقب المقري (¬1) على ذلك بقوله: «ولكن الأسبانيين نكثوا العهد وخانوا الوعد والاتفاق، ونقضوا الشروط كلها» (¬2). اهـ. فهم قد حملوا على البقية الباقية من المسلمين إلى الفرار إلى شمال أفريقيا، والبعض منهم تنصر، والأغلب منهم قتل في حملات التفتيش التي قامت بها النصارى للقضاء على المسلمين، فلم تأت سنة (904هـ) إلا وقد ¬

_ (¬1) هو أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي اليعيش بن محمد المالكي، الأشعري، التلمساني، نزيل فاس، ثم القاهرة، المشهور بالمقري (أبو العباس، شهاب الدين) مؤرخ، أديب ولد في تلمسان، سنة 992هـ - وتوفي بالقاهرة سنة (1042هـ) في جمادي الآخرة. من تصانيفه الكثيرة نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، فتح المتعال في وصف النعال. نعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، أزهار الرياض في أخبار عياض، روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيتهم من أعلام مراكش وفاس، والبدأة والنشأة في النظم والأدب. انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحاله ج2 ص78. (¬2) انظر نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب م4 ص525 - 528.

جف أثر المسلمين من الأندلس وعفى عليه الدهر بعد ثمانية قرون من الاستقرار (¬1) ويقول المؤرخ الأسباني باللستر: «إن النصارى أخذوا يظلمون المغلوبين من المسلمين ويضايقونهم في دينهم بوسائل العنف والقسوة حتى اضطر كثير منهم إلى الهجرة من أسبانية ولم يبق بالأندلس سوى عرب متنصرين ينعتونهم بنصارى الظاهر لا نصارى الباطن ثم اضطر الباقي إلى الجلاء أو التنصر» (¬2). اهـ. وهذه حقيقة يجب أن يفهمها كل من ينتمي إلى الإسلام، أنه لا سلم ولا سلام بين الكفر والإسلام قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (¬3) ونحن نرى مصداق ذلك أمامنا اليوم فالفتوحات الإسلامية قد توقفت منذ عشرة قرون تقريبًا أو أكثر، ومع ذلك فإن أعداء الإسلام طيلة هذه المدة وهم يحاربون الإسلام والمسلمين ابتداء من الحروب الصليبية ثم الاستعمار والاحتلال، ولا تزال بلاد المسلمين تكتوي بنار الكفار في صورة مباشرة كما هو حاصل في فلسطين وأفغانستان والفلببين وايريتريا وبصورة غير مباشرة كما هو الشأن في معظم الأقطار الإسلامية، حيث يقوم سماسرة اليهود والنصارى، وعبيد ماركوس اليهودي وميشيل عفلق الصليبي بخدمة أهل الكفر على اختلاف أنواعهم وذلك بتتبع طلائع حزب الله المؤمن والفتك بهم في كل مكان من العالم، رغم أن وضع المسلمين في العصر الحاضر لا يشكل خطرًا مؤثرًا على وجود الكفار وحياتهم. ولكنها العداوة المتأصلة التي لا يرضيها إلا فناء الإسلام والمسلمين قال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (¬4) ¬

_ (¬1) انظر العلاقات الدولية في الإسلام. د/ كامل سلامة الدقس ص322 - 324. وانظر أبيدوا الإسلام دمروا أهله/ جلال العالم ص8 - 24. (¬2) انظر العلاقات الدولية في الإسلام. د/ كامل سلامة الدقس ص323. (¬3) سورة البقرة آية (217). (¬4) سورة البقرة آية (120).

فصفة العداوة أصيلة فيهم، تبدأ من نقطة كراهيتهم للإسلام ذاته، مرورًا بصدهم عنه، وينتهي بهم الأمر إلى الوقوف في وجهه، وتربصهم بالمؤمنين الدوائر، فهم عندما يتمكنون من المسلمين يفتكون بهم بلا شفقة ولا رحمة، لأن الرحمة لا تعرف إلى قلوبهم سبيلاً، ولا يمنعهم عهد ولا وعد ولا يتحرجون من مذمة، أو قطع مودة قال تعالى: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) (¬1). ولذلك أمر الله بقتالهم في قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (¬2) ولكن أكثر الذين يكتبون عن العلاقات الدولية في الإسلام، يهولهم ويتعاظمهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا، وأن تكون هذه هي الأحكام النهائية في الإسلام فأجهدوا أنفسهم بتلمس القيود للنصوص المطلقة والأخيرة، من خلال بعض النصوص المرحلية التي نزلت في أول الدعوة. إن الذين يحاولون تمييع موقف الإسلام في الجهاد، إنما يفعلون ذلك لأنهم يواجهون هجومًا صليبيًا منظمًا لئيمًا ماكرًا خبيثًا يقول لهم: إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وإن الجهاد كان لإكراه الناس قسرًا على الدخول في العقيدة الإسلامية وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد عند الآخرين. والمسألة بهذا المفهوم غير مستساغة، لو كان الأمر كذلك، لكن الحقيقة أن الإسلام يقوم على قاعدة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (¬3) ولذلك انطلق بالسيف مجاهدًا ليوفر للناس الضمان الحقيقي لحرية الاعتقاد، وليحطم الأنظمة التي تكره الناس على الباطل وتمنع وصول الحق إليهم، ليبقى الناس أحرارًا في اختيار العقيدة التي يريدونها، إن شاءوا ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (10). (¬2) سورة التوبة آية (29). (¬3) سورة البقرة آية (256).

دخلوا في الإسلام فكان لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات، وكانوا إخوانًا في الدين للمنتمين إلى الإسلام، وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية، إعلانًا عن استسلامهم في انطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة، ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء المعتدين عليهم، وتكفل لهم الحقوق العامة في ظل منهج الإسلام. إن الإسلام لم يكره فردًا على تغيير عقيدته، كما فعلت الصليبية على مدار التاريخ في الأندلس قديمًا وزنجبار حديثًا، لتكرههم على التنصر وأحيانًا لا تقبل منهم حتى التنصر فتبيدهم لأنهم مسلمون (¬1). إن دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم وصلتهم والعدل معهم والإحسان إليهم شيء مطلوب من المسلم ولكنه يختلف عن الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة. فالمسلم يعطي خالص محبته ومودته ومناصرته لله ثم لرسوله ثم للمؤمنين بهذا الدين، ولا يمكن أن يرقى إلى مستوى هؤلاء أو يزاحمهم أحد من الكفار في صفة من تلك الصفات، أما تعامله مع الكفار، فالكفار يعاملهم المسلم على أنهم أحد نوعين: الأول: كفار محاربون. وهؤلاء لا يجوز معهم أي نوع من أنواع البر والصلة والإحسان ما دام أنهم يعلنون حالة الحرب لله ولرسوله وللمؤمنين (¬2) إلا إذا رأى المسلم فردًا أو جماعة أن البر بهم والصلة لهم والإحسان إليهم سبب قوي في دعوتهم واستمالتهم إلى الإسلام فهذه حالة استثنائية تقدر بقدرها. ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب ص81 – 112، وص115، 135، وص149 – 152، وص169 – 185 من المجلد الثالث الجزء العاشر. (¬2) انظر فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز على هذا الموضوع في مجلة الدعوة السعودية عدد (823) في 11/ 2/402 هـ ص19.

الثاني: الكفار المسالمون، وهم الكفار المستأمنون – والكفار من أهل الذمة والكفار المحايدون، فهؤلاء يجوز لنا أن نقدم لهم من البر والصلة والإحسان ما لا يجوز مع غيرهم من المحاربين، وسوف نتناول المعاملة التفصيلية مع هؤلاء وأولئك في مبحث لاحق إن شاء الله، وحسبنا أن نشير إلى قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (¬1) فقد سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن هذه الآية فأجاب: «إن هذا إخبار من الله جل ذكره لعباده المؤمنين بأنه لم ينههم عن البر والعدل والإنصاف في معاملة أي كافر كان من أهل الملل إذا كان لم يقاتل المسلمين في الدين ولم يخرجهم من ديارهم، إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوب محبوب شرعًا، ولذا علل الحكم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وأما قوله (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أي لا ينهاكم عن بر وصلة من لم يقاتل في الدين» (¬2). اهـ. وقد اختلف علماء التفسير هل الآية محكمة أو منسوخة على أقوال: هي: 1 - قال ابن زيد (¬3) وقتادة (¬4) ونقل عن ابن شهاب (¬5) الخفاجي أن هذه الآية ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية (8). (¬2) انظر الدرر السنية ج10 ص183 - 184 (¬3) هو عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم. فقيه، محدث، مفسر. توفي في أول خلافة هارون الرشيد. له من الكتب الناسخ والمنسوخ، والتفسير انظر معجم المؤلفين ج5 ص138. (¬4) هو قتادة بن دعامة بن عرنين بن عمرو بن ربيعة السدوسي، البصري (أبو الخطاب) ولد سنة (60هـ) وتوفي سنة (117هـ). مفسر من آثاره: تفسير القرآن. انظر معجم المؤلفين ج8 ص127. (¬5) هو أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي – المعروف بشهاب البصري الحنفي ولد بالقرب من القاهرة حوالي عام (979هـ) وتعلم على يد علماء بلده ثم رحل إلى الحجاز وأدى فريضة الحج والتقى بكثير من علماء مكة والمدينة، ثم رحل إلى الأستانة فالتقى فيها بعدد من العلماء، ثم عين قاضيًا في عهد السلطان مراد، ثم انتقل إلى قضاء القاهرة وتوفي بها سنة (1069هـ) وله من المصنفات: شرح على تفسير البيضاوي سماه (عناية القاضي) وله كتابان من كتب السيرة وله غير ذلك من المؤلفات. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضان كحالة ج2 ص 138، وانظر دائرة المعارف الإسلامية ج 8ص 396 - 399.

منسوخة بآية القتال في سورة براءة بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (¬1) وبغيرها من آيات القتال (¬2). 2 - قال جماعة من أهل التفسير إن الآية أباحت صلة النساء والصبيان لأنهم ممن لا يقاتل فإذن الله ببرهم، وقالوا هي محكمة، واحتجوا بأن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنها) سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - هل تصل أمها (قتيلة) حين قدمت عليها وهي مشركة؟ قال: «نعم». أخرجه البخاري ومسلم (¬3). 3 - وقال مجاهد المراد بهذه الآية هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا فأذن الله ببرهم والإحسان إليهم (¬4). 4 - قال جماعة من المفسرين: هذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، ودليل على جواز برهم، وإن كانت الموالاة لهم منقطعة (¬5). ويقول محمد بن جرير الطبري: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (5). (¬2) انظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي ج8 ص237. وانظر تفسير القرطبي ج18 ص59 - 60 وانظر تفسير الطبري ج28، ص43. وانظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1773 وانظر أحكام القرآن للجصاص ج3 ص437، وانظر تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس ج4 ص139 - 140. (¬3) انظر المصادر المتقدمة نفس المكان وانظر زيادة في ذلك مختصر تفسير ابن كثير/ محمد علي الصابوني ج3 ص484. (¬4) انظر جامع البيان في تفسير القرآن للطبري ج28 ص43، وانظر تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس ج4 ص139، 140. (¬5) المصادر السابقة مع زيادة تفسير ابن سعدي ج7 ص356، وفتح القدير للشوكاني ج5 ص213.

أن المراد بالآية جميع الأصناف ممن لم يقاتل المسلمين، إذا لم يكن في برهم والإحسان إليهم دلالة لأهل الحرب على عورات أهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح (¬1). اهـ. وعلى هذا يترجح القول لدي بعدم النسخ في الآية لوجوه هي: 1 - إن الجمع بينها وبين آية القتال ممكن غير متعذر، ودعوى النسخ يصار إليها عند تعذر الجمع، وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل. 2 - إن السنة متظاهرة بطلب الإحسان والعدل مطلقًا ولا قائل بالنسخ في ذلك. 3 - يحمل كلام ابن زيد وقتادة وابن شهاب الخفاجي بأن النسخ في كليهما بمعنى التخصيص. 4 - إن القتال بالسيف وتوابعه، من العقوبات، والغلظة في محلها مخصوص من هذا العموم. ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآيات في السورة أنه لما ذكر الله تعالى نهيه لعباده المؤمنين عن اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء يلقون إليهم بالمودة، ثم ذكر حال خليله إبراهيم (عليه السلام) ومن آمن معه في قولهم وبراءتهم من قومهم المشركين حتى يؤمنوا، وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، خِيْفَ أن يتوهم أحد أو يظن أن البر والعدل داخلان في ضمن ما نهى الله عنه من الموالاة المحرمة، فناسب أن يدفع هذا الوهم بهذه الآية (¬2). والله هو الهادي إلى طريق الصواب. ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري ج28 ص43، وانظر تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس ج4 ص139 - 140. (¬2) انظر الدرر السنية ج10، ص184.

المبحث الثالث: تعامل المسلمين مع أهل الذمة والعهد في دار الإسلام

المبحث الثالث: تعامل المسلمين مع أهل الذمة والعهد في دار الإسلام 1 - أهل الذمة: أهل الذمة هم المعاهدون من النصارى واليهود وغيرهم ممن يقيم بدار الإسلام (¬1). أما المرتدون فلا يجوز عقد الذمة لهم إجماعًا (¬2). بل لا بد من الإسلام أو القتل، وقد جاء في الحديث الشريف «وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه مثل ذلك» (¬3). وقال العلماء في تفسير (ذمتهم) بمعنى الأمان الذي يعطونه (¬4). وعقد الذمة هو عقد يصير بمقتضاه غير المسلم في ذمة المسلمين ¬

_ (¬1) انظر القاموس المحيط ج4 ص115. (¬2) انظر تفسير القرطبي ج8 ص110 - 111 (¬3) فتح الباري ج6 ص273. (¬4) انظر كشاف القناع ج1 ص704.

أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد، وله الإقامة بدار الإسلام على وجه الدوام (¬1). وقال آخرون: إن عقد الذمة هو إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية، والتزام أحكام الملة (¬2). والذي يتولى إبرام عقد الذمة مع غير المسلمين هو الإمام الشرعي أو نائبه، ولا يصح من غيرهما على الراجح من الأقوال في هذه المسألة (¬3). ومن أهداف عقد الذمة أن يختلط الذميون مع المسلمين ويطلعوا على محاسن الإسلام، مما قد يدفعهم ذلك إلى اعتناق الإسلام والدخول فيه وأهل الذمة إنما قبلوا هذا العقد، لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا والقاعدة العامة أن أهل الذمة مثلهم كمثل المسلمين في الحقوق والواجبات. إلا أن هذه القاعدة يرد عليها استثناءات وهي أن الدولة الإسلامية، تشترط لبعض الوظائف والحقوق، توفر العقيدة الإسلامية في الشخص الذي يشغل بعض الوظائف ويمنح بعض الحقوق، ولا تكتفي بتبعية الفرد لها في سجل دائرة النفوس، والواقع أنه لا غرابة في مثل ذلك لأن جميع الدول تفرق بين المواطنين فيها في الحقوق والواجبات بناء على نوع المبدأ الذي يلتزمه الشخص وتلتزمه الدولة وبناء على الكفاءة العلمية والقدرة الإنتاجية، والدولة الإسلامية تلتزم بالإسلام التزامًا تامًا ولذلك فمن الطبيعي أن تقدم المسلم المخلص في إسلامه على من سواه، لأنها محكومة بالإسلام والإسلام قد وضع القواعد المتبعة في هذا الشأن، فلا تملك الدولة الإسلامية إلا حسن التطبيق، ولو خرجت عن قواعد الإسلام وأحكامه في هذه القضية أو غيرها لاعتبر ذلك كفرًا وردة عن الإسلام (¬4). ¬

_ (¬1) انظر أحكام الذميين والمستأمنين. د/ عبد الكريم زيدان ص22. (¬2) المصدر السابق نفس المكان. (¬3) انظر مغني المحتاج ج4 ص243. (¬4) انظر أحكام الذميين والمستأمنين. د/ عبد الكريم زيدان ص1.

إن الإسلام لا يقر الظلم لأهل الذمة ولا يعمل على إذكاء العداوة ضدهم، ولا يبني سياسته على تعمد إهانتهم وعزلهم عن المجتمع (¬1). ولكنه في نفس الوقت، لا يتميع في التعامل معهم حتى يطغى باطلهم على الحق، ويعلو كفرهم على شرع الله، وإنما يتعامل معهم وفق شروط معتدلة، تحفظ للمسلمين دينهم، وتحفظ لأهل الذمة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وهذا الذي يقدمه الإسلام لمخالفيه في العقيدة من أهل الذمة، لا يمكن أن يقدمه أي مبدأ من المبادئ الجاهلية، لمن يخالفونه في الرأي فضلاً عمن يخالفونه في الاعتقاد. وما ورد في الكتاب والسنة مما قد يفهم منه خطأ قصد الإهانة والاحتقار للكفار من أهل الذمة فإن المقصود بذلك هو ألا يظن أولئك أو يظن أحد من المسلمين أن الذميين ومن في حكمهم تجب معاملتهم على غرار معاملة المسلمين سواء بسواء، وهذا أمر غير مقبول حيث لا مساواة بين الكفر والإسلام. فالإسلام يعتبر أهل الذمة في داخل الدولة الإسلامية مواطنين من الدرجة الثانية، ولكنه يحقق لهم قدرًا من الحماية والرعاية قلما يتوفر لهم في ظل أنظمتهم الجاهلية نفسها. وقد اختلف العلماء في معنى الصغار المذكور في قوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (¬2). على قولين: القول الأول: ذهب بعض الفقهاء إلى تفسير الصغار بأنه نوع من الإهانة والإذلال الفعلي، ولكن هذا القول لا دليل عليه، ولا هو مقتضى الآية ولا نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته أنهم فعلوا ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام/ محمد الغزالي ص38. (¬2) سورة التوبة آية (29). (¬3) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص24.

القول الثاني: إن الصغار المذكور في الآية هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم، وإعطاء الجزية فإن التزام ذلك هو الصغار (¬1). وهو الصواب في نظري والله أعلم. وقد خص بعض العلماء جواز الإذلال والامتهان الفعلي عند عدم الدفع للجزية فإنه يجوز تعزير الممتنع عن دفع الواجب بدون عذر شرعي مقبول (¬2). وقيل أنه لما كان في المفهوم العام أن يد المعطي العليا ويد الآخذ السفلي، أمر المسلمون بعكس ذلك بأن يأخذوها على وجه تكون فيه يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا، وفي ذلك دلالة على أنه لا يجوز وضع أهل الذمة ومن في حكمهم من المستأمنين في مرافق الدولة التي يظهرون فيها تكبرهم، واستعلاءهم على المسلمين، فإنه في هذه الحالة تنعكس الصورة، حيث يصبح الكفار هم الأعلون والمسلمون في موقع الذلة والصغار، وهذا ما حذرنا الله عنه في قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (¬3) ولذلك قال الفقهاء: إذا وجدت مثل هذه الحالة فإن الكفار الذين هم بهذه الصفة لا حرمة لهم في دمائهم وأموالهم لأن الله تعالى مدَّ أمد القتال إلى غاية وهي إعطاء الجزية مع الصغار، فإذا كانت حالة الذميين منافية لذلك في دار الإسلام، فلا عصمة لأموالهم وأنفسهم وليست لهم ذمة (¬4). حيث قد اشترط عمر رضي الله عنه تلك الشروط التي فيها الذل والصغار لهم، فمتى خرجوا على تلك الشروط فلا عهد لهم ولا ذمة (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق نفس المكان. (¬2) المصدر السابق نفس المكان. (¬3) سورة آل عمران آية (139). (¬4) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن القيم الجوزية ج1 ص24 - 25. (¬5) المصدر السابق ج2 ص657.

2 - المستأمنون أو أهل العهد: المستأمن: بكسر الميم هو الطالب للأمان، وبالفتح بمعنى اسم المفعول أي صار آمنًا ومأمونًا (¬1) والأصل في الأمان قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) (¬2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: « .... ، ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل» (¬3) وهذا الأمان الذي يعطى للمستأمن أمان مؤقت بخلاف الأمان الذي يعطى لأهل الذمة فهو أمان مؤبد ما التزموا بشروط العقد، بخلاف أمان المستأمن فهو أمان يلزم تحديده بمدة زمنية معينة، وينعقد الأمان بحق المستأمن بكل لفظ يفيد ذلك المعنى سواء كان صريحًا أو كتابة، كما ينعقد بالكتابة والرسالة والإشارة ونحو ذلك (¬4). وللحربي المستأمن أن يعمل بمقتضاه فيدخل دار الإسلام آمنًا ولا يجوز لأحد التعرض له بسوء، ويجب على كافة المسلمين رعاية هذا الأمان، والعمل بموجبه ما دام هذا الأمان قد تم بالشروط المعتبرة شرعًا (¬5). أما إذا كان الأمان صادرًا من حاكم خارج على الإسلام، فلا طاعة له ولا أمان لمن أمنهم من الكفرة أمثاله، كما يفعل بعض المتسلطين على رقاب المسلمين. حيث يستخدمون الخبراء والمستشارين والمقاتلين من روسيا وأمريكا وكوبا وغيرها من دول الكفر والضلال لمقاتلة المسلمين في عقر دارهم، فهؤلاء لا عهد لهم ولا أمان لأن من أعطاهم الأمان لا يملك الحق الشرعي في ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار/ محمد أمين ج3 ص341. (¬2) سورة التوبة آية (6). (¬3) انظر فتح الباري ج12 ص42. (¬4) انظر المغني ج8 ص397. (¬5) المصدر السابق ج8 ص398. (¬6) انظر الهداية شرح بداية المبتدئ – كلاهما تأليف برهان الدين المرغيناني، ج4 ص300. وانظر كشاف القناع عن متن الإقناع/ منصور بن إدريس ج1 ص695. وانظر مغني المحتاج/ محمد بن أحمد الشربيني ج4 ص238.

وينتقص أمان المستأمن إذا كان في الأمان مفسدة وضرر على المسلمين، كما تقدم، كما أن للإمام الشرعي نقض أمان المستأمن عند الخوف من خيانة ونحو ذلك (¬1). ولأهل العهد (أو المستأمنين) إذا دخلوا دار الإسلام الأمان على نفوسهم وأموالهم، ولهم أن يقيموا فيها فيما عدا الحرم والحجاز والجزيرة العربية في بعض الأقوال مدة معلومة يحددها الإمام فإن قلت عن أربعة أشهر كانت بغير جزية، وإن بلغت السنة وجب أخذ الجزية عليهم (¬2). ويجب على المستأمن الامتناع عن كل قول أو فعل يوحي بانتقاص الدين الإسلام أو الازدراء بعقيدة المسلمين، وإذا خالف ذلك وجب عليه من العقوبة مثل ما يجب على غيره من المخالفين سواء كان المخالف مسلمًا أو ذميًا أو معاهدًا. والدليل على ذلك أن يهودية كانت موادعة -أي مستأمنة غير ذمية- قد شتمت الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأهدر دمها ولم يعاقب قاتلها (¬3). وكذلك أنس بن زنيم من بني بكر، هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهدر دمه مع أنه لم يكن ذميًا، وإنما كان موادعًا فهو في حكم المستأمن (¬4). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج ج1 ص300. (¬2) انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص146. وانظر نيل الأوطار للشوكاني. ج8 ص222 - 223. (¬3) انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول/ ابن تيمية ص60 - 61. (¬4) المرجع السابق ص806.

المبحث الرابع: تعامل المسلمين مع الكفار المحايدين

المبحث الرابع: تعامل المسلمين مع الكفار المحايدين سبق أن تناولنا موقف الدولة الإسلامية من الكفار عامة وقلنا في توجيه مفهوم الحرب والسلم في الإسلام أن الدولة الإسلامية الحقة دولة دعوة وجهاد. في سبيل الله، وهي تدعو أول ما تدعو بالحكمة والموعظة الحسنة وإبلاغ الدعوة بالكلمة الطيبة والمجادلة اللطيفة، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (¬1). وهذا العمل ليس تدخلاً في شئون الآخرين على جهة الإفساد كما يصوره أعداء الإسلام، وإنما هو تدخل لإصلاح حالهم في الدنيا والآخرة، فإن أبوا ذلك وحالوا بين المسلمين وبين إبلاغهم كلمة الحق، وجب عند ذلك استعمال النوع الثاني من أساليب الدعوة وهو الجهاد، فالجهاد يضطر إليه المسلمون اضطرارًا، ليس حبًا منهم لإراقة الدماء، ولا لقسر الناس كأفراد على الدخول في الإسلام، وإنما يحتاجون إليه كما يحتاج الطبيب إلى استئصال بعض الأعضاء الفاسدة في الجسم محافظة على سلامة الجسم كله من ¬

_ (¬1) سورة النحل آية (125).

الموت وسريان المرض فيه، وكذلك المجاهدون يستأصلون القوة الفاسدة التي تقف في وجه الحق وتمنع الدعوة والدعاة من أن يبلغوا الناس دين الله كما أنزله الله، ودعا إليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولذلك إذا وجد من الكفار من يرغب التعامل مع المسلمين على أساس السلم، وتبادل المنافع والاحترام المتبادل، وإطلاق حرية الدعوة إلى الله بين أفرادهم وداخل مجتمعاتهم وأن يقفوا موقف الحياد في قتال المسلمين عدوًا ذا شوكة، فإن الأدلة الشرعية تقرر وجوب مسالمتهم، ما دامت حرية الدعوة إلى الإسلام مكفولة، فليس هناك حاجة إلى الحرب أو القتال، حيث إن الإسلام لا يريد أن يكره الناس أن يكونوا معه، ولكنه لا يسمح لهم أن يقفوا ضده، أو يحاربوه بأية وسيلة من وسائل الحرب المتعددة، فهو لا يعتبر كل من ليس معه عدوا له تجب محاربته والقضاء عليه، كما هو منهج المبادئ الوضعية، والقوانين الجاهلية، بل يحمل هؤلاء الذين يقفون من الإسلام موقف الحياد، بأنهم أناس يجهلون حقيقة الإسلام ومميزاته العظام، فهو يرجو من هؤلاء المحايدين أن ينحازوا إلى الإسلام، حينما تزول الملابسات والتصورات التي تمنعهم من الدخول فيه وقد حصل هذا بالفعل في بلاد النوبة (¬2) وغيرها من بلاد المسلمين. قال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) (¬3) وهذه الآية من الآيات المحكمة التي لم يتطرق إليها النسخ (¬4) وهي تعني أن الله أوجب مسالمة من يقف من ¬

_ (¬1) انظر النظم الدولية في القانون والشريعة. د/ عبد الحميد الحاج ص141 - 147. (¬2) النوبة منطقة ممتدة على شاطئ النيل من أسوان جنوب مصر حتى دنقلة في السودان. انظر ذلك في الموسوعة العربية/ محمد شفيق غربال، م2 ص1851. (¬3) سورة النساء آية (90). (¬4) انظر الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ص111.

المسلمين موقف الحياد، فلا يحاربهم، لا يعين عليهم محاربًا قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (¬1) فهذه الآية والتي قبلها نص صريح واضح في تقرير مبدأ مسالمة المحايدين من الكفار لأن ذلك مما يتفق وروح الدعوة الإسلامية التي انتشرت بطريق السلم في أندونيسيا والسودان والصومال ووسط أفريقيا، وجنوب شرق آسيا عامة، حيث يعتبر الإسلام الحرب ضرورة لدفع العدوان المانع من وصول الدعوة إلى الناس فإن زال المانع والتزم غير المسلمين جانب السلم مع المسلمين وسارت العلاقات بينهما سيرًا طبيعيًا دون أن يكدر صفوها شيء وجب اعتبار هؤلاء محايدين، ووجب الكف عن أذاهم وحسن معاملتهم. ومن الأمثلة العملية على وجود المحايدين من الإسلام ما يلي: 1 - حالة أهل الحبشة فقد اعتبرها المسلمون من البلاد التي لا يجوز بدؤها بالقتال، فقد ورد فيما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة» (¬2) وقد ضعف الألباني هذا الحديث (¬3) وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن صحة هذا الحديث فلم يعترف بصحته، ولكن قال: «لم يزل الناس يتحامون غزوهم» (¬4). وورد أيضًا فيما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» (¬5) وقد حسن الألباني الاستشهاد به ومال ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية (8). (¬2) رواه النسائي في سننه ج8 ص44، والبيهقي في السنن الكبرى ج9، ص176 وأبو داود في سننه ج4 ص162. (¬3) أخرجه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ص415 - 417 برقم (772). (¬4) انظر بداية المجتهد/ محمد بن أحمد القرطبي ج1 ص369. (¬5) رواه أبو داود والنسائي. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 ص416.

إلى توثيقه. ولكن الصواب أن معناه لا يصح الأخذ به، فلو صح عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعملوا به لما توجهت جيوش الفتح الإسلام إلى تركيا والقسطنطينية حيث لو توقف المسلمون في حدود الشام، لما توجه الترك لحربهم لو علموا ذلك من المسلمين. أما بلاد الحبشة فقد أعتبرت في عهد الصحابة (رضي الله عنهم) أكثر من بلاد محايدة، بل هي بلاد مناصرة لأهل الإيمان، لمعاملتها الحسنة للمسلمين في هجرتهم إليها أيام النجاشي. ولكن بما أن أحكام الإسلام لم تكن نافذة فيها فهي ليست دار إسلام، وباعتبارها مسالمة لأهل الإسلام مناصرة لهم فهي ليست دار حرب وعلى هذا يمكن أن تسمى (دار حياد) بمفهوم العصر الحاضر (¬1). 2 - يشبه موقف أهل الحبشة موقف أهل النوبة في جنوب مصر وشمال السودان على ضفتي نهر النيل من أسوان في مصر إلى دنقلة في السودان وهي مملكة نصرانية في السابق وقفت في وجه المسلمين الفاتحين واستعصت عليهم وكلفت الجانبين خسائر جسيمة، وأخيرًا عقد ملكها عقد صلح مع المسلمين يقوم على مبدأ التسامح بينهم في حرية الدعوة والاعتقاد وحسن الجوار، وتبادل المنافع الاقتصادية، حيث إن مصر تمد بلاد النوبة بالحبوب والثياب والخيل، والنوبة تمد مصر بالماشية وعمال فلاحة الأرض، لينصرف المسلمون إلى الجهاد وقد استمرت هذه المعاهدة أكثر من ستمائة سنة حتى الحكم الفاطمي في مصر (¬2). وبهذا لم تكن بلاد النوبة في ذلك العهد من دار الإسلام لعدم نفاذ أحكام الإسلام فيها، ولا من دار العهد لعدم وجود علاقة الخضوع والتبعية للمسلمين. ¬

_ (¬1) انظر العلاقات العامة والخاصة في الإسلام تأليف مجموعة من الدكاترة ص9. (¬2) انظر تاريخ الإسلام السياسي د/ حسن إبراهيم ج2 ص204. وانظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي د/ وهبة الزحيلي ص914. وانظر العلاقات العامة والخاصة في الإسلام/ مجموعة أساتذة 98.

ولا بدار حرب تعلن عداوتها للإسلام والمسلمين، فهي إذا يمكن تسميتها دار مسالمة وموادعة وحياد. ويمكن أن تعتبر بعض الدول الأوروبية الصغيرة مثل النمسا وسويسرا التي تقف في الظاهر من قضايا الإسلام موقف المحايد، دولاً محايدة ما لم يثبت خلاف ذلك من محاربة للإسلام والمسلمين، أو تتعاون مع المحاربين للإسلام وأهله. وقد روى ابن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وادع بني صخر من كنانة ألا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه، ولا يعينوا عليه عدوًا، وكتب بينه وبينهم كتابًا بذلك (¬1). ويجوز استخدام الكفار المسالمين المحايدين للدعاية لصالح المسلمين وإيقاع الرعب والهزيمة المعنوية في الكفار المحاربين فقد مر معبد بن أبي معبد الخزاعي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في حمراء الأسد (¬2) بعد موقعة أحد، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد لقد عز علينا ما أصابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء (¬3). وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقالوا: أصبنا جل أصحابه، وأشرافهم وقادتهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدًا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط! يتحرقون عليكم تحرقًا! من الحنق (¬4) عليكم، لم أر مثله قط! قال ويحك، ما تقول؟ قال: والله ما ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن م4 ج10، ص123. (¬2) حمراء الأسد مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة نحو مكة. (¬3) الروحاء قرية لمزينة على مسافة ليلتين من المدينة. (¬4) الحنق: شدة الغيظ.

أرى أن ترحل حتى نرى نواصي الخيل: قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك (¬1). وبناء على ذلك فإن الكفار المسالمين المحايدين لا تجب معاداتهم ولا تصح موالاتهم، وإنما يعاملون بالعدل والإحسان والبر، فلا يعادون عداوة المحاربين ولا يوالون موالاة المؤمنين وإنما يجوز معهم التعامل على أساس العدل والصلة بالمعروف وكف الأذى والعدوان عنهم، ما دام أنهم يبادلون المسلمين هذا الشعور، ويقفون منهم ذلك الموقف المتسامح الذي ينبئ عن مبدأ قبول الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وهذه هي الغاية التي يريدها الإسلام في الدعوة والجهاد، فإذا توفرت في قوم وجب الكف عنهم واحترام حقوقهم إذا كانوا يحترمون المسلمين، ويلتزمون بموقف الحياد من الإسلام وأهله التزامًا حقيقيًا صادقًا لا مراوغة فيه ولا احتيال. وإذا حصل نزاع بين الكفار بعضهم مع بعض فإنه يجوز للمسلمين تأييد أحد الطرفين على الآخر تأييدًا معنويًا وذلك مثل ما حصل من الحرب بين الفرس والروم، فعندما هزم الفرس الروم في أول الأمر فرح كفار مكة وقالوا للمسلمين لقد هزم إخواننا الفرس إخوانكم من أهل الكتاب حيث كان كفار قريش يوالون الفرس نظرًا إلى أنهم جميعًا أميون وكان المسلمون يقفون بمشاعرهم مع الروم لأنهم أهل كتاب فدارت المعركة مرة أخرى وانتصر الروم على الفرس وفرح المسلمون بذلك (¬2). ونزل في ذلك قوله تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تهذيب سيرة ابن هشام/ عبد السلام هارون ص194. (¬2) انظر تفسير ابن كثير ومعه تفسير البغوي – معالم التنزيل – ج6 ص412 – 416 – (ط – 1 – مطبعة المنار بمصر – 1347هـ). (¬3) سورة الروم آية (1 - 5).

المبحث الخامس: تعامل المسلمين مع الكفار المحاربين

المبحث الخامس: تعامل المسلمين مع الكفار المحاربين إن التجربة والتاريخ قد أثبتا أن الكفر ملة واحدة، وإن أعداء الإسلام كل لا يتجزأ، فهم يقفون منا موقفًا عدائيًا واحدًا على مر العصور وتكرار الدهور. إنهم قد يختلفون في مناهجهم ومنطلقاتهم في الحياة فيما بينهم ولكنهم يجمعون على عداوة الإسلام وحربه رغم تباينهم ورغم حرص المسلمين على موادعتهم ومسالمتهم ورغم أن معظم مصالحهم عند المسلمين وهؤلاء المحاربون يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام. 1 - المحاربون من أهل الأوثان. 2 - المحاربون من اليهود. 3 - المحاربون من النصارى. وكل من هؤلاء لهم مواقف عدائية لا يقل بعضها عن البعض ولكن موقف المسلم في معاداته لمن ينكر وجود الله إنكارًا كليًا أشد من موقفه من

اليهود والنصارى الذين يؤمنون بوجود الله، وإن كانوا لا يطبقون شرعه، ولا يلتزمون بمنهجه. وعداوة المسلم للمحاربين اليهود أشد من عداوته للمحاربين النصارى عملاً بقوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (¬1) فيكون النصارى في الدرجة الثالثة بعد اليهود هذا إذا كان هؤلاء كلهم أهل حرب للإسلام والمسلمين، وهم دائمًا في الغالب كذلك وقد نهى الله عز وجل عن موالاة المحاربين للإسلام والمسلمين أيا كان نوعهم قال تعالى: 1 - (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (¬2). 2 - وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (¬3). 3 - قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (¬4). 4 - قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (¬5) ومحاربة هؤلاء للإسلام قد تأتي من طرف واحد من هذه الأطراف. ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (82). (¬2) سورة المجادلة آية (22). (¬3) سورة الممتحنة آية (1). (¬4) سورة المائدة آية (51). (¬5) سورة المائدة آية (57).

المحاربون من أهل الأوثان

الثلاثة وقد تأتي من بعضهم مثل تعاون النصارى مع اليهود في فلسطين وأهل الأوثان مع النصارى في الهند وجنوب شرق آسيا والشيوعيين مع اليهود في روسيا، وقد تأتي منهم جميعًا بناء على مكر يمكرونه وتآمر يتآمرونه على الإسلام والمسلمين. ولنبدأ بعرض موجز يوضح محاربة هذه الأصناف أو معظم المنتمين إليها للإسلام والمسلمين. المحاربون من أهل الأوثان إن الشيوعيين عبدة أوثان وإن ادعوا العلم والمعرفة ذلك أنهم يقدسون المادة ويرون أنها الفاعلة لكل شيء فيمنحونها خصائص الألوهية ويتخذونها لهم إلهًا من دون الله ذلك أن شعارهم «لا إله والحياة مادة» (¬1) ومهما يكن من أمر فإن الشيوعية صناعة يهودية قام على بعثها وترويجها ماركس اليهودي الألماني، وقد خلفه على ذلك عدد من أعضاء المجلس الشيوعي الذي حكم روسيا سنة (1951م) حيث كان سبعة عشر عضوًا من اليهود الصرحاء وكان ستالين الرئيس البارز للشيوعية متزوجًا بيهودية (¬2)، وفي اجتماع سري لليهود في فلسطين حضره الحاخام (جو آشيم برنز) قال فيه أيها السادة كلكم يعرف مدى الصلة القائمة بيننا وبين إخواننا اليهود في روسيا، وما لهم من أيادي كريمة في مساعدتنا، وخاصة بموقفهم منا إبان حرب فلسطين، وهذا الموقف رجح كفتنا، ومكننا من طرد العرب الغزاة عن أرض وطننا المقدس، ولو لم تكن الأسلحة التي أمدونا بها والتي نقلتها إلينا طائراتهم في الوقت المناسب لما قامت إسرائيل ألبتة، والأسلحة التي ندفع بها اليوم ¬

_ (¬1) انظر الاشتراكية والإسلام/ تعريب صهيب عبد الغفار تأليف مسعود الندوي ص27. وانظر حكم الإسلام في الاشتراكية/ عبد العزيز البدري ص119. وانظر نقض الاشتراكية الماركسية/ غانم عبده ص8. (¬2) انظر كتاب الكيد الأحمر/ عبد الرحمن حنبكة ص93.

عن حدودنا في إسرائيل هي أيضًا مما أرسله لنا إخواننا اليهود في روسيا وهي التي دفعت بالألوف من يهودها للالتحاق بالقوات الإسرائيلية ليساعدونا في حرب التحرير (¬1)، وهي ما تزال تساعدنا حتى اليوم لقاء ما قدمناه لها في ثورتها، وتنظيم شئونها، وتثبيت دعائم الشيوعية فيها (¬2). وقد نشرت جريدة المدينة المنورة بتاريخ 25 رجب سنة 1399هـ العدد (4622) ما يلي: هاتفيًا - من عبد الباري عطوان: لندن - وُزعت في لندن أمس الثلاثاء منشورات صادرة عن منظمة إنكليزية أمريكية مناهضة للشيوعية والصهيونية فيها حقائق مذهلة مدعومة بالأرقام والأسماء تقول: «إن مجلس السوفيت الأعلى والمكتب السياسي فيه» يتألف منه 90% من اليهود السوفيت، وإن أبرز الزعماء السوفيت ينتمون إلى الصهيونية حتى أن "ليونيد بريجينف" وهو الشخص الوحيد من بين كبار الشخصيات السوفيتية الذي ليس يهودي الأصل متزوج من يهودية، وإن جميع أولاده تربوا على الطريقة اليهودية ويجيدون اللغة العبرية ونالوا قسطًا من الثقافة الصهيونية (¬3). وبناء على ذلك فإن الشيوعيين وعملاءهم في كل مكان يسيرون وفق ¬

_ (¬1) في برنامج بثته إذاعة الكويت عصر يوم الاثنين 2/ 1/1401هـ، 10/ 11/1980م. أن المعدل السنوي لهجرة اليهود المدربين عسكريًا وعلميًا وصناعيًا من روسيا إلى دولة اليهود في إسرائيل (25) ألف يهود وأنه خلال العشر سنوات الماضية هاجر إلى إسرائيل ربع مليون يهودي يشكلون القوة الرئيسية الضاربة في إسرائيل. انظر مجلة البلاغ عدد 567 في 15/ 1/1401هـ. فماذا يقول باعة الجولان وأنصارهم في ليبيا وعدن؟ (¬2) انظر كتاب الكيد الأحمر/ عبد الرحمن حنبكة ص100 - 101. (¬3) المصدر السابق ص93/ 94.

مخطط بروتوكلات حكماء صهيون (¬1) والبرهان على ذلك أن الشيوعية ما تحل في بلد إلا وتجعل فاتحة عملها سحق المسلمين حتى النهاية وهذا الحقد الدفين إنما هو جزء من حقد اليهود ضد الإسلام والمسلمين، ففي روسيا قتل الشيوعيون ما لا يقل عن ستة وعشرين مليونًا من المسلمين في خلال ربع قرن (¬2). وأغلق أكثر من أربعة وعشرين ألف مسجد (¬3). وها هي الشيوعية اليوم تكمل ما فعلته بالأمس في غزوها لأفغانستان فقد قتلت ما يقارب المليون (¬4) وشردت مليونين ونصف لاجئ في باكستان (¬5). ولا تزال قواتها تحصد المسلمين وسوف تتجاوزهم إلى غيرهم إن استطاعت ذلك، وروسيا الشيوعية ليست الدولة الشيوعية الوحيدة التي تحارب الإسلام في أفغانستان وغير أفغانستان، بل معها كل الدول الشيوعية فقد أسر المجاهدون الأفغان جنودًا كوبيين ومجريين وبلغاريين وغيرهم وقد سبق أن أشرنا إلى ما فعله الشيوعي تيتو في يوغسلافيا حيث قتل ما يقارب المليون من المسلمين (¬6). ومع ذلك يستقبل - قبل هلاكه في بعض البلاد الإسلامية - كأعز صديق للمسلمين. ¬

_ (¬1) انظر بروتوكولات حكماء صهيون ص127 ترجمة محمد التونسي. (¬2) أثر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامة الدقسي ص163. (¬3) انظر التضليل الاشتراكي. د/ صلاح الدين المنجد، ص84. (¬4) انظر مجلة المجتمع عدد (550) في 13/ 1/1402هـ، ص 20 - 25، فقد ذكر عبد رب الرسول سياف زعيم المجاهدين أن عدد الذين استشهدوا أكثر من ثمانمائة ألف مسلم. (¬5) هذا العدد من كلمة عبد رب الرسول سياف أحد قادة المجاهدين الأفغاني من كلمته التي ألقاها في مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد بالطائف في الفترة من 19 إلى 23 من شهر ربيع الثاني 1401هـ. (¬6) انظر العلاقات الدولية في الإسلام د/ كامل سلامة الدقس، ص163 - 165.

لقد تجاوز خطر الشيوعية والشيوعيين ذلك، إلى التغلغل في داخل البلدان الإسلامية حيث نشأت أحزاب شيوعية في معظم البلاد الإسلامية بعضها ظاهر، وبعضها مستتر وهدف هذه الأحزاب حسب المخطط اليهودي الصليبي هو القضاء على الإسلام وجعل المسلمين أمة ممسوخة لا قيمة لهم في الحياة وقد وصل بعض رجال الشيوعية إلى السلطة في بعض البلاد الإسلامية وبدأوا يمارسون دورهم الخياني في الحرب ضد الإسلام والمسلمين والبعض الآخر يعمل من وراء الستار تمهيدًا للقفز إلى سدة الحكم، وكل هذه الأحزاب الطاغوتية الكافرة على ولاء تام مع اليهود وارتباط وثيق بهم، يمثل ارتباط الفرع بالأصل ففي سنة 1948م طلعت جريدة الراية العراقية الشيوعية تقول: «إن الشعب العراقي يرفض أن يحارب الشعب الإسرائيلي الشقيق» (¬1). اهـ. وأرسل خالد بكداش العميل الشيوعي لروسيا (فرج الله الحلو) أحد الشيوعيين في سوريا إلى تل أبيب للتنسيق مع اليهود واستقدام (تخمان لفنيسكي) اليهودي كي يعمل مستشارًا للحزب الشيوعي في سوريا، وفي أواخر الستينات نشر لطفي الخولي الشيوعي المصري في جريدة الأهرام: «إن المصريين لا يضمرون إلا الحب والتقدير للعمال والفلاحين اليهود» وكأن هؤلاء لم يسفكوا دماء الفلسطينيين ولم يحتلوا أرضهم (¬2). بل لقد وصل الأمر بالشيوعيين العرب والفلسطينيين منهم خاصة أن يلتقوا تحت العلم الإسرائيلي في مؤتمرات دولية وندوات عالمية جنبًا إلى جنب مع أفراد من عصابات اليهود وفي جلسات ود على كأس وشراب، وقد قرر هؤلاء أن يعملوا في صف حزب (راكاح) اليهودي، المموه بالشيوعية وهؤلاء يدورون بين أيدي الأخطبوط اليهودي، وهم لم يدركوا من سذاجتهم أنه لا فرق بين سيد شرقي أو سيد غربي أو طاغية شرقي أو طاغية غربي أو ¬

_ (¬1) انظر مجلة الإصلاح عدد 26 جمادى الثاني (1400هـ) ص7. (¬2) انظر مجلة الإصلاح عدد (26) جمادى الثاني (1400هـ) ص7.

محتل رأسمالي مبطن، أو محتل رأسمالي مفضوح، أو كوهين رأسمالي أو كوهين اشتراكي طالما يعمل الجميع لخدمة دولة الكيان الصهيوني، وطالما يحاربون الإسلام والمسلمين، فإن الكفر ملة واحدة شرقية وغربية ووسطى ولكن أين من يسمع ويبصر ثم يعي (¬1). قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (¬2). وفي جامعة "بيرزيت" سئل رئيس مجلس الطلبة المنتخب وهو شيوعي عربي فلسطيني - عن سر اتحادهم مع الكتل اليهودية والنصرانية ضد الكتلة الإسلامية فأجاب: «نحن على استعداد أن نتحد مع الشيطان ضد الاتجاه الإسلامي» (¬3). هذه نماذج للشيوعية التي تحارب الإسلام في الخارج والداخل وقد يقول بعض المخدوعين السذج إن الشيوعية كمذهب اقتصادي لا علاقة لها بالأديان، فلماذا تناصبونها العداء وهي بهذا الشكل؟ والرد على ذلك إنما يكون بتتبع الشيوعية نظرية وواقعًا. ففي المجال النظري يقول ماركس اليهودي الألماني: «الدين أفيون الشعوب» هذا شعاره وشعار ببغاواته أذنابه، ويقول ماركس أيضًا: «لا بد لكل شيوعي أن يتخلص من رجال الدين بأي وسيلة وبأي صورة» (¬4). اهـ. ودعاة الاشتراكية هم دعاة إلى الشيوعية ولكنهم يريدون خداع الشعوب الإسلامية باستعمال مصطلح أخف وقعًا على الأسماع من الشيوعية، وليغرروا بالضعفاء والسذج من العمال والكادحين، إنهم سوف ¬

_ (¬1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (547) الثلاثاء 29/ 12/1401هـ. السنة الحادية عشرة ص25 عن مقال من هم الخونة بقلم يوسف العظم. (¬2) سورة البقرة آية (6، 7). (¬3) انظر مجلة المجتمع الكويتية العدد (550) السنة الحادية عشرة الثلاثاء 13/ 1/1402هـ، ص47. (¬4) انظر العلاقات الدولية في الإسلام. د/ كامل سلامة الدقس ص163.

يجعلون لهم الأرض جنة خضراء، ولكن الواقع في البلدان الشيوعية عكس ذلك تمامًا فهذه بولندا تريد أن تطلق الشيوعية إلى غير رجعة بعد أن اكتوت بنارها وجنت مرارة تطبيقها. وكإثبات على أن الاشتراكية ضد الأديان ولا تلتقي معها نذكر ما نشرته مجلة كومنست السوفيتية في أول يناير سنة (1964م) حيث جاء فيها ما يلي: إن بين الاشتراكية العلمية وبين الأديان السماوية صراعًا مستمرًا، ولقد أوصانا لينين منذ البداية بأنه لن يستقر التحول الاشتراكي الصحيح إلا بالقضاء على الدين (¬1). فروسيا بدأت تنافس أمريكا في محاربة المسلمين، فبعد أن كانت أمريكا تدعم إسرائيل وتمنحها التأييد المطلق والدعم القوي أخذت روسيا تشعل الحروب في البلاد الإسلامية في آسيا وأفريقيا لضرب الإسلام والمسلمين، فقد حاولت إذلال شعب أرتيريا المسلم لصالح الأحباش الشيوعيين، وحاولت إذلال الجزيرة العربية عن طريق تدخلها بواسطة عملائها في جنوب الجزيرة وشمالها، وأخيرًا احتضن الدب الروسي أفغانستان واجتاحها بكل ما يملك من قوة لسحق الطلائع الإسلامية التي انبعثت في أرض أفغانستان والتي بدأت تهدده في عقر داره. وسوف تستمر الحرب بين الإسلام والشيوعية حتى يأذن الله بنصره للمؤمنين على الكافرين، عند توفر أسباب النصر وانتفاء الموانع من قبل المسلمين أنفسهم قال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (¬2). ¬

_ (¬1) استمع إلى محاضرة مسجلة للدكتور/ علي جريشه بعنوان أعداء في طريق الدعوة. تسجيلات اليمامة بالرياض البطحاء عمائر الدغيثر. (¬2) سورة محمد آية (7).

وقال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (¬1). وقال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (¬2). فيجب أن لا نخاف من أعدائنا بقدر ما نخاف من أنفسنا، فلو صلحت منا النيات والأقوال والأفعال، لتنزل علينا النصر الذي وعدنا الله به في كتابه الكريم كما في الآيات السابقة، ولكن لم يحصل النصر لأن نفوس المسلمين تعيش في معزل عن منهج الله وعن تطبيق شرعه، ولذلك فمن الطبيعي أن يصيب المسلمين ما أصابهم فهذه سنة الله قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (¬3). وأهل الأوثان في الهند يشنون حملة ضد المسلمين الذين يقدر عددهم بثمانين مليون مسلم تقريبًا وقد سبق أن أشرنا إلى أنه أثناء انفصال باكستان عن الهند قَتَل عباد البقر ما لا يقل عن خمسة ملايين مسلم في أثناء هجرتهم من الهند إلى باكستان (¬4). ولا زالوا يحاربون المسلمين حتى هذا اليوم ففي عيد الأضحى في 10/ 12/1400هـ قام الهندوس مع الهندوك بإطلاق مجموعات من الخنازير بين المسلمين في مصلى العيد وكان الهدف من ذلك هو التحرش بالمسلمين وكانت فرق من الجيش الذي يمثل الهندوس والهندوك معظمه على مقربة من ذلك وبعد أن بدأ النزاع بين المسلمين وأعدائهم بلحظات فتح هؤلاء الحاقدون نيران أسلحتهم على المسلمين وقتلوا المئات واعتقلوا الآلاف (¬5). ومع ذلك لم تتحرك الدول ¬

_ (¬1) سورة الروم آية (47). (¬2) سورة غافر آية (51). (¬3) سورة البقرة آية (124). (¬4) انظر العلاقات الدولية في الإسلام/ كامل سلامة الدقس ص163. (¬5) انظر مجلة الاعتصام العددين الثامن والتاسع السنة الرابعة والأربعون شعبان ورمضان 1401هـ ص17.

المحاربون من اليهود

التي تدعي الإسلام ولا الشعوب الإسلامية بأي نوع من أنواع الاستنكار، بل إن العلاقات تتوطد يومًا بعد يوم مع هؤلاء الوثنيين الذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين. فلا حول ولا قوة إلا بالله. المحاربون من اليهود إن عداوة اليهود وحربهم للإسلام أمر لا يحتاج إلى دليل إلا إذا كانت الشمس تحتاج في إثباتها إلى دليل، وقد يفرق بعض السذج والأغبياء بين اليهود والصهاينة بأن اليهود مسالمون طيبون وأن الصهاينة هم الأعداء المحاربون ونحن نقول إن ذلك من مكر اليهود وتضليلهم، فاليهود صهاينة والصهاينة يهود، والله عز وجل قد أعطانا تأكيدًا في عداوة اليهود للمسلمين في قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (¬1). والتعبير القرآني يفيد الاستقبال والاستمرار، وهو وإن كان موجهًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن الأمة داخلة في ذلك كما هو منهج القرآن الكريم في هذه الآية ونحوها من آيات القرآن الكريم فاليهود كلهم اليوم يعلنون الحرب على الإسلام والمسلمين سواء اليهود الذين انتزعوا المسجد الأقصى والأرض المباركة أو اليهود الذين يتربعون على مقاعد الكونغرس الأمريكي أو اليهود في مجلس السوفيت الأعلى أو اليهود في بريطانيا وفرنسا وأوروبا كلها كل هؤلاء أعداء لنا، وينظرون إلينا بأننا مجرد حيوانات لخدمتهم فقد قال أحد قادتهم في احتفال ماسوني في سنة (1964م): «إنه نتيجة لمجهوداتكم المثمرة سيأتي اليوم الذي تحطمون فيه الدين الإسلامي والمسيحي ويتخلص المسلمون والمسيحيون من معتقداتهم الباطلة المتعفنة» (¬2). اهـ. ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (82). (¬2) انظر حكومة العالم الخفية/ تأليف - شبريب سبيريد وفيتش ترجمة مأمون سعيد ص13.

وقد جاء في التلمود «والشعب المختار هم اليهود فقط، أما باقي الشعوب فهم حيوانات» (¬1)، واليهود يغتصبون البلاد الإسلامية ويسرقونها ثم إذا تركوا جزءًا لمصلحتهم الخاصة أو للحصول على ما هو أكبر منه تجدهم يشعرون كأنه ملكهم الخاص قال (إسحاق نافون) أحد البارزين في دولة التسلط والعدوان على دار الإسلام وذلك أثناء تسليم العريش لمصر وبحضور (أنور السادات) قال نافون: «إننا في هذه اللحظات لا نعيد العريش إلى مصر ولكننا نتنازل عن جزء هام من أرضنا من أجل السلام» (¬2). واليهود في صلحهم مع مصر أو غير مصر لم يجنحوا إلى السلم كما يدعي بعض الخونة الذين خانوا الله ورسوله وخانوا آماناتهم، وإنما هم حتى في صلحهم المزعوم هم محاربون لله ورسوله والذين آمنوا، وهذا الأمر الذي قد يسميه السذج من الناس صلحًا أسلوب من أساليب الحرب ووسيلة من وسائل المكر الخبيث التي يستخدمونها ضد الإسلام والمسلمين. فهذا الصلح المزعوم حقق لليهود مصالح كثيرة لا يمكن لهم أن يحققوها عن طريق الحرب وهي كما يلي: 1 - تمكنوا من عزل مصر عن بقية الدول التي تدعي الإسلام، ومصر تمثل الثقل الكبير في هذه المجموعة، فالقضاء عليها قضاء على الشوكة الكبرى، وتحطيم معنوي للدويلات الصغرى التي كانت تشعر بالقوة في موقف مصر معها. 2 - أنهم بهذا الصلح الوهمي أوقفوا عملية التصنيع الحربي وأجهضوا الخطة المرسومة لذلك، وذلك حتى تفقد الشعوب الإسلامية الأمل في إمكانية التصنيع الحربي، ولكي يضغطوا على الدول المنتسبة إلى ¬

_ (¬1) انظر مقارنة بين الأديان (1) اليهودية/ أحمد شلبي ص276. (¬2) انظر مجلة البلاغ العدد (514) في 23/ 11/1399 هـ ص40.

الإسلام لتتسابق إلى شراء الأسلحة - نتيجة شعورها بالضعف والخوف عند عزل مصر عنها - من الدول المتقدمة صناعيًا والتي لديها مخزون كبير من الأسلحة وقد استغنت عنه نظرًا لوجود ما هو أقوى منه فتكًا وكفاءة، فهي تريد التخلص منه ولكن بعد أن تأخذ ثمنه أضعافًا مضاعفة، وهي ترى أنها قادرة على إبطال مفعوله لو استخدم في غير صالحها وصالح عملائها. 3 - إن الصلح مهد لليهود الدخول في مصر، ومصر مركز التأثير الفكري والعسكري على بقية دول المنطقة وفيها إمكانيات كبيرة للتعاون مع اليهود نظرًا لوجود نسبة كبيرة من النصارى وقلة من اليهود الذين يتمتعون بنفوذ لا بأس به في مراكز القيادة والتوجيه ولوجود عامة المسلمين في فقر مدقع يجعل من السهل على اليهود اصطيادهم بطرق متعددة وبذلك يتمكن اليهود بالتآمر مع النصارى على ضرب المسلمين في مصر وعزلهم عن مركز السلطة وسحقهم حتى النهاية وبذلك تستسلم بقية الشعوب الإسلامية لمخططات اليهود ومطالبهم. 4 - إن في الصلح فرصة لبناء دولة اليهود في الداخل وإعطائها حالة من الأمن والاستقرار لتشجيع اليهود في الداخل والخارج لبناء المؤسسات الاقتصادية والهجرة إليها من الخارج أكثر من ذي قبل. 5 - إن في الصلح فرصة للوقيعة بين الدول العربية التي هي في الحقيقة تدور في فلك المخططات اليهودية من حيث تشعر أو لا تشعر، فالدول التي سمت نفسها دول جبهة الصمود والتصدي هي تسير ضمن فلك المجموعة الشيوعية التي هي بالتالي تخضع للسيطرة اليهودية فكريًا وعمليًا والدول التي التزمت بالصمت أو أظهرت جانبًا من الرضا والتأييد الخفي أو المعلن لمصالحة اليهود هي أيضًا تسير في فلك الدول الغربية التي يوجهها اليهود في لندن أو واشنطن وبالتالي فإن الصراع المفتعل

بين الزعامات العربية يخدم اليهود سواء كان الولاء لليهود الشرقيين أو اليهود الغربيين فإن النتيجة واحدة سواء بسواء. 6 - إن في صلح اليهود مع مصر قضاء على الإسلام في داخل مصر بواسطة الشروط التي وضعتها إسرائيل في مجال الفكر والاعتقاد والفن وما إلى ذلك، فاليهود عندما يتنازلون عن سيناء لمصر مقابل القضاء على الإسلام في داخل مصر أعظم كسبًا من الاحتفاظ بسيناء في الوقت الذي يتزايد فيه عدد المسلمين العاملين للإسلام بإخلاص في داخل مصر مما يشكل خطرًا عظيمًا على محو إسرائيل من الوجود كله، وبهذا الصلح تمهد إسرائيل الطريق لتمديد حدودها إلى ما وراء نهر النيل عندما تخلو أرض مصر من الإسلام والمسلمين. وحكم الإسلام في الأعداء المحاربين الذين يحتلون أرض المسلمين ويقاتلون المسلمين لأجل دينهم ويخرجونهم من ديارهم أو يظاهرون على إخراجهم أن قتالهم وجهادهم فرض عين على كل مسلم ما لم يوجد العدد الكافي لحربهم ودحرهم عن دار الإسلام (¬1). فهذه البلاد الإسلامية التي احتلها الكفار من اليهود أو أشباه اليهود يجب على كل مسلم صادق في إسلامه محاربتهم وطردهم عن دار الإسلام بالقوة. حيث إن جهاد المعتدي ومقاومة عدوانه دفاعًا عن الدين ودفاعًا عن النفس هما جانبان لحق واحد لا يمكن قبول تركه أو التنازل عنه بحال من الأحوال (¬2). وجهاد الكفار أو المرتدين داخل الدولة الإسلامية من غير أهل العهد والذمة أولى وألزم من جهاد الكفار خارج دار الإسلام، وعلى هذا فإن آيات ¬

_ (¬1) انظر المغني والشرح الكبير ج 10ص 366. (¬2) انظر النظرية المعاصرة للحياد - دكتوره/ عائشة راتب ص 237.

الجهاد في دلالتها على جهاد الكفار المحاربين في الداخل قبل الكفار المحاربين في الخارج قال تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (¬1). وقال تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (¬2). فإذا كان قتال الكفار المحاربين خارج الدولة الإسلامية فما بالك بالكفار المحاربين داخل الدولة الإسلامية سواء كانوا كفارًا بالأصالة كاليهود والنصارى. أو بالردة والموالاة لهؤلاء، كالذين يتولون الشيوعيين أو اليهود أو النصارى، فهؤلاء كفار ومن يتول الكفار موالاة تامة فحكمه الكفر سواء كان هؤلاء الكفار خارج بلاد المسلمين أو داخلها قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (¬3). يقول ابن سعدي في تفسيره: إن ذلك الظلم يكون بحسب التولي فإن كان توليًا تامًا، كان ذلك كفرًا مخرجًا عن الإٍسلام وإن كان أقل من ذلك فقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب أو ما دونها بحسب درجة الموالاة لهؤلاء الكفار (¬4). وبناء على ذلك فإن الذين يتولون اليهود أو النصارى أو الشيوعيين الوثنيين أو البعثيين أو نحوهم من الكفار، ويناصرونهم بالقول والفعل أو بأحدهما ليسوا من أهل الإسلام وإن زعموا ذلك، خاصة إذا كانت موالاتهم موالاة تامة، أو توليًا مطلقًا. وموالاة الكفار المحاربين لله ورسوله داخل البلاد الإسلامية أكبر إثمًا ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (5). (¬2) سورة التوبة آية (36). (¬3) سورة الممتحنة آية (9). (¬4) انظر تفسير ابن سعدي ج7 ص357.

المحاربون من النصارى

وأعظم جريمة، وأشد ضررًا على الإسلام والمسلمين من موالاتهم خارج البلاد الإسلامية، وإن كان كلا الأمرين موجبًا للخروج من الإسلام. ولم يحدث أن المسلمين صالحوا أعداءهم وهم في موقف المهزوم وأعداؤهم في موقف المنتصر، ثم احترم الأعداء شروط الصلح ولم ينقضوها (¬1). ذلك أن الأعداء ليس لديهم منطلق صحيح يمنعهم من الغدر والخيانة سوى قوة المسلمين والخوف من سطوتهم ولذلك فإن الذين يسعون لمصالحة اليهود هذه الأيام يجهلون حقيقة اليهود ويجهلون وصف القرآن لهم ويجهلون أحداث التاريخ: قالوا السلام سبيلنا يا ويحهم ... أو يرجع الحق السليب سلام (¬2) ما أيد الحق المضاع كمنطق ... تدلى به شفة السلاح الدام (¬3) ولقد كانت الخنساء أوفى لأخيها من كثير من حكام البلاد الإسلامية لأمتهم حيث قالت: ولن أسالم قومًا كنت حربهم ... حتى تعود بياضًا حلكة العار (¬4) المحاربون من النصارى إن عداوة النصارى لأهل الإسلام لا تقل خبثًا ومكرًا عن عداوة اليهود ومكرهم، ولكن النصارى قد اتفقوا مع اليهود حيث وضع الصليبيون يدهم بيد اليهود في محاربة أهل الإسلام، وقد سيطر اليهود من أجل ذلك على زمام القيادة في معظم الدول النصرانية التي لا يمثل اليهود فيها إلا قلة قليلة، وهذه المودة والتعاون لم تكن موافقة عابرة وإنما أدرك هؤلاء الأعداء ¬

_ (¬1) انظر صفحة 576 من هذه الرسالة. (¬2) انظر شعراء الدعوة الإسلامية ج3 ص108. (¬3) المصدر السابق ج2 ص59. (¬4) الإبانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري ص44 (ط - 1 - 1397).

الخبثاء أن التنسيق بينهم هو سبب تمكنهم وحصولهم على مقاصدهم من المسلمين، فإن في مجلس الشيوخ الأمريكي سبعين صهيونيًا وقد كان من أبرز الوزراء اليهود كيسنجر الذي لعب دورًا خطيرًا في التمهيد للمصالحة مع اليهود، ومنهم مستشار (الأمن القومي وثمانية عشر يهوديًا كانوا في إدارة الرئيس الأمريكي كارتر) (¬1). والنصارى لا يزالون يحاربون المسلمين ويخططون لحربهم فقد صرح (ريجان) في حديث أدلى به لجريدة صنداي تايمز البريطانية ما نصه: «إن هناك احتمال نشوب حرب دينية في منطقة الشرق الأوسط، فقد عاد المسلمون إلى الفكرة القائلة بأن الطريق الوحيد إلى الجنة هو الاستشهاد في محاربة المسيحيين واليهود» (¬2). اهـ. وهذا التصريح فيه إعلان الحرب ضد المسلمين لأنه بين أن منطقة الحرب ستكون في الشرق الأوسط كما يسميه أي أنها حرب للمسلمين في بلادهم وعقر دارهم فهو لا يخشى على أوروبا أو أمريكا من الإسلام ولكن يريد القضاء على الإسلام فيما يسميه (الشرق الأوسط) ليتمكن اليهود والنصارى من تحقيق مآربهم فيه، وبذلك يضاف صليبي محارب جديد إلى قائمة الصليبيين في العالم الذين دمروا وسحقوا المسلمين في صمت رهيب وهم على سبيل المثال: 1 - فرديناند ماركوس - في الفلبين. 2 - جاليوس نيريري - في أفريقيا. 3 - مالكم فريزر - في أستراليا. 4 - ريجان - في أمريكا. 5 - البابا - في أوروبا. 6 - الأساقفة في أمريكا اللاتينية. ¬

_ (¬1) انظر المجتمع عدد (481) في 5/ 7/1400هـ السنة الحادية عشرة ص29. (¬2) انظر مجلة الدعوة المصرية العدد (56) السنة الثلاثون (430) شهر صفر 1401هـ.

وكل من هؤلاء قام بدور عظيم في محاربة الإسلام والمسلمين، ولا يزال البعض منهم سائرًا هو أو خلفاؤه في الطريق نفسه، وحتى النصارى في داخل الشعوب الإسلامية تحركوا بناء على تنسيق منظم بين هؤلاء وقيادة الصليبيين في العالم الغربي، وتعاون اليهود في إسرائيل وخارج إسرائيل. فقد تحرك نصارى لنبان وهم يسعون بالتعاون مع دولة اليهود لإقامة دولة نصرانية مجاورة لإسرائيل، لتتقوى إحداهما بالأخرى ولا تزال الحرب قائمة من أجل تقسيم لبنان وتشتيته. وفي مصر تحرك الأقباط ليقيموا دولة نصرانية في جنوب مصر وهم الآن يكدسون الأسلحة في الكنائس التي انتشرت بشكل كبير في (دولة العلم والإيمان)!!! وكانت الأسلحة تأتيهم على شكل طرود وتدخل بتغافل من المسئولين أو تغفيلهم عن ذلك، ولم يكتفوا بذلك بل يجري بناء ميناء غير رسمي مقابل (واد النترون) ليتمكنوا من إنزال السلاح عن طريق السفن، وقد تم أخيرًا إعطاء النصارى مساحة (1000) فدان وقد تم تسويرها ويجري تدريب القبط فيها استعدادًا للانقضاض على المسلمين (¬1). وقد قام البابا (شنودة) ممثل الطائفة النصرانية في مصر بزيارات متعددة لأمريكا وأوروبا والاتحاد السوفيت وذلك لينسق تخطيطه مع أجنحة المكر الثلاثة، وحكام المسلمين وشعوبهم نيام عن أعدائهم، يحسنون إلى من يسيء إليه ويتوددون إلى من يعاديهم، ويناصرون من يخذلهم ويكرمون من يغتصب أرضهم، ويقتل إخوانهم، وينهب خيراتهم، فهل هناك خسة ودناءة وذلة أعظم من هذا الموقف مع أعداء الله؟!! (¬2) لقد وصل حقد الأقباط في مصر إلى أن يطلقوا النار على المصلين ¬

_ (¬1) انظر مجلة الدعوة المصرية العدد (56) السنة الثلاثون (430) شهر صفر 1401هـ. (¬2) انظر محاضرة مسجلة للدكتور علي جريشة بعنوان أعداء في طريق الدعوة - تسجيلات اليمامة- الرياض- البطحاء- عمائر الدغيثر.

كما حصل ذلك في أحداث الزاوية الحمراء وتجاوز الأمر ذلك إلى الأطفال فقد أطلقوا النار على الطفل معتز أمين علي وعمره ثلاث سنوات وأطلقوا النار على أخته التي تحمله وهي طفلة في السنة العاشرة فمات الطفل في الحال أما أخته فقد كسرت فخذاها وأصيبت إصابات بالغة. فأي مبدأ أو دين يبيح قتل الأطفال في مثل هذه السن وبمثل هذه الصورة سوى حقد أولئك الحاقدين الذين يحقدون على كل مسلم سواء كان طفلاً رضيعًا أو شيخًا هرمًا أم شابًا جلدًا فالأمر كله عندهم سواء (¬1). إن واجب المسلم مع من يحاربون الله ورسوله والمؤمنين أن يرد عليهم الصاع صاعين، فلا يستصغر لأهل الباطل، ولا يلين لمتجبر، ولا يستكين لكافر. فموقف المؤمن مع أعداء الله يكون أبيًا مستعليًا عزيزًا، فلا يذل لمطلب من مطالبهم، ولا يمرغ وجهه في التراب تطلعًا لعرض زائل منهم قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (¬2). وقال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (¬3). فمن تولى الذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين فهو ظالم لنفسه ولأمته، والظلم قد يصل بالإنسان إلى درجة الشرك. قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (¬4). وأي ظلم أشد من موالاة وموادة ومناصرة من حارب الله ورسوله والذين آمنوا، ألا فهل من متعظ ومتدبر ومطبق لأمر الله ورسوله؟ ¬

_ (¬1) انظر الدعوة المصرية عدد 64 السنة الحادية والثلاثون (438) شوال 1401هـ ص13. (¬2) سورة الفتح آية (29). (¬3) سورة الممتحنة آية (9). (¬4) سورة لقمان آية (13).

الفصل الثاني: مظاهر الولاء للكفار

الفصل الثاني: مظاهر الولاء للكفار (1) تمهيد لدراسة هذا الفصل. (2) المبحث الأول: موالاة الكفار في الحقوق العامة. (3) المبحث الثاني: موالاة الكفار في العلاقات الاجتماعية. (4) المبحث الثالث: موالاة الكفار في الشئون الاقتصادية. (5) المبحث الرابع: موالاة الكفار في الشئون الحربية. (6) المبحث الخامس: موالاة الكفار في الحقوق الجنائية. (7) المبحث السادس: موالاة الكفار في الإقامة بينهم والعمل عندهم.

التمهيد لدراسة هذا الفصل

التمهيد لدراسة هذا الفصل إن الأمثلة الدالة على موالاة الكفار يختلف الحكم عليها بالنسبة لأفرادها تبعًا لاختلاف أنواع الموالاة ونية الموالي وقصده، فهناك أنواع من الموالاة قد تكون كفرًا، وقد تكون معصية بحسب النية والقصد، وحسب العوامل المؤثرة في الموالاة قوة وضعفًا، فالأنواع التي قد ترتفع بصاحبها إلى الكفر وقد تتدنى به إلى العصيان ما يلي: أولاً: الركون القليل إلى الكفار: قال تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (¬1). فإذا كان الركون القليل إلى الكفار موجب لعذاب الدنيا والآخرة فمن الأولى في الركون الكثير أو الركون المطلق؟ ثانيًا: إعطاء الكافرين أسرار المؤمنين: ومثل هذه الحال ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) فإخبار الكافرين بأسرار المؤمنين ¬

_ (¬1) سورة الإسراء آية (74، 75).

لدفع خطط المؤمنين أو لتوقي الكافرين من المؤمنين ولاء يخرج من الإيمان (¬1). إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فإن الله يتوب على من تاب. قال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) (¬2). ثالثًا: طاعة الكافرين في معصية الله: وقد نهى الله عن ذلك في قوله تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ) (¬3). وقال تعالى: (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (¬4). رابعًا: تولية الكافرين مصالح المسلمين: إن تولية الكافرين على مصالح المسلمين، مع وجود من يسد مسدهم من المسلمين أمر لا يقره الإسلام، وإن تقديم الكفار على المسلمين في الوظائف والمجالس والهيئات لهو دليل على موالاتهم من دون المؤمنين. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (¬5). خامسًا: محبة الكفار ومودتهم: إن الإكرام العام للكفار والبشاشة في وجوههم ومحبتهم واستئمانهم على أموال المسلمين وخيراتهم الظاهرة والخفية دليل على موالاتهم ومحبتهم وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «المرء مع من أحب» (¬6). ¬

_ (¬1) انظر جند الله ثقافة وأخلاقًا/ سعيد حوي ص183. (¬2) سورة النساء آية (146). (¬3) سورة الأحزاب آية (48). (¬4) رواه مسلم انظر صحيح مسلم ج 4 ص 234. (¬5) سورة الشعراء آية (152 - 153). (¬6) سورة آل عمران آية (118).

سادسًا: التشبه بهم في أمور كفرهم: إن التشبه بهم في أمور كفرهم، معاونة لهم على كفرهم، وإظهار الرضا بكفرهم، وتحقيق لأهوائهم ورغباتهم، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬1). سابعًا: ذكر ما فيه تعظيم لهم: إن من موالاة الكفار ما درج عليه الحكام والرؤساء في هذا العصر من إرسال برقيات التهاني والمدح والإطراء في مناسبات التزاور والأعياد التي ما أنزل الله بها من سلطان والدليل على أن هذه الأعمال موالاة للكفار، ما ورد من النهي عن إطلاق لفظة سيد على المنافق فكيف بالكافر الصريح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل» (¬2). ثامنًا: تفضيل السكنى والإقامة بين الكفار اختيارًا: إن من أنواع الموالاة للكفار تفضيل السكنى والإقامة بينهم اختيارًا في ديارهم وحضور مجالسهم مع إمكان الحصول على مقام مأمون بين المسلمين. فإن سماع كلامهم القبيح، مع الاستمرار في الجلسة دون الرد أو الغضب أو الخروج من ذلك موالاة توجب كفر من يفعل ذلك قال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (¬3). هذه بعض الأمثلة على أنواع الموالاة للكفار وهي ليست للحصر ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود والطبراني في الكبير، قال العراقي: سنده صحيح. انظر كتاب جند الله ثقافة وأخلاقًا/ سعيد حوى ص185. (¬2) أخرجه أبو داود والبخاري في الأدب المفرد وأحمد. وقال الألباني: حديث صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني م2 ص101 رقم الحديث (371). (¬3) سورة النساء آية (140).

وإنما المراد معرفتها، وإمكان القياس عليها فيما لم يرد ذكره، أو فيما هو قريب منها، ولا فرق بين من يعمل هذه الأمور مع أقربائه الكفار أو مع غيرهم فمن فعل شيئًا من هذه الأمور فهو موال للكفار، وهذه الموالاة قد تكون كفرًا وقد تكون معصية بحسب العوامل المحيطة بذلك. أما التولي للكفار فهو كفر مخرج عن الإسلام (¬1). لأن التولي أخص من الموالاة كما سبق بيان ذلك (¬2). ومن أمثلة التولي التي يصير بها المسلم مرتدًا ما يلي: أولاً: مناصرة الكفار: إن مناصرة الكفار بالقول أو الفعل من أعظم الدلائل الدالة على توليهم وموالاتهم كما يفعل كثير من الذين يدافعون عن الكفار والملحدين أو يدعون إلى مذاهبهم الضالة واعتقاداتهم الفاسدة فكل من انتسب إلى حزب ضال يقوم أساسًا على غير الإسلام ودعا إليه وأيد أهله فهو غير مسلم لأن من خرج من حزب الله دخل في حزب الشيطان بلا جدال. قال تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) (¬3). ثانيًا: إظهار الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم أو بعض دينهم: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) (¬4)، فإذا كانت الطاعة في بعض الأمور موجبة للردة فما الطاعة بأمور كثيرة أقل شأنًا من ذلك وقد ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد ص120 - 122. (¬2) انظر ص21 - 39 من هذه الرسالة. (¬3) سورة الحشر آية (11). (¬4) سورة محمد آية (25، 26).

استدل الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب على ردة من أظهر الطاعة والموافقة للمشركين من غير إكراه ملجئ بأكثر من عشرين آية وبعدد من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال إنه يكون بإظهار الطاعة والموافقة مرتدًا خارجًا عن دين الإسلام، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله، ويفعل أركان الإسلام الخمسة فإن ذلك لا ينفعه (¬1). وما يصير به المسلم مرتدًا إظهار الطاعة للكفار في الظاهر ولو كان باطنه يعتقد الإيمان، ما لم يكن مكرها إكراهًا ملجئًا فإن أظهر لهم الطاعة بدون إكراه فهو مرتد ولو كان باطنه يعتقد الإيمان، حيث إن الكفار لم يريدوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيير عقيدته، وإنما أرادوا منه موافقتهم في الظاهر على ما يعملون، فنهى الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (¬2). أي ودوا لو تميل إليهم فيميلوا إليكم (¬3). وقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (¬4). الآيات. وبهذا يرد على الذين يرون أن الذي يكفر به المسلم هو عقيدة القلب خاصة وهم الكرامية والجهمية وأبو الحسين الصالحي أحد رؤساء القدرية (¬5). ويسير على طريقهم في ذلك بعض العلماء المعاصرين حيث يرى سالم علي البهنساوي أن المعاصي لا يترتب عليها كفر صاحبها وأنه لا يخرج من الملة إلا الكفر الاعتقادي (¬6). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد ص287 وانظر تفسير القرطبي ج18 ص230. (¬2) سورة القلم آية (9). (¬3) انظر مختصر الطبري على هامش المصحف الكريم (ط - دار الشروق). (¬4) سورة الكافرون آية (1، 2). (¬5) انظر شرح الطحاوية ص266. (¬6) انظر كتابه - الحكم وقضية تكفير المسلم - تأليف سالم علي البهنساوي ص45، 54، 55.

وحول هذا المعنى يقول محمد عبد الحكيم خيال: «إن الخطة الجديدة لتقويض الدعوة الإسلامية، تقع في إطار الاستثمار العام لفكرة التكفير والجاهلية التي تقوم على إحكام بتكفير الحاكم وجاهلية المجتمع وتكفير جزافي للأفراد لأن موالاة الكافرين كفر، ولأن ظاهر المجتمع الكفر والرضا بالكفر فيثبت الكفر ظاهرًا دون أن يثبت يقينًا ... إلى نهاية هذا الجدل الكلامي الذي دخل على المسلمين في وقت عزهم وازدهار دولتهم وعلو كلمتهم "هذا نص كلامه"» (¬1). اهـ. ونحن في ردنا على ذلك لا نريد أن ندافع عن الخوارج وأصولهم ولا نريد أن نبيح ما حرم الله من موالاة الكفار ومحبتهم بل نلتزم الوسط فلا نكفر بكل معصية كما هو مذهب الخوارج ولا نقول بعدم تكفير من حكم الله ورسوله بكفرهم، لأن مثل هذا القول استدراك على الله عز وجل وهو موجب لكفر قائله، بل نقول إذا ثبتت الأدلة الشرعية على الحكم بالكفر في قول أو فعل أو اعتقاد، ثم فعل إنسان - ما - ما ثبت الدليل على كفر فاعله فإنه يحكم بكفره إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع والحكم يكون على ظاهر الحال والله يتولى السرائر، وهو يحاسبه فإن شاء أدخله جنته وإن شاء عذبه بالنار، وموالاة الكفار وتوليهم من ذلك ما يكون كفرًا مخرجًا من الإسلام تواترت الأدلة على الحكم بذلك، ومنها ما هو كبيرة من كبائر الذنوب ومنها ما هو دون ذلك فإن كان مرتدًا فينبغي الغلظة عليه أشد من غيره من الكفار لأنه معاد لله ورسوله، على بصيرة، بعد ما عرف الحق فأنكره، فإذا كان الدليل قد ورد أن من أعان ظالمًا فقد شاركه في ظلمه، فكيف بمن يعين الكفار والمنافقين على كفرهم ونفاقهم (¬2). والمقصود من ذلك هو التنبيه على ما يكثر وقوعه ممن ينتسبون إلى ¬

_ (¬1) انظر - الخوارج - الأصول التاريخية لمسألة تكفير المسلم - تأليف الدكتور مصطفى حلمي تقديم محمد عبد الحكيم خيال ص - ك - من التقديم. (¬2) انظر مجموعة التوحيد ص121 - 127.

الإسلام في إظهارهم الموافقة للكفار خوفًا منهم من غير إكراه فعلي على الموافقة، أو طمعًا في مال أو منصب أو جاه وهم يظنون أنهم لا يكفرون بذلك، إذا كان القلب كارهًا لهم، ويستدلون على ذلك بدعوى الإكراه وبقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) (¬1) ولكن الصحيح أن للتقية عند العلماء شروطًا منها: 1 - أن يكون الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه وأهله فيجوز له أن يظهر المحبة والموالاة بشرط أن يضمر خلاف ما يظهر لهم وبأن يعرض في كلامه ما أمكن وعلى هذا فالتقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب. 2 - أن التقية رخصة فلو تركها وصبر على ما يناله في سبيل الله كان أفضل مثل ما حصل من بعض الصحابة (¬2) (رضي الله عنهم) فيما فصلنا في موضوع الإكراه سابقًا. والقول بكفر من والى الكفار أو رضي عنهم أو أعانهم على كفرهم ليس جدلاً كلاميًا دخل على المسلمين في وقت عزهم وازدهار دولتهم كما يعتقد البعض، ولكن ذلك أصل من أصول الإسلام ومبانيه العظام، وقد ذكرنا من الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة ما فيه الكفاية لمن وفقه الله وهداه، وبهذا الأصل تحدث أئمة الدعوة وشيوخ الإسلام فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يرى عدم تكفير المعين للكفار والراضي عنهم والموالي لهم ابتداء بل لا بد من إقامة الحجة عليه، نظرًا لغلبة الجهل وقلة العلم بأوامر الرسالة في كثير من المتأخرين ولذلك لا يجوز تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يخالف أقوالهم وأعمالهم، وهذا ما سار ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (28). (¬2) انظر حاشية تفسير الطبري غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد القمي على جامع البيان في تفسير القرآن للطبري ج3 ص178 - 179.

عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ابتداء دعوته فإنه إذا سمعهم يدعون زيد بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: (الله خير من زيد) تمرينًا لهم على نفي الشرك بلين الكلام نظرًا إلى المصلحة وعدم التنفير لهم (¬1). وعلى هذا إذا قامت عليهم حجة التبليغ ثم استمروا في إعانتهم لأهل الباطل وموالاتهم المطلقة للكفار ومناصرتهم لهم والرضى عنهم وعن أفعالهم المختصة بكفرهم فإنه يحكم بكفر وردة هؤلاء، لأنهم صاروا معاندين، قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (¬2). ومن المعلوم أن قيام الحجة عليهم ليس معناه أن يفهموا كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به ثم ترك العمل بما أمره الله به ورسوله مستهترًا أو مستبيحًا لفعل ما حرم الله أو تاركًا ما أوجب الله فهو كافر مرتد وشأنه في ذلك شأن الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن في قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) (¬3). إن ما حدث للمسلمين من إضاعة للإسلام ومقدساته وديار المسلمين واعتداء على الأنفس والأعراض والأموال إنما كان بسبب جهل بعض المسلمين بحقائق الإسلام وواجباته ومن أهم تلك الأمور التي جهلها المسلمون المعاصرون احتضان أعداء الله ومسايرتهم في خط انحرافهم، ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد ص 37 - 39. (¬2) سورة التوبة آية (63). (¬3) سورة الكهف آية (57).

وما علموا أن المتابعة الجزئية للكفار المقرونة بالمحبة والمودة لهم كفر مخرج من الملة (¬1). لأن الحكم يتعلق بنوع العمل لا بكثرته، فقطرة البول ناقضة للوضوء، ولا حد لأكثره، وما أسكر كثيره فقليله حرام وكذلك شأن الموالاة مع الكفار إذا ارتبطت الموالاة القولية أو الفعلية بالمحبة والمودة. وقبل أن نبدأ في استعراض الأمثلة التفصيلية على موالاة الكفار نود أن نبين بعض الشروط التي يقتضيها عقد الذمة والعهد في حق أهل الذمة والمستأمنين في دار الإسلام حتى يكون الناظر إلى معاملتهم مدركًا للأساس الذي ينطلق منه المسلمون الحقيقيون في التعامل مع الكفار في دار الإسلام، وهذه الشروط مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة الكرام، وما اتفق عليه فقهاء الإسلام وملخص تلك الشروط كما يلي: 1 - أن لا يحدثوا كنيسة (¬2) ولا ديرًا (¬3)، ولا قلاية (¬4)، ولا صومعة (¬5) ولا يجددون ما خرب منها، إلا في حالة واحدة، وهي إذا فتحت البلاد صلحًا واشترط أهلها ذلك لأنفسهم في الصلح، فإن المؤمنين يجب عليهم الوفاء بهذا الشرط. 2 - أن لا يمنع أهل الذمة وأهل العهد أحدًا من أقربائهم من الدخول في الإسلام إذا اختاروا ذلك. ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد ص120 - 122. (¬2) الكنيسة متعبد اليهود والنصارى. انظر المعجم الوسيط ج2 ص806. (¬3) الدير خان النصارى. لسان العرب ج1 ص1042. (¬4) هي كالصومعة وهي تعريب كلاذة وهي من البيوت التي يتعبد بها النصارى. انظر اللسان العرب ج3 ص158. (¬5) الصومعة بناء دقيق الرأس عال في الفضاء يتخذها الرهبان منارة لهم. لسان العرب ج2 ص475.

3 - أن لا يذكروا الله أو كتابه أو رسوله بطعن أو انتقاص. 4 - أن لا يتعرضوا لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذم أو ازدراء وأن لا يؤذوا مسلمًا، ولا يفتنوه عن دينه، ولا يعتدوا على أحد من المسلمين في نفس أو مال أو عرض. 5 - أن لا يعينوا أعداء الإسلام، ولا ينصروهم على المسلمين بأي وسيلة من الوسائل الممكنة. 6 - أن لا يجاهروا بأي نوع من أنواع المنكرات كشرب الخمر وأكل الخنزير، وإظهار الصلبان، وندب الموتى والنياحة عليهم. 7 - أن لا يظهروا أي نوع من أنواع العبادة الخاصة بهم مثل أصوات النواقيس وتلاوة كتبهم المقدسة لديهم، والشعائر الخاصة بكفرهم. 8 - أن يتميزوا في هيئتهم بما يميزون به عن غيرهم، من غير كشف عورة ولا إحداث فتنة (¬1). وبعد هذا التقديم الموجز نبدأ بذكر بعض الأمثلة على موالاة الكفار. ¬

_ (¬1) انظر الأحكام السلطانية والولايات الدينية الماوردي ص145. وانظر مختصر تفسير ابن كثير/ محمد علي الصابوني ج2 ص136. وانظر تاريخ الطبري ج4 ص158 - 160.

المبحث الأول: موالاة الكفار في الحقول العامة

المبحث الأول: موالاة الكفار في الحقول العامة وتحت هذا المبحث ستة أمثلة. (1) المثال الأول: إطلاق حرية الدعوة إلى الكفر بين المسلمين. (2) المثال الثاني: السماح بتعلم الكفر وتعليمه بين المسلمين. (3) المثال الثالث: إباحة ظهور المحرمات بين المسلمين. (4) المثال الرابع: إطلاق يد الكفار في بناء المعابد لهم في بلاد الإسلام. (5) المثال الخامس: منح الكفار حرية التنقل والإقامة في بلاد المسلمين. (6) المثال السادس: تمليك الكفار لما يتخذونه موضعًا لمعصية الله. (7) المثال السابع: تأجير الأماكن والذوات لمن يتخذها غرضًا لمعصية الله.

المثال الأول: إطلاق حرية الدعوة إلى الكفر بين المسلمين

المثال الأول: إطلاق حرية الدعوة إلى الكفر بين المسلمين الأصل أن لا يسمع في دار الإسلام إلا صوت الحق ورأي المسلمين في قضايا الإسلام، والذي يطلع على نصوص المعاهدات والوثائق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصحابة (رضوان الله عليهم) يرى ذلك جليًا وقد بنى الفقهاء على ذلك قاعدة فيما يتعلق بحقوق غير المسلمين في دار الإسلام (¬1). ولذا فإنه لا يجوز لغير المسلمين أن يدعوا إلى الكفر والضلال في وسط المجتمع المسلم حيث إن مقتضى عقد الذمة والعهد يلزم الكفار بإخفاء شعائر الكفر وعدم إظهارها في مجتمع المسلمين أما لو دعا الكفار بعضهم بعضًا على جهة الخفاء فلا نتبعهم في ذلك وقد ذكر شمس الدين بن قدامة (¬2) ¬

_ (¬1) انظر ص622 - 623 من هذه الرسالة. (¬2) هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، (شمس الدين، أبو محمد، أبو الفرج) فقيه، محدث، خطيب، ولد بسفح قاسيون في دمشق سنة (597هـ) وسمع من أبيه وابن طبرزد وأبي القاسم الحرستاني وجماعة، وتفقه على عمه موفق الدين، وروى عنه محي الدين النووي وأحمد بن عبد الدايم وتقي الدين بن تيمية والبرزالي والمزي وغيرهم، ولي القضاء مدة تزيد على اثنتي عشرة سنة على كره منه، ولم يتناول على ذلك أجرة، ثم عزل نفسه في آخر عمره وتوفي بدمشق في ربيع الآخر ودفن بسفح قاسيون. من تصانيفه، شرح المقنع لعمه موفق الدين في عشر مجلدات، تسهيل المطلب في تحصيل المذهب، وكلاهما في فروع الفقه الحنبلي. انظر معجم المؤلفين ج5 ص169، ص170.

المقدسي وجوب إخفاء كفرهم بقوله: «ويمنعون من إظهار المنكر وضرب الناقوس والجهر بكتابهم» (¬1). فإذا أظهروا الدعوة إلى الكفر بالخطب في أماكن تجمع الناس واستعملوا مكبرات الصوت أو استخدموا الصحف والمجلات والكتب والإذاعات والنشرات وغير ذلك من وسائل البلاغ والإعلام فإنه والحالة هذه يجب على الدولة الإسلامية إذا وُجدت وقامت في مثل تلك الأوضاع أن تضرب بيد من حديد على هؤلاء وأذنابهم من ضعاف الإيمان، وأن تلزم أهل الذمة والعهد بالذلة والصغار، فدار الإسلام هي موضع لإظهار الدين الإسلامي. وشعائر الإسلام من شعائر التعبد ووسائل الدعوة الأخرى التي يجب أن تنطلق إلى كل بيت وكل إنسان في دار الإسلام ولذلك يجب أن لا يظهر في دار الإسلام إلا صوت الحق ودعوة الله أكبر، ولا إله إلا الله، وأن تقبع الأفكار الضالة والعقائد الفاسدة في سراديب الظلام والكهوف المهجورة، حتى يسموا الناس إلى صفاء الإيمان وعزة الإسلام بلا كدر يخبث صفوه ويعكر نقاءه. وقد ذهب الدكتور/ عبد الكريم زيدان إلى القول بأن لأهل الذمة إبداء محاسن دينهم، وقد قال إن ذلك من الأمور المباحة للذميين وهو ما تجري عليه البلاد الإسلامية في الوقت الحاضر، ففي العراق نصت المادة الثانية عشرة من الدستور المؤقت على أن «حرية الأديان مصونة ويجب احترام الشعائر الدينية» وكان دستور مصر لسنة (1956م) ينص في مادته ¬

_ (¬1) انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص620.

الثالثة والأربعين على أن «حرية الاعتقاد مطلقة وتحمي الدولة شعائر الأديان» (¬1). ونحن نقول للذين يرون إطلاق ألسنة الكفار في دار الإسلام للنيل من الإسلام وأهله، لقد جنيتم بهذه الدعوة على أمتكم من حيث تشعرون أو لا تشعرون، وخالفتم أمر الله ورسوله وسيرة خلفائه، وأقوال الفقهاء من أهل الإسلام، والرد على هذا الأمر يتلخص بالنقاط التالية: 1 - قوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (¬2)، فإن هذه الآية وإن قيل إنها نزلت في قوم أسلموا ثم ارتدوا عن الإسلام ثم أسلم بعضهم بعد ذلك (¬3). ولكن الآية أعم من ذلك، فكل من قصد أو أعان على إظهار الكفر بشعائره المختلفة فقد ابتغى غير الإسلام دينًا، وإن كل من يرى إمكانية تعايش الإسلام والمسلمين مع الكفر والكفار جنبًا إلى جنب على قدم المساواة فقد سلب الإسلام أهم خصائصه في كونه منهج الحياة الفريد الوحيد الذي لا يزاحم في دار الإسلام، إن الإسلام بمشاركته مناهج الكفر والضلال في مجتمع - ما - وتحت قيادة واحدة يعتبر معطلاً حيث لا يستطيع التأثير في حياة البشر، ما لم تنصب آثاره في نظام اجتماعي كامل يعيش الناس في إطاره النظيف الوضيء دون مزاحمة من خَبَثٍ الجاهلية وكدرها (¬4). 2 - قول الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ¬

_ (¬1) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، د/ عبد الكريم زيدان ص101 - 102. (¬2) سورة آل عمران آية (85). (¬3) انظر تفسير القرطبي ج4 ص128 - 129. (¬4) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب ج3 ص626.

مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (¬1). (فالمهيمن) اسم من أسماء الله تعالى بمعنى الرقيب المسيطر على كل شيء الحافظ له (¬2). وفي الآية المتقدمة (مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه) أي عاليًا ومرتفعًا على جنس الكتب السابقة (¬3). ومن ثم يجب أن يكون هذا الكتاب هو الفيصل في كل قضية سواء كان الاختلاف في التصور الاعتقادي بين المسلمين وغيرهم، أو كان الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، فهو المرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياة كلها، ولا قيمة لآراء الرجال ودعوى المدعين ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير (¬4). 3 - قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (¬5). فهذه الآية تدل على أن الله عز وجل جعل شأن الإسلام عاليًا غالبًا قاهرًا لغيره من الشرائع السابقة وكذلك يجب أن يكون المسلمون (¬6). وإذا وجد من يزاحم الإسلام في دار الإسلام بالدعوة إلى غير الإسلام فمعنى ذلك عدم إظهار دين الله على غيره من العقائد الباطلة ومعنى ذلك أن الدار التي تسمح بالدعوة إلى غير الله دار كفر لا دار إسلام. 4 - روى البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنها) قال: أوصى رسول ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (48). (¬2) المعجم الوسيط ج2 ص1015. (¬3) تفسير القرطبي ج6 ص210. (¬4) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب ج6 ص747. (¬5) سورة الصف آية (9). (¬6) تفسير القرطبي ج18 ص86.

الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته بثلاث: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة» (¬1). وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: آخر ما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» (¬2). فهذا الحديث والذي قبله يدلان دلالة صريحة على عدم إباحة بقاء المشرك أو الكافر في جزيرة العرب حتى ولو كانوا يخفون كفرهم واعتقادهم ولذلك رُوي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز إلى تيماء وأريحاء وأطراف الشام (¬3). تنفيذًا لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان مقام الكافر غير مقبول في داخل الجزيرة فمن باب أولى أن لا يقبل إظهاره الكفر في عموم بلاد المسلمين، فإن الإسلام وإن تسامح مع غير المسلمين في تركهم على عقيدتهم ودياناتهم الضالة يزاولونها بخفية وحذر فإنه لا يمكن أن يتسامح معهم في أن يطلق لهم حرية الدعوة إلى الكفر والضلال بالوسائل الظاهرة. 5 - إن الغرض من الجهاد في سبيل الله أن يكون الدين كله لله، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (¬4). وتمكين الكفار من إظهار كفرهم والدعوة إليه بحرية تامة يجعل الدين له ولغيره وهذا مناقض لمبدأ الجهاد وغايته (¬5). 6 - ورد من ضمن شروط عمر (رضي الله عنه) قولهم: «ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدًا» (¬6). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري ج6 ص171. (¬2) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص222. (¬3) المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) سورة الأنفال آية (39). (¬5) انظر الشروط العمرية ص33. (¬6) المصدر السابق ص73.

لأن الدعوة إلى الباطل مستلزمة ولا بد في الطعن بالحق، وقد قال تعالى: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (¬1). وقد ذكر الماوردي هذا الشرط ضمن الشروط الواجبة على أهل الذمة نحو جماعة المسلمين (¬2). 7 - إن أئمة المذاهب الفقهية في الإسلام، أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد وأتباعهم قالوا بوجوب إخفاء شعائر الكفار التعبدية إلا في الأماكن النائية والقرى الصغيرة الخاصة بهم (¬3). 8 - يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): «ليس لأهل الذمة إظهار شيء من شعائر دينهم في ديار الإسلام، فيمنعون من إظهار التوراة ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة، والصلاة، وعلى ولي الأمر منعهم من ذلك» (¬4). اهـ. وهذه الأدلة جميعًا تدل على عدم تمكين أهل الذمة من إظهار كفرهم بدار الإسلام، وهم اليوم قد آذوا المسلمين عن طريق التسلل والاحتيال فكيف لو تملكوا وسائل الدعوة والإعلام وصرح لهم بذلك في ديار المسلمين؟ لحصل بذلك ردة وفتنة تجعل الحليم حيرانًا، وهذا هو الحاصل في عصرنا الحاضر حيث أسلم الأوباش زمام القيادة والتوجيه لهم في معظم البلاد الإسلامية فنشروا فيها الإلحاد وأكثروا فيها الفساد وأصبح المسلم غريبًا. إن القوانين المطبقة في العراق ومصر في حق أهل الذمة هي قوانين ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (12). (¬2) انظر الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي ص146. (¬3) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص99. (¬4) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص517.

جاهلية لا تمثل رأي الإسلام في قليل أو كثير بل إن ما ورد في المادة الثانية عشرة من الدستور العراقي المؤقت من قولهم (حرية الأديان مصونة) وما ورد في دستور مصر لسنة (1956م) في مادته الثالثة والأربعين «على أن حرية الاعتقاد مطلقة وتحمي الدولة شعائر الأديان» (¬1). كل هذه النصوص دعوة إلى إباحة الردة عن الإسلام بطريقة لبقة والخروج على منهج الله لكل من تسول له نفسه ذلك، وكذلك تدل هذه النصوص بمساواة الإسلام بغيره من العقائد والمعتقدات الباطلة حيث جعلت الإسلام على قدم المساواة مع المحرفة التي لا يعتنقها إلا واحد أو اثنان في المائة في بعض المجتمعات الإسلامية. لقد مكن أعداء الإسلام لأنفسهم في بلاد المسلمين عن طريق صنائعهم من ضعاف الإيمان إلى أن يكون لهم منبر يدعون به إلى باطلهم بجميع الوسائل المغرية وحسب مبدئهم القذر الغاية تبرر الوسيلة، فأقاموا مدارس التنصير والتكفير وأسسوا الصحف والمجلات، وتملكوها ووضعوا الخطط لمناهجها ومنطلقاتها، ولو رجعنا إلى أقدم الصحف والمجلات في مصر والشام لرأينا أن الذي أشرف عليها وقام بتأسيسها هم النصارى وأعوانهم مثل جريدة الأهرام وأخبار اليوم وغيرها من الصحف والمجلات (¬2). وقد تعدى الأمر أهل الذمة إلى الشيوعيين الذين ينكرون وجود الله ويكذبون بجميع الرسل والكتب السماوية وينكرون البعث والجزاء، فقد أصبح لبعضهم في بعض البلاد التي كانت إسلامية صحف تتحدث باسمهم ¬

_ (¬1) انظر ص626 من هذه الرسالة. (¬2) لقد ذكر ذلك الأستاذ/ يوسف العظم مفصلاً في بحث ألقاه في مؤتمر الفقه الإسلامي الأول الذي عقد بالرياض في فندق أنتركنتننتال في الفترة من 1/ 11/1396هـ حتى نهاية اليوم الثامن منه تناول فيه الذين أسسوا الصحف ووسائل الإعلام في بلاد الإسلام بتفصيل موضوعي وتحقيق دقيق مبرهنا على ذلك بالأسماء والأرقام.

وتحمل شعارهم، فقد أصدر الحزب الشيوعي التونسي صحيفته الرسمية المرخص لها بعد أن كان يعمل في الظل وتحمل هذه الصحيفة اسم "الطريق الجديد" وتحت العنوان صورة المطرقة والمنجل شعار الشيوعية الرسمي (¬1). وهذا يدلنا على أن تونس تسير على نفس طريق أفغانستان حين سمح ظاهر شاه للشيوعيين بالوجود فكان ما كان من أمر أفغانستان فهل يراد لتونس أن تتحول إلى بلد لا يذكر اسم الله فيه. ولم يكتف الأعداء بذلك. بل قاموا بنشر المجلات والكتب الهدامة وتسخير الأقلام المأجورة لصالحهم، وشوهوا كتب التاريخ وخاصة التاريخ الإسلامي عن طريق كتابهم الحاقدين على الإسلام والمسلمين، وترجموا الكتب التي تهدم العقيدة والأخلاق بحجة أنه يقرأها غير المسلمين ونحن بدعوتنا إلى تجفيف منابع الكفر والضلال وردمها، لا نقصد من ذلك الحجر على عقول الناس من أن ينظروا أو يقرأوا ما هو موجود في العالم من حولهم، ولكننا نريد أن لا يوضع الشر في طبق من ذهب بين أيدي أناس لا يميزون بين الغث والسمين، ثم إن عمر الإنسان قصير لا يستطيع أن يقرأ كل ما كتب عن الخير والشر ليعقد مقارنة حول ذلك ثم يتخذ موقفًا معينًا من ذلك، فنريد أن لا نشغله بالشر ونعلمه إياه، وهو لم يعرف الخير ولم يتعمق فيه فالطفل الصغير ألزم الإسلام والديه أو من يتكفل بحضانته بأن يرعاه عن الأخطار التي يبلغ الحلم فيميز بين الخير والشر وكذلك الجاهل يجب أن تمنع عنه وسائل الشر حتى يدرك من العلم الشرعي ما يستطيع التمييز به بين الحق والباطل. ولذلك نقول أن ترك الكفار يدعون إلى كفرهم بالوسائل المختلفة ¬

_ (¬1) انظر مجلة الإصلاح عدد (44) محرم 1402هـ السنة الخامسة ص47.

داخل البلاد الإسلامية أمر يمنعه الإسلام حماية لعقيدة الأمة وأخلاقها من التضليل والتحريف. أما حرية الرأي فليس لأهل الذمة أو غيرهم من الكفار حق اختيار الحاكم الشرعي أو انتخاب رئيس الدولة الإسلامية أو حق المشاركة في عزله وتنحيته، لأن ذلك يتم وفق مقاييس الإسلام وموازينه، وهم لا يؤمنون بها ولذلك لا يحتسبون في هذا المجال سلبًا ولا إيجابًا ولذلك جعل الماوردي حق اختيار الحاكم المسلم مشروطًا بثلاثة شروط هي: أولاً: العدالة الجامعة لشروطها، وهذا الشرط منتف في الكافر. ثانيًا: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها، وهذا أيضًا منتف بحق الكافر. ثالثًا: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف (¬1). وبعبارة مختصرة يشترط في حق من ينتخب الحاكم المسلم مثل ما يشترط في حق الحاكم نفسه، من كونه مسلمًا عاقلاً مكلفًا، وعلى هذا فلا يجوز للمسلمين أخذ رأي غير المسلمين في مسألة انتخاب الخليفة المسلم ولا في مسألة إدارة الشئون العامة في الأمة (¬2). ولكن نظرًا لموالاة الكفار والتبعية الذليلة لهم من قبل بعض الحكام ومن قبل بعض المرتدين والمنافقين في بلاد الإسلام فقد تجرأ هؤلاء على الدعوة إلى الكفر في داخل البلاد الإسلامية، وذلك بتوجيه المؤسسات الإعلامية، والتعليمية، وغيرها من الوسائل، لنشر الكفر وتزيينه للناس ومحاربة الحق وتشويه معالمه في أذهان الناس حتى نشأت أجيال من ¬

_ (¬1) انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص6. (¬2) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام. د/ عبد الكريم زيدان ص83.

المسلمين لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، بل لقد أصبح العكس هو الحاصل فقد أصبح في أذهان الكثير من المنتمين إلى الإسلام المنكر معروفًا والمعروف منكرًا والباطل حقًا والحق باطلاً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

المثال الثاني: السماح بتعليم الكفر وتعليمه بين المسلمين

المثال الثاني: السماح بتعليم الكفر وتعليمه بين المسلمين الأصل في منهج الإسلام أن لا يتعلم الناس في دار الإسلام إلا الحق، ولذلك نجد الإسلام يلزم أهل الذمة والعهد بعدم إظهار وسائل تعليم الكفر بين المسلمين كما هو واضح في شروط عقد الذمة والعهد عند الفقهاء، حيث قد اتفق الفقهاء على منع أهل الذمة وأهل العهد من إقامة مدارس لهم في دار الإسلام (¬1). إلا أن الدكتور/ عبد الكريم زيدان، يرى أن لأهل الذمة ومن في حكمهم التمتع بإقامة مدارس خاصة بهم، يعلمون فيها أولادهم وفق ¬

_ (¬1) انظر أهل الذمة في الإسلام د/ أ. س- ترتون. ترجمة د/ حسن حبشي ص161. وانظر الأحكام السلطانية للماوردي ص145. وانظر مختصر تفسير ابن كثير ج2 ص136 وانظر تاريخ الطبري م2 ج4 ص158 - 160. وانظر شرح الشروط العمرية/ تأليف ابن قيم الجوزية/ تحقيق دكتور/ صبحي الصالح ص33. وانظر أهل الذمة ج2 ص797.

ديانتهم، ويستدل على ذلك بأن المسلمين بعد فتح خيبر وانتصارهم على اليهود جمعوا الغنائم وكان فيها نسخ من التوراة فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بردها إلى اليهود (¬1). والذي أراه وأرجحه في هذا الموضوع هو عدم جواز إقامة مدارس أو مناهج دينية خاصة بهم سواء كان ذلك بتمويل منهم أو من بيت مال المسلمين وذلك لعدة أسباب هي كما يلي: أولاً: أن ما استدل به الدكتور عبد الكريم زيدان من إرجاع نسخ التوراة إلى اليهود على جواز إنشاء المدارس فهو غير صحيح وذلك أنه نقل عن المقريزي هذا الأثر وهو حديث ضعيف (¬2). لأن من الفقهاء من أجاز أخذ كتبهم، حيث قالوا إن كانت مما ينتفع به ككتب الطب واللغة والشعر فهي غنيمة، وإن لم يمكن الانتفاع بها كأن تكون من التوراة أو الإنجيل فإن أمكن الانتفاع بجلودها وأوراقها بعد غسلها غسلت وهي غنيمة، وإن لم يمكن فلا تدخل في الغنيمة ولا يجوز بيعها (¬3). ولم يذكروا ردها إليهم، مما يدل على ضعف القول بردها إليهم. ثانيًا: على فرض صحة رواية الرد عليهم، فإنها لا تكون دليلاً على جواز إقامة المدارس الخاصة بأهل الذمة لتعليم ديانتهم فإنهم إنما يقرون على قراءة كتبهم في بيوتهم وكنائسهم على جهة الخفاء مع عدم رفع الصوت بها وإقامة المدارس لذلك إظهارًا لديانتهم وإعلانًا لها، والإسلام والمسلمون أقروهم على حرية العقيدة وحرية التعليم الفردي على جهة الصغار والاستخفاء لا أن يصبحوا دولة داخل الدولة الإسلامية (¬4). يقول العلامة أبو الأعلى المودوي في موضوع تعليم أهل الذمة إنه يجب عليهم أن ¬

_ (¬1) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص101. (¬2) إمتاع الأسماع للمقريزي ص323. ج1. (¬3) انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص491. (¬4) انظر مختصر تفسير ابن كثير م2 ص136 وانظر الأحكام السلطانية للماوردي ص145.

يقبلوا النظام التعليمي العام الذي تقرره الدولة الإسلامية لجميع أفراد الأمة ولكنهم لا يكرهون على نيل التعليم الإسلامي، ويكون لهم الحق في تعلم دينهم في أماكنهم الخاصة بهم (¬1). فإقامة المدارس لهم والاعتراف بتدريس عقائدهم الباطلة لا يجوز لأن ذلك لو حصل من الدولة المسلمة كان اعترافًا منها بصحة تلك العقائد الباطلة وهذا أمر لا يجوز لأن التعليم الجماعي حق وولاية من ولايات الدولة المسلمة، ولا يمكن للدولة والأمة الإسلامية أن تنفق أو تقرر الإنفاق بشكل ظهر على باطل معروف بطلانه سلفًا، لأن التعليم يقام لهدف الإصلاح، وتعليم الكفر لا يحقق إلا الفساد، ومن أهداف عقد الذمة مع غير المسلمين هو اختلاط هؤلاء مع المسلمين وإشعارهم بالأمن والطمأنينة على حياتهم وأموالهم بين المسلمين، وكل هذا رجاء أن ينفذ شعاع الإيمان إلى نفوسهم فيبدد ظلمات الجهل التي حجبت عنهم نور اليقين وأبعدتهم عن الصراط المستقيم (¬2). ثالثًا: يقول أحد كتاب الغرب أنفسهم: «لقد كان الخوارج أشد ميلاً إلى الذميين من أهل السنة ولذلك خالفوا ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأباحوا للذميين الجهر بدينهم» (¬3). فكان مقتضى مذهب أهل السنة والجماعة عدم تمكين أهل الذمة والمستأمنين من باب أولى من الجهر بدينهم. وهذا الأمر قد أكد عليه ابن قدامة المقدسي حيث يقول: «ويمنعون من إظهار المنكر وضرب الناقوس والجهر بكتابهم» (¬4). وهل إقامة المدارس لتعليم التوراة والإنجيل لا تدخل تحت الجهر بكتابهم؟ وهذا لا ¬

_ (¬1) انظر نظرية الإسلام وهديه/ أبو الأعلى المودودي ص362. (¬2) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين. د/ بدران أبو العينين بدران ص160. (¬3) انظر أهل الذمة في الإسلام د/ أ. س - ترتون ترجمة د/ حسن حبشي ص161. (¬4) انظر حاشية المغني والشرح الكبير ج10 ص620.

يعني حرمانهم من التعليم في بلاد الإسلام، فالإسلام قد تكفل بتعليم أبناء أهل الذمة مع أبناء المسلمين جنبًا إلى جنب وهو يعلمهم الحق وما ينفعهم في الحياة ولا يلزمهم بدراسة العقيدة الإسلامية دراسة إلزامية وقد كانت جامعات الأندلس التي أنشأها المسلمون في قربطة وغرناطة وغيرها من المدن تعلم آلاف الشباب من غير المسلمين سواء كانوا من أهل الذمة أو من المستأمنين القادمين من أوروبا كلها (¬1). يقول الدكتور/ أحمد شلبي: «إن مما أخذ على هشام بن عبد الرحمن الداخل في الأندلس هو إذنه لليهود والنصارى بإنشاء المدارس والمعابد لهم واستعمال عدد منهم في وظائف الدولة» (¬2). رابعًا: ينطلق أكثر الكتاب والمحدثين في معاملة أهل الكتاب من النص التالي: «اتركوهم وما يدينون» (¬3). وهذا الأثر على فرض صحته وعدم ضعفه، فإنه لا يمكن حمله على العموم في كل شيء وإلا لما كان لعقد الذمة أي معنى، فالمقصود من عقد الذمة والأمان للمستأمنين هو نفع المسلمين بإيصال الدعوة إلى هؤلاء بدون قتال وأخذ الجزية والخراج منهم وتبادل السلع معهم مما يتكون منه قوة اقتصادية ومعنوية للإسلام والمسلمين، كما أن في ذلك إتاحة الفرصة للكفار عندما يعيشون في وسط المسلمين ويشاهدون منهج الإسلام والمسلمين في صورة واقعية مما يغريهم بالدخول في الإسلام، وإن اعتراف الشريعة الإسلامية بأهل الذمة وأهل العهد لا يعني أبدًا إقرارهم على جميع ما انطوت عليه حياتهم من زيغ وانحراف وتصورات فاسدة لأن هذا الإقرار المطلق ينافي طبيعة الإسلام ¬

_ (¬1) انظر موسوعة التاريخ الإسلامي ج4 ص97 تأليف/ أحمد شلبي. (¬2) المصدر السابق ج4 ص45. (¬3) انظر مقرر الفقه للصف الثاني ثانوي/ تأليف الشيخ مناع القطان ص87 الطبعة الثانية (1397هـ).

الذي أخذ على عاتقه تصحيح الأوضاع الخاطئة في العالم كله فضلاً عن أناس يعيشون بداخله. إن هدف الإسلام من مرونة التعامل مع الكفار إلى حد معقول يقصد به إخراج هؤلاء من الظلام إلى النور، ومن دركات الجهل إلى بحبوحة النور المبين. فعندما يسمح الإسلام أن يعيش الكفار في وسط مجتمعه إنما يعتبر ذلك وسيلة من وسائل الدعوة، وأن هذا الأسلوب ألطف وأحب من قتلهم عند امتناعهم عن الإسلام (¬1). خامسًا: إن من الأدلة التي يمكن الاستناد إليها والاستئناس بها في منع الكفار من تعلم الكفر في دار الإسلام بشكل ظاهر، ما ورد في كتب بعض المؤرخين من أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) أن هناك مكتبة عظيمة في الإسكندرية يستشيره في أمرها فرد عليه عمر كتابا يقول فيه: «وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله غنى عن ذلك وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله، فلا حاجة إليه». فتقدم عمرو بن العاص (رضي الله عنه) وأمر بإحراقها. وقد ذكر هذه الرواية عبد اللطيف البغدادي (¬2). ¬

_ (¬1) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص18 وانظر ما هي علاقة الأمة الإسلامية بالأمم الأخرى، د/ أحمد محمود الأحمد ص41 - 42. (¬2) هو عبد اللطيف بن يوسف البغدادي الشافعي، ويعرف بابن اللباد، طبيب رياضي، أديب، نحوي، لغوي، متكلم، محدث، مؤرخ مشارك في غير ذلك من العلوم، ولد ببغداد سنة (557هـ) وحدث ببغداد ودمشق والقدس وحلب وحران، وبلاد الروم، وملطية، والحجاز. وتوفي ببغداد في 12/ 1/629هـ من تصانيفه الكثيرة: الجامع الكبير في المنطق والطبيعي، والإلهي في عشر مجلدات، الكتاب الجلي في الحساب الهندي، =

وأشار إلى ذلك أيضًا ابن القفطي (¬1)، وأبو الفرج (¬2)، والملطي (¬3). وقد حصل نزاع كبير بين المثبتين لهذه الرواية والنافين لها وعلى كل حال فإن المسلمين لديهم رغبة عظيمة في محو كل آثار الشرك ومحو كل كتاب يصرف أو يمنع قارئه عن التمسك بكتاب الله وسنة رسوله الكريم وقد أحرق المسلمون مكاتب الفرس عند فتح بلادهم كما ذكر ذلك حاجي (¬4) ¬

_ = المجرد في غريب الحديث، الدرة المضيئة، المقالة في الدواء والغذاء ومعرفة طبقاتها. انظر معجم المؤلفين ج6 ص15. (¬1) هو علي بن يوسف بن إبراهيم بن إسحاق الشيباني القفطي، عالم، أديب، ناثر، ناظم، مشارك في النحو واللغة والفقه وعلم القرآن والحديث والأصول والمنطق والرياضة والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل ولد سنة (568هـ) بمدينة قفط من الصعيد الأيمن بمديرية قنا بمصر ونشأ بالقاهرة ورحل إلى حلب، وولي الوزارة فيها وتوفي في رمضان سنة (646هـ) من تصانيفه الكثيرة: الإصلاح لما وقع من الخلل في كتاب الصحاح للجوهري، الكلام على الجامع الصحيح للبخاري، أخبار العلماء بأخبار الحكماء، نهزة الخاطر ونزهة الناظر في أحسن ما نقل من على ظهور الكتب، والدرر الثمين في أسماء المصنفين. انظر معجم المؤلفين ج7 ص263. (¬2) هو غريغورس أبو الفرج بن أهرون المعروف بابن العبري، ولد سنة (1226م) في مدينة ملطية بأرمينية الصغرى. وتعلم في صغره اليونانية والسريانية والعبرية ثم اشغل بالفلسفة واللاهوت، وترقى في سلم المناصب النصرانية حتى وصل إلى (مغريانا) وهي كلمة فارسية معناها المثمر. وهذا المنصب من أكبر المناصب بعد منصب البطريرقية وهو أشبه بكبير (الأساقفة) على الجهات الواقعة بين النهرين والعراق العجمي، وألف أكثر من ثلاثين كتابًا بالعربية والسريانية في الفلسفة وعلم الهيئة والتاريخ والنحو والشعر وغيرها من بينها كتابة مختصر الدول. انظر حاشية تاريخ الإسلام السياسي ج1 ص242. (¬3) انظر تاريخ الإسلام السياسي د/ حسن إبراهيم ج1 ص242. (¬4) هو مصطفى بن عبد الله القسطنطين الحنفي، الشهير بين علماء البلد بكتاب جلي، وبين أهل الديوان بحاجي خليفة. مؤرخ، عارف بالكتب ومؤلفيها، مشارك في بعض العلوم. ولد بالقسطنطينية في ذي القعدة سنة (1017هـ)، تولى أعمالاً كتابية في الجيش العثماني، وقام برحلات متعددة، واهتم بجمع الكتب واقتناء المؤلفات الثمينة - توفي بالقسطنطينية سنة 1067هـ. وله مصنفات كثيرة منها: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون في مجلدين، تحفة الكبار في أٍسفار البحار، ميزان الحق في التصوف، سلم الوصول إلى طبقات الفحول في التراجم، تحفة الأخيار في الحكم والأمثال والأشعار. انظر معجم المؤلفين ج12 ص262 - 263.

خليفة في كتابه كشف الظنون (¬1). وإحراق الكتب أمر كان معروفًا في القديم والحديث وشائعًا ولكن هناك فرق بين عمل المسلمين وعمل غيرهم، فغير المسلمين يكون إحراقهم للكتب التي هي مصدر الفكر والرأي تشفيًا من أعدائهم كما فعل التتار بقيادة هولاكو التتري سنة (656هـ) بإلقاء خزائن الكتب في نهر دجلة حتى تغير ماؤه من كثرة المداد الذي تحلل من الكتب التي ألقيت به (¬2). أما المسلمون فلا يفعلون ذلك تشفيًا من أعدائهم أو حقدًا عليهم وإنما يفعلون ذلك حرصًا على سلامتهم، واجتهادًا في وقايتهم من استمرار التلقي من تلك المصادر الملوثة والاجتهادات الخاطئة، والأفكار الضالة الفاسدة. إن الحفاظ على التصور السليم والفهم المستقيم والأخلاق الكريمة أهم من المحافظة على الصحة الجسدية. إن إدارات الطب الوقائي في العالم أجمع تحرص على منع أسباب المرض قبل وقوعه وذلك بالقضاء على الأسباب المكونة له وكذلك أمراض القلب يجب منع أسبابها قبل وقوعها وقد فعل ذلك عبد الله بن طاهر (¬3) حيث ¬

_ (¬1) انظر كشف الظنون حاجي خليفة م1 ص33 من المقدمة. (¬2) انظر تاريخ الإسلام السياسي د/ حسن إبراهيم ج1 ص242 - 246. (¬3) هو عبد الله بن طاهر بن الحسين، تولى نيابة مصر بعد العشرين ومائتين، ثم تولى أمر خراسان وما حولها من أعمال الري وطبرستان وما يتصل بها وكان خراج هذه البلدان حين =

أتلف في سنة (213هـ) كتبًا فارسية من مؤلفات المجوس (¬1). فإذا ترجح لدينا منع الكتب والمجلات ووسائل التعليم المختلفة التي لا تعلم الناس الخير وإنما تنقلهم إلى الكفر وعلومه فمن باب أولى منع المدارس والمعاهد التي تقام لتدريس الكفر بكل أنواعه ولا يقصر ذلك على أبناء أهل الذمة والمستأمنين بل يجب منع كافة اليهود والنصارى والشيوعيين، وإرساليات التكفير من أن يدخلوا بكتاب أو كتب تنضح بالكفر والانحراف إلا إذا كان ذلك على جهة الاستعمال الخاص لأهل الذمة والمستأمنين خاصة إذا كانت هذه الكتب من كتبهم المقدسة لديهم، بعد أخذ الطرق الكفيلة والضمانات الواجبة في عدم تسرب تلك الكتب إلى أيدي البسطاء من المسلمين. وإذا تقرر منع تداول الكتب المعتبرة عند أهل الكتاب بشكل علني وواضح، فمن باب أولى منع افتتاح المدارس التي تدرس تلك العقائد التافهة الهزيلة. ولكن كيف حالنا وقد خرج فينا هذه الأيام جماعة من المنافقين الموالين للكفار حذو القذة بالقذة؟!! فقد أمرت بعض الحكومات وزراء التعليم فيها بوضع مناهج تعليمية مشتركة بين المسلمين وغير المسلمين، وذلك بتأليف كتب تضم جزءًا من تعاليم الإسلام وجزءًا من تعاليم النصرانية أو غيرها، وقد سبق إلى هذه الخيانة العظمى (مصطفى كمال حلمي) وزير التعليم في مصر يتقدم على رئيسه السادات في موالاة اليهود والنصارى، وكسب ثقتهم ومودتهم ولا شك أن مثل هذا العمل مخالف للصواب من عدة وجوه: ¬

_ = مات ثمانية وأربعين مليون درهم وتوفي في شهر ربيع الأول سنة (230هـ) بنيسابور. انظر تاريخ الطبري ج11 ص13. وانظر البداية والنهاية لابن كثير ج10 ص302 - 303. (¬1) انظر تاريخ الإسلام السياسي د/ حسن إبراهيم ج1 ص242 - 246.

أولاً: إن هذا العمل فيه مساواة بين العقيدة الإسلامية واعتقادات أهل الكفر التي لا يجوز النظر فيها لغير أهل العلم وأهل الدراية عند الحاجة إلى نقدها وكشف عورها، فكيف تُدرّس هذه العقائد الباطلة لأطفال لا يفقهون من العلم شيئًا؟ ثانيًا: أنه لو كان تعلم التوراة والإنجيل ونحوهما من معتقدات الكفار جائزًا أو أمرًا مرغوبًا فيه لما غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما رأى في يد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) صحيفة من التوراة فقال: «إنه والله لو كان موسى حيًا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» (¬1) فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عمر مع مكانته في الإسلام فكيف تُقرر على من لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه. ثالثًا: لو كان هذا العمل مباحًا في نظر علماء الإسلام وحكامهم السابقين لسبقونا إلى ذلك وطبقوه عمليا. رابعًا: إن المدارس التي فتحت في البلاد الإسلامية بغير وجه شرعي لتعليم النصرانية، قد تعمدت في مناهجها الطعن في الإسلام وفي شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد نشرت جريدة القبس الكويتية أن كتابًا يدرس في المدرسة الفرنسية بالكويت: يحتوي على إساءة بالغة للإسلام، ويطعن في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فهذه واحدة من تلك المؤسسات التنصيرية المنتشرة في معظم البلاد الإسلامية. وقد عمدت بعض الدول المنتسبة إلى الإسلام في موالاتها لأعداء الله ¬

_ (¬1) رواه الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي عن جابر. انظر معالم في الطريق/ سيد قطب ص16 (ط - 1). (¬2) انظر مجلة المجتمع عدد (525) السنة الحادية عشرة في 16/ 6/1401 هـ ص6.

في مجال التعليم إلى استبعاد تدريس العلوم الشرعية استبعادًا كليًا والبعض الآخر من الدول جعلت دراسة العلوم الشرعية دراسة غير أساسية في مناهج تعليمها فلا يترتب على المواد الشرعية نجاح أو رسوب وهذا العمل كفر لأن حال الفاعل لذلك كحال من لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه ولا دخل فيه، فهو يريد أن لا يكون مع المسلمين ولا مع الكفار، فهذا الموقف بحد ذاته كفر لأن واجب المسلم أن يكون مع المسلمين قولاً وفعلاً واعتقادًا (¬1)، ومن لم يكن كذلك يكون داخلاً تحت مفهوم قول الله تعالى: (سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) (¬2). فإلغاء تدريس العلوم الشرعية كفر وردة عن الإسلام، لأن الدافع إلى ذلك هو استجلاب مودة اليهود والنصارى وأعداء الإسلام واستصغار شأن الإسلام والعلوم الإسلامية في نظر أولئك الأنذال. والذين لا يوجد لديهم أقليات من غير المسلمين من اليهود والنصارى نجد أنهم أحلوا دراسة مبادئ الكفر محل دراسة علوم الإسلام، فأصبحت بعض الأقطار المسلمة يدرس أبناؤها مبادئ الشيوعية الماركسية التي وضع بعض ملامحها اليهودي الألماني ماركس وأتباعه من أهل الإجرام كما يدرس أولئك أبناء المسلمين الاشتراكية التي هي فرع من الشيوعية وكل من الاشتراكيات المتعددة والبرامج الشيوعية المختلفة كلها تقوم على إنكار وجود الله وإنكار التقيد بالنظام الإسلامي عقيدة ونظامًا اقتصاديًا للحياة. وبناء على ذلك فإن الذين يسمحون بتدريس مبادئ الكفر وعقائد الضلال في دار الإسلام والمسلمين أو يلزمون المسلمين بدراستها في ¬

_ (¬1) انظر الدرر السنية ج1 ص66. (¬2) سورة النساء آية (91).

الخارج (¬1) هؤلاء ليسوا من المسلمين وأهل الإسلام لأنهم اختاروا موالاة الكفار على موالاة الله ورسوله والذين آمنوا ولأنهم فضلوا أو نزلوا تعليم الكفر إلى منزلة تعليم الإسلام وهذا مخالف لما يجب أن يكون عليه المسلم الحق بل إن من يفعل ذلك الفعل قد شابه اليهود الذين فضلوا دين المشركين على دين المسلمين. قال تعالى: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا) (¬2). فالذين يفضلون دراسة وتدريس مبادئ الكفر والضلال بأنواعها المختلفة على منهج الإسلام وعلومه القيمة داخلون تحت من تعنيهم هذه الآية. ولم يقتصر الأمر على السماح بتدريس الكفر للكفار وأشباه الكفار في بلاد المسلمين بل لقد وصل الأمر إلى وضع المؤسسات التعليمية التي تحتضن أبناء المسلمين في أيدي الكفار لكي ينشؤهم على وفق أهوائهم ومخططاتهم الإجرامية في الوقت الذي يمكن جعل هذه المؤسسات التعليمية في أيد مسلمة. لقد أقام المكفرون المضللون - أي المبشرون حسب زعمهم - جامعات ومدارس تضلل المسلمين عن دينهم في بلاد الإسلام مثل الجامعة الأمريكية في بيروت، وكلية في بغداد، وجامعة بالسند، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، وغيرها من الجامعات الأمريكية المنثورة هنا وهناك (¬3). والتي تستقبل كل عام عشرات الآلاف من أبناء المسلمين ليتخرجوا منها بعد بضع سنوات وقد محيت آثار الإسلام من أذهانهم، إلا ما شاء الله منهم. ولم يقتصر الأمر على السماح بإقامة ¬

_ (¬1) مثل ما يحصل في اليمن والصومال والعراق وسوريا وليبيا والمغرب وغيرها من بلاد المسلمين التي ترسل ألوفًا من الشباب إلى روسيا وغيرها من الدول الشيوعية بدعوى العلم وهم في الحقيقة يدرسون الشيوعية والاشتراكية ليعودوا دعاة لها في بلاد المسلمين. انظر - الابتعاث ومخاطره - تأليف محمد الصباغ ص4. (¬2) سورة النساء آية (51). (¬3) انظر المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام/ محمد محمود الصواف ص212 - 224. وانظر التبشير والاستعمار، د/ مصطفى الخالدي، د/عمر فروخ ص65 - 112.

مؤسسات تعليمية تعلم أبناء المسلمين الكفر بتمويل من الخارج بل لقد وصل الأمر إلى أن تقام مؤسسات تعليمية في بلاد المسلمين ولأبناء المسلمين وتمول من أموال المسلمين وتدار من قبل أُناس ليسوا بمسلمين ليحققوا من خلالها عزل أبناء المسلمين عن دينهم، فقد نشرت جريدة الجزيرة في عددها (3174) في 20 جمادى الآخرة (1401هـ) إعلانًا من كلية البحرين الجامعية تطلب فيه عددًا من الموظفين بتوقيع عميد كلية البحرين الجامعية د/ وليم - أ - ستيوارت فهل عجزت البحرين أن تجد من بين (1000) مليون مسلم شخصًا قديرًا على إدارة كليتها تلك غير هذا؟ إن الجواب على ذلك معروف، ولكن التبعية العمياء لأعداء الإسلام هي التي أوصلتنا إلى مثل هذه الحال، وإلى فقدان الثقة بأنفسنا وبإخواننا في الإسلام، الأمر الذي جعلنا نرتمي في أحضان أعدائنا بلا حدود. إن أي شخص منصف لو نظر إلى آثار المؤسسات التعليمية التي يقيمها أعداء الإسلام في بلاد المسلمين وإلى ما قاله أعداء الإسلام أنفسهم عن تلك الآثار (¬1)، لقال بوجوب إنهاء تلك المدارس وتصفيتها، فكيف يحصل ممن يُعَوَّل عليهم بإدانة تلك المؤسسات ومحاربتها القول بجواز ذلك أو إقراره. وخلاصة القول في هذا الموضوع أنه لا يجوز للدولة المسلمة أن تسمح بإقامة المدارس لأصحاب الديانات المخالفة للإسلام لأن ذلك من الجهر بدينهم وهو الأمر الذي منعه جمهور الفقهاء (¬2). ولكن لا يعني ذلك أن تلزمهم الدولة الإسلامية بدراسة العلوم الإسلامية (¬3). وقد ذهب الأستاذ/ سعيد حوى إلى القول بجواز إنشاء المدارس ¬

_ (¬1) انظر المصدرين السابقين المكان نفسه. (¬2) انظر ص636 من هذه الرسالة. (¬3) انظر نظرية الإسلام وهديه لأبي الأعلى المودوي ص362.

الخاصة بغير المسلمين بعد حصولهم على إذن مسبق من الدولة الإسلامية - الملتزمة بالإسلام قولاً وفعلاً - وتحت إشرافها الدائم (¬1). وهذا القول موافق فيما يؤدي إليه إلى ما ذهب إليه جمهور العلماء حيث إن اشتراك إذن الدولة الإسلامية وإشرافها التام والدائم يعني أن لا تتضمن مناهج الدراسة أي إساءة إلى الإسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) انظر من أجل خطوة إلى الأمام على طريق الجهاد المبارك/ تأليف سعيد حوى ص23.

المثال الثالث: إباحة ظهور المحرمات بين المسلمين إرضاء للكفار وأشباههم

المثال الثالث: إباحة ظهور المحرمات بين المسلمين إرضاء للكفار وأشباههم إن من واجبات صاحب الولاية الشرعية واختصاصاته الأساسية أن يمنع انتشار أي محرم بين المسلمين وفي داخل المجتمع المسلم، ولذلك فإن الإسلام وإن ترك لأهل الذمة شرب الخمر وأكل لحم الخنزير والإفطار في نهار رمضان في داخل المجتمع المسلم إلا أن ذلك مشروط بأن لا يتعداهم إلى سواهم بأي شكل من الأشكال فليس لأهل الذمة أن يبيعوا الخمر للمسلمين، ولا يهدوها لهم، ولا يعاونوهم على صنعها ولا يعصروها لمسلم ولا يحملوها إليه. ولا يبيعها ذمي إلى ذمي آخر جهارًا، وإذا شربها الذمي فسكر، ثم ظهر بين المسلمين وجب تعزيره على إظهاره للشرب أما ما يختفون به في بيوتهم من غير ضرر بالمسلمين بوجه من الوجوه، فلا يتعرض لهم، أما إذا كانوا لا ينتهون عن إظهار الخمر، أو عن معاونة المسلمين عليها، فإنهم يعاقبون بما يكفل عدم إظهار هذا المنكر ووصوله إلى أيدي المسلمين (¬1). ويجوز دخولهم دار الإسلام بالخمر والخنزير وذلك ¬

_ (¬1) انظر مختصر الفتاوى لابن تيمية (رحمه الله) ص502 - 503.

عندما يتحقق الحاكم المسلم العدل أنه اشتروها لاستعمالهم الخاص لأنفسهم أو فيما بينهم بعد أن يضع القيود والشروط الكفيلة بعدم تعدي هؤلاء وأضرارهم بالمسلمين (¬1). أما إذا خِيْفَ بيعها إلى مسلم وإفساد دينه بذلك أو ضبط حالات من ذلك وجب منع دخول الخمر والخنزير، لأن من القواعد الشرعية المقررة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولو اتجر غير المسلم بالخمر والخنزير أو ما هو محرم بين المسلمين، أو في مكان لا يوجد فيه أحد من أهل الذمة فقال بعض الفقهاء بوجوب إراقة الخمر وقتل الخنزير ونفيه إن كان غير ذمي. وتعزيره إن كان ذميًا على ذلك (¬2). ونظرًا لموالاة أكثر الحكام في عصرنا الحاضر لأعداء الإسلام والمسلمين فقد أباحت هذه الحكومات بيع الخمر وترويجها في داخل المجتمع المسلم وبخاصة على الخطوط الجوية والفنادق الخاصة والعامة كما أباحت الفطر في نهار رمضان لعامة الناس بحجة أن هذه الأمكنة يرتادها أناس من غير المسلمين، وهم في عملهم هذا لم يسألوا أنفسهم عن موقف الإسلام في ذلك، ولم يضعوا للمجتمع المسلم الذي يحكمونه أي حساب في السؤال عن هذا التصرف الطائش، لأنهم يعلمون أن المجتمع لم يسألهم عما هو أكبر من ذلك فمن باب أولى أن لا يسألهم عن هذه الجريمة التي تضاف إلى غيرها من أنواع الجرائم التي تزاحمت في أذهان الناس وعقولهم حتى بدأ بعضها ينسي البعض الآخر. ومن موالاة الكفار ترك نسائهم ورجالهم عراة بين المسلمين، حيث قد ابتليت هذه الأمة فيما ابتليت به هجرة كثيرة من الكفار إليها لمقاصد متعددة وأغراض متنوعة وقد استقبلهم المسلمون في أول الأمر بحسن نية ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص63 - 64. (¬2) أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص159، انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص133. وانظر كتاب الخراج/ ليحيى بن آدم القرشي ص68، ص69.

وبسذاجة وسطحية متناهية وقد خدعهم حسن المظهر ولطف التعامل وما أدركوا أن ذلك أسلوب من أساليب المكر ووسيلة من وسائل الخداع، ثم توالى الكفار وبدأوا يظهرون على حقيقتهم رويدًا رويدًا فبدأت نساؤهم تنتشر في الأسواق والأمكنة العامة بصورة مثيرة للفحشاء والمنكر فتهافت ضعاف النفوس على تلك المناظر تهافت الذباب على الفضلات وقد رأت بعض نساء المسلمين أن تلك المظاهر تدعو إلى الشهرة ومتابعة الأنظار لها فحاولت عن جهل وغباء أن تقلد تلك النساء الكافرات فخلعت رداء العفة والطهارة وخرجت تحاكي المرأة الكافرة حذو القذة بالقذة حتى عم معظم البلاد الإسلامية ردة أخلاقية ومظاهر إباحية يندى لها الجبين. وما كان ذلك يحصل لو وقف المسلمون مع الكفار موقفًا جادًا وتعاملوا معهم وفق ما يقتضيه شرع الله الذي يحمي المجتمع من كل رذيلة ويحفظ له كل فضيلة. وقد يسأل إنسان عن موقف الإسلام من لباس الكفار في دار الإسلام؟ والجواب أن الإسلام يحرم على الناس كافة إظهار عوراتهم سواء كانوا مسلمين أو كافرين رجالاً أو نساء وهذا هو الأصل في دار الإسلام، حيث إن النظر إلى شعر المرأة ومفاتنها محرم لغير ضرورة شرعية تلجئ إلى ذلك سواء كانت المرأة مسلمة، أو كتابية فحكمها سواء (¬1). ولم يكن للكفار لباس خاص بهم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسبب والله أعلم أنه حتى الكفار الذين كانوا في ذلك الوقت لم يكن لديهم الدياثة والتهتك والعرى مثل ما هو موجود في الأزمنة المتأخرة التي ظهرت معظم النساء الكافرات وأشباه الكافرات كاشفات عن عوراتهن. فالمرأة الكافرة في المجتمع المسلم لا تطالب بالحجاب الشرعي ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري ج6 ص191.

الذي فرضه الإسلام على المسلمة، وإنما تطالب بستر عورتها وهي ما عدا الوجه والكفين. أي بما لا يجوز أن ينظر إليه المسلم من ذوات المحارم عدا الزوجة فإنها مستثناة من ذلك (¬1). وبدأ وجوب الغيار بين المسلمين والكفار في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حيث إن خالد بن عرفطة (¬2) أمير الكوفة جاءت إليه امرأة نصرانية فأسلمت، وذكرت أن زوجها يضربها على النصرانية وأقامت على ذلك البينة، فضربه خالد وحلق ناصيته، وفرق بينه وبينها. فشكاه النصراني إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فأشخصه وسأله عن ذلك، فقص عليه القصة فقال: الحكم ما حكمت به. وكتب إلى الأمصار أن يجزوا نواصيهم، ولا يلبسوا لبسة المسلمين، حتى يعرفوا من بينهم (¬3). ومن شروط عمر (رضي الله عنه) على أهل الذمة التزامهم بزي مغاير للمسلمين وخاصة الرجال منهم فقد ورد في الشروط العمرية «وأن نلزم زينًا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في المركب واللباس ونحوه» (¬4). فهذه سنة سنها من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته في قوله ¬

_ (¬1) انظر تفسير سورة النور لأبي الأعلى المودودي ص161، 171، وانظر تفسير القرطبي ج12 ص309 - 310 وجـ14 ص179 - 181. (¬2) هو خالد بن عرفطة العذري وعذرة من قضاعة استخلفه سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) على الكوفة ونزلها وهو معدود في أهلها، توفي سنة ستين وقيل إحدى وستين من الهجرة. انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج2 ص87 - 88. (¬3) انظر أحكام أهل الذمة - لابن قيم الجوزية ج1ص236. (¬4) انظر شرح الشروط العمرية/ ابن قيم الجوزية/ تحقيق صبحي الصالح ص79.

- صلى الله عليه وسلم - من حديث طويل «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ... » الحديث (¬1). فالمسلم ذكرًا كان أو أنثى يتشبه ويتأسى بمن أمرنا الله بالاقتداء بهم وهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأمهات المؤمنين وأما الكافر الذي يعيش بين المسلمين فيجب عليه أن يلبس لباس أمثاله من الكفار بشرط أن لا يظهر شيئًا من عورته، وأن يغاير لباس المسلمين حتى يعلم أنه كافر فلا يطالب بما يطالب به المسلم ولا يقتدي به من يراه في أفعاله لعلمه أنه كافر. أما المرأة الكافرة في دار الإسلام، فإنه يجب عليها من الستر مثل ما يجب على المرأة المسلمة، فلا يصح أن تتبرج، ولا أن تختلط بالرجال الأجانب اختلاطًا يدعو إلى الفحشاء والمنكر (¬2). ولذلك لم يذكر ابن قيم الجوزية في موضوع الغيار بين المسلمين وأهل الذمة صفة غيار النساء بل إن كل ما ذكره غالبًا متعلق بغيار الرجال (¬3). وإن كان أشار بعض الكتاب إلى غيار النساء بارتداء الثوب الأصفر وشد المنطقة حول الوسط (¬4). ولكن شروط عمر (رضي الله عنه) على أهل الذمة لم تتناول شيئًا من ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود. انظر مسند أحمد ج4 ص126 - 127 وانظر سنن أبي داود ج4 ص200 - 201 (باب لزوم السنة) رقم الحديث (4607). ومن الفتح الرباني عن ابن ماجه والترمذي وأبي داود حسن صحيح وعن الحاكم وابن حبان صحيح على شرطهما. انظر الفتح الرباني ج1 ص190 ط-1، 2 - دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان. (¬2) انظر مجلة الدعوة المصرية العدد (56) السنة الثلاثون (430) شهر صفر 401 هـ ص40 إجابة الشيخ محمد عبد الله الخطيب على ذلك. (¬3) انظر أحكام أهل الذمة - ابن قيم الجوزية ج1 ص236 - 238. (¬4) انظر تاريخ الطبري ج11 ص36 - 37. وانظر أهل الذمة في الإسلام د/ أ. س. ترتون. ترجمة وتعليق د/ حسن حبشي ص132. (¬5) انظر شرح الشروط العمرية/ تحقيق صبحي الصالح ص79 وما بعدها ص110.

والسبب والله أعلم أن النساء لا يخرجن إلا نادرًا وذلك لا يقتضي تمييزًا ولا غيارًا، وقد رُوي أن عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) نهى النسوة النصرانيات عن زيارة الحمامات في الأسواق (¬1) وهذا يدل على أن نساء أهل الذمة ملزمات في المجتمع المسلم بعدم إظهار الزينة وبستر كل ما يدعو إلى إثارة الشهوة وإيقاظ الفتنة من جسدها، ولا يجوز الاحتجاج على هذا بقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) لأن الزامهن بستر سؤاتهن وصدورهن وما إلى ذلك ليس إكراهًا على الدخول في الإسلام بل هو خضوع لنظامه العام في الحياة، وإن بقيت على الكفر. وقد ذكر الطبري أنه في عهد المتوكل قد ألزم نساء أهل الذمة إذا أرادت إحداهن الخروج أن تتدثر بالدثار الأصفر حين تغادر بيتها إلى الخارج وتضع المنطقة حول وسطها (¬2). وفي سنة (734هـ) ألزم الخليفة (¬3) في بغداد والقاهرة وما حولهما الذميين بلبس الإزار الأصفر والأزرق، وفي سنة (755هـ) ألزم الخليفة (¬4) النصرانيات بلبس الإزار الأزرق، واليهوديات بلبس الإزار الأحمر (¬5). وإقرارهم على شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ¬

_ (¬1) الولاة والقضاة للكندي ص69. (¬2) تاريخ الطبري ج11 ص36 - 37. (¬3) هو الخليفة المستكفي بالله أمير المؤمنين أبو الربيع بن الحاكم بأمر الله العباسي اسمه أحمد بن علي بن الحسن الهاشمي العباسي ولد سنة (683هـ) وتولى الخلافة يوم الأحد لعشرين من ذي الحجة سنة (701هـ) وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية وسارت بذلك الرسائل البريدية إلى جميع البلاد الإسلامية وتوفي سنة (740هـ). انظر البداية والنهاية لابن كثير ج14 ص20، 187. (¬4) هو الملك الصالح صلاح الدين بن سلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، تولي الخلافة في سنة (753هـ) وخلع من منصب الخلافة في شهر شوال من سنة (755هـ) وتولي مكانه أخوه الملك الناصر حسن بعد خلعه. انظر البداية والنهاية لابن كثير ج 14، ص 241، 251. (¬5) انظر حسن المحاضرة للسيوطي ج2 ص212 - 214 وانظر البداية والنهاية لابن كثير ج14 ص249 - 250.

لا يبيح لهم إظهار ذلك في بلاد المسلمين علانية، أو إدخالها على وجه الشهرة لأن ذلك من إظهار شعائر الكفر في دار الإسلام وهو أمر ممنوع في الشرع الإسلامي كما تقدم إيضاح ذلك (¬1). فإذا كان هذا ممنوعًا فمن باب أولى منع النساء الكافرات الكاسيات العاريات من الخروج في وسط المجتمع المسلم لأن خطرهن أشد من خطر ظهور الخمر والخنزير، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء» (¬2). وإذا كان الإسلام قد ألزم المسلمات المؤمنات المحصنات بحصانة الإيمان فمن باب أولى أن يلزم الكافرات اللاتي هن أقرب إلى كل رذيلة وأبعد عن كل فضيلة وقد ذكر الدكتور عبد الكريم زيدان أنه يُمنع أهل الذمة ومن في حكمهم من أهل العهد من إظهار الفسق فيما يعتقدون حرمته كالفواحش ونحوها كما يمنع المسلم منها سواء بسواء (¬3). وقد ورد في الحديث «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال» (¬4). فهذا الحديث عام في لعن كل من يتشبه من النساء بالرجال أو العكس سواء كان مسلمًا أو كافرًا، ولما كان هذا الشيء أمرًا منكرًا وإظهاره في المجتمع الإسلامي إظهارًا للمنكر، فإنه يلزم بمقتضى عقد الذمة والعهد أن لا يُظْهِرَ هؤلاء منكرًا أيا كان نوع هذا المنكر إذا أرادوا أن يعيشوا مع المجتمع الإسلامي بصدق وأمان. وخروج النساء الكافرات في وسط المجتمع المسلم بلباس يدعو إلى الإثارة والفتنة إما أن يكون داخلاً ضمن حدود القانون المدني أو ضمن دائرة الحقوق الشخصية، وفي كلا الحالين فإنه غير جائز تكشف النساء الكافرات في المجتمع المسلم. ¬

_ (¬1) انظر ص569 - 575 من هذه الرسالة. (¬2) انظر صحيح مسلم ج4 ص2098 (كتاب الرقاق). (¬3) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص190. (¬4) انظر فتح الباري ج10 ص332 (باب اللباس).

فالقانون المدني مبني على وجوب احترام مشاعر الناس جميعًا ولا يجوز أن يعترض أحد لمشاعرهم وغرائزهم بالإثارة وإحداث الألم فيها وهذه المظاهر التي تظهر بها النساء الكافرات في دار الإسلام اعتداء على مشاعر الناس وإيذاء لأرواحهم سواء كان الناظر في ذلك مسلمًا أو كافرًا وذلك لأمرين: الأمر الأول: إذا كان الناظر إلى تلك النساء الكافرات العاريات من لباس العفة والفضيلة، مسلمًا فإنه يجد في تلك المظاهر ما يثير غيرته الدينية على هذا المنكر الظاهر وهذه الصور التي تتنافى مع أحكام الإسلام، وإن كان من ضعاف الإيمان فقد يجد من الإثارة الجنسية ما يسبب له الألم والحرج والضيق، فهو مهما يكن إنسانًا حساسًا ذا لحم ودم يحس بما يرى ويسمع فيتأثر بذلك سلبًا أو إيجابًا. الأمر الثاني: لو فرضنا أن المسلمين غضوا أبصارهم عن تلك المناظر العارية والصور الخليعة فإن الذكور من الكفار سيصيبهم من تلك المظاهر ما يشعل نار الفاقة والشعور بالحرمان في أنفسهم مما يدفعهم إلى ارتكاب جرائم متعددة الأنواع والأشكال كي يطفئوا تلك النار الملتهبة في أنفسهم والتي لا تجد ما يحد من قوتها أو يوجهها التوجيه السليم نظرًا لبعدهم عن الإيمان والإسلام. ففي القانون المدني المبني على الشريعة الإسلامية نص يدل على تساوي المسلمين وأهل الذمة في التكاليف الظاهرة في الجانب الأخلاقي ولم يستثن من ذلك في حق الذميين سوى الخمر والخنزير، فلهم أن يصنعوا الخمر ويشربوها خفية دون أن يخرج منها أو من أذاها شيء إلى المسلمين ولهم أن يربوا الخنازير ويأكلوها ويبيعوها بينهم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر المبسوط للسرخس ج13 ص137 - 138.

هذا إذا قلنا إن عدم خروج النساء الكافرات بمظاهر العري والتكشف من الحقوق المدنية. أما إذا قال شخص إن خروج المرأة باللباس الذي تريده من حقوقها الشخصية. فنقول إنه رغم ضعف هذا القول للأسباب التي تقدم ذكرها فإن قانون الأحوال الشخصية، لليهود والنصارى مستمد من التوراة والإنجيل رغم تحريفهما، وليس فيهما ما يبيح هذا العري الفاضح والتبرج الجاهلي وفي المجتمع المسلم يعامل أهل الذمة في قانون الأحوال الشخصية بما يبيحه لهم دينهم، أما ما ثبت تحريمه عليهم وعلى المسلمين فيمنع عنه الجميع على حد سواء (¬1). والنصوص الموجودة في الإنجيل بهذا الخصوص تأمر المرأة بارتداء البرقع وتذكر قياسات مختلفة له (¬2). كما أن التوراة قد ذكر فيها أن (ربيكار) قد ارتدت ذات البرقع لأنها كانت محترمة (¬3). ويمكن الاستدلال على وجوب ستر عورة المرأة الكافرة وإخفائها للزينة في المجتمع المسلم هو أن المسلم إذا تزوج الكتابية على رأي من يرى جواز ذلك، يلزمها بالحجاب لأن ترك الحجاب ليس من دينها ولا من دين الإسلام. وعلة النهي عند من يرى كراهية نكاح الكتابيات هو أن الكتابية تتناول ما يحرم على المسلم من خمر أو خنزير، ولم يذكروا أن من علة النهي ¬

_ (¬1) انظر نظرية الإسلام وهديه/ أبو الأعلى المودودي. (¬2) انظر ما قاله (متى) الإنجيل - الكتب المقدسة - طبعات الملك جمر الثاني عشر ج2 ص846 مكان الطبع نيويورك عام الطبع (1946م) (1952م). (¬3) انظر ما قاله مترجم الكتب المقدسة. المصدر نفسه والمكان نفسه.

كونها تخرج سافرة متبرجة بزينتها (¬1). ويضاف إلى تلك الأدلة ما روي أن طلحة بن عبيد الله تزوج بيهودية، وحذيفة بن اليمان تزوج نصرانية فغضب عمر (رضي الله عنه) غضبًا شديدًا للزواج من هؤلاء النسوة الكافرات (¬2) ومعلوم يقينًا أن طلحة وحذيفة لن يتزوجا بنساء متبرجات مبتذلات مائلات مميلات غير ملتزمات بمظهر العفة والفضيلة، حتى ولو كن غير مسلمات، لأن من عادة العرب في الجزيرة فيما سبق المحافظة على العرض والعفة والابتعاد عن أسباب الرذيلة واستعظامهم لهذا الأمر حتى وصلت بهم الغيرة على العرض إلى وأد بناتهم قبل بلوغهن سن الرشد. وبناء على ذلك فليس لأولئك المرتدين أخلاقيًا أي عذر في ترك النساء كاسيات عاريات مائلات مميلات في بلاد المسلمين. إنه لو كانت هناك دولة إسلامية حقة لما سمحت بانتشار تلك الردة الأخلاقية في ديار المسلمين. ولو كان هناك جمهور مسلم يوالي الإسلام ويعادي أعداءه لما رضي بتلك الردة الأخلاقية ولما استكان بذلة وهوان تحت أقدام المتسلطين، من الكفرة الصرحاء والمنافقين العملاء. إن ما تعج به بلاد المسلمين من تفسخ وعرى وتهتك ومجون أمر لا مبرر له سواء كان الفاعل لذلك كافرة أو مسلمة أو كافرًا أو مسلمًا، لأن الإسلام يحارب الفحشاء والمنكر في دار الإسلام أيا كان مصدرها مسلمًا أو كافرًا، ولكن نظرًا لموالاة كثير من السلطات للكفار بما فيها الموالاة الأخلاقية فقد أصبح المسلم في داره كأنه في دار الكفار لما يرى من مظاهر الكفر التي يندى لها جبين كل مسلم غيور. فأحكام أهل الكفر تجري بسفحها ... وقانونهم يعلو بها ظاهرًا يبدو (¬3) فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين. د/ بدران أبو العينين بدران ص49. (¬2) انظر تفسير الفخر الرازي ج6 ص61. (¬3) انظر ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص282.

المثال الرابع: إطلاق يد الكفار في بناء المعابد لهم في بلاد المسلمين

المثال الرابع: إطلاق يد الكفار في بناء المعابد لهم في بلاد المسلمين قبل أن نستعرض ما يقوم به سماسرة اليهود والنصارى في إطلاق يد الكفار في بناء الكنائس وتعميرها في أرض الإسلام والمسلمين، ننظر إلى أقوال فقهاء الإسلام في هذا الشأن حتى يكون القارئ على بينة بما يجوز وما لا يجوز في ذلك فلا ينخدع بما يقوله المضللون في هذا الشأن فيعرف أعداءه وأعداء دينه من خلال ما يقومون به من أعمال تدل على موالاتهم وتبعيتهم للكفار. ومن خلال نظرتي في هذا الموضوع يظهر لي أن حكم بناء الكنائس وتجديدها في ديار المسلمين على ثلاثة أقسام: القسم الأول: البلاد التي أحدثها المسلمون وأقاموها مثل الكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والمعادي وحلوان والقيروان ونحوها من المدن والقرى التي نشأت بعد الفتح الإسلامي لا يجوز فيها إحداث كنيسة (¬1) ولا ¬

_ (¬1) انظر في تعريفها ص622 من هذه الرسالة.

بيعة (¬1) ولا دير (¬2) ولا صومعة (¬3)، لأنها أنشأت في العهد الإسلامي وهي تمثل الإسلام وأهله (¬4). القسم الثاني: البلاد التي فتحها المسلمون عنوة مثل الإسكندرية بمصر والقسطنطينية في تركيا ونحو ذلك من المدن والقرى، فلا يجوز إحداث شيء من البيع والكنائس فيها، وإن كان يجوز ترك ما هو موجود فيها على الرأي الراجح من أقوال الفقهاء، وقال بعضهم بوجوب الهدم لأنها بلاد مملوكة للمسلمين، ولكن الأولى إبقاؤها وعدم تجديد ما خرب منها (¬5). القسم الثالث: ما فتح صلحًا بين المسلمين وبين سكانها. والمختار في ذلك هو ترك ما كان موجودًا بها من كنائس وبيع على ما هي عليه وقت الفتح، ومنع بناء وإعادة ما هدم منها وهو رأي الإمام الشافعي وأحمد (رحمهما الله) إلا إذا اشترط أهل الذمة في عقد الصلح مع الإمام إقامتها فعهدهم يجب الوفاء به (¬6). وحين يتعدى أهل الذمة شروط الصلح فحينئذ يجوز هدم ما بقي منها بناء على نقض العهد من قبلهم، ويظهر من الآثار ¬

_ (¬1) معبد النصارى والجمع بيع. انظر المعجم الوسيط ج1 ص79. (¬2) انظر في بيان معناه ص622 من هذه الرسالة. (¬3) انظر في بيان معناها ص622 من هذه الرسالة. (¬4) انظر المغني والشرح الكبير ج10، ص618 - 620. وانظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص96 - 97. وانظر إجابة الشيخ محمد عبد الله الخطيب في مجلة الدعوة المصرية العدد (56) السنة الثلاثون (430) في صفر 1401هـ، ص40، حول سؤال وجه إليه في حكم بناء الكنائس في دار الإسلام. (¬5) انظر المغني والشرح الكبير ج10، ص618 - 620 وانظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص96 - 97 وانظر إجابة الشيخ محمد عبد الله الخطيب في مجلة الدعوة المصرية العدد (56) السنة الثلاثون (430) في صفر 1401هـ، ص40 حول سؤال وجه إليه في حكم بناء الكنائس في دار الإسلام. (¬6) المصادر السابقة نفس المكان.

الواردة في ذلك أن الإسلام لا يجيز إحداث الكنائس في دار الإسلام، وأن السياسة الشرعية ترمي إلى تقليلها تدريجًا كلما واتت الفرصة إلى ذلك لأنها باطل يجب زواله من دار الإسلام ولذلك ورد في الحديث «لا تبنى الكنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها» (¬1). ولكن كثيرًا من حكام اليوم قد تجاوزوا هذه المسألة كما تجاوزوا غيرها من أحكام الإسلام فبدلاً أن يعمروا المساجد ويعينوا المسلمين على ذلك بدأ هؤلاء الحكام ينظرون إلى المساجد نظرة عداء وكم من المساجد التي هدمت على المصلين في الشام وغيرها من بلاد المسلمين بينما نجد التغافل والتغاضي عن بناء الكنائس وانتشار سدنتها من المكفرين والمفسدين في الأرض، لقد وصل الأمر إلى أن يتزعم بعض الرؤساء المحسوبين من أهل الإسلام بناء الكنائس من بيت مال المسلمين ليقيم شعائر الكفر بعد أربعة عشر قرنًا من تحطيمها وكمثال على ذلك نذكر ما صرح به رئيس مصر (السادات) عندما وقع على وثيقة الاستسلام لليهود والنصارى، دعاه (وليام ميتن دورف) رئيس شركة أمريكية مشهورة جدًا اسمها (تيفاني) ومنح الرئيس المصري جائزة مقدمة من النصارى لمصالحة السادات لليهود، وعند ذلك فكر السادات كيف يرد الجميل؟ فوجد أن أعز شيء لديهم هو أن يقيم لهم الكنائس في مصر في الوقت الذي يسلم فيه الرئيس المصري القدس لليهود - فطلب السادات من (وليام متن) أن يصاحبه إلى مصر حتى يضع معه أساسًا لكنيسة عظمى في جبل سيناء وقد قبل هذا العرض وهو في طريقه للتنفيذ (¬2). إلا أن يشاء الله غير ذلك. ¬

_ (¬1) رواه كثير بن مرة عن علي بن أبي طالب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص620. (¬2) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (479) السنة الحادية عشر في 28/ 6/1400هـ. ص15.

ولم يكتف السادات بذلك بل أصدر قرارًا جمهوريًا سمح بموجبه ببناء خمسين كنيسة لكل عام (¬1) وعلى هذا ستبلغ الكنائس المحدثة خلال عشرة أعوام خمسمائة كنيسة، وعندما اضطرت حكومة السادات لهدم كنيسة تقع في وسط أحد الشوارع الجديدة، قامت ببناء إحدى عشرة كنيسة بدلاً من كنيسة واحدة، ويصرح القانون البلدي في مصر في عهد السادات، أنه لا بد من طلب الترخيص لبناء المساجد وعلى أي مستوى، أما الكنائس فإنها تبنى بدون أي ترخيص (¬2) وليس هذا الأمر خاصًا بمصر وحدها، بل لقد تجاوز الأمر ذلك إلى دبي والفجيرة وأبو ظبي، فقد نشرت مجلة الإصلاح الصادرة من دبي في دولة الإمارات صورة لكنيسة ضخمة في دبي وقالت في تعليقها هذه إحدى كنائس دبي وقد ضاهت في علوها مآذن المساجد في ذلك البلد المسلم. وفي أبو ظبي وضع مخطط لمدينة الرويس النفطية ومن ضمنه تصميم لكنيسة كبرى سوف تقام هناك، وقد وزعت الإرساليات -التبشيرية- في دبي منشورات لجمع التبرعات لهذه الكنيسة التي تعتبر الثانية من نوعها في أبو ظبي (¬3). وفي الفجيرة تجري اتصالات على مستوى كبير للحصول على ترخيص من حكومة الفجيرة لإقامة مجمع يشتمل على بعض الكنائس والمدارس والمراكز التنصيرية (¬4). كل هذا يجري في بلاد المسلمين وخاصة في جزيرة العرب التي قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا» (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق عدد (544) السنة الحادية عشرة في 24/ 11/1401هـ. ص22. (¬2) انظر مجلة الإصلاح عدد (26) جمادى الثانية (1400هـ) ص21. (¬3) انظر مجلة الإصلاح عدد (40) السنة الثالثة رمضان (1401هـ) ص8 - 9. (¬4) انظر مجلة الإصلاح عدد (26) جمادى الثانية (1400هـ) ص13. (¬5) رواه مسلم وأحمد والترمذي. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، م2 ص629 رقم الحديث (924).

أليس هؤلاء الذين يسمحون ببناء الكنائس في بلاد المسلمين عامة والجزيرة العربية خاصة أو يتغافلون عما هو موجود منها قد عظموا أعداء الله أكثر من تعظيمهم لله ولرسوله ولدين الإسلام وأحبوهم أكثر من حبهم لله ورسوله، ولولا ذلك لما عصوا أمر الله ورسوله وأطاعوا أمر المشركين وطلبوا رضاهم بإقامة تلك الكنائس التي هي إظهار للكفر على الإسلام. كيف لا؟ والله عز وجل قد طلب منهم عكس ذلك وهو إظهار الإسلام على الكفر في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (¬1). وأمرنا بالاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (¬2)، وفي الحديث عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصلح قبلتان في أرض وليس على مسلم جزية» (¬3). فبماذا يجيب الذين ينشرون الكنائس والبيع في أرض المسلمين؟ هل أصبح حبهم لليهود والنصارى أعظم من حبهم لله ورسوله والمؤمنين؟ اللهم إننا نبرأ إليك مما يفعله المتسلطون على رقاب المسلمين في موالاتهم لأعدائك وعداوتهم لأوليائك، إنك حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) سورة الصف آية (9). (¬2) سورة الأحزاب آية (21). (¬3) رواه أحمد وأبو داود. انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص219.

المثال الخامس: منح الكفار حرية التنقل والإقامة بين المسلمين

المثال الخامس: منح الكفار حرية التنقل والإقامة بين المسلمين لقد بلغ من تسامح الإسلام مع غير المسلمين المخالفين له في العقيدة، أن يقرهم على السكنى الدائمة كأهل الذمة أو المؤقتة كأهل العهد مع حرية التنقل والإقامة ما لم يخالفوا مقتضى العقد والعهد، إلا أن هناك استثناء من ذلك حيث قسم الفقهاء دار الإسلام إلى أربعة أقسام هي كما يلي: أولاً: المسجد الحرام: أجمع الفقهاء على أن المسجد الحرام لا يجوز أن تطأه قدم مشرك كافر بالأصالة أو بالردة كمعتنقي المذاهب الشيوعية أو البعثية ونحوها، لعموم قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (¬1). وقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا بعد نزول هذه الآية يعلن للناس في ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (28).

الحج «أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» (¬1). ثانيًا: منطقة الحرم وهي مكة وما طاف بها من نصب حرمها: فليس لغير المسلم أيا كان نوع كفره أن يدخلها لا مقيمًا ولا مارًا بها وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة، وخالف أبو حنيفة في ذلك حيث يرى جواز المرور بمنطقة الحرم دون الإقامة فيها ما عدا المسجد الحرام فلا يجوز أن يقربه مشرك وحجته في ذلك أن الآية خصصت المسجد الحرام فلا يتعدى ذلك إلى غيره مما لم يشمله الدليل. ورد القائلون بمنع دخول منطقة الحرم كلها، أن القرآن الكريم نهى غير المسلمين عن اقتراب المسجد الحرام والمقصود به الحرم كله، لا المسجد الحرام فقط، لأنه عبر عن الكل بذكر الجزء المهم فيه (¬2). والراجح في هذه المسألة المنع من دخول منطقة الحرم بكاملها وذلك للأسباب الآتية: 1 - إن الله ذكر تحريم دخول المسجد الحرام ونص عليه صراحة والمسجد الحرام جزء يسير من الحرم كله ولذلك ذهب عطاء إلى أنه يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع (¬3). 2 - وردت أحاديث صحيحة بإخراج اليهود والنصارى من الجزيرة كلها فمن باب أولى أن تشمل منطقة الحرم، حيث ورد في صحيح مسلم ما يؤكد ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) انظر صور من حياة الرسول أمين دويدار ص582. (¬2) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص92. (¬3) انظر تفسير القرطبي ج8 ص104. (¬4) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص222. وانظر الأحكام السلطانية للماوردي ص167.

ثالثًا: سكنى الجزيرة والحجاز لغير المسلمين: الأصل في ذلك ما روي من الأحاديث الدالة على منع سكنى الجزيرة والحجاز لغير المسلمين، حيث روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة» (¬1) وعن ابن عمر (رضي الله عنه) أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا» (¬2) وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت آخر ما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» (¬3) وعن أبي عبيدة بن الجراح (رضي الله عنه) قال: آخر ما تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» (¬4). وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) «أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وذكر يهود خيبر إلى أن قال أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء» (¬5). وظاهر ما تدل عليه هذه الأحاديث وفعل عمر (رضي الله عنه) أنه يجب إخراج المشركين من كل مكان داخل في مسمى جزيرة العرب وقد حدد الخليل (¬6) بن أحمد جزيرة العرب بأنها من بحر الحبشة غربًا إلى بحر ¬

_ (¬1) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج6 ص170 (باب الجهاد) ح3053. (¬2) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم في كتاب الوصية ج3/ 1258 ح1637 ورواه أحمد والترمذي وصححه. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني م2، ص629، رقم الحديث (924) وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص222 وانظر المغني والشرح الكبير ج10، ص613. (¬3) نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص222. (¬4) رواه أحمد. انظر نيل الأوطار ج8ص222. (¬5) رواه البخاري ومسلم. انظر فتح الباري ج6 ص252 وانظر صحيح مسلم ج3 ص1187 - 1188 (باب المساقات - 6). (¬6) هو الخليل بن أحمد بن عمرو بن تمين الفراهيدي، الأزدي، اليحمدي، البصري، (أبو عبد =

فارس شرقًا ومن الفرات شمالاً إلى بحر الهند جنوبًا، وهذا يوافق مفهومنا الجغرافي المعاصر من البحر الأحمر غربًا إلى الخليج شرقًا، ومن أرض العراق شمالاً إلى حضرموت جنوبًا وهذا هو الموافق لنصوص الحديث (¬1). وحدد الأصمعي جزيرة العرب بأنها ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق طولاً ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام، وسميت بجزيرة العرب لإحاطة البحار بها، وهي بحر الهند وبحر القلزم وبحر فارس وبحر الحبشة وأضيفت إلى العرب لأنها كانت بأيديهم منذ القدم (¬2). وقد اختلف العلماء في مسألة النهي عن سكنى الجزيرة والحجاز فمنهم من حمل أحاديث النهي كلها على الحجاز فقط دون بقية الجزيرة العربية ومنهم من حمل أحاديث النهي على مسمى الجزيرة كلها بما فيها الحجاز. وخلاصة القولين كما يلي: القول الأول:- هو قول جماعة من الفقهاء حيث قالوا: إن الذي يُمْنَع المشركون من سكناه من الأرض، هي أرض الحجاز خاصة وهي مكة والمدينة واليمامة وما والاها من قرى وأحياء وذلك لعدة أسباب هي: 1 - إن أكثر الفقهاء قد اتفقوا على أن اليمن لا يمنع أهل الذمة من سكناها مع أنها من جملة جزيرة العرب، وهذا قول الجمهور من الشافعية والحنفية والحنابلة والشيعة الإمامية (¬3). 2 - استدل القائلون بالنهي عن سكنى المشركون للحجاز فقط بحديث أبي ¬

_ = الرحمن) ولد سنة (100هـ) وأصبح نحويًا لغويًا، وهو أول من استخرج علم العروض وحصن به أشعار العرب وتوفي سنة (170هـ) انظر معجم المؤلفين/ ج4 ص112. (¬1) انظر فتح الباري ج6 ص171 وص270 - 272 من نفس الجزء ونفس الكتاب. (¬2) انظر الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص179 - 181. (¬3) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص92.

عبيدة وفعل عمر المتقدمين (¬1). فقالوا: إن عمر (رضي الله عنه) أجلى أهل الذمة من الحجاز فلحق بعضهم بالشام وبعضهم بالكوفة وأجلى أبو بكر (رضي الله عنه) قومًا فلحقوا بخيبر، فاقتضى ذلك أن المراد بالنهي الحجاز لا غير. القول الثاني: قول من يرى أنه يجوز أن يسكن في جزيرة العرب مشرك بعد دخولها في الإسلام وجزيرة العرب هي ما سبق أن أشرنا إلى تحديد الخليل بن أحمد والأصمعي لها، وتحديدهما لها لا يختلف عما هو معروف عند علماء هذا الفن في عصرنا الحاضر سوى الاختلاف في اللفظ من جزيرة العرب إلى شبه الجزيرة العربية وعلى هذا فجزيرة العرب أو شبه الجزيرة العربية لا يجوز أن يسكنها مشرك على هذا القول وحجة أهل هذا القول هي ما يلي: 1 - تواتر الأحاديث الدالة على أنه لا يجوز أن يسكن الجزيرة مشرك ولا يجتمع فيها دينان بعد الإسلام وقد تقدمت هذه الأحاديث برواياتها المختلفة. 2 - إن هذه الأحاديث كما تدل طرق الرواية لها من آخر ما عهد به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة فلم يأت بعدها أحاديث يمكن أن تنسخ العمل بها أو تخصص مفهومها. 3 - إن تخصيص الحجاز من الجزيرة العربية إذا كان ذلك لرعاية مصلحة الأمة، فإن المصلحة في إخراجهم من الجزيرة العربية كلها أقوى وأوجب. 4 - إن حمل الجزيرة على الحجاز إن صح مجازًا من إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء فهو معارض بالقلب وهو أن يقال: إن المراد بالحجاز جزيرة ¬

_ (¬1) انظر ص661 - 666 من هذه الرسالة.

العرب من إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل، فترجيح أحد المجازين مفتقر إلى دليل، ولا دليل يرجح أحد المجازين. 5 - إن في خبر النهي عن جزيرة العرب زيادة لم تغير حكم الخبر الخاص بالحجاز والزيادة في مثل ذلك مقبولة. 6 - إن استنباط علة التقرير في غير الحجاز هي المصلحة، فرع لثبوت الحكم. والأحكام المستنبطة إنما تؤخذ من حكم الأصل بعد ثبوته والدليل لم يدل إلا على نفي وجود المشركين في الحجاز والجزيرة العربية معًا كما في حديث مسلم (¬1) وحديث: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» فاستثناء غير الحجاز واقع في مقابلة النص المصرح فيه بأن العلة كراهية اجتماعي دينين في مكان واحد، فكان مقتضى القياس أنه لو فرضنا أن النص لم يقع إلا على إخراجهم من الحجاز لكان المتعين قياسًا إلحاق بقية جزيرة العرب بذلك لهذه العلة، فكيف والنص الصحيح يصرح بوجوب إخراج كل مشرك من جزيرة العرب. 7 - إن الحديث الذي استدل به من يرى الإخراج من الحجاز فقط حيث ذكر لفظ الحجاز فيه، فيه الأمر بإخراجهم من نجران كما ذكر ذلك في الحديث، وليس نجران من الحجاز، فلو كان لفظ الحجاز مخصصًا للفظ الجزيرة على انفراده، أو دالاً على أن المراد بجزيرة العرب الحجاز فقط لكان هذا إهمالاً لبعض الحديث وإعمالاً لبعضه الآخر وهذا باطل. 8 - إن غاية ما في حديث أبي عبيدة الذي صرح فيه بلفظ أهل الحجاز هو أن مفهومه معارض لمنطوق ما في حديث ابن عباس المصرح فيه بلفظ جزيرة العرب والمفهوم لا يقوى على معارضة المنطوق فكيف يرجح عليه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ص661 من هذه الرسالة. (¬2) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص222 - 225.

والذي أطمئن إليه مما تقدم فيما يتعلق بالحرم والحجاز والجزيرة العربية هو أن يعاملوا على النحو التالي:- 1 - منطقة الحرم كلها لا يجوز أن يدخلها مشرك سواء كان مسافرًا أم مقيمًا لدلالة النصوص المتقدمة على ذلك، وأرى ضعف ما ذهب إليه الأحناف، من جواز دخول الحرم عدا المسجد الحرام دخولاً مؤقتًا، لأن قولهم هذا عن اجتهاد ولا اجتهاد مع النص. 2 - منطقة الحجاز والجزيرة العربية كلها يجوز للذميين والمستأمنين دخول الحجاز والجزيرة العربية بصفة مؤقتة، حيث كان النصارى يتجرون في زمن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بالمدينة وكان يضرب لمن قدم منهم تاجرًا مدة معلومة يلزمه مغادرة المدينة بعد انقضائها وهذا ما صرح به الحنابلة والشافعية والزيدية (¬1). ولعل هذا لا يتعارض مع منطوق الأحاديث التي تنهى عن دخول الحجاز وجزيرة العرب بحمل دلالة هذه الأحاديث على أن المراد بذلك السكنى الدائمة، لا المرور العابر أو الإقامة المؤقتة لعمل ما. ولذلك فإنني مع من يقول بعدم جواز التصريح بالإقامة المستمرة في الحجاز والجزيرة العربية لغير المسلمين عملاً بظاهر الأحاديث الدالة على ذلك وما حصل من تقرير في إقامة أهل الذمة في اليمن وسواد العراق والشام، فإنما كان عن اجتهاد من الصحابة (رضي الله عنهم) ولمصلحة رأوا العمل بها في حينها مؤقتًا، وهو لا يعني أن هذا هو قرارهم النهائي في هذه المسألة، وأن إقرارهم لذلك إقرارًا نهائيًا. فقد روى الإمام أحمد أن عمر بن عبد العزيز أمر نائبه في صنعاء أن يهدم جميع الكنائس في اليمن فهدمها في صنعاء وغيرها من المدن، وكذلك فعل هارون الرشيد حيث أمر بهدم ما كان موجودًا في سواد بغداد، وكذلك فعل المتوكل حيث استفتى العلماء ¬

_ (¬1) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص93.

لديه ثم بعث بفتواهم إلى الإمام أحمد بن حنبل لأخذ موافقته على ذلك فأجابه بالموافقة على هدم كنائس سواد العراق (¬1). ولذلك فإن من أنواع الخطأ الفاحش الذي تقع فيه الدول المعاصرة هو منح المشركين على اختلاف أنواعهم التصريح بالإقامة المستمرة في دول الجزيرة العربية، وذلك بمنح جنسيات تلك الدول إلى حثالة اليهود والنصارى وأهل الأوثان بينما كثير من الدعاة إلى الله، لا يجدون ملجأ أو مغارة يأون إليها ويحتمون بها من جبروت المتجبرين واضطهاد الظالمين. أحرام على بلابله البوح ... حلالاً للطير من كل جنس!! رابعًا: سكنى المشركين وإقامتهم الدائمة خارج الجزيرة العربية: فيرى جمهور العلماء جواز إقامة أهل الذمة إقامة مستمرة خارج حدود الجزيرة العربية من دار الإسلام وذلك وفق شروط أهل الذمة التي بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطبقها أصحابه، بحيث لا يصدر منهم ما يضر بصالح الإسلام والمسلمين، والمستأمنين يلزمهم ذلك بموجب عقد الأمان وإن كان البعض من علماء الإسلام يرى إخراج كل مشرك من كل بلد غلب عليها المسلمون عنوة، ولم يكن بالمسلمين حاجة وضرورة ملحة إلى بقائهم وقالوا إن ذلك لا يختص بجزيرة العرب، وإنما خصها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك لأنها هي التي كانت تخضع للمسلمين حين وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو رأي الإمام الطبري (¬2). والراجح أن ما عدا الجزيرة العربية والحرم يرجع ذلك إلى ما يراه الإمام وأهل الحل والعقد في الأمة، وما تقتضيه السياسة الشرعية ومصلحة الأمة في إبقاء أهل الذمة وأهل العهد أو إخراجهم من دار الإسلام عند ترجيح أصلح الأمرين في حق الإسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) انظر شرح الشروط العمرية/ تأليف ابن قيم الجوزية/ تحقيق صبحي الصالح ص29 - 30. (¬2) انظر فتح الباري ج6 ص270 - 272.

ولكن شتان بين ما هو كائن وما يجب أن يكون فقد غزت جمعيات التنصير معظم البلاد الإسلامية بمسميات ظاهرة وخفية، جاعلة نصب عينيها إخراج المسلمين عن الإسلام، وإذا تجاوزنا البلاد الإسلامية التي يوجد بها كثافة سكانية من المسلمين وقلة من غير المسلمين كمصر وأندونيسيا وباكستان، إلى البلاد التي في الأصل سكانها مسلمون مائة في المائة ولا يسكنها إلا قلة من غير المسلمين كالإمارات العربية في الخليج فإننا نجد بها (54) أربعًا وخمسين بعثة تنصيرية بين إنكليزية وأمريكية، وفي الكويت مجلس اتحاد الكنائس لدول المنطقة رغم أن موقع الكويت وغيرها من دول الخليج داخل في مفهوم الجزيرة العربية ويشمله النهي الذي نهى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إقامة المشركين في الجزيرة العربية، وقد بلغت نسبة غير المسلمين في دول الخليج 30% ثلاثين في المائة بالنسبة إلى المسلمين أي ما يقارب المليون من الكفرة المشركين حيث إن مجموع عدد سكان دول الخليج (3.146.078) ونسبة غير المسلمين منهم ما يعادل الثلث حسب إحصائية تفصيلية نشرتها مجلة المجتمع الكويتية (¬1). فهل هذه النسبة العالية من غير المسلمين في صالح الإسلام والمسلمين؟ وهل يرضى مثل هذا العمل رب العالمين، في الوقت الذي يموت فيه ملايين المسلمين من الفقر والحاجة والحرمان؟ ومما تقدم يدرك المسلم خطورة ما نحن فيه في عصرنا الحاضر من استقدام مئات الآلاف من أهل الكفر والضلال وتوزيعهم في مختلف البلاد الإسلامية وهذا أمر له خطورته من وجهين. الوجه الأول – إن ذلك التعاون المطلق مع الكفار معصية يحاسبنا الله عليها، وإن ملء البلاد الإسلامية بالكفار عمل بعكس ما أمر الله به من إخراج المشركين من جزيرة العرب، وأكثر الذين يسرحون ويمرحون في ديار ¬

_ (¬1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (553) الثلاثاء صفر 26/ 2/1402هـ. ص20 - 23.

المسلمين لا مبرر لوجودهم من وجهة النظر الإسلامية، لإمكان استبدالهم بملايين المسلمين العاطلين عن العمل في مشارق الأرض ومغاربها والذين يشكلون بمجموعهم اكتفاء ذاتيًا في معظم مجالات العمل ومتطلبات الحياة. ولكن نظرًا لموالاة كثير من ولاة الأمر في البلاد الإسلامية للكفار فقد أصبحوا يتنافسون في استقدام الكفار واتخاذهم بطانة لهم من دون المؤمنين، بل إن ندماءهم وخلانهم وأهل ثقتهم وأمناء أسرارهم، هم من الكفار وأشباه الكفار. وهذا دليل كاف على إدانة أولئك المسئولين وتوليهم لأعداء الله ومحبتهم لهم وقد ورد في الحديث الصحيح «المرء مع من أحب» (¬1). الوجه الثاني: إن بلاد المسلمين وخاصة جزيرة العرب مستهدفة قبل غيرها من قبل أعداء الإسلام لسببين. 1 - أنها منبع الإسلام ومطلع النور الذي بدد غياهب الجهل والظلم في العالم أجمع، ولذلك يخشى الأعداء من أن تشرق شمس الإسلام من جديد فتذهب ليلهم الحالك الذي يجدون في ظلمته كل مسوغات الاستعباد والتسلط على المسلمين. ولذلك يسعون ليل نهار لمحاصرة التحرك الإسلامي في كل مكان وضربه قبل اشتدد عوده حتى لا تقوم للإسلام قائمة. 2 - إن دول الجزيرة قد حباها الله من نعمة الظاهرة والباطنة مما لا يعلمه إلا الله ومكنها من أن يكون مفتاح إنارة العالم كله بيدها ولكنها لم تمارس دورها القيادي كما يجب في الربط بين قوة الطاقة وقوة وعظمة الرسالة وجعل أحدهما مكملاً للآخر، بل لقد سلبت الأمرين معًا بأبخس الأثمان. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: انظر صحيح مسلم ج4 ص2032 (باب البر والصلة) رقم الحديث (2641).

وقد يسأل سائل فيقول: ما هو المخرج من واقعنا المؤلم الذي نعيش فيه؟ والجواب كما أعتقد وأرى أنه يجب علينا سلوك الطرق التالية: أولاً: التعاون الجاد الصادق مع المسلمين المخلصين الموحدين الذين يمثلون حقيقة الإسلام وجوهره، لا مع المسلمين المزيفين ولا مع الحكومات التي تعمل ضد الإسلام والمسلمين. إن من الجهل المركب أن يعتقد شخص أو جماعة أو دولة أنه من الممكن شراء ولاء الناس ومودتهم بالمال والمنافع المادية، فهو وإن حصل ذلك في بعض الظواهر المؤقتة فإن نهاية ولاء من أحبك على مصلحة يكون بفقدها عدوًا، ولذلك نرى كثيرًا ما تنقلب الصداقة عداوة بين كثير من الأفراد والجماعات والدول وقد يحصل العكس نظرًا لعدم وجود ضابط من الدين والعقيدة السليمة يحكم تلك العلاقات مسبقًا فالمحبة في الله والمودة في سبيله أقوم وأبقى ولذلك قال تعالى: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (¬1). وقد أمر الله بالتعاون مع المسلمين وتفريج الكربات عنهم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة» (¬2) أليس من الأفضل تهيئة العمل الشريف المبني على الأخوة في الله لإخواننا في مشارق الأرض ومغاربها؟ بدلاً من أن نتركهم يرتمون في أحضان دعاة الكفر وسماسرة الفاتيكان وجمعيات أهل الصليب، بينما بطون الكفار تصاب بالتخمة من خيرات المسلمين في داخل بلاد المسلمين وخارجها. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (63). (¬2) متفق عليه. انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1، ص257 رقم الحديث (246) (باب قضاء حوائج المسلمين).

إن مما يجب على ولاة المسلمين الصادقين أن لا يستقدموا كافرًا وهم يجدون ما يسد مسده من أهل الإسلام إن استقدام الكفرة إلى ديار الإسلام وخاصة جزيرة العرب معصية لله ورسوله، ومخالفة لنهج الخلفاء الراشدين كما تقدم بيان ذلك (¬1). ثانيًا: إن في المجتمع الإسلامي الكبير طاقات فنية وقدرات علمية تجعل المسلمين لديهم اكتفاء ذاتيًا في معظم المهن والعلوم بحيث تصبح الحاجة إلى الكفار في شبه النادر والقليل ولكن أين من يهتم بذلك ويسعى لتطبيقه في واقع المسلمين، لقد فتحت كثير من الدول الباب على مصراعيه لدخول الكفار بطرق مختلفة وأسباب متباينة، حتى امتلأت بلاد المسلمين بسيل جارف من هؤلاء الكفار رجالاً ونساءً، فأصبح المسلم لا يكاد يرى بينهم إلا نادرًا، وصار المسلم في بلده غريبًا، حتى أن الواحد منا إذا دخل بعض المحلات التجارية لدينا وجد كل شيء مصبوغًا بصبغة الكفار ووجد الباعة من الكفار والمشترين منهم كذلك وكأن المحل في لندن أو باريس أو نيويورك أو طوكيو أو بكين، كأنه ليس في بلدة من بلدان المسلمين. إن الكفار وخاصة النصارى منهم يركزون هذه الأيام على الهجرة إلى البلاد الإسلامية، لإفسادها ومحاولة تنصير المسلمين فيها. فقد عقدوا مؤتمرًا كنيسيًا في أمريكا لتنصير المسلمين في ولاية كولورادو، تم فيه مناقشة أربعين بحثًا عن خطط التنصير وبرامج التكفير في البلاد الإسلامية، واتخذوا عدة قرارات وتوصيات، كان من أهمها في هذا الموضوع قولهم: «يجب بذل الاهتمام الكافي والتركيز بقوة على زرع جاليات مسيحية في قلب العالم الإسلامي» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ص660 - 666 من هذه الرسالة. (¬2) انظر المجتمع الكويتية عدد 525 في 16/ 6/1401 هـ ص30.

فهل نترك لهم تحقيق هذه الفرصة التي يطمحون إليها بكل شوق؟ إن الإسلام لا يخشى من تواجد غير المسلمين في دار الإسلام لو كان المسلمون متمسكين بإسلامهم، عاملين بحقيقة الإسلام. أما تمكين الكفار في بلاد المسلمين، في الوقت الذي يعيش فيه المسلمون بلا هوية أو عقيدة تربطهم بالإسلام الصحيح فإن ذلك خيانة وموالاة لأعداء الله وأعداء رسوله، ومحاربة للإسلام والمسلمين. فهل يعي المجازفون بمصيرهم ومصير أمتهم إلى الهاوية هذا الخطر، بعد أن أثبت التاريخ أن قلب الجزيرة العربية هو أسلم البلاد الإسلامية بسبب ندرة تواجد الكفار فيه في سالف الأزمان. ثالثًا: العمل على إقصاء المنافقين والمرتدين من شيوعيين وبعثيين (¬1) ونحوهم عن مراكز التوجيه ومقاليد السلطة في الأمة الإسلامية. فمن ظهرت منه علامات النفاق كبت نفاقه في قلبه ومن ظهرت منه علامات الردة باعتناق المذاهب الكافرة نفذ فيه حكم الله لأن هؤلاء جميعًا مدخل خبيث لأعداء الإسلام، وسلم لدخول الكفار إلى بلاد المسلمين واستباحة حماها. رابعًا: العمل على إحياء الدعوة الإسلامية، وإطلاق يد الدعاة إلى الله في أن يدعوا بكل حرية ونشاط ليوجدوا البديل الصالح بدلاً من أنصاف المسلمين وركام المنافقين الذين هم عالة على أنفسهم وعلى أمتهم جميعًا. ¬

_ (¬1) يقول ميشيل عفلق: (إن حزب البعث مدين للماركسية في جانبه الفلسفي وبرنامجه الاشتراكي) اهـ. انظر التبشير والاستعمار ص257 وهذه شهادة لا يستهان بها على كفر من ينهج منهج الأحزاب البعثية أو ينضم إليها ويواليها، خاصة وأنها شهادة صادرة من مؤسس حزبي البعث في سوريا والعراق، فهل يعي المخدوعون بأنه لا تعارض بين حزب البعث ودين الإسلام؟ بعد صدور الشهادة على كفرهم من كبيرهم الذي علمهم الكفر قال تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) سورة التوبة آية (17).

وقد يقول قائل: ما هو الخطر الذي يهدد المسلمين من وجود الكفار بينهم وهل حصل شيء من ذلك فيما مضى يوجب الخوف منهم مستقبلاً؟ والجواب أن نقول: ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) حيث يقول: «لقد رأينا المسلمين الذين عاشروا اليهود والنصارى هم أقل إيمانًا من غيرهم، ممن عاشوا مع المسلمين الخالصين من الشرك» (¬1). فإذا كان هذا ما رآه شيخ الإسلام قبل سبعة قرون فما بالك لو رأى ما وصلت إليه البلاد الإسلامية التي يوجد فيها أقليات غير إسلامية من فساد وردة وانحلال، لقد أثبت الواقع التاريخي أن البلاد التي بقيت فيها أقليات غير إسلامية كمصر والشام والعراق قد سبقت غيرها من بلاد الإسلام إلى الفساد وهو أمر مشاهد معلوم، ولا يعني هذا أن البلاد داخل حدود الجزيرة العربية سليمة نقية ولكنها ستكون في آخر القائمة بعد تلك الديار إن لم يتدارك الله الجميع برحمته، ودليل آخر أثبت أن كثرة الفساد تكثر حيث يكثر الكفار، ذلك أن البلاد التي دخلها الاستعمار العسكري بعد القضاء على الدولة الإسلامية أشد تأثرًا بالفساد من البلاد التي بقيت تحتفظ باستقلال محدود عن الكفار في الجزيرة العربية. فكيف وهذه التجارب ماثلة أمامنا لم نتعظ ولم نعتبر بل لقد وصل الأمر إلى أن نصدر لهم أبناءنا كما يصدرون لنا الماشية من الأنعام ونستقدم الكفار كاستقدامنا لبقية السلع الاستهلاكية سواء بسواء، فضاع معظم أبنائنا في الخارج وقضى الوافدون من الكفار على معظم البقية الباقية منهم في داخل بلاد المسلمين فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ تأليف الشيخ سليمان بن سحمان الدوسري ص43 الورقة (22). مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (3413).

المثال السادس: تمليك الكفار لما يتخذونه موضعا لمعصية الله

المثال السادس: تمليك الكفار لما يتخذونه موضعًا لمعصية الله الأصل أنه لا يقر في البقاء في دار المسلمين من المشركين سوى أهل الذمة، أما أهل الأوثان والمرتدون فلا يصح بقاؤهم في دار الإسلام فضلاً عن تملكهم ولكن الحكم الشرعي شيء وواقعنا المعاصر شيء آخر. ففي واقعنا المعاصر لا يوجد أهل الذمة بالمفهوم الشرعي المتعارف عليه عند فقهاء المسلمين، ولذلك فإن ما نكتبه لا يتعدى مخيلة بعض المتعلمين أو بطون الكتب، أما الواقع العملي فبينه وبين الإسلام بون شاسع بحيث لا يفكر معظم المسلمين في مثل تلك القضايا من قضايا الإسلام، ولكننا نبين ما يجب أن يكون عليه المسلمون إذا أرادوا الإسلام أو رجعوا له فنقول: إن مسألة تملك العقار من قبل أهل الذمة في دار الإسلام مسألة تحدث فيها الفقهاء بين الجواز والمنع على قولين:

القول الأول: ذهب كثير من فقهاء البصرة إلى القول بجواز بيع الأرض من المسلم إلى الذمي. قال بذلك أبو حنيفة وأبو يوسف ويروى ذلك عن الحسن بن صالح وأبي عبيد، وهو مذهب الثوري والشافعي (¬1). وحجة هؤلاء هو قياس بيع العقار من مساكن ومزارع ونحو ذلك على جواز بيع السوائم، وهو قياس مع الفارق حيث إن السوائم منفعتها وذواتها محدودة الوجود سريعة الانتقال والزوال بخلاف العقار فإن ذاته ومنفعته تبقى مدة طويلة غير محدودة. والأمر الثاني: أنهم استدلوا بأن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) دفع الأرض المفتوحة عنوة في سواد الكوفة ومصر والشام وخراسان لأهلها بعد تمليكها من قبل الدولة الإسلامية وجاز بيعهم تلك الأرض للمسلمين، فلو لم يكونوا قد ملكوها بوضع اليد عليها لما جاز بيعهم لها (¬2). القول الثاني: وهو قول الإمام مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وقول عامة أهل الحجاز، ويروى عن ابن القاسم وهو ما ذهب إليه ابن قيم الجوزية، من أنه لا يجوز أن يترك الذمي يشتري أرض المسلم في دار الإسلام من مساكن ومزارع لأن في شرائها ضررًا على المسلمين، حيث إن الأصل أن يقر أهل الذمة على ما كانوا عليه من غير تعد منهم إلى الاستيلاء فيما ثبت للمسلمين الحق فيه من عقار ونحوه، قال تعالى: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا) (¬3) فكيف بعد أن أورثنا الله أرضهم نرجعها إليهم، ولذلك رجح الشافعي وأبو عبيد وطائفة من ¬

_ (¬1) انظر المغني والشرح الكبير ج2 ص593 وانظر أحكام أهل الذمة ج1 ص141 - 149. (¬2) انظر الخراج في الفقه الإسلامي رسالة ماجستير مقدمة من/ حمود بن مرشد السليمان ص167. (¬3) سورة الأحزاب آية (27).

أصحاب أحمد والمشهور عند أصحاب مالك، أن أهل الذمة لا يمكنون من شراء الأرض أو اكترائها من المسلمين (¬1). وإنما أقروا في الإقامة بدار الإسلام بالجزية للضرورة العارضة والحكم المقيد بالضرورة، مقدر بقدرها لا يتعدى إلى كل شيء ولذلك أجاب أصحاب القول الثاني وهم القائلون بمنع بيع أرض المسلم إلى الذمي على ما احتج به أصحاب القول الأول بعدة إجابات هي كما يلي:- أ- ما فعله عمر (رضي الله عنه) في مشاورته لمعاذ بن جبل (رضي الله عنه) في قسمتها بين الفاتحين أو وضع الخراج عليها يدل على عدم ملكية أصحابها لها في ذلك الوقت حيث أشار معاذ بقوله: «إنك إن قسمتها صار الربع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة الواحدة، ثم يأتي بعدهم قوم يسدون في الإسلام سدًا وهم لا يجدون شيئًا، فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم» (¬2). ب- أما بيعهم لها بعد ذلك فيحتمل أنهم أسلموا وهذا هو الحاصل في سواد العراق ومصر والشام وخراسان، والإسلام عصمة للنفس والمال كما في الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (¬3). وقد روى البيهقي أن امرأة أسلمت من أهل نهر الملك قال: فقال ¬

_ (¬1) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص141 - 148. (¬2) انظر السنن الكبرى للبيهقي ج9، ص137 - 139. (¬3) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج1 ص75.

عمر أو كتب عمر (رضي الله عنه): إن اختارت أرضها وأدت ما على أرضها فخلوا بينها وبين أرضها، وإلا خلوا بين المسلمين وبين أراضيهم (¬1)، وروي عن أبي عون الثقفي قال: إن عمر وعليًا (رضي الله عنهما) كانا إذا أسلم الرجل من أهل السواد تركاه يقوم بخراجه في أرضه (¬2)، وروي أن عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن – فذكره فقال فيه: ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض (¬3). ولحديث «من أسلم على شيء فهو له» (¬4). وقد يكون البيع الحاصل من أهل الذمة على افتراض حصوله بيعًا لنصيبهم من المنفعة الناتجة من الأرض لا بيعًا للأرض ذاتها وعلى هذا إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال. والرأي الراجح هو عدم جواز بيع العقار من مساكن ومزارع ونحوها لأهل الذمة أو لغيرهم من أهل الكفر وخاصة داخل حدود الجزيرة العربية فإنه محرم بالنصوص الثابتة كما تقدم (¬5) ذلك لأن بيعهم العقار يترتب عليه إقامتهم فيها إقامة دائمة وهذا يتعارض مع النهي عن بقاء المشركين في جزيرة العرب، ولذلك فإن من يسمح أو يرضى بتملك المشركين للعقار في داخل الجزيرة العربية يكون مخالفًا لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مواليًا لأعداء الإسلام أما ما يقع خارج الجزيرة العربية من بلاد المسلمين فإن النهي عن بيع العقار للكفار نهي تحريم على رأي جمهور العلماء منهم الإمام مالك وأهل المدينة والإمام أحمد وهو ما ذهب إليه الطبري ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6). ولذلك لم يثبت أحد من السلف حق الشفعة للذمي على ¬

_ (¬1) انظر السنن الكبرى للبيهقي ج9 ص141. (¬2) المصدر السابق نفس المكان. (¬3) المصدر السابق نفس المكان. (¬4) انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص482. (¬5) انظر ص660 - 666 من هذه الرسالة. (¬6) انظر اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم ص242 – 244 وانظر فتح الباري ج6 ص270 - 272.

المسلم وقال الإمام أحمد في تعليل ذلك إن الشخص الذي يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعة الذمي نكون قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى الذمي بطريق القهر للمسلم وهذا خلاف الأصول. ولهذا نص أحمد على أن البائع للشخص إذا كان مسلمًا وشريكه ذميًا لم يجب له شفعة، لأن الشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر، وهي من الحقوق التي تجب على المسلم للمسلم كإجابة الدعوة، وعيادة المريض ونحو ذلك، وهذا كله عن أحمد مخصوص بالمسلمين دون غيرهم (¬1). وقال أبو حنيفة وبعض فقهاء البصرة: إن بيع العقار للذميين جائز مع الكراهية (¬2). وقد ذكرنا حجتهم وحجة القائلين بالرد عليهم، والذي أطمئن إليه وأرجحه في ذلك هو عدم جواز بيع العقار لغير المسلمين في دار الإٍسلام لأن في ذلك تثبيتًا لأقدامهم وضمانًا لاستمرارهم والأولى أن يضيق عليهم فيسلموا أو تضيق بهم دار الإسلام فيرحلوا إلى أجناسهم من الكفار عند عدم وجود ما يربطهم بالأرض من مساكن ومزارع ونحو ذلك. ومما يؤسف له أن بعض الدول الخليجية قد منحت جنسيتها إلى بعض الكفار مما جعل لهم الحق في شراء العقارات وتعميرها كما أنها أعطت البعض الآخر منهم قروضًا كي يعمروا بها مساكن فخمة رغم أن دخولهم عالية جدًا بينما يوجد من ضعاف المسلمين من يسكنون الأعشاش والطين، وهم ينتمون إلى هذا الدين وإلى هذه البلاد أبًا عن جد. وفي مصر والشام يقدم الكفار على المسلمين في تمليك الأراضي والمساكن فضلاً عن أن يتساووا معهم في ذلك، وقد استغل اليهود هذا ¬

_ (¬1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص243. (¬2) انظر المغني والشرح الكبير ج2، ص593 وانظر أحكام أهل الذمة ج1 ص141 - 149.

الأسلوب فتملكوا معظم الأراضي الفلسطينية قبل بدء الاحتلال الفعلي فقبل فترة الانتداب البريطاني استطاع اليهود أن يملكوا بالشراء النقدي (650) ألف دونم بمساعدة أصحاب الملايين من الغرب وفي عهد الانتداب استطاع اليهود أن يحصلوا على (2.075.000) مليونين وخمسة وسبعين ألف دونم (¬1) وهذا الأسلوب الذي اتبعه اليهود في فلسطين هو الأسلوب الذين يريدون تكراره في عملية السلام والانفتاح على مصر وغيرها من الدول المجاورة لانتزاع مواقع قدم لهم فيها يساعدهم على تثبيت الغزو العسكري عندما تحين الفرصة لذلك. فمن الواجب على كل مسلم فردًا كان أو حاكمًا أن لا يبيع شبرًا من أرض الإسلام والمسلمين لكافر مهما كانت صفته ومنزلته، لأن ملكية المسلم للأرض ملكية اسمية، وملكيتها الحقيقة للإسلام وللمسلمين الذين طهروها بدمائهم الزكية من درن الكفر وتسلطه عليها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية/ عبد الله التل ص250 - 264. (¬2) انظر ص660 - 666 من هذه الرسالة.

المثال السابع: تأجير الأماكن والذوات لمن يتخذها هدفا لمعصية الله

المثال السابع: تأجير الأماكن والذوات لمن يتخذها هدفًا لمعصية الله الأصل في الإجارة الإباحة لأنها عقد على منفعة مباحة بعوض معلوم (¬1). فقد اشترط الفقهاء أن تكون المنفعة التي يريد المستأجر الانتفاع بها من العين المؤجرة مباحة، فلا تصح الإجارة على نفع محرم. كأن يؤجر داره مكانًا للزنا أو الغناء. أو تتخذ كنيسة أو لبيع الخمر ونحوه من المحرمات (¬2). ومالك العين المؤجرة قد يكون دولة أو فردًا من الأفراد وفي كلا الحالين يشترط في العين المؤجرة أن ينتفع بها في منفعة مباحة، فلو أجرت دولة أرضها أو جزءً من أرضها لدولة كافرة لكي تستخدمها قاعدة لضرب الإسلام والمسلمين فإن هذا العقد باطل من أساسه والمنفعة المترتبة على ذلك محرمة وهذا العمل بحد ذاته موالاة للكفار ومحادة لله ولرسوله وللمؤمنين وهذا للأسف ما تتبعه بعض الدول التي تدعي الإسلام، حينما ¬

_ (¬1) الروض المربع/ منصور بن يونس البهوتي ص214. (¬2) المصدر السابق ص215.

تعقد اتفاقًا مع بعض الدول الكافرة، فإن تلك الدول تشترط على الدول التي تدعي الإسلام أن تسمح لها بوضع قواعد عسكرية فيها، والهدف من ذلك هو حماية المصالح الاستعمارية لها في العالم الإسلامي، ومساعدة بعد أدعياء الإسلام حين يضرب بعضهم البعض الآخر لإضعاف الخصمين والاستيلاء عليهم في النهاية كما حصل للمسلمين في الأندلس من قبل النصارى (¬1). وما علم أولئك الذين باعوا أنفسهم وأمتهم للكفار. إن مسئولية الحاكم المسلم عما يدخل بلاده من الكفار كمسئولية صاحب البيت عما يدخل بيته من أفراد فلا يجوز للحاكم العدل أن يجعل بلاد المسلمين أو بعضها تحت تصرف الكفار لكي يجعلوها قاعدة ينطلقون منها لضرب بعض المسلمين وإلحاق الضرر بهم كما لا يجوز تخصيص بقعة معينة في دار الإسلام تكون مخصصة للكفار يزاولون فيها جميع أنواع الفسق والفجور التي تجري في بلادهم. ولكن للأسف أن الواقع خلاف ذلك فقد وافقت مصر على منح الولايات المتحدة الأمريكية حق تطوير قاعدة رأس بنياس مقابل مساعدات عسكرية قيمتها (1650) مليون دولارًا لكي يصبح هذا الموقع قاعدة دائمة للولايات المتحدة لحماية مصالحها وتهديد مصالح المسلمين وضرب بعضهم ببعض، كما وافق سلطان عمان على أن تستعمل الولايات المتحدة قاعدة بريطانية قديمة في جزيرة مصيرة، وعلى تحسين قاعدة (سيب) التي تقع في مدخل مضيق هرمز وذلك بحجة مقاومة القواعد السوفيتية في عدن وسوريا وليبيا وغيرها من البلاد العربية (¬2). وبالتالي فقد أصبحت بعض البلاد الإسلامية مقسمة إلى قواعد ¬

_ (¬1) انظر ظهر الإسلام أحمد أمين ج3 ص7. (¬2) انظر مجلة المجتمع عدد 522 السنة الحادية عشرة في 25 جمادى الأولى 1401هـ، ص34 - 36.

عسكرية بعضها تابع للشرق وبعضها تابع للغرب وهذا الوضع يفقدها شخصيتها واستقلالها الحقيقي وتمكين للكفار أن يضربوا المسلمين بعضهم ببعض فيحطموا الجميع ثم يقتسموا الغنيمة كما فعلوا إبان الحرب العالمية الثانية. ومن التأجير المحرم ما يفعله بعض المسلمين من تأجيرهم دورهم لمن يتخذونها موضعًا لمعصية، ولقد حرم الإسلام على المسلم أن يقدم أي نوع من التعاون للكفار فيما يترتب عليه معصية الله ومعصية رسوله قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (¬1) وقد سئل ابن سيرين (رحمه الله) عن رجل يبيع داره أو يؤجرها من نصراني يتخذها بيعة أو كنيسة، فتلا قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (¬2) فعد بيع الدار وتأجيرها على الكفار الذين يتخذونها موضعًا لعصيان الله، بجعلها كنيسة، أو مكانًا لبيع الخمر أو مزاولة البغاء فيها ونحو ذلك، موالاة للكفار، يستحق على ذلك الوعيد ما يلحق من تولي الكفار (¬3). وقال القاضي من أصحاب الإمام أحمد (رحمه الله) لا يجوز أن يؤجر المسلم داره أو بيته ممن يتخذه بيتًا للنار كالمجوسي أو كنيسة مثل اليهودي والنصراني، أو مكانًا تباع فيه المحرمات وترتكب فيه الفواحش، سواء اشترط المستأجر ذلك أو لم يشترط لكنه يعلم أنه سيفعل فيه ذلك. وعلى هذا فقد ألحق أصحاب الإمام أحمد الإجارة في حكم البيع مع اختلافهم في قول الإمام أحمد بالمنع. ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (2). (¬2) سورة المائدة آية (51). (¬3) انظر الكلام المروي عن ابن سيرين في رسالة مخطوطة من ثلاث ورقات بعنوان: تحذير من ينتمي إلى الإسلام من الاحتماء بأعداء الملك العلام/ جمع علوي بن أحمد بن عبد الرحمن السقاف نسخت عام (1299) توجد في قسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1150).

هل يعني ذلك الكراهية، أم التحريم؟ والراجح والله أعلم إن كان اتخذها للمعصية في أمر ظاهر فذلك محرم على المسلم بيعها أو تأجيرها لمن يتخذها للمعصية عملاً بقوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (¬1). وإن كان حصول المعصية فيها محتملاً وقوعه في الخفاء فإن النهي عن ذلك للكراهية لا لعدم التأكد أو ظهور شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة يجوز أن يؤجرها لكافر ولو حاصل منه معصية لله فيها ودليله في ذلك أن الأجرة مقابل المدة الزمنية بالأجرة لا تستحق بفعل هذه الأشياء أو عدم فعلها كما لو اكترى دارًا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تلزم المستأجر، وإن لم يفعل ذلك فيها. وخالفه عامة الفقهاء، وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت عليه الأجرة لأن الأجرة مقابل أن ينتفع بها في مباح لا في محرم والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن عاصر الخمر ومعتصرها والعاصر إنما يعصر عصيرًا مباحًا، ولكن إذا رأى أن المعتصر سوف يتخذ خمرًا وعصره لذلك، استحق اللعنة وهذا أصل مقرر في الشريعة الإسلامية (¬2). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها، ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» (¬3). وبناء على ذلك فإن كل من يشارك في تهيئة محرم وتيسيره للناس داخل تحت هذا الوعيد وذلك مثل بائعي المخدرات ونحوها، أو أصحاب محلات بيع وتأجير الأغاني ويلحق بذلك المغنيات والممثلات العاهرات ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (2). (¬2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم - ابن تيمية ص232 - 237. (¬3) رواه أبو داود وابن ماجه. انظر سنن أبي داود ج3 ص326، وانظر سنن ابن ماجه، ج2 ص330.

والأشرطة الخليعة ويدخل في ذلك أصحاب المجلات الداعرة والكتب الهدامة، فإن كل هذه الأعمال والمشاركة فيها والإعانة عليها جريمة يؤاخذ عليها المسلم في الدنيا والآخرة (¬1). فيجب على المسلم الغيور على دينه وأمته أن لا يتعامل بمثل هذه الأعمال ولا يعامل من يتعاملون بها، ولو دفعوا في ذلك عوضًا كثيرًا، فإن طلب رضا الله مقدم على كل شيء ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه ولكن للأسف فإن واقع المسلمين بعيد عن ذلك كل البعد فقد أصبح المسلمون يتسابقون إلى اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار القادمين إلى البلاد الإسلامية، كل يعرض عليهم تأجير ما يملك بغض النظر عما يرتكبون في تلك المساكن من كفر وفساد ظاهر وخفي، فالموالاة للمال والمعاداة فيه أصبحت عند بعض المسلمين أعظم منزلة من الموالاة في الله والمعاداة فيه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) انظر الفتاوى في مجلة الدعوة السعودية عدد 990 في 16/ 8/1405هـ، ص26 - 27، إجابة الشيخ عبد العزيز بن باز.

المبحث الثاني: موالاة الكفار في العلاقات الاجتماعية

المبحث الثاني: موالاة الكفار في العلاقات الاجتماعية وتحت ذلك أربعة فروع هي: 1 - الفرع الأول: السلام على الكفار والزيارة لهم. 2 - الفرع الثاني: تهنئة الكفار والثناء عليهم. 3 - الفرع الثالث: تشييع موتى الكفار وتعزيتهم في ذلك. 4 - الفرع الرابع: الزواج بالنساء الكافرات وتزويجهم المسلمات.

الفرع الأول: السلام على الكفار والزيارة لهم

الفرع الأول: السلام على الكفار والزيارة لهم عن أبي هريرة (رضي الله عنه): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» (¬1). وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» متفق عليه (¬2). وعن أسامة (رضي الله عنه) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين -عبدة الأوثان واليهود- فسلم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - متفق عليه (¬3). وقد اختلف العلماء في رد السلام على الكفار وابتدائهم به فمذهب الشافعية - تحريم ابتدائهم بالسلام وهو قول أكثر العلماء ومذهب السلف. ¬

_ (¬1) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج4 ص1707. (¬2) رواه البخاري ومسلم. انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1 ص670. (¬3) متفق عليه. المصدر السابق نفس المكان.

وذهبت طائفة إلى جواز ابتداء الكفار بالسلام روي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة (¬1) وابن أبي محيريز (¬2) وهو قول بعض الشافعية ونقل عن الماوردي (¬3)، وقد احتج هؤلاء بعموم الأحاديث الدالة على إفشاء السلام. ورد عليهم القائلون بالمنع من الابتداء بالسلام على الكفار بأن أحاديث الأمر بالسلام عامة قد ورد ما يخصصها. وقد قال بعض الشافعية بأن ابتداء الكفار بالسلام مكروه لا محرم وقد ضعف النووي هذا القول. ونقل عن القاضي وجماعة من أهل العلم أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام للضرورة والحاجة، نقل ذلك أيضًا عن علقمة (¬4) والنخعي. وذكر أن الأوزاعي يقول: إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون. ¬

_ (¬1) يوجد خمسة من الصحابة يكنون بهذه الكنية ولم أتميز أيهم. انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة/ ابن الأثير ج5 ص138 - 139. (¬2) هو عبد الله بن محيريز بن جنادة بن عبيد القرشي الجمحي الملكي، نزيل بيت المقدس تابعي جليل روى عن عدد من الصحابة ووثقه غير واحد. وأثنى عليه جماعة من الأئمة وهو ثقة من رجال الشيخين كان يختم القرآن كل جمعة توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين من الهجرة. انظر البداية والنهاية لابن كثير ج9 ص185 - 186. (¬3) هو علي بن محمد بن حبيب البصري المعروف بالماوردي (أبو الحسن) فقيه، أصولي، مفسر، أديب، سياسي، درس بالبصرة وبغداد وولي القضاء ببلدان كثيرة، وبلغ منزلة عند ملوك بني بويه، ولد سنة (364هـ) وتوفي ببغداد سنة (450هـ) من تصانيفه الحاوي الكبير في فروع الفقه الشافعي في مجلدات كثيرة، تفسير القرآن الكريم، أدب الدين والدنيا، الأحكام السلطانية انظر معجم المؤلفين ج7 ص189. (¬4) هو علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الهمداني، أبو شبل: تابعي، جليل، كان فقيه العراق، يشبه ابن مسعود في هديه وسمعته وفضله، ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى الحديث عن الصحابة، ورواه عنه كثيرون وشهد صفين، وغزا خراسان، وأقام بخوارزم سنتين، وبمرور مدة، وسكن الكوفة وتوفي بها سنة (62هـ). انظر البداية والنهاية ج8 ص217.

وأما مسألة الرد عليهم إذا ابتدؤا بالسلام على المسلم فقال الشافعية يجب الرد عليهم بأن يقول وعليكم أو عليكم فقط كما ذكر في الحديث الصحيح. وروى ابن وهب (¬1) وأشهب عن مالك أنه قال: لا يرد عليهم السلام، وذكر عن الماوردي أنه يرد عليهم وعليكم السلام ولكن لا يقول و (رحمة الله) وهو ضعيف لمعارضته نص الحديث الصحيح. والراجح من ذلك أن الرد عليهم بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «وعليكم» عند الشك وعدم تحقيق السامع من نطق السلام، أما إذا نطق الكافر بقول: السلام عليكم، فإن الذي تقتضيه الأدلة الشرعية أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان وقد قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (¬2) والأمر بالاقتصار على قول الراد (وعليكم) بناء على السبب الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم من الدعاء قال تعالى: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) (¬3). أما السلام على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين فجائز الابتداء به كما تقدم في الحديث، وذلك من عظيم خلقه وكمال حلمه - صلى الله عليه وسلم - وحثه على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس، ما لم تدع حاجة ماسة إلى المخاشنة والغلظة معهم وإظهار البغض لهم (¬4). ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي بالولاء المصري المالكي (أبو محمد) فقيه، مفسر، محدث، مقرئ، ولد بمصر في ذي القعدة سنة (115هـ) وروى عن عدد من العلماء، وصحب الإمام مالك بن أنس عشرين سنة وتوفي بمصر لخمس بقين من شبعان سنة (197هـ) من تصانيفه: الجامع في الحديث، أهوال يوم القيامة، الموطأ الصغير، الموطأ الكبير، تفسير القرآن الكريم. انظر معجم المؤلفين/ ج6 ص162. (¬2) سورة النساء آية (86). (¬3) سورة المجادلة آية (8). (¬4) انظر فيما تقدم: صحيح مسلم بشرح النووي ج14 ص144 - 145. وانظر أحكام أهل الذمة - ابن قيم الجوزية ص191 - 193. وانظر المغني والشرح الكبير ج10 ص625 - 626.

وموضوع السلام الذي تقدم ذكره هو السلام بين مسلم وكافر يعرف العربية والرد بها. ولكن ما حكم العمل مع أولئك الذين لا يعرفون لغة العرب في بدئهم بالسلام أو الرد عليهم، أو بدئهم بتحيتهم التي تختلف عن السلام لفظًا ومعنى، أو الرد عليهم إذا حيوا بتلك التحية التي لا تحمل معنى السلام؟ والذي أراه في هذه المسألة هو ترك ابتداء هؤلاء بالسلام وإذا حيوا بتحية جاز رد مثلها عليهم. ويرى البعض استحباب هجر الكافر ونحوه إذا كان مظهرًا لعادات الكفر متلبسًا بأفعال الكفار بين المسلمين ودليلهم في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد عليه وفد من نجران هم شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبار بن فيض الحارثي، وذلك أنهم عندما وصلوا إلى المدينة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم في السفر، ولبسوا حللاً لهم وخواتيم الذهب ثم انطلقوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلموا عليه فلم يرد عليهم، وتعرضوا لكلامه نهارًا طويلاً فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنهما) وكانا معرفة لهما، فوجداهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن! إن نبيكم كتب إلينا كتابًا فأقبلنا مجيبيين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارًا طويلاً فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأي منكم؟ أترون أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وهو في القوم -ما ترى يا أبا الحسن: في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن: أرى أن

يضعوا حللهم هذه وخواتيهم هذه ويلبسوا ثياب السفر ويعودوا إليه - ففعلوا فسلموا عليه فرد عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام. ثم قال: «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم» (¬1). فما ظنك بمن يرفع أعلام الكفر وشعاراته التي تتعارض مع صريح القرآن كرفع الصليب ونحوه عند قدوم الكفار، أو من يستقبل الكفار وأِشباه الكفار الذي تقطر أيديهم من دماء المسلمين الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أن يقولوا ربنا الله. لقد أصبحت معانقة الكفار والبشاشة في وجوهم أمرًا مألوفًا عند كثير من قادة البلاد الإسلامية وعامتها بل لقد وصل الأمر عند البعض إلى أن يبادل زوجته مع زوجة ضيفه الكافر لتصاحبه وتداعبه كما حصل من زوجة السادات (جيهان) التي قبلت (بيغن) وعانقته، وقبله عانقت كارتر وراقصته ومن بعدهما كيسنجر وآخرهم الأمير تشارلز؟ (¬2). إن معانقة الكفار عامة، ونسائهم خاصة أمر لا يقره الإسلام فقد روت عائشة (رضي الله عنها) حيث قالت: «والله ما مست يده -تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك» (¬3). أما مسألة زيارة الكفار وعيادتهم إذا مرضوا، فإن مما لا شك فيه أن ¬

_ (¬1) روى ذلك الحافظ بن كثير عن الحافظ أبي بكر البيهقي عن أبي عبد الله الحافظ وأبي سعيد بن محمد بن موسى بن الفضيل قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن سلمة بن يسوع عن أبيه عن جده- قال يونس. وكان نصرانيًا فأسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث. انظر البداية والنهاية لابن كثير ج5 ص54 وقد رجعت إلى السنن الكبرى للبيهقي فلم أعثر لهذا النص على ذكر. (¬2) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد 542 السنة الحادية عشرة في 9/ 11/401هـ، ص3. (¬3) أخرجه البخاري. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج2، ص52 - 56، رقم الحديث (529 - 530).

الأعمال مرتبطة بالنيات - روي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ... » الحديث (¬1). فزيارة المسلم للكافر تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: زيارة القريب أو الجار أو الصاحب الكافر من قبل المسلم وهذه قد تكون مستحبة، إذا زاره ليعرض عليه الإسلام ويرغبه في الدخول فيه، وخاصة إذا رأى أن في زيارته له فرصة أن يقبل منه الدعوة إلى الدخول في دين الله، كما حصل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما زار الغلام اليهودي وهو مريض وعرض عليه الإسلام فأسلم (¬2). وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب (رضي الله عنه) أن أباه أخبره فقال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب «أي عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب (¬3). القسم الثاني: الزيارة المباحة: وهي الزيارة لقوم من المشركين لم يقصد بها الدعوة، ولم يقصد بها الطمع في شيء مما هم مختصون به وإنما صلة للقرابة ونحو ذلك حيث قال المروذي (¬4): بلغني أن أبا عبد الله (أحمد ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. انظر جامع العلوم والحكم/ عبد الرحمن بن شهاب الدين الحنبلي ص5. (¬2) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج3 ص219. وج10ص119. (¬3) رواه البخاري ومسلم. انظر أحكام أهل الذمة ج1 ص201، وانظر المغني والشرح الكبير ج10، ص617. (¬4) لعله أبو بكر المروذي المتوفي سنة (257هـ) وهو غير المروزي. انظر أحكام أهل الذمة ج1 ص200.

بن حنبل) سُئِلَ عن رجل له قرابة نصراني: هل يعوده؟ قال نعم. قيل له نصراني! قال أرجو ألا تضيق العيادة (¬1). وروي عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أنه كان يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عاد رجلاً على غير دين الإسلام لم يجلس عنده وقال: كيف أنت يا يهودي، يا نصراني (¬2)؟. القسم الثالث: وهي الزيارة المحرمة التي تدل على موالاة الكفار وهي الزيارة التي لا يقصد بها عمل خير في سبيل الله، وإنما يقصد بها الانبساط معهم والسرور لمشاهدة منكراتهم، والتعاون معهم في ذلك، قال جعفر بن محمد سئل الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) عن الرجل يعود شريكًا له يهوديًا أو نصرانيًا؟ قال: لا ولا كرامة (¬3). فالذي يختار صحبة الكفار ويأنس بهم بدلاً من المؤمنين ويفرح بالجلوس معهم ويفتخر به عند الناس لا شك أن هذا الفعل دليل على المحبة والمودة لهم ولأفعالهم وأقوالهم، وهذه هي الموالاة المنهي عنها فقد ورد في الحديث «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» (¬4)، وحديث: «المرء مع من أحب» (¬5). فليحذر المسلم من الوقوع فيما حرم الله من حيث يشعر أو لا يشعر. ¬

_ (¬1) انظر أحكام أهل الذمة ج1 ص200. (¬2) المصدر السابق ج1 ص202. (¬3) المصدر السابق ج1 ص201. (¬4) رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح، وقال الترمذي حديث حسن، انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1 ص341 وصححه النووي. انظر تحفة الأخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران، حمود التويجري ص25 وقد ضعف الألباني هذا الحديث. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج2 ص633 رقم الحديث 927. (¬5) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج4 ص2270.

الفرع الثاني: تهنئة الكفار والثناء عليهم

الفرع الثاني: تهنئة الكفار والثناء عليهم إن الكفار يمكن تقسيمهم من حيث موقفهم من أهل الإسلام إلى قسمين: (أ) كفار محاربون. (ب) كفار مسلمون. فالكفار المحاربون لله ورسوله والمؤمنين لا تجوز تهنئتهم سواء كانوا أفرادًا أو حكومات وسواء كانوا محاربين حربًا عسكرية أم حربًا فكرية وأخلاقية، فلا يصح من المسلم أن يهنئ الفرد منهم بزواج أو ولد أو قدوم من سفر أو نجاح أو نحو ذلك، ما لم يضع في حسبانه أن يكون ذلك وسيلة من وسائل الدعوة له إلى الله، أما إذا لم يوجد منه هذا الشعور وهذه النية فعمله هذا موالاة للكفار يوجب الإثم والمؤاخذة على ذلك عند الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وتهنئة الأفراد أو الحكومات بالمناسبات التي يعظمها الكفار أمر محرم مثل أعيادهم التي يحتفلون بها كعيد الميلاد وعيد الفصح أو أعيادهم

الوطنية، أو ذكرى إنجاز من إنجازاتهم التي يراد بها في حقيقة الأمر تدمير الإسلام والمسلمين (¬1). والدليل على هذا التحريم هو أمر الله عز وجل لنا بالغلظة والشدة على الكفار قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (¬2) وقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (¬3). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (¬4). أما أهل الذمة والمستأمنون في دار الإسلام أو الكفار المسالمون خارج دار الإسلام، فقد روي عن أحمد بن حنبل (رحمه الله) أنه أباح التهنئة مرة، ومنعها أخرى، وذلك مثل التهنئة بالزواج والولد والعودة من السفر والسلامة من المكروه، وهذا الأمر عند من قال إن التهنئة جائزة إذا أريد بها حسن المعاشرة والملاطفة تمهيدًا للدعوة إلى الإسلام. أما رواية المنع عن أحمد ومن وافقه، فتحمل على من قصد مجرد التقرب إلى هؤلاء الكفار، بغير قصد الدعوة إلى الله ودعوة هؤلاء إلى الإسلام، ومن رأى إباحة التهنئة عند مصاحبة النية الحسنة لها، قيد الألفاظ التي تستعمل بالتهنئة، بأن تكون من الألفاظ المشتركة بيننا وبينهم، أما التهنئة بشعائر الكفر المختصة بهم. فهذا أمر محرم بالاتفاق (¬5). مثل تهنئتهم بعيد الميلاد ونحوه من أعياد الجاهلية، أو مثل التهنئة بمناسبة تأسيس الحزب الشيوعي أو البعثي أو الاشتراكي أو القومي أو الوطني أو غير ذلك ¬

_ (¬1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ابن تيمية ص169. (¬2) سورة التحريم آية (9). (¬3) سورة الفتح آية (29). (¬4) سورة التوبة آية (123). (¬5) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص205.

من أحزاب الكفر ومناسباتهم المتعددة (¬1)، كما أن هناك بدعة جديدة درج الناس على التهنئة بها من غير نظرة فاحصة إلى العدو السابق واللاحق وتلك هي ذكر جلاء الاستعمار عن بلد - ما - فتأتي التهاني من الأفراد والحكومات بهذه المناسبة مع أن المتسلط على الدار أخبث من الاستعمار! وشبيه بهذه المسألة ما يحصل من اتحاد مزيف بين نظامين كافرين فتأتي خطابات التهنئة والتأييد بالوحدة والاتحاد، وبعد أسابيع أو شهور تختلف الكلاب على فريستها، فتنفصل الوحدة، ويلغى الاتحاد فتنهال خطابات التأييد والاستحسان من نفس الذين أرسلوا الخطابات السابقة لينقضوا ما أبرموه بأنفسهم. إن هذا النهج يسقط قيمة الشعوب ويسقط قيمة الأفراد والأمم التي لا تحترم مواقفها ولا تثبت عند رأي تراه أو قول تقوله. إن الأفراد والشعوب التي تعطي ولاءها وتأييدها لمن يستحق ومن لا يستحق، إنما تبرهن بذلك على أنها تنطلق في ولائها من منطلق عشوائي بعيدًا عن العقل وتوجيهات الوحي الإلهي فالفرد أو الشعب الذي ينطلق في ولائه وعداوته من منهج أصيل يكون ثابتًا في مواقفه التي يتخذها فإن قال: نعم، لم يقل: لا، مهما كلفه ذلك من جهد وتضحية، وإن قال: لا، لم يقل: نعم. مهما ترتب على ذلك من تضحيات وتكاليف، لأنه لا يقول: لا، أو نعم، إلا بعد أن يستند إلى قاعدة شرعية تجعل موقفه ثابتًا لا يتغير. أما أهل النفاق فهم الذين يتذبذبون ويتناقضون في ولائهم، لأن ولاءهم تحكمه المادة والمصلحة الخاصة، ولذلك فإن ولاءهم، ولاء مزيفًا ¬

_ (¬1) مثال ذلك ما فعله الرئيس العراقي صدام حسين والرئيس الليبي معمر القذافي، حيث أرسل كل منهما رسالة تهنئة بمناسبة الذكرى الثالثة لتولي الشيوعي العميل لروسيا بابراك كارمال على أفغانستان. انظر مجلة الإرشاد العدد (9) السنة الثالثة رمضان سنة (1401هـ) ص49 نقلاً عن امباكيت انترناشيونال (11/ 6/1981م).

يجب عدم الأخذ به أو الاعتماد عليه، فهو أول من يتملق الكفار ويطلب رضاهم. وقد قال العلماء: من هنأ عبدًا بمعصية، أو بدعة، أو كفر، فقد تعرض لمقت الله وغضبه (¬1)، وهذا دليل على أنه لا يجوز مدح أعداء الله فقد روى ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مُدِحَ الفاسق غَضِبَ الرب واهتز لذلك العرش» (¬2). وروي عن بريدة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل» (¬3). فإذا كان مدح المنافق الذي يتظاهر بالإسلام، والذي قد تخفى حقيقة نفاقه على بعض المسلمين موجبًا لسخط الله. فما رأيك بمن يمدح الكفار الصرحاء الذين يعلنون الحرب على الله ورسوله والمؤمنين صباح مساء؟ لقد أمر الله المسلم أن يجتنب مناسبات الكفار وأعيادهم قال تعالى: (ولا يشهدون الزور) (¬4) وهذا أقل ما يفعله المسلم نحو الكفار، لأن الواجب على المسلم أن يدعو الكفار إلى الإسلام باللسان أو السنان، فإن لم يستطع فلا أقل من مجافات الكفار ومجانبتهم، فقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن البخاري صاحب الصحيح عن ... عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: «اجتنبوا أعداء الله في عيدهم» (¬5) وعمر (رضي الله عنه) من ¬

_ (¬1) انظر أحكام أهل الذمة ابن القيم الجوزية ج1 ص206. (¬2) انظر تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران تأليف حمود بن عبد الله التويجري ص26. (¬3) رواه أبو داود والنسائي والبخاري في الأدب المفرد وقال الألباني عنه إنه صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ج1 ص100، رقم الحديث (371). (¬4) سورة الفرقان آية (72). (¬5) انظر تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة/ حمود التويجري ص21. وتعليقًا على هذا الحديث نقول: «إن بعض المنتمين إلى الإسلام بدأوا يتبنون أعياد الكفار ويحتفلون بها مثل احتفالهم بعيد الفطر وعيد الأضحى إن لم يكن ذلك أشد، فقد سمعت إذاعة الكويت في نشرة أخبارها صباحًا في الساعة السادسة من يوم الجمعة 6/ 3/1402هـ الموافق 1/ 1/1982م يناير وهي ترفع أسمى آيات الشكر والتقدير والتهنئة السعيدة إلى مقام أميرها وحكومته وشعب الكويت والأمة العربية والإسلامية بمناسبة عيد رأس السنة الميلادية وتعلن عن منح الدولة أجازة رسمية لكافة العاملين بها من مسلمين ونصارى وبوذيين وغيرهم يوم السبت 7/ 3/1402هـ 12/ 1/1982م فهل الكويت دولة نصرانية أو دولة إسلامية؟ ولماذا يعدل النصارى بالمسلمين في الوقت الذي لا تتجاوز فيه نسبة النصارى في الكويت 4% حسب ما نشرته مجلة المجتمع الكويتية من واقع الإحصاءات الرسمية، في حين أن الدولة النصرانية لا تأبه للمسلمين ولا لأعيادهم رغم أن نسبة المسلمين في بعض البلاد النصرانية تصل أكثر من 26% كما هو الشأن في أثيوبيا حيث إن عدد المسلمين (6) مليون من أصل (22) مليون. فلماذا نكرمهم وهم يهينوننا. ونقدرهم وهم يسخرون منا؟ إن مثل هذه المعادلة، لا يشعر المسلم معها بالعزة والكرامة بل يشعر بالذلة والمهانة. انظر مجلة المجتمع عدد (553) في 26/ 2/1402هـ ص23 وانظر الموسوعة العربية الميسرة/ محمد شفيق غربال ج1 ص53 وص158. بشأن نسبة المسلمين والنصارى».

المؤمنين الذين أمرنا الله باتباع سبيلهم، فقد روي عن مالك بن أنس أنه قال، قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر من بعده سنة، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وصلاه جهنم وساءت مصيرًا (¬1). وقد كثرت المخالفات في مثل هذا الأمر حتى أصبح كثير من المنتمين إلى الإسلام يطلقون لفظة الأخ والمجاهد والشهيد على كبراء المنافقين والكفار، في الوقت الذي كان فيه المسلمون الصادقون من أهل الورع والتقوى في سلف هذه الأمة يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء، تجنبًا لمقت الله، وخوفًا من عذابه وخشية من أن يدخلوا في باب الغش والتدليس على الناس، في مدح وتهنئة وتزكية من لا يستحق ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) إيقاظ همم أولي الأبصار/ صالح بن محمد بن نوح الفلاني ص65. (¬2) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص206.

أما إذا هنأ الرجل بعض أصحاب المناصب من المسلمين. خاصة الواقعين في بعض المعاصي مداراة لشرهم وخوفًا من سطوتهم، ولم يترتب على هذه التهنئة ضياع حق من حقوق أفراد الرعية، ولم تكن التهنئة دعمًا لباطل يريدون إقراره، أو حق يريدون إبطاله، فهي لا بأس بها، أما إن كانت لغير ذلك من الأمور المحرمة. فهي موالاة للباطل وأهله ومعاداة للحق وأصحابه، وقد يترتب عليها كفر فاعلها وقد تنزل إلى درجة التحريم (¬1). والله الهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص206.

الفرع الثالث: تشييع موتى الكفار وتعزيتهم في ذلك

الفرع الثالث: تشييع موتى الكفار وتعزيتهم في ذلك الكفار من حيث موقفهم من الإسلام ينقسمون إلى قسمين: كفار محاربون. وكفار مسالمون. فالكفار المحاربون لله ورسوله والمؤمنين لا يجوز شهود جنائزهم ولا حضور مراسيم (¬1) تشييعهم إلى حفرهم الملتهبة بعسير النار وسوء القرار، ولا تجوز تعزيتهم على ذلك، لأن المحارب لله ورسوله والمؤمنين سواء مات على فراشه أو في المعركة ضد الإسلام والمسلمين فلا يختلف الحكم في حقه، ما دام يناصب المسلمين العداء لأجل إسلامهم، وفي موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قتلى المشركين في بدر منهج ونبراس في ذلك حيث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة (رضي الله عنهم) بجرهم إلى القليب كما تجر الميتة من الغنم -برغم صلة القرابة بين هؤلاء وبين معظم المسلمين- فلم يقم الرسول - صلى الله عليه وسلم - نحوهم بأي إجراء يستشعر منه الحزن والندم على هؤلاء الكفار ¬

_ (¬1) جمع مرسوم وهو قانون ذو صبغة تشريعية لأمر (ما) المعجم الوسيط ج1 ص345.

ولم يأمر بدفنهم حسبما تعود عليه الكفار، أو يشاركهم في ذلك فقد عاش الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة والمدينة بعد البعثة ثلاثًا وعشرين سنة لم يذكر أهل الحديث والتاريخ أنه شيع جنازة كافر أو عزى أحدًا منهم في ذلك. ومن ذلك عمه أبو طالب لم يشيعه ولم يعز فيه عليًا (رضي الله عنه) (¬1). أما أهل الذمة والعهد والمسالمون من الكفار فالأصل عدم جواز حضور موتاهم أو المشاركة في تشييعها والذهاب معها إلى كنيسة أو بيعة أو نحو ذلك كما لا يجوز حضور جنازة أحد من هؤلاء وقت دفنها والدليل على ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نُهِي عن الصلاة على المنافقين في قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (¬2). فإذا كان الله عز وجل قد نهى عن الصلاة والقيام على جنائز المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر فإن من يظهر الكفر علانية أولى بهذا الحكم، فكيف من يعلن كفره وحربه للإسلام والمسلمين، وقد ذكر الله عز وجل أن علة النهي عن الصلاة وشهود دفن الجنازة في قبرها هي الكفر وهي متوفرة في الكفار جميعًا محاربين ومسالمين ومنافقين. وبناء على ذلك لا يجوز حضور جنائز الكفار مطلقًا وخاصة في موضعين: 1 - حضور أماكن الصلاة على الكفار في الكنائس والبيع وما في حكمها ويلحق بذلك ما إذا كان الميت كافرًا بالردة عن الإسلام أو منافقًا ظاهر النفاق، فإنه لا يصح للمسلم المتمسك بإسلامه الصلاة أو القيام على هؤلاء جميعًا. 2 - لا يجوز القيام على قبر الكافر وقت الدفن أيًا كان نوع كفره عملاً بنص ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص125 - 126. (¬2) سورة التوبة آية (84).

الآية المتقدمة حيث تدل على النهي عن الصلاة والقيام على قبر الكافر ودلالة النصوص على ذلك قطعية الثبوت، قال تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (¬1). وقد يعترض على ذلك معترض فيقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن يواري أبا طالب في قبره عند وفاته بمكة والجواب أن مواراة علي لوالده، إن ثبتت يقينًا فهي منسوخة بهذه الآية حيث إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بالمدينة (¬2)، والمتأخر ينسخ المتقدم كما هي القاعدة فلا إشكال في ذلك. وقد ورد في بعض الآثار ما يدل على أنه يجوز للمسلم أن يحضر جنازة قريبه الكافر ويشيعها مع المشيعين بشروط ثلاثة: الأول: أن يكون الكافر الميت قريبًا للمسلم قرابة مباشرة كأن يكون من آبائه أو أبنائه أو إخوانه أو نحو ذلك. ثانيًا: أن لا يحضر الصلاة عليه، ولا يقوم على قبره أثناء الدفن. ثالثًا: أن يسير أمام الجنازة بعيدًا عنها قليلاً وأن يقف بعيدًا عن القبر وإذا أرادوا الدفن رجع ويستحسن أن يكون راكبًا لما في ذلك من إظهار عزة المسلم واستعلائه على الكفار حسًا ومعنى. والدليل على ذلك ما روي أن قيس بن شماس أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أمي توفيت وهي نصرانية، وهو يحب أن يحضرها فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اركب دابتك، وسر أمامها، فإذا ركبت وكنت أمامها فلست معها» (¬3) وروي أيضًا أن الحارث بن أبي ربيعة شهد جنازة أمه وكان يقوم ¬

_ (¬1) نفس الآية المتقدمة. (¬2) انظر تفسير القرطبي ج8 ص221. (¬3) انظر أحكام أهل الذمة ج1 ص203.

ناحية عن القبر (¬1). وقد سُئِلَ الإمام أحمد (رحمه الله) عن رجل مسلم يموت له قريب يهودي أو نصراني ماذا يفعل معه فقال: يركب دابته ويسير أمام الجنازة فلا يكون خلفها، فإذا أرادوا الدفن رجع (¬2). ولا يجوز للمسلم أن يحثو التراب على قريبه الكافر عند مواراته إلا إذا لم يكن هناك من يقوم بهذا العمل من الكفار، وتلك الحالة من الضرورات التي تقدر بقدرها. ولكن شتان بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، لقد بدل معظم المسلمين نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار، ولا نريد أن نستطرد في هذا الموضوع بذكر الأمثلة والنماذج فيكفي نموذج من تلك المهازل التي يندى لها الجبين، فقد آثار مرض (تيتو) اهتمام الإعلام العالمي كله بما فيه الإعلام الهزيل في بلاد المسلمين، وقد أطال الله مرضه عدة شهور وفي كل لحظة نسمع من وسائل الإعلام المختلفة تفصيلات دقيقة عن كل ساعة من ساعات احتضاره الطويلة حتى أهلكه الله، وبعد موته شيعه اليهود والنصارى والوثنيون ولا عجب في ذلك فإن الكفر ملة واحدة. ولكن العجب أن يسارع أناس يحسبون على الإسلام فيشاركون في تشييع جثمان هذا الكافر المحارب لله ورسوله والمؤمنين، والذي أباد من المسلمين ما يربو على مليون مسلم في يوغسلافيا بعد توليه الأمر فيها وقد قام بإلقاء المسلمين رجالاً ونساء في "مفارم" اللحوم التي تصنع لحوم (البولوبيف) ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء (¬3). ولم يكتف بمحاربة المسلمين في يوغسلافيا بل عقد صداقات مع كثير ¬

_ (¬1) المصدر السابق ج1 ص202. (¬2) المصدر السابق نفس المكان. (¬3) انظر العلاقات الدولية في الإسلام/ الدكتور/ كامل سلامة القدس ص164.

من الزعماء الخارجين على الإسلام، ليحارب الإسلام في بلاد المسلمين فقد كان صديقًا حميمًا لعبد الناصر (¬1). على مدى ربع قرن، ظهرت آثار تلك الصداقة بما منيت به مصر من محاربة للإسلام والمسلمين على يد عبد الناصر وخليفته السادات وجنودهما الخاطئين. إننا لو قارنا بين موقف الدول التي تدعي الإسلام في اهتمامها بـ (تيتو) في مرضه و (بوتو) في محاكمته وقتله، والبابا في إصابته ومحاولة قتله، وبين موقفها من المسلمين عمومًا في سوريا وأفغانستان والفلبين ومصر وتونس وغيرها من البلاد الإسلامية التي يذبح فيها المسلمون بالآلاف وتكتظ بهم السجون ومع ذلك لا أحد يذكرهم أو يتحدث عنهم بوسائل الإعلام العالمية أو الإقليمية لأنهم مسلمون. لقد قضى كثير من علماء الإسلام وقادة الفكر نحبهم أمثال سيد قطب وحسن الهضيبي وأبي الأعلى المودودي واعتقل نجم الدين أربكان مدة طويلة وشرد عصام العطار فلم يجد من يئويه سوى دولة كافرة هي ألمانيا الغربية، ومع ذلك لم يشر إليهم الإعلام الخارجي أو الإعلام التابع له في البلاد الإسلامية بما يستحقون من اهتمام وتقدير، في الوقت الذي يهتم فيه الإعلام المحسوب على الإسلام بأناس هم فحم من فحم جهنم. لقد تجاوز الأمر تشييع الكفار حديثي العهد بالموت إلى زيارة رفات الكفار الذين ماتوا من آلاف ومئات السنين فكثير من الحكام المتسلطين على رقاب المسلمين يسرقون من قوت الضعفاء وكسائهم، ما يشترون به الورود والزهور، ليضعوها على قبر ماركس اليهودي وأخيه لينين، وماوتس تنغ وتيتو، والجندي المجهول في فرنسا وقبور العائلة المالكة في بريطانيا، ووثن ¬

_ (¬1) انظر نافذة على الجحيم/ لمجموعة كتاب، وانظر البوابة السوداء/ لأحمد رائف، وانظر القابضون على الجمر - محمد أنور رياض، وانظر الفراعنة الصغار في هيلتون الناصرية/ جابر رزق.

اليهود أتاتورك في تركيا وغير هؤلاء من الأوثان، فهل هناك ولاء للكفار أشد من الموالاة لهم حتى بعد أن يصبحوا وقودًا لجهنم ورفاتًا بائدة في التراب. أما مسألة التعزية للكفار: فإن كان الكافر محاربًا لله ورسوله والمؤمنين فلا تجوز تعزيته مطلقًا ويؤخذ ذلك من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه. أما إذا كان الكافر ذميًا أو مستأمنًا أو مسالمًا، فقد توقف فيها كثير من العلماء عندما سئلوا عن ذلك وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) سُئِلَ أكثر من مرة فقال: لا أدري. وقد روي عن هريم (¬1) قال: سمعت الأجلح (¬2) عزى نصرانيًا فقال: عليك بتقوى الله والصبر (¬3)، وقال حرب: قلت لأبي إسحاق: فكيف يعزي المسلم المشرك؟ قال: يقول أكثر الله مالك وولدك. وأما تعزية الكافر للمسلم فلم يرد بها ما يدل على منعها ولم يرد صيغة معينة للرد، فقد سُئِلَ الإمام أحمد سأله عباس بن محمد الدوري. قال: قلت لأبي عبد الله: اليهودي والنصراني يعزيانني، أي شيء أرده عليهما؟ فأطرق ساعة ثم قال: ما أحفظ فيه شيئًا (¬4). وقال أبو سيف: بلغنا أن رجلاً نصرانيًا كان يأتي الحسن البصري ويغشى مجلسه، فمات، فسار الحسن إلى أخيه ليعزيه فقال له: «أثابك الله ¬

_ (¬1) هو هريم بن سفيان التتجلي، وهو ممن روى عنه إسحاق السلولي. انظر أحكام أهل الذمة - ج1 ص204. (¬2) في الأصل (الأشح) بالحاء المهملة. واسمه عبد الله بن سعيد توفي (257هـ) انظر المصدر السابق نفس المكان. (¬3) المصدر السابق نفس المكان. (¬4) المصدر السابق ج1 ص204 - 205.

على مصيبتك ثواب من أصيب بمثلها من أهل دينك، وبارك الله لنا بالموت وجعله خير غائب ننتظره» (¬1). عليك بالصبر فيما نزل به من المصائب. وخلاصة القول في ذلك أن الكفار المحاربين لا يجوز تشييع موتاهم ولا حضور جنائزهم على أي وجه يشعر بالتقدير والاحترام ولو كان ذلك جائزًا لفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع معه أبي طالب، ولكن يجوز مواراة الكافر المحارب في بئر ونحوه عند عدم من يقوم بذلك من الكفار أنفسهم. أما أهل الذمة والعهد والمسالمين من الكفار فالأصل عدم حضور جنائزهم ويستثنى من ذلك ما إذا كان الميت أبًا أو أخًا أو ابنًا للمسلم فإنه يجوز للمسلم أن يشيعه بشرط عدم حضور الصلاة عليه في كنيسة أو نحوها وكذلك عدم حضوره وقت الدفن إلا إذا لم يوجد من يدفنه من الكفار باشر دفنه للضرورة. أما مسألة التعزية إذا كان الكافر محاربًا لله ورسوله والمؤمنين فلا تجوز التعزية مطلقًا بحق الكفار المحاربين. أما أهل الذمة والعهد والمسالمين من الكفار فقد قال الفقهاء بالجواز والمنع، ومن أجاز اشترط قصد الملاطفة والدعوة إلى الله. والله الهادي والموفق إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) انظر الخراج لأبي يوسف ص217.

الفرع الرابع: الزواج بالنساء الكافرات وتزويجهم المسلمات

الفرع الرابع: الزواج بالنساء الكافرات وتزويجهم المسلمات قد يعترض معترض على أن موالاة الكفار غير محرمة بالصورة التي ذكرناها فيما سلف من مباحث هذه الرسالة محتجًا بأن قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (¬1) ليس على إطلاقه حيث إن الكتابية سواء كانت ذمية أو محاربة مندرجة تحت ما نهى الله عن مودتهم ومحبتهم، فكيف يحل التزوج بها عملاً بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (¬2) مع النهي عن مودة من حاد الله ورسوله، علمًا بأن الزواج من الكتابية فيه مودة، ويترتب على هذه المودة محبة ومناصرة قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ ¬

_ (¬1) سورة المجادلة آية (22). (¬2) سورة المائدة آية (5).

أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (¬1) فكيف نوفق بين آيات النهي عن موالاة الكفار وبين أدلة إباحة الزواج من الكتابيات مع الدليل على أن الزواج فيه مودة للمتزوج بها؟ والجواب على ذلك أن للعلماء في الزواج من الكتابية حربية كانت أو ذمية قولين: القول الأول: هو قول ابن عباس (رضي الله عنه) حيث يقول بحرمة نكاح نساء أهل الكتاب ويوافقه على ذلك بعض الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب والمالكية فيما هو المشهور عندهم (¬2). ويستدلون على ذلك بأدلة هي كما يلي: 1 - قول الله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) (¬3) ووجه الدلالة أن الآية أفادت بعمومها تحريم نكاح المشركات والكتابيات من المشركات، سواء كانت ذمية أو محاربة. 2 - قول الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) (¬4) فقد دلت الآية على أن حل التزوج بالإماء، يشترط له إيمانهن وعدم قدرة المتزوج بهن على طول الحرة، فإذا انتفى الإيمان منهن بأن كن كتابيات مثلاً انتفى الحكم وهو الحل، فيحرم نكاحهن بناء على أن الحكم متى علق بشرط أوجب ذلك نفي الحكم عند عدم توفر الشرط. ¬

_ (¬1) سورة الروم آية (21). (¬2) انظر تبيين الحقائق للزيلعي ج2 ص116 وانظر المغني والشرح الكبير ج2 ص267 وانظر كشاف القناع ج2 ص28 وانظر مغني المحتاج ج2 ص84 وانظر الكافي في فقه أهل المدينة المالكي/ يوسف بن عبد الله القرطبي ج2 ص543 وانظر تفسير القرطبي/ محمد بن أحمد القرطبي ج2 ص67. (¬3) سورة البقرة آية (221). (¬4) سورة النساء آية (25).

فانتفاء الإيمان في الإماء، يستلزم تحريم الزواج بهمن (¬1). 3 - قول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (¬2). فقد دلت الآية على أن من لم يؤد الجزية من الكفار للمسلمين، ويكون في حرب معهم مطلوب قتاله، منهي عن محبته ومودته، فلا يحل للمسلم التزوج بنسائهم، لأن الزواج مودة ومحبة ونصرة. 4 - قول الله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) (¬3). فقد حرم الله على المؤمنين تمسكهم بالزوجات الكافرات، وحرم عليهم أن يجعلوهن في عصمتهم بنهيه الوارد في هذه الآية، فكان دليلاً على تحريم ابتداء نكاحهن، لأنه طريق إلى المنهي عنه المحرم، وهو الإمساك بعصم الكوافر، وما يؤدي إلى المحرم فهو محرم. 5 - ما روي بسند صحيح عن الليث عن نافع عن ابن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل للنصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعلم شيئًا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله (¬4)، وقد توفرت فيها علة النهي المقتضية للتحريم في قوله تعالى: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص54 - 55. (¬2) سورة التوبة آية (21). (¬3) سورة الممتحنة آية (10). (¬4) انظر فتاوى ابن تيمية ج4 ص84. (¬5) سورة البقرة آية (221).

6 - ما روي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فرق بين من تزوجوا بكتابيات وأزواجهم. فحين تزوج طلحة بن عبيد الله بيهودية وحذيفة بن اليمان بنصرانية، غضب عمر غضبًا شديدًا، فقال: نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب، فقال: «إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن، ولكن انزعهن منكم انتزاعًا» (¬1)، فدل هذا على عدم جواز نكاح المسلمين للكتابيات، لأنه لو كان حلالاً جائزًا لما غضب عمر (رضي الله عنه) ولأنكر عليه الصحابة (رضوان الله عليهم) ولصح إيقاع الطلاق، فكان تفريقه وعدم إجازته الطلاق دليلاً على حرمتهن. ومن الأدلة العقلية على حرمة الزواج بالكتابيات ما يلي: 1 - إن المرأة الكتابية تعارض دليل حلها وهو قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وتعارض دليل حرمتها وهو قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) وفي مثل تلك الحال يلزم الرجوع إلى الأصل وهو التحريم، لأن الإبضاع مما يلزم الاحتياط فيها فيحرم على المسلمين لهذا الزواج من الكتابيات (¬2). 2 - إن الكتابية مستمسكة بكتاب دار القول فيه بين حالين هما: التغيير أو النسخ، والمغير تزول صفة الكتاب عنه، وكذلك المنسوخ، ترتفع أحكامه، وحينئذ يكون لا فرق بينه وبين ما لم يكن، وعليه، تكون الكتابية في حكم من لا كتاب لها، ومن هذا شأنها لا يحل نكاحها لتحقق النقص الفاحش فيها فساوت عابدة الوثن (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تفسير الفخر الرازي ج6 ص61 وانظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص324 - 328. (¬2) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص45. (¬3) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص45 نقلاً عن الحاوي الكبير للماوردي ج10 مخطوط بدار الكتب المصرية.

هذه جملة أدلة من قالوا بمنع الزواج من الكتابيات وغيرهن من باب أولى وعلى هذا القول فلا تعارض مع آيات النهي عن موالاة الكفار، وأدلة المنع من زواج الكفار بل إن رأي القائلين بمنع الزواج من النساء الكافرات يرجح أدلة وجوب مفاصلة الكفار وعدم مخالطتهم حيث علل الباري عز وجل ترك نكاح المشركين بقوله: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (¬1). القول الثاني: وهو قول من يقول بجواز نكاح الكتابيات وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية: قال تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (¬2) فقد عطف الله المحصنات في الآية على الطيبات المصرح بحلها في صدر الآية، والمحصنات معناها الحرائر أو العفيفات فتكون الآية دليلاً على حل الحرائر أو العفائف من أهل الكتاب، لأن قضية العطف تقتضي التشريك في الحكم وعلى هذا فالآية محكمة وليس حكمها بمنسوخ على القول بعد تناول آية البقرة وهي قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) لأهل الكتاب، فتكون كل من الآيتين متناولة لأفرادها، وعليه فلا نسخ ولا تخصيص، وعلى القول الثاني وهو أن آية تحريم المشركات متناولة للكتابيات، تكون آية المائدة وهي قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) مخصصة للعموم في قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) أو ناسخة لها على الخلاف المعروف في علم الأصول (¬3). ويرد القائلون بجواز نكاح الكتابيات على أدلة المانعين بما يلي: 1 - يجيب القائلون بجواز الزواج من الكتابية عن قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (221). (¬2) سورة المائدة آية (5). (¬3) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص45.

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (¬1) أن هذه الآية لم تتعرض بصريح اللفظ لتحريم الزواج، بل اقتضت النهي عن موادة أهل الحرب عمومًا، فلا يثبت التحريم بالقياس مع وجود النص، إذ لا يلزم من كون عقد الزواج طريقًا من طرق المودة والمحبة، أن يحرم التزوج فغاية ما تدل عليه الآية الكراهية لا التحريم حيث وردت آيات في صلة ذوي الرحم من غير المسلمين مثل قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (¬2) فالزوجة بعد عقد الزوجية تصبح من ذوي القرابة ومصاحبتها بالمعروف أمر واجب حتى لو كانت غير مسلمة لأن ذلك من حسن المعاشرة التي تقودها إلى الإسلام. 2 - أجاب من يرى إباحة الزواج من الكتابيات عن قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) إن هذه الآية قد ورد ما يدل على إلغاء هذا الشرط حيث إن الآية في قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) شاملة للحرائر والإماء ثم أن الأمة الكتابية يجوز قياسها على الأمة المسلمة بجامع جواز الوطء في كل منهما بملك اليمين، فحيث جاز نكاح الأمة المسلمة اتفاقًا، يجوز كذلك نكاح الأمة الكتابية (¬3). 3 - وأجاب القائلون بإباحة الزواج من الكتابيات عن قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ) الآية: إن الآية دعت إلى قتال ¬

_ (¬1) سورة المجادلة آية (22). (¬2) سورة لقمان آية (15). (¬3) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص50.

من يمتنع عن دفع الجزية للمسلمين وعدم قتال من يدفعها من الصغار والذلة، وحيث لا علاقة بين دفع الجزية وحِل الزواج، ولا علاقة بين عدم دفعها وحرمته، فلا دلالة في الآية على تحريم الزواج بالكتابية الحربية أو حلها (¬1). 4 - وأجاب من يرى الإباحة في زواج المسلم بالكتابية عن قوله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) بأن اللام في الكوافر لتعريف العهد والكوافر المعهودات كن مشركات عبدة أوثان، إذ الآية وردت في مشركات الحديبية وهن كذلك، وعليه فلا تتناول الآية الكتابيات، وعلى أن الخطاب متوجه لمن كانت في عصمته كافرة مشركة تركها بدار الحرب، أما الكتابيات فإن دلالة الآية لا تشملهن من هذا الوجه ولذلك فهم الصحابة (رضوان الله عليهم) ذلك، فطلق عمر امرأتين له كانتا مشركتين بمكة حين نزلت الآية بالحديبية (¬2). 5 - وأجاب القائلون بالإباحة في زواج الكتابية من المسلم، بأن ما رُوي عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من الأمر لطلحة وحذيفة بترك زوجتيهما من الكفار، غير جيد السند، قال ذلك ابن عطية، بل قيل في هذا الأثر: إنه غريب، ثم قالوا: والذي نقل عن عمر أنه قال لمن تزوج من الكتابيات: طلق، فطلقوهن ما عدا حذيفة (رضي الله عنه) فقال هي خمرة فطلقها، فهذا الأثر يدل على عدم التحريم في نهاية الكلام حيث لولا أن العقد صحيح لم يطلب عمر الطلاق من المتزوج، ويؤيد ذلك ما نقل ابن وهب وابن المنذر- نقلاً صحيحًا عن عمر (رضي الله عنه) قوله بجواز نكاح الكتابيات (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق نفس المكان. (¬2) المصدر السابق نفس المكان، وانظر فتاوى ابن تيمية ج4 ص84. (¬3) انظر المغني لابن قدامة ج7 ص500 وانظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص51.

6 - ورد القائلون بالإباحة على المعقول الأول وهو أن الأصل في الإبضاع التحريم ولذلك فهي مما يلزم الاحتياط فيها فيحرم على المسلمين لهذا الزواج من الكتابيات. فقال من يرى الإباحة أن هذا القول ليس على إطلاقه، وغير مسلم به حيث إن قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) (¬1) يفيد بعد تعداد محرمات النكاح، أن الكتابيات داخلات في عموم آية الحل غير مخرجات منها، حيث إن آية النهي عن نكاح المشركات غير متناولة للكتابيات، وتكون آية المائدة وهي قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) جاءت مؤكدة للحل الوارد في العموم دفعًا لتوهم حرمتهن، كما فهم بعض الصحابة ذلك (¬2). 7 - ثم رد القائلون بالإباحة على المعقول الثاني، بأن من لها كتاب مبدل أو منسوخ يصح أن تندرج تحت من لها شبهة كتاب، نظرًا لكتابها المغير وصحة دينها في أصله، وبذلك لا مساواة بينها وبين من لا كتاب لها أصلاً، وتفرقة الشارع الحكيم بينهما في الأحكام دليل ناطق على ذلك. فقد حقن دماء أهل الكتاب دون أهل الشرك، وأحل ذبيحة أهل الكتاب دون أهل الشرك فناسب أن تفارق الكتابية المشركة في حكم النكاح بها فلا تساويها في حرمة التزوج بها (¬3). خلاصة القول في هذه المسألة: إن الآية التي نهت عن موادة الكفار آية عامة، ولم يصرح فيها بالنص على عدم موادة الزوجة غير المسلمة، أما مسألة الزواج من الكتابية، وما ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (24). (¬2) انظر تفسير المنار - رشيد رضا ج6 ص161 وانظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص51. (¬3) انظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص52.

يترتب على ذلك فهذه مسألة فقهية خلافية، أشرنا إلى رأي الفريقين في ذلك وأدلتهم في هذا الموضوع ولكننا لا نجزم بالإباحة أو التحريم في هذه المسألة ولكن الذي يظهر من هذه المسألة أن الزواج بالكتابية مكروه في أقرب الأقوال إلى الاعتدال، وقد قال بكراهية الزواج بالكتابية كل من الحنفية والمالكية والشافعية وإن اختلفوا في درجة الكراهية من كراهية التنزيه إلى كراهية التحريم تبعًا إلى نوع الكتابية إذا كانت ذمية أو حربية مقيمة في دار الإسلام أو خارج دار الإسلام. وخالفهم في ذلك الحنابلة فقالوا بجواز نكاح الكتابية مطلقًا بلا كراهية، وهو خلاف رأي الجمهور، ومخالف لما يفهم من قوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) (¬1) حيث فضل الله عز وجل المرأة المسلمة المؤمنة على الكافرة، ولا جدال في أن الزواج بالكتابية ليس على درجة الإباحة والمساواة بالنسبة إلى المرأة المسلمة ولهذا يترجح لدي أن الزواج بالكتابية مكروه في أفضل الاحتمالات، وإن كانت المسألة تدور رواء المصلحة والمفسدة، فإذا غلب على الظن أن الزواج بالكتابية فيه مصلحة شرعية في حق الزوج أو حق الزوجة أو حق المسلمين عامة فهو مباح وقد يكون ممدوحًا، وإذا ترتب على الزواج أو غلب على الظن أن هذا الزواج فيه مضرة على المسلم في دينه ودين أولاده، وعلى المسلمين من حوله فإنه محرم لما يترتب عليه من مفاسد، حيث إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (¬2). ويرى القائلون بجواز نكاح نساء أهل الكتاب، إن نكاحهن من قبل المسلم الملتزم بالإسلام قولاً وعملاً، لا يترتب عليه موالاة للكفار بالصورة المنهي عنها شرعًا وذلك لعدة أسباب هي كما يلي: ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (221). (¬2) انظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة/ عبد الرحمن الجزيري ج4 ص76 - 77، وانظر تفسير الطبري ج2 ص221 - 224 وانظر تفسير القرطبي ج3، ص69 - 72، وانظر العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين د/ بدران أبو العينين بدران ص65.

1 - إن الزوجة الكتابية هي بمثابة ذوي القرابة من غير المسلمين كالوالدين ونحوهما، فإن الله عز وجل أمر بمصاحبة الوالدين إذا كانا غير مسلمين بالمعروف قال تعالى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (¬1) والزوجة تنزل منزلة هؤلاء فمهما كانت درجة البر بالزوجة الكتابية فإنها لن تصل إلى مرتبة البر بالوالدين اللذين يشتركان معها في الكفر والقرابة. 2 - إن البر بالكفار سواء كانوا ذوي قرابة كالوالدين أو الزوجة أو غيرهم من الكفار، لا يعني ذلك مودتهم في القلب من كل وجه، ولا يعني أن يتنازل عن شيء من أحكام الإسلام مهما صغر طلبًا لرضاهم واستجلابًا لمودتهم، فالولاء للإسلام أعظم منزلة من منزلة البر وحسن الصحبة للكفار، ولذلك يضحي المسلم بذوي القرابة والنسب من الكفار عندما تصطدم مطالبهم مع مطالب العقيدة الإسلامية أو تتعارض معها وقد سبق أن ذكرنا نماذج من ذلك فيما سلف (¬2). وعلى هذا فلا موالاة للكفار في مصاحبة الزوجة أو الوالدين من غير المسلمين بالبر والمعروف. لأن الموالاة للكفار مطلقًا، إنما تكون بمساواتهم مع المؤمنين أو تنزيلهم منزلة أقرب من منزلة أهل الإسلام أو التنازل عن شيء من أحكام الإسلام استجلابًا لمودتهم وحصول رضاهم. وهذا غير واقع من المسلمين الملتزمين بالإسلام، الذين يجعلون حب الله ورسوله والمؤمنين مقدمًا على كل ما عدا ذلك من صلات القرابة والنسب والمنافع الأخرى، فلا يقدمون شيئًا على مراد الله ورسوله، مهما كانت منزلته ومكانته في نفوسهم. فالمؤمن يصير حبه فيما يرضي مولاه، وإن كان مخالفًا لهواه، ويكون بغضه لما يكرهه مولاه، وإن كان موافقًا لهواه، قال تعالى عن يوسف ¬

_ (¬1) سورة لقمان آية (15). (¬2) انظر ص32 - 33 من هذه الرسالة.

(عليه السلام): (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (¬1) مع أن الجماع شيء محبب إلى النفس قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (¬2) ولكن الجماع لما كان بطريق يبغضه الله ويغضب على فاعله بهذا الوصف تركه (¬3). 3 - إن النساء اللاتي يتزوجن بالمسلمين لا يقعن تحت مفهوم من يحاد الله ورسوله في قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (¬4) نظرًا لضعفهن وقصورهن وتبعيتهن للأزواج في ذلك قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (¬5) فقد ذكر جماعة من المفسرين إن المراد بهذه الآية النساء والصبيان، فإن برهم وصلتهم غير محرمة ما داموا بهذا الوصف وإنما المنهي عن موالاتهم هم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (¬6). ومعلوم قطعًا أن المرأة التي رضيت بالزواج من المسلم ودخلت تحت ولايته وإن كانت كتابية فهي غير داخلة تحت من لا تصح موالاتهم في هذه الآية. 4 - إن المسلم الملتزم بالإسلام لا يمكنه التسامح فيما يخرجه هو وأولاده ¬

_ (¬1) سورة يوسف (33). (¬2) سورة آل عمران آية (14). (¬3) انظر لطائف المعارف/ تأليف عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، ص161. (¬4) سورة المجادلة آية (22). (¬5) انظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1773. وانظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي ج8ص237 وانظر تفسير الطبري ج28 ص43 - وانظر تفسير القرطبي ج18ص59 وانظر مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني م3 ص484. (¬6) سورة الممتحنة آية (9).

عن الإسلام ولذلك فإن زوجته وإن كانت غير مسلمة، فهي غير قادرة في الغالب والعادة على أن تؤثر على عقيدته وعقيدة أولاده، نظرًا لما للرجل من قوة الإرادة وحق القيومية على المرأة، ولذلك جعل الإسلام أمر ضمان سلامة الرجل وسلامة أولاده من الانحراف موكولاً إلى عناية الله وتوفيقه، أولاً، وثانيًا إلى قوة الرجل وصلابة إيمانه وشدة غيرته على محارم الله. ولكن الأمر قد تغير اليوم بالنسبة للذين يتزوجون بالكتابيات حيث إن معظمهم ليسوا ملتزمين بالإسلام، وهذا يدل على عدم أهليتهم من الناحية الإسلامية، أن يكونوا أزواجًا لنساء مسلمات، فضلاً عن نساء كافرات فمعظم الذين يتزوجون بالكافرات في هذا العصر إنما يتخذون قرار الزواج بعد سلسلة من الوقاع المحرم واللقاءات غير الشرعية، مضافًا إلى ذلك ترك الصلاة وشرب المحرمات. فهم من أجل ذلك كله وغيره لا يمثلون الصورة الإسلامية في الزواج من الكتابية، كما أن النساء الكافرات اللاتي يتزوج بهن بعض أدعياء الإسلام لسن كتابيات بالمعنى الصحيح، فهن لا يؤمن بالكنيسة ومعتقداتها وسلطتها، كما أن معظمهن غير محصنات بسبب التسيب في العلاقات الاجتماعية عند الكفار، مما يفقد المرأة الكافرة صحة العقد عليها من قبل المسلم، لأن الإسلام اشترط على قول من يقول بجواز النكاح بالكتابيات، شروطًا: الأول أن تكون كتابية، ومن لا تؤمن بكتاب لا ينطبق عليها هذا الوصف كما هو شأن كثير من نساء الغرب، والشرط الثاني الإحصان، وهذا الشرط يكاد يكون معدومًا عند كثير من النساء الكافرات. نظرًا إلى أن قضية العرض قضية شخصية خاصة، لا دخل لها في ميزان الجرح والتعديل لديهم، وانعدام هذين الشرطين يجعل الزواج بالكتابية باطلاً باتفاق المسلمين وبنص القرآن الكريم على ذلك (¬1). وقد فشل معظم المتزوجين بالكتابيات فشلاً ذريعًا في هذا العصر ¬

_ (¬1) انظر مجلة الدعوة السعودية عدد 812 الاثنين 9/ 11/1401هـ ص24 - 25.

حيث انسلخ معظمهم من دين الإسلام، بعد أن قضت زوجته الكافرة على البقية الباقية من التصور الإسلامي لديه، كما أن معظم النساء الكافرات سيطرت على الرجل في مسألة الأبناء في ديانتهم وحتى تسميتهم ووجدت من القوانين الجاهلية والنظم الوضعية ما يحميها ويقف معها ضد حق الرجل وولايته على أولاده. فالزواج من الكتابيات في هذا العصر قد ثبت ضرره نظرًا إلى أن الذين يتزوجون بالكتابيات مسلمون مزيفون، وقد ترتب على ذلك مفاسد كثيرة، نظرًا إلى أن معظم الدول الكافرة لا تعترف بأحكام الإسلام، فيما يتعلق بالزواج والطلاق وولاية الأولاد، وقد واجه هذه المشكلة بشكل واسع معظم المبتعثين الذين تزوجوا بأمريكا وأوروبا، وعندما أرادوا العودة إلى بلادهم امتنعت زوجاتهم من المجيء معهم، واحتفظت بأبنائها معها ووقف القضاء بتلك الدول مع النساء الكافرات، ونذكر مثلاً واحدًا يصور تلك المأساة التي يقع فيها بعض المبتعثين من الدول الإسلامية. فقد ابتعثت شركة أرامكو أحد موظفيها السعوديين واسمه (هزاع) إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتعرف هزاع على فتاة أمريكية ثم تزوجها وولدت له ابنًا أسمته (هنري بن هزاع) وابنة أسمتها (لينا بنت هزاع) وعندما أراد العودة إلى بلده رفضت الزوجة المجيء معه وتمسكت بأبنائها ووقف القضاء معها، وعاد (هزاع) بخفي حنين مخلفًا وراءه هنري ولينا بالولايات المتحدة الأمريكية (¬1). فهل مثل هذا الزواج يعتبر موفقًا؟ وهل تبيح الشريعة الإسلامية مثل هذا الزواج الذي تسقط فيه قيومية الرجل حتى في اختيار الأسماء لأبنائه وبناته؟ ¬

_ (¬1) انظر جريدة الرياض عدد (4954) السنة السابعة عشرة السبت 26/ 12/1401هـ ص24 العمود الأخير.

وبعد هذا الاستعراض المفصل لموضوع الزواج بالكتابيات فإني لا أستطيع القول بإباحة هذا الأمر أو منعه، ولكنني أرى طرح هذا الموضوع أمام المجتهدين من العلماء ليروا فيه رأيًا نهائيًا، وفي حالة ترجيح الزواج بالكتابيات عليهم أن يضعوا شروطًا تفصيلية في حق الزوج والزوجة تقضي على التسيب الحاصل من الزواج بالكافرات في عصرنا الحاضر، ولكي لا تستغل أحكام الإسلام من قبل أناس هم أبعد الناس عن الإسلام وعن أهل الكتاب على حد سواء (¬1). أما مسألة تزويج المرأة المسلمة بالرجل الكافر فقد حال الإسلام بين المرأة المسلمة وبين زواجها من غير المسلم، نظرًا إلى أن المرأة في غالب أحوالها ضعيفة الإرادة أمام زوجها، فيخشى عليها أن تطيعه في معصية الله أو أن توافقه في الردة عن دين الله، أو أن تواليه على ما يغضب الله، فلذلك منع الإسلام زواج المسلمة بغير المسلم، وأباح زواج المسلم بالكتابية على قول من قال بذلك مع بعض التحفظات على هذا الزواج (¬2). وبحكم الشرع الإسلامي يستحيل على المسلمة الزواج بغير المسلم (¬3) ولم يرد قط حدوث حادثة تدل على الخروج على هذه القاعة طيلة قرون مضت (¬4). إلا أن أعداء الإسلام بجهودهم التنصيرية المركزة يحاولون كسر هذا الحاجز عن طريق بعض ضعاف الإيمان، أو من ينتسبون إلى الإسلام اسمًا لا حقيقة، وهم في مفهوم الإسلام الصحيح وفي واقع حالهم مرتدون خارجون عن الإسلام. ¬

_ (¬1) انظر مجلة المسلمون العدد الخامس الجمعة 1 صفر 1402هـ ص60 - 61. (¬2) انظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة/ عبد الرحمن الجزيري ج4 ص76 - 77. (¬3) انظر الدرر النسية ج6 ص334. (¬4) انظر أهل الذمة في الإسلام د/أ. س ترتون - ترجمة د/ حسن حبشي ص218.

فقد ذكر أن هناك ست حالات وقعت من هذا القبيل في جزر القمر تحت وطأة الفقر والجهل والإغراء المادي وفي ظل سلطة لا تطبق أحكام الإسلام (¬1) وحصل مثل ذلك في أندونيسيا والفلبين، وبعض الدول الأفريقية، وهذا التصرف الفردي لا يضير الإسلام بقدر ما يأثم الفاعل في نفسه لأن الدولة الإسلامية الحقة غائبة عن التصدي لمثل هذه الأمور. ومن قبيل زواج المسلمة بالكافر ما يقع فيه بعض المسلمين في العصر الحاضر حين يزوجون نساءهم لأشخاص يعتنقون مبادئ وينتمون إلى أحزاب خارجة عن الإسلام، توجب كفر من ينتمي إليها أو يعتقد اعتقاداتها كحال الذين يعتنقون الشيوعية أو ينتمون إلى أحزابها أو يوالونها على كفرها ومثل ذلك من ينتمي إلى حزب البعث أو الأحزاب الاشتراكية، فهؤلاء لا يجوز نكاحهم للنساء المسلمات ابتداء لأنهم غير مسلمين، كما لا يجوز بقاء النساء المسلمات في عصمتهم بعد اعتناقهم لتلك المبادئ الكافرة التي توجب كفر من يعتقدها أو يتبعها أو يدعو إليها، لأن كل من خرج من حزب الله دخل في حزب الشيطان بلا جدال، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (¬2). وقد ذكرنا جواب لجنة الفتوى بالأزهر حول زواج المسلمة بالشيوعي وأنه زواج باطل (¬3). ويقاس على تلك الحال جميع الانتماءات والاعتقادات التي توجب كفر صاحبها وردته عن الإسلام أما إذا أسلمت المرأة وهي في عصمة رجل كافر سواء كان يهوديًا أو بعثيًا أو نصرانيًا أو اشتراكيًا أو شيوعيًا أو وثنيًا، فإن كان ذلك قبل الدخول بها فمذهب جمهور العلماء من الفقهاء أن الفرقة تقع بينهما في الحال، أما إن كان إسلام المرأة بعد الدخول بها فقال بعض العلماء: إن أسلم في عدتها فهي على نكاحها، وإن لم يسلم ¬

_ (¬1) انظر المجتمع عدد (480) السنة الحادية عشرة في 28/ 6/1400هـ. ص21 - 22. (¬2) سورة آل عمران آية (85). (¬3) انظر ص456، من هذه الرسالة.

حتى انقضت العدة، فقد بانت منه، وهناك رأي آخر وهو أن المرأة إذا أسلمت تخير بين طلب الفرقة أو انتظار إسلام الزوج وإن طالت المدة وهو الأرجح (¬1). ولكن لا يلزمها خلال العدة الانتظار والبقاء مع الزوج الكافر عملاً بقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (¬2). أما إن أسلم الزوج ولم تسلم المرأة، فإنه يعرض على المرأة الإسلام فإن أسلمت في العدة بقيا على نكاحهما وإن أبت انفسخ النكاح ساعة إبائها سواء كان ذلك قبل الدخول بها أو بعده، وهذا إذا كانت الزوجة مشركة وثنية، أو كانت كتابية على قول من يقول بعدم صحة الزواج بالكتابيات للمسلمين كما تقدم قريبًا (¬3)، أما من يرى جواز نكاح الكتابيات للمسلمين فإنه لا يوجب مفارقة الكتابية لزوجها المسلم (¬4). والله الهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص321 - 345. وانظر كتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي/ يوسف بن عبد الله القرطبي، ج2 ص549 - 550. (¬2) سورة النساء آية (141). (¬3) انظر ص700 - 703، من هذه الرسالة. (¬4) انظر ص703 - 710، من هذه الرسالة.

المبحث الثالث: موالاة الكفار في الشئون الاقتصادية

المبحث الثالث: موالاة الكفار في الشئون الاقتصادية وتحت ذلك خمسة أمثلة هي كما يلي:- 1 - المثال الأول: إباحة التعامل بالربا مع الكفار ومن أجلهم. 2 - المثال الثاني: إعطاء المساعدات المالية للكفار. 3 - المثال الثالث: تمكين الكفار من استغلال أموال المسلمين. 4 - المثال الرابع: تمكين الكفار من الوظائف الهامة في البلاد الإسلامية. 5 - المثال الخامس: توريث الكفار والنفقة عليهم من أهل الإسلام.

المثال الأول: إباحة التعامل بالربا مع الكفار ومن أجلهم

المثال الأول: إباحة التعامل بالربا مع الكفار ومن أجلهم لقد أباح الإسلام التعامل التجاري مع الكفار سواء كان الكفار في داخل الدولة الإسلامية أم خارجها ولكن ذلك التعامل معهم مشروط بشروط ومقيد بقيود، تجعل التعامل معهم ضمن ضوابط معينة تحقق المصلحة للمسلمين دون أن تكون بابًا للشر عليهم، ومن التعامل التجاري مع الكفار في داخل الدولة الإسلامية ما كان يجري بين المسلمين في المدينة وبين اليهود وغيرهم من المشركين من تعامل تجاري فقد كان سبب إجلاء بني قينقاع أن امرأة من المسلمين قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ يهودي لتشتري منه فربط ذلك اليهودي طرف ثوبها إلى ظهرها فلما قامت انكشفت عورتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، وقام اليهود على المسلم فقتلوه، ثم اشتد الأمر بينهما، حتى حاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجلاهم عن المدينة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تهذيب سيرة ابن هشام/ عبد السلام هارون ص174 - 175.

وقد سأل مهنا بن يحيى الشامي وهو فقيه عالم: الإمام أحمد بن حنبل عن البيع والشراء مع الكفار فأجابه بأنه لا بأس في ذلك (¬1)، وقد كانت هناك أسواق في مكة وكان المسلمون يشهدونها وشهد بعضها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هذه الأسواق ما كان في موسم الحج من تجارات مختلفة هذا فيما يتعلق بالتعامل التجاري مع الكفار داخل دار الإسلام والمسلمين أما التعامل التجاري مع الكفار في دار الحرب فهو جائز حيث كان ذلك مقررًا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت تجارة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنهما) ذاهبة وآيبة بين الشام والمدينة وكانت الشام دار حرب على الإسلام والمسلمين، فالسفر إلى بلاد الكفار لغرض التجارة، مع حفظ العبد لدينه، وقدرته على إظهار دينه أمر لا مانع منه عند توفر الأسباب الداعية إلى ذلك وانتفاء الموانع التي يخشى منها على دين الإنسان ونفسه وماله (¬2). ولا شك أن أسواق الكفار تشتمل على المعصية، أو ما يستعان به على المعصية فإن وجد الإنسان من نفسه القدرة على الامتناع عن مفاسدهم ومجانبة باطلهم جاز له السفر وإلا كان السفر في حقه محرمًا، عند ضعف القدرة عن مقاومة الإغراءات ووسائل الفساد في المجتمع الكافر عملاً بالحديث الشريف «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (¬3) ومن دخل دار الحرب من المسلمين وهو مبعوث لرسالة أو تاجر، أو طالب معرفة لديهم، بأمان منهم فخيانتهم محرمة عليه، لأنهم إنما أعطوه الأمان مقابل ترك خيانتهم، وعدم الاعتداء على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص230 - 232. وانظر أحكام أهل الذمة ج1 ص270. (¬2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص230 - 232. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8، ص221. (¬3) رواه النسائي والترمذي، وقال حديث حسن صحيح. انظر جامع العلوم والحكم/ عبد الرحمن بن شهاب الحنبلي ص101. (¬4) انظر الفتاوى السعدية/ ابن سعدي ج1 ص97.

ولا يجوز للمسلم الذي يحمل التجارة إلى دار الحرب، أن يحمل لهم ما يستعينون به على منكر لديهم، فلا يجوز حمل عنب أو تمر أو شعير يتخذونه خمرًا، وكذلك لا يجوز أن يبيعهم سلاحًا يقاتلون به مسلمًا. أما بيعهم ما هو مأكول وملبوس ومركوب مما هو مباح لنا ولهم فهو جائز (¬1). وأهل الذمة وأهل العهد، إذا زاولوا التجارة في دار الإسلام فإن للحاكم المسلم الخيار بين أخذ العشر أو نصف العشر أو أكثر من ذلك أو أقل أو أن يسمح لهم ويعفيهم من أي التزام مالي، أو يعفي بعض البضائع دون بعض، وذلك لما يراه في صالح الإسلام والمسلمين، فهذه الأمور مبنية على رعاية المصلحة العامة للمسلمين في دار الإسلام، وتخضع للسياسة الشرعية المتمشية مع مصلحة الأمة وسلامتها (¬2). أما حكم التعامل معهم وأخذ نقودهم وهم قد يكسبونها عن طريق الربا أو القمار أو الفواحش أو ما إلى ذلك. فجمهور العلماء على جواز التعامل معهم، وإن كانت مصادر أموالهم محرمة لاقتحامهم ما حرم الله، فقد دل الدليل على ذلك من الكتاب والسنة قال تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (¬3). وهذا نص في حل طعامهم مع أنه قد يدخل عليهم بطرق محرمة، وعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الكتاب وأقر التعامل معهم في مناسبات شتى، وقد رجح القرطبي ذلك (¬4). أما التعامل معهم بالربا في خارج دار الإسلام أو السماح لهم بالتعامل بالربا مع المسلمين أو بين بعضهم البعض في دار الإسلام فلا يجوز قولاً واحدًا للأدلة القطعية المتواترة من الكتاب والسنة (¬5). لأن الله عز وجل إذا ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم - ابن تيمية ص230 - 232. (¬2) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص149 - 175. (¬3) سورة المائدة آية (5). (¬4) انظر تفسير القرطبي ج6 ص12 - 13. (¬5) انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص515.

حرام على المسلم أمرًا، فإنه لا يجوز أن يستحل هذا المحرم في أي زمان أو مكان إلا ما ورد الشرع بتخصيصه كالميتة ونحوها، ذلك أن تحريم هذه المحرمات أمر مطلق، فلا يجوز للإنسان أن يتعلل باستباحته للمحرم أنه موجود في مجتمع كافر لا حرمة له، فقد كان المسلمون يعيشون مع كفار قريش في مكة، واليهود في المدينة ومع ذلك لم يقع منهم تعامل مع هؤلاء الكفار، في الربا أو القمار أو نحو ذلك (¬1). والربا والقمار حكمهما كحكم الزنا، وقد وردت الآيات الدالة على تحريم الزنا مطلقة من غير تخصيص على تحريم الزنا بالمسلمات فقط (¬2). ويقول الإمام الشافعي (رحمه الله): «الإسلام ملزم للمسلم حيثما كان بوجوب تطبيق أحكامه وأداء فرائضه من عبادات وواجبات وهي لا تسقط إذا كان في بلاد الكفار أو غيرها من الديار، ما دام حيًا عاقلاً مختارًا» (¬3). وقد كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مجوس هجر «إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله» (¬4) وفي هذا الوعيد ما يدل على أنه لا يجوز لأهل الذمة وأهل العهد التعامل بالربا ونحوه من المحرمات في جميع الشرائع فلا وجه لما يتعلل به بعض المهزومين في عقيدتهم وأخلاقهم من أن السماح في بعض المحرمات إنما هو لوجود فئة من أهل الذمة وأهل العهد من غير المسلمين، كما تفعل ذلك بعض المؤسسات الاقتصادية العاملة في بعض البلاد الإسلامية حيث تتعامل بالربا بصورة ظاهرة وخفية، وتعلن الحرب على الله ورسوله والمؤمنين وهي بذلك تخرج على شريعة الله وتخالف أمره، ومن حارب الله فقد هزم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ ¬

_ (¬1) المصدر السابق، ص515. (¬2) انظر الخراج لأبي يوسف ص189. (¬3) انظر الحرب والسلم في شريعة الإسلام د/ مجيد خدوري ص199. (¬4) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام د/ عبد الكريم زيدان ص110.

اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (¬1). فوجود غير المسلمين في بلاد الإسلام لا يبرر إباحة الربا بأي وجه من الوجوه في البلاد الإسلامية. أما مشاركة المسلم لغير المسلم في تجارة ونحوها، فإن الشافعية يكرهون مشاركة المسلم لغير المسلم في المعاملات المالية، لما روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: «لا تشاركن يهوديًا ولا نصرانيًا ولا مجوسيًا، لأنهم يربون والربا لا يحل» (¬2). وقال الحنابلة تجوز المشاركة بشرط أن لا يخلو غير المسلم بالمال دون المسلم، لأن غير المسلم يعمل بالربا، فإذا تولى المسلم العدل تصرفات الشركة بنفسه زال المحذور فتجوز المشاركة حينئذ بهذا الشرط (¬3). وطائفة الكفار المحاربين الممتنعين ينصر بعضهم بعضًا فهم كالشخص الواحد لذا فإنه يجوز للحاكم أن يشترط عليهم عند دخولهم إلى بلاد الإسلام أن لا يأخذوا للمسلمين شيئًا، وما أخذوا بطريقة غير مشروعة يكونون ضامنين له، والمضمون يؤخذ من أموال التجار المحاربين عامة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأسير العقيلي حين قال: «يا محمد، علام أوخذ فقال بجريرة خلفائك من ثقيف» وأسره النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبسه لينال بذلك من حلفائه مقصوده. ولو أسرنا حربيًا قادمًا إلى دار الإسلام لأي غرض بقصد تخليص من أسٍروه منا جاز ذلك باتفاق المسلمين (¬4). ولنا أن نحبسه حتى يردوا أسيرنا ولو اخذنا مال حربي حتى يردوا علينا ما أخذوه لمسلم جاز ذلك إذ اشترط عليهم الإمام ذلك عقد الأمان عند الدخول (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (278، 279). (¬2) المصدر السابق ص555. رقم (2). (¬3) انظر المغني ج5 ص3 - 4. (¬4) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص516. (¬5) المصدر السابق نفس المكان.

وبناء على ذلك إذا قام الكفار المحاربون بالتضييق على المسلمين لديهم، فيجوز للمسلمين معاملة الكفار المستأمنين بمثل ما يعامل به المسلمون في بلاد الكفار عملاً بقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (¬1) ولكن هذه المعاملة ليست مطلقة من كل وجه، فقد يتعامل الكفار مع المسلمين في دار الكفر بأنواع من الظلم، ولا مجاراة في الظلم وهذا ما يؤكد أن مصدر حقوق الأجنبي في دار الإسلام هي الشريعة الإسلامية وما تمثله من أخلاق كريمة ومثل عليا (¬2). أما أهل الذمة فلا يجوز أخذهم بجريرة غيرهم من الكفار ما لم يتواطئوا مع أهل الحرب وتثبت خيانتهم، فعند ذلك يجوز معاقبتهم بجريمة خيانتهم، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بني قريظة عندما انحازوا إلى الأحزاب وظاهروهم على المسلمين (¬3). قال تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) (¬4). ونستنتج مما تقدم أنه محرم على المسلمين أفرادًا وحكومات أن يتعاملوا بالربا سواء فيما بينهم أو مع البنوك الأجنبية في بلادهم حيث إن الأصل هو عدم السماح لأي مصرف في البلاد الإسلامية أن يتعامل بالربا على أي شكل من الأشكال، كما أن تعامل الأفراد أو الدول بالربا مع البنوك الربوية خارج البلاد الإسلامية أمر محرم لا يجوز، لأن الواجبات والمحرمات لا تسقط عن المسلم في أي مكان كان ما دام عاقلاً مختارًا (¬5). وعلى هذا فإن الذين يمنحون التصاريح المتعددة للبنوك الربوية التي ¬

_ (¬1) سورة النحل آية (126). (¬2) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام. د/ عبد الكريم زيدان ص74. (¬3) انظر تهذيب سيرة ابن هشام ص225 - 235. (¬4) سورة الأحزاب آية (26). (¬5) انظر الحرب والسلم في شرعة الإسلام د/ مجيد خدوري ص199.

ملأت كل مدينة وقرية وكل منعطف وشارع، موالين لأعداء الله، محاربين لله ورسوله والمؤمنين بأعمالهم، وإن نافقوا بأقوالهم، وادعوا أنهم مسلمين فإن المسلم الحقيقي هو الذي يقف عند حدود الله، فلا يحل ما حرم الله من أنواع الربا، فمن استحل التعامل بالربا فقد خرج من الإسلام. قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (¬1). ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (44).

المثال الثاني: إعطاء المساعدات المالية للكفار

المثال الثاني: إعطاء المساعدات المالية للكفار تختلف صلة المسلمين بالكفار تبعًا لاختلاف موقفهم من الإسلام ومكان وجودهم من المسلمين فإن كانوا من أهل الذمة والعهد فلهم حقوق خاصة على المسلمين وإن كانوا من الكفار المحاربين الذين يسكنون خارج دار الإسلام فلهم طريقة خاصة في المعاملة تتناسب وحالهم، وإن كانوا من الكفار المسالمين القاطنين خارج دار الإسلام فلهم معاملة خاصة بهم، وبناء على هذا التقسيم يمكن أن تتنوع أنواع المساعدات وتختلف باختلاف أصناف الكفار الذين تتعامل معهم الدولة الإسلامية. إن الأصل الذي يجب أن تهتم به الدولة الإسلامية في قضية المساعدات المالية هم أهل الإسلام، فإن الصدقة الواجبة على أفراد المسلمين من زكاة الأموال وزكاة البدن ونحوهما إنما تجب لفقراء المسلمين على أغنيائهم كما في حديث معاذ (رضي الله عنه) الذي ورد فيه «فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على

فقرائهم» (¬1)، وقد روي عن جرير بن عبد الحميد عن الليث عن مجاهد قال «لا تتصدق على اليهودي ولا النصراني، إلا أن تجد مسلمًا» (¬2). وعلى هذا فإنه لا يجوز إعطاء الكفار من أنواع البر والصدقة إلا بعد كفاية المسلمين، والكفار يمكن تقسيمهم إلى ثلاث فئات: (أ) أهل عهد وذمة. (ب) كفار مسالمون. (ج) كفار محاربون. وإعطاء الكفار من المال هل يكون من الزكاة، أو من غيرها؟ فهذه المسائل تحتاج إلى توضيح مفصل، يوضح كل مسألة بمفردها على النحو التالي: المسألة الأولى: حكم إعطاء المال لأهل الذمة والعهد. يجوز إعطاء الذمي والمستأمن من بيت مال المسلمين إذا رأى الحاكم الشرعي أن ذلك في مصلحة الإسلام والمسلمين، وأن ذلك مما يقتضيه الواجب الإسلامي بمقتضى عقد الذمة والعهد، كما يجوز للأفراد إعطاء قراباتهم من الكفار عند الحاجة إلى ذلك. فقد روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال كان المسلمون لا يرضخون لقراباتهم من المشركين (¬3). فنزلت (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (¬4)، وقد سار على ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم - انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج2 ص790 - 791 رقم الحديث (1077). (¬2) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ج4 ص227. (¬3) انظر تفسير القرطبي ج3 ص337. (¬4) سورة البقرة آية (272).

ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر النقاش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ليس لك من صدقة المسلمين شيء» فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت: هذه الآية فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه (¬1). وقد وجد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) شيخًا من اليهود يسأل الناس، فقال: ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك ثم ضيعناك في كبرك! قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه (¬2). وفعل مثل ذلك عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) (¬3). ولهذا قال أبو عبيد في كتاب الأموال: لو علم عمر أن فيها سنة مؤقتة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تعداها إلى غيرها (¬4). وفي صلح خالد بن الوليد مع أهل الحيرة في زمن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قد سجل لهم ما يلي: «وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت عنه جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الهجرة والإسلام» (¬5). وقد صرح المالكية بأن دفع الضرر عن المسلمين ومن في حكمهم من أهل الذمة والمستأمنين فرض كفاية حيث نظروا إلى وجوب الإحسان والعدل مع كل إنسان ترفرف فوق رأسه راية الإسلام، مسلمًا كان، أو مذعنًا لأحكام الإسلام في الدولة الإسلامية (¬6). المسألة الثانية: حكم مساعدة الكفار بالمال خارج الدولة الإسلامية. ¬

_ (¬1) انظر الصحيح المسند من أسباب النزول/ مقبل بن هادي الوادعي ص23. (¬2) تفسير القرطبي ج3 ص337. (¬3) انظر الخراج لأبي يوسف ص144. وانظر أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية ص38 ج1. (¬4) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ص44 - 46. (¬5) انظر كتاب الخراج لأبي يوسف ص144. (¬6) انظر حاشية الدسوقي ج2 ص155.

الأصل في هذه المسألة أنه لا يجوز إعطاء الكفار من أهل الحرب وما دونهم مساعدات مالية أو عينية، إلا لغرض يراد به صالح الإسلام والمسلمين، فبذل المال للكفار بلا هدف أو غاية سامية شرعية أمر لا يجوز لأنه حينئذ يدخل في مجال التبذير في أقل الأحوال والله عز وجل قد ذم المبذرين وعدهم إخوان الشياطين وبالرجوع إلى الكتاب والسنة نجد أن هناك أدلة تبيح بذل المال للكفار عند تأليف قلوبهم على الإسلام قال الله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) (¬1)، ولم يرد ذكر للمؤلفة قلوبهم فيما عدا هذه الآية وقد اختلف المفسرون في المراد بالمؤلفة قلوبهم على أقوال منها ما يلي: أولاً: إن المراد بالمؤلفة قلوبهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام يُتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (¬2). ثانيًا: قال الزهري: إن المؤلفة قلوبهم من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيًا (¬3). ثالثًا: قال بعض المتأخرين: إنهم صنف من الكفار يعطون ليتألفوا على الإسلام، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف، ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان (¬4). رابعًا: قال بعض العلماء هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم، فيعطون ليتمكن الإسلام في صدورهم (¬5). خامسًا: قال جماعة إن المؤلفة قلوبهم هم قوم من عظماء المشركين ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (60). (¬2) انظر تفسير القرطبي ج8 ص178. (¬3) انظر تفسير القرطبي ج8 ص178. (¬4) انظر تفسير القرطبي ج8 ص179. (¬5) المصدر السابق المكان نفسه.

لهم أتباع، يعطون ليستدرجوا مع أتباعهم إلى الإسلام (¬1). وهذه الأقوال متقاربة، والقصد منها جميعًا، أن يكون الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء، فكأن ذلك ضرب من ضروب الجهاد، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عددًا منهم حديثي عهد بالإسلام على مائة من الإبل، وكانوا أشرافًا وحويطب بن عبد العزي، وصفوان بن أمية، ومالك بن عوف، والعلاء بن جارية، فسمي هؤلاء أصحاب المئين (¬2). وقد ورد في الحديث الصحيح «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه، خشية أن يكب في النار على وجهه» (¬3). وفي كتاب الأموال عن سعيد بن المسيب (رحمه الله) أنه قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تجري عليهم» (¬4). وروى الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أهل مكة خمسمائة دينار لما قحطوا وأمر أن يدفع ذلك إلى أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية قبل إسلامهما ليفرقاها على فقراء مكة فقبل ذلك أبو سفيان وأبو صفوان بن أمية، وكان أهل مكة في ذلك الوقت مشركين حربيين، فإذا صح ذلك في حقهم، فمن باب أولى أن يصح التصدق على الكفار المسالمين وأهل الذمة وأهل العهد لأنهم أولى بالرعاية والبر وخاصة من يقعون تحت مسئولية الدولة الإسلامية (¬5). وقد اختلف العلماء في بقاء العمل في إعطاء الكفار الذين يؤلفون على الإسلام على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) المصدر السابق المكان نفسه. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج4 ص233 - 234. (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج1 ص132 (كتاب الإيمان). (¬4) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ص613. (¬5) انظر أحكام الذميين والمستأمنين د/ عبد الكريم زيدان ص103. وانظر السير الكبير وشرحه ج1ص69.

القول الأول: من قال بانقطاع هذا الصنف من الناس بعز الإسلام وظهوره فإن الله قد أعز الإسلام وأهله وقطع دابر الكافرين فلا يعطون، فأما الإسلام أو الجزية، أو القتال، وقد قال بذلك عمر بن الخطاب والحسن البصري والشعبي (¬1) وهو المشهور من مذهب مالك بن أنس وأصحاب الرأي وبذلك قال بعض علماء الحنفية حيث قالوا: اجتمع الصحابة رضوان الله عليهم في خلافة عمر (رضي الله عنه) على سقوط سهم المؤلفة قلوبهم. القول الثاني: قول جماعة من العلماء إن إعطاء المؤلفة قلوبهم باق، لأن الإمام ربما احتاج إلى ذلك في تأليف قلوب بعض الناس على الإسلام، وإنما قطعهم عمر (رضي الله عنه) حين رأى عزَّ الإسلام، قال يونس سألت الزهري -محمد بن شهاب- عنهم فقال: لا أعلم ناسخًا في ذلك. وقال أبو جعفر النحاس: فعل هذا الحكم ثابت عند الحاجة إليه فإذا رأى الحاكم المسلم العدل أن أحدا يحتاج إلى تألفه، أو يخاف منه على المسلمين أن تلحق المسلمين منه آفة، أو يرجى أن يتحسن إسلامه بعد الدفع إليه دفع إليه. وقد ذهب الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والإرشاد إلى القول بجواز مساعدة الفقراء من الرجال والنساء والأطفال مهما كانت جنسياتهم واعتقاداتهم بشرط أن لا يكونوا منتمين إلى دولة معادية الإسلام والمسلمين (¬2). اهـ. القول الثالث: إن الكفار، وحديثي العهد بالإسلام يعطون عند الحاجة إلى ذلك في بعض الأوقات وهو قول القاضي عبد الوهاب (¬3). وقال ¬

_ (¬1) هو عامر بن شراحيل الشعبي من شعب همدان وكنيته (أبو عمر) ولد سنة (19هـ) ونشأ بالكوفة وكان علامة أهل الكوفة، محدث، فقيه، حافظ، شاعر، اتصل بعبد الملك بن مروان واستقضاه عمر بن عبد العزيز، وتوفي فجأة سنة (104هـ) بالكوفة. له كتاب الكفاية في العبادة والطاعة. انظر معجم المؤلفين عمر رضا كحالة/ ج5 ص54. (¬2) انظر مجلة الدعوة السعودية عدد (823) في 11/ 2/1402 ص19. (¬3) انظر تفسير القرطبي ج8 ص181.

ابن العربي: إن قوي الإسلام زال العطاء لهم وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيهم فإن في الحديث: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء» (¬1). وقد مر عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عند مقدمه بالجابية من أرض دمشق بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجري عليهم القوت (¬2). فهذه الآثار تدل على جواز إعطاء الكفار مساعدات مالية عندما يرى الحاكم المسلم العدل أن ذلك من مصلحة الإسلام والمسلمين ومن مقتضيات السياسة الشرعية للدولة الإسلامية. ولكن اختلف العلماء هل يجوز إعطاؤهم من الزكاة أم من غيرها من بيت المال إذا كان العطاء على مستوى الدولة دون الأفراد؟ وخلاصة الخلاف في هذه المسألة كما يلي: القول الأول: قول من يقول بجواز إعطائهم من الزكاة لأنهم داخلون في مسمى الفقراء والمساكين أو باعتبار أنهم جماعة من المؤلفة قلوبهم قال بذلك، زُفَر، والأباضية، ولكن اشترطوا لذلك شروطًا: 1 - منها عدم وجود المسلم المستحق لها. 2 - تعذر إرسالها إلى الإمام الشرعي. القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء إن الزكاة بقسميها زكاة المال وزكاة البدن لا يجوز أن يدفع منها لكافر، سواء كان ذميًا أو مستأمنًا أو ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن لابن العربي/ ج2 ص954 وانظر الحديث في صحيح مسلم ج1 ص130 في كتاب الإيمان باب (65). (¬2) تاريخ البلاذري ص177.

مسالمًا أو محاربًا، ودليل هؤلاء ما ورد من حديث معاذ (رضي الله عنه) «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» (¬1). وما روي عن يحيى بن سعيد عن أشعث عن الحسن قال: «لا يعطى من الزكاة نصراني، ولا يهودي، ولا مجوسي» (¬2) وعن عبد الرحمن بن سفيان عن إبراهيم بن مهاجر قال: قلت لإبراهيم النخعي: إن لنا أظارا (¬3)، من اليهود والنصارى أما أتصدق عليهم؟ فقال أما من الزكاة فلا (¬4) لأنها خالص مال المسلم فلا تخرج إلا لمسلم. وعن يزيد عن هشام عن الحسن قال: ليس لأهل الذمة في شيء من الواجب حق (¬5). ولكن إذا أراد الرجل تصدق عليهم من غير ذلك، يعني يعطون من صدقة التطوع دون صدقة الفريضة. قال أبو عبيد في كتاب الأموال: إنما كره العلماء إعطاءهم من الزكاة خاصة، لحديث معاذ المتقدم ذكره، حيث إنه الأصل في هذه المسألة (¬6) وكل هذه الآثار تدل على المنع وهو ما ذهب إليه الجمهور من العلماء، إلا أن قلة منهم قالوا: يجوز دفع الزكاة إلى الكفار عند تحقق الشرطين المتقدمين، وهما عدم وجود المسلم المستحق لها، وتعذر إرسالها إلى بيت المال (¬7). والذي أرجحه في هذه المسألة أنه لا يجوز إعطاء الكفار من الزكاة وخاصة المحاربين فلا يجوز إعطاؤهم حتى ولو لم يجد مسلمًا يستحقها ولم ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم انظر ص722 من هذه الرسالة. (¬2) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ج4 ص727. (¬3) جمع ظئر وهي المرضع ويطلق على الأب من الرضاعة أيضًا. انظر لسان العرب من ص639. (¬4) انظر كتاب الأموال لأبي عبيد ج4 ص727 - 729. (¬5) المصدر السابق المكان نفسه. (¬6) المصدر السابق المكان نفسه. (¬7) انظر كتاب الأموال/ لأبي عبيد ج4 ص727 - 729.

يستطع إيصالها إلى بيت مال المسلمين في وقتها فالأولى أن يبقيها أمانة عنده حتى تحين أول فرصة فيدفعها إلى مستحقيها لأن دفعها إلى الحربي يترتب عليه ضرر في حق الإسلام والمسلمين بخلاف تركها عنده، فلا يترتب على ذلك من الضرر بمثل ضرر دفعها إلى غير مستحقها، أما غير المحارب، من المسالمين وأهل الذمة وأهل العهد، فإن المسلم إذا وجبت عليه الزكاة ولم يجد من المسلمين من يستحقها وتعذر إيصالها إلى بيت المال بطريق لا يكلفه ما يشق عليه في العادة والعرف جاز له عند ذلك دفعها إلى الفقراء من هؤلاء ولا يلزمه ذلك، فلو كان المسلم بإحدى الدول الكافرة كمثل الطلبة المبتعثين ثم حل وقت زكاة ماله أو بدنه فدفع إلى من يثق به في البلاد الإسلامية مبلغًا من المال الذي هو زكاة ماله ليوزعه على فقراء المسلمين لكان أولى وأفضل من توزيعه على فقراء الكفار وكذلك زكاة بدنه لو أرسل نقودًا يشتري بها طعامًا في بلاد المسلمين وتوزع على فقراء المسلمين فذلك أولى لأن العلة في صدقة الفطر هي إغناء الفقراء عن السؤال في يوم العيد (¬1). والفقراء المطلوب فرحتهم ومنفعتهم هم فقراء المسلمين دون فقراء الكفار، فلو أوصى المسافر إلى بلاد الكفار أو أناب عنه من يقوم بتوزيع الزكاة الواجبة عليه في حينها لكان جائزًا كما أعتقد حيث إن ذلك ينسجم مع منهج الإسلام في اليسر والسهولة على المسلمين قال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (¬2). أما إعطاء المال للكفار من غير الزكاة، فالآثار تدل على جواز ذلك. وقد تقدم ذكر بعض الأدلة على هذا الموضوع ومن الأدلة الإضافية ما جاء في السير الكبير وشرحه: أنه لا بأس أن يصل المسلم قريبه المشرك ¬

_ (¬1) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج4 ص258. (¬2) سورة المائدة آية (6).

لحديث سلمة بن الأكوع (رضي الله عنه) قال صليت الصبح مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل أنت واهب لي ابنة أم فِرْقَة؟ قلت نعم. فوهبتها له فبعث بها إلى خاله حزن بن أبي وهب وهو مشرك وهي مشركة (¬1). وقد عقد البخاري في صحيحه باب الهدية للمشركين (¬2). وذكر قول الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (¬3). وقوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (¬4). وحديث ابن عمر (رضي الله عنهما) قال رأي عمر حلة على رجل تباع فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتع هذه الحلة، تلبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفد فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها بحلل، فأرسل إلى عمر منها بحلة فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: إني لم أكْسُكها لتلبسها، تبيعها أو تكسوها. فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم (¬5). ومثل هذا الحديث حديث أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما) قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أمي قدمت وهي راغبة. أفأصل أمي؟ قال نعم صلي أمك (¬6). والذي يؤخذ من الآيات والأحاديث المتقدمة أن البر والصلة للأقرباء ¬

_ (¬1) انظر شرح السير الكبير ج1 ص69 للسرخسي (ط - 1). (¬2) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج5 ص232. (¬3) سورة الممتحنة آية (8). (¬4) سورة لقمان آية (15). (¬5) رواه البخاري: انظر فتح الباري ج5 ص232 - 233. (¬6) الفرقة بالكسر السقاء الممتلئ لا يستطاع بمخض حتى يفرق. انظر القاموس المحيط للفيروز أبادي ج3 ص275. رواه البخاري. انظر فتح الباري ج5 ص232 - 233.

من المشركين لا يستلزم المحبة والتوادد والموالاة المنهي عنها بحق الكفار في قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (¬1). فإن هذه الآية عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل. وقال الخطابي في ذلك: إن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل الرحم المسلمة لكن تتميز الرحم المسلمة بالمحبة والمودة القلبية والرضا، لأن المسلم قد تجرد من أقبح صفة يمكن أن يتصف بها إنسان على وجه الأرض ألا وهي صفة الكفر (¬2). اهـ. وقد قال جماعة من أهل العلم: إن صلة القرابة من الكفار كانت مباحة في أول الدعوة، ثم نسخت الصلة والمساعدة للكفار (¬3). بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (¬4). اهـ. والذي أميل إليه في هذا الموضوع هو أن الله سبحانه وتعالى أباح للمسلم البر والصلة والمكافأة بالمعروف والعدل في التعامل مع المشركين خاصة إذا كانوا قرابة في النسب بشرط أن يكونوا غير محاربين لنا في الدين ولا مساعدين على حربنا وإخراجنا من ديارنا بأية صورة من صور التعاون المذموم، أما إذا كانوا محاربين لله ورسوله والمؤمنين فإن صلتهم محرمة ومساعدتهم جريمة وإن كانوا من أقرب الناس نسبًا قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة المجادلة آية (22). (¬2) انظر فتح الباري ج5 ص234. (¬3) المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) سورة التوبة آية (5). (¬5) سورة الممتحنة آية (9).

وبناء على ما تقدم من توضيح وبيان فإن الدول المعاصرة التي تبذر أموال المسلمين على شكل إعانات وتبرعات وقروض طويلة الأجل وقروض بفوائد ربوية، ترتكب جريمة كبيرة، وتقترف إثمًا عظيمًا في حق نفسها وأمتها ودينها، حيث تخالف بسلوكها هذا نهج الإسلام ونظامه في التعامل مع غير المسلمين. فكيف تدفع التبرعات السخية لمن يحارب الله ورسوله والذين آمنوا، بينما أكثر الشعوب الإسلامية تعيش على تبرعات غير المسلمين؟ ومن شدة فقرها وحاجتها فهل يكون أعداء الإسلام أرحم بفقراء المسلمين من أغنياء المسلمين أنفسهم؟ ولماذا يؤثر أغنياء المسلمين بصدقاتهم وتبرعاتهم أغنياء الكفار على فقراء المسلمين؟ إن الذين يؤثرون الكفار ببرهم وإحسانهم على المسلمين يجازفون بسعادتهم وسعادة شعوبهم، من أجل أن يرضوا أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين، وتلك غاية الموالاة للكفار إن الإحسان والبر وتقديم المساعدات الكبرى - بلا هدف إسلامي صحيح - لمن يحارب الله ورسوله والمؤمنين، خيانة وذلة ونذالة لا يقدم عليها إلا من لا خلق له ولا دين. فلقد أجمع المسلمون على تحريم بيع الأسلحة ونحوها لأهل الحرب لما يخشون من استخدامها ضد المسلمين (¬1). فكيف بمن يدعمون الدول والحكومات التي تعلن الحرب على الإسلام والمسلمين بالمال والبترول والولاء، بينما أهل الحق الشرعي لا يجدون من يساندهم أو يساعدهم بكلمة تذهب عبر موجات الأثير فضلاً عن المساعدات العينية؟ ولا نريد أن نستطرد في ذكر الأمثلة على ذلك، وإنما نشير إلى ذلك إشارة سريعة للتأكيد على صحة ما نقول: فقد عقد بنك البحرين الوطني، والمؤسسة المصرفية المتحدة اتفاقًا ¬

_ (¬1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص230 - 232.

يقضي بتقديم قرض بقيمة (50) مليون دولار لصالح البنك المركزي الفلبيني، ومدة القرض ثمان سنوات بفائدة ربوية بواقع 2/ 1 من 0.01 نصف من واحد في المائة من قيمة القرض (¬1). وهذا القرض لو استعرضناه من وجهة النظر الإسلامية لوجدناه يشتمل على ثلاث جرائم كبرى ورئيسية هي كما يلي: 1 - الجريمة الأولى في هذا القرض هي مساعدة حكومة ماركوس الصليبي الحاقد على الإسلام والمسلمين والذي يقتل المسلمين صباح مساء في جنوب الفلبين بلا شفقة ولا رحمة (¬2). وهذا عمل محرم، وتأييد ومناصرة لأهل الكفر على أهل الإسلام. قال الله تعالى: (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) (¬3) وأي مظاهرة أشد من تقوية الكفار بالمال الذي سيحاربون به المسلمين. 2 - الجريمة الثانية هي جريمة التعامل بالربا عن رضى وعلم واختيار والربا محرم بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأين محل هؤلاء من الإسلام؟ وما هو الإسلام في عرفهم؟ 3 - الجريمة الثالثة أن هذا التصرف خذلان للإسلام والمسلمين، ففي الوقت الذي تمتد فيه يد هؤلاء بالملايين لأعداء الإسلام والمسلمين نجد أنهم يحجمون عن تقديم أي عون للمسلمين المسحوقين في ذلك البلد، وهذا خلاف لما أمر الله به وأمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر مجلة المجتمع عدد (536) في 13/ 9/1401هـ السنة الحادية عشرة ص15. (¬2) انظر ص845 - 847 من هذه الرسالة. (¬3) سورة القصص آية (86). (¬4) سورة المائدة آية (2).

وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره» (¬1). وأي خذلان للمسلم أعظم من إعانة عدوه عليه. ومثل هذا التصرف اللامسئول، ما قامت به حكومة الكويت حيث تبرعت بمبلغ اثني عشر مليونًا من الدولارات لإقامة مجمع رياضي في الهند، سوف يقام على مقابر المسلمين الذين انتهكت حكومة الهند حرمتهم أحياء وأمواتًا (¬2) فيا ليت الحكومة الكويتية دفعت هذا المبلغ لإقامة مساجد للمسلمين في الهند أو دفعت هذا المبلغ لدعم جامعة عليكرة الإسلامية التي تكاد تتوقف الدراسة فيها نظرًا لضعف الموارد المالية لديها، أو دفعت هذا المبلغ لإيواء الأسر الإسلامية التي تشب وتشيب على أرصفة الشوارع في الهند. إن ما حصل من البحرين والكويت والسعودية وغيرها ما هو إلا قليل من كثير ... فإلى متى ... تبقى دماء المسلمين وأجسادهم رخيصة و ... يبقى مال المسلمين نهبًا لغيرهم؟!!! وقد تجاوز الأمر مسألة مساعدة الكفار المحاربين لله ورسوله والمؤمنين بالمال الإسلامي إلى بناء الأصنام من أموال المسلمين في بلاد الكفار. فقد نشرت جريدة القبس الكويتية الصادرة في 3/ 2/1980م خبرًا تحت عنوان «مائة ألف دولار من الكويت مساهمة منها لبناء النصب التذكاري للمدعو (مارتن لوثر كنك) في مدينة واشنطن بالولايات المتحدة ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج2 ص1080 رقم الحديث (1572) (¬2) انظر مجلة المجتمع عدد (521) السنة الحادية عشرة في 18/ 5/1401 ص16.

الأمريكية» (¬1). اهـ. فهل هناك مهزلة أو سخف أو غباء أو فقدان هوية أشد من ذلك؟ حتى تتبرع دولة من الدول المحسوبة على الإسلام فتبني صنمًا وتقيم وثنًا لأكبر كاهن نصراني صليبي، في أغنى دولة في العالم، بينما أطفال المسلمين يموتون جوعًا، ويعيش معظمهم حفاة عراة يفترشون الجليد، ويلتحفون صقيع السماء في أفغانستان وبورما وبنغلاديش والفلبين وسوريا ولبنان وايرتيريا، وغيرها من البلدان الإسلامية المنكوبة. فهل (لوثر كنك) أهم من ألفي طفل مسلم باعهم الصليبيون في لبنان إلى جمعيات التنصير والتكفير في أوربا وأمريكا ليصبحوا قسيسين ورهبانًا للنصرانية في المستقبل القريب؟ (¬2). إن الأمر ليس أمر الكويت وحدها، وإنما يشاركها دول في مثل ذلك ولكنها قد تكون متميزة عن بقية دول المنطقة بأن لديها قدرًا من الحرية الصحفية، بينما بقية الدول يجري فيها مثل ذلك أو أعظم من ذلك تحت جنح الظلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وإنا لله وإنا إليه راجعون. ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق المكان نفسه. (¬2) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (521) في 18/ 5/1401هـ. ص16.

المثال الثالث: تمكين الكفار من استغلال أموال المسلمين

المثال الثالث: تمكين الكفار من استغلال أموال المسلمين إن الإنسان لو ألقى نظرة على الدول العربية والإسلامية لرأي أن أهم مصادر دخلها هو البترول فهو المصدر الوحيد لمعظم الدول العربية والبترول ثروة ناضبة كما يؤكد ذلك أهل الاختصاص في هذا المجال. فقد ذكر وزير البترول الكويتي في تقرير له في أحد مؤتمرات الأوابك: «أننا لو أخذنا الاحتياطات النفطية خارج المناطق الشيوعية لوجدنا أن العالم لديه في نهاية سنة 1978م 1398هـ احتياطي نفطي مقداره (85) بليون طن وعلى فرض أن معدل النمو الاقتصادي يمكن إبقاؤه عند حد 3% في السنة وهي نسبة مشكوك في بقائها كثيرًا، وعلى فرض وجود اكتشافات نفطية تبلغ بليون طن في السنة على مدى العشر سنوات القادمة، فإن كل احتياطي النفط المعروف في الوقت الحاضر زائد كمية النفط التي يمكن اكتشافها لا تكفي لاستهلاك العالم بين عامي 1979م - 2008م - 1399هـ - 1328هـ- البالغ (100) بليون طن أي أن مجموع الاحتياط مع ما يمكن اكتشافه = 85 + 10 = 95 بليون واستهلاك العالم من البترول حسب الإحصائيات العالمية خلال الفترة المذكورة سوف يكون (100) بليون

طن أي بنقص خمسة بلايين طن عن الكمية الموجودة والمتوقعة» (¬1). ومسألة إنتاج النفط بكميات كبيرة رغم عدم الحاجة إلى ثمنه ورغم غلبة الظن في نفاذه، قد تكون مسألة غير اختيارية لبعض الدول، كما يقول المثل (مكره أخاك لا بطل) ولكن الأغرب من ذلك كله أن الدول النفطية لا تستثمر قيمة بترولها استثمارًا صحيحًا فإن نظرة واحدة إلى الأرصدة العربية الموجودة في بنوك العالم تظهر الأموال الهائلة التي لا يستثمرها العرب المسلمون حق الاستثمار وهذه الأرصدة هي كما يلي: 1 - المملكة العربية السعودية ... ... (77) بليون دولار. 2 - الكويت ... ... ... ... (38) بليون دولار. 3 - الإمارات وقطر ... ... ... (26) بليون دولار. ويكون المجموع لهذه الأرصدة هو: (141) بليون دولار (¬2). وهذا التقدير قبل ثلاث سنوات أي قبل أن تقفز الأسعار إلى الضعف، ولكن السؤال لماذا لا تستثمر هذه الأموال لصالح الإسلام والمسلمين؟ إن واقع المسلمين لا يرقى إلى مستوى ما يملكون من ثروة فهم في فقر مدقع وتدهور مشين في جميع مجالات الحياة، فلا يملكون قوة عسكرية ضاربة، ولا مصانع إنتاجية كبيرة، ولا ثروة زراعية كافية، ولا طاقة بشرية علمية قادرة. مع أن المجال رحب وواسع لاستثمار هذه الأموال كلها في صالح هذه الأغراض فهناك مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة في السودان والعراق وفي شمال أفريقيا وأعالي النيل في مصر، إضافة إلى ¬

_ (¬1) انظر مجلة البلاغ العدد (513) في 16/ 11/1399هـ من صفحة 6 - 12. (¬2) انظر مجلة المجتمع عدد 422 في 5/ 1/1399هـ ص17.

المساحات الهائلة من الأراضي الزراعية في باكستان وأفغانستان وأندونسيا وماليزيا وبعض الدول المسلمة الأخرى وهذه الدول جميعها تملك إمكانات زراعية لو عمل أصحاب الأموال على مساعدتها في تطويرها واستغلالها الاستغلال التام، لاستفاد الجميع وأفادوا معهم الإنسانية جمعاء، حيث يموت ثلاثون مليون طفل سنويًا من قلة الغذاء. ثم إن ترك هذه الأموال في أيدي أعدائنا تقوية لهم ضدنا ووسيلة يستخدمونها للضغط علينا كما حصل مع إيران فالسعيد من وعظ بغيره. والدول الغربية تتعامل معنا كما يتعامل المنشار مع الخشب فهي تستغلنا في بيعنا علينا وشرائها منا وقد وضح هذه الحقيقة الدكتور/ عودة أبو بدينة نائب رئيس الخزانة في فرست ناشيونال بنك أوف شيكاغو حيث يقول: إن الدول المصدرة للنفط قد دعمت الميزان التجاري الأمريكي بما يكفي للتغطية وإحداث فائض، وذلك من خلال الطرق التالية: أولاً: من خلال الأرباح الفائضة للسلع التي تصدرها أمريكا إلى الدول النفطية. ثانيًا: من خلال أرباح الشركات النفطية الأمريكية في الشرق الأوسط. ثالثًا: من خلال تدفق قيمة النفط إلى أسواق المال الأمريكية. وعلى هذا فكل دولار دفعته أمريكا ثمنًا للنفط من بلدان الشرق الأوسط، يساوي بعد التحليل والمقارنة قيمة الأرباح للسلع والخدمات التي حصلت عليها الولايات المتحدة من الدول النفطية، فخلال الأعوام (1977م - 1979م) بلغت قيمة النفط الذي اشترته أمريكا (7.2) مليارات دولار وبلغت الأرباح عن الفترة نفسها (8.155) مليارات دولار وقد أوضح هذه الحقيقة بالبيانات والأرقام الدقيقة والتفصيلية ولولا خشية الإطالة والخروج عن الموضوع لأوردنا تلك التفاصيل (¬1). ¬

_ (¬1) انظر مجلة الاقتصاد والأعمال السنة الثانية العدد (18) - بيروت - لبنان ص19 - 20.

وبعبارة موجزة فإن النفط يصل إلى قلب الولايات المتحدة بالمجان. ومع ذلك كله فإن أمريكا والدول الغربية كافة لا تتعامل معنا على نحو يمكن أن يتكافأ مع ما نقدمه لهم من خدمات وما نتنازل عنه لهم من حقوق. يقول الدكتور/ جاك شاهين أستاذ الإعلام في جامعة (الينوي) بالولايات المتحدة «إن معنى أن تكون عربيًا في أمريكا، هو أن تكون مثارًا للسخرية من وسائل الإعلام، فالعرب دائمًا محتقرون في القصص والأفلام السينمائية، والكتب المتحركة، والكاريكاتير والمجلات والصحف والكتب المدرسية» (¬1). اهـ. والعربي يظهر من خلال كل هذه الوسائل الشديدة الجماهيرية على أنه «المخرب الأحول ذو الأنف المعقوف، القذر، المقطب الحاجبين، المتخلف، المجنون جنسيًا، الثري المتلاف، الشهواني الانتهازي، الطماع، البليد، الإرهابي، الجاهل المركب». ويقول الدكتور/ وليد خدوري مديرة إدارة الإعلام بمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول في ندوة عقدت في لندن قبل عامين «إن من المسلم به أن العرب قد احتفظ لهم الغرب بصورة بائسة حتى خلال التاريخ الحديث» (¬2). اهـ. وهذه النظرة الظالمة الجائرة تعكس موقفًا عدائيًا متحيزًا بصورة متعمدة ومعادية لجميع البلاد الإسلامية. وقد تخطو جميع الأنظمة والقوانين الصادرة منهم بمنع الكتابات أو الرسوم ذات الصبغة العنصرية، وقد اعترف بهذه الحقيقة الدكتور/ جونتان ¬

_ (¬1) انظر مجلة اليمامة العدد (671) السنة التاسعة والعشرون الجمعة 18/ 12/1401هـ ص3 - 7. (¬2) المصدر السابق المكان نفسه.

ديمبل أحد المشاركين في ندوة الصحافة الدولية عام (1979م) (¬1). ونحن أوردنا هذه النقول لندحض حجج الذين يحسنون الظن بأعداء الإسلام والمسلمين، ولنقول لهم هآنتم تفتحون لهم قلوبكم وبلادكم وتضحون لرضاهم بدينكم ودنياكم، وهم يسخرون منكم بأقوالهم وأفعالهم وصدق الله العظيم حيث يقول: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (¬2). إن الدول الإسلامية مطالبة اليوم بأن تكون على مستوى المسئولية في تصرفاتها ومعاملاتها، وأن تستخدم قدراتها المالية والبشرية فيما يعود نفعه على الإسلام والمسلمين. قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (¬3). إن الله عز وجل قد مكن لهذه الأمة وأعطاها من القدرات المعنوية والحسية ما يجعلها رائدة العالم في كل زمان ومكان ففي هذا العصر الذي تتباهي به الدول الصناعية الكافرة في الشرق والغرب نجد أن الله عز وجل قد حبا الدول الإسلامية، بأن يكون بيدها نصف إنتاج العالم من النفط حيث تنتج في السنة (1461) مليون طن من النفط وتصدر ثلثي مجموع صادرات الدول المنتجة للنفط في العالم (¬4). وهذا مما يقيم الحجة عليها في تبليغ الرسالة وتأدية الأمانة التي كلفها الله بها فهي وإن ضعفت في مجال الصناعة فقد عوضها الله عن ذلك في مجالات أخرى سهلة ميسرة حيث مكنها من السيطرة على أغلى مادة يحتاج ¬

_ (¬1) المصدر السابق المكان نفسه. (¬2) سورة آل عمران آية (119). (¬3) سورة القصص آية (77). (¬4) انظر مجلة المجتمع عدد 440 السنة العاشرة في 13/ 5/1399هـ.

إليها الناس في العالم، فكان الواجب عليها أن ترعى حق الله في ذلك وأن تستخدم ما أوتيت من مال الله فيما يحبه الله ويرضاه ولكن الواقع بعيد عما يجب أن يكون فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

المثال الرابع: تمكين الكفار من الوظائف الهامة في البلاد الإسلامية

المثال الرابع: تمكين الكفار من الوظائف الهامة في البلاد الإسلامية إن الأصل في منهج الدول الإسلامية الحقيقة، أن لا يتولى الوظائف الخاصة والعامة إلا أهل الإسلام، لأن غير المسلمين قوم لا تؤمن خيانتهم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (¬1). ولذلك قال جمهور العلماء: بأنه لا يستعان بالكافر عند وجود من يقوم مقامه من المسلمين، وقد أصبحت هذه المسألة كقاعدة مطردة في حياة المسلمين السابقين (¬2). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): «لا يجوز أن يولّى ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (118). (¬2) انظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7. وانظر تفسير القرطبي ج4 ص179. وانظر الآداب الشرعية والمنح المرعية/ محمد بن مفلح الحنبلي ج2 ص462 - 464. وانظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص516 - 517.

الكتابي شيئًا من ولايات المسلمين على جهات سلطانية، ولا أخبار الأمراء، ولا غير ذلك من المناصب الهامة ذات المساس بمصالح الأمة وقوتها» (¬1). اهـ. وقد روى الإمام أحمد (رحمه الله) بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) قال: قلت لعمر (رضي الله عنه): «إن لي كاتبًا نصرانيًا» قال: مالك قاتلك الله! أما سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (¬2). ألا اتخذت حنيفًا مسلمًا قال. قلت: «يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه». قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أضلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله (¬3). وورد على عمر (رضي الله عنه) كتاب معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) أما بعد. يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتبًا نصرانيًا لا يتم أمر الخراج إلا به، فكرهت أن أقلده دون أمرك، فكتب إليه عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني. أما بعد: فإن النصراني قد مات. والسلام (¬4). يعني مراد عمر (رضي الله عنه) أنه لو قدر موت هذا النصراني فما كان معاوية صانعًا بعد موته فليصنعه الآن، وهذا أمر من عمر (رضي الله عنه) لمعاوية (رضي الله عنه) بإبعاد النصراني وتولية غيره من المسلمين مكانه من غير مراجعة، وإخبار له بأن المسلمين في غنية عن أعداء الله في مثل هذه المهام، ومثل ذلك ما رواه هلال الطائي عن وسق ¬

_ (¬1) مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص512. (¬2) سورة المائدة آية (51). (¬3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص50 وانظر السنن الكبرى للبيهقي ج10ص127 كتاب آداب القاضي. (¬4) انظر أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية ج1 ص211.

الرومي قال كنت مملوكًا لعمر (رضي الله عنه) فكان يقول لي أسلم فإنك إن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين، فإنه لا ينبغي أن أستعين على أمانتهم، من ليس منهم، فأبيت فقال لا إكراه في الدين. فلما حضرته الوفاة أعتقني فقال اذهب حيث شئت (¬1). ويروى أنه كتب بعض عمال عمر (رضي الله عنه) إليه يستشيرونه في استعمال الكفار، فقالوا: إن المال قد كثر ولا يحصيه إلا هم، فاكتب إلينا بما ترى، فكتب إليهم، «لا تدخلوهم في دينكم، ولا تسلموهم ما منعهم الله منه، ولا تأمنوهم على أموالكم، وتعلموا الكتابة فإنما هي حلية الرجال» (¬2). ثم قال: من كان قبله كاتب من المشركين، فلا يعاشره ولا يؤازره ولا يجالسه، ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده (¬3) اهـ. وروي أن عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) كتب إلى بعض عماله. «أما بعد: فإنه بلغني أن في عملك كاتبًا نصرانيًا، يتصرف في مصالح المسلمين والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (¬4). فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -يعني ذلك الكاتب إلى الإسلام- فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به، ولا تتخذ أحدًا على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين». اهـ. فأسلم حسان وحسن إسلامه (¬5). ويروى أن عمر (رضي الله عنه) كتب إلى أبي هريرة (رضي الله ¬

_ (¬1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص37. (¬2) انظر أحكام أهل الذمة ج1 ص211. (¬3) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص211. (¬4) سورة المائدة آية (57). (¬5) المصدر السابق ج1 ص214.

عنه) كتابًا جاء فيه «وأبعد أهل الشرك وأنكر فعالهم، ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك» (¬1). وعن عمر (رضي الله عنه) قال: «لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى، وقيل لعمر (رضي الله عنه): إن هاهنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا اتخذ بطانة من دون المؤمنين (¬2). فعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يحسن معاملتهم ولا يستعين بهم في أعمال المسلمين» (¬3). وقد أمرنا الله عز وجل على لسان رسوله باتباع سنة الخلفاء الراشدين حيث روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ» (¬4). فمما تقدم نستنتج أن توظيف الكفار في بلاد المسلمين كان في بداية الأمر نادرًا وقليلاً جدًا، وكان أمرًا مستنكرًا إلا عند الضرورة القصوى، رغم أن الكفار كانوا يعملون بصفة أجراء مستخدمين أذلاء مستصغرين أمام المسلمين، ولكن المسلمين مع ذلك كانوا يستعظمون هذا الأمر، فقد أنكر علي بن عيسى (¬5) على ابن الفرات تقليده ديوان الجيش لرجل نصراني ¬

_ (¬1) المصدر السابق ج1 ص212. (¬2) انظر تفسير القرطبي ج4 ص179. (¬3) انظر ظهر الإسلام/ أحمد أمين ج1 ص83. (¬4) رواه ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود، وأبو داود والترمذي من رواية العرباض بن سارية وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. انظر جند الله ثقافة وأخلاقًا/ تأليف سعيد حوى ص 140. وانظر ص649 من هذه الرسالة. (¬5) يوجد علي بن عيسى بن عبيد الله (أبو الحسن) النحوي المعروف بالرماني، ولد سنة (296هـ) وكانت له يد طولى في النحو واللغة، والمنطق والكلام وله تفسير كبير، وتوفي سنة (384هـ) ولا أدري هل هو المقصود أم لا؟ حيث إنه كان في سن السادسة عشرة عندما توفي ابن الفرات. انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج11 ص151. وانظر ج11 ص314.

فقال: «ما اتقيت الله في تقليدك ديوان الجيش رجلاً نصرانيًا، وجعلت أنصار الدين وحماة العقيدة والبيضة يقبلون يده ويمثلون أمره» (¬1) وللمهدي عامل نصراني تجاوز حدوده، فاستدعاه بعض المسلمين إلى القاضي سوار بن عبد الله وحضروا لديه، وبعد الأدلاء بالأقوال طلب البينة فشهدت على النصراني وتعديه منهج الحق، ثم خرج النصراني وعاد بكتاب المهدي الذي سبق أن أعطيه، فدخل المسجد هو وجماعة من النصارى ثم تجاوز الجالسين وحاول الخدم منعه فأبى حتى حضر أمام سوار بن عبد الله فدفع إليه الكتاب فرماه سوار ولم يقرأه، وقال ألست نصرانيًا؟ فقال: بلى. أصلح الله القاضي. ثم رفع سوار رأسه وقال جروه برجله خارج المسجد وأقسم أن لا ينظر له في شيء حتى يوفي المسلمين حقوقهم، فقال كاتب القاضي: قد فعلت اليوم أمرًا يخشى أن يكون له عاقبة. فقال: أعز أمر الله يعزك الله (¬2). وفي عهد المهدي قويت شوكة أهل الذمة قليلاً ومكنهم من بعض المناصب التي هي بالقياس إلى ما يحصل في زماننا شيء لا يذكر، ولكن المسلمين في ذلك الوقت لقوة الإيمان لديهم وشدة حساسيتهم للمنكر - استعظموا ذلك، فاجتمع بعض الصالحين ثم ذهبوا إلى المهدي وأنشد أحدهم عند الخليفة هذه الأبيات: بأبي وأمي ضاعت الأحلام ... أم ضاعت الأذهان والأفهام من صد عن دين النبي - صلى الله عليه وسلم - محمد ... أله بأمر المسلمين قيام ألا تكن أسيافهم مشهورة ... فينا، فتلك سيوفهم أقلام ¬

_ (¬1) انظر ظهر الإسلام/ أحمد أمين ج1 ص83. وانظر كتاب الوزراء/ للصابي ص95. (¬2) أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص217.

فكتب إلى جميع عماله أن لا يتركوا أحدًا من أهل الذمة يكتب عند أحد منهم (¬1). وقد ذكر المؤرخون والعلماء أن من فضائل هارون الرشيد أنه ما قلد أحدًا من أهل الذمة منصبًا يضار المسلمون من خلاله، فقد قلد الفضل بن يحيى أعمال خرسان، وجعفرا أخاه، ديوان الخراج، ولذلك عُمِرت المساجد والجوامع وأقيمت الصهاريج وأماكن السقيا، وجعلت الدواوين لليتامى والعجزة ولو مكن لأهل الذمة لما حصل شيء من ذلك (¬2). وفي عهد المأمون كان يحضر مجلسه يهودي، فأتى أحد الشعراء المسلمين وأراد أن يوقع بهذا اليهودي، أو يسلم، فأنشد أبياتًا منها: يا ابن الذين طاعته في الورى ... وحكمه مفترض واجب إن الذي عظمت من أجله ... يزعم هذا أنه كاذب فالتفت المأمون إلى اليهودي وقال: أصحيح ما يقول؟ قال نعم، فأمر بإبعاده، وقيل بقتله (¬3). وفي عهد المتوكل حج المتوكل في إحدى السنوات فسمع بعض رجاله رجلاً يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل علنًا فأخذه الحرس، وجاءوا به سريعًا إليه، فقال ما حملك على ما صنعت؟ فقال والله يا أمير المؤمنين، ما قلت الذي قلته إلا وقد أيقنت بالقتل، ولكن اسمع كلامي وأمر بقتلي بعد ذلك إن أردت، فقال: قل. فقال: سأطلق لساني بما يرضي الله ورسوله، ويغضبك يا أمير المؤمنين، قد اكتنف دولتك، كتاب ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص216. (¬2) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص217. وانظر أحداث سنة (191هـ) في البداية والنهاية/ لابن كثير ج1 ص206 وتاريخ الطبري ج10 ص100 (ط - الحسينية). (¬3) أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص219.

من أهل الذمة، أحسنوا الاختيار لأنفسهم وأساءوا الاختيار للمسلمين وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خفتهم ولم تخف الله، وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا مسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم، بفساد آخرتك، فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة، من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته، واذكر ليلة تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلة يخلو فيها المرء بقبره ليس معه إلا عمله، فبكى المتوكل إلى أن أغشى عليه، ثم أمر بإزالتهم (¬1). وأما الخليفة المقتدر بالله فإنه في سنة خمس وتسعين ومائتين عزل كتاب النصارى وعمالهم، وأمر أن لا يستعان بأحد من أهل الذمة (¬2). حتى إنه أمر بقتل أبي ياسر النصراني عامل مؤنس الحاجب لتعديه على حقوق المسلمين. وكذلك الخليفة الراضي بالله كثرت الشكايات من أهل الذمة في زمانه ومن الذين شكوا الشاعر مسعود بن الحسين الشريف البياضي حيث يقول: يا ابن الخلائف من قريش والأولى ... طهرت أصولهم من الأدناس قلدت أمر المسلمين عدوهم ... ما هكذا فعلت بنو العباسي حاشاك من قول الرعية أنه ... ناس لقاء الله أو متناسي ما لعذر إن قالوا غدا هذا الذي ... ولى اليهود على رقاب الناس ما كنت تفعل بعدهم لو أهلكوا ... فافعل وعدّ القوم في الأرماس (¬3) وفي عهد الخليفة المستنصر بالله زاد نفوذهم حتى بدأ يغبطهم بعض المسلمين على مناصبهم كما صور ذلك الشاعر الراضي بن البواب حيث يقول: ¬

_ (¬1) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص222. (¬2) انظر البداية والنهاية لابن كثير ج11 ص108. وانظر أحكام أهل الذمة ج1 ص224. (¬3) أحكام أهل الذمة ج1 ص225.

يهود هذا الزمان قد بلغوا ... غاية آمالهم وقد ملكوا العز فيهم، والمال عندهم ... ومنهم المستشار والحكم يا أهل مصر إني قد نصحت لكم ... تهودوا كي تنالوا ما ملكوا (¬1) وقد ولى العزيز بالله نصرانيًا اسمه (عيسى بن نسطورس) كتابة الأموال، واستناب بالشام يهوديًا اسمه (منشا) فاعتز بولايتهما النصارى واليهود، وأوذي المسلمون، وقد عمد أهل مصر الغيورون على الإسلام والمسلمين، فوضعوا دمية على شكل مجسم لإنسان ووضعوا بين يديه ورقة كبيرة كتبوا عليها «بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي» وأقعدوا تلك الدمية على طريق العزيز بالله، فلما رآها أمر بأخذها، وقرأ ما فيها، ثم قبض على النصراني واليهودي فأودعهما السجن وأخذ منهما أموالاً كثيرة وأبعدهما وقراباتهما عن الحكم وكذلك فعل الحاكم بأمر الله (¬2). وقد لزم الملك الصالح صلاح الدين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور بن قلاوون أهل الذمة بالذلة والصغار، وأمر أن لا يستخدم منهم أحد في الدواوين السلطانية ولا في شيء من الأشياء التي يمكن أن يكون عملهم بها مضرًا على الإسلام والمسلمين، وذلك خلال حكمه ما بين (753 - 755هـ) (¬3). وهذه المواقف كلها تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يجوز تمكين اليهود والنصارى من الوظائف والمهن التي يحققون من خلالها الاستعلاء على المسلمين، تمشيًا مع قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الإسلام السياسي. د/ حسن إبراهيم ج4 ص183. (¬2) انظر ظهر الإسلام/ أحمد أمين ج1 ص82. وانظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج11ص320. (¬3) انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج14 ص250. (¬4) سورة آل عمران آية (118).

وجميع الروايات المروية عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بطرقها المختلفة تؤكد الالتزام بمعنى هذه الآية، وتوصل هذا المفهوم بما لا يدع مجالاً للشك أو التردد، من أن الاستعانة بغير المسلمين لا تجوز إلا عند الضرورة القصوى وبقدر ضئيل لا يشكل خطرًا أو ضررًا على الإسلام والمسلمين وقد عد ابن تيمية الاستعانة بالنصيريين من أكبر الكبائر مع أنهم يدعون الإسلام. فكيف بالكفار الصرحاء الذين يعلنون كفرهم وعداوتهم للإسلام والمسلمين (¬1). اهـ. ولكن المسلمين قد تجاوزوا هذا الحكم كما تجاوزوا غيره من الأحكام الشرعية وتذللوا مع أعداء الله أكثر مما يجب لدرجة أن أحد كتاب الغرب أنفسهم وهو (آدم متز) أحد مؤرخي الغرب يقول: «من الأمور التي نعجب لها كثيرًا كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في أمور الدولة الإسلامية» (¬2). وهذا يدلنا على أن الدولة الإسلامية قد فتحت صدرها بكل رحابة لغير المسلمين وأشركتهم في إدارة شئونها وهي تعلم أنهم يخالفونها في العقيدة والغاية، وهذا الموقف هو أقصى درجات التعاون مع المخالفين في العقيدة والتسامح معهم ولكن ذلك كله ما كان يقابل من أهل الذمة بالاستحسان والاعتراف بالجميل بل كان البعض منهم يستغل هذا التسامح لتهييج روح الانتقام والتسلط على رقاب المسلمين وهذا ما حصل في الأيام الأولى من خلافة الآمر بأمر الله، فقد كان أحد الذميين كاتبًا للخليفة، فآذى المسلمين واحتكر الوظائف والمصالح لأهل ملته، وعندما أحس بتمركزهم وخوف انتقام المسلمين منهم جمع أبناء ملته وخطب فيهم قائلاً: نحن ملاك هذه الديار وقد أخذها المسلمون منا وتغلبوا عليها واغتصبوها من أيدينا فنحن ¬

_ (¬1) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ لابن تيمية ص 476. (¬2) انظر كتاب الإسلام انطلاق لا جمود. د/ مصطفى الرافعي ص16.

مهما فعلنا بالمسلمين من مكر وخديعة فهو قبالة (¬1) ما فعلوه بنا، فجميع ما نأخذه من أموالهم وأموال ملوكهم حل لنا وبعض ما نستحقه عليهم (¬2). هذه نظرة عامة أهل الكتاب إلى المسلمين، وهذا ما يطبقه أعداء الله في واقع المسلمين اليوم حيث نهبوا خيرات المسلمين المادية والمعنوية وفرقوا شمل الأمة الإسلامية وخططوا ويخططون للوقيعة بها في شتى المجالات وهذا الفعل إنما هو مصداق لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (¬3). فنحن لم نعقل أمر الله في مقاطعة الذين كفروا والابتعاد عنهم ولذلك أصابنا ما حذرنا الله منه قال تعالى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (¬4). إن واجب الحكومات والشعوب التي تدعي الإسلام إن كانت صادقة في دعواها، أن تعمل على تقديم المسلمين وتفضيلهم على الكفار عند الاستقدام والتوظيف وذلك أمر واجب عقلاً وشرعًا، ففي الشرع يقول الله عز وجل (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (¬5). وفي الحديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ... » الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) أي مثل الدَيْن عليهم نسترده منهم. انظر المعجم الوسيط ج2 ص719. (¬2) انظر أحكام أهل الذمة/ ابن قيم الجوزية ج1 ص227. (¬3) سورة آل عمران آية (118). (¬4) سورة التوبة آية (8). (¬5) سورة المائدة آية (2). (¬6) رواه مسلم وانظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1 ص258.

وأما من حيث العقل فإن المسلم عندما يوفر فرصة العمل لأخيه فإنما يعينه على الحياة بوسيلة شريفة وهذا نوع من التكافل الاجتماعي بين المسلمين وثانيًا أن المسلم عندما يستقدم للعمل أحد إخوانه المسلمين فمعنى ذلك أنه لم يدخل في الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي جسمًا غريبًا على المسلمين في أقل الأحوال، بخلاف من يستقدم الكافر فإنه إن لم يكن هذا عدوا لدودا لهذا الدين وهذه الأمة فأقل أحواله أنه غريب على المسلمين في عقيدته وأقواله وأفعاله يخشى فساده ولا يؤمن ضرره على الإسلام والمسلمين وما يتعلل به البعض من أن الكفار أحسن خدمة، وأكثر أمانة وأقوى التزامًا بالعمل ومواعيده، فالرد أن هذه صفات توجد في المسلمين والكفار وهي مشتركة بين الناس جميعًا ولكن تلك الصفات باعثها في المؤمن غير باعثها في الكافر، فالكافر قد يتخذ تلك الصفات للدعاية لنفسه ولكفره وليخدع بها بعض الناس في التعامل كي يصل إلى هدفه الحقيقي في استغلال الغير إلى أبعد الحدود وبطريقة لا يشعر بها المستغل أنهم يستغلونه، أما المؤمن فإن الباعث للصفات الحسنة في نفسه هو مجرد الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً، ولذلك إذا توفرت في المسلم صفة الإيمان الحقيقي توفرت فيه جميع الصفات الحسنة لأن الأخلاق الكريمة من ثمار الإيمان الصحيح ومن علاماته، فدور المسلم هو البحث عن إخوانه المسلمين الذين يجمعون بين القول والعمل والذين تظهر عليهم علامات الصدق والإيمان فيجب عليه أن يأخذ باعتباره أساسًا أن المعاملة مع غير المسلمين لا تجوز إلا عند الضرورة القصوى ووفق شروط معينة لا تتوفر في عامة الكفار ممن يعملون في دار الإسلام وقد ورد في الأثر «ومن قلد رجلاً على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى منه لله فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين» (¬1). فالواجب عند الاختيار هو اختيار من هو أقرب إلى الله ورسوله ¬

_ (¬1) الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية/ ابن تيمية ص8.

والمؤمنين وفي الغالب لا يوجد كامل، فيفعل خير الخيرين ويدفع شر الشرين، ولهذا كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: «اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة» (¬1). وعندما يتعذر على المسلم إحلال مسلم محل كافر بعد بذل الجهد واستفراغ الوسع فلا مانع من استخدام الكافر عند ذلك فإن الله عز وجل ما جعل علينا في الدين من حرج قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (¬2). ولكنه بعيد جدًا أن يبحث المسلم في المجتمع الإسلامي الكبير عن شخص ذي صفات ومواصفات معينة فلا يجده بين المسلمين حتى يضطر إلى التعاقد مع الكفار، إلا إذا كانت تلك الصفات والمواصفات التي ينشدها يحرمها الإسلام، فهو يلجأ إلى غير المسلمين لأنها شبه مباحة في نظرهم، ولأنهم لا يرون في فعلها غضاضة. ولا يتحرجون عن ارتكاب تلك الدنايا. في الوقت الذي يمتنع المسلم عن فعلها بكل عزة وإباء. وبناء على ذلك فإن استعمال الكفار لا يجوز إلا بشرطين: 1 - تعذر من يحل محل الكفار من المسلمين. 2 - أن يؤمن جانبهم على الإسلام والمسلمين. ولهذا يجوز للمسلمين أن يستخدموا الكفار في الوظائف التعليمية عند عدم وجود من يقوم مقامهم من المسلمين ولكن ذلك مشروط بعدم حصول الأذى للمسلمين في عقيدتهم وأنفسهم، فلا بد أن تكون مادة العلم الذي يراد تعليمه، مادة مباحة، فلا يجوز تعليم الأشياء المحرمة سواء كان المعلم مسلمًا أو كافرًا مثل الغناء والرقص وضروب السحر والشعوذة وما إلى ذلك، وأن يكون المسلم أمينًا مأمونًا على أبناء المسلمين، بحيث لا ¬

_ (¬1) الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية/ ابن تيمية ص8. (¬2) سورة البقرة آية (286).

يستغل وجوده بين أبناء المسلمين لزرع الفسق والكفر في قلوب التلاميذ والدليل على جواز تعليم غير المسلم للمسلمين ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بعض أسرى بدر حيث طلب من بعض الأسرى الذين لا مال لديهم، أن يفدوا أنفسهم بأن يعلم الواحد منهم عشرة من غلمان المسلمين ويخلي سبيله (¬1). وقد يحتاج الإنسان في طلب العلاج لبعض الأمراض المستعصية إلى أن يذهب إلى طبيب يهودي أو نصراني، وذلك جائز وفق شروط معينة وهي أن يكون اليهودي أو النصراني خبيرًا بهذه المهنة ثقة عند الناس مأمونًا من عدم استغلال مهنته والدعوة إلى المنكر ومحاربة الحق، فإذا كان بهذه الشروط ولم يجد مسلمًا يساويه في الدرجة والاختصاص جاز له أن يستطبه، كما يجوز له أن يودعه المال عند الحاجة وأن يعامله في البيع والشراء (¬2)، فقد استأجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أريقط وهو رجل مشرك حين هاجر من مكة إلى المدينة وائتمنه على نفسه وماله، ولكنه مع ذلك كان أجيرًا مستخدمًا لا معينًا مكرمًا (¬3). وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمهم وكافرهم، وقد روي أن الحارث بن كلدة - وكان كافرًا - قد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستطبوه، وهذا كله مشروط بأن لا يوجد طبيب مسلم على درجته من الطب، فإذا وجد طبيب مسلم، فالمسلم أحق بمنفعة أخيه حيث إن قوة المسلم قوة لإخوانه وقوة الكافر قوة لأعدائه، ومساعدة المسلمين لأعداء الله بما يقويهم على أهل الإسلام محرم عليهم (¬4). ولكن يدفع أخف الضررين عند الحاجة إلى ذلك في مثل هذه الصورة والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج3 ص328. (¬2) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص516 - 517. (¬3) انظر فتح الباري كتاب الإجارة ج4 ص442 ح2263. (¬4) انظر مختصر الفتاوى المصرية ابن تيمية ص505، ص516 - 517.

المثال الخامس: توريث الكفار والنفقة عليهم من أهل الإسلام

المثال الخامس: توريث الكفار والنفقة عليهم من أهل الإسلام لا يجوز شرعًا التوارث بين المسلم والكافر، فقد قال جمهور الصحابة والفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة وغيرهم بأنه لا يجوز أن يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (¬1). حيث إن التوارث مبناه على الموالاة والمناصرة وليس بين المسلم والكافر موالاة أو مناصرة لاختلافهما في العقيدة وإنما قد يكون بينهما على أحسن الأحوال مصاحبة بالمعروف لا ترقى إلى درجة التوارث، التي هي خاصة بين المسلم وأقربائه من المسلمين في النسب وخالف في ذلك جماعة من أهل الفقه فقالوا في توريث المسلم من الكافر دون العكس، محتجين بما روي عن معاذ (رضي الله عنه) أنه ورث مسلمًا من يهودي محتجًا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» (¬2) وربما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الإسلام يزيد ولا ينقص» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري. انظر صحيح البخاري ج8 ص194 (باب الفرائض). (¬2) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج6 ص73 - 74. (¬3) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج12 ص50. وانظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص101.

وكذلك قياس الإرث على النكاح فنحن ننكح نساءهم، ولا ينكحوا نساءنا فكذلك يجب أن نرثهم ولا يرثونا (¬1). وقد ناقش أصحاب القول الأول أهل القول الثاني بأن الحديث المروي عن معاذ (رضي الله عنه) مراد به أن الإسلام يعلو بالحجة والبرهان فلا تعلق له بالإرث (¬2). أما الحديث الثاني فالمقصود به من يرتد عن الإسلام لقلة من يرتد وكثرة من يسلم، أما قياس الأرث على النكاح فلا يصح فإن العبد ينكح الحرة ولا يرثها والنكاح مبني على قضاء الوطر والتوالد بخلاف التوارث فمبناه على الموالاة والمناصرة فلا يصح القياس على ذلك (¬3). وفي رأينا أن قول الجمهور هو القول الراجح وهو عدم توريث الكافر من المسلم أو العكس وذلك لقوة أدلة الجمهور وسلامتها من المعارض الصريح، ولذلك يجب على القضاة في المحاكم الشرعية وأهل الولايات الإسلامية أن لا يورثوا أهل الردة من الشيوعيين والبعثيين والاشتراكيين والماسونيين ونحوهم من المرتدين. ولم يبق في مسألة التوارث بين المسلم والكافر إلا مسألة واحدة هي الإرث بالعتق وهذه مسألة خاصة خلافية يمكن الرجوع إليها في الكتب المتخصصة في ذلك (¬4). والله الهادي إلى سواء السبيل. أما مسألة النفقة: فقد يظن البعض من الناس أن نفقة المسلم على أقربائه من الكفار ¬

_ (¬1) انظر المغني/ لابن قدامة ج6 ص294. (¬2) المصدر السابق ج6 ص295. (¬3) انظر شرح النيل وشفاء العليل/ محمد بن يوسف اطفيش ج8 ص261. (¬4) انظر المغني/ لابن قدامة ج6 ص349 - 350.

وصلته لهم، أنها نوع من أنواع الموالاة، كما قد يظن البعض الآخر أن منع النفقة عليهم وقطع الصلة بهم، أنها نوع من أنواع المعاداة للكفار وحيث إن هذا الأمر قد يشكل على بعض المسلمين، ونظرًا لصلته الوثيقة بموضوع الولاء والعداء رأينا أن نبين رأي الشرع في هذه المسألة حتى يكون المسلم على بينة في تعامله مع أقربائه من غير المسلمين أو في نظرته لمن يتعامل مع غير المسلمين من الذين تربطهم رابطة القرابة، فنقول: إن الفقهاء اختلفوا في موضوع النفقة على قولين: القول الأول: قول جمهور من الحنفية والشافعية والمالكية والشيعة الإمامية والزيدية، حيث يقولون إن اتحاد الدين ليس بشرط في وجوب النفقة بين القرابة، وهم يستدلون بعموم الأدلة الدالة على وجوب النفقة قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) إلى قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) (¬1). فالإنفاق عليهما حال فقرهما من أحسن وجوه الإحسان، وإن التأذي بترك النفقة عليهما عند عجزهما أكثر من تأذيهما بكلمة أفٍ، فكان النهي عن التأفيف نهيًا عن ترك الإنفاق من باب أولى. وقال تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (¬2). وهذه الآية نزلت في الوالدين الكافرين، وهل المعروف أن يترك الولد أبويه وهما في حالة عري وجوع شديد؟ (¬3). وبناء على هذا يجب على المسلم النفقة لأقربائه من الكفار. القول الثاني: قول من يقول بعدم وجوب النفقة على المسلم لقرابته ¬

_ (¬1) سورة الإسراء آية (23). (¬2) سورة لقمان آية (15). (¬3) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام.

الكفار، وهو قول الحنابلة (¬1). ودليلهم قول الله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ... وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) (¬2) فوجب أن يكون من تلزمه نفقة غيره وارثًا له، واختلاف الدين يمنع التوارث فيمنع النفقة. لأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال المورث من سائر الناس فيجب أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم، والنفقة بعد هذا وذاك من باب الصلة والمواساة فلا تجب مع اختلاف الدين (¬3). والراجح في ذلك هو قول الجمهور، لقوة ما احتجوا به من أدلة على وجوب النفقة على المسلم لقراباته من أهل الذمة. وأما ما احتج به الحنابلة من وجوب اتحاد الدين كشرط لوجوب النفقة، فإن هذا في غير قرابة التولد، اما القول بأن النفقة واجبة للمواساة والصلة، فلا تجب مع اختلاف الدين. فالجواب أنها وجبت في هذه القرابة للجزئية، وهذا المعنى لا يختلف باختلاف الدين، وحتى إذا كان وجوب النفقة للمساواة والصلة، فإن اختلاف الدين لا يمنع من الصلة (¬4). أما نفقة المسلم على قراباته من الكفار المحاربين، سواء كانوا خارج دار الإسلام أو داخلها، فإن بذل النفقة لهم لا يجب ولا يجوز، إلا بنية تأليفهم للإسلام، ويدخل في ذلك الأقرباء الذين يعتنقون المبادئ الهدامة وينضمون إلى الأحزاب الكافرة سواء كانت شيوعية أو بعثية أو اشتراكية أو ماسونية أو صليبية أو وثنية أو نحو ذلك، حيث إن المسلم منهي عن بر من يحارب الله ورسوله والذين آمنوا. قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) انظر المغني والشرح الكبير ج9 ص259. (¬2) سورة البقرة آية (233). (¬3) انظر المغني/ لابن قدامة ج7ص585. (¬4) انظر الوصايا في الفقه الإسلامي/ محمد سلام مدكور ص323.

قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (¬1). والقريب المستأمن من يلحق بالحربي حكمًا حيث إن النفقة هي من باب الصلة والبر، فلا يستحقها الحربي وإن كان مستأمنًا. وعلى هذا فلا تجب النفقة بين المسلم والمستأمن حتى في قرابة التوالد (¬2). فكيف حال من ينفقون على الكفار المحاربين لله ورسوله والمؤمنين وهم لا يرتبطون بهم في نسب ولا سبب مباح؟ أليس مثل هذا التصرف موالاة للكفار يوجب غضب الله ومقته وعذابه لمن يصنع ذلك من أدعياء الإسلام؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية (9). (¬2) انظر أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام. د/ عبد الكريم زيدان ص476.

المبحث الرابع: موالاة الكفار في الشؤون الحربية

المبحث الرابع: موالاة الكفار في الشؤون الحربية وتحت ذلك ثلاثة فروع: 1 - الفرع الأول: الاستعانة بالكفار في القتال. 2 - الفرع الثاني: الدخول في حماية الكفار. 3 - الفرع الثالث: الاستعانة بسلاح الكفار.

الفرع الأول: الاستعانة بالكفار في القتال

الفرع الأول: الاستعانة بالكفار في القتال إن المتتبع لآيات القرآن الكريم والسنة النبوية يجد من الآيات والأحاديث ما تدل دلالة قطعية على غش الكفار للمسلمين وعداوتهم لهم وخيانتهم لقضاياهم، وتمنيهم السوء للمسلمين ومسرتهم بذلك، وعداوتهم لله ورسوله، فمن والاهم وأعزهم وولاهم أمور المسلمين، فقد خالف ما أمر الله عز وجل بحقهم من وجوب الغلظة والشدة عليهم، ومن اعتقد فيهم النصح والإخلاص فقد كذب بما أخبر الله به عنهم من خيانة وغش وإرادة السوء بالمسلمين قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (¬1). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (¬2). وقال تعالى: (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (¬3) فلا يجوز ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (75). (¬2) سورة آل عمران آية (118). (¬3) سورة النساء آية (89).

الانخداع بما يظهره الكفار من صداقة وإخلاص حيث إنهم أعداء عقيدة لا ترجى مودتهم، وما يتظاهرون به من صداقة ونصح، فإنما هو لأغراض في أنفسهم، ولمصالحهم الخاصة، وللمكر والوقيعة بالمسلمين كالأفعى ينخدع الجاهل برقبتها ونعومتها وفي فمها السم الزعاف، وهؤلاء الكفار كذلك فإن مبدأهم في التعامل مع المسلمين، أن لا إثم ولا خطيئة عليهم في خيانة المسلمين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، بل يرون ذلك قربة وقصاصًا عما فعله المسلمون بأسلافهم في الشام ومصر والأندلس (¬1). وقد حذرنا الله منهم، وبين لنا مواقفهم منا، ونظرتهم إلينا في التعامل والمعاملة، حتى نكون على بينة في معاملتنا لهم، فإن الاستعانة بهم في مصالح المسلمين بصورة غير شرعية، لون من ألوان موالاتهم وتوليهم، وقد بين الله عز وجل أن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم إيمان العبد بربه حتى يتبرأ منهم، فإن البراءة منهم، دليل على عدم موالاتهم، ومن قلدهم الوظائف الهامة والمناصب الكبرى في ديار الإسلام، فقد اتخذهم بطانة من دون المؤمنين، وخالف الأمر بوجوب كسر شوكتهم والشدة عليهم وإشعارهم بالصغار بين المسلمين حتى يسلموا فيعتزوا بالإسلام، أو تضيق بهم نفوسهم في المجتمع الإسلامي الطاهر النظيف، فيلحقوا بالكفار أمثالهم أو يبقوا في وضع ضعيف مهين بحيث لا يشكلون خطرًا على الإسلام والمسلمين، فإذلال الكفار من غير ظلم أو تعد لما شرعه الله لهم من حقوق، أمر مطلوب من كل مسلم قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (¬2). وقال تعالى: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (¬3). وقال تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (¬4). وهذا لا يتأتى مع توليتهم ¬

_ (¬1) انظر ما قاله أحدهم في (أحكام أهل الذمة) / لابن قيم الجوزية ج1 ص227. (¬2) سورة الفتح آية (29). (¬3) سورة التوبة آية (123). (¬4) سورة التوبة آية (29).

المناصب القيادية في الجيش وجعل الخبراء العسكريين والمستشارين منهم فإن معاملتهم بهذه الصفة تتنافى مع مقتضى الآيات المتقدمة في معاملة الكفار. وقد اختلف العلماء في مسألة الاستعانة بالكفار في الحرب على قولين: القول الأول: هو قول من قال بعدم جواز الاستعانة بالكفار في الحرب وهو مذهب المالكية (¬1). وبه قال الإمام أحمد (رحمه الله) (¬2) وقد استدل المانعون بعدد من الآيات والأحاديث هي كما يلي:- 1 - قول الله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) (¬3). قيل: إنها نزلت في عبادة ابن الصامت (رضي الله عنه) فقد كان له حلفاء من اليهود فلما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب قال: له عبادة، يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله هذه الآية (¬4). 2 - قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (¬5). فقد رجح ¬

_ (¬1) انظر روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن/ محمد علي الصابوني ج1 ص402 - وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7. (¬2) انظر الأحكام السلطانية/ للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص39، 225. (¬3) سورة آل عمران آية (28). (¬4) انظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص6. وانظر جامع البيان للقرطبي ج4 ص58. وانظر روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن/ محمد علي الصابوني ج1 ص403. وانظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص36 - 37. (¬5) سورة آل عمران آية (118).

القرطبي عدم جواز الاستعانة بالكفار حيث يقول: إن الله قد وضح لنا العلة في النهي عن اتخاذهم بطانة بقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) ثم ختم الآية بقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فهل نكذب بيان الله فيهم ونصدقهم فنقربهم ونتقرب إليهم؟ (¬1). وفي زاد المسير قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في أمر من أمور المسلمين (¬2). 3 - قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (¬3). قال ابن خويز منداد: هذه الآية تضمنت مع مثيلاتها المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك (¬4). ويقول القرطبي: إن الصحيح من مذهب الشافعي هو منع الاستعانة بالكفار في القتال (¬5). وهو ما ذهب إليه القرطبي أيضًا (¬6). وقد ذكر أن الشافعي علل ذلك بأنه طريق لأن يكون للكافرين على المؤمنين سبيلا (¬7). وأجاب من يرى الجواز بأن السبيل هو اليد وهي للإمام الذي استعان بالكفار (¬8). 4 - ومن الأحاديث ما روى مسلم في صحيحه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر، فلما كان بحرّة الوبر أدركه رجل ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي ج4 ص180. (¬2) انظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي ج1 ص447. (¬3) سورة المائدة آية (57). (¬4) انظر تفسير القرطبي ج6 ص224. (¬5) انظر تفسير القرطبي ج6 ص224. (¬6) المصدر السابق المكان نفسه. (¬7) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص44. (¬8) المصدر السابق المكان نفسه.

قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه. فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئت لأتبعك، وأصيب معك قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «تؤمن بالله ورسوله؟ قال لا ... قال فارجع: فلن أستعين بمشرك» قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل ... فقال له كما قال أول مرة. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أول مرة. قال: «فارجع فلن نستعين بمشرك». قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء. فقال كما قال أول مرة «تؤمن بالله ورسوله؟» قال: نعم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فانطلق» (¬1). 5 - روى الواقدي أن خبيب بن يساف، كان رجلاً شجاعًا وكان يأبى الإسلام فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، خرج هو وقيس بن محرث، فعرضا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجا معه، فقال «لا يخرج معنا رجل ليس على ديننا» فقال خبيب: قد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب فأقاتل معك للغنيمة قال: «لا، ولكن أسلم ثم قاتل» (¬2). 6 - روى الإمام أحمد عن خبيب عن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوًا أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم «قال أو اسلمتما» قلنا لا! «قال فلا نستعين بالمشركين على المشركين» قال فأسلمنا وشهدنا معه، فقتلت رجلاً وضربني ضربة وتزوجت بابنته بعد ذلك، فكانت تقول: لا عدمت رجلاَ وشحك هذا الوشاح فأقول: لا عدمت رجلاً عجل أباك النار (¬3). القول الثاني: قول من جوَّز الاستعانة بالكفار عند الحاجة إلى ذلك ¬

_ (¬1) صحيح مسلم ج3 ص1449 - 1450 وسنن أبي داود ج3 ص75. (¬2) انظر صور من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص325/ أمين دويدار. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8ص43. (¬3) مسند الإمام أحمد ج3 ص454. وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج2 ص102.

وهو قول جمهور الشافعية والحنابلة والأحناف (¬1). وقد استدل أصحاب هذا القول بعدة أحاديث هي كما يلي: 1 - ما روي أن قزمان خرج مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر» (¬2). 2 - وفي صلح الحديبية كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بعث أثناء توجهه إلى مكة عندما كان بذي الحليفة عينًا له من قبيلة خزاعة اسمه بشر بن أبي سفيان ليأتيه بخبر أهل مكة، وبشر بن أبي سفيان كان مشركًا من قبيلة خزاعة، وفي هذا تأكيد لجواز الاستعانة بالمشركين، عند الطمأنينة إليهم (¬3). 3 - وقد شارك في معركة أحد مع المسلمين مخريق بن ثعلبة اليهودي عقيدة وديانة العربي نسبًا وعرقًا، وكان قتاله تنفيذًا للمعاهدة المبرمة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود، فدعا اليهود إلى حمل السلاح مع المسلمين فقالوا اليوم يوم السبت، فأخذ سلاحه ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاتل حتى قتل، وقال إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء وكان له سبعة بساتين وقد جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقافًا بالمدينة (¬4). 4 - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعان بيهود بني قينقاع وقسم لهم، واستعان بصفوان بن أمية في يوم حنين (قبل إسلامه) فدل ذلك على الجواز (¬5). ¬

_ (¬1) انظر روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن ج1 ص402 وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص43، وانظر زاد المعاد/ لابن قيم الجوزية ج2 ص190، وانظر كتاب الإسلام انطلاق لا جمود/ د/ مصطفى الرافعي ص16 وانظر الدرر السنية ج7 ص376. (¬2) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص44، وانظر غزوة أحد/ محمد أحمد باشميل ص228. (¬3) انظر فقه السيرة محمد سعيد رمضان البوطي ص252. وانظر زاد المعاد لابن القيم الجوزي ج2 ص123. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8ص45. (¬4) انظر غزوة أحد/ محمد أحمد باشميل ص226 - 231. (¬5) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3 ص22. وانظر روائع البيان في تفسير القرآن ج1 ص402. وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص43.

5 - وعن ذي مخبر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ستصالحون الروم صلحًا وتغزون أنتم وهم عدوًا من ورائكم» (¬1). 6 - وعن الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بناس من اليهود في خيبر في حربه فأسهم لهم (¬2). وقد رد أصحاب هذا القول على أصحاب القول الأول القائلين بعدم جواز الاستعانة بالكفار بردود هي:- أ- إن أدلة النهي عن الاستعانة بالكفار منسوخة بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمله كما تقدم ذكر ذلك (¬3). ب- إن القائلين بالجواز لم يذكروا أنه يجوز الاستعانة بالكفار مطلقًا وإنما قيدوا ذلك بشرطين هما:- 1 - الحاجة إلى الكفار في حالة عدم وجود من يحل محلهم من المسلمين. 2 - الوثوق بهم، وغلبة الظن على أمانتهم، وعدم مكرهم. أما بدون هذين الشرطين فلا تجوز الاستعانة بهم بحال من الأحوال وهذا هو الراجح، وعلى ذلك يحمل حديث عائشة (رضي الله عنها) المذكور في صحيح مسلم، ويحصل الجمع بين الأدلة أدلة المنع وأدلة الجواز (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود. انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص43. (¬2) رواه أبو داود في مراسيله. المصدر السابق نفس المكان. (¬3) انظر روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن. ج1 ص402، وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج2 ص7. (¬4) انظر المصدرين السابقين، من نفس المكان.

وقد نقل عن الشافعي (رحمه الله) ما يوافق هذا المعنى حيث روي أنه قال: «إن رأى الإمام أن الكافر حسن النية، حسن الرأي مأمون الجانب على المسلمين، وكانت الحاجة داعية إلى الاستعانة به جاز ذلك وإلا فلا» (¬1). ولعل هذا هو المتفق مع أدلة النهي وأدلة الجواز، إذ روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل معونة صفوان بن أمية يوم حنين، وهو مشرك، فتكون المسألة في ذلك داخلة تحت مفهوم السياسة الشرعية لمصلحة الدعوة الإسلامية (¬2). والظاهر لي من الأدلة عدم جواز الاستعانة بالمشركين إلا عند توفر الشرطين المتقدمين وذلك لسببين: السبب الأول: إن الأحاديث التي استدل بها على جواز الاستعانة بالكفار لا تسلم من مقال أو توجيه يجعل العمل بها غير ملزم. فمقاتلة قزمان مع المسلمين لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن له بذلك في ابتداء الأمر، وغاية ما فيه، أنه يجوز للإمام السكوت عن كافر قاتل مع المسلمين (¬3). وأما استعانته - صلى الله عليه وسلم - ببشر بن أبي سفيان عينا له على قريش وهو مشرك فإنما استعان به بما دون القتال، وهذه المسألة أقرب في الجواز من مسألة القتال والحرب (¬4). وأما ما روي عن الزهري مرسلاً، فإن مراسيل الزهري ضعيفة والمسند فيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف (¬5). وأما استعانته - صلى الله عليه وسلم - بابن أبي من المنافقين فليس من قبيل الاستعانة ¬

_ (¬1) انظر مغني المحتاج ج4 ص221. (¬2) انظر فقه السيرة/ محمد سعيد رمضان البوطي ص190. (¬3) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص45. (¬4) فقه السيرة/ محمد سعيد رمضان البوطي ص252. (¬5) انظر نيل الأوطار للشوكاني ص45.

بالكفار لأنه مظهر للإسلام، والمنافق يحكم عليه بحسب ظاهره والله عز وجل يتولى سره (¬1). السبب الثاني: إن توجيه أدلة الجواز وأدلة المنع ممكن باتباع الأوجه التالية:- الوجه الأول: ما قال الشافعي (رضي الله عنه) إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غرس الرغبة في الذين ردهم، فردهم رجاء أن يسلموا فصدّق الله ظنه فيهم، وفيه نظر لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - «فارجع فلن نستعين بمشرك» نكرة في سياق النفي وهي تفيد العموم (¬2). الوجه الثاني: قول الجماعة إن الاستعانة كانت ممنوعة، ثم رخص فيها قال: ذلك الحافظ في التلخيص، وعليه نص الإمام الشافعي (¬3). الوجه الثالث: ما ذكر في البحر عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه أنها لا تجوز الاستعانة بالكفار والفساق، إلا عندما يستقيمون على أوامر الولي المسلم ونواهيه، واستدلوا بأن استعانته - صلى الله عليه وسلم - بمن سبق ذكرهم إنما كانت بهذا الوصف، بمعنى أن يكون الكفار مأمورين منهيين، لا آمرين ناهين (¬4). أما استعانته - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين فقد انعقد الإجماع على جواز الاستعانة بهم على الكفار، فقد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بابن أبي وأصحابه، وكذلك الاستعانة بالفساق على الكفار (¬5). ومن هذا الباب الاستعانة بالفساق على البغاة حيث يرى الإمام الشوكاني جواز ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق نفس المكان. (¬2) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص43 - 44. (¬3) المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) المصدر السابق المكان نفسه. (¬5) المصدر السابق المكان نفسه. (¬6) المصدر السابق المكان نفسه.

الوجه الرابع: اشتراط بعض أهل العلم ومنهم الهادوية، أنها لا تجوز الاستعانة بالكفار والفساق، إلا إذا كان مع الإمام جماعة يستقل بهم في إمضاء الأحكام الشرعية، على الذين استعان بهم ليكون المستعان بهم مغلوبين لا غالبين، كما كان وضع المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبناء على ما تقدم فقد اشترط القائلون بجواز الاستعانة بالكفار شروطًا تجعل الاستعانة بالكفار عند الضرورة القصوى، وفي مجالات لا تؤثر في عقيدة الإسلام وحياة المسلمين وهذه الشروط كما يلي:- 1 - أن لا يوجد من المسلمين من يقوم مقام الكافر أو الكفار الذين يراد الاستعانة بهم. 2 - أن يستعان بهم فيما دون القتال مع المسلمين كما هو رأي الجمهور (¬1). 3 - أن يكون المستعان بهم من الكفار فيه نصح ونفع للمسلمين. 4 - أن لا يستقل الكافر برأي أو مشورة، عن رأي أهل الحل والعقد من المسلمين، بل يكون تابعًا مأمورًا، لا آمرًا متبوعًا. 5 - أن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها التعاون مع من استعان بهم المسلمون من الكفار لضرب الإسلام وأهله. 6 - أن يكون الكافر أو الكفار المستعان بهم مستخدمين أجراء لا أنصارًا مكرمين. 7 - إن جاز على بعض الأقوال الاستعانة بالمشرك في حرب غيره من المشركين فلا يجوز بحال من الأحوال الاستعانة بالمشركين في حرب البغاة من أهل الإسلام (¬2). ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة/ محمد سعيد رمضان البوطي ص190. (¬2) انظر الدرر السنية ج7 ص376.

ولكن الناظر إلى أحوال المسلمين اليوم يجد عكس ذلك تمامًا حيث إن الكفار يقدمون على المسلمين في ديار الإسلام فهم المستشارون العسكريون والخبراء المنفذون، ولهم من الامتيازات العظيمة والتسهيلات الواسعة ما جعلهم يحصلون على تقدير مادي ومعنوي، لا يحصل عليه المسلم الذي يساويهم أو يتفوق عليهم علمًا وعملاً، فبلاد المسلمين تكتظ بملايين النصارى واليهود وأهل الأوثان الذين يحملون جنسيات مختلفة وهم في حقيقة أمرهم جواسيس للأعداء وقد كشفت الحروب الثلاثة مع اليهود جوانب من ذلك (¬1). بينما كثير من أهل الخبرة والمعرفة من المسلمين مهاجرون إلى دول الغرب والشرق بسبب سوء المعاملة التي يتلقونها في داخل البلاد الإسلامية فواقع المسلمين عكس ما يجب أن يكون تمامًا، حيث إنهم أذلاء في معاملة الكافرين أشداء في معاملة المؤمنين فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) انظر كتاب كيف تحطمت الطائرات عند الفجر، وكتاب سقوط الجولان، تأليف/ خليل مصطفى/ ضابط استخبارات الجولان قبل حرب 1387هـ-1967م.

الفرع الثاني: الدخول في حماية الكفار

الفرع الثاني: الدخول في حماية الكفار يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي إذ كان نصرانيًا عند الهجرة إلى الحبشة ثم أسلم بعد ذلك، أو كان مشركًا كما حصل من المهاجرين إلى الحبشة عندما بلغهم، إن أهل مكة أسلموا، فاستخف ذلك الخبر منهم ثلاثة وثلاثين رجلاً فأقبلوا راجعين حتى إذا دنوا من مكة بان لهم فساد ذلك الخبر، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيًا، وكان منهم عثمان (¬1) بن مظعون (رضي الله عنه) فقد دخل بجوار الوليد بن المغيرة فأنفذ جواره. ودخل أبو سلمة بن عبد (¬2) الأسد في جوار أبي طالب لكونه ابن أخته بنت عبد المطلب، فتعرضت له قبيلة بني مخزوم وأبت أن تنفذ له جواره ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3 ص385 - 387. (¬2) انظر ترجمته في المصدر السابق ج5 ص218.

وقالت لأبي طالب قد أمنعت منا ابن أخيك محمدًا فما لك ولصاحبنا؟ فقال: إنه استجارني وإن أنا لم أمنع ابن أختي، لم أمنع ابن أخي: فقام أبو لهب فقال يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثبون عليه في جواره من بني قومه والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد فتركوه مراعاة لأبي لهب (¬1). وقد دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حماية أبي طالب حتى توفي أبو طالب وهو قائم بذلك، ودخل الرسول في حماية وجوار المطعم بن عدي بعد رجوعه من الطائف إلى مكة. وهذا مشروط - بحكم البداهة - بأن لا يترتب على هذه الحماية أضرار بالدعوة الإسلامية، أو تنازل جزئي أو كلي عنها، أو تغيير لبعض أحكام الدين، أو سكوت على بعض المحرمات، فإن الرضا بمثل هذه الأمور من صميم الموالاة للكفار، فلا يجوز الدخول في مثل هذه الحماية التي يكون ثمنها التضحية ببعض أحكام الإسلام، والدليل على ذلك ما كان من موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما طلب منه عمه أبو طالب أن يبقى على نفسه ولا يحمله ما لا يطيق، فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك للخروج من حمايته، وأبى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه (¬2). وكفار اليوم أشد خبثًا ومكرًا من كفار الأمس، فلو طلب المسلمون الحماية والمساعدة من بعض الكفار ضد البعض الآخر، وأعطوهم على ذلك المنافع المتعددة والتسهيلات الكثيرة فهم لن يقفوا مع المسلمين موقف النجدة والمساعدة والحماية والرعاية أبدًا، وقد جربت البلاد الإسلامية ¬

_ (¬1) انظر: تحذير من ينتمي إلى الإسلام من الاحتماء بأعداء الملك العلام مخطوطة من ثلاث ورقات جمع علي بن أحمد السقاف سنة (1299هـ) بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (1150). (¬2) انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي ص102.

الدخول في معاهدات الحماية مع أوروبا وأمريكا، فكانت النتيجة لهذه الحماية الاستعمار وخراب الديار ونهب الثمار، وتجزئة البلاد الإسلامية. ودخلت مصر في حماية مع روسيا فكانت النتيجة تجسس اليهود الروس على مصر وتثبيطهم حتى تمكن اليهود من إحداث الهزيمة النكراء على مصر عام 1387هـ - 1967م وصدق الله العظيم حيث يقول (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). والغرض من الدخول في حماية الدول الكبرى في عصرنا الحاضر، لا يراد به نصرة الإسلام والمسلمين، وإنما يراد به حماية المرتدين والمنافقين في داخل البلاد الإسلامية، من ضربات المسلمين المخلصين، والإبقاء على العملاء الذين يمنحون كامل ودهم وولائهم لأعداء الإسلام. فالدول التي تخضع لحماية الغرب أو الشرق في العالم الإسلامي اليوم، إنما تفعل ذلك لحماية ما تمثله من ظلم وطغيان واستبداد فهي تدرك أنه ليس لها في المجتمعات التي تحكمها أي ولاء صادق سوى من فئة قليلة من النفعيين والمنافقين، ولذلك تلجأ هذه الدول إلى حماية الدول الكبرى كي تضمن بقاءها ولتحمي مواضع أقدامها من السقوط والانهيار. وأخوف ما تخافه الدول الكبرى وعملاؤها في الدول الصغرى هو الإسلام، ولذلك نرى أن أي تحرك إسلامي يتم رصده ومتابعته من أول وهلة، ويسعى العملاء مع أسيادهم لإجهاضه والقضاء عليه قبل أن يشتد عوده ويقوى على مقاومة الطغيان. فما أن يحدث أي حدث في بلد - ما - إلا وَيُجْعَل المسلمون هم الضحية لذلك الحدث، ويسارع الكفار جميعًا من الداخل والخارج لتمزيق المسلمين والقضاء عليهم بكل ما أوتوا من قوة. فهل ندرك حقيقة أعدائنا، ونتيقن أن الكفر ملة واحدة وأن الكفار بعضهم أولياء بعض، وأن المستجير بالكفار الكبار على الكفار الصغار

كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ أم لا نزال نعلق الآمال الكاذبة في حماية الدول الشرقية أو الغربية للبلاد الإسلامية، وهي التي قد رأينا ما رأينا من تآمر وعدوان على الإسلام والمسلمين؟ ووالله لو صدق المسلمون مع الله وأخلصوا دينهم لله، وصدقوا مع أنفسهم ومع إخوانهم لما احتاجوا إلى الدخول في حماية رجل كافر فضلاً عن دول كافرة، ولما شعروا بالخوف والهلع الذي يزلزل الأرض من تحت أقدامهم قال تعالى: (فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (¬1). وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (48). (¬2) سورة الأحقاف آية (13).

الفرع الثالث: الاستعانة بسلاح الكفار

الفرع الثالث: الاستعانة بسلاح الكفار إن السلاح سلعة من السلع التجارية التي يجوز للمسلم أن يشتريها من المسلم أو الكافر، ولكن شراء السلاح من الكافر خاصة يجب أن لا يترتب عليه موالاة لأعداء الله أو مودة أو مناصرة لهم، فقد ذُكِرَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عند صفوان بن أمية أدراعًا وأسلحة، فأرسل إليه - وصفوان يومئذ مشرك - وطلب منه تلك الدروع والأسلحة. فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟! ... قال: بل عارية: وهي مضمونة حتى نؤديها إليك. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح (¬1). ومما تقدم يتضح لي أن الاستعانة ببعض ممتلكات الكفار كالسلاح وأنواع المعدات والصناعات المختلفة، أمر جائز ولا خلاف بين العلماء في ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة د/ محمد سعيد رمضان البوطي ص298. (¬2) انظر زاد المعاد لابن قيم الجوزية ج2 ص190 - 192.

بشرط أن لا يجر ذلك إلى موالاة الكفار أو مودتهم، فنأخذ منهم السلاح بلا مودة أو محبة لهم، مثل ما أنهم يأخذون منا البترول وبقية السلع بأسعار رمزية ومع ذلك يعادوننا ويوالون أعداءنا فضلاً عن أن يقفوا منا موقف المسالم. فلماذا نركع تحت أقدامهم؟ ونفتح لهم قلوبنا وبلادنا ليفسدوا فيها مقابل قطع من السلاح البالي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع إلا ضد الضعفاء من المسلمين، في الوقت الذي هم يأخذون منا أكثر مما يعطونا ومع ذلك يضمرون لنا الحقد والكراهية والمكر والاستغلال، فإذا كنا لا نستطيع أن نستغني عن أسلحتهم وصناعاتهم في الوقت الحاضر، فلا أقل من أن نستغني عن محبتهم ومودتهم في حال كفرهم بالله، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أسوتنا وقدوتنا في الحياة أخذ من صفوان بن أمية السلاح وهو في مركز القوة والاستعلاء ولم يتعامل معه بصورة المستجدي الضعيف، وهكذا يجب أن نتعامل مع الأعداء. ولكن الحاصل في وقتنا الحاضر أن كثيرًا من الدول المنتسبة إلى الإسلام، إذا عقدت صفقة من الأسلحة مع إحدى الدول الكافرة، بادرت إلى إرسال مئات الشباب بحجة التدريب على هذه الأسلحة، فيعود أولئك المتدربون آلات تدير آلات، قد حطمت عقيدتهم ومسخت أخلاقهم وزرع في قلوبهم حب الكفر وبغض الإسلام، فيعودون أعداء لأمتهم وقوتهم ودينهم، فماذا استفادت الأمة من ذلك، اشترت السلاح من الأعداء ودفعت بالأيدي التي سوف تدير السلاح إلى العدو كي يصنعهم على عينه وهواه، فأصبحت الجيوش في معظم البلاد الإسلامية بمثابة قواعد عسكرية للأعداء، ولذا فإنه من الملاحظ على عامة الجيوش في البلاد الإسلامية أنها تقف دومًا في حماية الطغاة والمستبدين، وتزداد جرأة وشجاعة عندما يكون خصومها من المسلمين العزل، فصارت حالة المسلمين مع جيوشهم كحال القائل:

أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني وقد يسأل سائل ما هو البديل عن ذلك؟ والجواب كما يأتي في قضية الابتعاث (¬1) هو الاهتمام بنوعية الأفراد ونوعية التكوين الثقافي للأفراد بحيث يتم تحصين الأفراد علميًا وخلقيًا وفكريًا ضد مخططات الأعداء ومقاصدهم الخبيثة. كما أنه يمكن استقدام الخبراء اللازمين للتدريب على الأسلحة لفترة محدودة وتحت إشراف دقيق يتم فيه توجيه الخبراء والمتدربين لتحقيق الهدف المنشود من شراء الأسلحة والتدريب عليها، وبذلك نضمن في أقل الأحوال سلامة الأفراد من أن ينفرد بهم الكفار، فيسيطروا على عقلياتهم وأخلاقهم سيطرة تامة كما هو حاصل في وقتنا الحاضر من معظم البلاد الإسلامية. وإذا كانت بعض دول الكفر تحتكر أنواعًا من الأسلحة فلا تبيعها إلا بثمنين: الثمن الأول: هو الموالاة لها على كفرها بالقول والفعل. الثمن الثاني: هو نهب خيرات البلاد والعباد مقابل عدد من قطع السلاح التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فإن واجب المسلمين أن يرفضوا التعامل بمثل تلك الصورة التي تنطوي على استذلال الكفار للمسلمين، وأن يتعامل المسلمون مع الكفار من مركز القوة والعزة والأنفة والإباء قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (¬2) فلا يجوز موالاة الكفار مقابل السلاح أو غيره. فلا يوالي الكفار من أجل سلاحهم أو الدخول في حمايتهم، أو قتالهم معه، إلا منافق ظاهر النفاق قال تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا ¬

_ (¬1) انظر ص787 - 813 من هذه الرسالة. (¬2) سورة المنافقين آية (8).

دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (¬1). ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (52).

المبحث الخامس: موالاة الكفار في الحقوق الجنائية

المبحث الخامس: موالاة الكفار في الحقوق الجنائية 1 - الفرع الأول: قتل المسلم بالكافر. 2 - الفرع الثاني: إهانة المسلم بما دون القتل تكريمًا للكافر. 3 - الفرع الثالث: الستر على جواسيس الكفار وحماية مجرميهم.

الفرع الأول: قتل المسلم بالكافر

الفرع الأول: قتل المسلم بالكافر إن موالاة ومناصرة المسلم لأخيه المسلم واجب شرعي، بشرط أن لا يترتب على ذلك معصية أو تعطيل حكم شرعي من أحكام الله، ولما كان قتل المسلم بالكافر يوحي بموالاة الكافر ومناصرته ضد المسلم، فقد وضحت السنة النبوية هذا الجانب، وتحدث الفقهاء عنه بما لا يتطلب زيادة لمستزيد. فقد أجمع الفقهاء على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي (¬1). أما إذا كان ذميًا أو مستأمنا فقال جمهور الفقهاء بعدم القتل أيضًا (¬2). وقد استدلوا بحديث «وأن لا يقتل مسلم بكافر» (¬3) وحديث «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده، ومن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري ج12 ص261 (كتاب الديات). (¬2) بداية المجتهد/ محمد بن أحمد القرطبي ج2 ص399. (¬3) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج12 ص261.

والناس أجمعين» (¬1) وروي أيضًا عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقتل مؤمن بكافر» (¬2). ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يقتل مسلم بكافر سواء كان الكافر ذميًا أو معاهدًا، أما المحارب فلا خلاف فيه حيث إنه ليس له أي شبهة تجعل قتله ممنوعًا أو مؤاخذًا عليه، واستدل الجمهور على قولهم بأنه لا يجوز قتل المسلم بالكافر بالأدلة التالية: 1 - إن من شروط القصاص المساواة، ولا مساواة بين المسلم والكافر فالإسلام ينبوع الكرامة، والكفر ينبوع الهوان، قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (¬3). 2 - إن في إباحة دم الذمي والمستأمن شبهة قائمة لوجود الكفر المبيح للدم وعقد الذمة والعهد شيء عارض منع القتل مع بقاء العلة فمن الوفاء بالعهد أن لا يقتل المسلم ذميًا أو معاهدًا، فإن حصل القتل لم يتجه القول إلى القود، لأن الشبهة المبيحة لقتله موجودة ومع قيام الشبهة لا يلزم القول بالقود. ولأن عصمة الدم وإيجاب القود على القاتل مشروط بالإسلام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (¬4) فذكر أن عصمة الدم هو الإسلام، وعليه فالكافر غير معصوم الدم فلا يقتص بالمسلم منه. وخالف في ذلك الأحناف فقالوا يقتل المسلم قصاصًا بالذمي دون ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود. انظر بداية المجتهد ج2 ص399. (¬2) أخرجه أبو داود. المصدر السابق نفس المكان. (¬3) سورة الحشر آية (20). (¬4) رواه مسلم انظر صحيح مسلم ج1 ص52، 53.

المستأمن (¬1) وقد استدلوا بأدلة منها عموم آيات القصاص مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) (¬2). وقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (¬3). وقوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) (¬4) من غير فصل بين قتيل وقتيل ونفس ونفس ومظلوم ومظلوم. ومن أدلتهم ما روى ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن البيلماني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقاد مسلمًا بذمي وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» (¬5) وقد ضعف البيهقي هذه الرواية (¬6). وقال الجمهور: إن هذا الحديث لو ثبت لكان منسوخًا، نظرًا إلى أنه كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن أمية، وحديث «لا يقتل مؤمن بكافر» كان يوم الفتح (¬7). وقال الأحناف أيضًا: إن حديث «وأن لا يقتل مسلم بكافر» يراد به غير المعاهد حيث إنه لفظ عام قد ورد ما يخصص المعاهد منه، وقد رجح هذا القول عبد القادر عودة (¬8)، واستدل الأحناف أيضًا أن المسلم تقطع يده إذا سرق مال الذمي، فوجب قتله إذا قتل، لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله (¬9). وقد أجاب الجمهور بأن ذلك قياس حسن لولا النص على عدم قتل ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري ج12 ص261. (¬2) سورة البقرة آية (178). (¬3) سورة المائدة آية (45). (¬4) سورة الإسراء آية (33). (¬5) انظر أحكام القرآن للجصاص ج1 ص141. (¬6) انظر السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص30 - 34. (¬7) انظر التشريع الجنائي الإسلامي/ عبد القادر عودة ج1 ص339. (¬8) انظر أحكام القرآن للجصاص ج1 ص144. (¬9) انظر فتح الباري ج12 ص262.

المسلم بالكافر، وقالوا إن السرقة حق لله، ومن ثم لو أعيدت السرقة بعينها لم يسقط الحد ولو عفا المسروق منه، بخلاف القتل، والقصاص في القتل يشعر بالمساواة، ولا مساواة بين المسلم والكافر بخلاف القطع في السرقة فلا يشترط له المساواة. ولا نريد أن نسترسل في مناقشة أدلة الطرفين مما قد يخرج بنا عن مقصود الرسالة في تحديد العلاقة والمعاملة بين المسلم الجاني والكافر المجني عليه في دار الإسلام، وما يجب أن يعرفه ويتخذه كل مسلم كي يحدد موقفه من ذلك بما يتفق مع نظرة الإسلام في هذه القضية، وخلاصة القول في ذلك هو أن المسلم إذا قتل ذميًا أو معاهدًا، فينظر الحاكم المسلم والقاضي المسلم إلى الدوافع والأسباب التي دفعت إلى القتل هل هي في صالح الإسلام والمسلمين أم لمصالح شخصية ومنافع مادية، ثم ينظر كذلك إلى الذمي والمستأمن هل كانا قائمين بما يجب عليهما محافظين على العقد والعهد أم لا؟ فالذي يجب على المسلم القاتل للذمي أو المستأمن ليس حد قصاص وإنما هي عقوبة تعزيرية، تخضع للسياسة الشرعية (¬1). فللحاكم المسلم العدل أن يعزر القاتل تعزيرًا بما دون القتل، وأن يعامله بما هو أخف من ذلك مثل معاملة الكفار للكافر إذا قتل مسلمًا، فغالب أحوالهم لا يوجبون القصاص على الكافر إذا قتل المسلم، فمن باب المعاملة بالمثل يترجح عدم جواز قتل المسلم بالكافر، عملاً بقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (¬2). وإن كان الإسلام لا يبيح مجاراة الكفار في ظلمهم وغطرستهم بصفة عامة. ¬

_ (¬1) انظر السياسة الشرعية لابن تيمية ص146. (¬2) سورة النحل آية (126).

ومما تقدم يتضح أن قتل المسلم بالكافر ليس حدًا لا تصح الزيادة فيه أو النقص منه، ولذلك عارض جمهور العلماء مسألة القصاص في قتل المسلم بالكافر، للحديث الصحيح في ذلك «وألا يقتل مسلم بكافر» (¬1) والمرتد عن الإسلام كافر من جنس الكفار، فالذي ينتمي إلى الأحزاب الشيوعية، أو الأحزاب البعثية، أو الأحزاب الاشتراكية، أو المنظمات الماسونية، فإنه كافر ومرتد لخروجه من حزب الله إلى أحزاب الكفر والضلال، ولذلك لو قتل المسلم واحدًا ممن ينتمون إلى تلك الأحزاب الكافرة، فإنه لا يعاقب باعتباره قاتلاً عمدًا سواء قتل المرتد قبل الاستتابة أو بعدها، لأن كل جناية على المرتد هدرًا ما دام باقيًا على ردته (¬2). ولكن للأسف الشديد ونظرًا لغياب الحكومة الإسلامية الحقة فإن المسلم اليوم لو قتل جاسوسًا من جواسيس اليهود والنصارى أو راهبًا من رهبانهم الذين ينشرون الفساد والإلحاد في بلاد الإسلام لأخذته السلطات الدخيلة على الإسلام والمسلمين، بالنواصي والأقدام، ولقتلته بهذا الكافر المحارب لله ورسوله والمؤمنين، وكذلك الشأن لو قتل المسلم شيوعيًا ينكر وجود الله ثم اقتيد إلى إحدى المحاكم التي يتربع على مقاعدها بعض القضاة الذين لا هم لهم إلا التكسب والأجر الزهيد، لحاولوا بشتى الوسائل وبالشاذ من الأقوال أن يحققوا رغبة الحاكم في قتل المسلم بالكافر المرتد عن الإسلام، وهذا ليس من قبيل الادعاء والتجني، بل هو الواقع، فعندما قتل أحد دعاة الشيوعية بالمغرب بأيدي مجهولة، عمدت السلطة إلى إلصاق التهمة بالمخلصين من المسلمين، وأجرت لهم، أو للبعض منهم محاكمات صورية كان من نتائج ذلك الحكم بالسجن المؤبد على بعضهم والبعض ¬

_ (¬1) رواه البخاري، انظر فتح الباري ج12 ص261 وصححه كذلك بعد تنقيح جميع طرقه، وتخريج الأحاديث المعارضة له في اللفظ والمعنى الشيخ ناصر الدين الألباني، حيث يرى وجوب العمل به وضعف ما ذهب إليه الحنفية من جواز قتل المسلم بالكافر بعد تضعيفه لجميع الروايات التي يحتجون بها. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة ج1 ص473 - 476. (¬2) انظر التشريع الجنائي الإسلامي/ عبد القادر عودة ج1 ص534 - 535.

الآخر شبه مؤبد، والبعض أودع السجن من خمس سنوات وهو لم يحاكم حتى محاكمة مزيفة (¬1). كل ذلك إكرامًا للشيوعية والشيوعيين أعداء الإسلام والمسلمين. إلا أنها ردة لا أبا بكر لها!!! وحتى لا يتوهم أحد أن الإسلام يشجع على سفك دماء الغير بدون سبب مباح نقول: إن الإسلام عندما خفف العقوبة من القتل إلى ما هو دون ذلك، إنما نظر إلى شبهة الكفر المانعة من تكافؤ دم المسلم مع دم الكافر ولكن يجب على المسلم القاتل للذمي والمستأمن عقوبة تعزيرية في الدنيا إذا كان الذمي والمستأمن ملتزمين بما يجب عليهما نحو الإسلام والمسلمين فقد وعد الله عز وجل من اعتدى على قتل معاهد سواء كان ذميًا أو مستأمنًا بحرمانه من الجنة، إذا لم يتب عن ذنبه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا» (¬2). وهذا من حماية الإسلام للمعاهد الملتزم بالعهد سواء كان يهوديًا أو نصرانيًا، إذا كان في دار الإسلام، وقد روي أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا من قتل نفسًا معاهدة لها ذمة الله ورسوله، فقد خفر ذمة الله، ولا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفًا» (¬3). وهذان الحديثان يستدل بهما من يرى عدم جواز القصاص من المسلم ¬

_ (¬1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (34) السنة التاسعة في 30/ 3/1399هـ. ص17 وعدد (485) السنة الحادية عشرة في 3/ 8/1400. ص604، وعدد (481) السنة الحادية عشرة في 5/ 7/1400هـ ص13، ص16 - 18. (¬2) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج12 ص259. (¬3) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. انظر سنن الترمذي ج2، ص429، (باب الديات) رقم الحديث (1424).

بالكافر، للاقتصار في أمره على الوعيد الأخروي دون الدنيوي (¬1). وقد رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) في مختصر الفتاوى المصرية (¬2). والذي يظهر لي أن الأولى عدم جواز قتل المسلم بالكافر أيا كان نوع الكافر للحديث الصحيح الوارد في ذلك ولعدم تكافؤ المسلم مع الكافر بسبب الكفر، وإن كان هذا الموضوع بجملته من العقوبات التعزيرية التي هي متروكة للحاكم والقاضي إذا كانا عدلين مسلمين فلهما النظر في ذلك من منظار السياسة الشرعية، وما يحقق المصلحة العامة للإسلام والمسلمين ولكن أين من ينظر إلى مثل هذه الموضوعات من الحكام والقضاة بمنظار الإسلام؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري ج12 ص260. (¬2) انظر مختصر الفتاوى المصرية/ ابن تيمية ص465.

الفرع الثاني: إهانة المسلم بما دون القتل دفاعا عن الكافر

الفرع الثاني: إهانة المسلم بما دون القتل دفاعًا عن الكافر ذكرنا فيما سبق حكم القصاص من المسلم إذا قتل كافرًا وبينا الحكم والراجح في ذلك، وفي هذا الفرع نتناول مسألة اعتداء المسلم على الكافر بما دون القتل، من لطم أو شجاج أو تجريح بالكلام أو نحو ذلك، وهل يجب على المسلم القصاص أو التعزير كما لو اعتدى على مسلم مساو له سواء بسواء؟ أم أن التعدي على الكافر ينظر إليه باعتبار آخر لما فيه من صفة الكفر؟ والجواب على ذلك أن اعتداء المسلم على الكافر الذمي أو المستأمن من أجل مصلحة دنيوية أو حقوق مادية موجب للقصاص والتعزير على العقوبات التي تدخل في هذا الباب. وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة حيث يرى أن المسلم والكافر يكافئ بعضهم البعض الآخر ما دام الكافر معصوم الدم بعهد أو أمان. إلا أنه يرى القصاص مطلقًا، أما الشافعي وأحمد فيرون القصاص فيما دون النفس فقط. وخالف في ذلك الإمام مالك حيث يرى أنه لا

قصاص بين المسلم والكافر حتى فيما دون القتل فلو قطع مسلم يد كافر فلا يقتص من المسلم لانعدام التكافؤ، لأن القصاص فيما دون النفس يقتضي المساواة بين الطرفين ولا مساواة بين المسلم والكافر (¬1). أما إذا اعتدى المسلم على الكافر الذمي أو المستأمن بسبب تطاولهما على الله ورسوله ودين الإسلام، فقام المسلم بتغيير ما صدر منهم من المنكر بالقول أو الفعل أو بهما معًا، وأدبهم على ذلك بضرب ونحوه وهو غير متجاوز في العقوبة ما يجب عليهم أصلاً من عقوبة تجاه هذا المنكر فإن المسلم في هذه الحالة لا يعاقب على ما صدر منه بحق الذمي أو المستأمن، ما دام أن ما صدر منه إنما كان بدافع تغيير المنكر الذي رآه بيده، فإن من حق كل مسلم أن يغير المنكر الذي يراه بيده أو قوله أو بقلبه عند أضعف درجات الإيمان، كما ورد في صحيح مسلم «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان» (¬2). سواء كان هذا المنكر صادرًا من مسلم أو معاهد أو ذمي، ما دام هذا المنكر غير مباح أصلاً في حق المعاهد أو الذمي كشرب الخمر أو أكل لحم الخنزير، فإنه ليس من حق المسلم أن ينكر على هؤلاء مثل ذلك الشيء الذي يرونه مباحًا في دينهم، ما لم يجاهروا بهذه المحرمات ويتحدوا بها مشاعر المسلمين. أما ما عدا ذلك من المحرمات عند أهل الكتاب، فإن المسلم ينكر على المعاهد والذمي كما ينكر على المسلمين سواء بسواء، ولو اقتضى الأمر تأديبهم بالفعل أو القول - دون تعدٍ - فلا قصاص عليه ولا تعزير والدليل على ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قَد لُطِمَ وجهه فقال: يا محمد. إن رجلاً من أصحابك من الأنصار قد لطم وجهي. فقال: ادعوه، فدعوه، فقال: ¬

_ (¬1) انظر التشريع الجنائي الإسلامي/ عبد القادر عودة ج2 ص215. (¬2) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم ج1 ص69 (كتاب الإيمان) باب النهي عن المنكر.

ألطمت وجهه؟ قال: يا رسول الله، إني مررت باليهود فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، قال فقلت: أعلى محمد - صلى الله عليه وسلم - قال فأخذتني غضبة فلطمته. قال: لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جزى بصعقة الطور (¬1). فلم يقتص الرسول - صلى الله عليه وسلم - للذمي من المسلم وهذا دليل على أن المسلم لما كان الدافع إلى فعله هو الغيرة لله ولرسوله وكان الذمي متعد بموجب عقد الذمة الذي يلزم أهل الذمة بعدم قول أو فعل أي شيء فيه انتقاص لله ولرسوله ودين الإسلام، كان ذلك مسقطًا للجزاء على المسلم، وفي هذا الحديث دليل على أن الذمي أو المعاهد إذا أقدم على ما فيه انتقاص الإسلام والمسلمين جاز للمسلم المعروف بالعلم والعدالة تعزيره على ذلك، إذا كان الموقف لا يحتمل تأجيل ذلك ورفعه إلى الإمام، ولا عقوبة عليه في ذلك (¬2) ولكن ذلك لا يعني جواز ظلم المعاهد أو التعدي عليه بغير حق فقد ورد في الحديث «ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة» (¬3). وهذا يدلنا على حسن رعاية الإسلام لحقوق غير المسلمين إلا عند إساءتهم للإسلام والمسلمين فحينئذ تسقط الحصانة عنهم، ويعاملون معاملة المحاربين للإسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج12 ص263. (¬2) انظر فتح الباري ج12 ص263 وانظر التشريع الجنائي الإسلامي عبد القادر عودة ج1 ص505 - 511. (¬3) أخرجه أبو داود والبيهقي - انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني م1 ص185 رقم الحديث (446).

الفرع الثالث: الستر على جواسيس الكفار وحمايتهم

الفرع الثالث: الستر على جواسيس الكفار وحمايتهم إن من موالاة الكفار ومناصرتهم، ما تقوم به بعض الدول والأفراد من 3مساعدة جواسيس الكفار وحمايتهم، واستقدامهم بصورة مختلفة وطرق متباينة ليعبثوا بأرض المسلمين فسادًا، وليتخذوا بها أوكارًا ومرابض يفرخون من خلالها للأحزاب الكافرة والدعوات الهدامة، وينقلوا ما في المجتمع المنتسب إلى الإسلام من سلبيات وتناقضات لاستغلالها في حرب الإسلام وأهله بالطرق المختلفة. وهؤلاء الذين يؤون جواسيس الكفار ويتسترون عليهم حكمهم حكم هؤلاء الكفار لأن المعين على الشيء له حكم المباشر له (¬1). ولقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (¬2) وقد اتفق العلماء على وجوب قتل الجاسوس المشرك (¬3)، وقد نقل ابن العربي القول بقتل الجاسوس المسلم ¬

_ (¬1) انظر الفتاوي لابن تيمية ج35 ص91. (¬2) سورة المائدة آية (51). (¬3) انظر فتح الباري ج6 ص169.

الذي يتجسس على المسلمين لصالح الكفار، ورجح ذلك حيث قال: «وهو الصحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض» (¬1). ومن هؤلاء الذين يتسترون على جواسيس الكفار الرئيس السوري - حافظ النصيري - فقد عفا وأطلق سراح ثلاثة وعشرين جاسوسًا لليهود في سوريا. بينما قتل في ساعة واحدة ألف نفس أو تزيد في سجن تدمر الصحراوي من خيرة المسلمين في سوريا. إن حافظ النصيرية ليس محسوبًا أصلاً على الإسلام عند المسلمين الحقيقيين، ولكن هناك من يواليه وينصره بالقول والفعل ويتستر على جرائمه وهو يفعل باليهود هذا الفعل، ويفعل بالمسلمين ذاك الفعل، ومع ذلك يعتقد من يواليه وينصره أنه قائم على الصراط السوي، وسائر على الطريق المستقيم، رغم تلك الجرائم البشعة التي يندى لها الجبين. وفي معظم البلاد الإسلامية تجد عملاء وجواسيس اليهود والنصارى والشيوعيين يسرحون ويمرحون بكل حرية وطلاقة في عرض البلاد الإسلامية وطولها، بعلم من السلطات الحاكمة أو بغير علم، وحتى لو اكتشف بعض الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية، شبكة تجسس من هذا القبيل لاكتفت بالنفي لهؤلاء خارج بلادها، بينما لو وقع في يدها فرد أو جماعة تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة لاعتبر ذلك خيانة عظمى يستحق أصحابها أن يعلقوا على أعواد المشانق ويودعوا في غياهب السجون عشرات السنين. فيا ترى هل مثل هؤلاء يقيمون للموالاة في الله والمعاداة فيه أي وزن أو تقدير؟ رحمتك اللهم يا رب، ولا حول ولا قوة إلا بك. ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1770 - 1772.

المبحث السادس: موالاة المسلم للكفار في بلادهم

المبحث السادس: موالاة المسلم للكفار في بلادهم سنتناول هذا المبحث في فرعين هما: 1 - الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم. 2 - الفرع الثاني: موالاة الكفار في العمل لديهم وتحت ولايتهم.

الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم

الفرع الأول: موالاة الكفار في السفر إليهم والإقامة بينهم يختلف حكم السفر والإقامة بدار الكفار تبعًا لاختلاف النية والمقصد الباعث على السفر والإقامة عند الكفار، فقد ورد في الحديث الصحيح «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬1). والنية إنما تدل عليها الأعمال الظاهرة، فإن كانت الأعمال الظاهرة حسنة والنية حسنة فالعمل حسن، وإن كانت النية سيئة فالعمل سيئ ولو حسن العمل في الظاهر لأنه يدخل حينئذ في باب النفاق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): «الإقامة في كل بلد تكون لأسباب فإذا كانت في موضع يكون فيه أطوع لله ورسوله، وأفعل للحسنات والخير، بحيث يكون المسلم أعلم بذلك وأقدر عليه، وأنشط له، فهي أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك» (¬2). اهـ. ومن ذلك نستدل على أن الإقامة في بلد - ما - أمر نسبي ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم: انظر جامع العلوم والحكم/ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص5. (¬2) انظر مجموع الفتاوى/ ابن تيمية ج27 ص39.

يتعلق بنية الشخص نفسه، والظروف المحيطة به، فقد تكون إقامة المسلم في أرض يسود بها الضلال ويستعلي بها الكفر، أفضل إذا كان مجاهدًا في سبيل الله، داعيًا إلى منهج الله بقوله وفعله من إقامته في أرض كل أهلها من الناس الصالحين الطيبين (¬1). ولذلك يمكن تقسيم السفر والإقامة بين الكفار إلى أربعة أقسام: القسم الأول: مَنْ سفره مأمور به شرعًا وصاحبه مجاهد في سبيل الله حتى يرجع وذلك إذا كان الذهاب إلى الكفار بقصد الدعوة إلى الله، أو تعلم ما هو وسيلة إلى مرضاة الله وخذلان أعدائه. ودليل هذا النوع سفر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الطائف يعرض الإسلام عليهم، وكانت كلها دار كفر في ذلك الوقت، فلم يمنعه ذلك من السفر إليها والإقامة بينهم بعض الوقت. وكذلك بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرسل إلى ملوك أهل الأرض ومن حولهم وهم كفار، فقد بعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر - وهو هرقل - ملك الروم، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر، وشجاع بن وهب بن أسد بن خزيمة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك عرب النصارى، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة بن الحر (¬2). فهؤلاء الأشخاص الذين يستحب لهم الذهاب إلى الكفار يشترط فيهم أن يكونوا عارفين لدينهم بأدلته الشرعية. متمسكين بعقيدتهم مأمونًا عليهم في ظاهر حالهم من الوقوع في الفتنة، قاصدين من سفرهم وسكناهم مع الكفار إظهار دين الله والدعوة إليه، ومعرفة ما يعينهم على ذلك. القسم الثاني: من أقسام السفر والإقامة مع الكفار ما يكون مباحًا. ¬

_ (¬1) انظر الابتعاث ومخاطره/ محمد بن لطفي الصباغ ص12. (¬2) انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج4 ص180.

وهو من كان سفره لحاجة دنيوية كتجارة أو علاج وهو عارف لدينه بأدلته آمن من الفتنة، مظهر لدينه بعداوة الكفار والبراءة منهم، قادر على التأثير في الكفار دون التأثر بهم، وهذا ما حصل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام في تجارة، وهذا السفر دليل قاطع على جواز السفر إلى الكفار والتجارة معهم. فإن قيل، كان ذلك قبل النبوة، فالرد أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتدنس قبل النبوة بحرام، ولا اعتذر عن ذلك حين بُعِثَ، ولا منع أحدًا من الصحابة في حياته ولا منع ذلك أحد من خلفائه بعد وفاته. فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى، وفي حمل الرسائل إلى ملوك أهل الأرض، فقد أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى أهل مكة وهم أهل حرب للإسلام والمسلمين فدل ذلك على أن السفر لغرض مباح يكون مباحًا ولغرض مستحب يكون مستحبًا (¬1). وقد كان للتجار المسلمين تأثير عظيم على كثير من البلدان التي ارتحلوا إليها، فحملوا معهم بضاعة الدعوة إلى الله بجانب البضائع الدنيوية فكانوا بذلك فاتحين لبلاد لم تطأها أقدام الجيوش الإسلامية، وإنما انتشر الإسلام فيها بفضل الله ثم بفضل أولئك الذين حملوا الإسلام بأقوالهم وأفعالهم فكانوا قدوة حسنة ومثلاً أعلى يقتدي بهم، ومن هذه البلاد أندونسيا وماليزيا ومعظم الدول الواقعة في شرق وجنوب آسيا ووسط أفريقيا وشرقها مثل تشاد ونيجيريا ويوغندا والسودان والصومال وما حولها. القسم الثالث: ما يكون سفره وإقامته في بلاد الكفار حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، وذلك من كان سفره لحاجة دنيوية وهو عارف لدينه بأدلته آمن من الفتنة، ولكنه غير قادر على إظهار دينه وتأدية شعائر الإسلام علانية وبحرية تامة، من فعل للواجبات وترك للمحرمات، وإظهار البغض والعداوة للكفار والبراءة منهم، فهذا لا يكون سفره وإقامته بين الكفار كفر ولكن ¬

_ (¬1) انظر سير القرطبي ج6 ص13.

السفر والإقامة بين الكفار في هذه الحالة معصية تختلف درجتها باختلاف القدر المسموح به من إظهار الدين أو عدمه، ولذلك يجب على المسلم أن يحتاط لنفسه في هذه الناحية فلا يجوز السفر أو الإقامة في بلد لا يسمح أهله بإظهار شعائر الإسلام، وذلك مثل البلاد الشيوعية وما شاكلها، ولكن للأسف الشديد إن بعض الدول المعاصرة مثل اليمن والصومال وسوريا وليبيا وغيرها من الدول ترسل أعدادًا من أبناء المسلمين إلى الدول الشيوعية مثل روسيا وكوبا وتشيكوسلفاكيا والمجر وبلغاريا وغيرها من الدول الشيوعية، مع العلم أن هذه الدول لا تسمح للمسلم بمزاولة أي شعيرة من شعائر الإسلام، فلا يرضى بذلك من المسئولين والطلاب إلا أناس ليسوا من الإسلام في شيء (¬1). القسم الرابع: من أقسام السفر والإقامة مع الكفار، ما يكون ردة وخروج عن الإسلام، وهذا الحكم ينطبق على كل من سافر إلى الكفار وأقام معهم مدة طويلة أو قصيرة، فرضي عن الكفار، وأظهر الموافقة على كفرهم، ومدح ما هم فيه من كفر، أو استحسن ذلك وأظهر لهم المودة والاحترام مع ما هم متلبسين به من كفر، فولاهم موالاة المحب لمحبوبه وركن إليهم، وأنس بقربه منهم، ولم يتميز عنهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال فهو منهم (¬2)، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (¬3). وعلى ضوء ذلك يمكن القول: بأنه إذا استطاع المسلم إظهار الإسلام في بلد لم تحرم الإقامة فيه على من صان دينه وباين الكفر وأهله وأظهر العداوة لأعداء الله (¬4). وعلى ذلك يمكن حمل مفهوم الآيات والأحاديث ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد ص47، 303. (¬2) انظر رسالة في الجهاد/ للشيخ عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص31 - 32. (¬3) سورة المائدة آية (51). (¬4) انظر الدرر السنية ج9 ص213.

الواردة في ذم مساكنة الكفار والإقامة معهم على من لم يقدر على إظهار دينه، أو رضي عنهم وتابعهم على دينهم وإن كان يدعي الإسلام، فمن الأدلة الواردة في ذم مخالطة المشركين على ذلك الوصف المتقدم ما يلي:- أولاً- قول الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (¬1). لأن الرضا بالكفر كفر، وعلى هذا استدل العلماء بأن الراضي بالذنب كفاعله، لأن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع بهم، والنصرة لهم، والسكن معهم بحيث يعده المشركون أو المرتدون عن الإسلام أنه واحد منهم، فهو كافر مثلهم، وإن ادعى الإسلام (¬2). ولا فرق في ذلك بين المدة القريبة أو المدة البعيدة، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيه، لا يجوز له المقام فيه ولو يومًا واحدًا إذا كان يقدر على الخروج منه (¬3). فحكم الإقامة كحكم السفر في ذلك، نظرًا لما يترتب عليهما من منافع أو مفاسد متشابه في حق الفرد والأمة على حد سواء (¬4). وقد قال القرطبي في الآية المتقدمة في قوله تعالى: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) (¬5): إن هذه الآية نزلت في المنافقين الذين يجالسون أحبار اليهود ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (140). (¬2) انظر مجموعة التوحيد ص48. (¬3) المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) المصدر السابق المكان نفسه. (¬5) سورة النساء آية (140).

فيسخرون من القرآن وهم معهم، فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ولم يستطع تغييره. وقال الكلبي (¬1) إن هذه الآية منسوخة (¬2). بقوله تعالى: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (¬3). قال القشيري (¬4)، إن الآية الأخيرة ليست منسوخة بالأولى بل المعنى ما عليكم من حسابهم إذا قمتم بتذكيرهم وزجرهم أما إذا رضيتم فلا يجوز الجلوس معهم ويصبح حينئذ أمرًا محرمًا (¬5)، وقال قتادة: إن الآية التي تفيد عدم مسئولية المسلمين بعد النصح والبيان منسوخة (¬6). بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (¬7). ولكن الراجح أن هذه الآية الأخيرة متناولة لعموم المسلمين في حق عموم الكفار، أما الفرد المسلم في بلاد الكفار فمن غير المتصور أنه بعد نصحه للكفار أن يقاتلهم إذا لم ¬

_ (¬1) هو محمد السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي (أبو النضر) مفسر، إخباري، نسابة، راوية، ولد بالكوفة وشهد وقعة دير الجماجم مع ابن الأشعث وتوفي بالكوفة سنة (146هـ) من آثاره: تفسير القرآن الكريم. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحاله ج10 ص15. (¬2) انظر تفسير القرطبي ج5 ص418. (¬3) سورة الأنعام آية (69). (¬4) يوجد بهذا الاسم: 1 - القشيري (أبو الفضل) بكر بن محمد. انظر معجم المؤلفين ج3 ص74. 2 - القشيري (أبو نصر) عبد الرحيم بن عبد الكريم. انظر معجم المؤلفين ج5 ص207. 3 - القشيري (أبو القاسم) عبد الكريم بن هوازن. انظر معجم المؤلفين ج6 ص6. وانظر الإعلام للزركلي ج5 ص198. ولم يتضح لي صاحب هذا القول منهم. (¬5) انظر تفسير القرطبي ج7 ص15. (¬6) المصدر السابق نفس المكان. (¬7) سورة التوبة آية (5).

يستجيبوا له لأن القتال مسئولية جماعية في حق الأمة وليس واجبًا فرديًا على أفراد المسلمين المتواجدين داخل دار الكفار (¬1). ثانيًا - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (¬2). يقول سيد قطب (رحمه الله): يمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان متجاوزًا تلك الحالة الخاصة في مكة إلى ما يماثلها في كل زمان ومكان يلحق هذا الحكم كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض، ثم تمسكه أمواله ومصالحه وقراباته وصداقاته وخوفه من متاعب التنقل والارتحال إلى دار الإسلام (متى وجدت) التي يحيا فيها حياة إسلامية في ظل شريعة الله (¬3). ثالثًا - قول الله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (¬4). يقول القرطبي: إن الآية دليل على عدم الدخول إلى أرض العدو ودخول الكنائس والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع وهم في تلك الحالة التي نهي عن مجالستهم فيها وقلما تجد الكفار في حالة من حالات الإعراض عن الخوض في آيات الله، وهذا الأمر يستدعي الانتباه عند مجالسة الكفار ورد باطلهم عليهم عند تعرضهم لأحكام الله وآياته أو مفارقتهم عند عدم القدرة على الإنكار عليهم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي ج5 ص417 - 418 وج7 ص14 - 15. (¬2) سورة النساء آية (97). (¬3) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب م2 ص498 - 500. (¬4) سورة الأنعام آية (68). (¬5) انظر تفسير القرطبي ج7 ص12.

رابعًا: عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة -أو قال- لا ذمة له» (¬1). وروي عن سمرة بن جندب (رضي الله عنه) قال: أما بعد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» (¬2) وفي هذين الحديثين وعيد شديد لمن جامع المشركين وساكنهم اختيارًا وخاصة من لم يستطع إظهار دين الله عندهم وإعلان البراءة منهم ومن كفرهم فليحذر المسلمون المقيمون بين الوثنين والمرتدين والنصارى والمجوس من أن يلحقهم هذا الوعيد الشديد الذي قد يؤدي بهم إلى الخروج عن دائرة الإسلام، فهذا الوعيد الشديد يقتضي تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين لمن عجز عن إظهار دينه وهو قادر على الهجرة إلى بلد يظهر فيه الإسلام، كما أن السفر إلى البلاد التي لا يُظهر فيها دينه لا يجوز له ذلك، لما يترتب على ذلك من ترك شعائر الإسلام، وإظهار الدين ليس كما يتصوره البعض من مجرد إقامة الصلاة والصيام والزكاة والحج وعداوة القلب وبغضه للكفار سرًا، فإن ذلك لا يكفي في النجاة من عذاب الله، بل لا بد مع ذلك من إظهار المعتقد الصحيح ومخالفة كل طائفة من طوائف الكفر فيما اشتهر عنها والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء والبراءة منهم ومما يعبدون (¬3). وهذه ملة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وهي الدين القويم والصراط المستقيم، ومبناها الحب في الله والبغض في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه، إذ هي أوثق عرى الإيمان ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كَثُرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك (¬4). ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص542. وقد ذكر الرازي في كتاب الجرح والتعديل ج2 ص502. أن له صحبة وأنه روى عن مالك وقيس بن حازم والشعبي. (¬2) رواه أبو داود في سننه ج3 ص93. وقال عنه الألباني: حديث حسن. انظر صحيح الجامع الصغير ج6 ص279. (¬3) انظر مجموعة التوحيد ص300. (¬4) انظر كتاب الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض تأليف/ سليمان بن سحمان ص6 مخطوطة في جامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413).

يقول الشيخ سليمان بن سحمان معقبًا على ذلك بما يلي: «إن قولنا لا تجوز الإقامة والسفر إلى بلاد المشركين لمن لا يستطيع إظهار دينه، ولم يكن من الضعفاء المعذورين وهذا لا يعني كفر من فعل ذلك، وإنما هو آثم عاص، ولكن يلحق من أباح واستباح السفر والإقامة بدون قيد أو شرط فهذا كافر لإباحته ما حرم، الله، لا لمجرد السفر أو الإقامة عند الكفار» (¬1). اهـ. أما من يرى إباحة ذلك لجهله وعدم علمه بأن في ذلك نصًا شرعيًا يمنع السفر والإقامة بدون إظهار الدين، أو يرى الإباحة بناء على تأويل أو شبهة عرضت له، ولم يتبين له وجه الحق، فهذا إن كان رده لأجل هذه الشبهة التي عرضت له، فإن عمله هذا قادح في إيمانه، لأنه لم يبذل الوسع في طلب الحق والتحقيق في الأمر، بل حسَّن الظن بمن يقلد وهو دون الأول الذي لا شبهة في كفره وتكفيره، ولكنه على كل حال آثم في عدم البحث عن الحق وسؤال أهل الذكر كما أمر الله عز وجل. وقد يحتج بعض الناس على جواز مخالطة الكفار والسفر معهم وإليهم والإقامة بينهم بما يجري داخل الدولة الإسلامية في جواز وجود الذميين والمستأمنين بين المسلمين. فما هو الفرق بين إقامة الكفار في دار الإسلام أو إقامة بعض المسلمين بدار الكفار؟ والجواب على ذلك أن أهل الذمة والمستأمنين في دار الإسلام يعلم الخاص والعام أنهم يعيشون في ظل الدولة الإسلامية ويعاملون معاملة خاصة بحيث لا يكون لهم تأثير سلبي على الأمة الإسلامية، فأهل الإسلام متميزون عنهم بدينهم ولهم الغلبة والظهور والقهر على الأعداء فلا يقاس ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص8.

هذا على مخالطة الكفار في ديارهم حال ظهورهم وغلبتهم على أهل الإسلام أو كونهم هم أهل الغلبة والسلطان في بلادهم (¬1). ولا شك أن مخالطة الكفار ومعاشرتهم بغير نية دعوة، وصلابة عقيدة وسيلة من الوسائل المحرمة، والوسائل تتخذ حكم غاياتها، فأكثر المسافرين والمخالطين والمعاشرين لأهل الكفر هم من الغوغاء والعوام من المسلمين وغالبًا أن هؤلاء لا يعرفون ما أوجب الله عليهم من معاداة المشركين، ولا ما حرم الله ورسوله من موالاتهم، وأن منها ما يخرج من الملة ومنها ما هو دون ذلك (¬2). وقد يستدل البعض الآخر على جواز مساكنة الكفار والإقامة معهم بهجرة المسلمين إلى الحبشة والإقامة بين الكفار، ونحن نقول إن الذهاب من حيث المبدأ إلى الكفار جائز بشرط إظهار الدين علانية ومعاداة المشركين لأن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا كذلك، فإن النجاشي أظهر الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) صدر سورة مريم أذعن وصدق، وأظهر المخالفة لقومه. وأيضًا فإن قريشًا لما بعثوا عمرو بن العاص (رضي الله عنه) قبل إسلامه إلى النجاشي ليرد من هاجر إليه من المسلمين غضب النجاشي غضبًا شديدًا حتى خاف عمرو أن يوقع به ورد هدايا قريش إليها وقال مخاطبًا لجعفر وأصحابه «اذهبوا فأنتم سيوم (¬3) بأرضي من سبكم غرم» (¬4). فأظهروا دينهم ووحدوا ربهم ولم يمنعهم منه أي مانع، ولم يعارضهم معارض، ولم يحصل منهم موالاة أو ركون لمن كان هناك من النصارى ¬

_ (¬1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان الدوسري ص33 مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413). (¬2) المصدر السابق ص42. (¬3) سيم من سوم الماشية إذا أرسلها، وسوّم فلان فلانًا، خلاه وما يريد. المعجم الوسيط ج1 ص468. (¬4) انظر الدرر السنية ج9 ص197 - 198.

ولا وقع منهم شيء مما يُكره فعله في حق المسلم، وإنما صاروا دعاة إلى الله بأقوالهم وأفعالهم وسببًا في إسلام من أسلم من أهل الحبشة فأين أولئك الصفوة الكرام من الذين يسافرون ويقيمون بدار الكفار في وقتنا الحاضر إننا نجد أن كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام اليوم إذا ذهبوا إلى بلاد الكفار ركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، وأظهروا الموافقة والإعجاب والتقدير لأهل الكفر ومناهج الكفار، وعادوا إلى المسلمين دعاة إلى الكفر إلا من عصم الله منهم، فنجدهم ينادون بموادة أهل الشرك ومحبتهم بأقوالهم وأفعالهم، ويستغلون وظائفهم في الإعلام والتعليم وغير ذلك من المجالات لخدمة أعداء الإسلام، ولم يكتفوا بذلك بل إن البعض منهم نصب نفسه لمعاداة الإسلام وأهله، وهذا خروج عن الإسلام أعاذنا الله من ذلك. أما من يستدل على جواز مساكنة الكفار بقصة مؤمن آل فرعون على اعتبار أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، فإنه قد أظهر دينه وقام على فرعون وملائه مقامًا عظيمًا، فنصحهم ودعاهم، فقد قال الله عنه: (وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (¬1). فأظهر لهم إيمانه ودعاهم إليه، وقال الله في حقه: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (¬2). فقد قام على آل فرعون مقام أنبيائهم فما داهن في دينه، ولا كتمه بل أظهر المخالفة لفرعون وقومه فما حصل منه إلا ما يحبه الله ويرضاه (¬3). وقد تساءل الشيخ سليمان بن سحمان عن المقام بدار الكفر ثم رد على هذا التساؤل بأبيات هي كما يلي:- ¬

_ (¬1) سورة غافر آية (38). (¬2) سورة غافر آية (45). (¬3) انظر الدرر السنية ج9 ص197 وانظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض. سليمان بن سحمان ص75 - 76.

ترى المرء يكفيه الصلاة وصومه ... وإظهاره في الصحب إني لمسلم وأبغض أهل الكفر لكن أخافهم ... فلست أريهم ما يسيء ويؤلم وليس بشرط أن أصرح عندهم ... بتكفيرهم جهرًا ولا أتكلم وكيف وأموالي لديهم وعندهم ... معاشي وأوطاني فكيف التقدم إذا لم أوافقهم وربي عالم ... بما ينطوي قلبي عليه ويكتم من الحب للإسلام والدين والهدى ... وبغضي لأهل الكفر والله يعلم فإن كان هذا الحب والبغض كافيًا ... ولو لم أصرح بالعداوة فيهموا فما وجه هذا من كتاب وسنة ... أجيبوا على هذا السؤال وأفهموا (¬1) وأجاب على ذلك بأبيات هي كما يلي: والله حرم مكث من هو مسلم ... في كل أرض حلها الكفارُ ولهم بها حكم الولاية قاهرًا ... فاربأ بنفسك في المقام شنارُ وانظر حديثًا في البراءة قد أتى ... نقل الثقات رواته الأخيارُ ¬

_ (¬1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص221.

فيه البراءة بالصراحة قد أتت ... من كل من يسكن مع الأشرار قد صرحت فيمن أقام ببلدة ... مستوطنًا وولاتها الكفار والمرء ليس بمظهر للدين بل ... للمكث في أوطانه يختارُ إلا الذي هو عاجز مستضعف ... فالنص جاء بعذره لا العار (¬1) ويقول في قصيدة أخرى: وحبكم الدنيا وإيثار جمعها ... على الدين أضحى أمره قد تحكما لذلك داهنتم وواليتموا الذي ... بأوصاف أهل الكفر قد صار مظلمًا وجوزتمو من جهلكم المسافر ... إقامته بين الغواة تحكما بغير دليل قاطع بل بجهلكم ... وتلبيس أفاك أراد التهكما ويا مؤثر الدنيا على الدين إنما ... على قلبك الران الذي قد تحكما وعاديت بل واليت فيها ولم تخف ... عواقب ما تجني وما كان أعظما أغرتك دنياك الدنية راضيًا ... بزهرتها حتى أبحت المحرما (¬2) ¬

_ (¬1) ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان/ سليمان بن سحمان ص76 - 77. (¬2) المصدر السابق ص198 - 200.

فمن المعلوم أن عداوة المشركين واجبة على كل مسلم في كل زمان ومكان وعداوة القلب وبغضه لا تكفي في إبراء الذمة عند مساكنة الكفار ومخالطتهم، بل لا بد من إظهار العداوة لهم، ولكفرهم بالقول والفعل كما قال تعالى: في شأن إبراهيم عليه السلام (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (¬1). فلا بد من إظهار العداوة والبغضاء للكفار، والتصريح لهم بالبراءة منهم ومما يعبدون، سواء كان المسلم بدار الإسلام أم بدار الكفر، إلا عند وجود الإكراه المجلئ الذي يحمل الإنسان على موافقة الكفار في الظاهر دون الباطن، أو كان من المستضعفين المعذورين عند الله، وفيما عدا هذه الحال لا يجوز للمسلم المقام بين الكفار وهو غير مظهر للدين مع أنه حر طليق قادر على الانتقال عنهم ومفارقتهم، فالعذر في موافقة الكفار في الظاهر دون الباطن خاص بالأسير المسلم ونحوه الذي أمره ليس بيده، وإنما أمره بيد الكفار، وهذا لا ينطبق على الذين يسافرون إلى بلاد الكفار ويقيمون بينهم برغبتهم، وهم قادرون على تركها في أي وقت شاءوا فهؤلاء لا عذر لهم في مداهنة الكفار وموافقتهم في الظاهر وإن خالفوهم في الباطن. وقد يقول قائل أنا لا أتبرأ من المشركين ولا أعاديهم لأن هذه الآية وغيرها من الآيات ليست نصًا في الحكم على من لم يعاد المشركين. والجواب: أن يقال: إن قولك هذا رد على الله وخروج من الدين، لأن الله عز وجل يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية (4). (¬2) سورة المجادلة آية (22).

فهذه الآية دلت على انتفاء الإيمان الواجب لمن قام بموادة من حاد الله عز وجل، كما دلت بمفهوم المخالفة على محبة المؤمنين المطيعين لله. ومن يرى أن إظهار العداوة والتصريح بها للكفار خاص بالرسل إذ هي البلاغ الذي عليهم، ولا تجب على آحاد الناس فهذا القول من أبطل الباطل وأعظم المغالطات (¬1)، حيث إن الله تعالى قد بين أن الموالاة والمعاداة من سنة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، فلا يرغب عن سنة إبراهيم إلا من سفه نفسه قال تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (¬2). فعداوة القلب وبغضه وموالاته لا تكفي في النجاة من عذاب الله مع القدرة على إظهار العداوة والتصريح بها بين الكفار لمن يسافر باختياره ويقيم بينهم بمحض إرادته فأين التصريح بالعداوة والبغضاء ممن يسافر إلى بلاد الكفار في وقتنا الحاضر؟ إن الذي يحصل غالبًا من أحوال المسافرين والمقيمين عند الكفار هو الموافقة وإظهار الرضا وربما الإعجاب بكفرهم، حتى لقد رجع الكثير منهم دعاة إلى الماسونية والصليبية والشيوعية والإباحية البهيمية، والشخص المتمسك بالإسلام والذي يعتبر من العاضيَّن عليه بالنواجذ في بلاد الكفار هو الذي يسكت عن هؤلاء الكفار ويعتزلهم، ويجد ويجتهد في حماية نفسه من أن يذوب فيما لديهم من مستنقعات الفساد وأوحال الرذيلة، والإغراءات العفوية والمتعمدة التي يرسمها الأعداء للإيقاع بأبناء المسلمين. وبناء على ذلك فإن إظهار الدين - الذي هو ترك المحرمات وتأدية الواجبات وإظهار العداوة للكفر والكفار - أمر يتعذر تحقيقه وحصوله في ¬

_ (¬1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان ص49. (مخطوطة) بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413). (¬2) سورة البقرة آية (130).

معظم بلاد الكفار، فإن السفر والإقامة في تلك البلاد التي لا يظهر المسلم فيها دينه بالشروط المعتبرة عند العلماء عمل محرم، وغير جائز في الإسلام، كيف لا يكون ذلك! والهجرة مستحبة من بلاد الكفار إلى دار الإسلام وإن كان المسلم قادرًا على إظهار دينه، فكيف إن لم يقدر على إظهار الدين؟ ألا يكون سفره وإقامته على تلك الحال عمل محرم ودليل من أدلة موالاته للكفار إن لم يكن مكرهًا على ذلك إكراهًا ملجئًا (¬1). يقول الشيخ سليمان بن سحمان: «إن مذهبنا أن لا نكفر من سافر إلى بلاد الكفار أو جلس عندهم وهو مظهر للإسلام موالي لأهله مبغض للكفر معاد لأهله. وإنما نكفر من أقام بدار الكفار، ووافقهم على كفرهم ورضي به. وأذل الدين لأجل غرض دنيوي. أما من أقام في دار الكفار وهو قادر على الهجرة ولم يتمكن من إظهار دينه فمقامه بينهم محرم لا يرقى إلى درجة الكفر ما لم يحصل موافقة للكفار في الظاهر والباطن» (¬2) اهـ. ومن الأسباب التي دعت العلماء إلى أن يهتموا بموضوع السفر والإقامة بين الكفار هو ما رأوه من آثار سيئة وانتكاسات كبرى لحال كثير من الذين وطنوا أنفسهم على المقام بين الكفار فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. يقول الشيخ سليمان بن سحمان: «إن السفر إلى بلاد المشركين من الوسائل التي تجر إلى مخالطتهم، وتمنع من إظهار الدين عندهم ويقع بسببها إظهار الموافقة لهم، والبشاشة واللين عند مقابلتهم، والرضا أو عدم ¬

_ (¬1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان ص82. (مخطوطة) بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413). (¬2) المصدر السابق ص87 - 90.

المبالاة بأعمالهم، وهذا الأمر من أكبر الوسائل المفضية إلى مشاهدة المنكر والسكوت عنه، فالإثم لا يحصل بمجرد المخالطة وإكثار السفر والإقامة بينهم وإنما بالرضا والموافقة على كفرهم ويدخل فيه ما هو دون ذلك من الفجور وقول الزور والظلم والفسوق، وأنواع المعاصي فإن الرضا بأعمال الكفر كفر، والرضا بما دون الكفر كل بحسبه كذلك» (¬1). اهـ. وقد قال ابن دقيق العيد: «إن الوسيلة إلى الطاعة طاعة كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية» (¬2). اهـ. وقد نهى الله عز وجل عن الوسائل المفضية إلى الكفر قال تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (¬3). فذكر تعالى أن علة النهي عن الزواج بالمشركين والمشركات أنهم يدعون إلى النار في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وأن مخالطتهم مصدر من مصادر الخطر على المسلمين، وهذا الخطر ليس خطرًا دنيويًا فقط بل قد يكون شقاءً أبديًا، فيستفاد من تعليل النهي في الآية السابقة النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع، لأنه إذا لم يصح التزوج من الكفار على قول من قال بالتحريم أو على قول من قال بكراهية ذلك (¬4)، مع أن الزواج فيه مصالح كثيرة، فالخلطة المجردة من أهداف الدعوة إلى الله أولى خصوصًا الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك على المسلم حسًا ومعنى (¬5). ¬

_ (¬1) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان ص56، الورقة (28) مخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض برقم (3413). (¬2) المصدر السابق المكان نفسه. (¬3) سورة البقرة آية (221). (¬4) انظر صفحة 700 - 712 من هذه الرسالة. (¬5) انظر تفسير ابن سعدي ج1 ص274 - 275.

وينقل الشيخ سليمان بن سحمان عن ابن تيمية قوله: «أنه قال -أي شيخ الإسلام- في قوله تعالى: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (¬1). إن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية، لا كافرة إما بسماع الكفر دون إنكاره أو بالجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله، أو بكلام هو ذنب وليس كفر» (¬2) اهـ. وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (¬3). فقد ذكر بعض المفسرين أن الزور عيد المشركين، فيكون الحكم هو النهي عن حضور أعياد المشركين وما في حكمها من أفعال كفرهم (¬4). قال تعالى: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (¬5). وبناء على ما تقدم فإن الإقامة الاختيارية المصحوبة بالرضا في المقام ببلد يعلو فيه الشرك والكفر، وتظهر منه مظاهر الردة والنكول عن الإسلام وترفع فيه شعارات الإلحاد والفساد لهو مقام لا يرتضيه الله من المسلم، ولا يرضاه المسلم الحقيقي لنفسه، حيث إن المسلم لا يمكن أن تطمئن نفسه في بلد تهدم فيه أركان التوحيد، وترفع فيه شعائر الكفر ويسوده الطغاة والفجرة، ويستذل فيه أهل الإيمان والإسلام. إن الرضا بالمقام في مثل هذا الوضع لا يصدر إلا عن قلب رانت عليه الذنوب والمعاصي، وانطفأت فيه جذوة الإيمان، واستمرأ الملذات واستعبدته الشهوات حتى فقد الإحساس بالمسئولية نحو نفسه ونحو الإسلام ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (66). (¬2) انظر الجواب الفائض في الرد على أرباب القول الرائض/ سليمان بن سحمان، مخطوطة بجامعة الرياض قسم المخطوطات برقم (3413) ص57. (¬3) سورة الفرقان آية (72). (¬4) انظر تفسير القرطبي ج13 ص79 - 80. (¬5) سورة الأنعام آية (68).

والمسلمين وماتت في نفسه الغيرة على محارم الله وأحكام الإسلام. ويستثنى من ذلك المستضعفون الذين يقيمون مع الكفار بغير رغبة أو رضًا أو اختيار منهم، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (¬1) فهؤلاء لا إثم ولا حرج عليهم، ولكن معظم المسلمين الذين يقيمون في بلدان الكفر اليوم لا ينطبق عليهم وصف الاستضعاف، حيث إن معظمهم يذهب إليها برغبة منه واختيار، ولمقاصد مادية وأهداف دنيوية بحتة، لا صلة لها بالعمل للإسلام والمسلمين، وهذا هو المحذور الشرعي في خلطة الكفار والمقام بينهم (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (¬2). أما المسلم المستضعف الذي يقيم بين الكفار فعليه أن يعلم أن مقامه حالة استثنائية ويجب عليه أن لا يرضى بالمقام بينهم، وأن يعلم أن المقام معهم على هذه الحال ضرورة يجب أن تزول باتخاذ أسبابها العاجلة والآجلة. قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (¬3). فبين تعالى مقالتهم الدالة على أنهم لم يقيموا مختارين للمقام، وذلك أنهم يدعون الله أن يخرجهم، فدل ذلك على حرصهم على الخروج، وأنه متعذر عليهم، ويدل على ذلك وصفهم أهل القرية بالظلم، وسؤالهم ربهم أن يجعل لهم وليًا يتولاهم ويتولونه، وأن يجعل لهم ناصرًا ينصرهم على أعدائهم الذين هم بين أظهرهم. قال تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (286). (¬2) سورة التوبة آية (63). (¬3) سورة النساء آية (75).

يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) (¬1). فذكر تعالى في هذه الآية حالتهم التي هم عليها وهي أنهم لا يستطيعون حيلة للخروج ولا يجدون طريقًا إلى ذلك (¬2). والحاصل من ذلك أن المستضعفين هم العاجزون عن الخروج من بين أظهر المشركين وهم مع ذلك يطلبون من الله أن يهيء لهم الخروج ممن يقيمون معهم على الظلم. فدل ذلك على أن المسلم إذا كان يقدر على الخروج من بلاد المشركين ولم يمنعه من ذلك إلا الرغبة في وطن المشركين وعشرتهم أو نحو ذلك، فإن الله تعالى لم يعذر من تعذر بذلك وسماه ظالمًا لنفسه فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (¬3). قال ابن كثير وغيره: إن هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين فهو مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص هذه الآية المتقدمة (¬4). اهـ. قال السدي (¬5) لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «افد نفسك وبر أخويك»، قال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألم نصل قبلتك ونشهد ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (98). (¬2) انظر مختصر تفسير ابن كثير/ محمد علي الصابوني م1 ص427. (¬3) سورة النساء آية (97). (¬4) انظر تفسير مختصر ابن كثير/ محمد علي الصابوني م1 ص427. وانظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي ج2 ص178. (¬5) هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير القرشي (أبو محمد) مفسر، سكن الكوفة وتوفي سنة (127هـ) من آثاره تفسير القرآن الكريم. انظر معجم المؤلفين/ عمر رضا كحاله. ج2 ص276.

شهادتك، قال «يا عباس إنكم خاصمتم فَخُصِمْتُم» ثم تلى قوله تعالى: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (¬1). رواه ابن أبي حاتم (¬2). اهـ. ومن خلال تلك الآيات يتضح لنا أن المستضعف الحقيقي هو الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً للخروج من دار الكفار أما الذي يقيم مع الكفار برغبته واختياره إيثارًا لحب الأهل والمال والولد والمسكن غير ضائق بالمقام بين الكفار، وهو غير مظهر للدين، فهو كاذب في دعواه وعذره غير مقبول عند الله تعالى ولا عند رسوله، ولا عند أهل العلم بشريعة الله، ولذلك فإن الناس في موضوع الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: من تجب عليه الهجرة، وهو من يقدر عليها. ولا يمكنه إظهار دينه والقيام بواجبات الإسلام مع المقام بين الكفار. فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (¬3). وهذا وعيد شديد يدل على وجوب الهجرة لمن قدر عليها وهو في مجتمع لا يسمح بظهور شعائر الإسلام، لأن إظهار شعائر الإسلام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (¬4). الضرب الثاني: من لا هجرة عليه بسبب العجز عنها لمرض أو إكراه أو ضعف كالنساء أو الولدان ونحوهم، فمثل هؤلاء لا هجرة عليهم لقوله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (97). (¬2) انظر مجموعة التوحيد ص302. (¬3) سورة النساء آية (97، 98). (¬4) انظر المغني والشرح الكبير ج10 ص514 - 515.

وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (¬1). ولا توصف باستحباب لكونها غير مقدور عليها. الضرب الثالث: من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها ولكنه يتمكن من إظهار دينه في دار الكفار، فتستحب له ليتمكن من جهاد الكفار وتكثير سواد المسلمين، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة، فقد روي أن نعيم (¬2) النحام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له: أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، وأكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بأيتام بني عدي، وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة، ثم هاجر بعد ذلك فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قومك كانوا خيرًا لك من قومي لي، قومي أخرجوني وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك» فقال: يا رسول الله: «بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله» أو نحو هذا القول (¬3). ومما تقدم يتبين لنا أن الناس في سفرهم وإقامتهم مع المشركين ينقسمون إلى قسمين:- القسم الأول: من يجوز لهم السفر والإقامة بدار الكفار وهم:- أولاً: من يقصد بسفره الدعوة إلى الله بقوله وفعله وهو متمكن من إظهار ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (98، 99). (¬2) هو نعيم بن عبد الله النحام بن عدي بن كعب القرشي العدوي، أسلم قديمًا وكان من الأوائل في الإسلام. قيل أسلم بعد عشرة أنفس وقيل بعد ثمانية وثلاثين إنسانًا وكان يكتم إسلامه أول الأمر، ثم أظهره وأراد الهجرة فمنعه قومه لأنه كان ينفق على الأرامل من بني عدي، فقالوا له أقم عندنا على أي دين شئت، فوالله لا يتعرض إليك أحد إلا ذهبت أنفسنا جميعًا دونك، ثم قدم مهاجرًا بعد ست سنين من الهجرة واستشهد في اليرموك سنة خمس عشرة من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وقيل استشهد بأجنادين سنة ثلاث عشرة في خلافة الصديق (رضي الله عنه). انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة ج5 ص33 - 34. (¬3) انظر: المغني والشرح الكبير ج10 ص514.

دينه مأمون عليه من الفتنة في ظاهر حاله مظهرًا الموالاة للمسلمين والمعاداة للكافرين. الثاني: من يكون سفره مباحًا شرعًا وهو من سافر لبيع وشراء أو علاج أو نحو ذلك وهو عارف بدينه مأمون عليه في ظاهر حاله من الفتنة مظهرًا الموالاة للمسلمين والمعاداة للكافرين. الثالث: المستضعفين من النساء والولدان ونحوهم الذين لا يستطيعون حيلة للخروج ولا يجدون طريقًا إلى ذلك. القسم الثاني: الذي لا يجوز لهم السفر والإقامة بدار الكفار وهم: أولاً: من يكون سفره وإقامته ببلاد الكفار حرام أو كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك من يسافر لحاجة دنيوية وهو عارف لدينه، مأمون عليه من الفتنة، ولكنه لا يستطيع إظهار دينه، وتأدية شعائر الإسلام علانية وبحرية تامة. ثانيًا: من يكون سفره وإقامته ببلاد الكفار ردة وكفر وذلك في حق من أظهر الموافقة للكفار على كفرهم، واستحسن ما هم فيه من كفر ومدحه، ولم يتميز عنهم بتحليل الحلال وتحريم الحرام (¬1)، فهو صورة طبق الأصل لهم وقد قال الله فيمن هذه صفته (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (¬2). وبناءً على ذلك فإن الأصل في منهج الإسلام هو إبقاء المسلم في دار الإسلام، والانتقال إليها من دار الكفر، وأما عكس ذلك وهو الانتقال من دار الإسلام إلى دار الكفر، فهذا مشروط بشروط ومقيد بقيود يجب على المسلم الملتزم بالإسلام حقًا وصدقًا الوقوف عندها، وعدم تجاوزها، وقد ¬

_ (¬1) انظر الجهاد: تأليف/ عبد الرحمن بن حماد آل عمر ص 31 - 32. (¬2) سورة المائدة آية (51).

أشرنا فيما تقدم إلى ثلاثة أنواع من المسلمين يجوز لهم السفر والإقامة بين الكفار وفي دار الكفر، وذلك أن سفرهم ومقامهم بين الكفار إما لمصلحة الدعوة الإسلامية كالذين يدعون إلى الإسلام، أو الذين يزاولون أعمالاً مشروعة مع محافظتهم على الواجبات وترك المحرمات وإظهار الحق ومودته، وانتقاد الباطل وكراهيته، وإما لمصلحة النفس وهؤلاء هم المستضعفون من المسلمين، وتلك الحالات الثلاث لا تنطبق على معظم المبتعثين إلى الدول الكافرة ولا على المسافرين إليها. وعلاج هذه الظاهرة في رأيي لا يكون بإغلاق الحدود بيننا وبين الكفار ولكن بتعميق مفهوم الإيمان في النفوس وغرس القناعة الذاتية في الأفراد فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقم حواجز حول المدينة ليبحث مقاصد المسافرين ويمنع الناس من السفر إلى بلاد الشام ومكة قبل الفتح وإنما كان يعلم أن لدى كل مسلم حصانة ذاتية من داخل النفس بسبب صدق الإيمان وقوة الإسلام. أما اليوم وقد فُقِدَت هذه الحصانة الذاتية والمناعة الداخلية فإنه يجب على الدول التي تدعي الإسلام أن لا تسمح للمسلم بالخروج إلى دار الكفار إلا إذا أبرز المسلم شهادة تزكية معتبرة تدل على صلاحه واستقامته في ظاهر حاله وأنه مظنة التأثير دون التأثر، وأنه يتمتع بقسط كبير من التقوى والورع الذي يمنح النفس القدرة على مقاومة إغراءات الكفار ومفاسدهم كما يقاوم الجسم القوي السليم عدوى الأمراض الجسدية والوبائية. واشتراط شهادة التزيكة والعدالة أمر لا اعتراض عليه حسب معرفتي وتقديري، لأنه إذا كانت الدول تشترط على المسافرين منها وإليها إحضار شهادة تطعيم دولية ضد الأمراض المعدية الحسية، فإن خطر الأمراض الاعتقادية والفكرية والسلوكية على الإنسان المسلم أشد من خطر الأمراض الجسدية لأن إصابة الإنسان في عقيدته وسلوكه قد تجعله من المخلدين في نار جهنم.

ولذلك يجب دراسة أحوال المبتعثين والمسافرين إلى الدول الكافرة ومعرفة موقف تلك الدول من أبناء المسلمين الموجودين فيها ومدى تمكينها لهم من مزاولة واجبات الإسلام، وهل تسعى إلى إفسادهم بالطرق المختلفة أم لا؟ فإذا توفرت الأسباب الصالحة والمبيحة للمقام بين الكفار جاز ابتعاث الطلاب والسفر إلى الدول الكافرة، عند الحاجة إلى ذلك. ولكن الحاصل في عصرنا الحاضر خلافًا لما يجب أن يكون، فأعداء الأمة الإسلامية هم الآمرون الناهون في معظم الأقطار الإسلامية، ولذلك تراهم قد جعلوا الابتعاث والسفر إلى بلاد الكفار بابًا من أبواب تكفير المسلمين وارتدادهم عن الإسلام وذلك أن الابتعاث يشتمل على سلبيات هي كما يلي:- أولاً: إرسال شباب صغار السن من المرحلة الثانوية وما في مستواها وهم أجهل ما يكونون في عقيدتهم ودينهم، ولا يعرفون عيوب وسيئات الأنظمة والديانات في بلاد الكفار. ثانيًا: إن معظم الشباب يبتعثون ويشترط عليهم أن يكونوا غير متزوجين، أو لا يشجعون على استصحاب أزواجهم معهم مما يترتب على ذلك فساد أخلاق كثير من المبتعثين وسقوطهم في حمأة الرذيلة، إلا من عصم الله. ثالثًا: إغراق المبتعثين بالناحية المالية إما من أهله إن كان من أبناء التجار أو من ذوي السلطان، أو من الدولة حيث تدفع بعض الدول الإسلامية وخاصة النفطية مبالغ طائلة مما يكون لذلك مردود عكسي على معظم الطلاب في المجتمعات الكافرة أو شبه الكافرة. رابعًا: إن الابتعاث يتم في كثير من الأحيان لأغراض تافهة ومقاصد هزيلة مثل أن يبتعث أناس لدراسة الموسيقى أو الرياضة أو ما إلى ذلك من

قضايا سطحية لا تفيد الأمة في دينها ودنياها ولا تخدمها في قضاياها الأساسية والمصيرية. خامسًا: إن الدول التي تبعث بأبنائها إلى بلاد الكفار، لا توفر لهم الحماية اللازمة، في إظهار دينهم، وحرية عبادتهم في بلاد الكفار ولا تدعمهم بمالها وجاهها في ذلك، رغم أنها لوجدت في هذا الموضوع لاستطاعت تحقيق شيء مرضى في ذلك، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه. سادسًا: إن التجربة أثبتت فشل معظم المبتعثين في عقيدتهم وسلوكهم وفي العلوم التي ابتعثوا لتحصيلها، نظرًا إلى أنهم يُرْمَون في بلاد الكفار بلا حسيب أو رقيب، سوى العيون التي تطارد كل من ينال من مقام الحاكم وقدسيته، أما مسألة العقيدة والأخلاق فإن الطالب في حل من ذلك، فليعتقد كل إنسان ما شاء، وليتخلق كل إنسان بما شاء من أخلاق الكفار وصفاتهم ما دام يعطي الولاء لصاحب السيادة والسلطان. وقد عاد آلاف من الطلاب من الشرق والغرب، ومع ذلك فإن حال المسلمين تسير من سيء إلى أسوأ، فماذا حقق الطلاب الذاهبون الآيبون على مدى نصف قرن للبلاد الإسلامية؟ هل حققوا تقدمًا عسكريًا يستردون به الأوطان السليبة ويعيدون به الكرامة المهدورة تحت أقدام الصهاينة اليهود. الأعداء ليسوا أغبياء كي يعلموا أبناء المسلمين علمًا هو سبب قوة الأعداء ضد الإسلام والمسلمين، فاللص مهما يكن غبيًا لا يسلم سلاحه لعدوه، لأنه يعرف أن سر تفوقه على عدوه هو هذا السلاح الذي بيده، وقد عاد إلينا كثير من الأبناء بقشور الغرب والشرق دون أن يحلموا معهم اللباب، فهم إما ببغاوات لمهازل الغرب، أو إمعات لسخافات الشرق، قد فقدوا أصالتهم الاعتقادية وشعائرهم التعبدية وأصبحوا ذيولاً لصهاينة الشرق والغرب.

والذي نستنتجه من هذا العرض المتقدم أن البلاد الإسلامية لو أخلصت دينها لله، وصدق قادتها في ولائهم للإسلام والمسلمين لحرصوا على ابتعاث الشباب المؤمن الصادق في إيمانه المخلص في عقيدته ولتحققت لهم ثلاثة أهداف رئيسية: أولاً: أن يكون ابتعاث الشباب المؤمن وسيلة من وسائل الدعوة في بلاد قد خيم على أهلها ظلام الجاهلية، وظلم أنظمتها، حيث إن المسلم الملتزم بالإسلام يكون داعية بقوله وفعله وسلوكه في المجتمع الذي هو فيه كما حصل من معظم المسلمين، كانوا دعاة إلى الإسلام في أسفارهم إلى أفريقيا وجنوب شرقي آسيا. الثاني: أن الشباب المؤمن سوف يكون جادًا في تعلم العلم النافع والتحصيل المفيد، مما يترتب على ذلك وجود الخبرة اللازمة للعلوم والصناعات الأساسية اللازمة لنمو الأمة وتطورها تطورًا صحيحًا، فإن الذي يطلب العلم بغير عقيدة أو مبدأ كريم لا يجني إلا القشور. ثالثًا: إنه في أقل الأحوال تسلم عقيدة هؤلاء الشباب من الانحراف والتبديل، ويسلم المجتمع من شر المبادئ الهدامة والعقائد الضالة التي عاد بها كثير من المبتعثين إلى بلاد الإسلام. فالسلامة في أقل الأحوال غنيمة بالقياس إلى من خسر الدنيا والآخرة نتيجة مخالطة الكفار والمقام بينهم كما هو شان كثير من المبتعثين والمسافرين إلى بلاد الكفار بصورة غير شرعية، فهل نتعظ بما سلف؟ أم لا تزال الأمة الإسلامية تلدغ عشرات المرات وهي في سباتها لا تفيق. وخلاصة القول في موضوع السفر والإقامة بين الكفار أن هذا الأمر يدور على أربعة أحكام هي:- 1 - الاستحباب. 2 - الإباحة.

3 - التحريم الذي لا يخرج من الملة. 4 - التحريم الذي يقتضي الردة والكفر. وقد فصلنا المقتضى لهذه الأحكام في أول هذا المبحث تفصيلاً نعتقد أن فيه الكفاية والله حسبنا ونعم الوكيل.

الفرع الثاني: موالاة الكفار في العمل لديهم وتحت ولايتهم

الفرع الثاني: موالاة الكفار في العمل لديهم وتحت ولايتهم إن المسلم الحقيقي هو الذي ينطلق من قاعدة التشريع الإسلامي في أعماله ومعاملاته وفي شئون حياته كلها، وبما أن وضع المسلم نفسه في خدمة مصالح الكفار والعمل لديهم قد يدخل في باب التعاون على الإثم والعدوان، ومظاهرة الكافرين على المؤمنين فقد تناول الفقهاء هذا الموضوع بالدراسة والتحليل على ضوء ما ورد في هذا الخصوص من الكتاب والسنة. فقال الحنابلة: إنه لا يجوز للمسلم أن يمكن من نفسه للكافر أن يستأجره ليخدمه، سواء كان هذا الكافر ذميًا أو مستأمنًا أو محاربًا (¬1). لأن استخدام الكافر للمسلم استذلال له، فكأن في إجارة المسلم نفسه من الكافر إذلال لنفسه وليس من حق المسلم أن يذل نفسه للكافر، لأن الله تعالى يقول: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (¬2). ولأن ¬

_ (¬1) انظر المغني/ لابن قدامة ج5 ص505. (¬2) سورة النساء آية (141).

الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وقد ذهب الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى عدم جواز عمل المسلم عند الكافر استنادًا إلى هذه الآية (¬1). وعند الحنفية يجوز للمسلم أن يؤجر نفسه للكافر مع الكراهية لذلك وهو قول الشافعي (رحمه الله) وحجتهم في ذلك هو أن تأجير النفس عقد معاوضة على منفعة فيجوز كالبيع (¬2). ويستدلون على ذلك بروايات وأحداث مختلفة هي كما يلي:- 1 - ما روي أن عليًا بن أبي طالب (رضي الله عنه) أجر نفسه من يهودي يسقي له، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبذلك فلم ينكر عليه لأنه عقد معاوضة، لا يتضمن إذلالاً للمسلم فأشبه بمبايعته (¬3). 2 - ما روى الطبراني عن كعب بن عجرة (رضي الله عنه) أنه اشتغل عند يهودي، فسقى له إبله كل دلو بتمرة، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فما أنكر عليه شيئًا (¬4). 3 - ما حصل من يوسف عليه السلام مع فرعون مصر حيث عرض يوسف نفسه على فرعون مصر كما ذكر الله -عز وجل- ذلك حكاية عن يوسف (عليه السلام) بقوله تعالى: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (¬5). قال ابن زيد: كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إلى يوسف (¬6). اهـ. ¬

_ (¬1) الدرر السنية ج9 ص187. (¬2) المغني/ لابن قدامة ج5 ص505. (¬3) المغني/ لابن قدامة ج5 ص505. (¬4) رواه الطبراني عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، وروى أبو يعلى مثل ذلك عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). انظر التعصب والتسامح بين النصرانية والإسلام/ محمد الغزالي ص55. (¬5) سورة يوسف آية (55). (¬6) انظر تفسير القرطبي ج9 ص215.

وقد استدل أهل العلم في هذه الآية أنه يباح للرجل الفاضل أن يعمل عند الرجل الفاجر والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الرجل الفاجر وشهوته وفجوره، فلا يجوز ذلك (¬1)، وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهو اليوم غير جائز (¬2)، بناء على الخلاف الأصولي حول موضوع هل شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأت ما يخصصه من شرعنا. وقد رجح القرطبي القول بالجواز في العمل عند الكفار بالشروط المتقدمة (¬3). وقال الماوردي: إن كان المولى ظالمًا فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين:- الأول: جواز تولي الوظيفة من قبل الكافر إذا عمل المتولي للوظيفة بالحق فيما تقلده من مهمة دون تدخل من الكافر، لأن يوسف ولي من قبل فرعون، باعتبار يوسف ذا سلطة مطلقة، فهو يتصرف بفعله لا بفعل غيره. الثاني: أنه لا يجوز تولي العمل إذا كان المولّى للعمل ظالمًا، لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم على ظلمهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم (¬4). وأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين:- 1 - إن فرعون يوسف كان صالحًا، وإنما الطاغي فرعون موسى. 2 - إن يوسف نظر في أملاكه دون أعماله فزالت عنه التبعة فيه. وقال جماعة من أهل العلم: إن العالم العامل والرجل الصالح إذا ¬

_ (¬1) نفس المصدر السابق ج9 ص215. (¬2) نفس المصدر السابق نفس المكان. (¬3) نفس المصدر السابق نفس المكان. (¬4) انظر تفسر القرطبي ج9 ص215.

علم كل منهما أنه لا سبيل إلى دفع الظلم والضر عن الناس إلا بتولية من قبل الكافر أو الفاسق فله أن يعمل عنده (¬1). وقال الماوردي: إن الأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه المسلم من جهة الكافر أو الظالم على ثلاثة أقسام:- الأول: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه مثل الصدقات وأنواع الزكاة فيجوز للمسلم أن يتولى هذه الأمور من جهة الظالم لأن النص على مستحقها قد أغنى عن الاجتهاد فيها، وجواز تفرد أربابها بها قد أغنى عن التقليد. الثاني: ما لا يجوز أن يتفرد به أربابه ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفيء، فلا يجوز توليها من جهة الظالم، لأنه يتصرف بغير حق ويجتهد فيما لا يستحق. الثالث: ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل - كالقضاء وإصدار الأحكام فإن كان النظر تنفيذًا للحكم بين متراضيين، وتوسطًا بين متخاصمين جاز، وإن كان إلزامًا وإجبارًا لم يجز (¬2). ويقول الشوكاني في الفتح: «إنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان الظالم أن يرفع منار الحق، ويهدم ما أمكنه من الباطل» أن يطلب ذلك لنفسه، وجاز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيب فيما يرومه (¬3). اهـ. ويقول ابن العربي في تفسيره: إن يوسف عليه السلام لم يسأل العزيز ¬

_ (¬1) انظر جامع البيان في تفسير القرآن/ للطبري ج13 ص19 مع حاشيته - غرائب القرآن ورغائب الفرقان/ تأليف: الحسن بن محمد النيسابوري. وانظر تفسير القرطبي ج9 ص108. (¬2) انظر الأحكام السلطانية - للماوردي ص72 - 75. (¬3) انظر فتح القدير للشوكاني ج3 ص35.

أن يجعله على خزائن الأرض سؤال ولاية، وإنما كان سؤال تخل وترك لينتقل الأمر إليه كله، بتمكين الله ومشيئته (¬1)، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) (¬2). اهـ. وذكر الشوكاني في الفتح عند تفسير قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (¬3). فقال إن هذه الآية خاصة بالمشركين، وإن النهي المذكور في الآية مراد به المشركين وقد وصفوا بالظلم لأن الشرك ظلم (¬4)، قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (¬5). اهـ. والصحيح أن الآية عامة للمشركين وغيرهم من أهل البدع والمعاصي، فإن الصحبة لهم قد تكون كفرًا أو معصية في بعض الأحوال (¬6). فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية، وهي الإكراه الملجئ في النطق بالكفر دون فعله، ودون الاعتداء على الناس ظلمًا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فقد سبق بيان ذلك بشروطه المعلومة (¬7). أما العمل مع الكفار ومن في حكمهم من المرتدين والمنافقين، فينظر في ذلك إلى المصلحة الغالبة، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من أعمالهم التي أمرها إليهم، وجب عليه ذلك فضلاً عن أن يقال له جائز (¬8)، إذا كان في ذلك طاعة لله كالمناصب الدينية والأعمال المباحة، وكان واثقًا ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج3 ص1080. (¬2) سورة يوسف آية (56). (¬3) سورة هود آية (113). (¬4) انظر فتح القدير/ للشوكاني ج2 ص531. (¬5) سورة لقمان آية (13). (¬6) انظر تفسير القرطبي ج9 ص108. (¬7) انظر صفحة 395 - 414 من هذه الرسالة. وانظر تفسير القرطبي ج4 ص57 وص417، ج6 ص2، ج9 ص108. (¬8) انظر فتح القدير/ للشوكاني ج2 ص531.

من نفسه القيام بما وكل إليه من أعمال الخير بشرط أن لا يمدح هؤلاء الظالمين أو يدافع عن ذمهم، أو يبرر أخطاءهم. وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة وأعمال الولاة فذلك مقيد بعدم القدرة على عصيان الأمر إذا صدر فيما لا تصح الطاعة فيه، أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به من واجبات مباحة (¬1)، أما مخالطة الظلمة والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة، مع كراهة ما هم عليه من الظلم، وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم وكراهة المواصلة لهم، لولا جلب تلك المصلحة، أو دفع تلك المفسدة، فعلى فرض صدق مسمى الركون على مثل هذا الفعل، فهو مخصص بالأدلة الشرعية الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية (¬2). وفي الجملة يجب على من ابتلي بمخالطة من فيه ظلم، أن يزن أقواله وأفعاله، وما يأتي وما يذر بميزان الشرع وأن يرجح مصلحة الدعوة على مصلحته الخاصة، في كل ما يأخذ أو يدع من قول أو فعل (¬3). فقد كان يوسف الصديق عليه السلام نائبًا لفرعون مصر وكان فرعون وقومه مشركين، ومع ذلك فعل يوسف من العدل والخير ما أقدره الله عليه ودعاهم إلى الإيمان حسب الطاقة والإمكان (¬4). وقد قال علماء الأصول في مسألة شرع من قبلنا، هل يكون شرعًا لنا؟ ¬

_ (¬1) المصدر السابق نفس المكان. (¬2) انظر فتح القدير للشوكاني ج2 ص531. وانظر مورد الظمآن عبد العزيز بن سلمان ج3 ص123. (¬3) نفس المصدر السابق. (¬4) انظر أسباب اختلاف الفقهاء. د/ عبد الله عبد المحسن التركي ص125.

فقال بعضهم: إذا ورد النص في شرعنا، حكاية عن شرع من قبلنا على جهة الاستدلال والإقرار من غير إنكار، تقرر ضمنًا الاستدلال به والعمل بموجبه (¬1). وهذا هو المفهوم من قصة يوسف مع عزيز مصر كما أعتقد والله أعلم بالصواب. والذي أرجحه في هذه المسألة، هو أن ينظر المسلم الذي يريد أن يعمل عند الكافر أو من في حكمه من المرتدين - إلى نوع العمل هل هو من الأعمال التي ينظر إليها حسب العرف الشرعي بأنها أعمال فيها امتهان للكرامة وقضاء على العزة أم لا؟ فإن كان العمل مثل الكتابة والتعليم والنيابة في البيع والشراء ونحو ذلك فلا بأس بها ما دام يعمل بعزة وكرامة وهو قادر على ترك العمل عند رؤية أية إهانة أو جفاء. أما الأعمال التي تشعر بالذلة والامتهان والاحتقار، فلا يجوز للمسلم مزاولتها عند الكفار وما دونهم من الظلمة وأهل الفسوق نظرًا لقضائها على عزة المسلم التي أمر الله بالمحافظة عليها، قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (¬2) فإعزاز المسلم لنفسه إعزازًا لدينه وإهانته لنفسه إهانة لما يحمله من مبدأ وعقيدة في الحياة. ومن أمثلة الأعمال التي يكون فيها إهانة للمسلم عند أعداء الله أن يعمل لديهم طباخًا أو حمالاً أو غسالاً، أو عامل نظافة أو نحو ذلك، أو أن يعمل لهم ما هو من شعائر كفرهم وخصائص ملتهم، كأن يكنس كنائسهم أو يذبح لهم خنزيرهم، أو يصنع لهم الخمر أو يقدمها بين أيديهم. فقد سأل الإمام أحمد بن حنبل رجل بناء فقال: «أأبني للمجوس ناووسا (¬3)؟ قال لا تبني لهم، ولا تعنهم على ما هم فيه من كفر» (¬4). اهـ. ¬

_ (¬1) انظر الحسبة أو وظيفة الحكومة الإسلامية/ ابن تيمية ص8. (¬2) سورة المنافقون آية (8). (¬3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم/ ابن تيمية ص232. (¬4) الناووس صندوق من خشب أو نحوه يضع النصارى فيه جثة الميت. انظر المعجم الوسيط ج2 ص971.

وقد نُقِلَ عن محمد بن الحكم وسأله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرًا بكراء؟ قال: لا بأس به (¬1). والفرق بينهما أن الناووس من خصائص دينهم الباطل كالكنيسة بخلاف القبر المطلق، فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم. وقد ورد سؤال من محمد بن عبد الله بن فاضل من مدينة فاس بالمغرب إلى الشيخ أحمد حسن مسلم عضو لجنة الفتوى بالأزهر قال فيه: «إن ابني يعمل في إحدى المؤسسات الإنشائية بفرنسا وهذه المؤسسة تتولى أحيانًا بناء فنادق تضم صالات للقمار والرقص والخمر وما إلى ذلك، فماذا تقولون في عمله هذا؟ فرد الشيخ بأنه يجب عليه أن يبتعد عن المشاركة في أعمال يكون مآلها إلى معصية الله» (¬2). وبناء على ما تقدم فإن العمل عند الكفار يكون موالاة لهم إذا توفرت الشروط التالية أو بعض منها في العامل لديهم من المسلمين وهذه الشروط كما يلي:- 1 - إذا كان يتابع الكفار متابعة مطلقة، وينفذ أوامرهم في معصية الله. 2 - إذا كان عاجزًا عن القيام بأوامر الله، وإظهار شرعه تحت ولاية الكفار في حدود ما تشمله ولايته. 3 - إذا كان مادحًا للكفار راضٍ عن كفرهم، مواليًا لأوليائهم عدوًا لأعدائهم. 4 - إذا كان يعمل لديهم بأعمال تتنافى مع مبدأ العزة والشرف والكرامة والاستعلاء. فكل من يعمل مع الكفار وتتوفر فيه واحدة من هذه الصفات أو أكثرها ¬

_ (¬1) المصدر السابق نفس المكان. (¬2) انظر مجلة المسلمون العدد (3) الجمعة 17 محرم 1402هـ ص21.

فعمله معهم محرم، وهو موال لأعداء الله مجانب لما أمر الله به بقوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (¬1). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (139).

الفصل الثالث: العقوبات المترتبة على موالاة الكفار

الفصل الثالث: العقوبات المترتبة على موالاة الكفار 1 - المبحث الأول: العقوبة التعزيرية لمن يوالي الكفار. 2 - المبحث الثاني: العقوبة الإلهية التي تجري وفق السنة الربانية بحق من يوالون الكفار. 3 - المبحث الثالث: العقوبة الأخروية لمن يوالون الكفار.

المبحث الأول: العقوبة التعزيرية لمن يوالي الكفار

المبحث الأول: العقوبة التعزيرية لمن يوالي الكفار سبق أن أوضحنا في تعريف الموالاة أنها تعني محبة الكفار ومناصرتهم وتأييدهم، ومساعدتهم بما يظهر به كفرهم، ويقوى به باطلهم على المسلمين. ولذلك فإن من يشارك بمثل هذه الأمور بأية صورة، وعلى أي وجه من الوجوه يكون مواليًا للكفار أو متواليًا لهم ويعاقب على ذلك عقوبة مغلظة شرعًا بموجب ما دلت عليه الشريعة الإسلامية، وتنفذ هذه العقوبة الدولة الإسلامية إذا وُجِدَتْ. وهذه العقوبة تختلف تبعًا لدرجة الموالاة للكفار. فمن الموالاة ما يوجب القتل، ومنها ما يوجب العقوبة بما دون القتل بمراتب متفاوتة، حيث إن عقوبة الموالاة عقوبة تعزيرية كما هو الرأي الراجح من أقوال العلماء (¬1). فالقتل يكون في حق من تولى الكفار توليًا تامًا، أو والاهم موالاة ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي ج18 ص52 - 53. وانظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج4 ص1770 - 1773، وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج7ص205.

مطلقة «أي بمعنى أنه يجب القتل على من كانت موالاته موجبة للردة عن الإسلام، وذلك مثل إظهار الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم من غير إكراه ملجئ». وكذلك يقتل من كانت موالاته للكفار كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك مثل الذين يتجسسون على المسلمين لغرض دنيوي مع سلامة العقيدة وكراهية الكفر، فهذا النوع من الموالاة للكفار لا يحكم بردة الفاعل لذلك، وإنما يقتل بخطيئته بعد قيام البينة الشرعية على ذلك. قال بذلك ابن القاسم وسحنون والقرطبي، ويروى عن ابن سحنون أنه قال: «إن ماله لورثته» (¬1). اهـ. وهذا يرجح القول بأنه يقتل تعزيرًا لا حدًا لأنه لو كان قتله حدًا لكان مرتدًا والمرتد لا يرث ولا يورث (¬2). وذهب إلى القول بقتل من يوالي الكفار بتجسس أو نحوه الإمام مالك، وصحح ذلك القرطبي معللاً هذا الأمر بقوله: «إن ذلك يضر بالمسلمين ويفسد حالهم» (¬3). اهـ. وقال ابن القاسم (¬4) وأشهب (¬5) يجتهد في ذلك الإمام حسبما يراه من التعزير المناسب، وقال عبد الملك بن جريج: إذا تكرر منه ذلك وكانت عادته قُتِلَ لأنه جاسوس، وبذلك قال ابن الماجشون (¬6)، واشترط التكرار في ¬

_ (¬1) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص205. (¬2) المصدر السابق نفس المكان. (¬3) انظر تفسير القرطبي ج18 ص52 - 53. وانظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج4 ص1770 - 1773. (¬4) هو عبد الرحمن بن القاسم العتقي (191). انظر الأعلام للزركلي م5 ص171. (¬5) هو أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي، أبو عمرو ولد سنة (145هـ). وهو فقيه الديار المصرية في عصره كان صاحب الإمام مالك. قال عنه الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب، وأشهب لقب له، مات سنة (204هـ) بمصر في نفس البلد والعام الذي توفي فيه الإمام الشافعي. انظر الأعلام للزركلي ج1 ص333. (¬6) هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة التيمي، المدني (أبو عبد الله) (ابن الماجشون)، فقيه محدث، حافظ، أصله من أصبهان، نزل المدينة، ثم قصد بغداد فتوفي بها سنة (164هـ) ودفن في مقابر قريش. انظر معجم المؤلفين ج5 ص251.

هذا معللاً هذا الاشتراط بأن حاطبًا لم يتكرر منه ذلك، ولذلك أخذ في أول فعلة باللوم على ذلك (¬1). وفي رأيي أن اشتراط التكرار لا يلزم الأخذ به، فإن العلة الظاهرة في ترك قتل حاطب (رضي الله عنه) أنه شهد بدرًا، وهذه العلة التي قامت به منتفية في حق غيره والله أعلم (¬2). وبناء على ذلك فإن الذي يتجسس على المسلمين من أدعياء الإسلام لحساب الكفار بالأصالة أو العمالة يجب قتله وهو إما أن يقتل مرتدًا، إذا كان يحب ظهور الكفر وخذلان الإسلام، أو يقتل تعزيرًا بكبيرته إذا تعاون مع أعداء الإسلام لمصلحة دنيوية مع سلامة الإعتقاد، وحبه للإسلام وكراهيته للكفر. ولذلك يجب على كل مسلم حين إطلاعه على شخص أو جماعة توالي الكفار أن يرفع أمرهم إلى الحاكم المسلم مع الدولة المسلمة إذا وجدا، ليرى فيهم صاحب الولاية الشرعية رأيه في ذلك بموجب القضاء الشرعي المستقل عن هيمنة الحاكم وتدخلاته غير الشرعية (¬3). فإذا لم يكن الحاكم قائمًا بشرع الله ومنفذًا له أنكر المسلم أو جماعة المسلمين حسب القدرة والاستطاعة في ذلك. وقد قال ابن عقيل من أصحاب الإمام أحمد وابن العربي وغيرهما ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي ج18 ص52 - 53، وانظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج4 ص1770 - 1773. (¬2) انظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية ج2 ص68. (¬3) انظر فتح الباري ج6 ص144 - 169.

بوجوب القتل لمن يناصر الكفار على المسلمين بتجسس ونحوه وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد (رحمهم الله): «إن من تعاون مع الكفار من المنتسبين إلى الإسلام بتجسس ونحوه لا يقتل ويفهم من كلامهم أنه يعزر بما دون القتل» (¬1). اهـ. والرأي الراجح فيما يظهر لي من القولين السابقين هو القول بالقتل إذا كانت الموالاة موجبة للردة أو كانت كبيرة من كبائر الذنوب لأن الأصل في هذه المسألة معاملة الرسول لحاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عندما قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فقد نافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (¬2). فإن ظاهر العلة في ترك حاطب (رضي الله عنه) أنه شهد بدرًا ولو لم يكن كذلك لكان مستحقًا للقتل، لأنه علله بعلة مانعة من القتل منتفية في حق غيره ولو كان الإسلام مانعًا من قتله لم يعلل بأخص منه، لأن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير وهذا أقوى حجة والله أعلم (¬3). ويؤيد هذا القول موقف عمر (رضي الله عنه) فقد رُوِيَ أن ابن الجارود سيد ربيعة أخذ درباسًا وقد بلغه أنه يخاطب المشركين بعورات المسلمين، وهم بالخروج إليهم، فصلبه ابن الجارود فصاح يا عمراه - ثلاث مرات - فأرسل إليه عمر، فلما قدم على عمر أخذ عمر الحربة فعلا بها ¬

_ (¬1) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص155. (¬2) انظر تفسير القرطبي ج18 ص50. (¬3) انظر زاد المعاد لابن قيم الجوزية ج2 ص68. وانظر تفسر القرطبي ج18 ص52 - 53. وانظر الدرر السنية ج1 ص235. وانظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1770 - 1772.

لحيته، وقال: لبيك يا درباس - ثلاث مرات - فقال لا تعجل، إنه كاتب العدو، وهم بالخروج إليهم، فقال عمر قتلته على الهم (¬1) وأينا لا يهم. فأمضى عمر اجتهاد ابن الجارود فيه. وقد اختلف العلماء. هل المتولي للكفار بالتجسس أو نحو ذلك إذا قتل بذلك الذنب يكون القتل مكفرًا لذنبه أم لا؟ فقال النووي: «إذا قتل المرتد وهو متمسك بردته، فإن قتله على هذه الصفة لا يكون كفارة له عن ذلك» (¬2). اهـ. ورجح الشوكاني هذا الرأي، حيث يرى أن المرتد يقتل وهو على الكفر كما يقتل غيره من الكفار أثناء الحرب (¬3). وعلى هذا يمكن القول بأن من تولى الكفار توليًا تامًا أو موالاة مطلقة ثم قتل على ذلك ولم يتب قبل موته أنه داخل تحت هذا الوعيد الشديد ومتعرض لعذاب الله في الدنيا بالقتل وفي الآخرة لعذاب النار وسوء القرار أعاذنا الله من ذلك. أما ما يقع من موالاة للكفار لا تصل إلى درجة الردة والكفر، ولم تكن كبيرة من كبائر الذنوب، فإن هذه الأنواع من الموالاة يعزر من ارتكب شيئًا منها بما هو دون القتل كما هو رأي الإمام الشافعي وأحمد وأبو حنيفة (رحمهم الله) (¬4). وفي ذلك يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «إن موالاة الكفار لأجل دنياهم مع بغض القلب لهم موجبة ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن لابن العربي ج4 ص1772. (¬2) انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص97. (¬3) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص205 - 212. (¬4) انظر نيل الأوطار للشوكاني ج8 ص155. وانظر زاد المعاد/ لابن القيم ج2 ص68. وانظر مختصر الفتاوى المصرية/ لابن تيمية ص502.

للتعزير، والهجر والتأديب، ونحو ذلك مما يزجر الفاعل وأمثاله عن موالاة الكفار ومداهنتهم» (¬1). اهـ. ومن العقوبات المترتبة على موالاة الكفار أنه إذا كان الموالي للكفار حاكمًا، فإن موالاته للكفار هذه إما أن تكون موالاة كفر وردة عن الإسلام وفي هذه الحال تسقط البيعة للحاكم والحكومة بنص القرآن الكريم وإجماع الأمة، قال تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (¬2) فلا يجوز أن يكون للكافرين تسلطًا واستيلاء على المؤمنين، وإن وجد شيء من ذلك، فهو على خلاف الشرع ولا شك، فلا يجوز إقراراه (¬3). لأن ولاية الكافرين على المسلمين أعظم سبيل للتسلط والاستيلاء عليهم. وقد أمر الله عز وجل بعدم الإذعان والطاعة لولي الأمر إذا كان كافرًا بالردة أو بالأصالة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (¬4). فطاعة المؤمنين واجبة بنص الآية لولي الأمر إذا كان مؤمنًا من المؤمنين، والمرتد بالولاء للكفار قد خرج بردته من أن يكون مسلمًا فضلاً عن أن يكون مؤمنًا من المؤمنين، وبذلك يفقد حق السمع والطاعة من الأمة، فلا حرج ولا إثم عليها لو سحبت البساط من تحته، بعد أن فقد أهليته لهذا المنصب بسبب موالاته للكفار ومناصرته لهم. وقد تكون موالاة الحاكم والحكومة للكفار كبيرة من كبائر الذنوب لا ترقى إلى درجة الكفر ولكنها توجب فسق وجور الحكومة أو الحاكم وقد اختلف العلماء في جواز الخروج على الحاكم الفاسق أو الجائر كما تقدمت الإشارة إلى ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر مجموعة التوحيد ص126. (¬2) سورة النساء آية (141). (¬3) تفسير ابن سعدي ج2 ص200. (¬4) سورة النساء آية (59). (¬5) انظر صفحة 467 - 486 من هذه الرسالة.

ولكن مبدأ التسامح مع الحكام أو الحكومات التي تتصف بصفة الفسق أو الجور أو الظلم في موالاتها لأعداء الله وتقريبهم، مبدأ خطير على كيان الأمة ووجودها، في الوقت الذي يعتبر فيه المساس بدستور وضعي في دولة غير إسلامية خيانة عظمى يعاقب المتعدي في ذلك بأقصى العقوبات فضلاً عن التنحية والاستبدال (¬1). أما إذا كانت الموالاة للكفار من صغائر الذنوب التي لا ترقى إلى درجة الكبائر فالواجب في ذلك هو نصح الحاكم أو الحكومة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن حتى يرجعوا عما ارتكبوه من إثم وخطيئة. وأما إذا كانت الموالاة للكفار صادرة من فرد أو جماعة من الناس لا يمثلون رأي الحاكم أو الحكومة فإن الواجب رفع أمرهم إلى الحاكم أو الحكومة لإيقاع العقوبة اللازمة عليهم فيما إذا كانت الموالاة للكفار موجبة لردة الموالي لهم، أو كانت تمثل كبيرة من كبائر الذنوب، وقد ذكرنا أن العقوبة الراجحة في مثل ذلك هي القتل (¬2). أما إذا كانت الموالاة للكفار مما يوجب فسق الموالي لهم وعصيانه فقد أشرنا إلى كيفية التعامل مع الفسقة والعصاة في قضية الموالاة والمعاداة فيما تقدم (¬3). أما كيفية التعامل مع من يتولى الكفار أو يواليهم من الأفراد في القضايا الخاصة مثل أكل الذبائح التي يذبحها من يتولى الكفار، أو التزوج بالنساء اللاتي يوالين الكفار، أو تزويج الرجال الذين يتولون الكفار، فقد ¬

_ (¬1) انظر رسالة في عزل الرئيس الأعلى للدولة في نظام الحكم في الإسلام د/ علي بن فهيد السرباتي ص131 - 132. (¬2) انظر صفحة 825 - 826 من هذه الرسالة. (¬3) انظر صفحة 425 - 445 من هذه الرسالة.

اختلف العلماء في ذلك. هل يحكم بردة من يتولى الكفار فيعامل معاملة المرتدين في أكل الذبائح وفي حكم الزواج، أم يلحق بمن تولاهم من الكفار؟. فإن تولى اليهود فحكم التعامل معه حكم التعامل مع اليهود، وإن تولى النصارى فحكم التعامل معه حكم التعامل مع النصارى، وإن تولى الشيوعيين أو الوثنيين فحكمه حكمهم. ومرجع الاختلاف في ذلك هو الاختلاف في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (¬1). فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال هي:- القول الأول: إن المراد بذلك أهل الأوثان من العرب غير المسلمين لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذا تولوا الكفار صاروا مرتدين والمرتد إلى النصرانية أو اليهودية لا يكون منهم في شيء من أحكامهم، فلا تؤكل ذبيحته، وإذا كانت المرتد إلى الكفار امرأة فلا تنكح ولا يثبت بينهما شيء من حقوق الولاية لحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬2). فيقتل لردته. ولهذا رجح جماعة من المفسرين بأن المراد بذلك هم العرب الوثنيون لا المسلمون المرتدون عن الإسلام بالولاء للكفار (¬3). القول الثاني: إن الآية خطاب للمسلمين وإخبار بأن من تولاهم أي اليهود والنصارى فهو كافر مثلهم بموالاته إياهم، والحكم عليه بالكفر لا يمنع مع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم، إذا كانوا لا يزالون ينتسبون إلى ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (51). (¬2) رواه البخاري: انظر فتح الباري ج6 ص149. (¬3) انظر أحكام القرآن - للجصاص ج2 ص444 - 445. وانظر تفسير الطبري ج6 ص179. وانظر تفسير القرطبي ج3 ص217. وانظر أحكام القرآن/ لابن العربي ج2 ص630.

أهل الإسلام، وإن كفروا باعتقادهم لما يعتقدونه من كفر وما يفعلون من مفاسد، وكان أبو الحسن الكرخي (¬1) ممن يذهب إلى ذلك (¬2). القول الثالث: ما روي عن الإمام الشافعي (رحمه الله) أنه قال: إنما أباح الله عز وجل ذبائح ونساء أهل الكتاب من بني إسرائيل خاصة أما من كان دخيلاً فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم فلم يعن بهذه الآية وليس هو ممن يحل أكل ذبيحته أو تزوج نسائه لأنه ليس ممن أوتي الكتاب في نظر المسلمين. وهذا القول مروي أيضًا عن عمر وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) فقد روي عن علي أنه قال: «لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر» (¬3). والذي أرجحه من هذه الأقوال هو القول بأن من تول اليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار فإنه يحكم بردته وكفره فإن كان الذي تولاهم يهودًا أو نصارى أو ما زال يدعي الإسلام يتظاهر به بعض الأحيان، لم يَحْرم أكل ذبائحه أو التزوج بالنساء اللائي هنَّ بهذا الوصف. وإن كان الذين تولاهم مدعي الإسلام شيوعيين أو وثنيين فحكمه كحكمهم في الكفر والعمالة وهذا ما يتفق مع ظاهر الآية في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) وهو عبيد الله بن الحسين بن دلال الكرخي الحنفي (أبو الحسن) ولد سنة (260هـ). وتوفي ببغداد في (15) شعبان سنة 340هـ (فقيه، أديب، من تصانيفه شرح الجامع الكبير، وشرح الجامع الصغير، وكلها في فروع الفقه الحنفي، وله مسألة الأشربة وتحليل نبيذ التمر) .. انظر معجم المؤلفين/ ج6 ص239. (¬2) انظر أحكام القرآن للجصاص ج2 ص444 - 445. (¬3) انظر أحكام القرآن - للإمام الشافعي ج2 ص58. وانظر تفسير الطبري ج6 ص63 - 65.

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (¬1). وفي الحديث: «من كثر سواد قوم فهو منهم» (¬2). وعلى هذا نقول: إن الموالي يتخذ حكم من والاه سواء بسواء ويعامل معاملة من تولاه من الكفار. ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (51). (¬2) رواه أبو يعلى وعلي بن معبد عن عبد الله بن مسعود في كتاب الطاعة وله تتمة، وكذا الديلمي وابن المبارك عن أبي ذر موقوفًا. انظر جند الله ثقافة وأخلاقًا/ سعيد حوى ص183.

المبحث الثاني: العقوبة الإلهية التي تجري وفق السنة الربانية بحق من يوالون الكفار ويؤذون المؤمنين

المبحث الثاني: العقوبة الإلهية التي تجري وفق السنة الربانية بحق من يوالون الكفار ويؤذون المؤمنين من خلال قراءة التاريخ يتبين أن نهاية الظالمين بالموالاة للكفارة والمعاداة للمؤمنين واحدة ويبدو أن هناك سنة ربانية يجهلها كثير من الفراعنة وجنودهم بسبب بعدهم عن الله، وتلك السنة الربانية قد دل عليها الحديث القدسي «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» (¬1). قال ابن هبيرة «ويستفاد من هذا الحديث تقديم الأعذار على الإنذار» (¬2). ووجه ذلك أنه لما قدم معاداة من هو بهذه الصفة من الولاية لله فكأنه أعذر إلى كل سامع بل إلى كل عارف له، إن من هذا شأنه لا ينبغي أن يعادى، بل يجب أن يحب ويوالي، فإذا لم يفعل فقد أعذر الله إليه، ونبهه على أن من عادى ولي الله فقد استحق العقوبة البالغة على عداوته له، فقال تعالى منذرًا له في الحديث القدسي: «فقد آذنته بالحرب» أي جزاء على ما صنع مع وليّ (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري، انظر فتح الباري ج11 ص340 - 341. (¬2) المصدر السابق ج11 ص342. (¬3) انظر ولاية الله والطريق إليها/ إبراهيم هلال ص347.

فإن الحرب تنشأ عن العداوة، والعداوة تنشأ عن المخالفة، وغاية الحرب الهلاك، والله عز وجل لا يغلبه غالب. فكان المعنى: أن من عادى ولي الله بالقول أو الفعل أو بهما معًا، فقد تعرض لإهلاك الله له، فأطلق الحرب وأريد لازمه، أي عمل به ما يعمل العدو والمحارب (¬1). ولذا يمكن أن نقول: إن الموالي للكافرين والمحارب للمؤمنين جعل نفسه في مكان المعاند لله عز وجل بعداوته لأولياء الله ومحبته لأعداء الله فكأنه أمام نفسه مقام المحارب لله أصالة، وهو أحقر وأذل من أن يحارب ربه، لكنه خيلت له نفسه الأمارة بالسوء هذا الخيال الباطل، فعادى من أمره الله بموالاته ومحبته مع علمه بأن ذلك مما يسخط الرب ويوجب حلول العقوبة عليه. وإيقاعه في المهالك التي لا ينجو منها (¬2). قال الفاكهاني: «في هذا الحديث وعيد وتهديد شديد، لأن من حارب الله تعالى أهلكه الله» (¬3). وهو من المجاز البليغ، لأن من كره ما أحبه الله تعالى، خالف الله سبحانه وتعالى، ومن خالف الله عز وجل عانده، ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة، ثبت ضده في جانب الموالاة. فمن والى أولياء الله عز وجل أكرمه الله وحماه (¬4). فإذا كان مجرد العداوة لولي من أولياء الله مؤذنًا بحرب الله عز وجل لمن عاداه. فكيف إذا تعدى الأذى لأكثر من مجرد العداوة، فآذنوا بالقول والفعل ولأكثر من ولي بل عادوا أولياء الله جميعًا في كل صقع من أصقاع الأرض؟ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري ج11 ص342. (¬2) انظر ولاية الله والطريق إليها/ إبراهيم هلال ص347. (¬3) انظر فتح الباري ج11 ص342. (¬4) المصدر السابق ج11 ص343.

ألا يكون ذلك مؤذنًا بحرب الله لهم، إن الله يمهل ولا يهمل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» (¬1). وقد وعد الله عز وجل بالمدافعة عن المؤمنين من أوليائه جميعًا فضلاً عن الدفاع عن الولي الواحد. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (¬2). ومن سنة الله عز وجل أن يعامل من يتولون الكفار بنقيض قصدهم حيث إن أهم الأسباب التي تدفع إلى موالاة الكفار، طلب العزة من قبل الكفار كما يتصور ذوي النفوس المريضة، ولكن سنة الله الربانية تحول دون تحقق أحلامهم تلك. إن آيات القرآن الكريم توضح لنا بجلاء أنه لا يتولى الكفار ويتقرب إليهم بالمودة والنصرة إلا منافق ظاهر النفاق، قال تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) (¬3). فنفى سبحانه وتعالى عن أهل الإيمان موالاة الكفار وأثبت ذلك للمنافقين في قوله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (¬4). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا ¬

_ (¬1) رواه البخاري. انظر فتح الباري ج8 ص354. (¬2) سورة الحج آية (38). (¬3) سورة آل عمران آية (28). (¬4) سورة النساء آية (138، 139).

عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (¬1). فتبين من ذلك أن المنافقين هم الذين يتخذون الكافرين أولياء، يوالونهم بالمودة والنصرة متجاوزين ولاية المؤمنين معرضين عنها، معلقين طلب العزة والتمكين على الأعداء متناسين قول الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (¬2). وقد جرب حكام هذه الأمة وشعوبها عبر التاريخ ألوانًا من موالاة الأعداء فما جنوا من ذلك سوى الخيبة والذل والعار والمهانة في الدنيا والآخرة. ففي الأندلس كان الولاء للأعداء لعبة قذرة سلكها أمراءُ الطوائف حتى نفض الصليبيون البساط من تحت أقدامهم وألقوا بهم في مزبلة التاريخ وأصبحت هذه البلاد حسرة في نفس كل مسلم حين يذكر ما فيها من حضارة وآثار للمسلمين ثم يذكر أولئك الأوباش الذين أضاعوا ذلك الفردوس المفقود بسبب ولائهم لأعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين (¬3). لقد وصلت الحماقة والخيانة والنذالة والذلة إلى أن يوالي أحدهم الكافر ضد أبيه المسلم. فقد تعاون مخزاة (أبو عبد الله محمد الخائن) مع الصليبيين «فرديناندو إيزبلا» ضد والده محمد بن سعد (المعروف بالزغل) وضد عمه حتى تم النصر للنصارى ضد المسلمين، وبعد ذلك انقلب فرديناند على أبي عبد الله فسلب منه ممتلكاته وسلم هذا الخائن مفاتيح آخر مدينة إسلامية بالأندلس لفرديناند، وهو يبكي كما تبكي النساء على بلد إسلامي أضاعه، وخيانة لن ينساها له التاريخ تمثلت بموالاة الأعداء ضد أقرب الناس إليه فخرج هذا الخائن (897هـ - 1492م) ذليلاً محتقرًا إلى أفريقية ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (51 - 52). (¬2) سورة المنافقون آية (8). (¬3) انظر موسوعة التاريخ الإسلامي/ أحمد شلبي ج4 ص36 - 40.

ليقضي بقية عمره يعيش على السؤال والاستجداء (¬1). فهل من متعظ ومعتبر؟ وقبل صحوة الأمة الإسلامية على يد «محمود نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي» تنافس على وزارة مصر كل من «شاور وضرغام» واستعان كل منهما بالصليبيين على منافسه ولولا أن قيض الله لمصر صلاح الدين الأيوبي لأصبحت مصر مثل الأندلس أو أشد (¬2). وفي عهد المماليك كان الأمراء وحكام الولايات الصغيرة يعيدون لعبة ملوك الطوائف، فيستعينون بالصليبيين والتتار على إخوانهم، ويدفعون قيمة تلك الاستعانات من كرامتهم وكرامة أمتهم ولولا أن من الله على المسلمين بالمظفر قطز، والظاهر بيبرس لصارت حال المسلمين على غير ما كانت عليه بوجودهما. وبعد ذلك بمدة من الزمن ظهر بين المسلمين صنيعة اليهود (كمال أتاتورك) الذي كان أعظم نموذجًا للخيانة والولاء للأعداء، فقد ملك عليه حبه وولاؤه للأعداء كل شيء، وأعلن ذلك دون خجل أو وجل (¬3) أو حياء أو مواربة (¬4)، وأعلن الحرب على الإسلام والمسلمين في تركيا وخارجها فقضى على الخلافة الإسلامية وبدل الحروف العربية بالحروف اللاتينية وألغى الآذان بلغة القرآن، وفرض الأزياء الغربية، وأمر بنزع الحجاب عن المرأة المسلمة، وأشاع المنكرات، وأعلن أنه يدين بالولاء الكامل للغرب النصراني اليهودي، وأنه لا علاقة لتركيا بالإسلام (¬5). ولقد كان لهذا الولاء المطلق للأعداء آثاره السيئة والمدمرة على أتاتورك نفسه حيث باع آخرته ودنياه لأعداء الله الذين لا يملكون له نفعًا ولا ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق ج4 ص78. (¬2) انظر البداية والنهاية/ لابن كثير ج12 ص255 - 256. (¬3) رجل: أي خوف وفزع - النظر المعجم الوسيط ج2 ص1025. (¬4) مواربة: أي مخاتلة أو مخادعة - انظر المعجم الوسيط ج2 ص1035. (¬5) انظر كتاب «الرجل الصنم» / تأليف ضابط تركي سابق - ترجمة/ عبد الله عبد الرحمن ص440.

ضرًا في الدنيا والآخرة، وعلى تركيا كلها حيث إنها بولائها لأعداء الإسلام قد خسرت كل شيء، فلا هي حفظت دينها وكرامتها، ولا هي نعمت بالرخاء المزعوم من دول الغرب الصليبية، فغدت ضائعة تتخبط في متاهات الحياة إلى وقتنا الحاضر (¬1). ولقد سلك طريق الولاء للأعداء الشريف «عبد الله بن حسين بن علي» فشارك في الحرب العالمية الأولى مساعدًا بريطانيًا ضد دولة الخلافة وأنصارها وكذلك فعل أثناء الحرب العالمية الثانية، فكافأته بريطانيا على ذلك بأن نصبته ملكًا على المملكة الأردنية الهاشمية (1946م) بعد أن كان يحلم بإمبراطورية عربية واسعة ثم كانت نهايته الاغتيال عام (1951م) (¬2). ونتيجة لهذه الموالاة سقطت دولة الخلافة، واقتسم الحلفاء البلاد الإسلامية، وكان من آثار ذلك استيلاء اليهود على فلسطين واستيلاء المستعمرين على بقية البلاد الإسلامية التي ما زالت تكتوي بنار الاستعمار وعملاء الاستعمار وفي شاه إيران عبرة وعظة للذين يوالون أعداء الله، فقد أعطى ولاءه الكامل للصليبيين واليهود ولكنهم خذلوه وأسلموه في نهاية الأمر حتى لقد قال في مذكراته التي بدأ ينشرها في أول نفيه: «إن الرئيس الأمريكي كارتر قد ألقى به خارج إيران كالفأر الميت» (¬3). وقد صدر كتاب بعنوان (رهينة الخميني) ألفه (روبرت كارمن دريغيوس) نشر فيه معلومات تفصيلية عن علاقة المخابرات المركزية الأمريكية بإسقاط الشاه والقضاء عليه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر مجلة الأمان عدد (79) السنة الثانية في 27/ 9ك 1400 هـ ص19 - 20. (¬2) انظر الموسوعة العربية الميسرة/ شفيق غربال ج2 ص1178. (¬3) انظر مجلة الدعوة المصرية العدد (47) السنة التاسعة والعشرون جمادى الأولى (1400هـ) ص24. (¬4) نشرت هذا الموضوع صحيفة السياسة الكويتية على شكل حلقات متواصلة وانظر هذه الصحيفة عدد (4774) السنة السادسة عشرة الثلاثاء 15/ 12/1401هـ ص15.

وكذلك فعل الروس بمن والاهم في أفغانستان فقد قضوا على (داود خان) و (نور تراقي) و (حفيظ الله أمين) و (بابراك كارمل في الطريق وقد كان هؤلاء كلهم من الذين تولوا أعداء الله السوفيت فسلط الله الظلمة على أتباعهم، وصدق الله العظيم حيث يقول: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (¬1). وكذلك شأن السادات فقد أعلن الولاء التام للنصارى في أمريكا واليهود في إسرائيل وتنكر لمبادئ الإسلام والمسلمين، وضحى بهما من أجل ترضية أعداء الإسلام، وكان يظن أنه سوف يجد بولاء اليهود والنصارى العزة والتمكين فخاب ظنه وصدق عليه قول الله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (¬2). فقد هلك غير مأسوف عليه من قبل الأعداء والأصدقاء جميعًا وصدق فيه قول الشاعر: قد كان ينظر للحياة مديدة لا البؤس يطرقها ولا هي تقطع في كل يوم خطبة مشئومة فيها الوعيد لكل سمع يقرع في لحظة هوت الزعامة جثة والروح في أحشائه تتقطع وكفى موالاة اليهود جناية لا شيء يمحو عارها أو يشفع (¬3) ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (129). (¬2) سورة النساء آية (138، 139). (¬3) انظر المجتمع الكويتية عدد (550) في 13/ 1/1402هـ ص43.

وهذه السنة الإلهية الماضية على من يوالي أعداء الله ليست خاصة بالحكام بل تشمل كل من تعاون مع أعداء الله من العلماء والعساكر والجنود. فقد يقف بعض أدعياء العلم مع الحكام الظلمة يبررون لهم ظلمهم للمؤمنين ومطاردتهم للموحدين وخذلانهم للمجاهدين، ومن هذا النوع موقف ابن أبي دؤاد في تأليبه السلطان على الإمام أحمد بن حنبل، فقد وقف يطالب بدمه جهارًا نهارًا، ولكن الله كتمه غيظه في صدره فقد أصيب بالفالج فبقي عظامًا بدون لحم، فقال ابن شراعة البصري فيه قصيدة منها هذين البيتين: لم تخش من رب السماء عقوبة ... فسننت كل ضلالة وفساد كم من كريمة معشر أرملتها ... ومحدث أوثقت بالأقياد (¬1) وقد دارت الدائرة على عساكر عبد الناصر وزبانيته فهم ما بين مجنون ومقتول ومطرود وكذلك شأن البعثيين في سوريا فقد انقلبوا على كل من أيدهم من أهل الانتماء إلى المسلمين السنة أمثال نور الدين الأتاسي وصلاح البيطار وأمين الحافظ وغيرهم من المخدوعين بموالاة الكفرة من النصيريين والصليبيين (¬2). وهذه نماذج سقناها للذكرى والاعتبار وبيان سنة الله فيمن يوالي أعداءه ويعادي أولياءه مهما اختلف الزمان وبعد المكان ... فهل من متعظ ومعتبر؟؟. ¬

_ (¬1) انظر كتاب أحمد بن حنبل بين محنة الدين ومحنة الدنيا/ أحمد عبد الجواد ص42 - 43. (¬2) انظر: الأخوان المسلمون والمؤامرة على سوريا ص43. جابر رزق.

المبحث الثالث: العقوبة الأخروية لمن يوالون الكفار

المبحث الثالث: العقوبة الأخروية لمن يوالون الكفار لقد بين الله عز وجل في أكثر من آية عقوبة الذين يتولون الكفار في الآخرة، وأن جزاءهم جهنم وبئس القرار. قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) (¬1). وقال تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (¬2). وقال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الفرقان آية (27 - 29). (¬2) سورة الأحزاب آية (68). (¬3) سورة البقرة آية (167).

وعن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث أحلف عليهن لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة، الصلاة والصوم والزكاة ولا يتولى الله عبدًا في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قومًا إلا جُعِل معهم» (¬1). فمودة المنافقين والمرتدين لأسيادهم من أهل الكفر والضلال لا تنفعهم يوم القيامة في شيء فهي شبيهة بمودة أهل الأوثان لأوثانهم، فمن تولى الكفار ووالاهم، فقد اتخذهم أوثانًا من دون الله، وذلك بحبه لهم وتقديم محبتهم على محبة الله، وتعظيمهم على تعظيم الله، وتقديم مقامهم على مقام الله عز وجل، وجزاء هذا الأمر ما ذكره الله تعالى في قوله: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (¬2). فليفقه وليتيقظ وليستيقظ من يوالي الكفار على خطورة هذا الأمر قبل (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (¬3). فهل يتعظ الحكام والأشخاص والشعوب من تلك النهاية التي يؤول إليها من يوالي الكفار، فيقطعوا موالاتهم ونصرتهم ومحبتهم عن الكفار بالأصالة أو بالردة، ويعطوا ولاءهم لله ورسوله والمؤمنين كما قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ¬

_ (¬1) رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود. انظر مورد الظمآن لدروس الزمان - تأليف عبد العزيز بن محمد السلمان ج1 (ط - 10) ص121. (¬2) سورة العنكبوت آية (25). (¬3) سورة الزمر آية (56 - 58).

وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (¬1). فمن بدَّل موالاة الله ورسوله والمؤمنين بموالاة الكافرين فقد استحق الوعيد الشديد، كما دل على ذلك الآيات المتقدمة. وقد أنشد في هذا المعنى الشيخ صالح السالم آل بنيان في قصيدة له فيمن يوالي أعداء الله منها ما يلي:- فيا من تعادون الإله وحزبه وتنقصون أهل الدين والدين فاسمعوا لتصلون نارًا قد أعدت وهيئت بها مكان للكفار مأوى ومضجع وصبرًا ذوي الإسلام من قول مبغض عدو لكم أمسى من الغيظ مترع (¬2) ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (55 - 56). (¬2) انظر المجموع رقم (1638) من المجاميع المخطوطة بقسم المخطوطات بجامعة الرياض ص306.

الفصل الرابع: واقع المسلمين اليوم من موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين

الفصل الرابع: واقع المسلمين اليوم من موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين إن المسلم اليوم عندما يحاول دراسة واقع المسلمين المعاصرين خاصة في موضوع الموالاة في الله والمعاداة فيه، لا يدري من أين يبدأ؟ ولا أين ينتهي؟ حيث سيواجه واقعًا مؤلمًا محزنًًا مبكيًا يدع الحليم حيرانا. لأنه ما من بقعة من بقاع الأرض إلا وفيها صوت من أصوات المسلمين المعذبين تحت وطأة الكفار أو عملاء الكفار. فلا أدري كما يقول الشاعر: من أين أبتدئ الحكاية؟ كلها ... غصص تثير كوامن الأشجان (¬1) وكما يقول الآخر: في كل أفق على الإسلام دائرة ... ينهد من هولها رضوى وثهلان ¬

_ (¬1) انظر مجلة الأمة العدد الحادي عشر السنة الأولى ذي القعدة 1401هـ ص32 شعر مأمون فريز جرار.

ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا ... كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة ... فلم يغثهم بيوم الروع أعوان فاليوم لا شاعر يبكي ولا صحف ... تحكي ولا مرسلات عند شان هل هذه غيرة أم هذه ضعة؟ ... للكفر ذكر وللإسلام نسيان (¬1) فمآسي المسلمين أكثر من أن تحصر ومعظمها أشهر من أن يذكر ولكن حسبنا أن نذكر نماذج وأمثلة موجزة لأولئك المعذبين الذين لا ذنب لهم إلا أن يقولوا: ربنا الله، ومع ذلك تخلى عنهم أدعياء الإسلام وتركوهم وحدهم بين أنياب الوحوش القذرة في الشرق أو الغرب، أو أسلموهم إلى أيدي القصابين الأجراء العملاء لهذين المعسكرين، وكأن الأمر لا يعني هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام في قليل أو كثير. إنه ليس سهلاً على المسلم أن يقف متفرجًا وإخوانه في الإسلام يذبحون أمامه كما تذبح الشياه، وليس سهلاً على المؤمن أن يشاهد دولة كبرى - تعادي الإسلام - كروسيا الشيوعية تجتاح دولة إسلامية صغيرة ضعيفة كأفغانستان لتقتل أبناءها وتفتنهم عن دينهم وتشردهم من أوطانهم في مخيمات واهية يفترشون الثلج ويلتحفون صقيع النجوم ويأكلون القليل من الطعام. إن المنافق يسكت عن هذا العمل ولا يبالي. وإن الكافر يؤيد هذا العمل ولا يبالي. وإن المؤمن هو الذي لا يرضى بذلك ولا يقر الضيم على الناس كافة فكيف بإخوانه في الإسلام؟ فهل نفد المؤمنون في بلاد الإسلام ولم يبق فيها إلا الكفار والمنافقون؟ هذا ما يظهر من لسان حال القاطنين في ديار الإسلام لأنه لو كان ¬

_ (¬1) انظر كتاب أغاني الكفاح - بقلم شعراء الدعوة الإسلامية ص65.

أولا: فلسطين

العكس لظهر ذلك واقعًا عمليًا ولكن المنافقين والكفار المرتدين الذين يرتبطون بعجلة الغرب أو الشرق هم الذين يرضون بالخنوع والخضوع والذلة والضعة لأن كلا منهم عبد للمادة والمصلحة يقول الشاعر العربي: ولا ينام على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشدَّ فلا يرثي له أحد (¬1) إن الدخول في تفاصيل المصائب والمآسي التي تقع على المسلمين شيء لا يمكن حصره ونخشى لو اطلع على ذلك أحد من ضعاف الإيمان لأصيب باليأس والقنوط لشدة ما يرى وهول ما يسمع كما يقول الشاعر: أمسك بقلبك أن يطير مفزعًا ... وتول عن دنياك حتى حين فالهول عات والحقائق مرة ... تسمو على التصوير والتبيين (¬2) وسنحاول بإيجاز ذكر بعض البلاد التي ابتليت بتسلط الكفار على المسلمين، وماذا قدم لها المسلمون بمقتضى واجب الموالاة في الله والمعاداة فيه؟ وسنبدأ بذلك حسب الأهمية والموقع ومقدار البلوى ومكانتها وما تقتضيه الحكمة وتسمح به الظروف. أولاً: فلسطين: منذ ثلث قرن واليهود يستوطنون فلسطين وتزداد رقعة دولتهم يومًا بعد يوم، ولقد استبيحت أموال الشعوب الإسلامية ودماؤها باسم فلسطين وتحرير فلسطين ومع ذلك لم يتحقق شيء لأن الذين تولوا القيادات في الدول التي تدعي مناهضة اليهود، هم صنائع لليهود ولذلك ضربوا الإسلام ¬

_ (¬1) انظر مجلة الفكر الإسلامي العدد الثالث - السنة التاسعة - ربيع الثاني (1400هـ) ص25. (¬2) انظر نافذة على الجحيم ص135 ملحمة شعرية عدد أبياتها (296) بيتًا من الشعر تحكي قصة التعذيب داخل السجن الحربي في مصر أيام عبد الناصر، وهي من شعر الدكتور/ يوسف القرضاوي.

في بلادهم ومهدوا الطريق للتوسع اليهودي، وعندما شرد اليهود بعض اللاجئين من فلسطين كيف استقبلهم أهل البلاد المجاورة؟ لقد أنزل بهم أهل البلاد التي فروا إليها مذبحة عظيمة، لم يتلقوها داخل إسرائيل نفسها فصارت حالهم كحال القائل: والمستجير بعمر عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار لقد أخرجهم الملك حسين من الأردن بعد أن قتل منهم حوالي ثلاثة آلاف نفس، ثم ذهبوا إلى لبنان فلحق بهم الطاغية النصيري فأحرقهم تحت مخيم تل الزعتر في الموقعة المشهورة والمعلومة لدى الجميع (¬1). ثم تحالف عليهم اليهود مع الصليبيين في لبنان بطريقة حرب الاستنزاف وتلك الحرب قائمة حتى كتابة هذه الرسالة. ولكن الحقيقة التي يجب أن لا ننساها أن معظم الفلسطينيين وخاصة من يتزعمون مناهضة اليهود أهل لما أصابهم لأنهم أناس ابتعدوا عن منهج الله ووالوا أعداء الله في أول أمرهم وآخره ولذلك لم ينصرهم الله على أعدائهم، فهم رغم ضعفهم وهوانهم والتصاقهم بالتراب لم يتعظوا بما أصابهم ولم يرجعوا إلى ربهم، بل لقد وقف بعضهم موقف المؤيد للغزاة المجرمين الذين غزو أفغانستان ليضموا بذلك سقوط بلد آخر يضاف إلى فلسطين فقد صرح بمثل هذه التصريحات (ياسر عبد ربه) و (فاروق قدومي) من كبار الناطقين باسم منظمة التحرير الفلسطينية (¬2). ولكن لا يعني هذا تبرير تخاذل المسلمين في قضية شعب مسلم هو الشعب الفلسطيني الذي فيه الصالحون والطالحون، فيجب أن يكون الولاء والمودة لأهل الخير والصلاح من أهل فلسطين وأن نضع أيدينا في أيديهم لتحرير القدس وبقية أرض الإسلام من اليهود وأذناب اليهود في فلسطين وما حولها. ¬

_ (¬1) انظر ص542 من هذه الرسالة. (¬2) انظر البلاغ العدد (526) في 9/ 3/1400 هـ ص19.

ثانيا: أفغانستان

ثانيًا: أفغانستان: إن شعب أفغانستان كما هو معلوم شعب مسلم عريق في الإسلام شديد التمسك به، وبعد أن بدأت الشيوعية تترنح للسقوط في الاتحاد السوفيتي وفي بولندا، وبسبب نقص المواد الغذائية وفشل المزارع والمعامل الجماعية التي تسيطر عليها الدولة، وعادت كل من تركيا وإيران إلى محاولة التشبث بالإسلام، أحس أعداء الله بالخطر الذي يكاد يزلزل الأرض من تحت أقدامهم، فعمد السوفييت إلى الهجوم على أفغانستان، كما عمد الصليبيون إلى قلب نظام الحكم في تركيا وإشعال فتيل الحرب بين العراق وإيران، وما إن دخلت جيوش الروس إلى أفغانستان بواسطة بعض العملاء والخونة حتى هب الشعب الأفغاني المسلم وأعلن الجهاد ضد الغزاة، وقد وصل هذا الشعب بتضحياته حدًا يؤكد عظمة الإسلام واستعلاء أهل الإيمان في كل زمان ومكان. فهم رغم أنهم لم يتلقوا أي دعم جدي ممن كان يجب عليهم ذلك إلا أنهم لم يستذلوا ويستكينوا للأعداء فقد باعوا مواشيهم ومحاصيلهم الزراعية ليشتروا بها الطلقات النارية، والقنابل الصغيرة والبنادق من تجار السلاح الذين يبيعونها عليهم بأغلى الأثمان، ولقد وصل الأمر إلى أن باعت نساؤهم حليها لشراء السلاح، واقتصروا في قوتهم على الخبز الجاف (¬1) كل ذلك حفاظًا على دينهم وإسلامهم وجرحاهم لا يتلقون أي شكل من أشكال العناية الصحية والطبية إلا على نطاق محدود في باكستان، ومع ذلك كله فما وهنوا وما ضعفوا لما أصابهم في سبيل الله. أما عن موقف بقية المسلمين من أفغانستان فقد ذكرنا موقف بعض أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية من غزو أفغانستان وتأييدهم ذلك وكذلك ¬

_ (¬1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (476) السنة الحادية عشرة ق29/ 5/400هـ ص20.

وقفت كل من حكومة سوريا النصيرية وحكومة عدن وليبيا والجزائر موقف المؤيد للعميل بابراك كارمل العميل الشيوعي للسوفيت ضد المسلمين وهذا الموقف غير غريب على تلك الدول لأنها لا تمثل الإسلام ولا تمثل شعوبها المسلمة تمثيلاً صحيحًا. وبعض الدول المنتسبة إلى الإسلام التزمت جانب الصمت حيال هذا الموضوع وتناست هذا الشعب وتجاهلت تلك المأساة وكأن شيئًا من ذلك لم يحدث. وقد قال عبد الرب سياف المتحدث الرسمي باسم المجاهدين الأفغان «إن المجاهدين لم يستلموا فلسًا واحدًا أو درهمًا واحدًا من الحكومات ولم يستلموا رصاصة واحدة منهم ... وحتى على المستوى الإعلامي فهناك إهمال وعدم مبالاة بالقضية الأفغانية إلا فيما يخدم المعسكر الغربي المعادي للشيوعية. وقد زار عبد رب الرسول سياف كلاً من الكويت ودولة الإمارات العربية بعد عقد مؤتمر الطائف بهدف جمع بعض المساعدات للمجاهدين فلم يؤبه له ولم يحظ بأي استقبال أو ترحيب رسمي أو إعلامي، مما جعله يكتب كتابًا بيده إلى حاكم الإمارات قال فيه: لو أنني كنت على رأس وفد رياضي أو غنائي لكانت حفاوتكم بي تبلغ مداها» (¬1). وقد علقت المجتمع بقولها: كيف تستقبل الكويت قائدًا يمثل جهادًا هزم أقوى دولة في العالم وزعيمًا يمثل شعبًا مجاهدًا وعالمًا من أوعى علماء الإسلام في أفغانستان بمثل هذا التهاون واللامبالاة؟ بينما ترتعد فرائض هذه الدولة نفسها إكرامًا وحفاوة لشاعر الإباحية الجنسية نزار قباني الذي زار الكويت بعد زيارة ذلك المجاهد العملاق (¬2). ¬

_ (¬1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (550) السنة الحادية عشرة في 13/ 1/1402هـ ص7. (¬2) المصدر السابق المكان نفسه.

ثالثا: الفلبين

ما عذرنا أمام الله عز وجل؟ ثم أمام إخواننا الذين يجاهدون عدوًا شرسًا يستهدف الإسلام والمسلمين ليس في أفغانستان وحدها وإنما في كل الرقعة الإسلامية، ومع ذلك نبخل عليهم بقليل من المال والتقدير في حين أن أموال المسلمين يستثمرها أعداء الإسلام من يهود وصليبيين ووثنيين أفلا نكون بعملنا هذا نخذل أنفسنا وإخواننا الذين هم خط الدفاع الأول عنا وعن إسلامنا،؟ فهل يكون أهل الشيوعية أشد موالاة ونصرة منا نحن المسلمين؟. ثالثًا: الفلبين: تقع الفلبين على بعد حوالي (805) ميلاً من ساحل جنوب شرق آسيا وتتكون من سبعة آلاف ومائة جزيرة أكبرها جزيرة (لوزون) في المنطقة الجنوبية وعدد سكانها ستة وأربعون مليونًا وأربعمائة ألف منهم عشرون في المائة من المسلمين وقد دخل الإسلام إليها في أوائل القرن الحادي عشر الهجري السادس عشر للميلاد، وبعد أن استقلت الفلبين اسميًا عام 1946م وضمت إليها الإمارات الإسلامية أراد أعداء الإسلام القضاء على الإسلام فيها على ثلاث مراحل: 1 - المرحلة الأولى: هي محاولة تحويل المسلمين إلى نصارى عن طريق التكفير والتضليل بإدخالهم في الديانة النصرانية. 2 - المرحلة الثانية: هي محاولة إفساد المجتمع الإسلامي ونشر جميع عوامل الفساد والإفساد في هذا المجتمع. 3 - المرحلة الثالثة: هي حملات الإبادة التي تشنها الحكومة ضد المسلمين. إن المسلمين في جنوب الفلبين يتعرضون لأبشع أنواع الظلم والطغيان بل إنهم يتعرضون لحرب الإبادة المستمرة، فالحكومة الفلبينية العميلة للاستعمار والأداة المنفذة لخططه في جنوب شرق آسيا تقوم باستمرار

بعمليات التقتيل الجماعي والمذابح المروعة ضد المسلمين الأبرياء حتى وصل بها الأمر إلى تدمير قرى المسلمين وإحراقها بمن فيها وضرب تجمعات المسلمين في المساجد والمدارس وإتلاف محاصيلهم الزراعية والحيوانية. ولذلك فإن من الواجب على المسلمين في كل مكان، الوقوف مع إخوانهم المسلمين في الفلبين، وأن يقدموا لهم كل ما يمكن من الدعم المادي والمعنوي لإنقاذ الإسلام والمسلمين في تلك البقعة. ولكن للأسف فإن المسلمين في الفلبين لا يتلقون الدعم المادي والمعنوي سواء على مستوى الشعوب أو على مستوى الحكومات إلا من نزر يسير جدًا الأمر الذي يجعلهم غير قادرين على تحقيق الدفاع المطلوب عن أنفسهم، ضد قوات ماركوس الصليبي الذي يدعمه اليهود والصليبيون دعمًا قويًا، وبعض الدول الإسلامية تمتلك وسيلة ضغط مناسبة على ماركوس وهي عدم بيعه البترول الذي يتدفق من أراضي المسلمين ليكون وقودًا للطائرات والدبابات التي تطارد المسلمين وتقتلهم فإن الشرع يحرم التعاون معه في المجالات المختلفة ما دام يحارب أهل الإسلام. قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (¬1). رابعًا: سوريا: إن سوريا المسلمة تعيش مأساة عظيمة على يد السفاحين النصيريين لم يلاقيها أي بلد إسلامي في أعتى عصور الاستعمار وقد أشرنا فيما سبق (¬2) إلى نماذج من حربهم للإسلام والمسلمين ومع ذلك وللأسف ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية (9). (¬2) انظر ص542 - 549 من هذه الرسالة.

الشديد تجد الدول التي تنتمي إلى الإسلام تتعامل معهم بشكل عادي كأنهم لم يرتكبوا إثمًا ولم يقترفوا ذنبًا وكأن المسلمين والمسلمات الذين يذبحون صباح مساء قطيعًا من الماشية لا يهتم بهم ولا يؤبه لهم. مال هذا العالم العجيب؟ قد تبلد إحساسه وانقطعت الشفقة والرحمة من فؤاده كيف تحصل فيه أعتى المآسي وأدمى المجازر ولا يستطيع أحد أن يرفع صوته منكرًا للظلم على الظالمين؟ ماذا نقول للتاريخ وللأجيال القادمة؟ حينما يعلمون أن فظائع دامية وجرائم عاتية كانت ترتكب بحق شعب مسلم مؤمن وله مئات الملايين من إخوانه يتفرجون عليه وهو يداس تحت الأقدام. ماذا نقول لربنا الذي أمرنا بالتعاون مع إخواننا في قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (¬1)؟. أنقول: إننا كنا لاهين بأموالنا وشهوتنا، ننفق آلاف الملايين على الأمور التافهة، والقضايا الهزيلة وإخواننا في كل مكان بحاجة إلى كل درهم لطعام يسدون به رمق الجوع أو لثوب يسترون به العورات المكشوفة، أو لبيت وسكن بدل الخيام والعراء، أو لطلقة في نحر عدو كافر يستهدف الإسلام وكل المسلمين؟. أم نقول: إننا خشينا اغتصاب أولئك القوم لئلا يكشفوا عُوَرَانا ... «ومن كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجر». إن جرائم أولئك العصابة القذرة يعجز الوصف والبيان عن تصويرها وبيانها، ويقف المرء في خجل وانكسار حين ينتسب إلى أمة بمثل هذا العدد ومع ذلك يفعل بأبنائها مثل ذلك الفعل المشين. صديق ليس ينفع يوم بؤس ... قريب من عدو في القياس تنكرت البلاد ومن عليها ... كأن أناسها ليسوا بناس (¬2) ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (2). (¬2) ديوان الإمام الشافعي ص50.

خامسا: المسلمون في كمبوديا

خامسًا: المسلمون في كمبوديا: يروي الأستاذ الدكتور/ علي جريشة عن أحد التلاميذ الفارين من الشيوعية في كمبوديا، أنه كان في كمبوديا مليونان من المسلمين وسط سبعة ملايين من الوثنيين وحدث الانقلاب الشيوعي عام (1973م) فماذا فعل الشيوعيون بالمسلمين؟ يقول: لقد قتلت الشيوعية ثلثي عدد المسلمين ولم يبق من المسلمين إلا بضعة آلاف لاجئين في خيام وفي صحراء تايلند يعانون الفقر والجوع والعري والحرمان، ويعانون ما هو أشد من ذلك حيث تعرض عليهم تايلند أن يقبلوا (التنصير) ويصبحوا نصارى حتى يعطوا من المساعدات التي تأتي من الجهات الصليبية، وإما أن يعودوا إلى كمبوديا الشيوعية ليلحقوا بمن سبقهم من إخوانهم الذين دفنوا تحت الأرض بعمق عشرة أمتار. وعن طريقة إبادة المسلمين في تايلند أفاد بأنهم يكلفون عددًا من الرجال بحفر حفرة عمقها عشرة أمتار وعرضها خمسون مترًا، ثم يلقون بالناس فيها وهم أحياء وتأتي الجرافات وتهيل عليهم التراب وأما الأطفال فلهم طريقة أخرى وهي أنهم يضعونهم في أكياس من النايلون المقوي، ثم يوثقون رباطها ويربطونهم في جذوع الشجر ويتركونهم يتقلبون داخلها حتى يختنقوا داخل الأكياس وهكذا قضوا على حوالي مليون وسبعمائة ألف (¬1). اهـ. وللمسلم أن يتساءل أين الذين يتحدثون عن حقوق الإنسان؟ أم أنهم لا يهتمون إلا بالإنسان الصليبي أو اليهودي أو الشيوعي أو الوثني أما المسلم فلا قيمة له في نظر أولئك، ولا بواكي له من أدعياء الإسلام. أين المسلمون؟ أين أمة تعد اليوم ألف مليون مسلم؟ ¬

_ (¬1) انظر المجتمع عدد 477 السنة الحادية عشرة في 7/ 6/1400هـ ص31.

سابعا: المسلمون في الهند

أين أمة تمتلك أهم الموارد الاقتصادية في العالم؟ ومع ذلك تنتهك حرمتها وتستباح كرامتها، ويستهين بها أعداؤها. سادسًا: بورما: إن المسلمين في أراكان من (بورما) قد لقوا الكثير من الظلم والإرهاب وحرب الاستئصال فقد قتل البوذيون مئة ألف مسلم واختطفوا خمسة آلاف من النساء وفعلوا الفاحشة بما لا يقل عن خمسمائة مسلمة أمام أزواجهن وأبنائهن وإخوانهن وقد فر حوالي (200) مئتي ألف مسلم إلى الصحراء، وغدت قرى المسلمين خرابًا بلقعا، واجتاز حوالي (15) ألف من هؤلاء نهر (نان) بحثًا عن مأوى في بنجلادش (¬1). وهكذا نرى هؤلاء المسلمين البؤساء كغيرهم دون مأوى أو عناية أو رعاية من إخوانهم المسلمين في كل مكان. سابعًا: المسلمون في الهند: يضطهد المسلمون في الهند تحت الحكم الوثني اضطهادًا مريرًا. فمنذ عام (1946م) - إلى عام (1979م) وقعت تسعة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون مجزرة ضد المسلمين (¬2). ذهب ضحيتها عشرات الملايين من المسلمين ما بين قتيل وجريح ومشرد، وفي عام (1400هـ) أطلق عباد البقر مجموعة من الخنازير على المسلمين وهم في مصلى العيد، للسخرية واستهزاء بالمسلمين ثم أعقبوا ¬

_ (¬1) المصدر السابق عدد (516) السنة الحادية عشرة في 12/ 4/1401هـ ص33 - 35. (¬2) انظر إحصائية في مجلة (سوريا انديا) الهندية الشهرية عدد يونيو عام (1979م) وانظر ترجمة ذلك في المجتمع عدد (525) في 16/ 6/1401هـ ص10.

ذلك بهجوم على المسلمين ذهب ضحيته خمسمائة من المسلمين عدا الجرحى والمفقودين (¬1). وفي أثناء انفصال باكستان عن الهند قضى الهنود الوثنيون على قرابة خمسة ملايين مسلم أثناء هجرتهم من الهند إلى باكستان (¬2). وعندما أراد مجيب - الشيطان - زعيم البنغاليين فصل باكستان الشرقية عن باكستان الغربية وقف الهنود الوثنيون مع هذا العميل وخاضوا المعركة ضد باكستان وألحقوا بها هزيمة منكرة حتى تم لهم ما أرادوا من فصل باكستان الشرقية ببنغلاديش حاليًا - عن باكستان الغربية. ومع كل هذه الجرائم والمآسي ترتبط معظم الدول المحسوبة على الإسلام بعلاقات ودية وتعاونية مع تلك الدولة الوثنية، وتقدم لها عامة الدول في العالم الإسلامي المساعدات الاقتصادية والتأييد السياسي بلا حدود في الوقت الذي تحارب فيه حكومة الهند المسلمين في داخل الهند وخارجها. ففي داخل الهند تقوم هذه الحكومة الوطنية باضطهاد المسلمين وتحرمهم حتى من أبسط حقوقهم السياسية والاجتماعية، رغم تشدقها بالديمقراطية، ولكنها على كل حال مثل الديمقراطية العربية، لأنها شعار بلا محتوى، واسم بلا مسمى، كما هو شأن الديمقراطية العربية في مفهوم القادة العرب. وفي خارج الهند تقف الحكومة الهندية موقف الصديق المخلص مع دولة اليهود في فلسطين، وقد نشرت جريدة السياسة الكويتية بعددها الصادر في 28/ 8/1980م عن صفقة سرية بين الهند وإسرائيل تقوم الهند بتزويد ¬

_ (¬1) انظر مجلة الاعتصام العددان الثامن والتاسع السنة الرابعة والأربعون شعبان ورمضان 1401، ص17. (¬2) انظر العلاقات الدولية في الإسلام. د/ كامل سلامة الدفس صفحة 162 - 163.

ثامنا: جزر القمر

إسرائيل بقطع غيار الدبابات الإسرائيلية. فإذا كان هذا ما تفعله حكومة الهند الوثنية بالمسلمين في الهند وبالمسلمين خارج الهند، فماذا قدمت الدول المحسوبة على الإسلام لمسلمي الهند؟ بماذا عاقبت الدول المحسوبة على الإسلام حكومة الهند في تعاملها مع اليهود؟ أليس الجواب لا شيء في كلا الحالين؟ وهذا يعني أن لا موالاة ولا معاداة في الله، من قبل حكام البلاد الإسلامية، فهل هان علينا ديننا وإخواننا في الهند؟ أم هانت علينا فلسطين والمسجد الأقصى؟ حتى ننسى أعداءنا ومن يقف مع أعدائنا من أهل الأوثان. فلا حول ولا قوة إلا بالله. ثامنًا: جزر القمر: هي مجموعة من الجزر يقدر عدد سكانها بحوالي ثمانمائة ألف نسمة وقد استقلت اسميًا عام (1975م) وبعد ذلك تسمت بجمهورية جزر القمر الإسلامية، وهو اسم بلا مسمى وإنما قصد بذلك خديعة المسلمين في الخارج واستغلال سذاجتهم في أخذ القروض والمنافع الاقتصادية منها أما في الداخل فكل شيء يسير مناقضًا للإسلام ورغبات المسلمين، فقد استقدم رئيس النظام في هذه الجزر سبعة آلاف من المرتزقة الفرنسيين لحماية نظامه وتأييده في ضرب الشعب المسلم في الداخل حتى لقد كافأ الرئيس حراسه الفرنسيين بالزواج الأسمى من بنات المسلمين (¬1)، الأمر الذي لم يجرؤ عليه أحد من قبل في أن يجعل ولاية للكافر على المسلمة وهو أمر مجمع على تحريمه بين كل المسلمين كما تقدم (¬2). وهذه الجمهورية التي تتسمى بالإسلام تلزم الناس بالعمل وقت صلاة الجمعة وتعطل يوم الأحد، ومع ذلك يستقبل ممثلوها في البلاد الإسلامية ¬

_ (¬1) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (480) السنة الحادية عشرة في 28/ 6/1400هـ ص21 - 22. (¬2) انظر ص712 - 714 من هذه الرسالة.

تاسعا: المسلمون اليونانيون

كأعز الأصدقاء وخير الأوفياء فهل هان علينا أمر ديننا إلى هذا الحد حتى نستقبل المحاربين له أعز من استقبال المؤمنين؟، اللهم رحمتك يا رب. تاسعًا: المسلمون اليونانيون: إن حكومة اليونان الصليبية تفتك بمسلمي تراقيا الذين يبلغ عددهم (170) ألف مسلم يوناني وقد تنازلت تركيا عن هذا الجزء حين توقيع معاهدة (لوزان) وقد بدأت السلطات اليونانية بتطبيق سياسة التجنيس القائمة على إذابة المسلمين في بوتقة الصليبية وعلى طرح حجج مفادها بأن المسلمين الموجودين في اليونان هم من أصل نصراني وعليهم أن يرجعوا إلى أصلهم ونسبهم المتصل بإسكندر المقدوني، وقد عملوا على غسل أدمغة الأطفال والمراهقين بدعايات مسموعة تفرض عليه تلقي التعاليم النصرانية المتعارضة مع الإسلام، ولم تكتف السلطات اليوناية بذلك بل منعت إطلاق الأسماء الإسلامية على المواليد مثل أحمد، ومحمد وحسين وعلي وعمر ونحو ذلك (¬1). وقد بدأت السلطات باعتقال الأئمة والعلماء ومنع تدريس القرآن في المساجد، وقد منعت الحكومة مسلمي تراقيا من تملك العقارات رغم قدمهم في التاريخ وحاولت الضغط والإكراه والضرب بغية إجبار المسلمين على بيع مساكنهم ومزارعهم لقصد إضعافهم وطردهم من بلادهم، وحتى موتى المسلمين لم يسلموا من الأذى فقد اجتاحوا مقابر المسلمين واعتدوا على حرمتها وتناسوا أبسط القواعد الأخلاقية في ذلك، علمًا بأن مقابر النصارى في اسطنبول في تركيا تحفظ وتصان وتحاط بأسوار وحدائق غناء كل ذلك دليل على أخلاقية المسلمين العالية في حين أن الأعداء لا يحترمون للمسلمين أي شعور (¬2). ¬

_ (¬1) انظر مجلة المجتمع عدد 478 السنة الحادية عشرة في 14/ 6/1400هـ ص30 - 32. (¬2) انظر مجلة المجتمع عدد 478 السنة الحادية عشرة في 14/ 6/1400هـ ص30 - 32.

عاشرا: المسلمون في تونس

إن الصمت والسكوت الرهيب لما يتعرض له المسلمون في تراقيا وعدم الإصغاء لإغاثتهم، أو التفكير في نجدتهم لهو مما يمزق القلوب ويلصق العار بالمسلمين والعالم أجمع. عاشرًا: المسلمون في تونس: تفيد الأنباء الواردة من تونس أن خلافًا جرى بين (محمد الصياح) أمين الحزب الحاكم، وبين رئيس مجلس الوزراء (الهادي نويرة) حيث يطلب الأول أن تكون الحملة ضد الإسلام على الطريقة السوفياتية بينما يطلب الثاني أن تكون الحملة على الطريقة الأمريكية وهي عملية القتل البطئ (¬1). وسواء كانت الطريقة الأولى أو الثانية هي المتبعة في حرب الإسلام في تونس فإن المستفيد من ذلك هم الأعداء، وحتى الحكومة التونسية وإن حققت بعض المصالح العاجلة فإنها في النهاية لن تحصد سوى الدمار لها ولشعبها. فلقد سفك عبد الناصر دم الآلاف من الشباب المؤمن وسجن الكثير واستخدم أكثر من أسلوب، فما الذي جناه عبد الناصر لنفسه ولشعبه؟. وشاه إيران الذي أستذل شعبه، ومثل به أشد أنواع التمثيل، وسرق خيراته وتركه يئن ألمًا وفقرًا، فماذا حل بعد ذلك بالشاه؟ لقد ذهب كل من عبد الناصر وشاه إيران والسادات ليلقى كل منهم جزاءه العادل عند من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور الذي قال: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (¬2). إن واجب الشعوب الإسلامية والحكومات الحقة أن لا تمنح ودها ونصرتها وتعاطفها لأولئك الأنذال الذين يريدون ربط المسلمين بأذناب الشرق أو الغرب، وأن تعرف حقيقة من تتعامل معهم وأن لا تعطي ولاءها ¬

_ (¬1) انظر المجتمع عدد (468) السنة العاشرة في 18/ 3/1400هـ ص16 - 17. (¬2) سورة السجدة آية (22).

إلا لمن يستحق ذلك الولاء، ولكن أين من يفهم ذلك ويطبقه؟ لقد حصل في تونس ما لم يحصل في تاريخ الدول الإسلامية قط. فقد دخل الحزب الشيوعي الانتخابات كحزب معترف به من قبل الدولة ومن قبل المرتدين عن الإسلام من الشعب وكذلك دخل الاشتراكيون الذين هم فصيلة من فصائل الشيوعية وحصلوا على نسبة 4.16% (¬1). بينما وصف (مزالي) حركة الاتجاه الإسلامي بأنهم أقلية، وقبيل الانتخابات تم اعتقال أربعين عضوًا من أنصار الحركة الإسلامية واودعوا في غياهب السجون بدون ذنب إلا أن يقولوا: ربنا الله (¬2). ولم تسجل لهم دوائر الانتخابات أي نسبة ولو 99.1% (¬3). فقل لي بربك هل هذه دولة إسلامية؟ أم هل هذا شعب مسلم؟ يصوت فيه لصالح الماسونيين والشيوعيين والاشتراكيين، ويسدل الستار فيه على حزب الله وأهله، كأن لم يكن للإسلام والمسلمين وجود في هذه البقعة من العالم فإلى الله المشتكي، وهو وحده المرتجى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والمغرب مثل تونس ومثل بقية البلاد الإسلامية، ففي المغرب يعتقل مجموعة من الشباب المسلم منذ خمس سنوات بدون محاكمة بتهمة قتل أحد الدعاة إلى الشيوعية الماركسية (¬4). فيا ترى لو كان المقتول مسلمًا بأيدي الشيوعيين هل يعتقل الشيوعيون مثل هذه المدة؟ وهل يعاملون بمثل ما يعامل به المسلمون داخل السجون من قتل وإهانة وتعذيب؟ أم أن الوضع يختلف بالنسبة لغير المسلمين؟. ¬

_ (¬1) انظر مجلة اليمامة عدد (676) في 24/ 1/1402هـ ص36 - 37. (¬2) انظر المجتمع عدد (538) في 11/ 10/1401هـ ص18 - 25. (¬3) انظر مجلة اليمامة عدد (676) في 24/ 1/1402هـ ص36 - 37. (¬4) انظر المجتمع عدد (481) السنة الحادية عشرة في 5/ 7/1400هـ ص3 وص16 - 18.

الحادي عشر: موزمبيق

وفي رسالة بعثتها مجموعة من الطالبات المسلمات المغربيات من مدينة طنجة من إحدى الثانويات ذكرن فيها أن مدير هذه المدرسة جمع الفتيات المحجبات وقال لهن: ارمين هذا الحجاب وإلا رميت بكن في الشارع وتلفظ بألفاظ بذيئة فاسقة، وتقول إحداهن لماذا ينصح المدير - المفضل - ويطالب برمي الحجاب في الوقت الذي يشجع فيه الطالبات اللاتي يتعاطين الحشيش والأفيون والخمر، ويقضين الليل كله مع الأجانب، وهذا يحصل بعلم المدير ومساعدته أحيانًا؟ (¬1). اهـ. فانظر كيف يحافظ الحكام على الخارجين على الإسلام وعلى حقوق الشيوعيين والنصارى بينما حقوق المسلمين مهدرة في كل مكان. إن حكم الشرع يقتضي من كل دولة مسلمة أن تقتل كل مرتد عن الإسلام سواء كان شيوعيًا أو بعثيًا أو اشتراكيًا أو ماسونيًا أو غير هؤلاء من دعاة الإلحاد والفساد في الأرض. وواجب الشعوب الإسلامية أن لا ترضى عن وجود هؤلاء بينها، وعلى قمة السلطة في بلادها، فكيف وهؤلاء يقومون بإذلال المسلمين من أجل عيون الكفار ونيل رضاهم؟ فهل هؤلاء الذين يحاربون المسلمين ويحمون المرتدين من شيوعيين وبعثيين، هل هم من الإسلام في شيء والله عز وجل يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)؟ (¬2). الحادي عشر: موزمبيق: إن بلاد موزمبيق ما تزال تحمل اسم القائد المسلم (موسى بن بيق) يسكن فيها ما يزيد عن أربعة ملايين من المسلمين يشكلون أكثر من 40% من مجموع السكان، وقد أعلن رئيسها (سامورا) عداءه للدين حتى قال «أنا ¬

_ (¬1) انظر مجلة المسلمون عدد (7) في 15/ 2/1402هـ ص7. (¬2) سورة المائدة آية (51).

الثاني عشر: أوغندا

أتوقع الزمان الذي يصبح فيه الدين ليس إلا أحداثًا من الماضي ليست لها قيمة في تاريخ الحركة الشيوعية» (¬1). وليس هناك من جديد في توقع كهذا من حاكم شيوعي ولكن الجديد في ذلك هو قوة الحملة العنيفة التي شنها ضد المسلمين والتي لم يتجرأ عليها النظامان الشيوعيان في أنغولا وأثيوبيا حيث لم يتجرأ على إبطال الأعياد الدينية في حين أن (سامورا) أعلن إلغاءها دون حرج، إن (ستالين موزمبيق) قد فرض الإلحاد على المسلمين في جميع المدارس وقد أصدر أمرًا بحظر استيراد نسخ القرآن الكريم أو تداولها في المكتبات، وقد أمر بوقف تدريس القرآن الكريم في المدارس والمساجد، وكذلك فإن طباعة الكتب الإسلامية أو استيرادها أمر محظور فقد وضع القيود الصارمة والغرامات الباهظة جدًا، ومنع إلقاء الخطب والمواعظ في المساجد والأماكن العامة إلا بعد الموافقة المسبقة من الدولة، وقد أصدر أمرًا بالتجنيد الإجباري للرجال والنساء على حد سواء وهذا غيض من فيض ولكن لو ألقينا نظرة على موقف الدول والشعوب التي تنتمي إلى الإسلام لوجدنا أنها تدعم نظام (سامورا ماتشل) بالمساعدات الاقتصادية والمواقف المعنوية وبعضها قد يرتبط معه بولاء نظرًا إلى انتمائهم إلى الشيوعية الماركسية، والبعض الآخر قد يجهل أو يتجاهل موقف ذلك المأجور العميل لأعداء الإسلام، إن المسلمين لا يتعاملون مع غيرهم من منطلق الإسلام ولذلك هانوا أمام أعدائهم، وأمام المسلمين الغيورين على الإسلام. الثاني عشر: أوغندا: لعل الناس في خضم الأحداث الخطيرة التي تجتاح العالم الإسلامي قد نسوا البلد الأفريقي الذي افترسه الصليبيون وذلك البلد هو (أوغندا) لقد زحفت القوات الصليبية على أوغندا تحت سمع العالم الإسلامي وبصره ¬

_ (¬1) انظر الأمان عدد 79 في السنة الثانية - رمضان (1400هـ) ص32.

وهو واقف يتفرج حتى تحقق للصليبين ما أرادوا، وعند سيطرتهم على الأمور في أوغندا شنوا حرب إبادة على المسلمين، تمثلت في القتل والتعذيب ومصادرة الأموال وهدم المساجد (¬1). وأصبح كل من يعلن إسلامه مجرمًا وقد عمل الحكام الجدد على تحويل المسجد الجامع الكبير بالعاصمة إلى فندق أطلقوا عليه اسم (نيريري) الصليبي رئيس حكومة تنزانيا، وألغت الحكومة الجديدة بعد عيدي أمين العطلة في يوم الجمعة واستبدلت ذلك بيوم الأحد وإذا استمرت الحال على ما هي عليه فإن الإسلام سيمحى كليًا من أوغندا إلا أن يشاء الله (¬2). وليست هذه المشكلات التي ذكرناها هي كل مشكلات المسلمين اليوم في العالم الإسلامي وليس يحارب الإسلام في هذه البلدان وحدها بل إن هناك بلدانًا أهلها أكثر التصاقًا بالإسلام ومع ذلك يحارب الإسلام فيها بصور متعددة، فنحن كما يقول الشاعر: إنى اتجهت إلى إسلام في بلد ... تجده كالطير مقصوصًا جناحاه كم صرفتنا يد كنا نصرفها ... وبات يحكمنا شعب ملكناه (¬3) ومن أقوى ما يصور واقع المسلمين قول الشاعر فيما يلي: في كل أرض بلد موثق ... يعيش في القيد وفي كربه قد عقه الخارج من صلبه ... وخانه النابت من تربه قسوا عليه وهم أهله ... في محنة الدهر وفي خطبه قد شاركوا الطاعم من لحمه ... وساعدوا الغاصب في غصبه يرتزق الخائن من بيعه ... ويسعى مع الساعي إلى صلبه ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق المكان نفسه. (¬2) انظر المجتمع عدد 479 السنة الحادية عشرة في 21/ 6/1400هـ ص13. وانظر البلاغ عدد (616) في يوم الأحد الموافق 18/ 1/1402هـ ص11. (¬3) شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث ج2 ص65.

ألسنة تهذي لتضليله ... وأنمل تمتد إلى سلبه (¬1) وواقع المسلمين اليوم من الموالاة في الله والمعاداة فيه هو ما يصوره شاعر الدعوة في قوله ما يلي: أيها القوم أعيروا سمعكم ... إنني أقذف نارًا لا كلامًا ما أنا الشاكي ولكن أمة ... أصبحت تشكو كما يشكو اليتامى تبصر الشر ولا تنكره ... وعن المعروف جنبًا تتحامى وتداري كل دجال ولو ... بث في أبنائها الرأي الحراما وترجى من أعاديها الهدى ... وتواليهم قضاء واحتكامًا كم صفيق الوجه صفقنا له ... وسفيها قد جعلناه إمامًا بحت الأصوات في تمجيده ... وهو للأعداء سهمًا وحساما وشريف القصد شهرنا به ... وظلمناه اعتداء واتهاما (¬2) وقد يسأل الإنسان نفسه سؤالاً لماذا يُحَارَبُ الإسلام بهذه القوة والوحشية حتى من بعض أدعياء الإسلام؟. والجواب على ذلك هو أن أعداء الإسلام على اختلاف نزعاتهم وتعدد مذاهبهم قد اتفقوا على شيء واحد وهو حرب الإسلام ومقاومته، وذلك أن الدين الإسلامي يفسد عليهم خططهم ومآربهم الدنيئة التي لا تعيش إلا في ظل مجتمع ونظام جاهلي يتخذ من الأفراد آلهة من دون الله. (أ) فالاستعمار: يعلم علم اليقين أنه لا حياة له مع وجود الإسلام ... لأنه - أي الإسلام - يحتم على أتباعه أن يكونوا أعزة في ديارهم كرامًا في أوطانهم وهذا أمر لا يقره الاستعمار ولا يرضاه. (ب) الطغاة والمتجبرون والمستعبدون: واثقون كل الثقة بأن لا وجود لهم عند وجود الإسلام الحقيقي لأن ¬

_ (¬1) المصدر السابق ج1 ص34. (¬2) المصدر السابق ج5 ص24 - 26.

الإسلام أول ما يحارب الظلم والطغيان والاستبداد والبطش والجبروت والتعدي على الناس بغير حق. (ج) الإباحيون ودعاة الانحلال والفساد والتهتك والرذيلة: يعلمون كل العلم أن في قيام الإسلام موتًا لهم وتجفيفًا لمستنقعاتهم الآسنة حيث يدعو الإسلام إلى حياة شريفة كريمة نظيفة من كل دنس ورجس. (د) دعاة الشيوعية والاشتراكية التي تحارب الظلم - كما يقول ببغاواتها: يعلمون أن لا وجود لهم في بلد يسعى لتطبيق الإسلام الحق لأن أول ما يهدف إليه الإسلام تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة المسلمة وإقامة العدل في الأرض والمساواة في توزيع الثروة الجماعية ونشر المحبة والأخوة والسلام، والتكافل الاجتماعي هو بيت العنكبوت الذي يتمسك به دعاة الشيوعية والاشتراكية، فإذا لم يوجد المبرر لهم فكيف يحافظ هؤلاء على مغتصباتهم ومغتصبات أسيادهم في بلاد المسلمين فهم جميعًا كما يقول الشاعر: خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم (¬1) ومن هذا الاستعراض المتقدم لمآسي المسلمين ومصائبهم ودور المسلمين عامة والحكومات خاصة في موالاة المؤمنين المنكوبين على أيدي أعداء الإسلام من الشرق والغرب أو أيدي عملائهم المخلصين نجد الحقيقة المرة التي تقول «إن المسلمين قد عطلوا هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام، وقطعوا أوثق عرى الإيمان فلم يوالوا في الله من تجب موالاته ولم يعادوا في الله من تجب معاداته ولم يكتفوا بهذا الموقف المتبع من أهل الحق والباطل على حد سواء بل قد عكسوا الصورة رأسًا على عقب ¬

_ (¬1) الدرر السنية ج9 ص364.

فحاربوا أولياء الله حربًا، لا هوادة فيها مستغلين كل الوسائل الممكنة في ذلك، وتولوا الكفار موالاة تامة بالقول والفعل والاعتقاد، وقد دأبوا على تحقيق هذا المفهوم الزائف والكفر البواح بكل قوة ووسيلة يمتلكونها لتحقيق هذا الغرض الذي هو مطلب من مطالب الكفار في القضاء على الإسلام والمسلمين». ولكن أملنا بالله عز وجل كبير في أن يرد المسلمين إلى منهج الإسلام فيوالوا أولياء الله ويعادوا أعداءه وما ذلك على الله بعزيز.

الخاتمة

الخاتمة لقد اتضح لي مما أجملناه في نتائج ما سبق من مباحث هذه الرسالة أن «الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية» ترتكز على أساس ما دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وكلاهما وحي من الله تعالى: الأول باللفظ والمعنى والثاني بالمعنى دون اللفظ. وقد طُبقَ هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام في صدر هذه الأمة عندما كانت هذه الأمة جادة في إسلامها مخلصة في انتمائها للإسلام والمسلمين. لقد كان المسلمون في الصدر الأول كالجسد الواحد في آلامهم وآمالهم، عندهم كانت شجرة الإيمان باسقة الأغصان ندية الأوراق مزهرة مثمرة، تستقي من النبع الصافي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، حيث قد تخبثت النفوس بانصرافها إلى التزود من المصادر الكدرة، والمستنقعات العكرة الآسنة، فجفت الأوراق وذبلت الأغصان وتداعى كيان الأمة الإسلامية، وكان أول شرخ أصاب الأمة في مقتلها هو

إضعاف روح الموالاة والمعاداة بين المسلمين أو الانحراف بالولاء والعداء عما يجب أن يكونا فيه، إلى ما لا يصح أن يكونا فيه، وقد ابتدأ الصدع مع بداية مكائد ابن سبأ اليهودي وبدأ يتسع حتى عصرنا الحاضر حيث لا يزال المسلمون يكتوون بنار التفرقة وتعدد الولاءات، وقلة المبالاة بقضايا الإسلام والمسلمين. لقد كان الدافع لي وراء هذا البحث هو معرفة منزلة الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية، فتبين لي من خلال دراستي لهذا الموضوع في القرآن الكريم والسنة النبوية، وفعل الصحابة (رضي الله عنهم) وسلف هذه الأمة وعلمائها الأعلام في مختلف العصور وأغلب الأماكن. أن الحب في الله والبغض في الله، وما يتصل بهما من أعمال القلب والجوارح أصل عظيم من أصول الإسلام، لا يصح إسلام المرء إلا بهما كما قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (¬1). وقد أكد البحث حقيقة الوحدة الإسلامية وأن المسلمين كانوا ويجب أن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وذلك من خلال صور الموالاة والمعاداة التي طبقها المسلمون تطبيقًا واقعيًا في عصور مختلفة وأماكن متباينة. وقد كان يؤرقني ما يصيب المسلمين من مصائب ودواهي عظام تستقبل من حكام المسلمين وشعوبهم بعدم الاكتراث واللامبالاة وكنت أعتقد أن هؤلاء الذين يقفون من الإسلام وقضاياه موقف المتفرج، أو يلوذون بالصمت الرهيب في صراع الحق مع الباطل، أنهم على خطأ جسيم وإثم عظيم، وقد صح ما توقعته، فقد أدى بي البحث إلى نتائج مهمة في هذا الشأن كما يلي: ¬

_ (¬1) سورة النحل آية (36).

أولاً: أن من لم يحب الإسلام وأهله ولم يبغضهم، فهو ناقص الإيمان والتوحيد إن كان مسلمًا، وهذا النقص قد يؤدي به إلى الشرك، إن لم يكن هناك ملابسات أو قرائن تصرفه عن ذلك (¬1). ثانيًا: أن من لم ينكر الشرك ويعادي أهله فليس بمؤمن ولو عبد الله ووحده، لأن من صحة التوحيد الكفر بالطاغوت وأهله، والكفر بالطاغوت يعني العداوة للشرك وأهله (¬2). ثالثًا: أن من يكره الإسلام ويكره من ينضم إلى جماعة المسلمين فهو كافر وإن ادعى الإسلام وعمل به (¬3). رابعًا: أن من يدعو إلى مبادئ الكفر، أو يسعى في مناصرة الكفار وتأييدهم، ويحب من دخل في هذا الأمر، ويكره من خالف ذلك فهو كافر وإن زعم أنه مسلم وأن عمله هذا لا يتعارض مع الإسلام (¬4). وللأسف الشديد فإن كل هذه الأصناف الأربعة لها وجود كبير بين المسلمين اليوم، وهو وجود مخالف لأصل الإسلام ولما يجب أن يكون عليه المسلمون. إن الكفار اليوم لا يمكن مقارنتهم مع المسلمين المعاصرين في مجال الموالاة والمعاداة، حيث إن الكفار يتمسكون بهذا الأمر بكل قوة وحزم بينما المسلمون لا يبالون بهذا الأمر ولا يفكرون فيه مجرد التفكير، والدليل على ذلك نسوق حادثتين إحداهما عند الكفار والأخرى عند المسلمين ثم ننظر إلى حجم الحادثتين وردود الفعل من قبل الكفار، ومن قبل المسلمين ¬

_ (¬1) انظر صفحة 158 - 159 من هذه الرسالة. (¬2) انظر صفحة 159 - 161 من هذه الرسالة. (¬3) انظر صفحة 161 - 162 من هذه الرسالة. (¬4) انظر صفحة 162 من هذه الرسالة.

ليتبين لنا كيف يهتم الكفار بعضهم ببعض؟ وكيف لا يبالي المسلمون بعضهم ببعض؟ مهما ادلهم الخطب وعظمت المصيبة. نسوق الحادثة الأولى في حق الكفار، فقد اعتدى رجال الشرطة في بولندا بالضرب على ثلاثة من العمال أعضاء في منظمة التضامن العمالية فكان رد الفعل على هذا الاعتداء أن أضرب عن العمل من الغد عشرة ملايين عامل احتجاجًا على ضرب ثلاثة منهم (¬1). فانظر كيف تكون الموالاة والمناصرة بينهم! أما الحادثة الثانية: فنسوقها في حق المسلمين المعاصرين فقد بلغ عدد الذين استشهدوا في أفغانستان منذ التدخل السوفيتي حتى 27 كانون الأول - ديسمبر (1981م) - نهاية السنة الثانية للاحتلال (800) ثمانمائة ألف شهيد عدا اللاجئين والمشردين من الأيتام والنساء الأرامل والعجزة الذين يبلغ عددهم مليونين وأربعمائة ألف نسمة (¬2). ومع هذا كله يرسل بعض رؤساء الدول العربية إلى بريجينيف وبابراك كارمل رسائل تعبر عن خالص المودة والرضا والتقدير لهؤلاء السفاحين (¬3). وكأنهم لم يغتصبوا شبرًا ولم يقتلوا بريئًا. أليس من الأليق بهؤلاء الذين لم يحالفهم الحظ في نصرة الإسلام والمسلمين في أفغانستان أن يلتزموا الصمت عند عجزهم عن القيام بالواجب؟ تلك حالنا وحال أعدائنا في الموالاة والمعاداة ¬

_ (¬1) إذاعة المملكة العربية السعودية، النشرة الإخبارية صباح يوم الجمعة الساعة السابعة تاريخ 25/ 12/1401هـ. (¬2) انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (550) السنة الحادية عشرة في 13/ 1/1402هـ ص23. وانظر مجلة البلاغ عدد (616) في 18/ 1/1402هـ ص18. (¬3) انظر مجلة الإرشاد العدد (9) السنة الثالثة رمضان سنة (1401هـ) ص49. وانظر مجلة اليمامة عدد (675) السنة الثلاثون 17/ 1/1402هـ ص14.

فقل لي بربك هل يوجد في العالم كله أرخص من دماء المسلمين ونفوسهم وحقوقهم؟ أليس جثث المسلمين تتناثر في أفغانستان وفي الفلبين وفي تايلند وفي الهند وفي سوريا وفي فلسطين ولبنان و ... و ... و ... ومع ذلك فلا عين تدمع ولا قلب يحزن، ولا يد تنفق، ولا لسان ينطق، فهل الإسلام والمسلمين على ما يرام؟ أيمة طالما ذلت لقاتلها ... حتى متى تخفضين الرأس للذنب؟ ألا ترين دماء الطهر قد سفكت ... في كل ناحية صوت المنتحب؟ حتى متى تقبلين الضيم خاشعة ... لكل باغ ومأفون ومغتصب؟ (¬1) ؟ إن هناك مؤامرة كبرى ضد الإسلام والمسلمين تنسج خيوطها في الخفاء في بعض الأقطار الإسلامية وتطبق بنودها في وضح النهار في البعض الآخر ولكن الحال كما يقول الشاعر: ماذا أقول ومن سيفقه قولتي ... وإذا صرخت فمن سيسمع صرختي؟ أسفي على صف تمزق شمله ... وغدا مثالا قاتلا ... للفرقة ثالوث شرك في العداء تعانقت ... أقطابه لتبيد دين العزة كل العدى قد جندوا طاقاتهم ... ضد الهدى والنور، ضد الرفعة والعرب سكرى في الصراع كأنما ... لم يعلموا أبدًا خيوط الفتنة (¬2) وحتى الذين يتظاهرون بالإسلام في أغلب الأحيان لا يكون حظ الإسلام منهم سوى الخطب الرنانة والوعود الكاذبة. ¬

_ (¬1) انظر مجلة الأمة العدد الحادي عشر السنة الأولى ذي القعدة 1401هـ ص59 صرخة الأمة شعر عبد الغني أحمد التميمي. (¬2) ديوان شعراء الدعوة الإسلامية ج3 ص80 - 81.

يقول الشاعر: والمدعون هوى الإسلام سيفهم ... مع الأعادي على أبنائه النجب يخادعون به أو يتقون به ... وما له منهم رفد سوى الخطب (¬1) إن نقطة البدء في أية حركة إسلامية صحيحة هي تعرية الواقع الجاهلي الذي تعيشه معظم البلاد الإسلامية وتجريد هذا الواقع من ردائه الزائف، وإظهاره على حقيقته وما يمثله من كفر وشرك وردة ونفاق ووصفه بالوصف الذي يمثل واقعه، حتى ينتبه الناس إلى حقيقة واقعهم وما انتهى إليه أمرهم في شأن الإسلام والمسلمين (¬2). فيوالوا الدول والأفراد على حسب قربهم من الله ويعادونهم على حسب بعدهم عنه. إن واجبنا ليس مجرد إقامة الحجة على الناس بالردة أو الكفر والعصيان، بل الواجب يقضي أن ندعو الأفراد والحكومات إلى التمسك بالصراط المستقيم بعد أن بينا الخطر المحدق بهم في الدنيا والآخرة، عند موالاتهم لأعداء الله ومعاداتهم لأولياء الله. إن الموالاة في الإسلام هي التطبيق العملي لمفهوم الأخوة في الإيمان قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (¬3). وأخوة الإيمان ليست شعارًا مجردًا عن القول والفعل، بل إن الأخوة الحقة تقتضي التناصر والتعاون بين المسلمين لإحقاق الحق وإبطال الباطل ورد المعتدي وإجارة المهضوم، فلا يجوز شرعًا وعقلاً أن يترك المسلم أخاه يكافح وحده قوى الشر والعدوان والظلم والطغيان، وهو ينظر إليه نظر المتفرج الذي لا يعنيه الأمر، إنه لا بد من الوقوف مع المسلم على أي حال كان، فيجب على الأخ المسلم أن ¬

_ (¬1) المصدر السابق ج1 ص84. (¬2) انظر في ظلال القرآن/ سيد قطب م4 ج10 ص215. (¬3) سورة الحجرات آية (10).

يرشد أخاه إذا ضل ويمنعه إن تطاول، ويدافع عنه إذ هوجم، ويقاتل معه إذا اعتدي عليه واستبيح حماه، وذلك هو معنى التناصر الذي فرضه الله ومعنى الموالاة التي أرادها الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منع عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬1). إن خذلان المسلم لأخيه شيء عظيم، وهو إن حدث ذريعة لخذلان المسلمين جميعًا حيث تنتشر عدوى الأنانية وحب الذات، وإيثار الراحة والمصلحة الخاصة على مشاركة الغير آلامهم وآمالهم، فيكثر التنصل من المسئولية بين المسلمين، حتى يقضي عليهم أعداؤهم واحدًا تلو الآخر فتموت فيهم خلال الآباء والشهامة ونجدة الملهوف، وإغاثة المنكوب وسوف يجنح المظلوم والضعيف إلى الأعداء طوعًا أو كرهًا، لما يقع به من ضيم وما يصيبه من خذلان من إخوانه ثم ينزوي بعيدًا عنهم، وتنقطع عرى الأخوة بينه وبين من خذلوه وأسلموه للأعداء. إن كلاً منا يسمع ويرى ما أصاب المسلمين مما تنفطر له الأكباد ويقشعر لهوله الفؤاد، ومع ذلك لم نقدم شيئًا، كل منا يمضي في شأنه ويطلب ملذاته، وكأن الأمر لا يعنيه في قليل أو كثير. إن هذا التخاذل قد جر على المسلمين الذلة والعار والخزي والصغار، وقد حارب الإسلام هذا الاتجاه الخطير حربًا شعواء ولعن من يقبعون في ظلال العزلة والأنانية والمصلحة الخاصة العاجلة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقفنّ أحدكم موقفًا يضرب فيه رجلاً ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه» (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم - انظر نزهة المتقين شرح رياض الصالحين ج1 ص246 رقم الحديث (226). (¬2) رواه الطبراني - انظر حقوق الإنسان/ محمد الغزالي ص62.

إنه يجب على المسلم إذا رأى إساءة نزلت بأخيه أو مهانة لحقت به أو وقعت عليه، أن يريه من نفسه الاستعداد لمناصرته ومظاهرته على ما أصابه، حتى ينال الحق الذي له ويرد وقوع الظلم عليه. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزول الأقدام» (¬1). وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله (¬2) ولا يحقره ... » الحديث (¬3). فمن ترك أخاه يجوع ويعرى ويقتل ويسجن ويمزق بين أيدي الظالمين، وهو قادر على إطعامه وكسوته ودفع أذى الظالمين عنه بطرق متعددة، فماذا يقول عند قدومه على ربه؟ أيقول: إني كنت عن هذا من الغافلين؟: يأيها الناس إن الله يأمركم ... ألا تكونوا لأهل الظلم أعوانًا يا يقوم لا تنصروا من ليس ينصره ... ولا تكونوا لمن عاداه إخوانًا يلقى العدا طاعة منكم ومسكنة ... مهما أرادوا ويلقى الله عصيانا إني أخاف عليكم حادثًا جللا ... لا تملكون له ردًا إذا حانا (¬4) ولكن يجب أن يعلم كل مسلم أنه مهما بلغ مكر أعدائنا بنا ومهما أصابنا ومهما انقطعت أسباب الموالاة بيننا ومهما والى بعض المنتسبين منا أعداءنا، فإن ذلك كله لا يعفينا من مسئوليتنا أمام الله عز وجل، وأمام إخواننا الصامدين على طريق الإسلام، إن الظروف الصعبة المحيطة بنا من ¬

_ (¬1) رواه الأصبهاني - المصدر السابق المكان نفسه. (¬2) قال العلماء الخذل ترك الإعانة والنصرة، ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه، ولم يكن له عذر شرعي في تركه، انظر صحيح مسلم ج4 ص1986 رقم الحديث (2564). (¬3) المصدر السابق المكان نفسه. (¬4) شعراء الدعوة الإسلامية ج4 ص68 - 69.

أعدائنا في الداخل والخارج لا يصح أن تكون المشجب الذي نعلق عليه قصورنا وتخاذلنا عن إخواننا. إن مواجهة الظروف القاسية هي محك الإيمان ومقياس التوحيد قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (¬1). وأريد أن أطمئن الذين يساورهم الشك واليأس في قدرة هذه الأمة على القيام بواجبها، بسب الصور القاتمة والمحزنة التي ذكرناها فيما سلف، أن هذا الوضع رغم بعده عن واقع الإسلام والمسلمين حيث الهوية ضائعة، والذاكرة مفقودة، والأرواح مسلوبة، والثروات منهوبة، والعقول معتقلة، حيث يتسلى الأعداء والعملاء بمناظر المؤمنين والدماء تنزف من أجسامهم الطاهرة، ويتصبر الذين لم يلحقوا بهم بالأمل والرجاء، نجد أن شجرة الإيمان قد سقتها دماء الشهداء، وشعلة الجهاد قد أذكى جذوتها أنين الجرحى، فخرجت من وسط هذه الليل البهيم فئة مؤمنة وطليعة مجاهدة قلبت موازين الأعداء ومخططاتهم رأسًا على عقب، فبعد أن كاد الأعداء أن يعلنوا ويستبشروا بموت هذه الأمة، واستسلامها لهم إذ بهم يفاجئون (¬2) بانبعاث الإيمان من مواضع الركام التي غمروها بتصورات الجاهلية وقوانينها منذ قرن من الزمان، فهذه تركيا تعود إلى الإسلام بعد أن حرمت منه ثلثي قرن من الزمن، وفي المغرب والجزائر وتونس وليبيا قوافل مؤمنة رغم أنف المستعمر وأذنابه، وفي مصر والسودان وسوريا وإيران والأردن والعراق وأندونيسيا وباكستان وغيرها من بلدان الإسلام قوافل مؤمنة رغم جهود الكفار والعملاء. وهذا الأمر ليس مستغربًا في حس المؤمن وشعوره لأن ذلك تصديق لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه من حديث طويل قوله: ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت آية (2، 3). (¬2) لأن الهمزة متوسطة مضمومة وبعدها حرف مد ويمكن وصل ما بعدها بما قبلها. انظر دليل الإملاء تأليف عامر سعيد ص68 مثل يلجئون.

«ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» (¬1). وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة» (¬2). فلم يسع أعداء الإسلام إلا أن يقفوا منكسي الرءوس على ما بذلوه وما أفنوه من مال وجهد وهم يشهدون أصالة هذا الدين وعدم قابليته للفناء وأصالة هذه القلة المؤمنة، في مواجهة الزيف والقهر والظلم والاستبداد ولقد أدرك هؤلاء الأعداء وأذنابهم أن الإسلام هو روح هذه الأمة، وأن أبناء القرآن وأتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن ينسخلوا من دينهم لأنهم يؤمنون بقول الله عز وجل: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (¬3). وقبل أن أودع القارئ الكريم أريد أن أقول أنه لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها، من حب في الله وبغض في الله وموالاة في الله ومعاداة في الله. يا إخوة الدرب نعم الدين آصرة ... للمؤمنين ونعم الحبل أقواه تلك السبيل فلا تنسوا معالمها ... ولتحذروا أن تضلوا إثر من تاهوا منها جنا (الدين) والتوحيد صبغته ... والعدل شرعته الكبرى ومبناه ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه ج4 ص98 (باب الفتن). ورواه ابن ماجه والترمذي. انظر تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد/ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص322. (¬2) رواه أبو داود في سننه ج4 ص98 (باب الفتن). (¬3) سورة الأعراف آية (128).

كم حاول الكيد مسعورًا ليطمسه ... عبر الضلوع فلم يظفر بمسعاه غدا تطل على الدنيا طلائعه ... غلابة ... يا لبشرانا بلقياه (¬1) هذا ما رأيت تدوينه، وما توصل إليه بحثي وعلمي المحدود ولا أعتقد أني بلغت الغاية في ذلك والكمال ولكن حسبي أن أتمثل قول الشاعر: لعمري لقد أنفقت في البحث قوتي ... ولم آل جهدًا في اقتناص العواليا وطفت وفتشت الطروس وليتني ... خلصت كفافًا لا عليا ولا ليا (¬2) وأريد أن أوضح للقارئ الكريم أنني في هذه الرسالة المتواضعة ما قصدت رضا غالب الناس أو ذمهم، بل كل ما أردت هو أن أخطو خطوات في سبيل الله ومرضاته بغض النظر عن موقف الناس من ذلك، فمثلي في ذلك هو قول القائل: قدمت لله ما قدمت من عمل ... وما عليك بهم ذموك أو شكروا (¬3) اللهم اجعلنا من الذين وصفتهم بقولك: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (¬4). اللهم اجعلنا سلما لأوليائك، حربًا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك، اللهم هذا الدعاء منا، وعليك الإجابة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) انظر شعراء الدعوة الإسلامية ج3 ص93 - 94. (¬2) مشاهير علماء نجد/ للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ص3. (¬3) الدرر السنية ج9 ص326. (¬4) سورة الحشر آية (10).

§1/1