المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار

المقريزي

الجزء الاول

الجزء الاول تقديم بسم الله الرّحمن الرّحيم ها نحن أيها القارئ العربي العزيز نضع بين يديك كتابا جليلا من كتب تراثنا العربي ليكون لك عونا في التعرف على ماضي من سبقوا ووضعوا لبنة في بناء الحضارة العالمية، وفي مهد الحضارات وأمّ الدنيا مصر العزيزة. هذا الكتاب، كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار والمعروف بالخطط المقريزية، نسبة لمؤلفه العلامة الجليل تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 845 هـ. والذي يؤرخ فيه لأمّ الدنيا مصر العزيزة خلال الفترة الممتدة من سنة عشرين للهجرة النبوية الشريفة وحتى سنة ست وتسعمائة. مبينا فيه ما للنيل العظيم من أثر في حياة مصر، متعرضا لمناخها وطقسها، مؤرخا للكيفية التي تمّ بها إنشاء كل من مصر والقاهرة. القاهرة التي اختط أساسها القائد جوهر من الطوب النيء، مبتدئا بحارات القاهرة وظواهرها معددا سبعا وثلاثين حارة مبينا كيفية بناءها ومن قام على هذا البناء منطلقا إلى ما لا يطلق عليه اسم حارة أو درب بل يسمّى خطا، وهي كثيرة وكل قليل تتغير أسماؤها وقد أورد ما تيسّر له منها فكانت ثلاثون خطا، مبينا ما كان عليه كل خط وما آل إليه ومن أمر بإنشائه ومن قام على إنشائه وأسباب إنشائه. منتقلا إلى ذكر الدروب والأزقة مبينا أسماءها التي كانت وماذا أصبحت وإلى من تنسب من الأشخاص وما فيها من محال ودكاكين، وكان عددها خمس وستون دربا وثمان أزقة. ثم يعدد الخوخ، والخوخة نافذة في باب كبير وعددها أربع عشرة خوخة. ثم ينتقل إلى الرحاب، والرحبة تعني الموضع الواسع والرحاب كثيرة لا تتغيّر إلّا بأن يبنى فيها وقد ذكر تسع وأربعون رحبة ثم ينتقل إلى ذكر الدور الهامة وعددها ست وخمسون دارا مسمّيا إياها بأسماء أصحابها. ثم ينتقل إلى ذكر الحمامات والقياسر والفنادق والخانات والأسواق والسويقات والحكر أو الأحكار، مترجما لها وللأمراء والسلاطين الذين عملوا على بنائها. ثم ينتقل إلى الخلجان والقناطر والبرك والجسور التي تمّ بناءها لجرّ مياه النيل إلى الحارات والخطط.

ثم يؤرخ للملوك والسلاطين الذين تعاقبوا عليها منذ بناء قلعة الجبل مبتدئا بمن حكم من الأكراد، بدءا بالقائد أبو الحسن جوهر الذي قدم إلى إفريقيا بعساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ في سنة عشرين للهجرة، منتهيا بالملك الأشرف قانصوه الغوري الأشرفي قايتباي سنة ست وتسعمائة. مترجما لحياتهم وكيفية وصولهم إلى السلطة وفتوحاتهم وغزواتهم وما قاموا به من خير أو شر لرعيتهم، وما بنوا وما هدموا وكان عددهم ست وخمسون سلطانا وملكا. ثم انتقل إلى الجوامع ذاكرا بناتها والكيفية التي تمّ عليها البناء وعددها ثمان وثمانون جامعا. ثم ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة وما كان من الأحداث في ذلك. ثم ذكر فرق الخليقة واختلاف عقائدها وتباينها، وفرق أهل الإسلام وانحصار الفرق المتهالكة في عشر طوائف هي: المعتزلة والمشبهة والقدرية والمجبرة والمرجئة والحرورية والبخارية والجهمية والروافض والخوارج، كما ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية. ثم انتقل إلى ذكر المدارس ومن قام على بنائها والأوقاف الموقوفة عليها وما حلّ بها من تبدّل وتغير وعددها ثلاث وسبعون مدرسة. ثم انتقل إلى ذكر المساجد والمارستانات والخوانك والربط والزوايا والمشاهد والمقابر والقرافات ومساجد القرافات والجواسق والمصليّات والمعابد. ثم انتقل إلى ذكر الملل غير الإسلامية الموجودة في مصر والقاهرة وهم اليهود والنصارى وذكر أحوالهم وكنائسهم ودياراتهم وما كان منهم وعليهم وما آلوا إليه من فرق وخلافات فيما بينهم ومع المسلمين. ورغم كل ما يقدمه هذا العالم الجليل يعترف بتقصيره عن إتمام الكمال الذي لا يصله إلّا الله وحده. ويختتم كتابه بحمد الله والاتكال عليه.

[مقدمة المؤلف]

بسم الله الرّحمن الرّحيم [مقدمة المؤلف] الحمد لله الذي عرّف وفهم، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وأسبغ على عباده نعما باطنة وظاهره، ووالى عليهم من مزيد آلائه مننا متظافرة متواترة، وبثهم في أرضه حينا يتقلبون، واستخلفهم في ماله فهم به يتنعمون، وهدى قوما إلى اقتناص شوارد المعارف والعلوم، وشوّقهم للتفنن في مسارح التدبر والركض بميادين الفهوم وأرشد قوما إلى الانقطاع من دون الخلق إليه، ووفقهم للاعتماد في كل أمر عليه وصرف آخرين عن كل مكرمة وفضيلة، وقيض لهم قرناء قادوهم إلى كل ذميمة من الأخلاق ورذيلة، وطبع على قلوب آخرين فلا يكادون يفقهون قولا، وثبطهم عن سبل الخيرات، فما استطاعوا قوّة ولا حولا، ثم حكم على الكل بالفناء ونقلهم جميعا من دار التمحيص والابتلاء إلى برزخ البيود والبلاء، وسيحشرهم أجمعين إلى دار الجزاء ليوفي كل عامل منهم عمله، ويسأله عما أعطاه وخوّله. وعن موفقه بين يديه سبحانه وما أعدّ له لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أحمده سبحانه حمد من علم أنه إله لا يعبد إلا إياه، ولا خالق للخلق سواه حمدا يقتضي المزيد من النعماء، ويوالي المنن بتجدّد الآلاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعبده ورسوله ونبيه وخليله سيد البشر وأفضل من مضى وغبر الجامع لمحاسن الأخلاق والسير، والمستحق لاسم الكمال على الإطلاق من البشر الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين، ورقم اسمه من الأزل في عليين، ثم تنقل من الأصلاب الفاخرة الزكية إلى الأرحام الطاهرة المرضية حتى بعثه الله عزّ وجلّ إلى الخلائق أجمعين، وختم به الأنبياء والمرسلين وأعطاه ما لم يعط أحدا من العالمين وعلى آله وصحابته والتابعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. وبعد، فإنّ علم التاريخ من أجل العلوم قدرا، وأشرفها عند العقلاء مكانة وخطرا، لما يحويه من المواعظ والإنذار بالرحيل إلى الآخرة عن هذه الدار والاطلاع على مكارم الأخلاق ليقتدى بها، واستعلام مذامّ الفعال ليرغب عنها أولو النهي، لا جرم إن كانت الأنفس الفاضلة به وامقة والهمم العالية إليه مائلة وله عاشقة. وقد صنف فيه الأئمة كثيرا، وضمّن الأجلّة كتبهم منه شيئا كبيرا، وكانت مصر هي مسقط رأسي، وملعب أترابي ومجمع ناسي، ومغنى عشيرتي وحامتي، وموطن خاصتي وعامّتي، وجؤجؤي الذي ربى جناحي

في وكره وعش مأربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره لا زلت مذ شذوت العلم وآتاني ربي الفطانة والفهم أرغب في معرفة أخبارها وأحبّ الأشراف على الاغتراف من آبارها، وأهوى مسائلة الركبان عن سكان ديارها فقيدت بخطى في الأعوام الكثيرة، وجمعت من ذلك فوائد قل ما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزتها وغرابتها أهاب إلّا أنها ليست بمرتبة على مثال ولا مهذبة بطريقة ما نسج على منوال، فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية، عن الأمم الماضية والقرون الخالية، وما بقي بفسطاط مصر من المعاهد غير ما كاد يفنيه البلى والقدم ولم يبق إلّا أن يمحو رسمها الفناء والعدم، وأذكر ما بمدينة القاهرة من آثار القصور الزاهرة، وما اشتملت عليه من الخطط والأصقاع، وحوته من المباني البديعة الأوضاع، مع التعريف بحال من أسس ذلك من أعيان الأماثل، والتنويه بذكر الذي شادها من سراة الأعاظم والأفاضل وأنثر خلال ذلك نكتا لطيفة، وحكما بديعة شريفة من غير إطالة ولا إكثار، ولا إجحاف مخل بالغرض ولا اختصار، بل وسط بين الطرفين، وطريق بين بين. فلهذا سميته (كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) ، وإني لأرجو أن يحظى إن شاء الله تعالى عند الملوك ولا ينبو عنه طباع العاميّ والصعلوك ويجله العالم المنتهي، ويعجب به الطالب المبتدي، وترضاه خلائق العابد الناسك، ولا يمجه سمع الخليع الفاتك ويتخذه أهل البطالة والرفاهية سمرا، ويعدّه أولو الرأي والتدبير موعظة وعبرا، يستدلون به على عظيم قدرة الله تعالى في تبديل الأبدال، ويعرفون به عجائب صنع ربنا سبحانه من تنقل الأمور إلى حال بعد حال، فإن كنت أحسنت فيما جمعت وأصبت في الذي صنعت ووضعت، فذلك من عميم منن الله تعالى وجزيل فضله وعظيم أنعمه عليّ، وجليل طوله، وإن أنا أسأت فيما فعلت وأخطأت إذ وضعت فما أجدر الإنسان بالإساءة والعيوب إذا لم يعصمه ويحفظه علام الغيوب: وما أبرّئ نفسي أنني بشر ... أسهو وأخطىء ما لم يحمني قدر ولا ترى عذرا أولى بذي زلل ... من أن يقول مقرّا أنني بشر فليسبل الناظر في هذا التأليف على مؤلفه ذيل ستره إن مرّت به هفوة، وليغض تجاوزا وصفحا إن وقف منه على كبوة، أو نبوة فأيّ جواد وإن عنق ما يكبو، وأيّ عضب مهند لا يكل ولا ينبو لا سيما والخاطر بالأفكار مشغول، والعزم لالتواء الأمور وتعسرها فاتر محلول، والذهن من خطوب هذا الزمن القطوب كليل والقلب لتوالي المحن، وتواتر الإحن عليل: يعاندني دهري كأني عدوّه ... وفي كل يوم بالكريهة يلقاني فإن رمت شيئا جاءني منه ضدّه ... وإن راق لي يوما تكدّر في الثاني

اللهمّ غفرا ما هذا من التبرّم بالقضاء، ولا التضجر بالمقدور، بل إنه سقيم ونفثة مصدور يستروح أن أبدي التوجع والأنين، ويجد خفا من ثقله إذا باح بالشكوى والحنين: ولو نظروا بين الجوانح والحشا ... رأوا من كتاب الحب في كبدي سطرا ولو جرّبوا ما قد لقيت من الهوى ... إذا عذروني أو جعلت لهم عذرا والله أسأل أن يحلي هذا الكتاب بالقبول عند الجلة والعلماء، كما أعوذ به من تطرّق أيدي الحساد إليه والجهلاء، وأن يهديني فيه وفيما سواه من الأقوال والأفعال إلى سواء السبيل، إنه حسبنا ونعم الوكيل وفيه جلّت قدرته لي سلوّ من كل حادث، وعليه عز وجل أتكل في جميع الحوادث، لا إله إلا هو ولا معبود سواه.

ذكر الرءوس الثمانية

ذكر الرءوس الثمانية اعلم أنّ عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب، وهي: الغرض والعنوان والمنفعة، والمرتبة، وصحة الكتاب، ومن أيّ صناعة هو وكم فيه من أجزاء، وأيّ أنحاء التعاليم المستعملة فيه فنقول: (أما الغرض) في هذا التأليف فإنه جمع ما تفرّق من أخبار أرض مصر، وأحوال سكانها كي يلتئم من مجموعها معرفة جمل أخبار إقليم مصر وهي التي إذا حصلت في ذهن إنسان اقتدر على أن يخبر في كل وقت بما كان في أرض مصر من الآثار الباقية والبائدة ويقص أحوال من ابتدأها، ومن حلها وكيف كانت مصائر أمورهم وما يتصل بذلك على سبيل الاتباع لها بحسب ما تحصل به الفائدة الكلية بذلك الأثر. (وأمّا عنوان هذا الكتاب) أعني الذي وسمته به فإني لما فحصت عن أخبار مصر وجدتها مختلطة متفرّقة فلم يتهيأ لي إذ جمعتها أن أجعل وضعها مرتبا على السنين لعدم ضبط وقت كل حادثة لا سيما في الأعصر الخالية، ولا أن أضعها على أسماء الناس لعلل أخر تظهر عند تصفح هذا التأليف فلهذا فرّقتها في ذكر الخطط والآثار، فاحتوى كل فصل منها على ما يلائمه ويشاكله، وصار بهذا الاعتبار قد جمع ما تفرّق وتبدّد من أخبار مصر، ولم أتحاش من تكرار الخبر إذا احتجت إليه بطريقة يستحسنها الأريب، ولا يستهجنها الفطن الأديب كي يستغني مطالع كل فصل بما فيه عما في غيره من الفصول، فلذلك سميته: (كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) . (وأما منفعة هذا الكتاب) فإنّ الأمر فيها يتبين من الغرض في وضعه، ومن عنوانه أعني أنّ منفعته هي أن يشرف المرء في زمن قصير على ما كان في أرض مصر من الحوادث والتغييرات في الأزمنة المتطاولة والأعوام الكثيرة، فتتهذب بتدبر ذلك نفسه وترتاض أخلاقه فيحب الخير ويفعله، ويكره الشرّ ويتجنبه، ويعرف فناء الدنيا فيحظى بالإعراض عنها، والإقبال على ما يبقى. (وأما مرتبة هذا الكتاب) فإنه من جملة أحد قسمي العلم اللذين هما العقليّ والنقليّ، فينبغي أن يتفرّغ لمطالعته وتدبر مواعظه بعد إتقان ما تجب معرفته من العلوم النقلية والعقلية، فإنه يحصل بتدبره لمن أزال الله أكنة قلبه وغشاوة بصره نتيجة العلم بما صار إليه

أبناء جنسه بعد التخوّل في الأموال والجنود من الفناء والبيود، فإذا مرتبته بعد معرفة أقسام العلوم العقلية والنقلية ليعرف منه كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبل. (وأما واضع هذا الكتاب ومرتّبه) فاسمه أحمد بن عليّ بن عبد القادر بن محمد، ويعرف بالمقريزيّ رحمه الله تعالى ولد بالقاهرة المعزية من ديار مصر بعد سنة ستين وسبعمائة من سني الهجرة المحمدية، ورتبته من العلوم ما يدل عليه هذا الكتاب وغيره مما جمعه وألفه. (وأما من أيّ علم هذا الكتاب) فإنه من علم الأخبار وبها عرفت شرائع الله تعالى التي شرعها، وحفظت سنن أنبيائه ورسله، ودوّن هداهم الذي يقتدى به من وفقه الله تعالى إلى عبادته، وهداه إلى طاعته، وحفظه من مخالفته، وبها نقلت أخبار من مضى من الملوك والفراعنة وكيف حل بهم سخط الله تعالى لما أتوا ما نهوا عنه، وبها اقتدر الخليقة من أبناء البشر على معرفة ما دوّنوه من العلوم والصنائع، وتأتي لهم على ما غاب عنهم من الأقطار الشاسعة، والأمصار النائية وغير ذلك مما لا ينكر فضله، ولكل أمّة من أمم العرب والعجم على تباين آرائهم واختلاف عقائدهم أخبار عندهم معروفة مشهورة ذائعة بينهم، ولكل مصر من الأمصار المعمورة حوادث قد مرّت به يعرفها علماء ذلك المصر في كل عصر ولو استقصيت ما صنف علماء العرب والعجم في ذلك لتجاوز حدّ الكثرة، وعجزت القدرة البشرية عن حصره. (وأما أجزاء هذا الكتاب فإنها سبعة) : أولها: يشتمل على جمل من أخبار أرض مصر، وأحوال نيلها وخراجها وجبالها. وثانيها: يشتمل على كثير من مدنها وأجناس أهلها. وثالثها: يشتمل على أخبار فسطاط مصر ومن ملكها. ورابعها: يشتمل على أخبار القاهرة وخلائقها وما كان لهم من الآثار. وخامسها: يشتمل على ذكر ما أدركت عليه القاهرة وظواهرها من الأحوال. وسادسها: يشتمل على ذكر قلعة الجبل وملوكها. وسابعها: يشتمل على ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب إقليم مصر. وقد تضمن كل جزء من هذه الأجزاء السبعة عدّة أقسام. وأما أيّ أنحاء التعاليم التي قصدت في هذا الكتاب، فإني سلكت فيه ثلاثة أنحاء، وهي النقل من الكتب المصنفة في العلوم، والرواية عمن أدركت من شيخه العلم وجلة الناس، والمشاهدة لما عاينته ورأيته. فأما النقل من دواوين العلماء التي صنفوها في أنواع العلوم فإني أعزو كل نقل إلى الكتاب الذي نقلته منه لأخلص من عهدته، وأبرأ من جريرته فكثيرا ممن ضمني وإياه العصر، واشتمل علينا المصر صار لقلة إشرافه على العلوم وقصور

باعه في معرفة علوم التاريخ، وجهل مقالات الناس يهجم بالإنكار على ما لا يعرفه ولو أنصف لعلم أن العجز من قبله وليس ما تضمنه هذا الكتاب من العلم الذي يقطع عليه، ولا يحتاج في الشريعة إليه وحسب العالم أن يعلم ما قيل في ذلك ويقف عليه. وأما الرواية عمن أدركت من الجلة والمشايخ فإني في الغالب والأكثر أصرح باسم من حدّثني إلا أن لا يحتاج إلى تعيينه، أو أكون قد أنسيته وقلّ ما يتفق مثل ذلك. وأمّا ما شاهدته فإني أرجو أن أكون ولله الحمد غير متهم ولا ظنين، وقد قلت في هذه الرءوس الثمانية ما فيه قنع وكفاية، ولم يبق إلا أن أشرع فيما قصدت، وعزمي أن أجعل الكلام في كل خط من الأخطاط وفي كل أثر من الآثار على حدة ليكون العلم بما يشتمل عليه من الأخبار أجمع وأكثر فائدة وأسهل تناولا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وفوق كلّ ذي علم عليم. (فصل) : أوّل من رتب خطط مصر وآثارها، وذكر أسبابها في ديوان جمعه: أبو عمر محمد بن يوسف الكنديّ «1» ، ثم كتب بعده القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ «2» كتابه المنعوت بالمختار في ذكر الخطط والآثار، ومات في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدّة، فدثر أكثر ما ذكر اه. ولم يبق إلا يلمع وموضع بلقع بما حل بمصر من سني الشدّة المستنصرية من سنة سبع وخمسين إلى سنة أربع وستين وأربعمائة من الغلاء والوباء، فمات أهلها وخربت ديارها وتغيرت أحوالها، واستولى الخراب على عمل فوق من الطرفين بجانبي الفسطاط الغربيّ والشرقيّ. فأما الغربيّ فمن قنطرة بني وائل حيث الوراقات الآن قريبا من باب القنطرة خارج مدينة مصر إلى الشرف المعروف الآن بالرصد، وأنت مار إلى القرافة الكبرى. وأما الشرقيّ فمن طرف بركة الحبش التي تلي القرافة إلى نحو جامع أحمد بن طولون، ثم دخل أمير الجيوش بدر الجمالي مصر في سنة ست وستين وأربعمائة، وهذه المواضع خاوية على عروشها خالية من سكانها وأنيسها قد أبادهم الوباء والتباب، وشتتهم الموت والخراب ولم يبق بمصر إلا بقايا من الناس كأنهم أموات قد اصفرّت وجوههم وتغيرت سحنهم من غلاء الأسعار، وكثرة الخوف من العسكرية، وفساد طوائف العبيد والملحية، ولم يجد من يزرع الأراضي. هذا والطرقات قد انقطعت بحرا وبرّا إلا بخفارة وكلفة كثيرة، وصارت القاهرة

أيضا يبابا داثرة، فأباح للناس من العسكرية والملحية والأرض، وكل من وصلت قدرته إلى عمارة أن يعمر ما شاء في القاهرة مما خلا من دور الفسطاط بموت أهلها فأخذ الناس في هدم المساكن ونحوها بمصر، وعمروا بها في القاهرة، وكان هذا أوّل وقت اختط الناس فيه بالقاهرة. ثم كان المنبه بعد القضاعي على الخطط والتعريف بها تلميذه أبو عبد الله محمد بن بركات النحويّ في تأليف لطيف نبه فيه الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي على مواضع قد اغتصبت وتملكت بعد ما كانت أحباسا ثم كتب الشريف محمد بن أسعد الجواني «1» (كتاب النقط بعجم ما أشكل من الخطط) نبه فيه على معالم قد جهلت وآثار قد دثرت، وآخر من كتب في ذلك القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج «2» (كتاب إيعاظ المتأمّل وإيقاظ المتغفل) في الخطط بيّن فيه جملا من أحوال مصر وخططها إلى أعوام بضع وعشرين وسبعمائة قد دثرت بعده معظم ذلك في وباء سنة تسع وأربعين وسبعمائة ثم في وباء سنة إحدى وستين ثم في غلاء سنة ست وسبعين وسبعمائة. وكتب القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد «3» الظاهر (كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة) ففتح فيه بابا كانت الحاجة داعية إليه، ثم تزايدت العمارة من بعده في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون بالقاهرة وظواهرها إلى أن كادت تضيق على أهلها حتى حل بها وباء سنة تسع وأربعين وسنة إحدى وستين ثم غلاء سنة ست وسبعين فخربت بها عدّة أماكن فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمائة شمل الخراب القاهرة ومصر وعامّة الإقليم، وسأورد من ذكر الخطط ما تصل إليه قدرتي إن شاء الله تعالى.

ذكر طرف من هيئة الأفلاك

ذكر طرف من هيئة الأفلاك اعلم أنه لما كانت مصر قطعة من الأرض تعيّن قبل التعريف بموقعها من الأرض وتبيين موضع الأرض من الفلك أن أذكر طرفا من هيئة الأفلاك، ثم أذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها، وأذكر محل مصر من الأرض، وموضعها من الأقاليم وأذكر حدودها واشتقاقها وفضائلها وعجائبها وكنوزها وأخلاق أهلها، وأذكر نيلها وخلجانها وكورها ومبلغ خراجها، وغير ذلك ممّا يتعلق بها قبل الشروع في ذكر خطط مصر والقاهرة فأقول: علم النجوم ثلاثة أقسام: (الأوّل) : معرفة تركيب الأفلاك، وكمية الكواكب، وأقسام البروج، وأبعادها وعظمها وحركتها ويقال لهذا القسم: علم الهيئة. (والقسم الثاني) : علم الزيج، وعلم التقويم. (والقسم الثالث) : معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك وطوالع البروج على الحوادث قبل كونها ويسمى هذا القسم علم الأحكام، والغرض هنا إيراد نبذ من علم الهيئة تكون توطئة لما يأتي ذكره. اعلم أن الكواكب أجسام كريات والذي أدرك منها الحكماء بالرصد ألف كوكب وتسعة وعشرون كوكبا، وهي على قسمين: سيارة، وثابتة. فالسيارة سبعة وهي: زحل، والمشتري، والمرّيخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر، وقد نظمت في بيت واحد وهو: زحل شرى مرّيخه من شمسه ... فتزاهرت بعطارد الأقمار ويقال لهذه السبعة: الخنّس، وقيل: إنها التي عناها الله تعالى بقوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير/ 15] والتي عناها الله تعالى بقوله: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات/ 5] ، وقيل لها: الخنس لاستقامتها في سيرها ورجوعها، وقيل لها: الكنس لأنها تجري في البروج ثم تكنس أي تستتر كما يكنس الظبي، وقيل: الكنس والخنس منها خمسة وهي: ما سوى الشمس والقمر سميت بذلك من الانحناس وهو الانقباض، وفي الحديث: «الشيطان يوسوس للعبد فإذا ذكر الله خنس» أي انقبض ورجع فيكون الخنس على هذا في الكواكب بمعنى الرجوع وسميت بالكنس من قولهم: كنس الظبي إذا دخل الكناس وهو مقرّة فالكنس على هذا في الكواكب بمعنى اختفائها تحت ضوء الشمس ويقال لهذه الكواكب المتحيرة لأنها ترجع أحيانا عن سمت مسيرها بالحركة الشرقية وتتبع الغربية في رأي العين فيكون هذا الارتداد لها شبه التحير، وهذه الأسماء التي لهذه الكواكب يقال: إنها مشتقة من صفاتها.

فزحل مشتق من زحل فلان إذا أبطأ سمي بذلك لبطء سيره، وقيل: للزحل والزحل الحقد، وهو بزعمهم يدل على ذلك ويقال: إنه المراد في قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق/ 1- 3] . والمشتري سمي بذلك لحسنه كأنه اشترى الحسن لنفسه، وقيل: لأنه نجم الشراء والبيع، ودليل الريح والمال في قولهم. والمرّيخ مأخوذ من المرخ وهو شجر يحتك بعض أغصانه ببعض فيوري نارا سمي بذلك لاحمراره، وقيل: المرّيخ سهم لا ريش له إذا رمي به لا يستوي في ممرّه، وكذا المرّيخ فيه التواء كثير في سيره ودلالته بزعمهم تشبه ذلك، والشمس لما كانت واسطة بين ثلاثة كواكب علوية لأنهم من فوقها، وثلاثة سفلية لأنهم من تحتها سميت بذلك لأنّ الواسطة التي في المخنقة تسمى شمسة، والزهرة من الزاهر وهو الأبيض النير من كل شيء، وعطارد هو النافذ في كل الأمور ولذلك يقال له أيضا الكاتب فإنه كثير التصرّف مع ما يقارنه ويلابسه من الكواكب، والقمر مأخوذ من القمرة وهي البياض والأقمر الأبيض. ويقال لزحل كيوان، وللمشتري تبر والبرجيس أيضا، وللمرّيخ بهرام، وللشمس مهر، وللزهرة أياهيد وسدحت أيضا، ولعطارد هرمس، وللقمر ماه، وقد جمعت في بيت واحد وهو هذا: لا زلت تبقى وترقى للعلى أبدا ... ما دام للسبعة الأفلاك أحكام مهر وماه وكيوان وتبر معا ... وهرمس وأياهيد وبهرام ويقال: لما عدا هذه الكواكب السبعة من بقية نجوم السماء الكواكب الثابتة. سميت بذلك لثباتها في الفلك بموضع واحد، وقيل: لبطء حركتها فإنها تقطع الفلك بزعمهم بعد كل ستة وثلاثين ألف سنة شمسية مرّة واحدة. ولكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة فلك من الأفلاك يخصه، والأفلاك أجسام كريات مشقات بعضها في جوف بعض وهي تسعة أقربها إلينا فلك القمر، وبعده فلك عطارد، ثم بعده فلك الزهرة، وبعده فلك الشمس، وفوقه فلك المريخ، ثم فلك المشتري، وفوقه فلك زحل، ثم فلك الثوابت وفيه كل كوكب يرى في السماء سوى السبعة السيارة، ومن فوق فلك الثوابت الفلك المحيط وهو الفلك التاسع، ويسمى الأطلس، وفلك الأفلاك، وفلك الكل، وقد اختلف في الأفلاك فقيل: هي السماوات، وقيل: بل السماوات غيرها، وقيل: بل هي كرية، وقيل غير ذلك. وقيل: الفلك الثامن هو الكرسي، والفلك التاسع هو العرش، وقيل غير ذلك. وهذا الفلك التاسع دائم الدوران كالدولاب ويدور في كل أربعة وعشرين ساعة مستوية دورة واحدة، ودورانه يكون أبدا من المشرق إلى المغرب، ويدور بدورانه جميع الأفلاك الثمانية وما حوته من الكواكب دورانا حركته قسرية لإدارة

التاسع لها وعن حركة التاسع المذكور يكون الليل والنهار فالنهار مدّة بقاء الشمس فوق أفق الأرض والليل مدّة غيبوبة الشمس تحت أفق الأرض، وفلك الكواكب الثابتة مقسوم باثني عشر قسما كحجز البطيخة كل قسم منها يقال له: برج وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. وكل برج من هذه البروج الاثني عشر ينقسم ثلاثين قسما يقال: لكل قسم منها درجة، وكل درجة من هذه الثلاثين مقسومة ستين قسما يقال لكل قسم منها دقيقة وكل دقيقة من هذه الستين مقسومة ستين قسما يقال لكل قسم منها ثانية وهكذا إلى الثوالث والروابع والخوامس إلى الثواني عشر وما فوقها من الأجزاء وكل ثلاثة بروج تسمى فصلا. فالزمان على ذلك أربعة فصول: وهي الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. وجهات الأقطار أربعة: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب. والأركان أربعة: النار، والهواء، والماء، والتراب. والطبائع أربعة: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة. والأخلاط أربعة: الصفراء، والسوداء، والبلغم، والدم. والرياح أربعة: الصبا، والدبور، والشمال، والجنوب. فالبروج منها ثلاثة ربيعية صاعدة في الشمال زائدة النهار على الليل وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، وثلاثة صيفية هابطة في الشمال آخذة الليل من النهار وهي: السرطان، والأسد، والسنبلة، وثلاثة خريفية هابطة في الجنوب زائدة الليل على النهار وهي: الميزان، والعقرب، والقوس، وثلاثة شتوية صاعدة في الجنوب آخذة النهار من الليل وهي: الجدي، والدلو، والحوت، والفلك المحيط كما تقدم دائم الدوران كالدولاب يدور أبدا من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحتها فيكون دائما نصف الفلك، وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة فوق الأرض ونصفه الآخر وهو ستة بروج بمائة وثمانين درجة تحت الأرض، وكلما طلعت من أفق المشرق درجة من درجات الفلك التي عدّتها ثلثمائة وستون درجة غرب نظيرها في أفق المغرب من البرج السابع فلا يزال دائما ستة بروج طلوعها بالنهار، وستة بروج طلوعها بالليل، والأفق عبارة عن الحدّ الفاصل من الأرض بين المرئيّ والخفيّ من السماء، والفلك يدور على قطبين شماليّ وجنوبيّ كما يدور الحق على قطبي المخروطة، ويقسم الفلك خط من دائرة تقسمه نصفين متساويين بعدهما من كلا القطبين سواء، وتسمى هذه الدائرة دائرة معدّل النهار فهي تقاطع فلك البروج ودائرة فلك البروج تقاطع دائرة معدّل النهار، ويميل نصفها إلى الجانب الشمالي بقدر أربع وعشرين درجة تقريبا وهذا النصف فيه قسمة البروج الستة الشمالية وهي من أوّل الحمل إلى آخر السنبلة ويميل نصفها الثاني عنها إلى الجنوب بمثل ذلك وفيه قسمة البروج الستة الجنوبية. وهي من أوّل برج الميزان إلى آخر برج الحوت، وموضع تقاطع هاتين الدائرتين أعني دائرة معدّل النهار، ودائرة فلك البروج من الجانبين هما: نقطتا الاعتدالين أعني رأس الحمل

ورأس الميزان، ومدار الشمس والقمر، وسائر النجوم على محاذاة دائرة فلك البروج دون دائرة معدّل النهار وتمرّ الشمس على دائرة معدّل النهار عند حلولها بنقطتي الاعتدالين فقط لأنها موضع تقاطع الدائرتين، وهذا هو خط الاستواء الذي لا يختلف فيه الزمان بزيادة الليل على النهار ولا النهار على الليل. لأنّ ميل الشمس عنه إلى كلا الجانبين الشماليّ والجنوبيّ سواء فالشمس تدور الفلك وتقطع الاثني عشر برجا في مدّة ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم بالتقريب. وهذه هي: مدّة السنة الشمسية وتقيم في كل برج ثلاثين يوما وكسرا من يوم، وتكون أبدا بالنهار ظاهرة فوق الأرض، وبالليل بخلاف ذلك وإذا حلت في البروج الستة الشمالية التي هي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة فإنها تكون مرتفعة في الهواء قريبة من سمت رؤوسنا وذلك زمن فصل الربيع وفصل الصيف، وإذا حلت في البروج الجنوبية وهي: الميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، كان فصل الخريف وفصل الشتاء، وانحطت الشمس وبعدت عن سمت الرءوس. وزعم وهب بن منبه أن أوّل ما خلق الله تعالى من الأزمنة الأربعة الشتاء فجعله باردا رطبا، وخلق الربيع فجعله حارا رطبا، وخلق الصيف فجعله حارا يابسا، وخلق الخريف فجعله باردا يابسا، وأوّل الفصول عند أهل زماننا الربيع ويكون فصل الربيع عندما تنتقل الشمس من برج الحوت، وقد اختلف القدماء في البداية من الفصول فمنهم من اختار فصل الربيع وصيّره أوّل السنة، ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الصيفيّ، ومنهم من اختار تقديم الاعتدال الخريفيّ، ومنهم من اختار تقديم الانقلاب الشتويّ، فإذا حلت أوّل جزء من برج الحمل استوى الليل والنهار واعتدل الزمان وانصرف الشتاء ودخل الربيع، وطاب الهواء، وهبّ النسيم، وذاب الثلج، وسالت الأودية، ومدّت الأنهار فيما عدا مصر، ونبت العشب، وطال الزرع، ونما الحشيش وتلألأ الزهر وأوراق الشجر، وتفتح النور، واخضرّ وجه الأرض ونتجت البهائم، ودرت الضروع، وأخرجت الأرض زخرفها، وازينت وصارت كصبية شابة قد تزينت للناظرين ولله درّ القائل، وهو الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد اليعمريّ رحمه الله تعالى: واستنشقوا لهوا الربيع فإنه ... نعم النسيم وعنده ألطاف يغذي الجسوم نسيمه وكأنه ... روح حواها جوهر شفاف وقال ابن قتيبة: ومن ذلك الربيع يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه النور، والورد، ولا يعرفون الربيع غيره، والعرب تختلف في ذلك فمنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف وفصل الشتاء بعده ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامّة الربيع ثم فصل القيظ وهو الذي تدعوه العامّة الصيف، ومن العرب من يسمي الفصل الذي يعتدل وتدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأوّل، ويسمى الفصل الذي يتلوه الشتاء ويأتي فيه الكمام والنور الربيع الثاني وكلهم مجتمعون على

أن الربيع هو الخريف فإذا حلت الشمس آخر برج الجوزاء، وأوّل برج السرطان تناهي طول النهار، وقصر الليل وابتدأ نقص النهار وزيادة الليل وانصرم فصل الربيع، ودخل فصل الصيف، واشتدّ الحرّ، وحمى الهواء، وهبت السمائم، ونقصت المياه إلا بمصر، ويبس العشب، واستحكم الحب، وأدرك حصاد الغلال، ونضجت الثمار، وسمنت البهائم، واشتدّت قوّة الأبدان، ودرت أخلاف النعم، وصارت الأرض كأنها عروس فإذا بلغت آخر برج السنبلة وأوّل برج الميزان تساوى الليل والنهار مرّة ثانية وأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقصان وانصرم فصل الصيف ودخل فصل الخريف فبرد الهواء، وهبت الرياح، وتغير الزمان، وجفت الأنهار، وغارت العيون، واصفرّ ورق الشجر، وصرّمت الثمار، ودرست البيادر، واختزن الحبّ، واقتنى العشب، واغبرّ وجه الأرض إلا بمصر، وهزلت البهائم، وماتت الهوامّ، وانحجرت الحشرات، وانصرف الطير والوحش يريد البلاد الدافئة، وأخذ الناس يخزنون القوت للشتاء وصارت الدنيا كأنها امرأة كهلة قد أدبرت وأخذ شبابها يولي ولله درّ القائل وهو الإمام عز الدين أبو الحسن أحمد بن عليّ ابن معقل الأزديّ المهلبيّ الحمصيّ حيث يقول: لله فصل الخريف المستلذ به ... برد الهواء لقد أبدى لنا عجبا أهدى إلى الأرض من أوراقه ذهبا ... والأرض من شأنها أن تهدي الذهبا وقال أيضا: لله فصل الخريف فصلا ... رقت حواشيه فهو رائق فالماء يجري بقلب سال ... والدمع يبدو بوجه عاشق فبرد هذا ولون هذا ... يلذه ذائق ووامق وقال أيضا: أتى فصل الخريف بكل طيب ... وحسن معجب قلبا وعينا أرانا الدوح مصفرّا نضارا ... وصافي الماء مبيضا لجينا فأحسن كلّ إحسان إلينا ... وأنعم كلّ إنعام علينا وقال آخر يذم الخريف: خذ في التدثر في الخريف فإنه ... مستو بل ونسيمه خطاف يجري مع الأجسام جري حياتها ... كصديقا ومن الصديق يخاف وقال آخر: يا عائبا فصل الخريف وغائبا ... عن فضله في ذمه لزمانه لا شيء ألطف منه عندي موقعا ... أبدا يعرّي الغصن من قمصانه

ذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها

وتراه يفرش تحته أثوابه ... فأعجب لرأفته وفرط حنانه وألذ ساعات الوصال إذا دنا ... وقت الرحيل وحان حين أوانه فإذا حلّت الشمس آخر برج القوس وأوّل برج الجدي تناهى طول الليل وقصر النهار، وأخذ النهار في الزيادة والليل في النقصان، وانصرم فصل الخريف، وحلّ فصل الشتاء، واشتدّ البرد، وخشن الهواء، وتساقط ورق الشجر، ومات أكثر النبات، وغارت الحيوانات، في جوف الأرض وضعف قوى الأبدان وعري وجه الأرض من الزينة، ونشأت الغيوم وكثرت الأنداء، وأظلم الجوّ وكلح وجه الأرض إلا بمصر، وامتنع الناس من التصرّف، وصارت الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت. فإذا بلغت آخر برج الحوت وأوّل برج الحمل عاد الزمان كما كان عام أوّل وهذا دأبه ذلك تقدير العزيز العليم وتدبير الخبير الحكيم لا إله إلّا هو. وقد شبه بطليموس فصل الربيع بزمان الطفولية، وفصل الصيف بالشباب، والخريف بالكهولة، والشتاء بالشيخوخة، وعن حركة الشمس وتنقلها في البروج الاثني عشر المذكورة تكون أزمان السنة وأوقات اليوم من الليل والنهار وساعاتهما، وعن حركة القمر في البروج الاثني عشر تكون الشهور القمرية والسنة القمرية، فالقمر يدور البروج الاثني عشر ويقطع الفلك كله في مدّة ثمانية وعشرين يوما وبعض يوم، ويقيم في كل برج يومين وثلث يوم بالتقريب، ويقيم في كلّ منزلة من منازل القمر الثمانية والعشرين منزلة يوما وليلة، فيظهر عند إهلاله من ناحية الغرب بعد غروب جرم الشمس، ويزيد نوره في كل ليلة قدر نصف سبع حتى يكمل نوره، ويمتلئ في ليلة الرابع عشر من إهلاله، ثم يأخذ من الليلة الخامسة عشر في النقصان فينقص من نوره في كلّ ليلة نصف سبع كما بدا إلى أن يمحق نوره في آخر الثمانية وعشرين يوما من إهلاله ويمرّ في هذه المدّة منذ يفارق الشمس، ويبدو في ناحية الغرب، ويستمرّ إلى أن يجامعها بثمانية وعشرين منزلة وهي: السرطان «1» ، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدّم، والفرغ المؤخر، وبطن الحوت. ولحساب ذلك كتب موضوعة وفيما ذكر كفاية والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ذكر صورة الأرض وموضع الأقاليم منها ولما تقدّم في الأفلاك من القول ما يتبين به لمن ألهمه الله تعالى كيف تكون الحركة التي بها الليل والنهار، وتركب الشهور والأعوام منهما جاز حينئذ الكلام على الأرض.

فأقول: الجهات من حيث هي ست: الشرق وهو حيث تطلع الشمس. والقمر، وسائر الكواكب في كل قطر من الأفق، والغرب وهو حيث تغرب، والشمال وهو حيث مدار الجدي والفرقدين، والجنوب وهو حيث مدار سهيل، والفوق وهو مما يلي السماء، والتحت وهو مما يلي مركز الأرض. والأرض جسم مستدير كالكرة، وقيل: ليست بكرية الشكل وهي واقفة في الهواء بجميع جبالها وبحارها وعامرها وغامرها، والهواء محيط بها من جميع جهاتها كالمحّ في جوف البيضة وبعدها من السماء متساو من جميع الجهات وأسفل الأرض ما تحقيقه هو عمق باطنها مما يلي مركزها من أيّ جانب كان. ذهب الجمهور إلى أن الأرض كالكرة موضوعة في جوف الفلك كالمح في البيضة، وأنها في الوسط وبعدها في الفلك من جميع الجهات على التساوي. وزعم هشام بن الحكم: أن تحت الأرض جسما من شأنه الارتفاع وهو المانع للأرض من الانحدار، وهو ليس محتاجا إلى ما بعده، لأنه ليس يطلب الانحدار بل الارتفاع، وقال: إن الله تعالى وقفها بلاد عماد. وقال ديمقراطس: أنها تقوم على الماء، وقد حصر الماء تحتها حتى لا يجد مخرجا فيضطرّ إلى الانتقال، وقال آخر: هي واقفة على الوسط على مقدار واحد من كلّ جانب والفلك يجذبها من كل وجه فلذلك لا تميل إلى ناحية من الفلك دون ناحية، لأنّ قوة الأجزاء متكافئة، وذلك كحجر المغناطيس في جذبه الحديد فإنّ الفلك بالطبع مغناطيس الأرض، فهو يجذبها فهي واقفة في الوسط، وسبب وقوفها في الوسط سرعة تدوير الفلك ودفعه إياها من كل جهة إلى الوسط. كما إذا وضعت ترابا في قارورة وأدرتها بقوّة فإنّ التراب يقوم في الوسط. وقال محمد بن أحمد الخوارزمي «1» : الأرض في وسط السماء، والوسط هو السفلى بالحقيقة، وهي مدوّرة مضرسة من جهة الجبال البارزة والوهاد الغائرة، وذلك لا يخرجها عن الكرية إذا اعتبرت جملتها لأنّ مقادير الجبال وإن شمخت يسيرة بالقياس إلى كرة الأرض، فإن الكرة التي قطرها ذراع، أو ذراعان مثلا إذا أنتأ منها شيء أو غار فيها لا يخرجها عن الكرية، ولا هذه التضاريس لإحاطة الماء بها من جميع جوانبها وغمرها، بحيث لا يظهر منها شيء. فحينئذ تبطل الحكمة المؤدّية المودعة في المعادن، والنبات والحيوان، فسبحان من لا يعلم أسرار حكمه إلا هو. وأما سطحها الظاهر المماس للهواء من جميع

الجهات فإنه فوق، والهواء فوق الأرض يحيط بها ويجذبها من سائر الجهات، وفوق الهواء الأفلاك المذكورة فيما تقدّم واحدا فوق آخر إلى الفلك التاسع الذي هو أعلى الأفلاك، ونهاية المخلوقات بأسرها، وقد اختلف فيما وراء ذلك فقيل: خلا. وقيل: ملاء، وقيل: لا خلاء ولا ملاء وكل موضع يقف فيه الإنسان من سطح الأرض فإنّ رأسه أبدا يكون مما يلي السماء إلى فوق، ورجلاه أبدا تكون أسفل مما يلي مركز الأرض، وهو دائما يرى من السماء: نصفها ويستر عنه النصف الآخر حدبة الأرض، وكلما انتقل من موضع إلى آخر ظهر له من السماء بقدر ما خفي عنه. والأرض غامرة بالماء كعنبة طافية فوق الماء قد انحسر عنها نحو النصف، وانغمر النصف الآخر في الأرض، وصار المنكشف من الأرض نصفين، كأنما قسم بخط مسامت لخط معدّل النهار يمرّ تحت دائرته، وجميع البلاد التي على هذا الخط، لا عرض لها البتة، والقطبان غير مرتبين فيها، ويكونان هناك على دائرة الأفق من الجانبين. وكلما بعد موضع بلد عن هذا الخط إلى ناحية الشمال قدر درجة ارتفع القطب الشماليّ الذي هو: الجدي على أهل ذلك البلد درجة، وانخفض القطب الجنوبيّ الذي هو: سهيل درجة، وهكذا ما زاد ويكون الأمر فيما بعد من البلاد الواقعة في ناحية الجنوب كذلك من ارتفاع القطب الجنوبيّ، وانحطاط القطب الشماليّ، وبهذا عرف عرض البلدان، وصار عرض البلد عبارة عن ميل دائرة معدّل النهار عن سمت رؤوس أهله، وارتفاع القطب عليهم، وهو أيضا بعد ما بين سمت رؤوس أهل ذلك البلد، وسمت رؤوس أهل بلد لا عرض له، فأمّا ما انكشف من الأرض مما يلي الجنوب من خط الاستواء، فإنه خراب، والنصف الآخر الذي يلي الشمال من خط الاستواء، فهو الربع العامر، وهو المسكون من الأرض، وخط الاستواء لا وجود له في الخارج، وإنما هو فرض بوهمنا أنه خط ابتداؤه من المشرق إلى المغرب تحت مدار رأس الحمل، وسمي بذلك من أجل أنّ النهار، والليل هناك أبدا سواء لا يزيد ولا ينقص أحدهما عن الآخر شيئا البتة في سائر أوقات السنة كلها، ونقطتا هذا الخط ملازمتان للأفق إحداهما على مدار سهيل في ناحية الجنوب، والأخرى مما يلي الجدي في ناحية الشمال. والعمارة من المشرق إلى المغرب مائة وثمانون درجة من الجنوب إلى الشمال من خط أريس إلى بنات نعش: ثمان وأربعون درجة، وهو مقدار ميل الشمس مرّتين، وخلف خط أريس، وهو مقدار: ستة عشر درجة، وجملة معمور الأرض نحو من: سبعين درجة لاعتدال مسير الشمس في هذا الوسط، ومرورها على ما وراء الحمل والميزان مرّتين في السنة، وأما الشمال والجنوب، فالشمس لا تحاذيهما إلّا مرّة واحدة، ولأنّ أوج الشمس مرّتين في جهة الشمال، كانت العمارة فيه لارتفاعها وانتفاء ضرر قربها عن ساكنيه، ولأن

حضيضها في الجنوب، عدمت العمارة هنالك. وقد اختلف الناس في مسافة الأرض، فقيل: مسافتها خمسمائة عام ثلث عمران، وثلث خراب، وثلث بحار، وقيل: المعمور من الأرض مائة وعشرون سنة: تسعون ليأجوج ومأجوج، واثنا عشر: للسودان، وثمانية للروم، وثلاثة للعرب، وسبعة لسائر الأمم. وقيل: الدنيا سبعة أجزاء: ستة ليأجوج ومأجوج، وواحد لسائر الناس، وقيل: الأرض خمسمائة عام: البحار ثلثمائة، ومائة خراب، ومائة عمران، وقيل: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ: للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، ولفارس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. وعن وهب بن منبه: ما العمارة من الدنيا في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء. وقال أزدشير بن بابك: الأرض أربعة أجزاء: جزء منها للترك، وجزء للعرب، وجزء للفرس، وجزء للسودان، وقيل: الأقاليم سبعة: والأطراف أربعة، والنواحي خمسة وأربعون، والمدائن عشرة آلاف، والرساتيق مائتا ألف وستة وخمسون ألفا، وقيل: المدن والحصون أحد وعشرون ألفا وستمائة مدينة وحصن، ففي الإقليم الأوّل ثلاثة آلاف ومائة مدينة كبيرة، وفي الثاني ألفان وسبعمائة وثلاثة عشر مدينة وقرية كبيرة، وفي الثالث ثلاثة آلاف وتسع وسبعون مدينة وقرية، وفي الرابع وهو بابل ألفان وتسعمائة وأربع وسبعون مدينة، وفي الخامس ثلاثة آلاف مدينة وست مدائن، وفي السادس ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان مدن، وفي السابع ثلاثة آلاف وثلاثمائة مدينة في الجزائر. وقال الخوارزميّ: قطر الأرض سبعة آلاف فرسخ، وهو نصف سدس الأرض والجبال والمفاوز والبحار، والباقي خراب يباب لا نبات فيه ولا حيوان، وقيل: المعمور من الأرض مثل: طائر، رأسه الصين، والجناح الأيمن الهند والسند، والجناح الأيسر الخزر، وصدره مكة والعراق والشام ومصر، وذنبه الغرب، وقيل: قطر الأرض سبعة آلاف وأربعمائة وأربعة عشر ميلا ودورها عشرون ألف ميل وأربعمائة ميل، وذلك جميع ما أحاطت به من برّ وبحر. وقال أبو زيد أحمد بن سهل البلخيّ «1» : طول الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب نحو أربعمائة مرحلة، وعرضها من حيث العمران الذي من جهة الشمال، وهو مساكن يأجوج ومأجوج إلى حيث العمران الذي من جهة الجنوب، وهو مساكن السودان

مائتان وعشرون مرحلة وما بين براري يأجوج ومأجوج إلى البحر المحيط في الشمال، وما بين براري السودان، والبحر المحيط في الجنوب خراب ليس فيه عمارة، ويقال: إن مسافة ذلك: خمسة آلاف فرسخ، وهذه أقوال لا دليل على صدقها. والطريق في معرفة مساحة الأرض أنّا لو سرنا على خط نصف النهار من الجنوب إلى الشمال بقدر ميل دائرة معدّل النهار عن سمت رؤوسنا إلى الجنوب درجة من درج الفلك التي هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا، وارتفع القطب علينا درجة نظير تلك الدرجة فإنا نعلم أنا قد قطعنا من محيط جرم الأرض جزءا من ثلاثمائة وستين جزءا، وهو نظير ذلك الجزء من الفلك، فلو قسنا من ابتداء مسيرنا إلى انتهاء مكاننا الذي وصلنا إليه حيث ارتفع القطب علينا درجة، فإنا نجد حقيقة الدرجة الواحدة من الفلك قد قطعت من الأرض ستة وخمسين ميلا، وثلثي ميل عنها خمسة وعشرون فرسخا فإذا ضربنا حصة الدرجة الواحدة، وهو ما ذكر من الأميال في ثلاثمائة وستين خرج من الضرب عشرون ألفا، وأربعمائة ميل، وذلك مساحة دور الأرض فإذا قسمنا هذه الأميال التي هي مساحة دور الأرض على ثلاثة وسبع خرج من القسمة ستة آلاف وأربعمائة، وأربعون ميلا، وهي مساحة قطر الأرض، فلو ضربنا هذا القطر في مبلغ دور الأرض، لبلغت مساحة بسط الأرض بالتكسير مائة ألف ألف واثنين وثلاثين ألف ألف وستمائة ألف ميل بالتقريب. فعلى هذا مساحة ربع الأرض المسكون بالتكسير ثلاثة وثلاثون ألف ألف ميل ومائة وخمسون ألف ميل، وعرض المسكون من هذا الربع بقدر بعد مدار السرطان عن القطب، وهو خمسة وخمسون جزءا وسدس جزء، وهذا هو سدس الأرض وانتهاؤه إلى جزيرة تولي في برطانية، وهي آخر المعمور من الشمال، وهو من الأميال ثلاثة آلاف وسبعمائة وأربعة وستون ميلا، فإذا ضربنا هذا السدس الذي هو مساحة عرض الأرض في النصف، وهو مقدار الطول، كان المعمور من الشمال قدر نصف سدس الأرض. وأما الطول فإنه يقل لتضايق أقسام كرة الأرض، ومقداره مثل خمس الدور، وهو بالتقريب أربعة آلاف وثمانون ميلا، وفي الربع المسكون من الأرض: سبعة أبحر كبار، وفي كل بحر منها عدة جزائر، وفيه خمسة عشر بحيرة منها ملح وعذب، وفيه مائتا جبل طوال، ومائتا نهر، وأربعون نهرا طوالا، ويشتمل على سبعة أقاليم تحتوي على سبعة عشر ألف مدينة كبيرة. وقال في كتاب هروشيوس: لما استقامت طاعة بوليس الملقب قيصر الملك في عامّة الدنيا، تخير أربعة من الفلاسفة سماهم، فأمرهم أن يأخذوا له وصف خدود الدنيا، وعدّة بحارها، وكورها أرباعا فولّى أحدهم أخذ وصف جزء المشرق، وولى آخر أخذ وصف جزء المغرب، وولى الثالث أخذ وصف جزء الشمال. وولى الرابع أخذ وصف جزء الجنوب، فتمت كتابة الجميع على أيديهم في نحو من ثلاثين سنة، فكانت جملة البحار المسماة في الدنيا تسعة وعشرين بحرا قد سمّوها: منها بجزء الشرق ثمانية، وبجزء الغرب ثمانية،

وبجزء الشمال أحد عشر، وبجزء الجنوب اثنان، وعدّة الجزائر المعروفة الأمهات: إحدى وسبعون جزيرة منها: في الشرق ثمان، وفي الغرب ست عشرة، وفي جهة الشمال إحدى وثلاثون، وفي جهة الجنوب ست عشرة. وعدّة الجبال الكبار المعروفة في جميع الدنيا ستة وثلاثون وهي أمّهات الجبال وقد سموها فيما فسروه منها: في جهة الشرق سبعة، وفي جهة المغرب خمسة عشر، وفي الشمال اثنا عشر، وفي الجنوب اثنان، والبلدان الكبار ثلاثة وستون منها: في المشرق سبعة، وفي المغرب خمسة وعشرون، وفي الشمال تسعة عشر، وفي الجنوب اثنا عشر. وقد سموها، والكور الكبار المعروفة تسع ومائتان منها: في المشرق خمس وسبعون، وفي المغرب ست وستون، وفي الشمال ست، وفي الجنوب اثنان وستون. والأنهار الكبار المعروفة في جميع الدنيا ستة وخمسون منها: لجزء الشرق سبعة عشر، ولجزء الغرب ثلاثة عشر، ولجزء الشمال تسعة عشر، ولجزء الجنوب سبعة. والأقاليم السبعة كل إقليم منها كأنه بساط مفروش قد مدّ طوله من الشرق إلى الغرب، وعرضه من الشمال إلى الجنوب وهذه الأقاليم مختلفة الطول والعرض. فالإقليم الأوّل منها يمرّ وسطه بالمواضع التي طول نهار الأطول ثلاثة عشر ساعة والسابع منها يمرّ وسطه بالمواضع التي طول نهارها الأطول ست عشر ساعة لأنّ ما حاذى حدّ الإقليم الأوّل إلى نحو الجنوب يشتمل عليه البحر ولا عمارة فيه وما حاذى الإقليم السابع إلى الشمال لا يعلم فيه عمارة فجعل طول الأقاليم السبعة من الشرق إلى الغرب مسافة اثنتي عشرة ساعة من دور الفلك وصارت عروضها تتفاضل نصف ساعة من ساعات النهار الأطول فأطولها وأعرضها الإقليم الأوّل وطوله من المشرق إلى المغرب نحو ثلاثة آلاف فرسخ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب مائة وخمسون فرسخا. وأقصرها طولا وعرضا الإقليم السابع وطوله من الشرق إلى الغرب ألف وخمسمائة فرسخ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب نحو من سبعين فرسخا، وبقية الأقاليم الخمسة فيما بين ذلك، وهذه الأقاليم خطوط متوهمة لا وجود لها في الخارج وضعها القدماء الذين جالوا في الأرض ليقفوا على حقيقة حدودها، ويتيقنوا مواضع البلدان منها، ويعرفوا طرق مسالكها هذا حال الربع المسكون، وأما الثلاثة الأرباع الباقية فإنها خراب، فجهة الشمال واقعة تحت مدار الجدي قد أفرط هناك البرد، وصارت ستة أشهر ليلا مستمرّا، وهي مدّة الشتاء عندهم لا يعرف فيها نهار، ويظلم الهواء ظلمة شديدة، وتجمد المياه لقوّة البرد، فلا يكون هناك نبات ولا حيوان، ويقابل هذه الجهة الشمالية ناحية الجنوب حيث مدار سهيل، فيكون النهار ستة أشهر بغير ليل، وهي مدّة الصيف عندهم، فيحمي الهواء ويصير سموما محرقا يهلك بشدّة حرّه الحيوان والنبات، فلا يمكن سلوكه ولا السكنى فيه، وأما ناحية الغرب، فيمنع البحر المحيط من السلوك فيه لتلاطم أمواجه وشدّة ظلماته وناحية الشرق تمنع من سلوكها الجبال الشامخة، وصار الناس أجمعهم قد انحصروا في الربع المسكون من

الأرض ولا علم لأحد منهم بالأرض أي بالثلاثة الأرباع الباقية، والأرض كلها بجميع ما عليها من الجبال، والبحار نسبتها إلى الفلك كنقطة في دائرة، وقد اعتبرت حدود الأقاليم السبعة بساعات النهار، وذلك أن الشمس إذا حلت برأس الحمل، تساوى طول النهار والليل في سائر الأقاليم كلها، فإذا انتقلت في درجات برج الحمل والثور والجوزاء اختلفت ساعات نهار كل إقليم، فإذا بلغت آخر الجوزاء وأوّل برج السرطان، بلغ طول النهار في وسط الإقليم الأوّل ثلاث عشرة ساعة سواء، وصارت في وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة، وصارت في وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الرابع أربع عشرة ساعة ونصف ساعة، وفي وسط الإقليم الخامس خمس عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم السادس خمس عشرة ساعة ونصف ساعة، وفي وسط الإقليم السابع ست عشرة ساعة سواء، وما زاد على ذلك إلى عرض تسعين درجة يصير نهارا كلّه. ومعنى طول البلد: هو بعدها من أقصى العمارة في الغرب، وعرضها هو بعدها عن خط الاستواء، وخط الاستواء كما تقدّم هو الموضع الذي يكون فيه الليل والنهار طول الزمان سواء، فكل بلد على هذا الخط لا عرض له، وكل بلد في أقصى الغرب لا طول له، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، مائة وثمانون درجة، وكل بلد يكون طوله تسعين درجة، فإنه في وسط ما بين الشرق والغرب، وكل بلد كان طوله أقل من تسعين درجة فإنه أقرب إلى الغرب وأبعد من الشرق، وما كان طوله من البلاد أكثر من تسعين درجة، فإنه أبعد عن الغرب، وأقرب إلى الشرق. وقد ذكر القدماء أن العالم السفليّ مقسوم سبعة أقسام، كل قسم يقال له: إقليم، فإقليم الهند لزحل، وإقليم بابل للمشتري، وإقليم الترك للمرّيخ، وإقليم الروم للشمس، وإقليم مصر لعطارد، وإقليم الصين للقمر. وقال قوم: الحمل والمشتري لبابل، والجدي وعطارد للهند، والأسد والمريخ للترك، والميزان والشمس للروم، ثم صارت القسمة على اثني عشر برجا، فالحمل ومثلاه للمشرق، والثور ومثلاه للجنوب، والجوزاء ومثلاها للمغرب، والسرطان ومثلاه للشمال، قالوا وفي كل إقليم مدينتان عظيمتان بحسب بيتي كل كوكب إلا إقليم الشمس، وإقليم القمر فإنه ليس في كل إقليم منهما سوى مدينة واحدة عظيمة. وجميع مدائن الأقاليم السبعة، وحصونها أحد وعشرون ألف مدينة، وستمائة مدينة وحصن بقدر دقائق درج الفلك. وقال هرمس: إذا جعلت هذه الدقائق روابع كانت أناس هذه الأقاليم، وإذا مات أحد ولد نظيره ويقال: إن عدد مدن الإقليم الأول من مطلع الشمس وقراها ثلاثة آلاف ومائة

مدينة وقرية كبيرة، وأنّ في الثاني ألفان وسبعمائة وثلاث عشرة مدينة وقرية كبيرة، وفي الثالث ثلاثة آلاف وتسع وسبعون، وفي الرابع وهو بابل ألفان وتسعمائة وأربع وسبعون، وفي الخامس ثلاثة آلاف وست مدن، وفي السادس ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان مدن، وفي السابع ثلاثة آلاف وثلاثمائة مدينة وقرية كبيرة في الجزائر. فالإقليم الأوّل يمرّ وسطه بالمواضع التي طول نهارها الأطول ثلاث عشرة ساعة، ويرتفع القطب الشماليّ فيها عن الأفق ست عشرة درجة وثلثا درجة، وهو العرض وانتهاء عرض هذا الإقليم من حيث يكون طول النهار الأطول فيه ثلاث عشرة ساعة وربع ساعة، وارتفاع القطب الشماليّ، وهو العرض عشرون درجة ونصف درجة، وهو مسافة أربعمائة وأربعين ميلا، وابتداؤه من أقصى بلاد الصين، فيمرّ فيها إلى ما يلي الجنوب، ويمرّ بسواحل الهند، ثم ببلاد السند، ويمرّ في البحر على جزيرة العرب وأرض اليمن، ويقع بحر القلزم فيمرّ ببلاد الحبشة، ويقطع نيل مصر إلى بلاد الحبشة، ومدينة دنقلة من أرض النوبة، ويمرّ في أرض المغرب على جنوب بلاد البربر إلى نحو البحر المحيط، وفي هذا الإقليم عشرون جبلا فيها ما طوله من عشرين فرسخا إلى ألف فرسخ، وفيه ثلاثون نهرا طويلا منها ما طوله ألف فرسخ إلى عشرين فرسخا، وفيه خمسون مدينة كبيرة، وعامّة أهل هذا الإقليم سود الألوان، ولهذا الإقليم من البروج الحمل والقوس، وله من الكواكب السيارة المشتري، وهو مع فرط حرارته كثير المياه كثير المروج وزرع أهله الذرة والأرز إلّا أنّ الاعتدال عندهم معدوم، فلا يثمر عندهم كرم ولا حنطة، والبقر عندهم كثير لكثرة المروج، وفي مشرقه البحر الخارج وراء خط الاستواء، بثلاث عشرة درجة، وفي مغربه النيل، وبحر الغرب ومن هذا الإقليم يأتي نيل مصر، وشرقهم معمور بالبحر الشرقيّ الذي هو بحر الهند واليمن. والإقليم الثاني: حيث يكون طول النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف، ويرتفع القطب الشماليّ فيه قدر أربعة وعشرين جزءا وعشر جزء، وعرضه من حدّ الإقليم الأوّل إلى حيث يكون النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف وربع ساعة، وارتفاع القطب الشماليّ، وهو العرض سبعة وعشرون درجة ونصف درجة، ومساحة هذا الإقليم أربعمائة ميل ويبتدئ من بلاد الشرق مارّا ببلاد الصين إلى بلاد الهند والسند، ثم بملتقى البحر الأخضر وبحر البصرة، ويقطع جزيرة العرب في أرض نجد وتهامة، فيدخل في هذا الإقليم اليمامة، والبحران، وهجر، ومكة، والمدينة، والطائف، وأرض الحجاز، ويقطع بحر القلزم، فيمرّ بصعيد مصر الأعلى ويقطع النيل، فيصير فيه مدينة قوص، واخميم وأسنى وأنصنا وأسوان، ويمرّ في أرض المغرب على وسط بلاد إفريقية، فيمرّ على بلاد البربر إلى البحر في المغرب، وفي هذا الإقليم سبعة عشر جبلا، وسبعة عشر نهرا طوالا وأربعمائة وخمسون مدينة كبيرة، وألوان أهل هذا الإقليم ما بين السمرة والسواد، وله من البروج الجدي، ومن السيارة زحل، ويسكن هذا الإقليم الرحالة، ففي المغرب منهم حدا له وصنهاجة ولمتونة

ومسوفة، ويتصل بهم رحالة مصر من ألواح وفي هذا الإقليم يكون يحل، وفيه مكة والمدينة ومنه السماوة من أهل العراق إلى رحالة الترك. والإقليم الثالث: وسطه حيث يكون طول النهار الأطول أربع عشرة ساعة وارتفاع القطب، وهو العرض ثلاثون درجة ونصف وخمس درجة، وعرض هذا الإقليم من حدّ الإقليم الثاني إلى حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة وربع ساعة، وارتفاع القطب وهو العرض ثلاث وثلاثون درجة ومسافته ثلاثمائة وخمسون ميلا ويبتدئ من الشرق، فيمر بشمال الصين، وبلاد الهند، وفيه مدينة الهندهار ثم بشمال السند، وبلاد كابل، وكرمان، وسجستان إلى سواحل بحر البصرة، وفيه اصطخر وسابور، وشيراز وسيراف ويمرّ بالأهواز والعراق، والبصرة، وواسط، وبغداد، والكوفة، والأنبار وهيت، ويمرّ ببلا الشام إلى سلمية وصور وعكا، ودمشق وطبرية وقيسارية وبيت المقدس وعسقلان وغزة ومدين والقلزم ويقطع أسفل أرض مصر من شمال انصنا إلى فسطاط مصر، وسواحل البحر، وفيه الفيوم والإسكندرية والعرما وتنيس ودمياط ويمرّ ببلاد برقة إلى إفريقية فيدخل فيه القيروان وينتهي في البحر إلى الغرب وبهذا الإقليم ثلاث وثلاثون جبلا كبارا واثنان وعشرون نهرا طوالا ومائة وثمانية وعشرون مدينة وأهله سمر الألوان ومن له من البروج العقرب، ومن السيارة الزهرة، وفي هذا الإقليم العمائر المتواصلة من أوّله إلى آخره اه. والإقليم الرابع: وسطه حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة ونصف ساعة، وارتفاع القطب الشماليّ، وهو العرض ست وثلاثون درجة وخمس درجة، وحدّ هذا الإقليم من حدّ الإقليم الثالث إلى حيث يكون النهار الأطول أربع عشرة ساعة ونصف وربع ساعة، والعرض تسعا وعشرين درجة وثلث درجة، ومسافة هذا الإقليم: ثلاثمائة ميل ويبتدئ من الشرق فيمر ببلاد التبت، وخراسان وخجندة وفرغانة وسمرقند وبخارى وهراة ومرو الروذ وسرخس وطوس ونيسابور وجرجان وقومس وطبرستان وقزوين والديلم والريّ وأصفهان وهمذان ونهاوند ودينور والموصل ونصيبين وآمد ورأس العين وشميساط والرقة ويمرّ ببلاد الشام فيدخل فيه بالس، ومسح وملطية وحلب وأنطاكية وطرابلس والمصيصة وحماه وصيدا وطرسوس وعمورية واللاذقية، ويقطع بحر الشام على جزيرة قبرس ورودس، ويمرّ ببلاد طنجة، فينتهي إلى بحر المغرب، وفي هذا الإقليم: خمسة وعشرون جبلا كبارا وخمسة وعشرون نهرا طوالا ومائتا مدينة واثنتا عشرة مدينة، وألوان أهله ما بين السمرة والبياض، وله من البروج الجوزاء، ومن السيارة عطارد، وفيه البحر الرومي من مغربه إلى القسطنطينية، ومن هذا الإقليم ظهرت الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين، ومنه انتشر الحكماء والعلماء فإنه وسط الأقاليم، ثلاثة جنوبية، وثلاثة شمالية، وهو في قسم الشمس، وبعده في الفضيلة الإقليم الثالث والخامس فإنهما على جنبيه، وبقية الأقاليم منحطة أهلوها ناقصون ومنحطون عن الفضيلة لسماجة صورهم وتوحش أخلاقهم كالزنج،

والحبشة وأكثر أمم الإقليم الأوّل والثاني والسادس والسابع يأجوج ومأجوج، والتغرغر والصقالبة ونحوهم. والإقليم الخامس: وسطه حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة، وارتفاع القطب الشمالي، وهو العرض إحدى وأربعون درجة وثلث درجة، وابتداؤه من نهاية عرض الإقليم الرابع إلى حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف ساعة، والعرض ثلاثا وأربعين درجة، ومسافته خمسون ومائتا ميل ويبتدئ من المشرق إلى بلاد يأجوج ومأجوج، ويمرّ بشمال خراسان، وفيه خوارزم واسبيجاب وأذربيجان وبردعة وسجستان وأردن وخلاط ويمرّ على بلاد الروم إلى رومية الكبرى والأندلس، حتى ينتهي إلى البحر الذي في المغرب وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال: ثلاثون جبلا، ومن الأنهار الكبار خمسة عشر نهرا، ومن المدائن الكبار مائتا مدينة، وأكثر أهله بيض الألوان وله من البروج الدلو، ومن السيارة القمر. والإقليم السادس: وسطه حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف ساعة، وارتفاع القطب الشماليّ، وهو العرض خمسا وأربعين درجة وخمسي درجة، وابتداؤه من حدّ نهاية عرض الإقليم الخامس إلى حيث يكون النهار الأطول خمس عشرة ساعة ونصف وربع ساعة، والعرض سبعا وأربعين درجة وربع درجة. ومسافة هذا الإقليم مائتا ميل وعشرة أميال، ويبتدي من المشرق، فيمرّ بمساكن الترك من أبحر خير والتغرغر إلى بلاد الخزر من شمال نجومهم على اللان والشرير، وأرض برحان والقسطنطينية، وشمال الأندلس إلى البحر المحيط الغربي، وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال: اثنان وعشرون جبلا، ومن الأنهار الطوال: اثنان وثلاثون نهرا، ومن المدن الكبار تسعون مدينة وأكثر أهل هذا الإقليم ألوانهم ما بين الشقرة والبياض، وله من البروج السرطان، ومن السيارة المرّيخ. والإقليم السابع: وسطه حيث يكون النهار الأطول ست عشرة ساعة سواء، وارتفاع القطب الشمالي وهو العرض ثمانيا وأربعين درجة وثلثي درجة، وابتداء هذا الإقليم من حدّ نهاية الإقليم السادس إلى حيث يكون النهار الأطول ست عشرة ساعة وربع ساعة، والعرض خمسين درجة ونصف درجة، ومسافته مائتا وخمسة وثمانون ميلا، فتبين أن ما بين أوّل حدّ الإقليم الأوّل، وآخر حدّ الإقليم السابع ثلاث ساعات ونصف، وأن ارتفاع القطب الشماليّ ثمانية وثلاثون درجة تكون من الأميال، ألفين ومائة وأربعين ميلا، ويبتدي الإقليم السابع من المشرق على بلاد يأجوج ومأجوج، ويمرّ ببلاد الترك على سواحل بحر جرجان مما يلي الشمال، ويقطع بحر الروم على بلاد جرجان والصقالبة إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط في المغرب، وبهذا الإقليم عشرة جبال طوال وأربعون نهرا طوالا، واثنتان وعشرون مدينة

ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة

كبيرة، وأهله شقر الألوان، وله من البروج الميزان، ومن السيارة الشمس، وفي كل إقليم من هذه الأقاليم السبعة أمم مختلفة الألسن، والألوان، وغير ذلك من الطبائع والأخلاق والآراء والديانات والمذاهب، والعقائد والأعمال والصنائع، والعادات والعبادات لا يشبه بعضهم بعضا، وكذلك الحيوانات والمعادن والنبات مختلفة في الشكل والطعم واللون والريح بحسب اختلاف أهوية البلدان، وتربة البقاع، وعذوبة المياه وملوحتها على ما اقتضته طوالع كل بلد من البروج على أفقه وممرّ الكواكب على مسامته البقاع من الأرض، ومطارح شعاعاتها على المواضع كما هو مقرّر في مواضعه من كتب الحكمة ليتدبر أولو النهي، ويعتبر ذوو الحجى بتدبير الله في خلقه، وتقديره لما يشاء وفعله لما يريد لا إله إلّا هو ومع ذلك فإن الربع المسكون من الأرض على تفاوت أقطاره مقسوم بين سبع أمم كبار: وهم الصين، والهند، والسودان، والبربر، والروم، والترك، والفرس، فجنوب مشرق الأرض في يد الصين وشماله في يد الترك ووسط جنوب الأرض في يد الهند وفي وسط شمال الأرض الروم وفي جنوب مغرب الأرض السودان وفي شمال مغرب الأرض البربر وكانت الفرس في وسط هذه الممالك قد أحاطت بهم الأمم الست. ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة وإذ يسر الله سبحانه بذكر جمل أحوال الأرض، ومعرفة ما في كل إقليم من أقاليم الأرض، فلنذكر محل مصر من ذلك فنقول: ديار مصر بعضها واقع في الإقليم الثاني، وبعضها واقع في الإقليم الثالث، فما كان منها في الصعيد الأعلى كقوص، واخميم وأسنى وأنصنا وأسوان، فإنّ ذلك واقع في أقسام الإقليم الثاني، وما كان من ديار مصر في جهة الشمال من أنصنا، وهو الصعيد الأدنى من أسيوط إلى فسطاط مصر، والفيوم والقاهرة والإسكندرية والفرما وتنيس ودمياط فإن ذلك من أقسام الإقليم الثالث، وطول مدينة مصر الفسطاط والقاهرة، وهو بعدهما من أوّل العمارة في جهة المغرب: خمس وخمسون درجة، والعرض وهو البعد من خط الاستواء ثلاثون درجة، وطول النهار الأطول أربع عشرة ساعة، وغاية ارتفاع الشمس في الفلك بها ثلاث وثمانون درجة وثلث وربع درجة، وفسطاط مصر مع القاهرة من مكة شرّفها الله تعالى واقعان في الربع الجنوبيّ الشرقيّ، والصعيد الأعلى أشدّ تشريقا لبعده عن مدينة الفسطاط بأيام عديدة في جهة الجنوب، فيكون على ذلك مقابلا لمكة من غربيها، ومصر لا يتوصل إليها إلا من مفازة، ففي شرقيها بحر القلزم من وراء الجبل الشرقي، وفي غربيها صحراء المغرب، وفي جنوبها مفازة النوبة والحبشة، وفي شمالها البحر الشامي، والرمال التي فيها بين بحر الروم، وبحر القلزم وبين مصر وبغداد على ما ذكره ابن خرداذبه «1» في كتاب

الممالك والمسالك: ألف وسبعمائة وعشرة أميال، يكون خمسمائة وسبعين فرسخا، ومائة وبعضا وأربعين بريدا، وبين مصر والشام أعني دمشق: ثلاثمائة وخمسة وستون ميلا تكون من الفراسخ مائة وإحدى وعشرين فرسخا وثلثي فرسخ، عنها ثلاثون بريدا وكسر. وقال ابن خرداذبه: أرض الحبشة والسودان مسيرة سبع سنين، وأرض مصر جزءا واحد من ستين جزءا من أرض السودان، وأرض السودان جزء واحد من الأرض كلها. وفي كتاب هردوشيش: بلد مصر الأدنى شرقه فلسطين، وغربه أرض ليبية، وأرض مصر الأعلى تمتدّ إلى ناحية الشرق، وحدّه في الشمال خليج الغرب، وفي الجنوب البحر المحيط، وفي الغرب مصر الأدنى، وفي الشرق بحر القلزم، وفيه من الأجناس ثمانية وعشرون جنسا.

ذكر حدود مصر وجهاتها

ذكر حدود مصر وجهاتها اعلم أن التحديد هو صفة المحدود على ما هو عليه، والحدّ هو نهاية الشيء، والحدود تكثر وتقل بحسب المحدود والجهات التي تحدّ بها المساكن. والبقاع أربع جهات وهي: جهة الشمال: التي هي إشارة إلى موضع قطب الفلك الشماليّ المعروف من كواكبه الجدي، والفرقدان، ويقابل جهة الشمال الجهة الجنوبية، والجنوب عبارة: عن موضع قطب الفلك الجنوبيّ الذي يقرب منه سهيل، وما يتبعه من كواكب السفينة، والجهة الثالثة: جهة المشرق وهو مشرق الشمس في الاعتدالين اللذين هما رأس الحمل أوّل فصل الربيع، ورأس الميزان أوّل فصل الخريف، والجهة الرابعة: جهة المغرب وهو مغرب الشمس في الاعتدالين المذكورين، فهذه الجهات الأربع ثابتة بثبوت الفلك غير متغيرة بتغير الأوقات وبها تحدّ الأراضي ونحوها من المساكن، وبها يهتدي الناس في أسفارهم وبها يستخرجون سمت محاريبهم. فالمشرق والمغرب معروفان، والشمال والجنوب جهتان مقاطعتان لجهتي المشرق والمغرب على تربيع الفلك، فالخط المار بنقطتي الشمال والجنوب يسمى: خط نصف النهار، وهو مقاطع للخط المار بنقطتي المشرق والمغرب المسمى: بخط الاستواء على زوايا قائمة، وأبعاد ما بين هذين الخطين متساوية فالمستقبل للجنوب يكون أبدا مستدبرا للشمال، ويصير المغرب عن يمينه، والمشرق عن يساره، وهذه الجهات الأربع هي التي ينسب إليها ما يحد من البلاد، والأراضي والدور إلا أن أهل مصر يستعملون في تحديدهم بدلا من الجهة الجنوبية لفظة القبلية، فيقولون الحدّ القبليّ ينتهي إلى كذا، ولا يقولون الحدّ الجنوبيّ، وكذلك يقولون الحدّ البحريّ ينتهي إلى كذا، ويريدون بالبحريّ الحدّ الشماليّ، وقد يقع في هاتين الجهتين الغلط في بعض البلاد وذلك أن البلاد التي توافق عروضها عرض مكة إذا كانت أطوالها أقل من طول مكة، فإن القبلة تكون في هذه البلاد نفس الشرق بخلاف التي توافق عروضها عرض مكة، إلا أن أطوالها أطول من طول مكة، فإنّ القبلة في هذه البلاد تكون نفس الغرب، فمن حدّد في شيء من هذه البلاد أرضا أو مسكنا بحدود أربعة، فإنه يصير حدّان منها حدّا واحدا، وكذلك جهة البحر لما جعلوها قبالة جهة القبلة، وحدّدوا ما بينهما من الأراضي، والدور بما يسامتها منه، فإنهم أيضا ربما غلطوا، وذلك أن

القبلة والبحر يكونان في بعض البلاد في جهة واحدة، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن أرض مصر: لها حدّ يأخذ من بحر الروم ومن الإسكندرية، وزعم قوم من برقة في البرّ حتى ينتهي إلى ظهر الواحات، ويمتدّ إلى بلد النوبة، ثم يعطف على حدود النوبة في حدّ أسوان على حدّ أرض السبخة في قبليّ أسوان حتى ينتهي إلى بحر القلزم، ثم يمتدّ على بحر القلزم ويجاوز القلزم إلى طور سينا، ويعطف على تيه بني إسرائيل مارا إلى بحر الروم في الجفار خلف العريش ورفح، ويرجع إلى الساحل مارّا على بحر الروم إلى الإسكندرية، ويتصل بالحدّ الذي قدمت ذكره من نوحي برقة. وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في رسالته المصرية: أرض مصر بأسرها واقعة في المعمورة في قسمي الإقليم الثاني، والإقليم الثالث، ومعظمها في الثالث، وحكى المعتنون بأخبارها وتواريخها أنّ حدّها في الطول من مدينة برقة التي في جنوب البحر الروميّ إلى أيلة من ساحل الخليج الخارج من بحر الحبشة والزيج والهند والصين، ومسافة ذلك قريب من أربعين يوما، وحدّها في العرض من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى المتآخم لأرض النوبة إلى رشيد، وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الروميّ ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوما، ويكتنفها في العرض إلى منتهاها جبلان أحدهما في الضفة الشرقية من النيل، وهو المقطم، والآخر في الضفة الغربية منه، والنيل متسرب فيما بينهما، وهما جبلان أجردان غير شامخين يتقاربان جدّا في وضعهما من لدن أسوان إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط، ثم يتسع ما بينهما، وينفرج قليلا، ويأخذ المقطم منهما مشرّقا والآخر مغرّبا على وراب في مأخذيهما، وتفريج في مسلكيهما، فتتسع أرض مصر من الفسطاط إلى ساحل البحر الرومي الذي عليه الفرماء وتنيس ودمياط ورشيد والإسكندرية، فهناك تتقطع في عرضها الذي هو مسافة ما بين أوغلها في الجنوب، وأوغلها في الشمال، وإذا نظرنا بالطريق البرهانية في مقدار هذه المسافة من الأميال لم تبلغ ثلاثين ميلا، بل تنقص عنها نقصانا ما له قدر، وذلك لأن فضل ما بين عرض مدينة أسوان التي هي أوغلها في الجنوب، وعرض مدينة تنيس التي هي أوغلها في الشمال تسعة أجزاء ونحو سدس جزء وليس بين طوليها فضل له قدر يعتدّ به، وينوب ذلك نحو خمسمائة وعشرين ميلا بالتقريب، وذلك مسافة عشرين يوما أو قريب منها وفي هذه المدّة من الزمان تقطع السفار ما بين البلدين بالسير المعتدل أو أكثر من ذلك لما في الطريق من التعويج وعدم الاستقامة. وقال القضاعي: الذي يقع عليه اسم مصر من العريش إلى آخر لوبية ومراقيه وفي آخر أرض مراقيه تلقى أرض انطابلس وهي برقة، ومن العريش فصاعدا يكون ذلك مسيرة أربعين ليلة، وهو ساحل كله على البحر الرومي، وهو بحريّ أرض مصر، وهو مهب الشمال منها إلى القبلة شيئا ما فإذا بلغت آخر أرض مراقيه عدّت ذات الشمال، واستقبلت الجنوب، وتسير في الرمل وأنت متوجه إلى القبلة يكون الرمل من مصبه عن يمينك إلى إفريقة وعن

ذكر بحر القلزم

يسارك من أرض مصر إلى أرض الفيوم منها وأرض الواحات الأربعة فذلك غربيّ مصر، وهو ما استقبلته منه ثم تعوج من آخر أرض الواحات، وتستقبل المشرق سائرا إلى النيل تسير ثماني مراحل إلى النيل، ثم على النيل فصاعدا وهي آخر أرض الإسلام هناك، ويليها بلاد النوبة ثم ينقطع النيل فتأخذ من أسوان في المشرق منكبا عن بلد أسوان إلى عيداب ساحل البحر الحجازيّ، فمن أسوان إلى عيداب خمس عشرة مرحلة، وذلك كله قبليّ أرض مصر ومهب الجنوب منها ثم ينقطع البحر الملح من عيداب إلى أرض الحجاز فينزل الحوراء أوّل أرض مصر وهي متصلة بأعراض مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا البحر المحدود: هو بحر القلزم، وهو داخل في أرض مصر بشرقيه وغربيه وبحريه فالشرقيّ منه أرض الحوراء وطنسه والنبك وأرض مدين وأرض أيلة فصاعدا إلى المقطم بمصر، والغربيّ منه ساحل عيداب إلى بحر النعام إلى المقطم، والبحريّ منه مدينة القلزم وجبل الطور ومن القلزم إلى الفرماء مسيرة يوم وليلة وهو الحاجز فيما بين البحرين طحر الحجاز وبحر الروم وهذا كله شرقيّ أرض مصر من الحوراء إلى العريش، وهو مهب الصبا منها فهذا المحدود من أرض مصر، وما كان بعد هذا من الحدّ الغربيّ، فمن فتوح أهل مصر، وثغورهم من البرقة إلى الأندلس. ذكر بحر القلزم «1» القلازم: الدواهي والمضايقة ومنه بحر القلزم لأنه مضيق بين جبال، ولما كانت أرض مصر منحصرة بين بحرين هما بحر القلزم من شرقيها وبحر الروم من شماليها، وكان بحر القلزم داخلا في أرض مصر كما تقدّم صار من شرط هذا الكتاب التعريف به. فنقول: هذا البحر إنما عرف في ناحية ديار مصر: بالقلزم لأنه كان بساحله الغربيّ في شرقيّ أرض مصر مدينة تسمى: القلزم وقد خربت كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في موضعه من هذا الكتاب عند ذكرى قرى مصر ومدنها فسمّى هذا البحر باسم تلك المدينة، وقيل له: بحر القلزم على الإضافة، ويقال له بالعبرانية: (ثم تسوب) وهذا البحر إنما هو خليج يخرج من البحر الكبير المحيط بالأرض الذي يقال له: بحر اقيانس ويعرف أيضا: ببحر الظلمات لتكاثف البخار المتصاعد منه، وضعف الشمس عن حله فيغلظ وتشتدّ الظلمة، ويعظم موج هذا البحر، وتكثر أهواله، ولم يوقف من خبره إلّا على ما عرف من بعض سواحله، وما قرب من جزائره، وفي جانب هذا البحر الغربيّ الذي يخرج منه البحر الرومي الآتي ذكره إن شاء الله. الجزائر الخالدات وهي فيما يقال: ست جزائر يسكنها قوم متوحشون، وفي جانب

هذا البحر الشرقيّ مما يلي الصين ست جزائر أيضا تعرف: بجزائر السبلي نزلها بعض العلويين في أوّل الإسلام خوفا على أنفسهم من القتل، ويخرج من هذا المحيط ستة أبحر أعظمها اثنان: وهما اللذان عناهما الله تعالى بقوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرحمن/ 19] ، وقوله: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً [النمل/ 61] ، فأحدهما: من جهة الشرق، والآخر: من جهة الغرب. فالخارج من جهة الشرق يقال له: البحر الصينيّ، والبحر الهنديّ، والبحر الفارسيّ، والبحر اليمنيّ، والبحر الحبشيّ، بحسب ما يمرّ عليه من البلدان. وأما الخارج من الغرب فيقال له: البحر الروميّ. فأما البحر الهنديّ الخارج من جهة الشرق فإن مبدأ خروجه من مشرق الصين وراء خط الاستواء بثلاثة عشر درجة ويجري إلى ناحية الغرب فيمرّ على بلاد الصين وبلاد الهند إلى مدينة كنبانة وإلى التبير من بلاد كمران فإذا صار إلى بلاد كمران ينقسم هناك قسمين: أحدهما يسمى: بحر فارس، والآخر يسمى: بحر اليمن فيخرج بحر اليمن من ركن جبل خارج في البر يسمى هذا الركن: رأس الجمجمة فيمتد من هناك إلى مدينة ظفار ويسير إلى المسجر وساحل بلاد حضرموت إلى عدن وإلى باب المندب، وطول هذا البحر الهنديّ ثمانية آلاف ميل في عرض ألف وسبعمائة ميل عند بعض المواضع وربما ضاق عن هذا القدر من العرض فإذا انتهى إلى باب المندب يخرج إلى بحر القلزم، والمندب جبل طوله اثنا عشر ميلا وسعة فوهته قدر ما يرى الرجل الآخر من البرّ تجاهه فإذا فارق باب المندب مرّ في جهة الشمال بساحلي زبيد والحرون إلى عثر وكانت عثر مقر الملك في القديم ويمرّ من هناك على حلى إلى عسفان وأنمار وهي فرضة المدينة النبوية على الحال بها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام، ومنها على ما يقابل الجحفة حيث يسمى اليوم رابغ إلى الحوراء ومدين وأيلة والطور وفاران ومدينة القلزم، فإذا وصل إلى القلزم انعطف من جهة الجنوب ومرّ إلى القصير وهي فرضة قوص ومن القصير إلى عيداب وهي فرضة البجه «1» ، ويمتدّ من عيداب إلى بلد الزيلع، وهو ساحل بلاد الحبشة ويتصل ببربر وطول هذا البحر ألف وخمسمائة ميل وعرضه من أربعمائة ميل إلى ما دونها وهو بحر كريه المنظر والرائحة وفي هذا البحر مصب دجلة والفرات وعلى أطرافه بلاد السند، وبلاد اليمن كأنها جزائر أحاط بها الماء من جهاتها الثلاث وهو: يردع نهر مهران كردع البحر الرومي لنيل مصر. وفيه فيما بين مدينة القلزم، ومدينة أيلة مكان يعرف: بمدينة قاران وعندها جبل لا يكاد ينجو منه مركب لشدّة اختلاف الريح وقوّة ممرّها من بين شعبتي جبلين وهي بركة سعتها ستة أميال تعرف: ببركة الغرندل، يقال: إن فرعون غرق فيها فإذا هبت ريح الجنوب لا يمكن سلوك هذه البركة، ويقال: إن الغرندل اسم صنم كان في القديم هناك قد وضع ليحبس من خرج من أرض مصر مغاضبا للملك أو فارا منه، وأنّ موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر وسار بهم مشرقا أمره الله سبحانه وتعالى: أن

ذكر البحر الرومي

ينزل تجاه هذا الصنم فلما بلغ ذلك فرعون ظنّ أنّ الصنم قد حبس موسى ومن معه ومنعهم من المسير كما يعهدونه منه فخرج بجنوده في طلب موسى وقومه ليأخذهم بزعمه فكان من غرقه ما قصه الله تعالى وسيرد خبر موسى عليه السلام عند ذكر كنيسة دموة من هذا الكتاب في ذكر كنائس اليهود. وفي بحر القلزم هذا خمس عشرة جزيرة منها: أربع عامرات وهي: جزيرة دهلك، وجزيرة سواكن، وجزيرة النعمان، وجزيرة السامريّ ويخرج من هذا البحر خلجان: خليج لطيف ببلاد الهند المتصلة بالبحر الأعظم، وخليج يحول بين بلاد السودان، وبلاد اليمن عرض دقاقه نحو من فرسخين، ويقرب هذا البحر من البحر الرومي في أعمال بلاد الشام وديار مصر حتى يكون بينهما نحو يوم. ذكر البحر الرومي «1» ولما كانت عدّة بلاد من أرض مصر مطلة على البحر الرومي كمدينة الإسكندرية، ودمياط وتنيس، والفرماء، والعريش وغير ذلك، وكان حدّ أرض مصر ينتهي في الجهة الشمالية إلى هذا البحر وهو نهاية مصب النيل حسن التعريف بشيء من أخباره، وقد تقدّم أن مخرج البحر الرومي هذا من جهة الغرب وهو يخرج في الإقليم الرابع بين الأندلس، والغرب سائرا إلى القسطنطينية، ويقال: إن إسكندر الجبار حفره وأجراه من البحر المحيط الغربيّ وأن جزيرة الأندلس وبلاد البربر كانت أرضا واحدة يسكنها البربر والأشبان فكان بعضهم يغير على بعض إلى أن ملك إسكندر الجبار بن سلقوس بن اعريقس بن دوبان فرغب إليه الأشبان في أن يجعل بينهم وبين البربر خليجا من البحر يمكن به احتراز كل طائفة عن الأخرى فحفر زقاقا طوله ثمانية عشر ميلا في عرض اثني عشر ميلا، وبنى بجانبيه سكرين وعقد بينهما قنطرة يجاز عليها وجعل عندها حرسا يمنعون البربر من الجواز عليها إلا بإذن وكان قاموس البحر أعلى من أرض هذا الزقاق فطما الماء حتى غطى السكرين مع القنطرة وساق بين يديه بلادا كثيرة وطغى على عدّة بلاد ويقال: إن المسافرين في هذا الزقاق بالبحر يخبرون أن المراكب في بعض الأوقات يتوقف سيرها مع وجود الريح فيجدون المانع لها كونها قد سلكت بين شرافات السور وبين حائطين ثم عظم هذا الزقاق في الطول والعرض حتى صار بحرا عرضه ثمانية عشر ميلا ويذكرون أن البحر إذا جزر ترى القنطرة حينئذ وهذا الخبر أظنه غير صحيح فإن أخبار هذا البحر وكونه بسواحل مصر لم يزل ذكره في الدهر الأوّل قبل إسكندر بزمان طويل، فإما أن يكون ذلك قد كان في أوّل الدهر مما عمله بعض الأوائل، وإما أن يكون

خبرا واهيا وإلا فزمان إسكندر حادث بعد كون هذا البحر، والله أعلم. وهذا الزقاق صعب السلوك شديد الهول متلاطم الأمواج، وإذا خرج البحر من هذا الزقاق مرّ مشرقا في بلاد البربر وشمال الغرب الأقصى إلى وسط بلاد المغرب على إفريقية وبرقة والإسكندرية وشمال التيه وأرض فلسطين، والسواحل من بلاد الشام، ثم يعطف من هناك إلى العلايا وأنطاكية إلى ظهر بلاد القسطنطينية حتى ينتهي إلى البحر المحيط الذي خرج منه وطول هذا البحر خمسة آلاف ميل، وقيل: ستة آلاف ميل، وعرضه من سبعمائة ميل إلى ثلاثمائة ميل، وفيه مائة وسبعون جزيرة عامرة فيها أمم كثيرة معروفة إلا أنه ليس من شرط هذا الكتاب منها صقلية وصورقة وأقريطش وقبالة البحر الهنديّ من جهة المغرب بحر خارج من المحيط في مغرب بلاد الزنج ينتهي إلى قريب من جبل القمر وفيه مصب النيل المار على بلاد الحبشة وفي أسفله جزائر الخالدات التي هي منتهى الطول في المغرب، ويقابل البحر الشاميّ من نحية المشرق بحر جرجان وقيل: إنه يتصل بالبحر المحيط من بين جبال شامخة وبحر الصقلب بحر يخرج من جهة المغرب بين الإقليم السادس، والإقليم السابع، وهو متسع وفيه جزائر كثيرة، ومنها جزيرة الأندلس إلا أنها تتصل بالبرّ الكبير وهو جبل كالذراع يتصل بهذا البرّ عند برشلونة ولهم بحر يعرف يأجوج ومأجوج غزير وفيه عجائب إلا أنه ليس من شرط هذا الكتاب ذكرها ويقال: إن مسافة هذا البحر الروميّ نحو أربعة أشهر. وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيرونيّ «1» ، في كتاب تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن: وقد كان حرّض بعض ملوك الفرس في بعض استيلائهم على مصر على أن يحفروا ما بين البحرين القلزم والروميّ ويرفعوا من بينهما البرزخ وكان أوّلهم شاسيس بن طراطس الملك ثم من بعده دارنوش الملك فلم يتمكن لهم ذلك لارتفاع ماء القلزم على أرض مصر. فلما كانت دولة اليونانيين: جاء بطليموس الثالث ففعل ذلك على يد أرسمدس بحيث يحصل الغرض بلا ضرر. فلما كانت دولة الروم القياصرة طموه منعا لمن يصل إليهم من أعدائهم وذكر بعض أصحاب السير من الفلاسفة أن ما بين الإسكندرية وبلادها وبين القسطنطينية كان في قديم الزمان أرضا تنبت الجميز وكانت مسكونة وخمة وكان أهلها من اليونانية، وأن الإسكندر خرق إليها البحر فغلب على تلك الأرض وكان بها فيما يزعمون: الطائر الذي يقال له قفنس، وهو طائر حسن الصوت وإذا حان موته زاد حسن صوته قبل

ذكر اشتقاق مصر ومعناها وتعداد أسمائها

ذلك بسبعة أيام حتى لا يمكن أحد يسمع صوته لأنه يغلب على قلبه من حسن صوته ما يميت السامع وأنه يدركه قبل موته بأيام طرب عظيم وسرور فلا يهدأ من الصياح، وزعموا أن عامل الموسيقى من الفلاسفة أراد أن يسمع صوت قفنس في تلك الحال فخشي إن هجم عليه أن يقتله حسن صوته فسدّ أذنيه سدّا محكما ثم قرب إليه فجعل يفتح من أذنيه شيئا بعد شيء حتى استكمل فتح الأذنين في ثلاثة أيام يريد أن يتوصل إلى سماعه رتبة بعد رتبة فلا يبغته حسنه في أوّل مرّة فيأتي عليه، وزعموا: أن ذلك الطائر هلك ولم يبق منه ولا من فراخه شيء بسبب هجوم ماء البحر عليه، وعلى رهطه بالليل في الأوكار فلم يبق له بقية، ويقال: إن بعض الفلاسفة أراد ملك من الملوك قتله فأعطاه قدحا فيه سمّ ليشربه فأعلمه بذلك فظهر منه مسرّة وفرح فقال له: ما هذا أيها الحكيم؟ فقال: هل أعجز أن أكون مثل قفنس. ذكر اشتقاق مصر ومعناها وتعداد أسمائها ويقال: كان اسمها في الدهر الأوّل قبل الطوفان جزلة، ثم سميت مصر، وقد اختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله سميت هذه الأرض بمصر فقال قوم: سميت بمصر ابن مركابيل بن دوابيل بن عرياب بن آدم وهو مصر الأوّل. وقيل: بل سميت بمصر الثاني وهو مصرام بن يعراوش الجبار بن مصريم الأوّل وبه سمي مصر بن بنصر بن حام بعد الطوفان، وقيل: بل سميت بمصر الثالث وهو مصر بن بنصر بن حام بن نوح وهو اسم أعجميّ لا ينصرف. وقال آخرون: هي اسم عربيّ مشتق فأمّا من ذهب إلى أنّ مصر اسم أعجميّ فإنه استدل بما رواه أهل العلم بالأخبار من نزول مصر بن بنصر بهذه الأرض وقسمها بين أولاده فعرفت به اه. وذكر الحسن بن أحمد الهمداني «1» : أنّ مصر بن حام وهو مصريم، وقيل: أنّ بنصر بن هرمس بن هردوس جدّ الإسكندر قال: ونكح لوما بن حام بنت شاويل بن يافث بن نوح فولدت له بوقير وقبط أبا القبط قبط مصر، ومن ههنا أن مصر بن حام وإنما هو مصر بن هرمس بن هردش بن بيطون بن روي بن ليطي بن يونان وبه سميت مصر فهي مقدونية. وذكر أبو الحسن المسعوديّ «2» في كتاب أخبار الزمان: أنّ بني آدم لما تحاسدوا وبغى عليهم بنو أقابيل بن آدم ركب نقراوس الجبار ابن مصريم ابن مركابيل بن دوابيل بن عرياب بن آدم عليه السلام في نيف وسبعين راكبا من بني عرياب جبابرة كلهم يطلبون موضعا من

الأرض يقطنون فيه فرارا من بني أبيهم فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل، فأطالوا المشي عليه فلما رأوا سعة البلد فيه وحسنه أعجبهم وقالوا: هذه بلد زرع، وعمارة فأقطنوا فيه، واستوطنوا وبنوا فيه الأبنية المحكمة، والصنائع العجيبة. وبنى نقراوس مصر وسماها باسم أبيه مصريم وكان نقراوس جبارا له قوّة، وكان مع ذلك عالما وله ائتمر الجنّ في هلاك بني أبيه ولم يزل مطاعا وقد كان وقع إليه من العلوم التي كان زواميل علمها لآدم عليه السلام ما قهر به الجبابرة الذين كانوا قبله وملوكهم، ثم أمر حين ملك ببناء مدينة في موضع خيمته فقطعوا له الصخور من الجبال، وأثاروا معادن الرصاص وبنوا مدينة سماها: أمسوس وأقاموا فيها أعلاما طول كل لم منها: مائة ذراع وزرعوا وعمروا الأرض، ثم أمرهم ببناء المدائن، والقرى وأسكن كل ناحية من الأرض من رأى ثم حفروا النيل حتى أجروا ماءه إليهم ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري إنما كان ينبطح ويتفرّق في الأرض حتى يتوجه إلى النوبة فهندسوه وساقوا منه أنهارا إلى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها، وساقوا منه نهرا إلى مدينتهم أمسوس يجري في وسطها، ثم سميت مصر بعد الطوفان بمصر بن بنصر بن حام بن نوح وذلك أن قليمون الكاهن خرج من مصر ولحق بنوح عليه السلام وآمن به هو وأهله وولده وتلامذته وركب معه في السفينة، وزوّج ابنته من بنصر بن حام بن نوح فلما خرج نوح من السفينة وقسم الأرض بين أولاده، وكانت ابنة قليمون قد ولدت لبنصر ولد أسماه مصرايم، فقال قليمون لنوح: ابعث معي يا نبيّ الله ابني حتى أمضي به بلدي، وأظهره على كنوزي وأوقفه على علومه ورموزه فأنفذه معه في جماعة من أهل بيته وكان غلاما مرفها فلما قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر، وستره بحشيش الأرض ثم بنى له بعد ذلك في هذا الموضع مدينة وسماها: درسان أي باب الجنة، فزرعوا وغرسوا الأشجار والأجنة من درسان إلى البحر فصارت هناك زروع وأجنة وعمارة وكان الذي مع مصرايم جبابرة فقطعوا الصخور وبنوا المعالم والمصانع وأقاموا في أرغد عيش ويقال: إن أهل مصر أقاموا عليهم مصرايم بن بنصر ملكا في أيام تالغ بن عابر بن شامخ بن أرفخشد بن سام بن نوح فملك مصر وهي مدينة منيعة على النيل وسماها باسمه ويقال: إن مصرايم غرس الأشجار بيده وكانت ثمارها عظيمة بحيث يشق الأترجة نصفين فيحمل على البعير نصفها وكان القثاء في طول أربعة عشر شبرا ويقال: إنه أوّل من صنع السفن بالنيل وإنّ أوّل سفينة كانت ثلثمائة ذراع طولا في عرض مائة ذراع. ويقال: إن مصرايم نكح امرأة من بني الكهنة فولدت له ولدا فسماه قبطيم، ونكح قبطيم بعد سبعين سنة من عمره امرأة ولدت له أربعة نفر: قبطيم، وأشمون، وأتريب، وصا، فكثروا وعمروا الأرض وبورك لهم فيها وقيل: إنه كان عدد من وصل معهم ثلاثين رجلا فبنوا مدينة سموها نافة ومعنى نافة ثلاثون بلغتهم وهي (منف) وكشف أصحاب قليمون الكاهن عن كنوز مصر وعلومهم وأثاروا المعادن، وعلومهم علم الطلسمات

ووضعوا لهم علم الصنعة، وبنوا على غير البحر مدنا منها رقودة مكان الإسكندرية ولما حضر مصرايم الوفاة عهد إلى ابنه قبطيم، وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه فجعل لقبطيم من قفط إلى أسوان ولأشمون من أشمون إلى منف ولأتريب الحوف كله ولصا من ناحية صا البحرية إلى قرب برقة وقال لأخيه: فارق لك من برقة إلى الغرب فهو صاحب إفريقة ووالد الأفارقة وأمر كل واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في موضعه وأمرهم عند موته أن يحفروا له في الأرض سربا وأن يفرشوه بالمرمر الأبيض، ويجعلوا فيه جسده، ويدفنوا معه جميع ما في خزائنه من الذهب، والجوهر، ويزبروا عليه أسماء الله تعالى المانعة من أخذه فحفروا له سربا طوله مائة وخمسون ذراعا وجعلوا في وسطه مجلسا مصفحا بصفائح الذهب، وجعلوا أربعة أبواب على كل باب منها تمثال من ذهب عليه تاج مرصع بالجوهر وهو جالس على كرسيّ من ذهب قوائمه من زبرجد وزبروا في صدر كل تمثال آيات مانعة وجعلوا جسده في جمد مرمر مصفح بالذهب وزبروا على مجلسه مات مصرايم بن بنصر بن حام بن نوح بعد سبعمائة عام مضت من أيام الطوفان ولم يعبد الأصنام إذ لا هرم، ولا سقام، ولا حزن، ولا اهتمام وحصنه بأسماء الله العظام، ولا يصل إليه إلا ملك ولدته سبعة ملوك تدين بدين الملك الديان ويؤمن بالمبعوث بالفرقان الداعي إلى الإيمان آخر الزمان، وجعلوا معه في ذلك المجلس: ألف قطعة من الزبرجد المخروط، وألف تمثال من الجوهر النفيس، وألف برنية مملوءة من الدرّ الفاخر والصنعة الإلهية والعقاقر، والطلسمات العجيبة، وسبائك الذهب وسقفوا ذلك بالصخور، وهالوا فوقها الرمال بين جبلين وولي ابنه قبطيم الملك. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام «1» في كتاب التحائف: أنّ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود أخي عاد ابن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام واسم عبد شمس هذا: عامر، وعرف بعبد شمس لأنه أوّل من عبد الشمس وقيل له أيضا: (سبأ) لأنه أوّل من سبأ وهو سبأ الأكبر أبو حمير وكهلان ملك بعد أبيه يشجب بأرض اليمن جميع بني قحطان وبني هود عليه السلام، وحثهم على الغزو ثم سار بهم إلى أرض بابل ففتحها وقتل من كان بها من الثوار حتى بلغ أرض أرمينية، وملك أرض بني يافث بن نوح وأراد أن يعبر من هناك إلى الشام، وأرض الجزيرة فقيل له: ليس لك مجاز غير الرجوع في طريقك فبنى قنطرة على البحر وجاز عليها إلى الشام فأخذ تلك الأراضي إلى الدرب، ولم يكن خلف الدرب إذ ذاك أحد ثم نهض يريد بلاد العرب فنزل على النيل، وجمع أهل مشورته وقال لهم: إني رأيت أن أبني مصرا إلى حدّ بين هذين البحرين يعني بحر الروم، وبحر القلزم. فيكون فاصلا بين الشرق والغرب فقالوا: نعم الرأي أيها الملك، فبنى مدينة سماها مصر، وولى عليها ابنه بابليون ومضى إلى بني حام بن نوح

وهم نزول في البراري إلى قمونية ويعمونية القبط فأوقع بجميع تلك الطوائف وسبى ذراريهم كما فعل ببلاد الشرق فقيل له: من أجل ذلك سبأ ثم عاد إلى مصر ومضى فيها إلى الشام يريد الحجاز وأوصى ابنه بابليون عند رحيله اه: ألا قل لبابليون والقول حكمة ... ملكت زمام الشرق والغرب فأجمل وخذ لبني حام من الأمر وسطه ... فإن صدفوا يوما عن الحق فأقبل وإن جنحوا بالقول للرفق طاعة ... يريدون وجه الحق والعدل فأعدل ولا تظهرنّ الرأي في الناس يجتروا ... عليك به واجعله ضربة فيصل ولا تأخذن المال في غير حقه ... وإن جاء لا تدينه نحوك وابذل وداوي ذوي الأحقاد بالسيف إنه ... متى يلق منك العزم ذو الحقد يجمل وجد لذوي الأحساب لينا وشدّة ... ولا تك جبارا عليهم وأجمل وكن لسؤال الناس غوثا ورحمة ... ومن يك ذا عرف من الناس يسأل وإياك والسفر القريب فإنه ... سيغني بما يوليه في كل منهل ثم عاد إلى اليمن، وبنى سد مأرب وهو سدّ فيه سبعون نهرا، ويصل إليه السيل من مسيرة ثلاثة أشهر في مثلها، ثم مات عن خمسمائة سنة، وقام من بعده ابنه حمير بن سبا فعتا بنو حام على بابليون وأرادوا تخريب مصر فاستدعى أخاه حمير لينجده عليهم فقدم عليه مصر، ومضى إلى بلاد المغرب فأقام بها مائة عام يبني المدائن، ويتخذ المصانع فمات بابليون بن سبأ بمصر. وولى بعده ابنه امرئ القيس بابليون ثم مات حمير بن سبأ عن أربعمائة سنة وخمس وأربعين سنة منها في الملك أربعمائة سنة، وأقام من بعده وائل بن حمير. ثم مات فقام من بعده ابنه السكسك بن وائل الذي يقال له: مقعقع الحمد وقد افترق ملك حمير، فحارب الثوار، وسار إلى الشام فلقيه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبأ بالرملة وقد ملك بعد أبيه وقدّم له هدية فأقرّه على مصر حتى قدم عليه إبراهيم الخليل عليه السلام ووهبه هاجر. وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم «1» في كتاب فتوح مصر وأخبارها عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان لنوح عليه السلام أربعة من الولد: سام، وحام، ويافث، ويخطون، وأنّ نوحا رغب إلى الله عزّ وجلّ وسأله أن يرزقه الإجابة في ولده وذريته حين تكاملوا بالنماء والبركة فوعده ذلك فنادى نوح ولده وهم نيام عند السحر فنادى ساما فأجابه يسعى وصاح سام في ولده فلم يجبه أحد منهم إلا ابنه أرفخشد فانطلق به معه حتى أتياه فوضع نوح يمينه على سام وشماله على أرفخشد بن سام وسأل الله

عزّ وجل أن يبارك في سام أفضل البركة وأن يجعل الملك والنبوّة في ولد أرفخشد، ثم نادى حاما وتلفت يمينا وشمالا فلم يجبه ولم يقم إليه هو ولا أحد من ولده فدعا الله عز وجل نوح أن يجعل ولده أذلاء وأن يجعلهم عبيدا لولد سام، وكان مصر بن بنصر بن حام نائما إلى جنب جدّه فلما سمع دعاء نوح على جدّه وولده قام يسعى إلى نوح وقال: يا جدّي قد أجبتك إذ لم يجبك جدّي ولا أحد من ولده فاجعل لي دعوة من دعائك ففرح نوح ووضع يده على رأسه وقال: اللهمّ إنه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أمّ البلاد، وغوث العباد التي نهرها أفضل أنهار الدنيا وأجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الأرض وذللها لهم وقوّهم عليها، ثم دعا ابنه يافث فلم يجبه ولا أحد من ولده، فدعا الله عليهم أن يجعلهم شرار الخلق، وعاش سام مباركا إلى أن مات وعاش ابنه أرفخشد بن سام مباركا حتى مات وكان الملك الذي يحبه الله والنبوّة والبركة في ولد أرفخشد بن سام وكان أكبر ولد حام: كنعان بن حام، وهو الذي حمل به في الرجز في الفلك فدعا عليه نوح فخرج أسود وكان في ولده الملك والجبروت والجفاء وهو: أبو السودان والحبش كلهم وابنه الثاني: كوش بن حام، وهو أبو السند والهند وابنه الثالث: قوط بن حام وهو: أبو البربر وابنه الأصغر الرابع: بنصر بن حام، وهو أبو القبط كلهم فولد بنصر بن حام أربعة: مصر بن بنصر وهو أكبرهم والذي دعا له نوح بما دعا له. وفارق بن بنصر، وماح بن بنصر، وقيل: ولد مصر أربعة: قفط بن مصر، وأشمن بن مصر، وأتريب بن مصر، وصا بن مصر؛ وعن ابن لهيعة وعبد الله بن خالد أوّل من سكن مصر بنصر بن حام بن نوح عليه السلام بعد أن أغرق الله تعالى قومه وأوّل مدينة عمرت بمصر منف فسكنها بنصر بولده وهم: ثلاثون نفسا منهم أربعة أولاد له قد بلغوا وتزوجوا وهم: مصر، وفارق، وياح، وماح، وكان مصر أكبرهم فبنوا مصر، وكانت إقامتهم قبل ذلك بسفح المقطم، ونقروا هناك منازل كثيرة، وكان نوح عليه السلام قد دعا لمصر أن يسكنه الله الأرض الطيبة المباركة التي هي أمّ البلاد، وغوث العباد، ونهرها أفضل الأنهار، ويجعل له فيها أفضل البركات ويسخر له الأرض ولولده ويذللها لهم ويقوّيهم عليها، فسأله عنها فوصفها له وأخبره بها قالوا: وكان مصر بن بنصر مع نوح في السفينة لما دعا له وكان بنصر بن حام قد كبر وضعف فساق ولده مصر، وجميع إخوته إلى مصر فنزلوها وبذلك سميت مصر فلما قرّ قرار بنصر وبنيه بمصر قال لمصر إخوته فارق وماح وياح وبنوا بنصر قد علمنا أنك أكبرنا وأفضلنا وأن هذه الأرض التي أسكنك إياها جدّك نوح، ونحن نضيق عليك أرضك، وذلك حين كثر ولده وأولادهم، ونحن نطلب إليك البركة التي جعلها فيك جدّنا نوح أن تبارك لنا في أرض نلحق بها ونسكنها وتكون لنا ولأولادنا، فقال: نعم عليكم بأقرب البلاد إليّ ولا تباعدوا مني فإنّ لي في بلادي مسيرة شهر من أربعة وجوه أحوزها لنفسي فتكون لي ولولدي ولأولادهم، فحاز مصر بن بنصر لنفسه ما بين الشجرتين التي بالعريش

إلى أسوان طولا، ومن برقة إلى أيلة عرضا، وحاز فارق لنفسه ما بين برقة إلى إفريقية، وكان ولده الأفارقة ولذلك سميت إفريقية، وذلك مسيرة شهر، وحاز ماح ما بين الشجرتين من منتهى حدّ مصر إلى الجزيرة مسيرة شهر، وهو أبو قبط الشام، وحاز باح ما وراء الجزيرة كلّها ما بين البحر إلى الشرق مسيرة شهر، وهو أبو قبط العراق، ثم توفي بنصر بن حام، ودفن في موضع دير أبي هرميس غربيّ الأهرام، فهي أوّل مقبرة قبر فيها بأرض مصر، وكثر أولاد مصر وكان الأكابر منهم قفط، وأتريب، وأشمن، وصا، والقبط من ولد مصر هذا ويقال: إنّ قبط أخو قفط، وهو بلسانهم قفطيم وقبطيم ومصرايم، قال: ثم إنّ بنصر بن حام وتوفي واستخلف ابنه مصر، وحاز كل واحد من إخوة مصر: قطعة من الأرض لنفسه سوى أرض مصر التي حازها لنفسه ولولده، فلما كثر ولد مصر وأولاد أولادهم قطع مصر لكل واحد من ولده قطيعة يحوزها لنفسه ولولده، وقسم لهم هذا النيل فقطع لابنه قفط موضع قفط فسكنها وبه سميت قفط قفطا، وما فوقها إلى أسوان، وما دونها إلى أشمون في الشرق والغرب، وقطع لأشمن من أشمون فما دونها إلى منف في الشرق والغرب فسكن أشمن أشمون فسميت به، وقطع لأتريب ما بين منف إلى صا فسكن أتريبا فسميت به، وقطع لصا ما بين صا إلى البحر فسكن صا فسميت به فكانت مصر كلها على أربعة أجزاء: جزأين بالصعيد، وجزأين بأسفل الأرض. قال البكري: ومصر مؤنثة قال تعالى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف/ 51] ، وقال: ادْخُلُوا مِصْرَ [يوسف/ 99] . وقال عامر بن أبي واثلة الكناني لمعاوية: أما عمرو بن العاص، فأقطعته مصر، وأما قوله سبحانه: اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة/ 61] فإنه أراد مصرا من الأمصار، وقرأ سليم الأعمش: اهبطوا مصر، وقال: هي مصر التي عليها سليم بن عليّ فلم يجرّها. وقال القضاعي: وكان بنصر بن حام قد كبر، وضعف فساقه ولده مصر، وجميع إخوته إلى مصر، فنزلوها وبذلك سميت مصر، وهو اسم لا ينصرف في المعرفة لأنه اسم مذكر سميت به هذه المدينة فاجتمع فيها التأنيث والتعريف، فمعناها الصرف، ثم قيل: لكل مدينة عظيمة يطرقها السفار: مصر فإذا أريد مصر من الأمصار صرف لزوال إحدى العلتين، وهي التعريف، وأما قوله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ [البقرة/ 61] فإنه مصروف في قراءة سائر القراء، وفي قراءة الحسن والأعمش: غير مصروف فمن صرفها فله وجهان: أحدهما: أنه أراد هبوط مصرا من الأمصار لأنهم كانوا يومئذ في التيه، والآخر: أنه أراد مصر هذه بعينها وصرفها لأنه جعل مصرا اسما للبلد، وهو اسم مذكر سمي به مذكّر فلم يمنعه الصرف، وأما من لم يصرفه فإنه أراد بمصر هذه المدينة، وكذلك قوله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف/ 99] ، وقول فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف/ 51] إنما يراد به مصر

هذه، فأما المصر في كلام العرب فهو الحدّ بين الأرضين، ويقال: إن أهل هجر يقولون: اشتريت الدار بمصورها أي بحدودها. وقال الجاحظ في كتاب مدح مصر: إنما سميت مصر بمصر لمصير الناس إليها، واجتماعهم بها. كما سمي مصير الجوف مصيرا ومصرانا لمصير الطعام إليه، قال: وجمع المصر من البلدان أمصار، وجمع مصير الطعام مصران، وليس لمصر هذه جمع لأنها واحدة قال: وقال الأخطل: هممت بالإسلام، ثم توقفت عنه، قيل: ولم ذلك؟ قال: أتيت امرأة لي وأنا جائع فقلت: أطعميني شيئا، فقالت: يا جارية ضعي لأبي مالك مصيرا في النار، ففعلت، فاستعجلتها بالطعام فقالت: يا جارية أين مصير أبي مالك؟ قالت: في النار، قال: فتطيرت وهممت بأن أسلم فتوقفت. وقال الجوهريّ «1» في كتاب الصحاح: مصر هي المدينة المعروفة تذكر وتؤنث عن ابن السراج والمصران الكوفة والبصرة، وقال ابن خالويه «2» : في كتاب ليس ليس أحد: فسّر لنا لم سميت مصر مقدونية قديما إلا في اللسان العبرانيّ، قال: مقدونية مغيث وإنما سميت مصر لما سكنها بنصر بن حام، وتزعم الروم أن بلاد مقدونية جميعا وقف على الكنيسة العظمى التي بالقسطنطينية، ويسمون بلاد مقدونية الأوصفية وهي عندهم الإسكندرية، وما يضاف إليها وهي مصر كلها بأسرها إلا الصعيد الأعلى، ويقال لمصر: أم خنور، وتفسيره النعمة والمصر الفرق بين الشيئين. قال الشاعر يصف الله تعالى: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا هذا البيت قائله عديّ بن زيد العباديّ ويروى لأمية بن الصلت الثقفيّ وهو من أبيات أوّلها: اسمع حديثا كما يوما تحدّثه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا كيف بدا ثم ربى الله نعمته ... فيها وعلمنا آياته ألا ولا كانت رياح وسيل ذو كرانية ... وظلمة لم تدع فتقا ولا خللا فآمر الظلمة السوداء فانكشفت ... وعزل الماء عما كان قد شغلا وبسط الأرض بسطا ثم قدّرها ... تحت السّماء سواميل وما نقلا وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا وفي السماء مصابيح تضيء لنا ... ما إن تكلفنا زيتا ولا فتلا قضى لستة أيام خليقته ... وكان آخر شيء صوّر الرجلا

ذكر طرف من فضائل مصر

فأخذ الله من طين فصوّره ... لما رأى أنه قد تم واعتدلا دعاه آدم صوتا فاستجاب له ... فنفخ الروح في الجسم الذي جبلا ثمة أورثه الفردوس يسكنها ... وزوجه ضلعة من جنبه جعلا لم ينهه ربه عن غير واحدة ... من شجر طيب إن شم أو أكلا وكانت الحية الرقشاء إذ خلقت ... كما ترى ناقة في الخلق أو جملا فلامها الله إذ أطغت خليفته ... طول الليالي ولم يجعل لها أكلا تمشي على بطنها في الأرض ما عمرت ... والترب تأكله حزنا وإن سهلا وقال الحافظ أبو الخطاب مجد الدين عمر بن دحية: ومصر أخصب بلاد الله وسماها الله بمصر وهي هذه دون غيرها بإجماع القرّاء على ترك صرفها، وهي اسم لا ينصرف في معرفة لأنه اسم مذكر سميت به هذه المدينة، واجتمع فيه التأنيث والتعريف فمنعاه الصرف، وهي عندنا مشتقة من مصرت الشاة إذا أخذت من ضرعها اللبن فسميت: مصر لكثرة ما فيها من الخير مما ليس في غيرها فلا يخلو ساكنها من خير يدرّ عليه منها كالشاة التي ينتفع بلبنها، وصوفها، وولادتها. وقال ابن الأعرابيّ: المصر الوعاء، ويقال للمعا المصير، وجمعه مصران ومصارين، وكذلك هي خزائن الأرض. قال أبو بصرة الغفاريّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مصر خزائن الأرض كلها ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف/ 55] فأغاث الله بمصر يومئذ وخزائنها كل حاضر وباد ذكره الحوفيّ في تفسيره. وقال البكري: أمّ خنور بفتح أوّله وتشديد ثانيه وبالراء المهملة اسم لمصر، وقال أرطاة بن شهبة: يا آل ذبيان! ذودوا عن دمائكم، ولا تكونوا كقوم أم خنور. يقول: لا تكونوا أذلاء ينالكم من أراد، يجب التأمل في هذه الجملة، وهي أم خنور. قال كراع: أم خنور: النعمة ولذلك سميت مصر أم خنور لكثرة خيرها. وقال عليّ بن حمزة: سميت أم خنور لأنها يساق إليها القصار الأعمار، ويقال للضبع: خنور وخنوز بالراء والزاي، وقال ابن قتيبة في غرائب الحديث: ومصر الحدّ، وأهل هجر يكتبون في شروطهم اشترى فلان الدار بمصورها كلها أي بحدودها، وقال عديّ بن زيد: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا أي حدّا. ذكر طرف من فضائل مصر ولمصر فضائل كثيرة منها: أنّ الله عزّ وجلّ ذكرها في كتابه العزيز بضعا وعشرين مرّة تارة بصريح الذكر وتارة إيماء. قال تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ [البقرة/ 61] . قال أبو محمد عبد الحق بن عطية في تفسيره: وجمهور الناس يقرءون مصرا بالتنوين وهو

خط المصاحف إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه، وقال مجاهد وغيره: من صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه، وقالت طائفة ممن صرفها: أراد مصر فرعون بعينها واستدلوا بما في القرآن أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار فرعون وآثاره، وأجازوا صرفها. قال الأخفش: لخفتها وشبهها بهند ودعد، وسيبويه لا يجير هذا. وقال غير الأخفش: أراد المكان فصرف. وقرأ الحسن وأبان بن ثعلب وغيرهما: اهبطوا مصر بترك الصرف؛ وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب. وقال: هي مصر فرعون. قال الأعمش «1» : هي مصر التي عليها صالح بن علي، وقال أشهب: قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون، قال تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف/ 99] . قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن فرقد الشيخي. قال: خرج يوسف عليه السلام يتلقى يعقوب عليه السلام، وركب أهل مصر مع يوسف، وكانوا يعظمونه فلما دنا أحدهما من صاحبه وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من ولده يقال له: يهوذا فنظر يعقوب إلى الخيل، وإلى الناس، فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا ابنك فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه قال يعقوب عليه السلام: عليك يا ذاهب الأحزان عني. هكذا قال: يا ذاهب الأحزان عني. وقال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس/ 87] . قال الطبري «2» عن ابن عباس وغيره: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها. قال قتادة: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوا نحو القبلة، وعن مجاهد: بيوتكم قبلة قال: نحو الكعبة حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا، وعن مجاهد في قوله: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً [يونس/ 87] قال: مصر: الإسكندرية. وقال تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف/ 51] . قال ابن عبد الحكم، وأبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، وغيرهما عن أبي رهم السماعي أنه قال في قوله تعالى: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف/ 51] قال: ولم يكن يومئذ في الأرض ملك أعظم من

ملك مصر، وكان جميع أهل الأرضيين يحتاجون إلى مصر، وأما الأنهار فكانت قناطر وجسورا بتقدير وتدبير حتى أن الماء يجري من تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه كيف شاءوا، فهذا ما ذكره الله سبحانه في مصر من آي الكتاب العزيز بصريح الذكر. (وأما) ما وقعت إليه الإشارة فيه من الآيات فعدّة. قال تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ [يونس/ 93] ، وقال تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون/ 50] . قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، ووهب بن منبه: هي مصر، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه: هي الإسكندرية، وقال تعالى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الشعراء/ 57] ، وقال تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [الدخان/ 25] . قال ابن يونس في قول الله سبحانه: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الشعراء/ 57] . قال أبو رهم: كانت الجنات بحافتي النيل من أوّله إلى آخره من الجانبين ما بين أسوان إلى رشيد، وسبعة خلج: خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء وزروع ما بين الجبلين كله من أوّل مصر إلى آخرها مما يبلغه الماء، وكان جميع أرض مصر كلها تروي يومئذ من ستة عشر ذراعا لما قد دبروا من قناطرها، وجسورها. قال: والمقام الكريم: المنابر كان بها ألف منبر. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: المقام الكريم: المنابر، وقال قتادة: ومقام كريم أي حسن ونعمة كانوا فيها فاكهين ناعمين. قال: أي والله أخرجه الله من جنانه، وعيونه، وزروعه حتى ورطه في البحر. وقال سعيد بن كثير بن عفير: كنا بقبة الهواء عند المأمون لما قدم مصر فقال لنا: ما أدري ما أعجب فرعون من مصر حيث يقول: أليس لي ملك مصر؟ فقلت: أقول: يا أمير المؤمنين، فقال: قل يا سعيد، فقلت: إنّ الذي ترى بقية مدمّر لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف/ 137] قال: صدقت، ثم أمسك، وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص/ 5] ، وقال تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ [غافر/ 29] ، وقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف/ 137] ، وقال تعالى مخبرا عن قوم فرعون: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الأعراف/ 127] يعني أرض مصر، وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف/ 55] . روى ابن يونس عن أبي نضرة الغفاريّ رضي الله عنه قال: مصر خزائن الأرض كلها، وسلطانها سلطان الأرض كلها ألا

ترى إلى قول يوسف عليه السلام لملك مصر: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ففعل فأغيث بمصر وخزائنها يومئذ كل حاضر، وباد من جميع الأرض، وقال تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ [يوسف/ 56] ، فكان ليوسف بسلطانه بمصر جميع سلطان الأرض كلها لحاجتهم إليه، وإلى ما تحت يديه، وقال تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام أنه قال: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس/ 88] ، وقال تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف/ 129] ، وقال تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر/ 26] يعني أرض مصر، وقال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص/ 4] يعني أرض مصر، وقال تعالى حكاية عن بعض إخوة يوسف عليه السلام: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ [يوسف/ 80] يعني أرض مصر، وقال تعالى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ [القصص/ 19] يعني أرض مصر. قال ابن عباس رضي الله عنه: سميت مصر بالأرض كلها في عشرة مواضع من القرآن، فهذا ما يحضرني مما ذكرت فيه مصر من آي كتاب الله العزيز. وقد جاء في فضل مصر أحاديث: روى عبد الله بن لهيعة من حديث عمرو بن العاص أنه قال: حدّثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم بعدي مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا فذلك الجند خير أجناد الأرض» . قال أبو بكر رضي الله عنه: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: «لأنهم في رباط إلى يوم القيامة» . وعن عمرو بن الحمق «1» : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ... تكون فتنة أسلم الناس فيها أو خير الناس فيها الجند الغربيّ ... » . قال: فلذلك قدمت عليكم مصر، وعن تبيع بن عامر الكلاعيّ قال: أقبلت من الصائفة فلقيت أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من أهل مصر، قال: من الجند العربيّ؟ فقلت: نعم، قال: الجند الضعيف؟ قال: قلت: أهو الضعيف؟ قال: نعم، قال: أما إنه ما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته، اذهب إلى معاذ بن جبل حتى يحدّثك قال: فذهبت إلى معاذ بن جبل فقال لي: ما قال لك الشيخ فأخبرته، فقال لي: وأيّ شيء تذهب به إلى بلادك أحسن من هذا الحديث، أكتبت في أسفل ألواحك، فلما رجعت إلى معاذ أخبرني أن بذلك أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى ابن وهب من حديث صفوان بن عسال قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ... فتح الله بابا للتوبة في الغرب عرضه سبعون عاما لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه ... » . وروى ابن لهيعة من حديث عمرو بن العاص: حدّثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه، أنه سمع

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإنّ لهم منكم صهرا وذمّة ... » . وروى ابن وهب قال: أخبرني حرملة بن عمران التجيبي عن عبد الرحمن بن شماسة المهريّ قال: سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإنّ لهم ذمّة ورحما فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فأخرجوا منها ... » . قال: فمرّ بربيعة وعبد الرحمن ابني شرحبيل يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها، وفي رواية: «ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فإذا افتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمّة ورحما أو قال: ذمّة وصهرا» الحديث، ورواه مالك، والليث وزاد: فاستوصوا بالقبط خيرا. أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب. قال ابن شهاب: وكان يقال إنّ أمّ إسماعيل منهم، قال الليث بن سعد: قلت لابن شهاب: ما رحمهم، قال: إن أمّ إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما منهم، وقال محمد بن إسحاق «1» : قلت للزهريّ «2» : ما الرحم التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت هاجر أمّ إسماعيل منهم، وروى ابن لهيعة من حديث أبي سالم الجيشاني: أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم ستكونون أجنادا وإن خير أجنادكم أهل الغرب منكم فاتقوا الله في القبط لا تأكلوهم أكل الخضر» ، وعن مسلم بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استوصوا بالقبط خيرا فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال العدوّ» ، وعن يزيد بن أبي حبيب: أن أبا سلمة ابن عبد الرحمن حدّثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته أن تخرج اليهود من جزيرة العرب، وقال: «الله الله في قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدّة، وأعوانا في سبيل الله» ، وروى ابن وهب عن موسى بن أيوب الغافقي عن رجل من الرّند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض فأغمي عليه ثم أفاق فقال: «استوصوا بالأدم الجعد» ثم أغمي عليه الثانية، ثم أفاق فقال مثل ذلك، ثم أغمي عليه الثالثة، فقال مثل ذلك، فقال القوم: لو سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدم الجعد، فأفاق فسألوه، فقال: «قبط مصر، فإنهم أخوال، وأصهار، وهم أعوانكم على عدوّكم وأعوانكم على دينكم» ، قالوا: كيف يكونون أعواننا على ديننا يا رسول الله؟ قال: «يكفونكم أعمال الدنيا وتتفرّغون للعبادة فالراضي بما يؤتى إليهم كالفاعل بهم والكاره لما يؤتى إليهم من الظلم كالمتنزه عنهم» ، وعن عمرو بن حريب وأبي عبد الرحمن الحلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم ستقدمون على قوم جعد رؤوسهم فاستوصوا بهم خيرا فإنهم قوّة لكم وبلاغ إلى عدوّكم بإذن الله» يعني قبط مصر.

وعن ابن لهيعة: حدّثني مولى عفرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الله الله في أهل المدرة السوداء السجم الجعاد فإن لهم نسبا وصهرا» ، قال عمرو مولى عفرة صهرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرّى فيهم، ونسبهم أن أمّ إسماعيل عليهم السلام منهم. قال ابن وهب: فأخبرني ابن لهيعة أن أمّ إسماعيل هاجر من أمّ العرب قرية كانت أمام الفرما من مصر وقال مروان القصاص: صاهر إلى القبط من الأنبياء ثلاثة: إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام تسرّى هاجر، ويوسف تزوّج بنت صاحب عين شمس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تسرّى مارية. وقال يزيد بن أبي حبيب: قرية هاجر باق التي عندها أمّ دنين، وقال هشام: العرب تقول: هاجر، وآجر، فيبدلون من الهاء الألف كما قالوا: هراق الماء، وأراق الماء، ونحوه. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الأمصار سبعة. فالمدينة مصر، والشأم مصر، ومصر، والجزيرة، والبحرين، والبصرة، والكوفة. وقال مكحول: أول الأرض خرابا أرمينة، ثم مصر. وقال عبد الله بن عمر: وقبطة مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة، وبقريش خاصة، ومن أراد أن يذكر الفردوس، أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنور ثمارها. وقال كعب الأحبار «1» : من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة فلينظر إلى مصر إذا أخرقت، وفي رواية: إذا أزهرت. (ومن فضائل مصر) : أنه كان من أهلها السحرة، وقد آمنوا جميعا في ساعة واحدة، ولا يعلم جماعة أسلمت في ساعة واحدة أكثر من جماعة القبط، وكانوا في قول يزيد بن أبي حبيب، وغيره اثني عشر ساحرا رؤساء، تحت يد كل ساحر منهم عشرون عريفا، تحت يد كل عريف منهم ألف من السحرة، فكان جميع السحرة مائتي ألف وأربعين ألفا ومائتين واثنين وخمسين إنسانا بالرؤساء، والعرفاء، فلما عاينوا ما عاينوا أيقنوا أن ذلك من السماء وأن السحر لا يقوم لأمر الله فخرّ الرؤساء الاثنا عشر عند ذلك سجدا، فأتبعهم العرفاء، واتبع العرفاء من بقي، وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون. قال تبيع: كانوا من أصحاب موسى عليه السلام ولم يفتتن منهم أحد مع من افتتن من بني إسرائيل في عبادة العجل. قال تبيع: ما آمن جماعة قط في ساعة واحدة مثل جماعة القبط، وقال كعب الأحبار: مثل قبط مصر كالغيضة كلما قطعت نبتت حتى يخرّب الله عز وجل بهم وبصناعتهم جزائر الروم، وقال عبد الله بن عمرو: خلقت الدنيا على خمس صور: على صورة الطير برأسه، وصدره، وجناحيه، وذنبه. فالرأس مكة، والمدينة، واليمن. والصدر الشأم، ومصر والجناح الأيمن العراق، وخلف العراق أمّة يقال لها: واق، وخلف واق أمّة يقال

لها: واق واق وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، والجناح الأيسر السند، وخلف السند الهند، وخلف الهند أمّة يقال لها: ناسك، وخلف ناسك أمّة يقال لها: منسك، وخلف ذلك من الأمم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، والذنب من ذات الحمام إلى مغرب الشمس، وشرّ ما في الطير الذنب، وقال الجاحظ: الأمصار عشرة: الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والتحنيث ببغداد، والعيّ بالري، والجفا بنيسابور، والحسن بهراة، والطرمذة بسمرقند، والمروءة ببلخ، والتجارة بمصر، والبخل بمرو، الطرمذة: كلام ليس له فعل، وعن يحيى بن داخر الغافريّ أنه سمع عمرو بن العاص يقول في خطبته: واعملوا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لمكث الأعداء حولكم، ولإشراف قلوبهم إليكم، وإلى داركم معدن الزرع، والمال، والخير الواسع، والبركة النامية. وعن عبد الرحمن بن غنم الأشعريّ: أنه قدم من الشأم إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: ما أقدمك إلى بلادنا؟ قال: كنت تحدّثني أن مصر أسرع الأرض خرابا ثم أراك قد اتخذت منها، وبنيت فيها القصور، واطمأننت فيها، قال: إن مصر قد أوفت خرابها حطّمها البخت نصر، فلم يدع فيها إلا السباع، والضباع، فهي اليوم أطيب الأرضين ترابا، وأبعدها خرابا، ولا يزال فيها بركة ما دام في شيء من الأرض بركة، ويقال: مصر متوسطة الدنيا، قد سلمت من حرّ الإقليم الأوّل والثاني، ومن برد الإقليم السادس والسابع، ووقعت في الإقليم الثالث، فطاب هواها، وضعف حرّها، وخف بردها، وسلم أهلها من مشاتي الأهواز، ومصايف عمان، وصواعق تهامة، ودماميل الجزيرة، وجرب اليمن، وطواعين الشأم، وبرسام العراق، وعقارب عسكر مكرم، وطحال البحرين، وحمى خيبر، وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم، وهجوم العرب، ومكايد الدّيلم، وسرايا القرامطة، ونزف الأنهار، وقحط الأمطار، وبها ثمانون كورة ما فيها كورة إلا وبها طرائف، وعجاب من أنواع البرّ، والأبنية، والطعام، والشراب، والفاكهة، وسائر ما تنتفع به الناس، وتدخره الملوك يعرف بكل كورة، وجهاتها وينسب كل لون إلى كورة، فصعيدها أرض حجازية حرّة حرّ العراق، وينبت النخل، والأراك، والقرظ، والدوم، والعشر، وأسفل أرضها شامي يمطر مطر الشأم، وينبت ثمار الشأم من الكروم، والزيتون، واللوز، والتين، والجوز، وسائر الفواكه، والبقول، والرياحين، ويقع به الثلج، والبرد. وكورة الإسكندرية، ولوبية، ومراقيه براري، وجبال، وغياض تنبت الزيتون، والإعناب، وهي بلاد إبل، وماشية، وعسل، ولبن. وفي كل كورة من كور مصر مدينة، في كل مدينة منها آثار كريمة من الأبنية، والصخور، والرخام، والعجائب، وفي نيلها السفن التي تحمل السفينة الواحدة منها ما يحمله خمسمائة بعير، وكل قرية من قرى مصر تصلح أن تكون مدينة يؤيد ذلك قول الله سبحانه وتعالى: وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشعراء/ 36] ، ويعمل بمصر معامل كالتنانير يعمل بها البيض بصنعة يوقد عليه، فيحاكي نار

الطبيعة في حضانة الدجاجة لبيضها، ويخرج من تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاج مصر، ولا يتم عمل هذا بغير مصر. وقال عمر بن ميمون: خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل، فلما أصبح فرعون أمر بشاة، فأتى بها فأمر بها أن تذبح، ثم قال: لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع عندي خمس مائة ألف من القبط، فاجتمعوا إليه، فقال لهم فرعون: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وكان أصحاب موسى عليه السلام ستمائة ألف وسبعين ألفا. ووصف بعضهم مصر، فقال: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمردة خضراء، وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء، فأما اللؤلؤة البيضاء، فإن مصر في أشهر أبيب ومسرى وبوت يركبها الماء، فترى الدنيا بيضاء، وضياعها على روابي، وتلال مثل الكواكب قد أحيطت بها المياه من كل وجه، فلا سبيل إلى قرية من قراها إلا في الزوارق، وأما المسكة السوداء، فإن في أشهر بابه، وهاتور، وكيهك ينكشف الماء عن الأرض فتصير أرضا سوداء، وفي هذه الأشهر تقع الزراعات، وأما الزمرذة الخضراء فإن في أشهر طوبه وامشير وبرمهات يكثر نبات الأرض، وربيعها فتصير خضراء كأنها زمرذة، وأما السبيكة الحمراء فإن في أشهر برمودة وبشنس وبؤنة يتورد العشب، ويبلغ الزرع الحصاد، فيكون كالسبيكة التي من الذهب منظرا ومنفعة، وسأل بعض الخلفاء الليث بن سعد عن الوقت الذي تطيب فيه مصر؟ فقال: إذا غاض ماؤها، وارتفع وباها وجف ثراها وأمكن مرعاها، وقال آخر: نيلها عجب، وأرضها ذهب، وخيرها جلب، وملكها سلب، ومالها رغب، وفي أهلها صخب، وطاعتهم رهب، وسلامهم شعب، وحربهم حرب، وهي لمن غلب. وقال آخر: مصر من سادات القرى ورؤساء المدن، وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ [البقرة/ 265] هي: مصر إن لم يصبها مطر أزكت، وإن أصلبها مطرا ضعفت، قاله المسعودي في تاريخه، ويقال: لما خلق الله آدم عليه السلام مثل له الدنيا شرقها، وغربها، وسهلها، وجبلها، وأنهارها، وبحارها، وبناءها، وخرابها، ومن يسكنها من الأمم ومن يملكها من الملوك، فلما رأى مصر أرضا سهلة ذات نهر جار مادّته من الجنة تنحدر فيه البركة، ورأى جبلا من جبالها مكسوّا نورا لا يخلو من نظر الرب إليه بالرحمة في سفحه أشجار مثمرة، وفروعها في الجنة تسقى بماء الرحمة، فدعا آدم عليه السلام في النيل بالبركة، ودعا في أرض مصر بالرحمة، والبرّ والتقوى، وبارك في نيلها وجبلها سبع مرّات وقال: يا أيها الجبل المرحوم: سفحك جنة، وتربتك مسكة يدفن فيها غراس الجنة أرض حافظة مطيعة رحيمة لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ ولا زال منك ملك وعزيا أرض مصر فيك الخبايا، والكنوز، ولك البرّ والثروة، وسال نهرك عسلا كثر الله زرعك، ودرّ ضرعك، وزكى نباتك وعظمت بركتك، وخصبت ولا زال فيك خير ما لم تتجبري وتتكبري، أو تخوني فإذا فعلت ذلك عد النشر، ثم يغور خيرك، فكان آدم أوّل من دعا لها بالرحمة، والخصب والرأفة والبركة.

وعن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام دعا لمصر بن بيصر بن حام فقال: اللهمّ إنه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أم البلاد، وغوث العباد التي نهرها أفضل أنهار الدنيا، واجعل فيها أفضل البركات، وسخر له ولولده الأرض، وذللها لهم وقوّهم عليها. وقال كعب الأحبار: لولا رغبتي في بيت المقدس لما سكنت إلا مصر فقيل له: لم؟ فقال: لأنها بلد معافاة من الفتن ومن أرادها بسوء أكبه الله على وجهه وهو بلد مبارك لأهله فيه. وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن ابن أبي هلال: أن كعب الأحبار كان يقول: إني لأحب مصر وأهلها، لأن مصر بلد معافاة وأهلها أصحاب عافية، وهم بذلك مفارقون، ويقال: إن في بعض الكتب الإلهية: مصر خزائن الأرض كلها فمن أرادها بسوء قصمه الله تعالى. وقال عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة يعني إذا جمع الخراج مع الإمارة، وقال أحمد بن مدبر: تحتاج مصر إلى ثمانية وعشرين ألف ألف فدان، وإنما يعمر منها ألف ألف فدّان، وقد كشفت أرض مصر، فوجدت غامرها أضعاف عامرها، ولو اشتغل السلطان بعمارتها لوفت له بخراج الدنيا. وقال بعضهم: إنّ خراج العراق لم يكن قط أوفر منه في أيام عمر بن عبد العزيز، فإنه بلغ ألف ألف درهم وسبعة عشر ألف ألف درهم، ولم تكن مصر قط أقل من خراجها في أيام عمرو بن العاص، وأنه بلغ اثني عشر ألف ألف دينار، وكانت الشامات بأربعة عشر ألف ألف سوى الثغور. ومن فضائل مصر: أنه ولد بها من الأنبياء موسى، وهارون، ويوشع عليهم السلام، ويقال: إن عيسى بن مريم صلوات الله عليه أخذ على سفح الجبل المقطم، وهو سائر إلى الشام، فالتفت إلى أمّه وقال: يا أمّاه هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ويذكر أنه ولد في قرية اهناس من نواحي صعيد مصر وأنه كانت به نخلة يقال: إنها النخلة المذكورة في القرآن بقوله سبحانه وتعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم/ 25] وهذا القول وهم، فإنه لا خلاف بين علماء الأخبار من أهل الكتاب، ومن يعتمد عليه من علماء المسلمين أن عيسى صلوات الله عليه ولد بقرية بيت لحم من بيت المقدس، ودخل مصر من الأنبياء، إبراهيم خليل الرحمن، وقد ذكر خبر ذلك عند ذكر خليج القاهرة من هذا الكتاب. ودخلها أيضا يعقوب ويوسف والأسباط، وقد ذكر ذلك في خبر الفيوم، ودخلها أرميا، وكان من أهلها مؤمن آل فرعون الذي أثنى عليه الله جلّ جلاله في القرآن. ويقال: إنه ابن فرعون لصلبه، وأظنه أنه غير صحيح، وكان منها جلساء فرعون الذين أبان الله فضيلة عقلهم بحسن مشورتهم في أمر موسى وهارون عليهما السلام، لما استشارهم فرعون في أمرهما فقال تعالى: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ

أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشعراء/ 34- 37] ، وأين هذا من قول أصحاب النمرود في إبراهيم صلوات الله عليه، حيث أشاروا بقتله قال تعالى حكاية عنهم: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ [الأنبياء/ 68] ومن أهل مصر، امرأة فرعون التي مدحها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم/ 11] ومن أهلها، ماشطة بنت فرعون وآمنت بموسى عليه السلام، فمشطها فرعون بأمشاط الحديد كما يمشط الكتان، وهي ثابتة على إيمانها بالله. وقال صاعد اللغوي «1» في كتاب طبقات الأمم: إن جميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان إنما صدرت عن هرمس الأوّل الساكن بصعيد مصر الأعلى، وهو أوّل من تكلم في الجواهر العلوية، والحركات النجومية، وهو أوّل من ابتنى الهياكل، ومجد الله فيها، وأوّل من نظر في علم الطب، وألف لأهل زمانه قصائد موزونة في الأشياء الأرضية والسماوية، وقالوا: إنه أوّل من أنذر بالطوفان، ورأى أن آفة سماوية تصيب الأرض من الماء، والنار فخاف ذهاب العلم، واندراس الصنائع فبنى الأهرام، والبرابي «2» التي في صعيد مصر الأعلى، وصوّر فيها جميع الصنائع، والآلات ورسم فيها صفات العلوم حرصا على تخليدها لمن بعده، وخيفة أن يذهب رسمها من العالم، وهرمس هذا هو: إدريس عليه السلام. وقال أبو محمد الحسن بن إسماعيل بن الفرات في أخبار مصر: إن الخضر جاز البحر مع موسى عليه السلام، وكان مقدّما عنده، وكان بمصر من الحكماء جماعة ممن عمرت الدنيا بكلامهم وحكمهم وتدبيرهم، وكان من علومهم علم الطب، وعلم النجوم، وعلم المساحة، وعلم الهندسة، وعلم الكيمياء، وعلم الطلسمات، ويقال: كانت مصر في الزمن الأوّل يسير إليها طلاب العلوم لتزكو عقولهم، وتجود أذهانهم ويتميز عندهم الذكاء وتدق الفطنة. ومن فضائل مصر: أنها تمير أهل الحرمين وتوسع عليهم ومصر فرضة الدنيا يحمل خيرها إلى ما سواها، فساحلها بمدينة القلزم يحمل منه إلى الحرمين واليمن والهند والصين وعمان والسند والشحر، وساحلها من جهة تنيس ودمياط والفرما فرضة بلاد الروم،

والإفرنج، وسواحل الشام والثغور إلى حدود العراق، وثغر إسكندرية فرضة أقريطس وصقلية وبلاد المغرب، ومن جهة الصعيد يحمل إلى بلاد الغرب والنوبة والبجة والحبشة والحجاز واليمن، وبمصر عدّة من الثغور المعدّة للرباط في سبيل الله تعالى وهي: البراس ورشيد والإسكندرية وذات الحمام والبحيرة واخنا ودمياط وشطا وتنيس والأشتوم والفرما والواردة والعريش وأسوان وقوص والواحات، فيغزى من هذه الثغور الروم والفرنج والبربر والنوبة والحبشة والسودان. وبمصر عدّة مشاهد وكثير من المساجد، وبها النيل، والأهرام والبرابي والأديار والكنائس وأهلها يستغنون بها عن كل بلد حتى أنه لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسوره لاستغنى أهلها بما فيها عن جميع البلاد. وبمصر دهن البلسان الذي عظمت منفعته، وصارت ملوك الأرض تطلبه من مصر، وتعتني به وملوك النصرانية تترامى على طلبه، والنصارى كافة تعتقد تعظيمه وترى أنه لا يتم تنصر نصرانيّ إلا بوضع شيء من دهن البلسان في ماء المعمودية عند تغطيسه فيها، وبها السقنقور ومنافعه لا تنكر وبها النمس والعرس، ولهما في أكل الثعابين فضيلة لا تنكر فقد قيل: لولا العرس والنمس لما سكنت مصر من كثرة الثعابين، وبها السمكة الرعادة ونفعها في البرء من الحمى إذا علقت على المحموم عجيب، وبمصر حطب السنط، ولا نظير له في معناه فلو وقد منه تحت قدر يوما كاملا لما بقي منه رماد، وهو مع ذلك صلب الكسر سريع الاشتعال بطيء الخمود. ويقال: إنه أبنوس غيرته بقعة مصر فصار أحمر. وبها الأفيون عصارة الخشخاش، ولا يجهل منافعه إلا جاهل، وبها البنج وهو ثمر قدر اللوز الأخضر كان من محاسن مصر إلا أنه انقطع قبل سنة سبعمائة من الهجرة؛ وبها الأترج. قال أبو داود «1» صاحب السير في كتاب الزكاة: شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبرا، ورأيت أترجة على بعير قطعتين، وصيرت مثل عدلين. قال المسعودي في التاريخ: والأترج المدوّر حمل من أرض الهند بعد الثلاثمائة من سني الهجرة، وزرع بعمان، ثم نقل منها إلى البصرة والعراق والشام، حتى كثر في دور الناس بطرسوس، وغيرها من الثغور الشامية، وفي أنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر، وما كان يعهد ولا يعرف فعدمت منه الأراهج الحمراء الطيبة، واللون الحسن الذي كان فيه بأرض الهند لعدم ذلك الهواء والتربة وخاصية البلد. وفي مصر معدن الزمرد، ومعدن النفط والشب والبرام ومقاطع الرخام، ويقال: كان بمصر من المعادن ثلاثون معدنا؛ وأهل مصر يأكلون صيد بحر الروم، وصيد بحر اليمن طريا لأن بين البحرين مسافة ما بين مدينة القلزم، والفرما، وذلك يوم وليلة، وهو الحاجز المذكور في القرآن قال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً [النمل/ 61] قيل: هما بحر الروم، وبحر القلزم، وقال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ [الرحمن/ 19] . قال بعض المفسرين: البرزخ ما بين القلزم والفرما.

ومن محاسن مصر: أنه يوجد بها في كل شهر من شهور السنة القبطية صنف من المأكول والمشموم دون ما عداه من بقية الشهور فيقال: رطب توت، ورمان بابه، وموزها تور، وسمك كيهك، وماء طوبة، وخروف امشير، ولبن برمهات، وورد برمودة، ونبق بشنس، وتين بؤنة، وعسل أبيب، وعنب مسرى، ومنها: أن صيفها خريف لكثرة فواكهه وشتاءها ربيع لما يكون بمصر حينئذ من القرظ والكنان. ومن محاسنها: أن الذي ينقطع من الفواكه في سائر البلدان أيام الشتاء يوجد حينئذ بمصر. ومنها: أن أهل مصر لا يحتاجون في حرّ الصيف إلى استعمال الخيش والدخول في جوف الأرض كما يعانيه أهل بغداد، ولا يحتاجون في برد الشتاء إلى لبس الفرو، والاصطلاء بالنار الذي لا يستغني عنه أهل الشام. كما أنهم أيضا في الصيف غير محتاجين إلى استعمال الثلج، ويقال: زبرجد مصر، وقباطي مصر، وحمير مصر، وثعابين مصر، ومنافعها في الدرياق جليلة. ومن فضائل مصر: أن الرخامة التي في الحجر من الكعبة من مصر بعث بها محمد بن طريف مولى العباس بن محمد في سنة إحدى وأربعين ومائتين، مع رخامة أخرى خضراء هدية للحجر، فجعلت إحدى الرخامتين على سطح جدر الكعبة، وهما من أحسن الرخام في المسجد خضرة وكان المتولي عليهما عبد الله بن محمد بن داود، ذرعها ذراع وثلاث أصابع. قاله الفاكهي في أخبار مكة. ومن فضائل مصر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرّى من أهلها، وولد له صلى الله عليه وسلم من نساء مصر، ولم يولد له ولد من غير نساء العرب إلا من نساء مصر. قال ابن عبد الحكم: لما كانت سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية بعث إلى الملوك، فمضى حاطب بن أبي بلتعة بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى الإسكندرية، وجد المقوقس في مجلس مشرف على البحر، فركب البحر فلما حاذى مجلسه أشار بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه، فلما رآه أمر بالكتاب فقبض وأمر به فأوصل إليه، فلما قرأ الكتاب قال: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو عليّ فيسلط عليّ. فقال له حاطب: ما منع عيسى بن مريم أن يدعو على من أبى عليه أن يفعل به، ويفعل، فوجم ساعة، ثم استعادها، فأعادها عليه حاطب فسكت فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك رجل زعم أنه الرب الأعلى فانتقم الله به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا تعتبر بك، وإن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير فيه، وهو الإسلام الكافي لنبيه عمّا سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلى كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به. ثم قرأ الكتاب فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس

عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى؛ أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) فلما قرأه أخذه فجعله في حق من عاج وختم عليه. وعن أبان بن صالح قال: أرسل المقوقس «1» إلى حاطب ليلة وليس عنده أحد إلا الترجمان فقال له: ألا تخبرني عن أمور أسألك عنها فإني أعلم أن صاحبك قد تخيرك حين بعثك، قلت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، قال: إلى ما يدعو محمد؟ قال: إلى أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتخلع ما سواه، ويأمر بالصلاة. قال: فكم تصلون؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة، والدم. قال: من أتباعه؟ قال: الفتيان من قومه، وغيرهم. قال: وهل يقبل قوله؟ قال: نعم، قال: صفه لي؟ قال: فوصفته بصفة من صفته، ولم آت عليها، قال: قد بقيت أشياء لم أرك ذكرتها في عينيه حمرة قلّ ما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوّة يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزي بالتمرات والكسر لا يبالي من لاقى من عمّ ولا ابن عمّ، قلت: هذه صفته، قال: قد كنت أعلم أن نبيا بقي وقد كنت أظنّ أن مخرجه الشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب في أرض جهد، وبؤس، والقبط لا تطاوعني في أتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما ههنا، وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا فارجع إلى صاحبك. قال: ثم دعي كاتبا يكتب بالعربية فكتب: (لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام. أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي وقد كنت أظن أن نبيا يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام) . وعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: لما مضى حاطب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قبل المقوقس الكتاب، وأكرم حاطبا وأحسن نزله، ثم سرّحه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له كسوة، وبغلة بسرجها، وجاريتين إحداهما أمّ إبراهيم، ووهب الأخرى لجهم بن قيس العبدري، فهي أمّ زكريا بن جهم الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر ويقال: بل وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة الأنصاريّ، ويقال: بل لدحية بن خليفة الكلبي، وقيل: بل لحسان بن ثابت.

وعن يزيد بن أبي حبيب «1» : أن المقوقس لما أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمه إلى صدره، وقال: هذا زمان يخرج فيه النبيّ الذي نجد نعته وصفته في كتاب الله تعالى، وإنا لنجد صفته أنه لا يجمع بين أختين في ملك يمين، ولا نكاح، وأنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وأن جلساءه المساكين وإن خاتم النبوّة بين كتفيه، ثم دعا رجلا عاقلا، ثم لم يدع بمصر أحسن ولا أجمل من مارية وأختها، وهما من أهل جفن بفتح أوّله وسكون ثانيه ثم نون بعده من كورة انصنا، فبعث بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى له بغلة شهباء وحمارا أشهب، وثيابا من قباطي مصر، وعسلا من عسل بنها، وبعث إليه بمال صدقة. ويقال: إن المقوقس أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جواري، وقيل: جاريتين، وبغلة اسمها الدلدل، وحمارا اسمه يعفور، وقبأ وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا من قباطي مصر، وخصيا يسمى مايور، ويقال: إنه ابن عمّ مارية، وفرسا يقال له: الكرّار، وقدحا من زجاج، وعسلا من عسل بنها، فأعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعا فيه بالبركة، وقال: ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه، فإن المقوقس قال خيرا وأكرم حاطب ابن أبي بلتعة وقارب الأمر ولم يسلم. وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر الواقديّ: أنبأنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: أهدى المقوقس صاحب الإسكندرية إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الهجرة، مارية وأختها سيرين، وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا، وبغلته الدلدل، وحماره عفيرا، وخصيا يقال له: مابور فعرض حاطب على مارية الإسلام فأسلمت هي وأختها، ثم أسلم الخصي بعد وكان الذي بعثه المقوقس، مع مارية اسمه جبرين بن عبد الله القبطي. مولى بني عفار. قال ابن عبد الحكم: وأمر رسوله أن ينظر من جلساؤه وينظر إلى ظهره هل يرى شامة كبيرة ذات شعر ففعل ذلك الرسول، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم إليه الأختين والدابتين، والعسل والثياب، وأعلمه أن ذلك كله هدية، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية، وكان لا يردّها من أحد من الناس. قال: فلما نظر إلى مارية وأختها أعجبتاه وكره أن يجمع بينهما، وكانت إحداهما تشبه الأخرى فقال: «اللهم اختر لنبيك» ، فاختار الله له مارية. وذلك أنه لما قال لهما: «اشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله» ، فبادرت مارية فشهدت وآمنت قبل أختها، ومكثت أختها ساعة، ثم تشهدت وآمنت، فوهب رسول الله صلى الله عليه وسلم أختها لمحمد «2» بن مسلمة الأنصاريّ، وقال

بعضهم: بل وهبها لدحية «1» بن خليفة الكلبيّ. وعن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شامة المهري عن عبد الله بن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّ إبراهيم أمّ ولده القبطية، فوجد عندها نسيبا لها كان قدم معها من مصر، وكان كثيرا ما يدخل عليها، فوقع في نفسه شيء فرجع، فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعرف ذلك في وجهه، فسأله فأخبره، فأخذ عمر السيف، ثم دخل على مارية وقريبها عندها، فأهوى إليه بالسيف فلما رأى ذلك كشف عن نفسه، وكان مجبوبا ليس بين رجليه شيء. فلما رآه عمر رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برّأها وقريبها وإن في بطنها غلاما مني وأنه أشبه الخلق بي وأمرني أن أسميه إبراهيم وكناني بأبي إبراهيم» . وقال الزهري عن أنس: لما ولدت أمّ إبراهيم إبراهيم كأنه وقع في نفس النبيّ صلى الله عليه وسلم منه شيء حتى جاءه جبريل، فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، ويقال: إن المقوقس بعث معها بخصيّ كان يأوي إليها، وقيل: إن المقوقس أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جواري منهنّ أمّ إبراهيم وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهم بن حذيفة وواحدة وهبها لحسان بن ثابت فولدت مارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم. وكان أحب الناس إليه حتى مات فوجد به وكان سنه يوم مات ستة عشر شهرا، وكانت البغلة والحمار أحب دوابه إليه وسمى البغلة الدلدل، وسمى الحمار يعفورا، وأعجبه العسل، فدعا في عسل بنها بالبركة، وبقيت تلك الثياب حتى كفن في بعضها صلى الله عليه وسلم، وكان اسم أخت مارية قيصر، وقيل: بل كان اسمها سيرين، وقيل: حمنة. وكلم الحسن بن عليّ معاوية بن أبي سفيان في أن يضع الجزية عن جميع قرية أمّ إبراهيم لحرمتها ففعل، ووضع الخراج عنهم فلم يكن على أحد منهم خراج، وكان جميع أهل القرية من أهلها وأقربائها فانقطعوا. ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو بقي إبراهيم ما تركت قبطيا إلا وضعت عنه الجزية» ، وماتت مارية في محرّم سنة خمس عشرة بالمدينة. وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب، وابن لهيعة عن عقيل عن الزهريّ عن يعقوب بن عبد الله بن المغيرة بن الأخفش عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دخل إبليس العراق فقضى حاجته منها، ثم دخل الشام فطردوه حتى دخل جبل شاق، ثم دخل مصر فباض فيها وفرّخ وبسط عبقريه» حديث صحيح غريب، وقد عاب بعضهم مصر فقال: محاسنها مجلوبة إليها حتى العناصر الأربعة؛ الماء وهو في النيل مجلوب من الجنوب، والتراب مجلوب في حمل الماء، وإلا فهي رمل محض لا تنبت الزرع، والنار لا يوجد بها شجرها، والهواء لا يهب بها إلا من أحد البحرين، إما من الروميّ، وإما من القلزم، وقد

ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك

زاد هذا في تحامله. وقال كعب الأحبار: الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة والكوفة آمنة من الخراب حتى تكون الملحمة. ذكر العجائب التي كانت بمصر من الطلسمات والبرابي ونحو ذلك ذكر في كتاب عجائب الحكايات وغرائب الماجزيات أنه كان بمصر حجر من جمع كفيه عليه تقيأ جميع ما في جوده. قال القضاعي: ذكر الجاحظ وغيره: أنّ عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة منها بسائر الدنيا عشر أعجوبات، وهي مسجد دمشق، وكنيسة الرّها، وقنطرة سنجر، وقصر غمدان، وكنيسة رومية، وصنم الزيتون، وإيوان كسرى بالمدائن، وبيت الريح بتدمر، والخورنق، والسدير بالحيرة، والثلاثة الأحجار ببعلبك، وذكر أنها بيت المشتري والزهرة، وأنه كان لكل كوكب من السبعة بيت فيها، فتهدّمت. (ومنها بمصر عشرون أعجوبة) فمن ذلك الهرمان، وهما أطول بناء وأعجبه ليس على وجه الدنيا بناء باليد حجر على حجر أطول منهما، وإذا رأيتهما ظننت أنهما جبلان موضوعان، ولذلك قال بعض من رآهما: ليس من شيء إلا وأنا أرحمه من الدهر إلا الهرمين فإني لأرحم الدهر منهما. ومن ذلك صنم الهرمين، وهو بلهوية ويقال بلهيت «1» ويقال: إنه طلسم للرمل لئلا يغلب على إبليز الجيزة. ومن ذلك بربا سمنود، وهو من أعاجيبها وذكر عن أبي عمرو الكنديّ أنه قال: رأيته وقد خزن فيه بعض عمالها قرظا فرأيت الجمل إذا دناه من بابه بحمله وأراد أن يدخله سقط كل دبيب في القرظ لم يدخل منه شيء إلى البربا، ثم خرب عند الخمسين والثلاثمائة. ومن ذلك: بربا اخميم عجب من العجائب بما فيه من الصور، وأعاجيب وصور الملوك الذين يملكون مصر، وكان ذو النون الإخميمي يقرأ البرابي، فرأى فيها حكما عظيمة فأفسد أكثرها. ومن ذلك بربا دندره، وهو بربا عجيب فيه ثمانون ومائة كوّة تدخل الشمس كل يوم من كوّة منها، ثم الثانية حتى تنتهي إلى آخرها، ثم تكرّر راجعة إلى موضع بدائها. ومن ذلك حائط العجوز من العريش إلى أسوان يحيط بأرض مصر شرقا وغربا. ومن ذلك الإسكندرية وما فيها من العجائب فمن عجائبها المنارة، والسواري، والمعلب الذي كانوا يجتمعون فيه في يوم من السنة، ثم يرمون بكرة فلا تقع في حجر أحد

إلا ملك مصر، وحضر عيدا من أعيادهم عمرو بن العاص، فوقعت الكرة في حجره فملك البلد بعد ذلك في الإسلام، ثم يحضر هذا الملعب ألف ألف من الناس فلا يكون فيهم أحد إلا وهو ينظر في وجه صاحبه، ثم إن قرىء كتاب سمعوه جميعا أو لعب نوع من أنواع اللعب رأوه عن آخرهم لا يتطاولون فيه بأكثر من المراتب العلية والسفلية. ومن عجائبها: المسلتان وهما: جبلان قائمان على سرطانات نجاس في أركانها كل ركن على سرطان، فلو أراد مريد أن يدخل تحتها شيئا حتى يعبره من جانبه الآخر لفعل. ومن عجائبها: عمودا الأعيا، وهما عمودان ملقيان وراء كل عمود منهما جبل حصبا كصبر الجمار بمنى يقبل المعنى التعب النصب بسبع حصيات حتى يلتقي على أحدهما، ثم يرمي وراءه السبع، ويقوم ولا يلتفت ويمضي لطيته فكأنما يحمل حملا لا يحس بشيء من تعبه. ومن عجائبها: القبة الخضراء وهي: أعجب قبة ملبسة نحاسا كأنه الذهب الإبريز لا يبليه القدم ولا يخلقه الدهر. ومن عجائبها: منية عقبة وقصر فارس وكنيسة أسفل الأرض، ثم هي مدينة على مدينة ليس على وجه الأرض مدينة بهذه الصفة سواها، ويقال: إنها إرم ذات العماد؛ سميت بذلك لأن عمدها ورخامها من البدنجنا والاصطنيدس المخطط طولا وعرضا. ومن عجائب مصر أيضا: الجبال التي هي بصعيدها على نيلها وهي ثلاثة أجبل؛ فمنها جبل الكهف، ويقال: الكف، ومنها الطبلمون، ومنها جبل زماجيز الساحرة. يقال: إن فيه حلقة من الجبل ظاهرة مشرفة على النيل لا يصل إليها أحد يلوح فيها خط مخلوق باسمك اللهم. ومن عجائبها: شعب «1» البوقيرات بناحية اشمون من أرض الصعيد، وهو شعب في جبل فيه صدع تأتيه البوقيرات في يوم من السنة كان معروفا فتعرض أنفسها على الصدع فكلما أدخل بوقير منها منقاره في الصدع مضى لسبيله، فلا يزال يفعل ذلك حتى يلتقي الصدع على بوقير منها، فتحبسه وتمضي كلها ولا يزال ذلك الذي يحبسه متعلقا حتى يتساقط ويتلاشى. ومن عجائبها: عين شمس وهي هيكل الشمس وبها العمودان اللذان لم ير أعجب

منهما، ولا من شأنهما. طولهما في السماء نحو من خمسين ذراعا، وهما محمولان على وجه الأرض وفيهما صورة إنسان على دابة، وعلى رأسهما شبه الصومعتين من نحاس، فإذا جاء النيل قطر من رأسهما ماء وتستبينه وتراه منهما واضحا ينبع حتى يجري في أسفلهما فينبت في أصلهما العوسج، وغيره، وإذا حلت الشمس دقيقة من الجدي وهو أقصر يوم في السنة انتهت إلى الجنوبيّ منها فطلعت عليه على قمة رأسه وهي منتهى الميلين، وخط الاستواء في الواسطة منهما، ثم خطرت بينهما ذاهبة وجاثية سائر السنة كذا يقول أهل العلم بذلك. ومن عجائبها: منف، وعجائبها وأصنامها وأبنيتها ودفائنها وكنوزها، وما يذكر فيها أكثر من أن يحصى من آثار الملوك والحكماء، والأنبياء لا يدفع ذلك. ومن عجائبها: الفرما وهي أكثر عجائبا وأكثر آثارا. ومن عجائبها: الفيوم. ومن عجائبها: نيلها. ومن عجائبها: الحجر المعروف بحجر الخل يطفو على الخل، ويسبح فيه كأنه سمكة وكان يوجد بها حجر، إذا أمسكه الإنسان بكلتا يديه تقيأ كل شيء في بطنه، وكان بها خرزة، تجعلها المرأة على حقوها فلا تحبل وكان بها حجر؛ يوضع على حرف التنور فيتساقط خبزه، وكان يوجد بصعيدها حجارة رخوة تكسر فتتقد كالمصابيح. ومن عجائبها: حوض كان بدلالات تدور من حجارة يركب فيها الواحد والأربعة، ويحرّكون الماء بشيء فيعبرون من جانب إلى جانب لا يعلم من عمله، فأخذه كافور الإخشيديّ إلى مصر فنظر إليه، ثم أخرج من الماء فألقي في البرّ وكان في أسفله كتابة لا يدري ما هي ثم بطل. ومن عجائبها: أن بصعيدها ضيعة تعرف بدشنى، فيها سنطة إذا تهدّدت بالقطع تدبل، وتجتمع وتضمر فيقال لها: قد عفونا عنك، وتركناك فتتراجع، والمشهور وهو الموجود الآن سنطة في الصعيد إذا نزلت اليد عليها دبلت، وإذا رفعت عنها تراجعت وقد حملت إلى مصر، وشوهدت. وبها نوع من الخشب يرسب في الماء كالأبنوس وبها الخشب السنط الذي يوقد منه القدر الكثير في الزمن الطويل فلا يوجد له رماد. وذكر ابن نصر المصري: أنه كان على باب القصر الكبير الذي يقال له باب الريحان عند الكنيسة المعلقة صنم من نحاس على خلقة الجمل، وعليه رجل راكب عليه عمامة منتكب قوسا عربية، وفي رجليه نعلان كانت الروم والقبط وغيرهم إذا تظالموا بينهم، واعتدى بعضهم على بعض تجاروا إليه حتى يقفوا بين يدي ذلك الجمل، فيقول المظلوم للظالم: انصفني قبل أن يخرج هذا الراكب الجمل، فيأخذ الحق لي منك شئت أم أبيت يعنون بالراكب النبيّ محمدا صلى الله عليه وسلم.

فلما قدم عمرو بن العاص غيبت الروم ذلك الجمل لئلا يكون شاهدا عليهم. قال ابن لهيعة: بلغني أن تلك الصورة في ذلك الموضع قد أتى الآن عليها سنين لا يدرى من عملها. قال القضاعيّ: فهذه عشرون أعجوبة من جملتها ما يتضمن عدّة عجائب، فلو بسطت لجاء منها عدد كثير، ويقال: ليس من بلد فيه شيء غريب إلا وفي مصر مثله أو شبيه به. ثم تفضل مصر على البلدان بعجائبها التي ليست في بلد سواها. وفي كتاب تحفة الألباب: أنه كان بمصر بيت تحت الأرض فيه رهبان من النصارى، وفي البيت سرير صغير من خشب تحت صبيّ ميت ملفوف في نطع أديم مشدود بحبل، وعلى السرير مثل الباطية فيها أنبوب من نحاس فيه فتيل إذا اشتعل الفتيل بالنار وصار سراجا خرج من ذلك الأنبوب الزيت الصافي الحسن الفائق حتى تمتلىء تلك الباطية، وينطفي السراج بكثرة الزيت فإذا انطفأ لم يخرج من الدهن شيء، فإذا خرج الصبي الميت من تحت السرير لم يخرج من الزيت شيء والباطية يريقها الإنسان فلا يرى تحتها شيئا، ولا موضعا فيه ثقب، وأولئك الرهبان يتعيشون من ذلك الزيت يشتريه الناس منهم فينتفعون به. وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف «1» شاه: عديم الملك ابن تقطريم كان جبارا لا يطاق عظيم الخلق، فأمر بقطع الصخور ليعمل هرما كما عمل الأوّلون، وكان في وقته الملكان اللذان أهبطا من السماء، وكانا في بئر يقال له افتارة، وكانا يعلمان أهل مصر السحر. وكان يقال: إن الملك عديم بن البودشير استكثر من علمهما، ثم انتقلا إلى بابل، وأهل مصر من القبط يقولون: إنهم شيطانان يقال لهما: مهلة وبهالة، وليس هما الملكين والملكان ببابل في بئر هناك يغشاها السحرة إلى أن تقوم الساعة. ومن ذلك الوقت عبدت الأصنام وقال قوم: كان الشيطان يظهر وينصبها لهم. وقال قوم: أوّل من نصبها بدوره وأوّل صنم أقامه صنم الشمس، وقال آخرون: بل النمرود الأوّل أمر الملوك بنصبها، وعبادتها وعديم أول من صلب، وذلك أن امرأة زنت برجل من أهل الصناعات، وكان لها زوج من أصحاب الملك، فأمر بصلبهما على منارين، وجعل ظهر كل واحد منهما إلى ظهر الآخر وزبر على المنارين اسمهما وما فعلاه، وتاريخ الوقت الذي عمل ذلك بهما فيه، فانتهى الناس عن الزنى وبنى أربع مداين، وأودعها صنوفا كثيرة من عجائب الأعمال والطلسمات، وكنز فيها كنوزا كثيرة وعمل في الشرق منارا وأقام على رأسه صنما موجها إلى الشرق مادّا يديه يمنع دواب البحر والرمال أن تتجاوز حدّه، وزبر في صدره تاريخ الوقت

الذي نصبه فيه ويقال: إن هذا المنار قائم إلى وقتنا هذا. ولولا هذا لغلب الماء الملح من البحر الشرقيّ على أرض مصر وعمل على النيل قنطرة في أول بلد النوبة، ونصب عليها أربعة أصنام موجهة إلى أربع جهات الدنيا في يدي كل واحد من الأصنام حربتان يضرب بهما إذا أتاهم آت من تلك الجهة فلم تزل بحالها إلى أن هدمها فرعون موسى عليه السلام، وعمل البربا على باب النوبة، وهو هناك إلى وقتنا هذا، وعمل في إحدى المدائن الأربع التي ذكرناها حوضا من صوّان أسود مملوء ماء لا ينقص طول الدهر، ولا يتغيّر ماؤه لأنه اجتلب إليه من رطوبة الهواء، وكان أهل تلك الناحية، وأهل تلك المدينة يشربون منه ولا ينقص ماؤه، وعمل ذلك لبعدهم عن النيل. وذكر بعض كهنة القبط أن ذلك الماء ثم لقربه من البحر الملح فإن الشمس ترفع بحرّها بخار البحر فينحصر من ذلك البخار جزء بالهندسة، أو بالسحر، وتجعله ينحط ذلك في ذلك الموضع بالجوهر مثل الظل، وتمدّه بالهواء فلا ينقص بذلك ماؤه على الدهر، ولو شرب منه العالم وعمل قدحا لطيفا على مثل هذا العمل، وأهداه حوميل الملك إلى إسكندر اليوناني وملكهم عديم مائة وأربعين سنة، ومات وهو ابن سبعمائة وثلاثين سنة، ودفن في إحدى المدائن ذات العجائب وقيل: في صحراء قفط. وذكر بعض القبط أن ناووس عديم عمل في صحراء قفط على وجه الأرض تحت قبة عظيمة من زجاج أخضر برّاق معقود على رأسها كرة من ذهب عليها طائر من ذهب موشح بجوهر منشور الجناحين يمنع من الدخول إلى القبة، وكان قطرهما مائة ذراع في مثلها وجعل جسده في وسطها على سرير من ذهب مشبك، وهو مكشوف الوجه، وعليه ثياب منسوجة بالذهب المغروز بالجوهر المنظوم، وطول القبة أربعون ذراعا، وجعل في القبة مائة وسبعين مصحفا من مصاحف الحكمة وسبع موائد بأوانيها. منها مائدة من درّ رماني أحمر وأوانيها منها ومائدة من ذهب قلموني أوانيها منها، ومائدة من حجر الشمس المضيء بآنيتها وهو الزبرجد الذي إذا نظرت إليه الأفاعي سالت أعينها ومادة من كبريت أحمر مدبر بآنيتها، ومائدة من ملح أبيض مدبر برّاق بآنيتها ومائدة من زئبق معقود وجعل في القبة جواهر كثيرة وبرابي صنعة مدبرة، وحوله سبعة أسياف، وأتراس من حديد أبيض مدبر، وتماثيل أفراس من ذهب عليها سروج من ذهب، وسبعة توابيت من دنانير عليها صورته، وجعل معه من أصناف العقاقير والسمومات والأدوية في برابي من حجارة، وقد ذكر من رأى هذه القبة أنهم أقاموا أياما فما قدروا على الوصول إليها وأنهم إذا قصدوها، وكانوا منها على ثمانية أذرع دارت القبة عن أيمانهم أو عن شمائلهم. ومن أعجب ما ذكروه أنهم كانوا يحاذون آزاجها أزجا «1» أزجا فلا يرون غير الصورة

التي يرونها من الأزج الآخر على معنى واحد. وذكروا أنهم رأوا وجه الملك قدر ذراع ونصف بالكبير ولحيته كبيرة مكشوفة، وقدّروا طول بدنه عشرة أذرع وزيادة، وذكر هؤلاء الذين رأوها أنهم خرجوا لحاجة، فوجدوها اتفاقا. وأنهم سألوا أهل قفط عنها فلم يجدوا أحدا يعرفها سوى شيخ منهم. وأوصى عديم الملك ابنه شداب بن عديم أن ينصب في كل حيز من أحياز ولايته منارا، ويزبر عليه اسمه فانحدر إلى الأشمونين، وعمل مناراتها وزبر عليها اسمه، وعمل بها ملاعب وعمل في صحرائها منارا أقام عليه صنما برأسين على اسم كوكبين كانا مقترنين في الوقت الذي خرج فيه إلى اتريب وبنى فيها قبة عظيمة مرتفعة على عمد وأساطين بعضها فوق بعض، وعلى رأسها صنما صغيرا من ذهب، وعمل هيكلا للكواكب، ومضى إلى حيز صا فعمل فيه منارا على رأسه مرآة من أخلاط تورى الأقاليم، ورجع وعمل شداب بن عديم هيكل ارمنت. وأقام فيه أصناما بأسماء الكواكب من جميع المعادن وزينه بأحسن الزينة، ونقشه بالجواهر والزجاج الملوّن وكساه الوشي والديباج، وعمل في المدائن الداخلة من أنصنا هيكلا وأقام فيه باتريب، وهيكلا شرقيّ الإسكندرية، وأقام صنما من صوّان أسود باسم زحل على عبرة النيل من الجانب الغربيّ وبنى في الجانب الشرقيّ مداين في إحداها صورة صنم قائم، وله إحليل إذا أتاه المعقود والمسحور ومن لا ينتشر ذكره فمسحه بكلتي يديه انتشر ذكره، وقوي على الباه وفي إحداها بقرة، لها ضرعان كبيران إذا انعقد لبن امرأة أتتها ومسحتها بيديها فإنه يدر لبنها، وجمع التماسيح بطلسم عمله بناحية أسيوط، فكانت تنصب من النيل إلى اخميم انصبابا فيقتلها ويستعملها جلودا في السفن وغيرها. وعمل منقاوس الملك بيتا تدور به تماثيل بجميع العلل، وكتب على رأس كل تمثال ما يصلح من العلاج، فانتفع الناس بها زمانا إلى أن أفسدها بعض الملوك وعمل صورة امرأة مبتسمة لا يراها مهموم إلا زال همه ونسيه فكان الناس يتناوبونها، ويطوفون حولها ثم عبدوها من جملة ما عبدوه بعد ذلك. وعمل تمثالا من صفر مذهب بجناحين لا يمرّ به زان ولا زانية إلا كشف عورته بيده، وكان الناس يمتحنون به الزناة فامتنعوا من الزنا فرقا منه. فلما ملك كلكن عشقت حظية عنده رجلا من خدمه، وخافت أن تمتحن بذلك الصنم. فأخذت في ذكر الزواني مع الملك وأكثرت من سبهنّ وذمّهنّ فذكر كلكن ذلك الصنم، وما فيه من المنافع. فقالت: صدق الملك غير أن منقاوس لم يصب في أمره لأنه أتعب نفسه وحكماءه فيما جعله لإصلاح العامة دون نفسه، وكان حكم هذا أن ينصب في دار الملك حيث يكون نساؤه وجواريه فإن اقترفت إحداهنّ ذنبا علم بها فيكون رادعا لهنّ متى عرض بقلوبهنّ شيء من الشهوة فقال:

كلكن صدقت، وظنّ أن هذا منها نصح، فأمر بنزع الصنم من موضعه ونقله إلى داره، فبطل عمله وعملت المرأة ما كانت همت به. وبنى هيكلا على جبل القصير للسحرة، فكانوا لا يطلقون الرياح للمراكب المقلعة إلا بضريبة يأخذونها منهم للملك. وبنى مناوس بن منقاوس في صحراء الغرب مدينة بالقرب من مدينة السحرة تعرف: بقنطرة ذات عجائب، وجعل بوسطها قبة عليها كالسحابة تمطر شتاء وصيفا مطرا خفيفا، وتحت القبة مطهرة فيها ماء أخضر يداوي به من كل داء فيبريه، وعمل في شرقيها بربا لطيفا له أربعة أبواب لكل باب عضادتان في كل عضادة صورة وجه يخاطب كل واحد منهما صاحبه بما يحدث في يومه فمن دخل البربا على غير طهارة نفخا في وجهه فأصابه رعدة فظيعة لا تفارقه حتى يموت. وكانوا يقولون: إن في وسطه مهبط النور في صورة العمود من اعتنقه لم يحتجب عن نظره شيء من الروحانية وسمع كلامهم، ورأى ما يعملون، وعلى كل باب من أبواب هذه المدينة صورة راهب في يده مصحف فيه علم من العلوم. فمن أحب معرفة ذلك العلم أتى تلك الصورة، فمسحها بيديه وأمرّهما على صدره فيثبت ذلك العلم في صدره. ويقال: إن هاتين المدينتين بنيتا على اسم هرمس، وهو عطارد وأنهما بحالهما (وحكي عن رجل أنه أتى عبد العزيز بن مروان، وهو أمير مصر، فعرّفه أنه تاه في صحراء الشرق، فوقع على مدينة خراب فيها شجرة تحمل كل صنف من الفاكهة، وأنه أكل منها وتزوّد فقال له رجل من القبط: هذه إحدى مدينتي هرمس، وفيها كنوز كثيرة فوجه عبد العزيز معه جماعة معهم ماء وزاد، فأقاموا يطوفون تلك الصحاري شهرا فلم يقفوا لها على أثر. وعملت أم ميلاطس الملك بركة عظيمة في صحراء الغرب، وجعلت في وسطها عمودا طوله ثلاثون ذراعا، وفي أعلاه قصعة من حجارة يفور منها الماء فلا ينقص أبدا. وجعلت حول البركة أصناما من حجارة ملونة على صور الحيوانات من الوحش، والطير والبهائم، فكان كل جنس يأتي إلى صورته ويألفها فيؤخذ باليد وينتفع به. وعملت لابنها منتزها لأنه كان يحب الصيد، فجعلت فيه مجالس مركبة على أساطين من مرمر مصفّح بالذهب مرصع بالجوهر، والزجاج الملوّن وزخرفته بالتصاوير العجيبة، والنقوش فكان الماء يطلع من فوّارات وينصب إلى أنهار قد صفحت بالفضة تجري إلى حدائق فيها بديع الفروشات، وقد أقيم حولها تماثيل تصفر بأنواع اللغات، وأرخت على المجلس ستورا من ديباج، واختارت لابنها من حسان بنات عمه وبنات الملوك وزوجته وحولته إلى هذه الجنة وبنت حول الجنة مجالس للوزراء، والكهنة، وأشراف أهل الصناعات، فكانوا يرفعون إليه جميع ما يعملونه، فإذا فرغوا من أعمالهم حمل إليهم الطعام

والشراب، وكان ميلاطس تقلد الملك بعد أبيه مرقوه وهو صبيّ وكانت أمه مدبرة الملك، وهي حازمة مجرّبة فأجرت الأمور على ما كانت عليه في حياة أبيه وأحسنت وعدلت في الرعية ووضعت عنهم بعض الخراج، وكانت أيامه سعيدة كلها في الخصب الكثير والسعة للناس والعدل، وكان له يوم يخرج فيه إلى الصيد، ويرجع إلى جنته فيأمر لكل من معه بالجوائز والأطعمة ويجلس للنظر يوما في مصالح الناس وقضاء حوائجهم ويخلو يوما بنسائه. وكان ملكه ثلاث عشرة سنة، وجدّر فمات. وعمل فرسون بن قيلمون بن أتريب منارا على بحر القلزم، وعلى رأسه مرآة تجتذب بها المراكب إلى شاطىء البحر فلا يمكنها أن تبرح إلا أن تعشر فإذا عشرت سترت المرآة حتى تجوز المراكب، وأقام فرسون مائتي سنة وستين سنة؛ وعمل لنفسه ناووسا خلف الجبل الأسود الشرقي في وسطه قبة حولها اثنا عشر بيتا في كل بيت أعجوبة لا تشبه الأخرى، وزبر عليها اسمه ومدة ملكه. وكا مرقونس الملك حكيما محبا للنجوم، والعلوم والحكمة، فعمل في أيامه درهما إذا ابتاع به صاحبه شيئا اشترط أن يزن له ما يبتاعه منه بوزن الدرهم، ولا يطلب عليه زيادة فيغترّ البائع بذلك ويقبل الشرط فإذا تم ذلك بينهما وقع في وزن الدرهم أرطال كثيرة تساوي عشرة أضعافه، وكان إذا أحب أن يدخل في وزنه أضعاف تلك الأرطال دخل، وقد وجد هذا الدرهم في كنوزهم ثم في خزائن بني أمية وكان الناس يتعجبون منه ووجدوا دراهم أخر، قيل: إنها عملت في وقته أيضا فيكون الدرهم منها في ميزان الرجل فإذا أراد أن يبتاع حاجة أخذ ذلك الدرهم، وقبله وقال: اذكر العهد وابتاع به ما أراد فإذا أخذ السلعة ومضى إلى بيته وجد الدرهم قد سبقه إلى منزله، ويجد البائع موضع ذلك الدرهم، ورقة آس أو قرطاسا أو مثل ذلك بدور الدرهم، وفي وقته عملت الآنية الزجاج التي توزن فإذا ملئت ماء أو غيره، ثم وزنت لم تزد عن وزنها الأوّل شيئا وعمل في وقته الآنية التي إذا جعل فيها الماء صار خمرا في لونه ورائحته وفعله، وقد وجد من هذه الآنية باطفيح في أمارة هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون شربة جزع بعروة زرقاء ببياض، وكان الذي وجدها أبو الحسن الصائغ الخراساني هو ونفر معه، فأكلوا على شاطىء النيل وشربوا بها الماء فوجدوه خمرا سكروا منه وقاموا ليرقصوا فوقعت الشربة، فانكسرت عدّة قطع؛ فاغتم الرجل وجاء بها إلى هارون فأسف عليها، وقال: لو كانت صحيحة لاشتريتها ببعض ملكي. وأما الآنية النحاسية التي تجعل الماء خمرا، فإنها منسوبة إلى قلوبطرة «1» بنت بطليموس ملكة الإسكندرية فكثير، وفي وقته عملت الصور الحيثمية من الضفادع والخنافس

والذباب والعقارب وسائر الحشرات، وكانت إذا جعلت في موضع اجتمع إليها ذلك الجنس، ولا يقدر على مفارقة تلك الصورة حتى يقتل، وكأنه يعمل أعماله كلها بصور درج الفلك وأسمائها، وطوالعها فيتم له من ذلك ما يريده. وعمل في صحراء الغرب ملعبا من زجاج ملوّن في وسطه قبة من زجاج أخضر صافي اللون. فإذا طلعت عليه الشمس ألقت شعاعها على مواضع بعيدة وعمل في جوانبه الأربعة أربعة مجالس عالية من زجاج كل مجلس لون ونقش عليها بغير لونها طلسمات عجيبة، ونقوشات غريبة وصورا بديعة كل ذلك من زجاج مطلق يشف، وكان يقيم في هذا الملعب الأيام وعمل له ثلاثة أعياد في كل سنة. فكان الناس يحجون إليه في كل عيد ويذبحون له ويقيمون فيه سبعة أيام، ولم يزل هذا الملعب تقصده الأمم فإنه لم يكن له نظير، ولا عمل في العالم مثله إلى أن هدمه بعض الملوك لعجزه عن عمل مثله. وكانت أم مرقونس ابنة ملك النوبة وكان أبوها يعبد الكوكب الذي يقال له السها ويسميه إلها. سألت ابنها أن يعمل لها هيكلا يفردها به، فعمله وصفحه بالذهب والفضة، وأقام فيه صنما وأرخى عليه الستور الحرير، فكانت تدخل إليه بجواريها وحشمها وتسجد له في كل يوم ثلاث مرّات، وعملت لكل شهر عيدا تقرّب له قرابين وتبخره ليله ونهاره، ونصبت له كاهنا من النوبة يقوم به ويقرّب له ويبخره، ولم تزل بابنها حتى سجد له، ودعي إلى عبادته. فلما رأى الكاهن الأمر في عبادة الكواكب قد تم وأحكم من جهة الملك أحب أن يكون لكوكب السّها مثالا في الأرض على صورة حيوان يتعبد له، فأقام بعمل الحيلة في ذلك إلى أن اتفق أن العقبان كثرت بمصر، وأضرّت بالناس فأحضر الملك هذا الكاهن وسأله عن سبب كثرتها، فقال: إن إلهك أرسلها لتعمل لها نظيرا ليسجد له. فقال مرقونس: إن كان يرضيه ذلك، فأنا فاعله. فقال: إن ذلك رضاه، فأمر بعمل عقاب طوله ذراعان في عرض ذراع من ذهب مسبوك وعمل عينيه من ياقوتتين، وعمل له وشاحين من لؤلؤ منظوم على أنابيب جوهر أخضر، وفي منقاره درة معلقة وسرو له بالدرّ الأحمر، وأقامه على قاعدة من فضة منقوشة قد ركبت على قائمة زجاج أزرق، وجعله في أزج عن يمين الهيكل، وألقى عليه ستور الحرير وجعل له دخنة من جميع الأفاويه والصموغ وقرّب له عجلا أسود، وبكارة الفراريج، وباكورة الفواكه والرياحين. فلما تمت له سبعة أيام دعاهم إلى السجود إليه؛ فأجابه الناس، ولم يزل الكاهن يجهد نفسه في عبادة العقاب وعمل له عيدا. فلما تم لذلك أربعون يوما نطق الشيطان من جوفه. وكان أوّل ما دعاهم إليه أن ينجز له في إنصاف الشهور بالمندل، ويرش الهيكل بالخمر العتيقة التي تؤخذ من رؤوس الخوابي، وعرّفهم أنه قد أزال عنهم العقبان وضررها، وكذلك يفعل في غيرها مما يخافون. فسرّ الكاهن بذلك، وتوجه إلى أمّ الملك يعرّفها ذلك، فسارت إلى الهيكل

وسمعت كلام العقاب فسرّها ذلك وأعظمته. وبلغ الملك فركب إلى الهيكل حتى خاطبه وأمره ونهاه فسجد له، وأقام له سدنة وأمر أن يزين بأصناف الزينة، وكان مرقونس يقوم بهذا الهيكل ويسجد لتلك الصورة، ويسألها عما يريد فتخبره. وعمل من الكيمياء ما لم يعمله أحد من الملوك فيقال: إنه دفن في صحراء الغرب خمسمائة دفين؛ ويقال: إنه عمل على باب مدينة صا عمودا عليه صنم في صورة امرأة جالسة وفي يدها مرآة تنظر إليها، وكان العليل يأتي إلى هذه المرأة وينظر فيها أو ينظر له أحد فيها فإن كان يموت من علته تلك رؤي ميّتا وإن كان يعيش رآه حيا، وينظر فيها أيضا للمسافر فإن رأوه مقبلا بوجهه علموا أنه راجع، وإن رأوه موليا علموا أنه يتمادى في سفره، وإن كان مريضا أو ميتا رأوه كذلك في المرآة. وعمل بالإسكندرية صورة راهب جالس على قاعدة وعلى رأسه كالبرنس وفي يده كالعكاز فإذا مرّ به تاجر جعل بين يديه شيئا من المال على قدر بضاعته فإن تجاوزه ولو عن بعد من غير أن يضع بين يديه المال لم يقدر على الجواز وثبت قائما مكانه فكان يجتمع من ذلك مال عظيم يفرّق في الزمنى، والضعفاء والفقراء. وعمل في زمنه كل أعجوبة ظريفة وأمر أن يزبر اسمه عليها وعلى كل علم وكل طلسم وكل صنم. وعمل لنفسه ناووسا «1» في داخل الأرض عند جبل يقال له: سدام وعمل تحته أزجا يقال: إن طوله مائة ذراع وارتفاعه ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا، وصفحه بالمرمر، والزجاج الملوّن وسقفه بالحجارة، وعمل فيها دائرة مساطب مبلطة بزجاج على كل مسطبة أعجوبة وفي وسط الأزج دكة من زجاج على كل ركن من أركانها صورة تمنع الدنوّ إليها وبين كل صورتين منارة عليها حجر مضيء وفي وسط الدكة حوض من ذهب فيه جسده بعدما ضمده بالأدوية الماسكة، ونقل إليه ذخائره من الذهب والجوهر وغيره، وسدّ باب الأزج بالصخور والرصاص، وهيل عليها الرمال وكان ملكه ثلاثا وسبعين سنة وعمره مائتين وأربعين سنة، وكان جميلا ذا وفرة حسنة، فتنسكت نساؤه ولزمن الهيكل من بعده. وملك بعده ابنه إيساد، ثم صا بن إيساد. وقيل: صا بن مرقونس أخو إيساد فعمل مرآة في مدينة منف تري الأوقات التي تخصب فيها مصر وتجدب وبنى بداخل الواحات مدينة، ونصب قرب البحر أعلاما كثيرة. وعمل خلف المقطم صنما يقال له: صنم الحيلة، فكان كل من تعذر عليه أمر يأتيه ويبخره فيتيسر ذلك الأمر له، وجعل بحافة البحر الملح منارا يعلم منه أمر البحر،

وما يحدث فيه من أقصى ما يصل إليه البصر على مسيرة أيام. وهو أوّل من اتخذها ويقال: إنه بنى أكثر مدينة منف وكل بنيان عظيم بالإسكندرية. ولما ملك بدارس بن صا الأحياز كلها بعد أبيه، وصفا له ملك مصر بنى في غربي مدينة منف بيتا عظيما لكوكب الزهرة، وأقام فيه صنما عظيما من لازورد مذهب، وتوجّه بذهب يلوح بزرقة وسوّره بسوارين من زبرجد أخضر، وكان الصنم في صورة امرأة لها ضفيرتان من ذهب أسود مدبر. وفي رجليها خلخالان من حجر أحمر شفاف، ونعلان من ذهب وبيدها قضيب مرجان، وهي تشير بسبابتها كأنها مسلمة على من في الهيكل، وجعل بحذائها تمثال بقرة ذات قرنين، وضرعين من نحاس أحمر مموّه بذهب موشحة بحجر اللازورد، ووجّه البقرة تجاه وجه الزهرة، وبينهما مطهرة من أخلاط الأجساد على عمود رخام مجزع، وفي المطهرة ماء مدبر يستنشق به من كل داء وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة يبدلونها في كل سبعة أيام، وجعل في الهيكل كراسي للكهنة قد صفحت بالذهب والفضة، وقرّب لهذا الصنم ألف رأس من الضأن والمعز والوحش والطير، وكان يحضر يوم الزهرة ويطوف به وفرش الهيكل وستره، وجعل فيه تحت قبة صورة رجل راكب على فرس له جناحان ومعه حربة في سنانها رأس إنسان معلق. ولم يزل هذا الهيكل إلى أن هدمه بخت نصر في أيام ماليق بن تدارس، وكان موحدا على دين قبطيم ومصرايم خرج في جيش عظيم في البر والبحر فغزا البربر، وأرض إفريقية، وبلاد الأندلس وأرض الإفرنج إلى البحر، وعمل في البحر أعلا ما زبر عليها اسمه ومسيره، ورجع فهابه ملوك الأرض وكان في غربي مصر مدينة يقال لها: قرميدة بها قوم قد ملكوا عليهم امرأة ساحرة فغزاهم، فلم ينل منهم قصدا، ورجع فأرادت ملكتهم إفساد مصر، فعملت من سحرها وأمرت، فألقي في النيل ففاض الماء على المزارع حتى أفسدها وكثرت التماسيح والضفادع، وفشت الأمراض في الناس، وانبثت فيهم الثعابين والعقارب، فأحضر ماليق الكهنة والحكماء في دار حكمتهم وألزمهم بالنظر لذلك. فنظروا في نجومهم فرأوا أن هذه الآفة أتتهم من ناحية الغرب، وإنّ امرأة عملته وألقته في النيل، فعلموا حينئذ أنه من فعل تلك الساحرة، واجتهدوا في دفع ذلك بما عندهم من العلم حتى انكشف عنهم الماء الفاسد، وهلكت الدواب المضرة وجهزوا قائدا في جيش إلى المدينة فلم يجدوا بها غير رجل واحد فأخذوا من الأموال والجواهر والأصنام ما لا يحصى. فمن ذلك صورة كاهن من زبرجد أخضر على قائمة من حجر الأسباديم، وصورة روحانيّ من ذهب رأسه من جوهر أحمر، وله جناحان من دور في يده مصحف فيه كثير من علومهم في دفتين مرصعتين بجوهر، ومطهرة من ياقوت أزرق على قاعدة زجاج أخضر فيها ماء لدفع الأسقام، وفرس من فضة إذا عزم عليه بعزائمه ودخن بدخنته وركبه أحد طار به

فأحضر ذلك وغيره من عجائب السحرة وأصنامهم والأموال والجواهر إلى مصر، ومعهم الرجل، فسأله الملك عن أعجب أعمالهم قال: قصدهم بعض ملوك البربر بجمع كثيف، وتخاييل هائلة. فأغلق أهل مدينتنا حصنهم ولجوا إلى الأصنام، فأتى الكاهن إلى بركة عظيمة بعيدة القعر كانوا يشربون منها، فجلس على حافتها وأحاط رؤساء الكهنة بها. وأخذ يزمزم على الماء حتى فار وخرج من وسطه نار في وسطها وجه كدارة الشمس لها ضوء فخرّ الجماعة لها سجودا، وتلك الصورة تعظم حتى صعدت وخرقت القبة، وسمع منها قد كفيتم شرّ عدوّكم، فقاموا وإذا بعدوّهم قد هلك وسائر من معه وذلك أن صورة الشمس التي ظهرت من الماء مرّت فصاحت عليهم صيحة هلكوا بها. ولما ملك كلكن مصر بعد أبيه خريبا؛ كان النمرود في وقته، فاتصل بنمرود خبر حكمته وسحره فاستزاره، ووجه إليه أن يلقاه، وكان النمرود يسكن سواد العراق وغلب على كثير من الأمم فأقبل كلكن على أربعة أفراس تحمله لها أجنحة قد أحاطب به كالنار، وحوله صور هائلة؛ فدخل بها وهو متوشح بثعبان ومحزم ببعضه وذلك التنين فأغرفاه، ومعه قضيب آس أخضر كلما حرّك التنين رأسه ضربه بالقضيب، فلما رأى النمرود ذلك هاله، واعترف له بجليل الحكم. وتقول القبط: إن كلكن كان يرتفع فيجلس على الهرم الغربيّ في قبة تلوح على رأسه، وكان أهل البلد إذا دهمهم أمر اجتمعوا حول الهرم، ويقولون: إنه ربما أقام على رأس الهرم أياما لا يأكل ولا يشرب، ثم إنه استتر مدّة حتى توهموا أنه هلك فطمع الملوك في مصر. وقصدها ملك من المغرب. يقال له: سادوم في جيش عظيم إلى أن بلغ وادي هيبب، فأقبل كلكن وجللهم من سحره بشيء كالغمام شديد الحرارة، وهم تحته أياما لا يدرون أين يتوجهون، ثم ارتفع وصار بمصر يعرّفهم ما عمل وأمرهم، فخرجوا. فإذا بالقوم ودوابهم قد ماتوا فهابه جميع الكهنة وصوّروه في سائر الهياكل وبنى هيكلا لزحل من صوان أسود في ناحية الغرب وجعل له عيدا. (وفي أيام دارم بن الريان) وهو الفرعون الرابع الذي يقال له عند القبط: دريموش، ظهر معدن فضة على ثلاثة أيام من النيل فأثاروا منه شيئا عظيما وعمل صنما على اسم القمر لأن طالعه كان برج السرطان، ونصبه على القصر الرخام الذي بناه أبوه في شرقيّ النيل، ونصب حوله أصناما كلها من الفضة وألبسها الحرير الأحمر، وعمل للصنم عيدا كلما دخل برج السرطان. ولمّا ولى اكسايس الملك بعد أبيه معدان بن معاديوس بن دارم بن دريموس وهو الفرعون السادس أقام أعلاما كثيرة حول منف، وجعل عليها أساطين يمشي من بعضها إلى بعض، وعمل برقودة وصا ومدائن الصعيد، وأسفل الأرض أعلاما، ومنائر للوقود،

وطلسمات كثيرة، وعمل كودة من فضة ونقش عليها صورة الكواكب ودهنها بالدهن الصينيّ، وأقامها على منار في وسط منف، وعمل في هيكل أبيه روحاني زحل من ذهب أسود مدبر، وعمل في وقته ميزانا يعتبر به الناس كفتاه من ذهب، وعلاقته من فضة، وسلاسله من ذهب فكان معلقا في هيكل الشمس، وكتب على إحدى كفتيه: حق، والأخرى: باطل، وتحته فصوص قد نقش عليها أسماء الكواكب، فيدخل الظالم والمظلوم يأخذ كل منهما فصا من تلك الفصوص ويسمى عليه ما يريده، ويجعل أحد الفصين في كفة، والآخر في كفة، فتثقل كفة الظالم، وترتفع كفة المظلوم، ومن أراد سفرا أخذ فصين وذكر على أحدهما اسم السفر، وعلى الآخر الإقامة، وجعل كل واحد في كفة فإن ثقلا جميعا ولم يرتفع أحدهما على الآخر لم يسافر، وإن ارتفعا سافر، وإن ارتفع أحدهما أخر السفر، ثم سافر وكذا من عليه دين ومن له غائب أو ينظر في صلاح أمره وفساده. ويقال: إن بخت نصر لمّا دخل إلى مصر حمل هذا الميزان معه فيما حمل إلى بابل، وجعله في بيت من بيوت النار. وعمل في أيامه تنورا أيضا يشوي فيه من غير نار، ويطبخ فيه بغير نار، وسكينا تنصب فإذا رآها شيء من البهائم أقبل حتى يذبح نفسه بها. وعمل ماء يستحيل نارا وزجاجا يستحيل هواء، وشيئا من النيرنجيات والنواسيس. (وأما البرابي) فذكر ابن وصف شاه: أن سوريد الذي بنى الأهرام هو الذي بنى البرابي كلها، وعمل فيها الكنوز وزبر عليها علوما ووكل بها روحانية تحفظها ممن يقصدها. وقال في كتاب الفهرست: وبمصر أبنية يقال لها: البرابي من الحجارة العظيمة الكبيرة، وهي على أشكال مختلفة، وفيها مواضع الصحن والسحق والحل والعقد والتقطير تدل على أنها عملت لصناعة الكيمياء، وفي هذه الأبنية نقوش وكتابات لا يدرى ما هي وقد أصيبت تحت الأرض فيها هذه العلوم مكتوبة في التوز، وهي صفائح الذهب والنحاس وفي الحجارة. وذكر الحسن بن أحمد الهمداني أن برابي مصر تنسب إلى براب بن الدرمسيل بن نحويل بن خنوخ بن قار بن آدم عليه السلام. وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، في كتاب الإشارات الباقية عن القرون الخالية: أن كنيسة في بعض قرى مصر قد شاهدها الموثوق بقولهم المأخوذ برأيهم المأمون من جهتهم الرواية عنهم فيها سرداب ينزل إليه بنيف وعشرين مرقاة، وفيه سرير تحته رجل وصبيّ مشدودين في نطع وفوقه ثور رخام في جوفه باطية زجاج يدخلها قنينة من نحاس في جوفها فتيلة كتان توقد فيصب فيها زيت فلا يلبث إلا أن تمتلىء الباطية الزجاج زيتا، وتفيض إلى الثور الرخام، فينفق على تلك الكنيسة وقناديلها.

وذكر الجهانيّ: أنه صار إليه من وثق به ورفع الباطية عن الثور وأفرغ الزيت من الباطية والثور جميعا وأطفأ النار وأعادها جميعا إلا الزيت فإنه صبّ زيتا من عنده وأبدله فتيلة أخرى وأشعلها، فما لبث الزيت أن فاض إلى الباطية الزجاج ثم فاض إلى الثور الرخام من غير مدد ولا عنصر. وذكر الجهانيّ: أنه إذا أخرج الميت من تحت السرير انطفأت النار، ولم يفض الزيت. وذكر عن أهل القرية: أن المرأة المتوهمة في نفسها حملا تحمل ذلك الصبيّ، وتضعه في حجرها فيتحرّك ولدها في البطن إن كان الحمل حقيقة، أو تيأس إن لم تحس بحركة. قال المؤلف رحمه الله: أخبرني داود بن رزق الله بن عبد الله وكانت له سياحات كثيرة بأراضي مصر ومعرفة أحوالها أنه عبر في مغارة كبيرة يقال لها: مغارة شقلقيل بالوجه القبلي فإذا فيها كوم عظيم من سندروس وأنه تخطاه ومضى فإذا شيء كثير إلى الغاية من السمك، وجميعها ملفوفة بثياب كأنها قد كفنت بعد الموت، وأنه أخذ منها سمكة وفتشها فإذا في فمها دينار عليه كتابة لا يحسن قراءتها. وأنه صار يأخذها سمكة سمكة، ويخرج من فم كل واحدة دينارا حتى اجتمع له من ذلك عدّة دنانير. وأنه أخذ تلك الدنانير ورجع ليخرج حتى جاء إلى الكوم السندروس، وإذا به ارتفع حتى سدّ عليه الموضع، فعاد إلى السمك، وأعاد الدنانير إلى مواضعها، وخرج فإذا السندروس كما كان أوّلا بحيث يتجاوزه، ويخرج. فعاد وأخذ الدنانير، ومشى يخرج بها فإذا السندروس قد ارتفع حتى سدّ عليه الموضع. فعاد إلى السمك، وأعاد الدنانير إلى موضعها، وخرج فإذا السندروس على حاله كما كان أوّلا بحيث يتجاوزه ويخرج. وأنه كرّر أخذ الدنانير، وإعادتها مرارا. والحال على ما ذكر حتى خشي الهلاك، فتركها وخرج. فلما كان مدّة سكن موضعها، فرأى حجلا في جدار، وقد قوّر، ووضع حجر آخر فحاول الحجر الآخر حتى رفعه فإذا تحته ستة دنانير من تلك الدنانير التي وجدها في أفواه السمك، فأخذ منها واحدا وترك البقية في موضعها، وأعاد الحجر على الحجر، وقدّر الله بعد ذلك أنه ركب النيل ليعدّي من البرّ الشرقيّ إلى البرّ الغربيّ. قال: فلما توسط البحر وإذا بالأسماك تثب من الماء، وتلقي أنفسها في المركب حتى كدنا نغرق من كثرتها، فصاح الركاب خوفا من الهلاك قال: فتذكرت الدينار الذي معي، وأنّ هذا ربما كان بسببه فأخرجته من جيبي وألقيته في الماء فتواثبت الأسماك من المركب، وألقت نفسها في الماء حتى لم يبق منها شيء.

قلت: وأخبرني قديما بعض من لا أتهمه أنه، ظفر بطلسم من هذا المعنى، وأنه عنده وأراد أن يريني السمك يثب من الماء فلم يقدر لي أن أرى ذلك. قال ابن عبد الحكم: لما أغرق الله آل فرعون، بقيت مصر بعد غرقهم ليس فيها من أشراف أهلها أحد. ولم يبق بها إلا العبيد، والأجراء والنساء. فاتفق من بمصر من النساء أن يولين منهم أحدا، وأجمع رأيهنّ أن يولينّ امرأة منهنّ يقال لها: دلوكة بنت زبا، وكان لها عقل ومعرفة وتجارب، وكانت في شرف منهنّ وموضع وهي يومئذ بنت مائة وستين سنة. فملكوها، فخافت أن يتناولها الملوك فجمعت نساء الأشراف، وقالت لهنّ: إنّ بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد ولا يمدّ عينه إليها، وقد هلك أكابرنا وأشرافنا وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم، وقد رأيت أن أبني حصنا أحدق به جميع بلادنا، فأضع عليه المحارس من كل ناحية فإنا لا نأمن من أن يطمع فينا الناس، فبنت جدارا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها، المزارع والمدائن والقرى، وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء، وأقامت القناطر والترع، وجعلت فيه محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال محرس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل، وجعلت في كل محرس رجالا وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس فإذا أتاهم آت يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض الأجراس، فأتاهم الخبر من أي وجه كان في ساعة واحدة، فنظروا في ذلك فمنعت بذلك مصر من أرادها وفرغت من بنائه في ستة أشهر، وهو الجدار الذي يقال له: جدار العجوز بمصر، وقد بقيت بالصعيد منه بقايا كثيرة. قال المسعودي وقيل: إنما ينته خوفا على ولدها، وكان كثير القنص فخافت عليه سباع البرّ والبحر، واغتيال من جاور أرضهم من الملوك والبوادي، فحوّطت الحائط من التماسيح، وغيرها. وقد قيل غير ما وصفنا. فملكتهم ثلاثين سنة في قول. قال المؤلف رحمه الله: قد بقي من حائط العجوز هذا في بلاد الصعيد بقايا. أخبرني الشيخ المعمر محمد بن المسعودي: أنه سار في بلاد الصعيد على حائط العجوز ومعه رفقة فاقتلع أحدهم منها لبنة فإذا هي كبيرة جدا تخالف المعهود الآن من اللبن في المقدار، فتناولها القوم واحدا بعد واحد يتأمّلونها، وبينما هم في رؤيتها إذ سقطت إلى الأرض، فانفلقت عن حبة فول في غاية الكبر الذي يتعجب منه لعدم مثله في زماننا، فقشروا ما عليها فوجدوها سالمة من السوس، والعيب، كأنها قريبة عهد بحصادها لم يتغير فيها شيء البتة فأكلها الجماعة قطعة قطعة. وكأنها إنما خبئت لهم من الزمن القديم، والأعصر الخالية. إنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها. قال ابن عبد الحكم: وكان ثم عجوز ساحرة يقال لها: بدور وكانت السحرة تعظمها، وتقدّمها في علمهم وسحرهم فبعثت إليها دلوكة ابنة زبا: إنا قد احتجنا إلى سحرك، وفزعنا

إليك، ولا نأمن أن يطمع فينا الملوك، فاعملي لنا شيئا نغلب به من حولنا. فقد كان فرعون يحتاج إليك، فكيف وقد ذهب أكابرنا، يعني في الغرق مع فرعون موسى وبقي أقلنا، فعملت بربا من حجارة في وسط مدينة منف، وجعلت لها أربعة أبواب كل باب منها إلى جهة القبلة، والبحر والغرب والشرق، وصوّرت فيه صور الخيل، والبغال والحمير والسفن والرجال، وقالت لهم: قد عملت لكم عملا يهلك به كل من أرادكم من كل جهة تؤتون منها برّا أو بحرا، وهذا يغنيكم عن الحصن، ويقطع عنكم مؤنة من أتاكم من كل جهة فإنهم إن كانوا في البرّ على خيل أو بغال أو إبل أو في سفن أو رجالة، تحركت هذه الصور من جهتهم التي يأتون منها فما فعلتم بالصور من شيء أصابهم ذلك في أنفسهم على ما تفعلون بهم. فلما بلغ الملوك حولهم أنّ أمرهم قد صار إلى ولاية النساء، طمعوا فيهم، وتوجهوا إليهم، فلما دنوا من عمل مصر تحرّكت تلك الصور التي في البربا فطفقوا لا يهيجون تلك الصور بشيء، ولا يفعلون بها شيئا إلا أصاب ذلك الجيش الذي كان أقبل إليهم مثله إن كان خيلا. فما فعلوا بتلك الخيل المصوّرة في البربا من قطع رؤوسها أو سوقها أو فقء عيونها أو بقر بطونها أثر مثل ذلك بالخيل التي أرادتهم، وإن كانت سفنا أو رجالة، فمثل ذلك وكانوا أعلم الناس بالسحر، وأقواهم عليه وانتشر ذلك فتبادرهم الناس، وكان نساء أهل مصر حين غرق فرعون وقومه، ولم يبق إلا العبيد والأجراء لم يصبرن عن الرجال. فطفقت المرأة تعتق عبدها، وتتزوّجه وتتزوّج الأخرى أجيرها، وشرطن على الرجال أن لا يفعلوا شيئا إلا بإذنهنّ، فأجابوهنّ في ذلك فكان أمر النساء على الرجال. قال يزيد بن حبيب: إنّ نساء القبط على ذلك إلى اليوم اتباعا لمن مضى منهم. لا يبيع أحد منهم، ولا يشتري إلا قال: استأمر امرأتي فملكتهم دلوكة بنت زبا عشرين سنة. تدبر أمرهم بمصر حتى بلغ صبيّ من أبناء أكابرهم، وأشرافهم يقال له: دركون بن بلوطس، فملكوه عليهم فلم تزل مصر ممتنعة بتدبير تلك العجوز نحوا من أربعمائة سنة. وكلما انهدم من ذلك البربا الذي صوّر فيه الصور لم يقدر أحد على إصلاحه إلا تلك العجوز، وولدها وولد ولدها، وكانوا أهل بيت لا يعرف ذلك غيرهم فانقطع أهل ذلك البيت، وانهدم من البربا موضع في زمان لقاس بن مرنيوس. فلم يقدر أحد على إصلاحه، ومعرفة علمه وبقي على حاله وانقطع ما كان يقهرون به الناس. وبقوا كغيرهم إلا أنّ الجمع كثير والمال عندهم. فلما قدم بخت نصر بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل، وسباهم، وخرج بهم إلى أرض بابل قصد مصر، وخرب مدائنها، وقراها، وسبى جميع أهلها ولم يترك بها شيئا، حتى بقيت مصر أربعين سنة خرابا ليس فيها ساكن يجري نيلها ويذهب لا ينتفع به ثم ردّ أهل مصر إليها بعد أربعين سنة، فعمروها ولم تزل مقهورة من يومئذ.

وقال بعض الحكماء: رأيت البرابي وأخذت أتأملها، فوجدتها مستحكمة على جميع أشكال الفلك، والذي ظهر لي أنه لم يعملها حكيم واحد بل تولى عملها قوم بعد قوم، حتى تكاملت في دور كامل. وهو ستة وثلاثون ألف سنة شمسية، لأنّ مثل هذه الأعمال لا تعمل إلا بالأرصاد، ولا يتكامل رصد المجموع في أقل من هذه المدّة المذكورة، وكانوا يجعلون الكتاب حفرا، ونقرا في الصخور، ونقشا في الحجارة، وحلقة مركبة في البنيان، وربما كان الكتاب هو الحفر إذا كان متضمنا لأمر جسيم، أو عهدا لأمر عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره. وقد كتب غير المصريين كذلك كما كتبوا على قبة غمدان، وعلى باب القيروان، وعلى باب سمرقند، وعلى عمود مأرب، وعلى ركن المستقرّ، وعلى الأبلق المفرد، وعلى باب الرها، وكانوا يعمدون إلى الأماكن الشريفة، والمواضع المذكورة فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس، وأجدر أن يراها من مرّ بها، ولا ينسى على طول الدهر. وقال المسعوديّ: واتخذت دلوكة بمصر البرابي والصور وأحكمت آلات السحر، وجعلت في البرابي صور من يرد من كل ناحية ودوابهم إبلا كانت أو خيلا، وصورت فيها من يرد من البحر في المراكب من بحر الغرب، والشام وجمعت في هذه البرابي العظيمة المشيدة البنيان أسرار الطبيعة، وخواص الأحجار، والنباتات والحيوانات، وجعلت ذلك في أوقات فلكية واتصالها بالمؤثرات العلوية، وكانوا إذا ورد إليهم جيش من نحو الحجاز، واليمن عوّرت تلك الصور التي في البريا من الإبل وغيرها فيتعوّر ما في ذلك الجيش وينقطع عنهم ناسه، وحيوانه وإذا كان الجيش من نحو الشام فعل في تلك الصور التي من تلك الجهة التي أقبل منها جيش الشام ما فعل بما وصفنا. فيحدث في ذلك الجيش من الآفات في ناسه وحيوانه ما صنع في تلك الصور التي من تلك الجهة، وكذلك من ورد من جيوش الغرب، ومن ورد في البحر من رومية والشام، وغير ذلك من الممالك. فهابهم الملوك والأمم ومنعوا ناحيتهم من عدوّهم واتصل ملكهم بتدبير هذه العجوز وإتقانها لزمّ أقطار المملكة وأحكامها السياسية. وقد تكلم من سلف وخلف في هذه الخواص وأسرار الطبيعة التي كانت ببلاد مصر وهذا الخبر من فعل العجوز مستفيض لا يشكون فيه والبرابي بمصر من صعيدها وغيره باقية إلى هذا الوقت وفيها أنواع الصور مما إذا صوّرت في بعض الأشياء أحدثت أفعالا على حسب ما رسمت له، وصنعت من أجله على حسب قولهم في الطبائع والله أعلم بكيفية ذلك. قال: وأخبرني غير واحد من بلاد اخميم من صعيد مصر عن أبي الفيض ذي النون بن

إبراهيم المصريّ «1» الإخميميّ الزاهد: وكان حكيما وكانت له طريقة يأتيها، ونحلة يقصدها، وكان ممن يقرّ على أخبار هذه البرابي وامتحن كثيرا مما صوّر فيها ورسم عليها من الكتابة، والصور، قال: رأيت في بعض البرابي كتابا تدبرته فإذا هو: احذر العبيد المعتقين، والأحداث والجند المتعبدين، والنبط المستعربين، ورأيت في بعضها كتابا تدبرته فإذا فيه: يقدّر المقدّر والقضاء يضحك. وفي آخره كتابة تثبتها في ذلك العلوم فوجدتها: تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد قال: وكانت هذه الأمة التي اتخذت هذه البرابي لهجة بالنظر في أحكام النجوم من المواظبين على معرفة أسرار الطبيعة، وكان عندها مما دلت عليه أحكام النجوم: أنّ طوفانا سيكون في الأرض، ولم يقطع على ذلك الطوفان ما هو؟ أنار تأتي على الأرض فتحرق ما عليها؟ أو ماء يغرقها، أو سيف يبيد أهلها، فخافت دثور العلوم، وفناءها بفناء أهلها، فاتخذت هذه البرابي ورسمت فيها علومها من الصور والتماثيل والكتابة، وجعلت بنيانها نوعين طينا وحجارة وفرزت ما بني بالطين مما بني بالحجارة، وقالت: إن كان هذا الطوفان نارا استحجر ما بني بالطين، وإن كان الطوفان الوارد ماء أذهب ما بنينا بالطين، ويبقى ما بني بالحجارة، وإن كان الطوفان سيفا بقي كل من النوعين مما هو من الطين وما هو من الحجر. وهذا ما قيل، والله أعلم. إنه كان قبل الطوفان، وإنّ الطوفان الذي كانوا يرقبونه ولم يعينوه أنار هو أم ماء أم سيف. كان سيفا أتى على جميع أهل مصر من أمّة غشيتها، وملك نزل عليها فأباد أهلها. ومنهم من رأى أن ذلك الطوفان كان وباء عمّ أهلها. ومصداق ذلك ما يوجد ببلاد تنيس من التلال المتقذرة من الناس من صغير وكبير، وذكر وأنثى، كالجبال العظام، وهي المعروفة ببلاد تنيس من أرض مصر بذات الكوم، وما يوجد ببلاد مصر، وصعيدها من الناس المنكسين بعضهم على بعض في الكهوف والغيران والنواويس، ومواضع كثيرة من الأرض لا يدرى من أي الأمم هم، فلا النصارى تخبر عنهم أنهم من أسلافهم، ولا اليهود تقول إنهم من أوائلهم ولا المسلمون يدرون من هؤلاء، ولا تاريخ ينبئ عن حالهم، وعليهم أثوابهم وكثيرا ما يوجد في تلك البرابي والجبال من حليتهم. والبرابي ببلاد مصر بنيان قاتم عجيب كالبربا التي بأخميم والتي بسمنود وغير ذلك.

ذكر الدفائن والكنوز التي تسميها أهل مصر المطالب

ذكر الدفائن والكنوز التي تسميها أهل مصر المطالب الأصل في جواز تتبع الدفائن ما رواه أبو عمرو بن عبد البر والبيهقيّ في الدلائل من حديث ابن عباس. أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لما انصرف من الطائف مرّ بقبر أبي رغال «1» فقال: «هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف» . كان إذا هلك قوم صاح في الحرم فمنعه الله. فلما خرج من الحرم رماه بقارعة، وآية ذلك أنه دفن معه عمود من ذهب فابتدر المسلمون قبره فنبشوه واستخرجوا العمود منه. ومن حديث عبد الله بن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال: «هذا قبر أبي رغال وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما أخرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه وآية ذلك أنه دفن معه عصا من ذهب إن نبشتم عليه أصبتموه معه» ، فابتدره الناس فأخرجوا العصا الذي كان معه. وبمصر كنوز يوسف عليه السلام، وكنوز الملوك من قبله، والملوك من بعده لأنه كان يكنز ما يفضل عن النفقات، والمؤن لنوائب الدهر، وهو قول الله عز وجل: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ [الشعراء/ 58] ويقال: إن علم الكنوز في كنيسة القسطنطينية نقلت إليها من طليطلة. ويقال: إنّ الروم لما خرجت من الشام ومصر، اكتنزت كثيرا من أموالها في مواضع أعدّتها لذلك، وكتبت كتبا بأعلام مواضعها، وطرق الوصول إليها، وأودعت هذه الكتب قسطنطينية، ومنها يستفاد معرفة ذلك، وقيل: إن الروم لم تكتب، وإنما ظفرت بكتب معالم كنوز من ملك قبلها من اليونانيين، والكلدانيين، والقبط. فلما خرجوا من مصر والشام، حملوا تلك الكتب معهم، وجعلوها في الكنيسة وقيل: إنه لا يعطى من ذلك أحد حتى يخدم الكنيسة مدّة. فيدفع إليه ورقة تكون حظه. قال المسعوديّ: ولمصر أخبار عجيبة من الدفائن والبنيان، وما يوجد في الدفائن من ذخائر الملوك التي استودعوها الأرض، وغيرهم من الأمم ممن سكن تلك الأرض. وتدعى بالمطالب إلى هذه الغاية وقد أتينا على جميع ذلك فيما سلف من كتبنا.

(فمن أخبارها) ما ذكره يحيى بن بكير قال: كان عبد العزيز بن مروان، عاملا على مصر لأخيه عبد الملك بن مروان، فأتاه رجل متنصح فسأله عن نصحه فقال: بالقبة الفلانية كنز عظيم. قال عبد العزيز: وما مصداق ذلك. قال: هو أن يظهر لنا بلاط من المرمر والرخام عند يسير من الحفر. ثم ينتهي بنا الحفر إلى باب من الصفر تحته عمود من الذهب على أعلاه ديك عيناه ياقوتتان تساويان ملك الدنيا، وجناحاه مضرجان بالياقوت، والزمرد «1» ورأسه على صفائح من الذهب على أعلى ذلك العمود، فأمر له عبد العزيز بنفقة لأجرة من يحفر من الرجال في ذلك ويعمل فيه. وكان هناك تل عظيم، فاحتفروا حفيرة عظيمة في الأرض، والدلائل المقدّم ذكرها من الرخام والمرمر تظهر فازداد عبد العزيز حرصا على ذلك، وأوسع في النفقة وأكثر من الرجالة، ثم انتهوا في حفرهم إلى ظهور رأس الديك، فبرق عند ظهوره لمعان عظيم. لما في عينيه من الياقوت، ثم بان جناحاه، ثم بانت قوائمه، وظهر حول العمود عمود من البنيان بأنواع الحجارة، والرخام وقناطر مقنطرة، وطاقات على أبواب معقودة، ولاحت منها تماثيل، وصور أشخاص من أنواع الصور الذهب وأجرنة من الأحجار قد أطبق عليها أغطيتها، وسبكت. فركب عبد العزيز بن مروان، حتى أشرف على الموضع، فنظر إلى ما ظهر من ذلك فأسرع بعضهم، ووضع قدمه على درجة من نحاس ينتهي إلى ما هناك، فلما استقرّت قدماه على المرقاة ظهر سيفان عاديان عن يمين الدرجة، وشمالها فالتقيا على الرجل فلم يدرك حتى جزآه قطعا وهوى جسمه سفلا. فلما استقرّ جسمه على بعض الدرج اهتز العمود، وصفر الديك صفيرا عجيبا أسمع من كان بالبعد من هناك، وحرّك جناحيه، وظهرت من تحته أصوات عجيبة، قد عملت بالكواكب والحركات إذا مال وقع على بعض تلك الدرج شيء أو ماسها شيء انقلبت فتهاوى من هناك من الرجال إلى أسفل تلك الحفرة، وكان فيها ممن يحفر ويعمل وينقل التراب، وينظر ويحوّل ويأمر وينهي نحو ألف رجل. فهلكوا جميعا، فخرج عبد العزيز وقال: هذا ردم عجيب الأمر ممنوع النيل نعوذ بالله منه وأمر جماعة من الناس فطرحوا ما أخرج من هناك من التراب على من هلك من الناس. فكان الموضع قبرا لهم. قال المسعودي: وقد كان جماعة من أهل الدفائن والمطالب ومن قد اعتنى وأغرى بحفر الحفائر، وطلب الكنوز وذخائر الملوك والأمم السالفة المستودعة بطن الأرض ببلاد مصر، قد وقع إليهم كتاب ببعض الأقلام السالفة فيه وصف موضع ببلاد مصر على أذرع يسيرة من بعض الأهرام بأن فيه مطلبا عجيبا، فأخبروا الإخشيد محمد بن طفج «2» بذلك

فأمرهم بحفره، وأباحهم استعمال الحيلة في إخراجه، فحفروا حفرا عظيما إلى أن انتهوا إلى أزج وأقباء وحجارة مجوّفة في صخرة منقورة فيها تماثيل قائمة على أرجلها من الخشب قد طلي بالأطلية المانعة من سرعة البلاء وتفرّق الأجزاء والصور مختلفة فيها صور شيوخ وشبان ونساء وأطفال. أعينهم من أنواع الجواهر كالياقوت والزمرد والزبرجد والفيروزج، ومنها ما وجوهها ذهب، وفضة فكسر بعض تلك التماثيل فوجدوا في أجوافها رمما بالية، وأجساما فانية، وإلى جانب كل تمثال منها نوع من الأبنية كالبراني وغيرها من المرمر والرخام، وفيه من الطلي الذي قد طلي منه ذلك الميت الموضوع في التماثيل الخشب والطلاء دواء مسحوق، وأخلاط معمولة لا رائحة لها، فجعل منه على النار شيء ففاح منه ريح طيبة مختلفة لا تعرف في نوع من أنواع الطيب. وقد جعل كل تمثال من الخشب على صورة ما فيه من الناس على اختلاف أسنانهم، ومقادير أعمارهم، وتباين صورهم، وبإزاء كل تمثال تمثال من الحجر المرمر، أو من الرخام الأخضر على هيئة الصنم على حسب عبادتهم للتماثيل والصور. عليها أنواع من الكتابات لم يقف أحد على استخراجها من أهل الملل، وزعم قوم من أهل الدراية أن لذلك القلم منذ فقد من أرض مصر. أربعة آلاف سنة، وفيما ذكرناه دلالة على أن هؤلاء ليسوا بيهود ولا نصارى ولم يؤدّهم الحفر إلا لما ذكرناه من هذه التماثيل، وكان ذلك في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، وقد كان من سلف وخلف من ولاة مصر. من أحمد بن طولون وغيره، إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، لهم أخبار عجيبة فيما استخرج في أيامهم من الدفائن، والأموال والجواهر، وما أصيب في هذه المطالب من القبور، وقد أتينا على ذكرها فيما تقدّم من تصنيفنا. (وركب) أحمد «1» بن طولون يوما إلى الأهرام، فأتاه الحجاب بقوم عليهم ثياب صوف، ومعهم المساحي والمعاول، فسألهم عن ما يعملون فقالوا: نحن قوم نطلب المطالب، فقال لهم: لا تخرجوا بعدها إلا بمشورتي أو رجل من قبلي وأخبروه أنّ في سمت الأهرام مطلبا قد عجزوا عنه فضم إليهم الرافقي وتقدّم إلى عامل الجيزة في إعانتهم بالرجال والنفقات، وانصرف فأقاموا مدّة يعملون حتى ظهر لهم، فركب أحمد بن طولون إليهم وهم يحفرون، فكشفوا عن حوض مملوء دنانير، وعليه غطاء مكتوب عليه بالبربطية فأحضر من قرأه: فإذا فيه أنا فلان بن فلان الملك الذي ميز الذهب من غشه ودنسه فمن أراد أن يعلم فضل ملكي على ملكه فلينظر إلى فضل عيار ديناري على عيار ديناره، فإن مخلص الذهب من الغش مخلص في حياته وبعد وفاته، فقال أحمد بن طولون: الحمد لله أنّ ما

ذكر هلاك أموال أهل مصر

نبهتني عليه هذه الكتابة أحبّ إليّ من المال، ثم أمر لكل من القوم المطالبية بمائتي دينار منه ولكل من الصناع بخمسة دنانير بعد توفية أجرة عمله، وللرافقي بثلاثمائة دينار، ولنسيم الخادم بألف دينار وحمل باقي الدنانير، فوجدها أجود من كل عيار، وشدّد من حينئذ في العيار بمصر. حتى صار عيار ديناره الذي عرف بالأحمديّ أجود عيار، وكان لا يطلى إلا به. ذكر هلاك أموال أهل مصر قال الله عز وجل: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما [يونس/ 88- 89] هذا دعاء من موسى عليه السلام، على فرعون وقومه من أهل مصر، لكفرهم أن يهلك الله أموالهم. قال الزجاج: طمس الشيء: إذهابه عن صورته. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعن محمد بن كعب القرظي أنهما قالا: صارت أموال أهل مصر ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا، وأثلاثا وأنصافا، فلم يبق معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعدهم. وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد: وعطية أهلكها الله تعالى حتى لا ترى يقال: عين مطموسة أي ذاهبة، وطمس الموضع: إذا عفا ودرس. وقال ابن زيد: صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة. وقال محمد بن كعب: وكان الرجل منهم يكون مع أهله وفراشه وقد صارا حجرين. قال: وقد سألني عمر بن عبد العزيز، فذكرت ذلك فدعا بخريطة أصيبت بمصر، فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وإنها لحجارة. وقال محمد بن شهاب الزهري: دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال: يا غلام ائتني بالخريطة. فجاء بخريطة نثر ما فيها، فإذا فيها دراهم ودنانير وتمر وجوز وعدس وفول. فقال: كل يا ابن شهاب فأهويت فإذا هو حجارة فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا مما أصاب عبد العزيز بن مروان في مصر إذ كان عليها واليا وهو مما طمس الله عليه من أموالهم. وقال المضارب بن عبد الله الشامي: أخبرني من رأى النخلة بمصر مصروعة وإنها لحجر. ولقد رأيت ناسا كثيرا قياما وقعودا في أعمالهم لو رأيتهم ما شككت فيهم قبل أن تدنو منهم إنهم أناس وإنهم لحجارة. ولقد رأيت الرجل من رقيقهم وإنه لحارث على ثورين وإنه وثوريه لحجارة. ونقل وسمة بن موسى في قصص الأنبياء: أن فرعون لما هلك وقومه وآمنت بنو إسرائيل غائلته ندب موسى عليه السلام؛ من نقبائه الاثني عشر نقيبين: أحدهما: كالب بن موقيا، والآخر: يوشع بن نون، مع كل واحد من سبطه اثنا عشر ألفا وأرسلهما إلى

ذكر أخلاق أهل مصر وطبائعهم وأمزجتهم

مصر. وقد خلت من حاميها لغرق أهلها مع فرعون فأخذوا ذخائر فرعون وكنوزه، وعادوا إلى موسى. فذلك توريثهم أرض مصر يعني قول الله عز وجل عن قوم فرعون: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الشعراء/ 58] ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ [الدخان/ 28] ، وقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف/ 137] يعني أرض مصر أورثناها بني إسرائيل لأنهم هم المستضعفون الذين كانوا فيها بدليل قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ [القصص/ 5] . قال جامعه ومؤلفه رحمه الله تعالى: أخبرني داود بن رزق بن عبد الله وكانت له سياحات كثيرة بأرض مصر أنه عبر إلى واد بالقرب من القلمون بالوجه القبلي فرأى فيه مقاتات كثيرة ما بين بطيخ وقثاء وتفاح وكلها حجارة وكان قد أخبرني قديما بعض الأعيان أنه شاهد في سفره إلى البلاد من أرض مصر بطيخا كثيرا كله حجارة وكذلك البطيخ من الصنف الذي يقال له العبدلي. ذكر أخلاق أهل مصر وطبائعهم وأمزجتهم قال أبو الحسن عليّ بن رضوان «1» الطبيب: مصر، اسم فيما نقلت الرواة يدل على أحد أولاد نوح النبي عليه السلام، فإنهم ذكروا أنّ مصر هذا نزل بهذه الأرض فانسل فيها، وعمرها فسميت باسمه، والذي يدل عليه هذا الاسم اليوم هو الأرض التي يفيض عليها النيل، ويحيط بها حدود أربعة؛ وهي: أنّ الشمس تشرق على أقصى العمارة بالشرق قبل أن تغيب عن آخر العمارة بالغرب بثلاث ساعات، وثلثي ساعة. فيجب من ذلك أن تكون هذه الأرض في النصف الغربيّ من الربع العامر، والنصف الغربيّ من الربع العامر على ما قال أبقراط، وبطليموس: أقل حرارة وأكثر رطوبة من النصف الشرقيّ. لأنه قسم كوكب القمر، والنصف الشرقيّ في قسم كوكب الشمس، وذلك أن الشمس تشرق على النصف الشرقيّ قبل شروقها على النصف الغربيّ، والقمر يهل على النصف الغربيّ قبل النصف الشرقيّ. وقد زعم قوم من القدماء أنّ أرض مصر في وسط الربع من المعمور من الأرض بالطبع، فأما بالقياس فعلى ما ذكرنا من أنها في النصف الغربيّ، والحدّ الثالث هو أن أوّل بعد هذه الأرض عن خط الاستواء في جهة الجنوب أسوان وبعدها عن خط الاستواء اثنان وعشرون درجة ونصف، فالشمس تسامت رؤوس أهلها مرّتين في السنة عند كونها في آخر الجوزاء، أو في أوّل السرطان، وفي هذين الوقتين لا يكون للقائم بأسوان نصف النهار ظل أصلا، فالحرارة واليبس والإحراق غالب على مزاجها لأنّ الشمس تنشف رطوبتها، ولذلك صارت ألوانهم سودا وشعورهم جعدة لاحتراق أرضهم.

والحدّ الرابع هو: أن آخر بعد أرض مصر عن خط الاستواء في جهة الشمال طرف بحر الروم، وعليه من أرض مصر بلدان كثيرة كالإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس والفرما. وبعد دمياط عن خط الاستواء في الشمال أحد وثلاثون جزءا وثلث، وهذا البعد هو آخر الإقليم الثالث، وأوّل الإقليم الرابع. فالشمس لا تبعد عنهم كل البعد، ولا تقرب منهم كل القرب فالغالب عليهم الاعتدال مع ميل يسير إلى الحرارة فإن الموضع المعتدل على الصحة من البلدان العامة وهو أوّل وسط الإقليم الرابع، وأيضا فمجاورة دمياط للبحر وإحاطته بها تجعلها معتدلة بين الحرّ والبرد خارجة عن الاعتدال إلى الرطوبة، فيكون الغالب عليها المزاج الرطب الذي ليس بحارّ ولا بارد، ولذلك صارت ألوانهم سمرا وأخلاقهم سهلة وشعورهم سبطة، وإذا كان أوّل مصر من جهة الجنوب الغالب عليه الاحتراق وآخرها من جهة الشمال الغالب عليها الاعتدال مع ميل يسير نحو الحرارة فما بين هذين الموضعين من أرض مصر الغالب عليه الحرارة، وتكون قوّة حرارته بقدر بعده من أسوان، وقربه من بحر الروم. ومن أجل هذا قال أبقراط وجالينوس: إن المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة قال: وجبل لوقا في مشرق هذه الأرض يعوق عنها ريح الصبا، فإنه لم يوجد بفسطاط مصر صبا خالصة، لكن متى هبت الصبا عندهم، هبت نكبا بين المشرق والشمال، أو المشرق والجنوب، وهذه الرياح يابسة مانعة من العفن. وقد عدمت أهل مصر هذه الفضيلة ومن أجل ذلك صارت المواضع التي تهب فيها ريح الصبا من أرض مصر أحسن حالا من غيرها كالإسكندرية وتنيس، ويعوّق «1» أيضا هذا الجبل إشراق الشمس على أرض مصر إذا كانت على الأفق فيكون زمان لبث الشعاع على هذه الأرض أقل من الطبيعيّ. ومثل هذه الحال سبب لركود الهواء وغلظه. وأرض مصر أرض كثيرة الحيوان والنبات جدّا لا تكاد تجد فيها موضعا خلوا من الحيوان والنبات. وهي أرض متخلخلة فإنك تراها عند انصراف النيل بمنزلة الحمأة، فإذا حلّت الحرارة ما فيها من الرطوبة تشققت شقوقا عظاما، والمواضع الكثيرة الحيوان والنبات أرض كثيرة العفونة، وقد اجتمع على أرض مصر حرارة مزاجها وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات، فأوجب ذلك احتراقها وسواد طينها، فصارت أرضا سوداء. وما قرب منها من الجبل سبخ إما بورقيّ أو مالح. ويظهر من أرض مصر بالعشيات بخار أسود أو أغبر وخاصة في أيام الصيف. وأرض مصر ذات أجزاء كثيرة ويختص كل جزء منها بشيء دون غيره، وعلة ذلك ضيق عرضها واشتمال طولها على عرض الإقليم الثاني والثالث، فإن الصعيد فيه من النخل والسنط وآجام القصب والبردي ومواضع إحراق الفحم وغير ذلك شيء كثير.

والفيوم فيه من النقائع وآجام القصب ومواضع تعطين الكتان شيء كثير. وأسفل أرض مصر فيه من النبات أنواع كثيرة كالقلقاس والموز وغير ذلك. وبالجملة؛ فكل بقعة من أرض مصر لها أشياء تختص بها وتتفضل عن غيرها. قال: والنيل يرطب يبس الصيف والخريف فقد استبان أنّ المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة والرطوبة الفصلية وإنها ذات أجزاء كثيرة. وأنّ هواءها وماءها رديئان، وقد بيّن الأوائل أن المواضع الكثيرة العفن يتحلل منها في الهواء فضول كثيرة لا تدعه يستقرّ على حال لاختلاف تصعدها. وقد كان استبان أنّ هواء أرض مصر يسرع إليه التغير لأنّ الشمس لا يثبت على أرض مصر شعاعها المدّة الطبيعية، فمن أجل هذين كثر اختلاف هواء أرض مصر، فصار يوجد في اليوم الواحد على حالات مختلفة مرّة حرّ، ومرّة برد، ومرّة يابس، وأخرى رطب، ومرّة متحرّك، وأخرى ساكن، ومرّة الشمس صاحية، ومرّة قد سترها الغيم. وبالجملة هواء مصر كثير الاختلاف غير لازم لطريقة واحدة فيصير من أجل ذلك في الأوعية والعروق من أخلاط البدن لا يلزم حدّا واحدا. وأيضا فإنّ ما يتحلل كل يوم من البخار الرطب بأرض مصر يعوقه اختلاف الهواء وقلة سمك الجبال، وكثرة حرارة الأرض عن الاجتماع في الجوّ، فإذا برد الهواء ببرد الليل انحدر هذا البخار على وجه الأرض فيتولد عنه الضباب الذي يحدث عنه الطل والندا، وربما تحلل هذا البخار بالتحلل الخفي فإذا يتحلل كل يوم ما كان اجتمع من البخار في اليوم الذي قبله فمن أجل هذا لا يجتمع الغيم الممطر بأرض مصر إلا في الندرة. وظاهر أيضا، أنّ أرض مصر يترطب هواؤها في كل يوم بما يترقى إليه من البخار الرطب وما يتحلل. وقد قال بعض الناس: أنّ الضباب يتكوّن من استحالة الهواء إلى طبيعة الماء فإذا انضاف هذا إلى ما قلناه كان أزيد في بيان سرعة تغير الهواء بأرض مصر، وكثرة العفونة فيها وقد استبان أنّ أرض مصر كثيرة الاختلاف كثيرة الرطوبة الفضلية التي يسرع إليها العفن. والعلة القصوى في جميع ذلك هو أن أخص الأوقات بالجفاف في الأرض كلها يكثر فيه بمصر الرطوبة لأنها تترطب في الصيف والخريف بمدّ النيل وفيضه. وهذا بخلاف ما عليه البلدان الأخر. وقد علّمنا أبقراط أنّ رطوبة الصيف والخريف فضيلة أعني: خارجة عن المجرى الطبيعيّ كرطوبة المطر الحادث في الصيف، ومن أجل هذه قلنا: إن رطوبة مصر فضلية، وذلك أن الحرارة واليبس هو بالحقيقة مزاج مصر الطبيعيّ، وإنما عرض له ما أخرجه عن اليبس إلى الرطوبة الفضيلة بمدّ النيل في الصيف والخريف. ولذلك كثرت العفونات بهذه الأرض فهذا هو السبب الأعظم في أن صارت أرض مصر على ما هي عليه من سخافة

الأرض، وكثرة العفن، ورداءة الماء، والهواء. إلا أن هذه الأشياء لا تحدث في أبدان المصريين استحالة محسوسة إذا جرت على عادتها من أجل إلف المصريين لهذه الحال، ومشاكلة أبدانهم لها، فإن كل ما يتولد بأرض مصر من الحيوان والنبات مشابه لما عليه مصر في سخافة الأبدان وضعف القوى، وكثرة التغير وسرعة الوقوع في الأمراض، وقصر المدّة كالحنطة بمصر فإنها وشيكة الزوال سريع إليها العفن في المدّة اليسيرة ولا مطعن أن أبدان الناس وغيرهم تخالف ما عليه الحنطة من سرعة الاستحالة، وكيف لا يكون الأمر كذلك وأبدانهم مبنية من هذه الأشياء فحال ما يتولد بأرض مصر من النبات، والحيوان في السخافة، وكثرة الفضول، والعفن وسرعة الوقوع في الأمراض كحال سخافة أرضها وعفنها، وفضولها وسرعة استحالتها لأنّ النسبة واحدة. ولذلك أمكن حياة الحيوان فيها ونبات النبات بها فإن هذه الأشياء من حيث ناسبتها ولم تبعد من مشاكلتها أمكن حياتها. فأما الأشياء الغريبة فإنها إذا دخلت إلى مصر تغيرت في أوّل لقائها لهذا الهواء حتى إذا استقرّت وألّفت الهواء، واستمرّت عليه صحت مشاكلة لأرض مصر. قال: وأما جنس ما يؤكل، ويشرب بأرض مصر. فإنّ الغلات سريعة التغير سخيفة متخلخلة تفسد في الزمان اليسير كالحنطة والشعير والعدس والحمص والباقلاء والجلبان. فإنّ هذه تسوّس في المدّة القليلة ليس لشيء من الأغذية التي تعمل منها لذاذة ما لنظيره في البلدان الأخر. وذلك أنّ الخبز المعمول من الحنطة بمصر متى لبث يوما واحدا بليلته لا يؤكل وإن أكل لم يوجد له لذاذة ولا تماسك لبعضه ببعض ولا يوجد فيه علوكة، ولكنه يتكرّج في الزمان اليسير وكذلك الدقيق، وهذا خلاف أخبار البلدان الأخر، وكذلك الحال في جميع غلات مصر وفواكهها، وما يعمل فيها فإنها وشيكة الزوال سريعة الاستحالة والتغير. فأما ما يحمل من هذه إلى مصر فظاهر أنّ مزاجها يتبدّل باختلاف الهواء عليها ويستحيل عما كانت عليه إلى مشاكلة أرض مصر إلا أنّ ما كان حديثا قريب العهد بالسفر، فقد بقيت فيه من جودته بقايا صالحة فهذا حال الغلات. وأما الحيوان الذي يأكله الناس، فالبلدي منه مزاجه مشاكل لمزاج الناس بهذه الأراضي في السخافة وسرعة الاستحالة فهو على هذا ملائم لطبائعهم، والمجلوب كالكباش البرقية فالسفر يحدث في أبدانها قحلا ويبسا وأخلاطا لا تشاكل أخلاط المصريين. ولها إذا دخلت مصر مرض أكثرها. فإذا استقرّت زمانا صالحا تبدّل مزاجها ووافق مزاج المصريين. وأهل مصر يشرب الجمهور منهم من ماء النيل وقد قلنا في ماء النيل ما فيه كفاية وبعضهم يشرب مياه الأبار، وهي قريبة من مشاكلتهم والمياه المخزونة فقلّ من يشربها بأرض مصر. وأجود الأشربة عندهم الشمسيّ: لأنّ العسل الذي فيه يحفظ قوّته ولا يدعه يتغير بسرعة والزمان

الذي يعمل فيه خالص الحرّ فهو ينضجه والزبيب الذي يعمل منه مجلوب من بلاد أجود هواء. وأما الخمر فقلّ من يعتصرها إلا ويلقي معها عسلا وهي معتصرة من كرومهم، فتكون مشاكلة لهم، ولهذا صاروا يختارون الشمسيّ عليها وما عدا الشمسيّ والخمر من الشراب بأرض مصر فرديء لا خير فيه لسرعة استحالته من فساد مادّته، كالنبيذ التمري، والمطبوخ والمزر المعمول من الحنطة. وأغذية أهل مصر مختلفة فإنّ أهل الصعيد يغتذون كثيرا بتمر النخل، والحلاوة المعمولة من قصب السكر، ويحملونها إلى الفسطاط وغيرها. فتباع هناك وتؤكل، وأهل أسفل الأرض يغتذون كثيرا بالقلقاس والجلبان ويحملون ذلك إلى مدينة الفسطاط وغيرها. فتباع هناك وتؤكل وكثير من أهل مصر يكثرون أكل السمك طريا ومالحا وكثير يكثرون أكل الألبان، وما يعمل منها وعند فلاحيهم نوع من الخبز يدعى كعكا يعمل من جريش الحنطة، ويجفف وهو أكثر أكلهم السنة كلها. وبالجملة فكل قوم قد ابتنت أبدانهم من أشياء بأعيانها وألفتها. ونشأت عليها إلا أن الغالب على أهل مصر الأغذية الرديئة وليست تغير مزاجهم ما دامت جارية على العادة. وهذا أيضا مما يؤكد أمرهم في السخافة وسرعة الوقوع في الأمراض. وأهل الريف أكثر حركة رياضة من أهل المدن ولذلك هم أصح أبدانا لأنّ الرياضة تصلب أعضاءهم، وتقوّيها وأهل الصعيد أخلاطهم أرق وأكثر دخانية وتخلخلا وسخافة لشدّة حرارة أرضهم من أسفل الأرض، وأهل أسفل الأرض بمصر أكثر استفراغ فضولهم، بالبراز والبول لفتور حرارة أرضهم واستعمالهم للأشياء الباردة، والغليظة كالقلقاس. وأما أخلاط المصريين فبعضها شبيه ببعض لأنّ قوى النفس تابعة لمزاج البدن، وأبدانهم سخيفة سريعة التغير قليلة الصبر والجلد، وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة والتنقل من شيء إلى شيء والدعة والجبن والقنوط والشح وقلة الصبر والرغبة في العلم وسرعة الخوف والحسد والنميمة والكذب والسعي إلى السلطان وذمّ الناس. وبالجملة فيغلب عليهم الشرور الدنية التي تكون من دناءة الأنفس وليس هذه الشرور عامّة فيهم ولكنها موجودة في أكثرهم، ومنهم: من خصه الله بالفضل وحسن الخلق وبرّأه من الشرور، ومن أجل توليد أرض مصر، الجبن والشرور الدنيئة في النفس لم تسكنها الأسد وإذا دخلت ذلت ولم تتناسل وكلابها أقل جرأة من كلاب غيرها من البلدان. وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره في البلدان الأخر ما خلا ما كان منها في طبعه ملائمة لهذه الحال كالحمار والأرنب. وقال: إنّ جالينوس يرى أن فصل الربيع طبيعته الاعتدال، ويناقض من ظنّ أنه حار رطب، ومن شأن هذا الفصل أن تصح فيه الأبدان، ويجود هضمها وتنتشر الحرارة لغريزية فيه، ويصفو الروح الحيواني لاعتدال الهواء وصفائه ومساواة ليله لنهاره، وغلبة الدم والهواء المعتدل هو الذي لا يحس فيه ببرد ظاهر ولا حرّ ولا رطوبة ولا يبس، ويكون في نفسه

صافيا نقيا فيقوى فيه الروح الحيواني لهذا السبب، وتصح الأبدان ويكثر نشاط الحيوان وتنمو الأشياء وتزيد وتتوالد. وإذا طلبنا بأرض مصر مثل هذا الهواء لم نجده في وقت من السنة إلا في امشير وبرمهات وبرمودة وبشنس، عندما تكون الشمس في النصف الأخير من الدلو والحوت والحمل والثور. فإنا نجد بمصر في هذا الزمان أياما معتدلة نقية صافية لا يحس فيها بحرّ ظاهر، ولا برد ولا رطوبة ولا يبوسة، وتكون الشمس فيها نقية من الغيوم، والهواء ساكنا لا يتحرّك إلا أن يكون ذلك في برمودة وبشنس فإنه يحتاج إلى أن تهب ريح الشمال ليعتدل ببردها حرّ الشمس. وفي هذا الزمان تكثر حركة الحيوان وسفاده وتحسن أصواته، وتورق الأشجار ويعقد الزهر، وتقوى القوة المولدة ويغلب كيموس الدم. وهذا الفصل في أرض مصر يتقدّم زمانه الطبيعيّ بمقدار ما ينقص عن آخره، وعلة ذلك قوّة حرارة هذه الأرض، وقد يعرض في أوّل هذا الفصل أيام شديدة البرود وذلك في أمشير إذا هبت ريح الشمال، وكانت الشمس غير نقية من الغيوم، وعلة ذلك دخول فصل الربيع في فصل الشتاء. فإذا هبت ريح الشمال برد ببردها الهواء، فأعادته بعد الاعتدال إلى البرد ولكثرة ما يصعد من الأرض في هذا الزمان من البخار الرطب يرطب الهواء، ويعود إلى حاله في فصل الشتاء، وربما برد الهواء من هبوب رياح أخر فإن ريح الجنوب التي هي أشدّ الرياح حرارة إذا هبت في هذا الزمان اكتسبت برودة من الأرض، والماء الذين قد بردّهما هواء الشتاء. فإذا مرّت بشيء بردّته ببرودتها العرضية حتى إذا دام هبوبها أياما كثيرة متوالية عادت إلى حرارتها، وأسخنت الهواء، وأحدثت فيه يبسا. والدليل على أن برد رياح الجنوب التي تعرفها المصريون بالمريسي يتولد من برد مياه مصر، وأرضها لا بشيء طبيعي لها أنه لا يجتمع في الجوّ في أيام هبوبها الضباب الذي يجتمع من تحليل الحرارة للبخار الرطب بالنهار. وجمع البرودة له بالليل. فحرارة ريح الجنوب تفرّق البرودة عن جمعه، وتبدّده في الهواء، وإذا دام هبوب هذه الريح أسخنت الماء، والأرض وعادت إلى طبيعتها في الحرارة. وإذا كان فصل الربيع يتقدّم زمانه الطبيعي، ويختلف هذا الاختلاف. والهواء في الأصل بمصر يختلف بكثرة استحالته، وما يرقى إليه من البخار فما ظنك بغيره من الفصول ولذلك كثرت فيه الرياح. وأخر الأطباء فيه سقي الأدوية المسهلة إلى أن يستقرّ أمره في شمس الحمل مع الثور، ثم يدخل فصل الصيف في آخر بشنس «1» وبؤنة «2» وأبيب «3» وبعض مسرى «4» . عند ما تكون الشمس في الجوزاء والسرطان والأسد وبعض السنبلة، فيشتدّ الحرّ واليبس في هذا الزمان وتجف الغلات وتنضج الثمار ويجتمع من أكلها في الأبدان كيموسات رديئة وإذا نزلت

الشمس في السرطان أخذ النيل في الزيادة، والفيض على أرض مصر. فيتغير مزاج الصيف الطبيعي بكثرة ما يترقى إلى الهواء من بخار الماء، ويوجد في أوّل هذا الفصل عند ما تكون الشمس في الجوزاء أيام يشاكل هواؤها هواء الربيع عندما تكون الشمس مستورة بالغيوم أو تكون الريح الشمال هاوية. ولهذا يغلط كثير من الأطباء ويسقي الأدوية المسهلة في هذا الزمان، لظنه أن فصل الربيع لم يخرج إلا من كان منهم أحذق فهو يختار ما كان من هذه الأيام أسكن حرارة والأكثر لا يشعرون البتة بهذه الحال. وفي آخر الصيف يكون فيض النيل فظاهر أن هذا الفصل يتقدّم دخوله الزمان الطبيعيّ بقدر ما يتقدم آخره وأنه كثير الاضطراب بكثرة ما يرقى إليه من بخار الأرض. فلولا استمرار أبدانهم على هذا الاختلاف، ومشاكلتهم لهذه الحال لحدثت فيهم الأمراض التي ذكر أبقراط: أنها تحدث إذا كان الصيف رطبا. ثم يدخل فصل الخريف وطبيعته يابسة من النصف الأخير من مسرى ثم توت «1» وبابة وبعض أيام هاتور. وتكون الشمس في آخر السنبلة والميزان والعقرب، فتكمل زيادة النيل في أوّل هذا الفصل ويطلق على الأرضين فيطبق أرض مصر ويرتفع منه في الجوّ بخار كثير، فينتقل مزاج الخريف عن اليبس إلى الرطوبة حتى أنه ربما وقع فيه الأمطار، وكثرة الغيم في الجوّ. ويوجد في هذا الفصل أيام شديدة الحرّ لأنها على الحقيقة صيفية. فإذا نقي الجوّ من البخار الرطب عادت إلى طبيعتها من الحرارة. وفيه أيضا أيام شديدة الشبه بأيام الربيع تكون عند ما يساوي الليل النهار ويرطب الماء يبس الهواء، ويشتدّ في هذا الفصل اضطراب الهواء بكثرة ما يرتقى إليه من البخار الرطب، فيكون مرّة حارّا أو أخرى باردا ومرّة يابسا، وأكثر أوقاته يغلب عليه الرطوبة فلا يزال كذلك يتمزج حتى يغلب عليه رطوبة الماء في آخر الأمر ويصاد في أيام الخريف من النيل أسماك كثيرة جدا يولد أكلها في الأبدان أخلاطا لزجة. وكثيرا ما يستحيل إلى الصفر إذا صادفت في البدن خلطا صفراويا. فمن أجل ذلك يضطرب ما في الأبدان من الروح الحيوانيّ، وتهيج الأخلاط، ويفسد الهضم في البطون والأوعية والعروق ويتولد من ذلك كيموسات رديئة كثيرة الأخلاط بعضها مرّة صفراء وبعضها مرّة سوداء وبعضها بلغم لزج وبعضها خلط خام وبعضها مرّة محترقة، وكثير منها يتركب من هذه الأشياء فتثير الأمراض حتى إذا انصرف النيل في آخر الخريف، وانكشفت الأرض وبرد الهواء، وكثرت الأسماك واحتقن البخار، وكثر ما يرتفع به من الأرض من العفونة، واستحكم عند ذلك وجود العفن تزايدت الأمراض. ولولا إلف أهل مصر لهذه الأشياء لكان ما يحدث فيهم من الأمراض أكثر من ذلك. ثم يدخل فصل الشتاء، وطبيعته باردة رطبة من النصف الآخر من هاتور ثم

كيهك «1» وطوبة، وذلك عند ما تكون الشمس في القوس والجدي، وبعض الدلو وذلك أقل من ثلاثة أشهر والعلة في ذلك قوّة حرارة أرض مصر، وكون الأبدان مضطربة، وتنكشف الأرض في أوّل هذا الفصل وتحرث وتعفن بالجملة لكثرة ما يلقي فيها من البزور وما فيها من أزبال الحيوان، وفضولها ولأنها سخيفة. وهي كالحمأة في هذا الزمان فيتولد فيها من أنواع الفار والدود والنبات والعشب وغير ذلك ما لا يحصى كثرة. وينحل منها في الجوّ أبخرة كثيرة حتى يصير الضباب بالغدوات ساترا للأبصار عن الألوان القريبة، ويصاد أيضا من الأسماك المحبوسة في المياه المخزونة شيء كثير، وقد داخلها العفن لقلة حركتها فيولد أكلها في الأبدان فضولا كثيرة لزجة شديدة الاستعداد للعفن فتقوي الأمراض في أوّل هذا الفصل. حتى إذا اشتدّ البرد، وقوي الهضم في الأبدان، واستقرّ الهواء على شيء واحد، وعادت الحرارة الغريزية إلى داخل، وتطبقت الأرض بالنبات، وسكنت عفونتها صحت عند ذلك الأبدان. وهذا يكون في آخر كيهك أو في طوبة فقد استبان أن الفصول بأرض مصر كثيرة الاختلاف وإن أردأ أوقات السنة عندهم وأكثرها أمراضا هو آخر الخريف وأوّل الشتاء وذلك في شهر هاتور وكيهك، فإذا اختلاف الفصول مشاكل لما عليه أرضهم من الرداءة. فمضرة الفصول إذا بالأبدان في أرض مصر أقل منها في البلدان الأخر إذا اختلفت هذا الاختلاف، واستبان أيضا أن السبب الأول في ذلك هو: مدّ النيل في أيام الصيف، وتطبيقه الأرض في أيام الخريف بخلاف ما عليه مياه الأنهار في العمارة كلها فإنها إنما تمتدّ في أخص الأوقات بالرطوبة وهو الشتاء والربيع. قال: وقد استبان مما تقدم أن الرطوبة الفضيلة بأرض مصر كثيرة وظاهر أن أمراضهم البلدية تكون من نوع هذه الرطوبة. فإني أنا قلما رأيت أمراضهم البلدية تكون من نوع هذه كلها لا يشوبها في أول أمرها البلغم والخلط الخام. والأمراض كلها تحدث عندهم في الأوقات كلها كما قال أبقراط، وأكثر أمراضهم هي الفضيلة، أعني العفنة من أخلاط صفراوية وبلغمية على ما يشاكل كل مزاج أرضهم. وما ذكرناه فيما تقدّم يوجب حدوث الأمراض كثيرا إلا أن مشاكلة هذه بعضها بعضا واتفاقها في سنة واحدة تمنع من أن تكون في أنفسها ممرضة متى لزمت العادة فأما إذا خرجت عن عادتها فهي تحدث مرضا. وخروجها عن عادتها بمصر هو الذي أعدّه اختلافا ممرضا لا الاختلاف الموجود فيها على الدائم، والنيل ليس يحدث في الأبدان كل سنة مرضا، ولكنه إذا أفرطت زيادته ودام مدّة تزيد على العادة كان ذلك سببا لحدوث المرض الوافد. فإن قيل: إذا كانت أبدان الناس بأرض مصر من السخافة على ما ذكرت فلعلها في مرض دائم. فالجواب: لسنا نبالي بهذا كيف كان، لأن المرض هو ما يضرّ بالفعل ضررا

محسوسا من غير توسط. فمن أجل ذلك ليس أبدان المصريين في مرض دائم ولكنها كثيرة الاستعداد نحو الأمراض. قال: أما أمراض مصر البلدية فقد ذكرنا من أمرها ما فيه كفاية وظهر أن أكثرها الأمراض الفضيلة التي يشوبها صفراء وخام على أن باقي الأمراض تحدث عندهم بسرعة، وقرب وخاصة في آخر الخريف وأوّل الشتاء. وأما الأمراض الوافدة: ومعنى المرض الوافد: هو ما يعمّ خلقا كثيرا في بلد واحد وزمان واحد ومنه نوع يقال له: الموتان؛ وهو الذي يكثر معه الموت، وحدوث الأمراض الوافدة تكون عن أسباب كثيرة يجتمع في أجناس أربعة وهي تغير كيفية الهواء، وتغير كيفية الماء، وتغير كيفية الأغذية، وتغير كيفية الأحداث النفسانية. فالهواء تغير كيفيته على ضربين: أحدهما تغيره الذي جرت به العادة، وهذا لا يحث مرضا وافدا، وليس تغيرا ممرضا. والثاني: التغير الخارج عن مجرى العادة وهذا هو الذي يحدث المرض الوافد. وكذلك الحال في الأجناس الباقية وخروج تغير الهواء عن عادته يكون: إما بأن يسخن أكثر، أو يبرد أو يرطب، أو يجفف أو يخالطه حال عفنة، والحالة العفنة إما أن تكون قريبة أو بعيدة. فإن أبقراط وجالينوس يقولان: إنه ليس يمنع مانع من أن يحدث ببلد اليونانيين مرض وافد عن عفونة اجتمعت في بلاد الحبشة، وتراقت إلى الجوّ وانحدرت على اليونانيين، فأحدثت فيهم المرض الوافد. وقد يتغير أيضا مزاج الهواء عن العادة بأن يصل وفد كثير قد أنهك أبدانهم طول السفر، وساءت أخلاطهم فيخالط الهواء منها شيء كثير، ويقع الأعداء في الناس، ويظهر المرض الوافد. والماء ضا قد يحدث المرض الوافد إما بأن يفرط مقداره في الزيادة أو النقصان، أو يخالطه حال عفنة ويضطرّ الناس إلى شربه، ويعفن به أيضا الهواء المحيط بأبدانهم، وهذه الحال تخالطه إما قريبا أو بعيدا بمنزلة ما يمرّ في جريانه بموضع خرب قد اجتمع فيه من جيف الموتى شيء كثير، أو بمياه تقاطع عفنة فيحذرها معه ويخالط جسمه، والأغذية تحدث المرض الوافد. إما إذا لحقها اليرقان، وارتفعت أسعارها، واضطرّ الناس إلى أكلها، وإما إذا أكثر الناس منها في وقت واحد، كالذي يكون في الأعياد فيكثر فيهم التخم، ويمرضون مرضا متشابها. وإما من قبيل فساد مرعى الحيوان الذي يؤكل، أو فساد الماء الذي يشرب، والأحداث النفسانية تحدث المرض الوافد متى حدث في الناس خوف عام من بعض الملوك فيطول سفرهم وتفكرهم في الخلاص منه، وفي وقوع البلاء، فيسوء هضمهم وتتغير حرارتهم الغريزية. وربما اضطروا إلى حركة عنيفة في هذه الحال، أو يتوقعوا قحط بعض السنين فيكثرون الحركة والاجتهاد في ادّخار الأشياء، ويشتد غمهم بما سيحدث. فجميع هذه الأشياء تحدث في أبدان الناس المرض الوافد متى كان المتعرض لها خلق كثير في بلد واحد ووقت واحد. وظاهر أنه إذا كثر في وقت واحد المرضى بمدينة واحدة؛ ارتفع من أبدانهم بخار كثير فيتغير مزاج الهواء فإذا صادف بدنا مستعدّا أمرضه، وإن

كان صاحبه لم يتعرّض لما يتعرّض إليه الناس. فالأمراض الوافدة بمصر تحدث إما عن فساد لم تجر به العادة يعرض للهواء سواء كان مادّة فساده من أرض مصر، أو من البلاد التي تجاورها كالسودان والحجاز والشام وبرقة، أو يعرض للنيل بأن تفرط زيادته، فتكثر زيادة الرطوبة والعفن، أو تقل زيادته جدّا فيجف الهواء عن مقدار العادة، ويضطرّ الناس إلى شرب مياه رديئة أو يخالطه عفونة تحدث عن جرب يكون بأرض مصر أو ببلاد السودان أو غيرها يموت فيها خلق كثير، ويرتفع بخار جيفهم في الهواء فيعفنه، ويتصل عفنه إليهم، أو يسيل الماء، ويحمل معه العفن، أو يغلو السعر أو يلحق الغلات آفة، أو يدخل على الكباش ونحوها مضرة أو يحلق الناس خوف عام أو قنوط. وكل واحد من هذه الأسباب يحدث في أرض مصر مرضا وافدا يكون قوّته بمقدار قوّة السبب المحدث له وإن كان أكثر من سبب واحد كان ذلك المرض أشدّ وأقوى وأسرع في القتل. قال: فمزاج أرض مصر حار رطب بالرطوبة الفضلية، وما قرب من الجنوب بأرض مصر كان أسخن، وأقل عفنا في ماء النيل مما كان منها في الشمال، ولا سيما من كان في شمال الفسطاط. مثل أهل البشمور فإن طباعهم أغلظ، والبله عليهم أغلب، وذلك أنهم يستعملون أغذية غليظة جدّا ويشربون من الماء الرديء. وأما إسكندرية وتنيس وأمثال هذه، فقربها من البحر، وسكون الحرارة، والبرد عنهم، وظهور الصبا فيهم مما يصلح أمرهم، ويرق طباعهم، ويرفع هممهم ولا يعرض لهم ما يعرض لأهل البشمور من غلظ الطبع، والجمادية وإحاطة البحر بمدينة تنيس، توجب غلبة الرطوبة عليها وما يسر أخلاق أهلها قال: إنه لما كانت أرض مصر، وجميع ما فيها سخيفة الأجسام سريعا إليها التغير، والعفن وجب على الطبيب أن يختار من الأغذية، والأدوية ما كان قريب العهد حديثا. لأنّ قوّته بعد باقية عليه، لم تتغير كل التغير، وأن يجعل علاجه ملائما لما عليه الأبدان بأرض مصر، ويجتهد في أن يجعل ذلك إلى الجهة المضادة أميل قليلا، ويتجنب الأدوية القوية الإسهال، وكل ما له قوّة مفرطة. وإن نكاية هذه الأبدان سريعة. سيما وأبدان المصريين سريعة الوقوع في النكايات، ويختار ما يكون من الأدوية المسهلة، وغيرها ألين قوّة حتى لا يكون على طبيعة المصريين منها كلفة، ولا يلحق أبدانهم مضرّة، ولا يقدم على الأدوية الموجودة في كتب أطباء اليونانيين والفرس. فإن أكثرها عملت لأبدان قويّة البنية عظيمة الأخلاط، وهذه الأشياء قلما توجد بمصر. فلذلك يجب، على الطبيب أن يتوقف في إعطاء هذه الأدوية للمرضى، ويختار ألينها وينقص عن مقدار شرباتها ويبدل كثيرا منها بما يقوم مقامه، ويكون ألين منه، فيتخذ السكنجبين السكريّ في مقام العسلي، والجلاب بدلا من ماء العسل. واعلم أن هواء مصر

يعمل في المعجونات، وسائر الأدوية ضعفا في قوتها فأعمار الأدوية المفردة والمركبة المعجون منها، وغير المعجون بمصر أقصر من أعمارها في غير مصر. فيحتاج الطبيب بمصر إلى تقدير ذلك وتمييزه حتى لا يشتبه عليه شيء مما يحتاج إليه. وإذا لم يكتف في تنقية البدن بالدواء المسهل دفعة واحدة، فلا بأس بإعادته بعد أيام، فإن ذلك أحمد من إيراد الدواء الشديد القوّة في دفعة واحدة. قال: ولكون أرض مصر تولد في الأجسام سخافة، وسرعة قبول للمرض وجب أن تكون الأبدان على الهيئة الفاضلة بأرض مصر قليلة جدا. فأما الأبدان الباقية فكثيرة وأن تكون الصحة التامّة عندهم على الأمر الأكثر في القريبة من الهيئة الفاضلة، والطريق الأولى التي تدبر بها الأبدان في الهيئة الفاضلة يحتاج فيها بأرض مصر إلى أن يدبر الهواء، والغذاء والماء وسائر الأشياء تدبيرا يصير به في غاية الاعتدال. ولأنّ الهضم كثيرا ما يسوء بأرض مصر. وكذلك الروح الحيواني، فيجب صرف العناية إلى مراعاة أمر القلب والدماغ والكبد والمعدة والعروق وسائر الأعضاء الباطنة في تجويد الهضم، وإصلاح أمر الروح الحيواني وتنظيف الأوساخ الأححة. وقال في شرح كتاب الأربع لبطليموس: وأما سائر أجزاء الربع الذي يميل إلى وسط جميع الأرض المسكونة أعني بلاد برقة، وسواحل البحر من مريوط إلى الإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس والفرما، وأسفل الأرض بمصر، ونواحي مدينة منف ومدينة الفسطاط، وما يلي شرقي النيل من صعيد مصر والفيوم إلى أعلى الصعيد مما في غرب النيل وأرض الواحات، وأرض النوبة والبجة والأرض التي على البحر في شرقي بلاد النوبة، والحبشة. فإن هذه البلاد موضوعة في الزاوية التي تؤثر في جميع الربع الموضوع فيما بين الدبور والجنوب. وهي من جملة النصف الغربي من الربع المعمور والكواكب الخمسة المتحيرة تشترك في تدبيرها. فصار أهلها محبين لله، ويعظمون الجنّ، ويحبون النوح، ويدفنون موتاهم في الأرض، ويخفونهم ويستعملون سننا مختلفة، وعادات وآراء شتى لميلهم إلى الأسرار التي تدعو كل طائفة منهم إلى أمر من الأمور الخفية، فيعتقده ويوافقه جماعة ومن أجل هذه الأسرار كان المستخرج للعلوم الدقيقة، كالهندسة والنجوم وغيرها في الزمان الأول أهل مصر، ومنهم تفرقت في العالم وإذا ساسهم غيرهم كانوا أذلّاء. والغالب عليهم الجبن والاستحذاء في الكلام وإذا ساسوا غيرهم كانت أنفسهم طيبة، وهممهم كثيرة، ورجالهم يتخذون نساء كثيرة، وكذلك نساؤهم يتخذن عدة رجال. وهم منهمكون في الجماع، ورجالهم كثيرو النسل، ونساؤهم سريعات الحمل، وكثير من ذكرانهم تكون أنفسهم ضعيفة مؤنثة. وقال أبو الصلت: وأما سكان أرض مصر فأخلاط من الناس مختلفوا الأصناف والأجناس من قبط وروم وعرب وأكراد وديلم وحبشان، وغير ذلك من الأصناف إلا أن جمهورهم قبط قالوا: والسبب في اختلاطهم تداول المالكين لها، والمتغلبين عليها من

العمالقة واليونانيين والروم، وغيرهم. فلهذا اختلطت أنسابهم، واقتصروا من التعريف بأنفسهم على الإشارة إلى مواضعهم، والانتماء إلى مساقطهم فيها. وحكى أنهم كانوا في الزمن السالف عباد أصنام ومدبري هياكل إلى أن ظهر دين النصرانية، وغلب على أرض مصر. فتنصروا وبقوا على ذلك إلى أن فتحها المسلمون، فأسلم بعضهم، وبقي بعضهم على دين النصرانية. وأما أخلاقهم فالغالب عليها اتباع الشهوات والانهماك في اللذات والاشتغال بالترهات والتصديق بالمحالات وضعف المرائر والعزمات، ولهم خبرة بالكيد والمكر، وفيهم بالفطرة قوّة عليه وتلطف فيه وهداية إليه لما في أخلاقهم من الملق والبشاشة التي أربوا فيها على من تقدّم وتأخر. وخصوا بالإفراط فيها دون جميع الأمم. حتى صار أمرهم في ذلك مشهورا والمثل بهم مضروبا وفي خبثهم ومكرهم يقول أبو نواس: محضتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصح بنصيب رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكول لحيات البلاد شروب فإن يك باق أفك فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب قال مؤلفه رحمه الله تعالى: وقد مرّ لي قديما أن منطقة الجوزاء تسامت رؤوس أهل مصر. فلذلك يتحدّثون بالأشياء قبل كونها، ويخبرون بما يكون وينذرون بالأمور المستقبلة. ولهم في هذا الباب أخبار مشهورة. قال ابن الطوير: وقد ذكر استيلاء الفرنج على مدينة صور، فعاد الحفظ والحراسة على مدينة عسقلان فما زالت محمية بالأبدال المجرّدة إليها من العساكر والأساطيل. والدولة تضعف أوّلا فأوّلا باختلاف الآراء فثقلت على الأجناد وكبر أمرها عندهم، واشتغلوا عنها فضايقها الفرنج حتى أخذوها في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ولقد سمعت رجلا قبل ذلك بسنين يحدّث بهذه الأمور ويقول في سنة ثمان تؤخذ عسقلان بالأمان. ومن هذا الباب واقعة الكنائس التي للنصارى، وذلك أنه لما كان يوم الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وسبعمائة؛ والناس في صلاة الجمعة كأنما نودي في إقليم مصر كله من قوص إلى الإسكندرية بهدم الكنائس. فهدم في تلك الساعة بهذه المسافة الكبيرة عدد كثير من الكنائس كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، عند ذكر كنائس النصارى. ومن هذا الباب واقعة ألدمر وذلك: أنه خرج الأمير ألدمر «1» أمير جندار يريد الحج

من القاهرة في سنة ثلاثين وسبعمائة؛ وكانت فتنة بمكة قتل فيها ألدمر يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة فأشيع في هذا اليوم بعينه في القاهرة ومصر وقلعة الجبل بأنّ وقعة كانت بمكة قتل فيها ألدمر فطار هذا الخبر في ريف مصر واشتهر، فلم يكترث الملك الناصر محمد بن قلاوون «1» بهذا الخبر. فلما قدم المبشرون على العادة أخبروا بالواقعة. وقتل الأمير سيف الدين ألدمر في ذلك اليوم الذي كانت الإشاعة فيه بالقاهرة. قال جامع السيرة الناصرية: كنت مع الأمير علم الدين الخازن في الغربية وقد خرج إليها كاشفا، فلما صليت أنا وهو صلاة الجمعة، وعدنا إلى البيت قدم بعض غلمانه من القاهرة فأخبرنا أنه أشيع بأن فتنة كانت بمكة، قتل فيها جماعة من الأجناد، وقتل فيها الأمير ألدمر أمير جندار. فقال له الأمير علم الدين: هل حضر أحد من الحجاز بهذا الخبر؟ قال: لا، فقال: ويحك، الناس ما تحضر من منى بمكة إلا ثالث يوم بعد عيد النحر، فكيف سمعتم هذا الخبر الذي لا يسمعه عاقل؟ فقال: قد استفيض ذلك وكان الأمر كما أشيع. ووقع لي في شهر رمضان من شهور سنة إحدى وتسعين وسبعمائة؛ أني مررت في الشارع بين القصرين بالقاهرة بعد العتمة فإذا العامّة تتحدّث بأن الملك الظاهر «2» برقوق خرج من سجنه بالكرك واجتمع عليه الناس فضبطت ذلك، فكان اليوم الذي خرج فيه من السجن وفي هذا الباب من هذا كثير. ومن أخلاق أهل مصر: قلة الغيرة وكفاك ما قصه الله سبحانه وتعالى من خبر يوسف عليه السلام ومراودة امرأة العزيز له عن نفسه، وشهادة شاهد من أهلها عليها بما بيّن لزوجها منها السوء، فلم يعاقبها على ذلك بسوى قوله: اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ [يوسف/ 29] . وقال ابن عبد الحكم: وكان نساء أهل مصر حين غرق من غرق منهم، مع فرعون ولم يبق إلا العبيد والأجراء لم يصبروا عن الرجال فطفقت المرأة تعتق عبدها، وتتزوّجه. وتتزوّج الأخرى أجيرها وشرطن على الرجال أن لا يفعلوا شيئا إلا بإذنهنّ، فأجابوهنّ إلى ذلك. فكان أمر النساء على الرجال. فحدّثني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب: أن نساء القبط على ذلك إلى اليوم إتباعا

لمن مضى منهم لا يبيع أحدهم ولا يشتري إلا قال: استأمر امرأتي. وقال: إن فرعون لما غرق ومعه أشراف مصر. لم يبق من الرجال من يصلح للمملكة، فعدّ الناس في مراتبهم بنت الملك؛ ملكة وبنت الوزير وزيرة وبنت الوالي وبنت الحاكم على هذا الحكم، وكذلك بنات القوّاد، والأجناد فاستولت النساء على المملكة مدّة سنين وتزوّجن بالعبيد واشترطن عليهم أن الحكم والتصرف لهنّ. فاستمرّ ذلك مدّة من الزمان، ولهذا صارت ألوان أهل مصر سمرا من أجل أنهم أولاد العبيد السود الذين نكحوا نساء القبط بعد الغرق، واستولدوهنّ؟!. وأخبرني الأمير الفاضل الثقة ناصر الدين محمد بن محمد بن الغرابيلي الكركيّ رحمه الله تعالى: أنه مذ سكن مصر يجد من نفسه رياضة في أخلاقه وترخصا لأهله ولينا ورقة طبع من قلة الغيرة، ومما لم نزل نسمعه دائما بين الناس إن شرب ماء النيل ينسي الغريب وطنه. ومن أخلاق أهل مصر الإعراض عن النظر في العواقب فلا تجدهم يدّخرون عندهم زادا كما هي عادة غيرهم من سكان البلدان بل يتناولون أغذية كل يوم من الأسواق بكرة وعشيا. ومن أخلاقهم: الانهماك في الشهوات والإمعان من الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاة قال لي شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله تعالى: أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سأل كعب الأحبار عن طبائع البلدان، وأخلاق سكانها فقال: إن الله تعالى لما خلق الأشياء جعل كل شيء لشيء فقال العقل: أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك، وقال الخصب: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك، وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك. ويقال: لما خلق الله الخلق خلق معهم عشرة أخلاق: الإيمان والحياء والنجدة والفتنة والكبر والنفاق والغنى والفقر والذل والشقاء، فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن، فقال الحياء: وأنا معك. وقالت النجدة: أنا لا حقة بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك. وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق، فقال النفاق: وأنا معك. وقال الغنى: أنا لاحق بمصر، فقال الذل: وأنا معك. وقال الفقر: أنا لاحق بالبادية، فقال الشقاء: وأنا معك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: المكر عشرة أجزاء. تسعة منها في القبط وواحد في سائر الناس. ويقال: أربعة لا تعرف في أربعة: السخاء في الروم، والوفاء في الترك، والشجاعة في القبط، والعمر في الزنج. ووصف ابن العربية «1» أهل مصر فقال: عبيد لمن غلب. أكيس الناس صغارا،

وأجلهم كبارا. وقال المسعودي: لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه البلاد على المسلمين من العراق والشام ومصر، وغير ذلك، كتب إلى حكيم من حكماء العصر: إنا لناس عرب قد فتح الله علينا البلاد، ونريد أن نتبوّأ الأرض، ونسكن البلاد، والأمصار. فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها. فكتب إليه: وأما أرض مصر؛ فأرض قوراء غوراء ديار الفراعنة، ومساكن الجبابرة ذمّها أكثر من مدحها، هواؤها كدر، وحرّها زائد، وشرّها مائد تكدر الألوان والفطن وتركب الإحن وهي معدن الذهب والجوهر، ومغارس الغلات. غير أنها تسمن الأبدان وتسودّ الإنسان وتنمو فيها الأعمار وفي أهلها مكر ورياء وخبث ودهاء وخديعة. وهي بلدة مكسب ليست بلدة مسكن لترادف فتنها واتصال شرورها. وقال عمر بن شبه: ذكر ابن عبيدة في كتاب أخبار البصرة عن كعب الأحبار: خير نساء على وجه الأرض: نساء أهل البصرة إلا ما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء قريش، وشرّ نساء على وجه الأرض: نساء أهل مصر. وقال عبد الله بن عمرو: لما أهبط إبليس، وضع قدمه بالبصرة، وفرخ بمصر. وقال كعب الأحبار: ومصر أرض نجسة كالمرأة العاذل يطهرها النيل كل عام. وقال معاوية بن أبي سفيان: وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث يشبه الناس، وثلث لا ناس. فأما الثلث الذين هم الناس: فالعرب، والثلث الذين يشبهون الناس: فالموالي، والثلث الذين لا ناس: المسالمة- يعني القبط-.

ذكر شيء من فضائل النيل

ذكر شيء من فضائل النيل أخرج مسلم من حديث أنس رضي الله عنه في حديث المعراج: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قلت: ماذا يا جبريل؟ قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات» . وفي التوراة: وخلق فردوسا في عدن، وجعل الإنسان فيه وأخرج منه نهران فقسمهما أربعة أجزاء: جيحون المحيط بأرض حويلا، وسيحون المحيط بأرض كوش وهو نيل مصر ودجلة الأخذ إلى العراق والفرات. وروى ابن عبد الحكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمدّه فتمدّه الأنهار بمائها وفجر الله له الأرض عيونا فأجرته إلى ما أراد الله عز وجل. فإذا انتهت جريته أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. وعن يزيد بن أبي حبيب: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟ قال: أي والذي فلق البحر لموسى إني لأجده في كتاب الله إن الله يوحي إليه في كل عام مرّتين يوحي إليه عند جريته أن الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله له، ثم يوحي إليه بعد ذلك يا نيل عد حميدا. وعن كعب الأحبار أنه قال: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا: النيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة. وقال المسعودي: نهر النيل من سادات الأنهار وأشراف البحار لأنه يرج من الجنة على ما ورد به خبر الشريعة. وقد قال: إن النيل إذا زاد غاضت له الأنهار والأعين والآبار، وإذا غاض زادت فزيادته من غيضها وغيضه من زيادتها وليس في أنهار الدنيا نهر يسمى بحرا غير نيل مصر لكبره واستبحاره. وقال ابن قتيبة «1» في كتاب غريب الحديث: وفي حديثه عليه السلام: «نهران مؤمنان،

ذكر مخرج النيل وانبعاثه

ونهران كافران. أما المؤمنان: فالنيل والفرات، وأما الكافران: فدجلة ونهر بلخ» . إنما جعل النيل والفرات مؤمنين على التشبيه لأنهما يفيضان على الأرض ويسقيان الحرث، والشجر بلا تعب في ذلك ولا مؤنة، وجعل دجلة ونهر بلخ كافرين لأنهما لا يفيضان على الأرض ولا يسقيان إلا شيئا قليلا، وذلك القليل بتعب ومؤنة فهذان في الخير والنفع كالمؤمنين، وهذان في قلة الخير والنفع كالكافرين. ذكر مخرج النيل وانبعاثه اعلم أن البحر المحيط بالمعمور إذا خرج منه نهر الهند، افترق قطعا كما تقدّم وكان منه قطعة تسمى بحر الزنج «1» وهي مما يلي: بلاد اليمن وبحر بربر. وفي هذه القطعة عدّة جزائر منها: جزيرة القمر- بضم القاف وإسكان الميم وراء مهملة-. ويقال لهذه الجزيرة أيضا: جزيرة ملاي، وطولها أربعة أشهر في عرض عشرين يوما إلى أقل من ذلك؛ وهذه الجزيرة تحاذي جزيرة سرنديب، وفيها عدة بلاد كثيرة منها قمرية، وإليها ينسب الطائر القمري، ويقال: إن بهذه الجزيرة خشب ينحت من الخشبة ساق طوله ستون ذراعا يجذف على ظهره مائة وستون رجلا، وإن هذه الجزيرة ضاقت بأهلها فبنوا على الساحل محلات يسكنونها في سفح جبل يعرف بهم يقال له: جبل القمر. واعلم أن الجبال كلها متشعبة من الجبل المستدير بغالب معمور الأرض، وهو المسمى بجبل قاف وهو أم الجبال، كلها تتشعب منه فيتصل في موضع، وينقطع في آخر، وهو كالدائرة لا يعرف له أوّل إذ كان كالحلقة المستديرة لا يعرف طرفاها وإن لم يكن استدارة كريه ولكنها استدارة إحاطة. وزعم قوم أن أمّهات الجبال جبلان: خرج أحدهما من البحر المحيط في المغرب آخذا جنوبا، وخرج الآخر من البحر الرومي آخذا شمالا، حتى تلاقيا عند السدّ، وسموا الجنوبيّ قاف، وسموا الشمالي قاقونا، والأظهر أنه جبل واحد، ومحيط بغالب بسيط المعمور، وأنه هو الذي يسمى بجبل قاف، فيعرف بذلك في الجنوب ويعرف في الشمال بجبل قاقونا. ومبدأ هذا الجبل المحيط من كتف السدّ آخذا من وراء صنم الخط المشجوج إلى شعبته الخارجة منه المعمول بها باب الصين أخذا على غربي صين الصين، ثم ينعطف على جنوبه مستقيما في نهاية الشرق على جانب البحر المحيط، مع الفرجة المنفرجة بينه وبين البحر الهندي الداخلة، ثم ينقطع عند مخرج البحر الهنديّ المحيط مع خط الاستواء. حيث الطول مائة وسبعون درجة، ثم يتصل من شعبة البحر الهندي الملاقي لشعبة المحيط الخارجة إلى بحر الظلمات من الشرق بجنوب كثير من وراء مخرج البحر الهندي في

الجنوب؛ وتبقى الظلمات من هاتين الشعبتين شعبة المحيط الجائية على جنوب الظلمات شرقا مغربا؛ ومخرج البحر الهندي الجائية على الظلمات حتى تتلاقى الشعبتان عند مخرج هذا الجبل كتفصيل السراويل؛ ثم ينفرج برأس البحرين شعبتان على مبدأ هذا الجبل، ويبقى الجبل بينهما كأنه خارج من نفس الماء. ومبدأ هذا الجبل هنا وراء قبة أرين عن شرقيها، وبعده منها خمس عشرة درجة. ويقال لهذا الجبل في أوّله: المجرّد، ثم يمتد حتى ينتهي في القسم الغربي إلى طوله إلى خمس وستين درجة؛ من أوّل المغرب وهناك يتشعب من الجبل المذكور جبل القمر، وينصب منه النيل وبه أحجار برّاقة كالفضة تتلألأ تسمى: ضحكة الباهت كل من نظرها ضحك، والتصق بها حتى يموت ويسمى: مغناطيس الناس. ويتشعب منه شعب تسمى: أسيفي أهله كالوحوش، ثم ينفرج منه فرجة ويمرّ منه شعب إلى نهاية المغرب في البحر المحيط يسمى: جبل وحشية به سباع لها قرون طوال لا تطاق، وينطف دون تلك الفرجة من جبل قاف شعاب منها شعبتان إلى خط الاستواء يكتنفان مجرى النيل من الشرق والغرب، فالشرقي يعرف: بجبل قاقول، وينقطع عند خط الاستواء. والغربي يعرف: بأدمرية يجري عليه نيل السودان المسمى ببحر الدمادم، وينقطع تلقاء مجالات الحبشة ما بين مدينة سفرة وحيمى وراء هذه الشعبة يمتدّ منه شعبة هي الأم من الموضع المعروف فيه الجبل بأسيفي المذكور إلى خط الاستواء حيث الطول هناك عشرون درجة، ويعرف هناك بجبل كرسقابه، وبه وحوش ضارية ثم ينتهي إلى البحر المحيط، وينقطع دونه بفرجة. وذلك وراء التكرور عند مدينة قلمتبور أو وراء هذا الجبل سودان يقال لهم: تمتم يأكلون الناس، ثم تتصل الأم من ساحل البحر الشامي في شماله شرقي رومية الكبرى مسامتا للشعبة المسماة أدمدمه المنقطعة بين سمعرة، وحيمي لا يكاد يخطوها حيث الطول خمس وثلاثون درجة، ويقع منشأ اتصال هذه الأم على عرض خمسين درجة، وكذلك تقطع شعبها الآخذة في الجنوب على عرض خمسين درجة عند آخرها ما بين سردانة وبلنسية «1» وتتناهى، وصلة هذه الأم إلى البحر المحيط في نهاية الشمال قبالة جزيرة بركانية. وتبقى سوسية داخل الجبل. ثم تمتد هذه الأم بعد انقطاع لطيف، وينعطف انعطاف خرجة البحر المحيط في المغرب على الصقلب المسماة ببحر الأنفلشين، ممتدا إلى غاية المشرق ويسمى هناك بجبل قاقونا ويبقى وراءه البحر جامدا لشدة البرد، ثم ينعطف من الشمال إلى المشرق جنوبا بتغريب إلى كتف السدّ الشمالي فيتلاقى هناك الطرفان وبينهما في الفرجة المنفرجة سوّى ذو القرنين بين الصدفين.

وفي جزيرة القمر، ثلاثة أنهار: أحدها في شرقيها من قنطورا ومعلا، وثانيها في غربيها ينصب من جبل قدم آدم على مدينة سبا، ويأخذ مارا على مدينة فردرا، وينجر هناك بحيرة في جنوبها مدينة كيما، حيث محل السودان الذين يأكلون الناس. وثالثها في غربيها أيضا ويخرج من الجبل المشبه ماء محدودب الذيل يطوف بمدينة دهما فتبقى مدينة دهما في جزيرة بينهما يكون هو محيطا بها شرقا وجنوبا وغربا ويصير لذلك كالجزيرة، ويتصل شمالها بالبحر الهندي، وتقع مدينة قوارة في غربيه، حيث يصب في البحر الهندي. ومن جبل القمر يخرج نهر النيل، وقد كان يتبدّد على وجه الأرض فلما قدم نقراوش الحدار بن مصريم الأوّل ابن مركابيل ابن دوابيل بن عرباب ابن آدم عليه السلام إلى أرض مصر ومعه عدّة من بني عرباب، واستوطنوها، وبنوا بها مدينة أمسوس وغيرها من المدائن حفروا النيل حتى أجروا ماءه إليهم، ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري بل ينبطح، ويتفرّق في الأرض حتى وجه إلى النوبة الملك نقراوش، فهندسوه وساقوا منه أنهارا إلى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها، وساقوا منه نهرا إلى مدينة أمسوس، ثم لما خربت أرض مصر بالطوفان، وكانت أيام البودشيرين قفط بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام عدل جانبي النيل تعديلا ثانيا بعدما أتلفه الطوفان. قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه فملك البودشير، وتجبر، وهو أوّل من تكهن، وعمل بالسحر، واحتجب عن العيون وقد كانت أعمامه أشمن وأتريب وصا ملوكا على أحيازهم. إلا أنه قهرهم بجبروته، وقوّته فكان الذكر له كما تجبر أبوه على من قبله لأنه كان أكبرهم ولذلك أغضوا عنه فيقال: إنه أرسل هرمس- الكاهن المصري- إلى جبل القمر الذي يخرج النيل من تحته، حتى عمل هناك التماثيل النحاس، وعدل البطيحة التي ينصب فيها ماء النيل. ويقال: إنه الذي عدل جانبي النيل، وقد كان يفيض وربما انقطع في مواضع. وهذا القصر الذي فيه تماثيل النحاس يشتمل على خمس وثمانين صورة جعلها هرمس جامعة لما يخرج من ماء النيل بمعاقد ومصاب مدورة وقنوات يجري فيها الماء وينصب إليها إذا خرج من تحت جبل القمر حتى يدخل من تلك الصور، ويخرج من حلوقها، وجعل لها قياسا معلوما بمقاطع، وأذرع مقدّرة، وجعل ما يخرج من هذه الصور من الماء ينصب إلى الأنهار ثم يصير منها إلى بطيحتين، ويخرج منهما حتى ينتهي إلى البطيحة الجامعة للماء الذي يخرج من تحت الجبل، وعمل لتلك الصور مقادير من الماء الذي يكون معه الصلاح بأرض مصر. وينتفع به أهلها دون الفساد، وذلك الانتهاء المصلح ثمانية عشر ذراعا بالذراع الذي مقداره اثنان وثلاثون إصبعا. وما فضل عن ذلك عدل عن يمين تلك الصور، وشمالها إلى مسارب يخرج، ويصب في رمال وغياض لا ينتفع بها من خلف خط الاستواء. ولولا ذلك لغرّق ماء النيل البلدان التي يمر عليها.

قال: وكان الوليد بن دومع العمليقي، قد خرج في جيش كثيف يتنقل في البلدان، ويقهر ملوكها ليسكن ما يوافقه منها. فلما صار إلى الشام انتهى إليه خبر مصر، وعظم قدرها وإن أمرها قد صار إلى النساء، وباد ملوكها. فوجه غلاما له يقال له: عون إلى مصر، وسار إليها بعده، واستباح أهلها وأخذ الأموال، وقتل جماعة من كهنتها، ثم سنح له أن يخرج ليقف على مصب النيل. فيعرف ما بحافتيه من الأمم فأقام ثلاث سنين يستعدّ لخروجه وخرج في جيش عظيم فلم يمرّ بأمّة إلا أبادها، ومرّ على أمم السودان، وجاوزهم ومرّ على أرض الذهب، فرأى فيها قضبانا نابتة من ذهب، ولم يزل يسير حتى بلغ البطيحة التي ينصب ماء النيل فيها من الأنهار التي تخرج من تحت جبل القمر. وسار حتى بلغ البطيحة هيكل الشمس، وتجاوزه حتى بلغ جبل القمر، وهو جبل عال وإنما سمي: جبل القمر لأنّ القمر لا يطلع عليه لأنه خارج من تحت خط الاستواء، ونظر إلى النيل يخرج من تحته فيمرّ في طريق وأنهار دقاق حتى ينتهي إلى حظيرتين، ثم يخرج منهما في نهرين حتى ينتهي إلى حظيرة أخرى، فإذا جاوز خط الاستواء مدّته عين تخرج من ناحية نهر مكران بالهند؛ وتلك العين أيضا تخرج من تحت جبل القمر إلى ذلك الوجه. ويقال: إن نهر مكران، مثل النيل يزيد وينقص، وفيه التماسيح والأسماك التي مثل أسماك النيل. ووجد الوليد بن دومع: القصر الذي فيه التماثيل النحاس التي عملها هرمس الأوّل في وقت البودشير بن قنطريم بن قبطيم ابن مصرايم. وقد ذكر قوم من أهل الأثر أن الأنهار الأربعة تخرج من أصل واحد من قبة في أرض الذهب التي من وراء البحر المظلم وهي سيحون، وجيحون، والفرات، والنيل. وأن تلك الأرض من أرض الجنة. وأن تلك القبة من زبرجد، وأنها قبل أن تسلك البحر المظلم أحلى من العسل وأطيب رائحة من الكافور. وممن جاء بهذا رجل من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام وصل إلى تلك القبة؛ وقطع البحر المظلم وكان يقال له: حايد، وقال آخرون: تنقسم هذه الأنهار على اثنين وسبعين قسما حذاء اثنين وسبعين لسانا للأمم. وقال آخرون: هذه الأنهار من ثلوج تتكاثف ويذيبها الحرّ، فتسيل إلى هذه الأنهار وتسقي من عليها لما يريد الله عز وجل من تدبير خلقه قالوا: ولما بلغ الوليد جبل القمر، رأى جبلا عاليا؛ فعمل حيلة إلى أن صعد إليه ليرى ما خلفه، فأشرف على البحر الأسود الزفتي المنتن، ونظر إلى النيل يجري عليه كالأنهار الدقاق. فأتته من ذلك البحر روائح منتنة هلك كثير من أصحابه من أجلها، فأسرع النزول بعد أن كاد يهلك. وذكر قوم: أنهم لم يروا هناك شمسا ولا قمرا إلا نورا أحمر كنور الشمس عند غيابها. وأما ما ذكر عن حايد وقطعه البحر المظلم ماشيا عليه لا يلصق بقدمه منه شيء؛ وكان فيما يذكر نبيا وأوتي حكمة وأنه سأل الله تعالى: أن يريه منتهى النيل، فأعطاه قوّة على ذلك

فيقال: إنه أقام يمشي عليه ثلاثين سنة في عمران وعشرين سنة في خراب. قالوا: وأقام الوليد في غيبته أربعين سنة، وعاد ودخل منف، وأقام بمصر فاستعبد أهلها واستباح حريمهم وأموالهم وملكهم مائة وعشرين سنة؛ فأبغضوه وسئموه إلى أن ركب في بعض أيامه متصيدا فألقاه فرسه في وهدة فقتله، واستراح الناس منه. وقال قدامة بن جعفر «1» في كتاب الخراج: انبعاث النيل من جبل القمر وراء خط الاستواء من عين تجري منها عشرة أنهار كل خمسة منها تصب إلى بطيحة، ثم يخرج من كل بطيحة نهران، وتجري الأنهار الأربعة إلى بطيحة كبيرة في الإقليم الأوّل، ومن هذه البطيحة «2» يخرج نهر النيل. وقال في كتاب نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق: إن هذه البحيرة تسمى بحيرة كوري منسوبة لطائفة من السودان يسكنون حولها. متوحشين يأكلون من وقع إليهم من الناس، ومن هذه البحيرة يخرج لهم نهر غانة وبحر الحبشة، فإذا خرج النيل منها يشق بلاد كوري، وبلادينه. وهم طائفة من السودان بين كاتم والنوبة فإذا بلغ دنقلة مدينة النوبة عطف من غربيها، وانحدر إلى الإقليم الثاني فيكون على شطيه عمارة النوبة. وفيه هناك جزائر متسعة عامرة بالمدن والقرى ثم يشرق إلى الجنادل. وقال المسعودي رحمه الله تعالى: رأيت في كتاب جغرافيا: النيل مصوّرا ظاهرا من تحت جبل القمر، ومنبعه ومبدأ ظهوره من اثني عشرة عينا؛ فتصب تلك المياه إلى بحيرتين هنالك كالبطائح ثم يجتمع الماء منهما جاريا فيمرّ برمال هنالك وجبال، ويخرق أرض السودان فيما يلي بلاد الزنج، فيتشعب منه خليج يصب في بحر الزنج، ويجري على وجه الأرض تسعمائة فرسخ. وقيل: ألف فرسخ في عامر وغامر من عمران، وخراب حتى يأتي أسوان من صعيد مصر. وقال في كتاب هردسوس: نهر النيل مخرجه من ريف بحر القلزم، ثم يميل إلى ناحية الغرب فيصير في وسطه جزيرة، وآخر ذلك يميل إلى ناحية الشمال فيسقي أرض مصر. وقيل: إن مخرجه من عين فيما يجاوز الجبل، ثم يغيب في الرمال ثم يخرج غير بعيد فيصير له محبس عظيم، ثم يساير البحر المحيط على قفار الحبشة، ثم يميل على اليسار إلى أرض مصر، فيحق ما يظن بهذا النهر أنه عظيم إذ كان مجراه على ما حكيناه. قال: ونهر النيل وهو الذي يسمى بلون مخرجه خفيّ ولكن ظاهر إقباله من أرض الحبشة، ويصير له هناك محبس عظيم مجراه إليه مائتا ميل وذكر مخرجه حتى ينتهي إلى

البحر قال: وكثيرا ما يوجد في نهر النيل التماسيح، وإقبال النيل من أرض الحبشة ليس يختلف فيه أحد، وعدّة أمياله من مخرجه المعروف إلى موقفه مائة ألف وتسعون ألفا وتسعمائة وثلاثون ميلا. وماء النيل عكر مرمل عذب وفيّ، انتهى. والنيل إذا وصل إلى الجنادل كان عند انتهاء مراكب النوبة انحدار أو مراكب الصعيد إقلاعا. وهناك حجارة مضرسة لا مرور للمراكب عليها إلا في أيام زيادة النيل. ثم يأخذ على الشمال فيكون على شرقيه أسوان من الصعيد الأعلى، ويمرّ بين جبلين يكتنفان أعمال مصر أحدهما شرقيّ والآخر غربي، حتى يأتي مدينة فسطاط مصر، فتكون في بره الشرقيّ. فإذا تجاوز فسطاط مصر بمسافة يوم صار فرقتين: فرقة تمرّ حتى تصب في بحر الروم عند دمياط، وتسمى هذه الفرقة: بحر الشرق، والفرقة الأخرى هي: عمود النيل ومعظمه يقال لها: بحر الغرب تمرّ حتى تصب في بحر الروم أيضا عند رشيد، وكانت مدينة كبيرة في قديم الزمان. ويقال: إن مسافة النيل من منبعه إلى أن يصب في البحر عند رشيد سبعمائة وثمانية وأربعون فرسخا. وأنه يجري في الخراب أربعة أشهر، وفي بلاد السودان شهرين، وفي بلاد الإسلام مسافة شهر. وذهب بعضهم إلى أن زيادة ماء النيل إنما تكون بسبب المدّ الذي يكون في البحر فإذا فاض ماؤه تراجع النيل، وفاض على الأراضي ووضع في ذلك كتابا حاصله: إن حركة البحر التي يقال لها المدّ والجزر، توجد في كل يوم وليلة مرّتين، وفي كل شهر قمريّ مرّتين، وفي كل سنة مرّتين. فالمدّ والجزر اليوميّ تابع لقرص القمر، ويخرج الشعاع عنه من جنبتي جرم الماء. فإذا كان القمر وسط السماء كان البحر في غاية المدّ، وكذا إذا كان القمر في وتد الأرض فإذا بزغ القمر طالعا من الشرق أو غرب كان الجزر. والمدّ الشهري يكون عند استقبال القمر للشمس في نصف الشهر، ويقال له: الامتلاء أيضا عند الاجتماع، ويقال له: السرار. والجزر يكون أيضا في وقتين عند تربيع القمر للشمس في سابع الشهر، وفي ثاني عشريه. والمدّ السنوي يكون أيضا في وقتين: أحدهما عند حلول الشمس آخر برج السنبلة، والآخر عند حلول الشمس بآخر برج الحوت، فإن اتفق أن يكون ذلك في وقت الامتلاء أو الاجتماع، فإنه حينئذ يجتمع الامتلاءان الشهريّ والسنويّ، ويكون عند ذلك البحر في غاية الفيض لا سيما إن وقع الاجتماع أو الامتلاء في وسط السماء، ووقع مع النيرين أو مع أحدهما أحد الكواكب السيارة فإنه يعظم الفيض. فإن وقع كوكب فصاعدا مع أحد النيرين، تزايد عظم الفيض، وكانت زيادة النيل تلك السنة عظيمة جدا، وزاد أيضا نهر مهران. فإن كان الاجتماع أو الامتلاء زائلا عن وسط السماء، وليس مع أحد النيرين كوكب فإن النيل ونهر مهران لا يبلغان غاية زيادتهما لعدم الأنوار التي تثير المياه.

ويكون بمصر في السنة الغلاء والجزء السنوي يكون عند حلول الشمس برأسي الجدي والسرطان. فأما المدّ اليوميّ الدافع من البحر المحيط فإنه لا ينتهي في البحر الخارج من المحيط أكثر من درجة واحدة فلكية، ومساحتها من الأرض نحو من ستين ميلا ثم ينصرف، وانصرافه هو الجزر وكذلك الأودية إذا كانت الأرض وهدة، والمدّ الشهري ينتهي إلى أقاصي البحار، وهو يمسكها حتى لا تنصب في البحر المحيط، وحيث ينتهي المدّ الشهريّ فهناك منتهى ذلك البحر وطرفه. وأما المدّ السنوي فإنه يزيد في البحار الخارجة عن البحر المحيط زيادة بينة، ومن هذه الزيادة تكون زيادة النيل وامتلاؤه، وامتلاء نهر مهران، والديتلو الذي ببلاد السند. قال: ولما جاء أرسطو إلى مصر مع الإسكندر ورأى مصب النيل، وعلم أن من المحال أن يكون النيل في أسوان واد من الأودية. وكلما استحل اتسع حتى أن عرضه في أسفل ديار مصر لينتهي إلى مائة ميل عند غاية الفيض، وله أفواه كثيرة شارعه في البحر تسع كل ما يهبط من الميزان في ذلك الصنع، فرأى محالا أن يكون الوادي بحيث يضيق أسفله عن حمل ما يأتي به أعلاه مع ضيق أعلاه وسعة أسفله. فلما رأى ذلك قال: إن رياحا تستقبل جرية الماء وتردعه، فيفيض لذلك. وقال الإسكندر: إن من المحال أن يكون الريح يردع الماء السائل في الوادي حتى يفيض أكثر من مائة ميل، ولو كانت الريح تفعل ذلك لكان الماء السائل ينفلت من أسفل الوادي، ويسيل إلى البحر، لأن البحر لا يمسك إلا أعلاه؛ ولكن الرياح تقذف الرمل في أفواه تلك الشوارع التي تفضي إلى البحر، فيعثر بها شبه الردم فيفيض. قال: وأغفل أن الرمل جسم متخلخل، فالماء يتخلله وينفذه سائلا إلى البحر، مع أن الرمل لم يعتل اعتلاء يظهر للحسن، والماء سائل في كل حين على حلق تنيس ودمياط وحلق رشيد وحلق الإسكندرية، ففطنوا لاستحالة كونه سائلا عن سيل حامل ونسبوا توقفه إلى الريح والرمل. وهم استقصوا الهواء واستقصوا الأرض وأغفلوا الاستقصاء الثالث الذي هو الماء لأنهم لم يعرفوا حركة البحر السنوية لأنها لا تبلغ الغاية إلا في ثلاثة أشهر فلا يظهر مقدار صعودها في كل يوم للحس. ولذلك وضع أمير مصر المقياس بديار مصر. قال: والمدّ كله واحد وهو أن القمر يقابل الماء كما تقابل الشمس الأرض، فنور القمر إذا قابل كرة الأرض سخنها كما تسخن الشمس الهواء المحيط فيعتري الهواء المحيط بالماء بعض تسخين يذيب الماء، فيفيض وينمى بخاصته كالمرآة المحرقة الملهبة للجوّ حتى تحرق القطنة الموضوعة بين المرآة والشمس. فهذا مثاله في المقابلة ومثاله في المسرار كون الزجاجة المملوءة ما يلقى الشعاع إلى حلقها، فتحترق القطنة أيضا. فالقمر جسم نوريّ باكتسابه ذلك من الشمس. فإذا حال بين الشمس والأرض خرج عن جانبي الماء شعاع نافذ يمرّ مع جنبي الماء فيسخن ما قابله فينمو. والماء جسم شفاف عن جانبيه يخرج الشعاع كما

فصل في الرد على من اعتقد أن النيل من سيل يفيض

يخرج عن جانبي الزجاجة، فيحدث لها نور يسخن الهواء الذي يحيط بالزجاجة أو بالأرض، فيقترف الماء شبه تسخين ينمي به ويزيد وذلك قبالة القرص، وقبالة مخرج الشعاع من قبالة وتد القمر، فهذا هو المدّ دائما، ويستدير باستدارة الفلك، وتدويره لفلك القمر وتدوير فلك القمر للقمر. والمدّ الشهريّ هو أن يقابل القمر الشمس أو يستتر تحتها. لأنه ليس إلا كون القمر قبالة الشمس لكونه في تربيع الشمس أضعف وفي المقابلة أقوى، وكذلك إذا قابلها على وسط كرة الأرض بحيث تكون الحركة أشدّ، والاكتناف للماء والأرض أعم فذلك هو المدّ السنوي. فصل في الردّ على من اعتقد أن النيل من سيل يفيض أما العامة فليس عندهم ما يجيء على وجه الأرض أنه سيل، ومن تفطن إلى عظمه واتساعه في أسفله وضيقه في أعلاه، ولم ينظر إلى ماء ولا أرض، ولا هواء. نسب ذلك إلى الخيال المحض. كما فعل صاحب كتاب المسالك والممالك: الذي زعم أن الماء يسافر من كل أرض، وموطن إلى النيل تحت الأرض فيمدّه لأن النيل إنما يفيض في الخريف. والعيون والآبار في ذلك الوقت يقل ماؤها، والنيل يكثر فرأوا كثرة وقلة فأضافوا أحدهما إلى الآخر بالخيال، ومما يدلك على أنه ليس عن سيل يفيض أن السيل يكون في غير وقت فيض البحر، ولا يفيض النيل لكون البحر في الجزر، فيصل السيل ويمرّ نحو البحر، فلا يردعه رادع.. ومنها: أن فيض النيل على تدريج مدّة ثلاثة أشهر من حلول الشمس رأس السرطان إلى حلولها بآخر برج السنبلة، والناس يحسبون به قبل فيضه بمدّة شهرين ولعامل مصر في وسط النيل مقياس موضوع، وهو سارية فيها خطوط يسمونها أذرعا يعلم بها مقدار صعوده في كل يوم.. ومنها: أن فيضه أبدا في وقت واحد، فلو كان بالسيل لاختلف بعض الاختلاف. ومنها: أنه قد يجيء السيل في غير هذا الوقت فلا يفيض. ومنها: أن الحذاق بمصر إذا رأوا الحر يزيد علموا أن النيل سيزيد لأنّ شدّة الحرّ تذيب الهواء فيذوب الماء، ولا يكون إلا عن زيادة كوكب، ودنوّ نور. ومنها: أن موضع مصبه من أسوان إنما هو واد من الأودية وما أسحل اتسع حتى يكون عرض اتساعه نحوا من مائة ميل وأسوان هو منتهى بلوغ الردع، فما ظنك بسيل مسيره نصف شهر لا نسبة بين مصب أعلاه وأسفله، كيف كان يكون أعلاه لو كان امتلاء أسفله عن

السيل! ومنها: أن أهل أسوان إنما يرقبون بلوغ الردع إليهم مراقبة، ويحافظون عليه بالنهار محافظة، فإذا جنّ الليل أخذوا حقة خزف، فوضعوا فيها مصباحا، ثم يضعونه على حجر معدّ عندهم لذلك. وجعلوا يرقبونه فإذا طفىء المصباح يطفو الماء عليه علموا أن الردع قد وصل غايته المعهودة عندهم بأخذه في الجزر فيكتبوا بذلك إلى أمير مصر يعلموه أن الردع قد وصل غايته المعهودة عندهم وأنهم قد أخذوا بقسطهم من الشرب. فحينئذ يأمر بكسر الأسداد التي على أفواه قرص المشارب، فيفيض الماء على أرض مصر دفعة واحدة. ومنها: أن جميع تلك المشارب تسدّ عند ابتداء النيل بالخشب، والتراب ليجتمع ما يسيل من الماء العذب في النيل، ويكثر ويعم جميع أرضهم ويمنع بجملته دخول الماء الملح عليه. فلو كان سيلا ما احتاج إلى ذلك، ولفتحت له أفواه قرص المشارب عند ابتداء ظهوره. ومنها: أن الخلجان إذا سدّت ولم يكن لها رادع من البحر كان السيل من جنبه إلى البحر إذ أسفل النيل أوسع وأخفض من أعلاه. ومنها: أن ماء البحر يصعد أكثر من عشرين ميلا في حلق رشيد وتنيس ودمياط، كما يفعل في سائر الأودية التي تدخل المدّ والجزر، فلو كان النيل خاليا من الماء العذب، وصل البحر من أسوان إلى منتهى بلوغ الردع، لأن الماء يطلب بطبعه ما انخفض من الأرض وأن يكون في صفحة كرة مستوية الخطوط الخارجة من النقطة إلى المحيط متساوية. ومنها: أنها إذا فتحت تلك الأسداد، وكسرت الخلج، وفاض النيل على بطائح أرض مصر. شعر بذلك أهل أسوان للحين، وقالوا في هذه الساعة كسرت الخلج، وفاض ماء النيل على أرض مصر، لأن ذلك يتبين لهم بتحوّل الماء دفعة، فلو كان سيلا وهم على أعلى المصب لقالوا: قد ارتفع المطر عن الأرض التي يسيل منها السيل. ومنها: أن قسميه الذي يمرّ ببلاد الحبشة المنبعث وإياه من جبل القمر لا يفيض كمدّة فيض النيل ثلاثة أشهر، ولا يقيم على وجه الأرض مدّة مقامه. لكنه إذا كثر فيه السيل غمر جوانبه على قدر انبساطها، وإذا نصبت مادّته أردع عليه، فلو كان فيض النيل عن السيل وهما من شعب واحد لكان شأنهما واحدا، ولا نقول: إن فيض النيل بسبب فيض البحر فقط إذ لولا كونه سيل ماء لما دخل ردع البحر إليه ولكان شاطىء ديار مصر كسائر السواحل المجاورة له. ولولا السيل السائل فيه لردمه البحر إذ عادة البحر ردم السواحل، وإنما دخل الشك على أهل مصر في أيام النيل، لأنهم لم يشاهدوا منشأه، ولا عاينوا مبدأه من جبل القمر. لأنه في موضع لا ساكن عليه، ولا تحققوا المدّ السنويّ الرادع له، فلم يتحققوا شيئا من أمره، لأنه بعيد من أذهان العامّة أن يعلموا: أن ماء البحر يعظم في أيام الصيف، لأن المعهود عندهم في البحر أن يعظم في أيام الشتاء، وطمو البحر في الشتاء إنما يكون عن

الرياح الهابة عليه من أحد جانبيه، فيفيض ويخرج إلى الجانب الآخر، إلا ما كان من البحر المحيط فإنه يتحرّك أبدا من داخل البحر إلى البر. وهو أن المحيط يطلب بطبعه أن يكون على وجه الأرض، والأرض ليست بسيطة، فهي تمانعه بما فيها من التركيب فهو يطلب أبدا أن يعلوها ويركبها ببردها. قال: والسبب في عظم المدّ والجزر كثرة الأشعة. فإذا زاحمت الشمس والقمر، الكواكب السيارة عظم فيض البحر، وإذا عظم فيض البحر فاضت الأنهار، وكذلك إذا نهض القمر لمقابلة أحد السيارة ارتفع البخار، وصعد إلى كورة الزمهرير، ونزل المطر فإذا فارق القمر الكواكب ارتفع المطر لكثرة التحليل. كما يكون في نصف النهار عند توسط الشمس لرؤوس الخلق، وكما يكون عند حلول الكواكب الكبيرة على وسط خط أرين، والله تعالى أعلم بالصواب. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: الذي تحصل من هذا القول إن النيل مخرجه من جبل القمر. وأن زيادته إنما هي من فيض البحر عند المدّ فأما كون مخرجه من جبل القمر فمسلم، إذ لا نزاع في ذلك. وأما كون زيادته لا تكون إلا من ردع البحر له بما حصل فيه من المدّ فليس كذلك. نعم توالى هبوب الرياح الشمالية على وفور الزيادة، وردع البحر له إعانة على الزيادة، ومن تأمل النيل علم أن سيلا سال فيه، ولا بد فإنه لا يزال أيام الشتاء، وأوائل فصل الربيع ماؤه صافيا من الكدرة فإذا فرغت أيام زيادته، وكان في غاية نقصه تغير طعمه، ومال لونه إلى الخضرة، وصار بحيث إذا وضع في إناء يرسب منه شبه أجزاء صغيرة من طحلب. وسبب ذلك: أن البطيحة التي في أعالي الجنوب تردها الفيلة ونحوها من الوحوش حتى يتغير ماؤها فإذا كثرت أمطار الجنوب في فصل الصيف، وعظمت السيول الهابطة في هذه البطيحة، فاض منها ما تغير من الماء وجرى إلى أرض مصر فيقال عند ذلك: توحم النيل، ولا يزال الماء كذلك حتى يعقبه ماء متغير، ويزاد عكره بزيادة الماء، فإذا وضع منه أيام الزيادة شيء في إناء رسب بأسفله طين لم يعهد فيه قبل أيام الزيادة وهذا الطين هو الذي تحمله السيول التي تنصب في النيل حتى تكون زيادته منها وفيه يكون الزرع بعد هبوط النيل، وإلا فأرض مصر سبخة لا تنبت، ولا ينبت منها إلا ما مرّ عليه ماء النيل، وركد منه هذا الطين وقوله: إن السيل يكون في غير وقت فيض البحر ولا يفيض النيل لكون البحر في الجزر فيصل السيل، ويمرّ نحو البحر، فلا يردعه رادع غير مسلم وإن العادة أن السيول التي عليها زيادة ماء النيل لا تكون إلا عن غزارة الأمطار ببلاد الجنوب وأمطار الجنوب لا تكون إلا في أيام الصيف، ولم يعهد قط زيادة النيل في الشتاء. وأول دليل على أن كون زيادته عن سيل يسيل فيه إنما يزيد بتدريج على قدر ما يهبط فيه من السيول. وأما استدلاله بصب النيل في أسوان واتساعه أسفل الأرض فإنما ذلك لأنه يصب من

علو في منخرق بين جبلين، يقال لهما: الجنادل وينبطح في الأرض حتى يصب في البحر، فاتساعه حيث لا يجد حاجزا يحجزه عن الانبساط. وأما قوله: إن الأسداد إذا كثرت فاض الماء على الأرض دفعة فليس كذلك؟ بل يصير الماء عند كسر كل سدّ من الأسداد في خليج، ثم يفتح ترع من الخليج إلى الخليج إلى ما على جانبه من الأراضي حتى يروى. فمن تلك الأراضي ما يروى سريعا، ومنها ما يروى بعد أيام، ومنها ما لا يروى لعلوّه. وأما قوله: إن جميع تلك المشارب تستدّ عند ابتداء صعود النيل ليجتمع ما يسيل من الماء في النيل، ويكثر فيعم جميع أرضهم، ويمنع بجملته دخول الماء الملح عليه، فغير مسلّم أن تكون السداد كما ذكر. بل أراضي مصر أقسام كثيرة منها: عال لا يصل إليه الماء إلا من زيادة كثيرة، ومنها: منخفض يروى من يسير الزيادة والأراضي متفاوتة في الارتفاع والانخفاض تفاوتا كثيرا. ولذلك احتيج في بلاد الصعيد إلى حفر الترع. وفي أسفل الأرض إلى عمل الجسور حتى يحبس الماء ليروي أهل النواحي على قدر حاجتهم إليه عند الاحتياج. وإلا فهو يزيد أولا في غير سقي الأراضي حتى إذا اجتمع من زيادته المقدار الذي هو كفاية الأراضي في وقت خلوّ الأراضي من الغلال. وذلك غالبا في أثناء شهر مسرى فتح سدّ الخليج حتى يجري فيه الماء إلى حدّ معلوم، ووقف حتى يروي ما تحت ذلك الحدّ الذي وقف عنده الماء من الأرض. ثم فتح ذلك الحدّ في يوم النيروز «1» حتى يجري إلى حدّ آخر، ويقف عنده حتى يروي ما تحت هذا الحدّ الثاني من الأراضي، ثم يفتح هذا الحدّ في يوم عيد «2» الصليب بعد النوروز بسبعة عشر يوما حتى يجري الماء، ويقف على حدّ ثالث حتى يروي ما تحت هذا الحدّ من الأراضي، ثم يفتح هذا الحدّ فيجري الماء، ويروي ما هنالك من الأراضي، ويصب في البحر الملح. هذا هو الحال في سدود أراضي مصر وقوله: إن ماء البحر يصعد أكثر من عشرين ميلا في حلق رشيد وتنيس ودمياط فلو كان خاليا من الماء العذب لوصل البحر من أسوان إلى منتهى بلوغ الردع فنقول: هذا قول من لم يعرف أرض مصر، فإن النيل عند مصبه بأعالي أسوان يكون أعلى منه عند كونه أسفل الأرض بقامات عديدة. فإذا فاض ماء البحر حبسه أن يتدافع هو وماء النيل، وربما غلب ماء البحر ماء النيل في أيام نقصان النيل حتى يملح ماء النيل فيما بين دمياط وفارس كور. وأما في أيام زيادة النيل، فإني شاهدت مصب النيل في البحر من دمياط وكل منهما يدافع الآخر فلا يطيقه حتى صارا متمانعين عبرة لمن اعتبر. وقوله: إن الأسداد إذا فتحت

علم أهل أسوان بذلك في الحال غير مسلم، بل لم نزل نشاهد النيل في الأعوام الكثيرة إذا فتح منه خليج أو انقطع مقطع فأغرق ماؤه أراضي كثيرة لا يظهر النقص فيه إلا فيما قرب من ذلك الموضع، وما برح المفرد يخرج من قوص ببشارة وفاء النيل. وقد أوفى عندهم ستة عشر ذراعا، فلا يوفي ذلك المقياس بمصر إلا بعد ثلاثة أيام ونحوها. وأما قوله: إن ما كان من النيل يمرّ ببلاد الحبشة يخالفه فليس كذلك، بل الزيادة في النيل أيام زيادته تكون ببلاد النوبة، وما وراءها في الجنوب كما تكون في أرض مصر، ولا فرق بينهما إلا في شيئين: أحدهما: أنه في أرض مصر يجري في حدود وهناك يتبدّد على الأراضي، والثاني: أن زيادته تعتبر بالقياس في أرض مصر، وهناك لا يمكن قياسه لتبدّده ومن عرف أخبار مصر علم أن زيادة ماء النيل تكون عن أمطار الجنوب. ويقال: إن النيل ينصب من عشرة أنهار من جبل القمر المتقدّم ذكره. كل خمسة أنهار من شعبة، ثم تتبحر تلك الأنهار العشرة في بحرين، كل خمسة أنهار تتبحر بحيرة بذاتها، ثم يخرج من البحيرة الشرقية بحر لطيف يأخذ شرقا على جبل قاقولي، ويمتدّ إلى مدن هناك، ثم يصب في البحر الهندي. ويخرج من البحيرتين ستة أنهار من كل بحيرة ثلاثة أنهار، وتجتمع الأنهار الستة في بحيرة متسعة تسمى البطيحة، وفيها جبل يفرّق الماء نصفين يخرج أحدهما من غرب البطيحة، وهو نيل السودان، ويصير نهرا يسمى بحر الدمادم، ويأخذ مغربا ما بين سمغرة وغانة على جنوبيّ سمغرة وشماليّ غانة، ثم ينعطف هناك. منه فرقة ترجع جنوبا إلى غانة، ثم تمرّ على مدينة برنسة، وتأخذ تحت جبل في جنوبها خارج خط الاستواء إلى زفيلة، ثم تتبحر في بحيرة هناك وتستمرّ الفرقة الثانية مغرّبة إلى بلاد مالي والتكرور، حتى تنصب في البحر المحيط شماليّ مدينة قلبتو، ويخرج النصف الآخر متشاملا آخذا على الشمال إلى شرقيّ مدينة حيما، ثم يتشعب منه هناك شعبة تأخذ شرقا إلى مدينة سحرت. ثم ترجع جنوبا ثم تعطف شرقا بجنوب إلى مدينة سحرتة، ثم إلى مدينة مركة. وينتهي إلى خط الاستواء حيث الطول خمس وستون درجة، ويتبحر هناك بحيرة ويسمى: عمود النيل من قبالة تلك الشعبة شرقيّ مدينة شيمي متشاملا آخذا على أطراف بلاد الحبشة، ثم يتشامل على بلاد السودان إلى مدينة دنفلة حتى يرمي على الجنادل إلى أسوان، وينحدر وهو يشق بلاد الصعيد إلى مدينة فسطاط مصر، ويمرّ حتى يصب في البحر الشاميّ، وقد استفيض ببلاد السودان أن النيل ينحدر من جبال سود يبين على بعد كأن عليها الغمام ثم يتفرّق نهرين يصب أحدهما في البحر المحيط إلى جهة بحر الظلمة الجنوبيّ، والآخر يتصل إلى مصر حتى يصب في البحر الشاميّ. ويقال: إنه في الجنوب يتفرّق سبعة أنهار تدخل في صحراء منقطعة، ثم تجتمع الأنهار السبعة، وتخرج من تلك الصحراء نهرا واحدا في بلاد السودان.

ذكر مقاييس النيل وزيادته

ذكر مقاييس النيل وزيادته قال ابن عبد الحكم: أوّل من قاس النيل بمصر، يوسف عليه السلام، وضع مقياسا بمنف ثم وضعت العجوز دلوكة ابنة زبا وهي صاحبة حائط العجوز مقياسا بأنصنا «1» . وهو صغير الذرع، ومقياسا بإخميم «2» ، ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان «3» ، وهو صغير ووضع أسامة بن زيد التنوخيّ في خلافة الوليد مقياسا بالجزيرة «4» ، وهو أكبرها. قال يحيى بن بكير: أدركت القياس يقيس في مقياس منف «5» ويدخل بزيادته إلى الفسطاط. وقال القضاعيّ: كان أوّل من قاس النيل بمصر، يوسف عليه السلام وبنى مقياسا بمنف وهو أوّل مقياس وضعه عليه السلام. وقيل: إن النيل كان يقاس بمصر بأرض علوة إلى أن بنى مقياس منف. وأن القبط كانت تقيس عليه إلى أن بطل ومن بعده دلوكة العجوز بنت مقياسا بانصنا، وهو صغير الذرع وآخر بأخميم وهي التي بنت الحائط المحيط بمصر. وقيل: إنهم كانوا يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرصاصة فلم يزل المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيسارية الأكسية ومعالمه هناك إلى أن ابتنى المسلمون بين الحصن، والبحر أبنيتهم الباقية الآن. وكان للروم أيضا مقياس بالقصر خلف الباب يمنة من دخل منه في داخل الزقاق أثره قائم إلى اليوم وقد بني عليه وحواليه. ثم بنى عمرو بن العاص عند فتحه مصر مقياسا بأسوان ثم بنى بموضع يقال له: دندرة، ثم بنى في أيام معاوية مقياس بانصنا، فلم يزل يقاس عليه إلى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وكانت منزله، وكان هذا المقياس صغير الذرع. فأمّا المقياس القديم الذي بنى في الجزيرة فالذي وضعه أسامة بن زيد. وقيل: إنه كسر فيه ألفي أوقية، وهو الذي بنى بيت المال بمصر. ثم كتب أسامة بن زيد التنوخيّ، عامل خراج مصر لسليمان بن عبد الملك ببطلانه، فكتب إليه سليمان بأن يبني مقياسا في الجزيرة فبناه في سنة سبع

وتسعين، ثم بنى المتوكل فيها مقياسا في أوّل سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله التركيّ على مصر. وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد وأمر بأن يعزل النصارى عن قياسه، فجعل يزيد بن عبد الله التركيّ على المقياس أبا الردّاد المعلم واسمه: عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الردّاد المؤذن. كان يقول القميّ: أصله بالبصرة قدم مصر وحدث بها وجعل على قياس النيل، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج مصر يومئذ سبعة دنانير في كل شهر فلم يزل المقياس من ذلك الوقت في يد أبي الردّاد وولده إلى اليوم، وتوفي أبو الردّاد سنة ست وستين ومائتين. ثم ركب أحمد بن طولون سنة تسع وخمسين ومائتين، ومعه أبو أيوب صاحب خراجه، وبكار بن قتيبة القاضي فنظر إلى المقياس، وأمر بإصلاحه وقدّر له ألف دينار فعمرو بني الحارث في الصناعة مقياسا وأثره باق لا يعتمد عليه. وقال ابن عبد الحكم: ولما فتح عمرو بن العاص مصر، أتى أهلها إلى عمرو حين دخل بؤنة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمر: وإن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى، وهو لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك فكتب إليه عمر: أن قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة، فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي. فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، وأصبحوا يوم الصليب، وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعا في ليله، وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر. وذكر بعضهم: أن جاحلا الصدفيّ هو الذي جاء ببطاقة عمر رضي الله عنه إلى النيل حين توقف، فجرى بإذن الله تعالى. وقال يزيد بن أبي حبيب: أن موسى عليه السلام دعا على آل فرعون، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء، فطلبوا إلى موسى أن يدعو الله، فدعا الله رجاء أن يؤمنوا، وذلك ليلة الصليب، فأصبحوا، وقد أجراه الله في تلك الساعة ستة عشر ذراعا، فاستجاب الله بطوله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى عليه السلام. قال القضاعي: ووجدت في رسالة منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم، قال: لما

فتحت العرب مصر عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما يلقي أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حدّه في مقياس لهم فضلا عن تقاصره، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، وأن الاحتكار يدعو إلى تصاعد الأسعار بغير قحط، فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال، فأجابه: إني وجدت ما تروي به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحدّ الذي يروى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستئجار اثنا عشر ذراعا في النقصان وثمانية عشر ذراعا في الزيادة هذا، والبلد في ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عند ما تسلموه من القبط، وخميرة العمارة فيه. فاستشار أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، عليا رضي الله عنه في ذلك فأمره أن يكتب إليه أن يبني مقياسا وأن ينقص ذراعين من اثني عشر ذراعا، وأن يقرّ ما بعدها على الأصل، وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين، ففعل ذلك، وبناه بحلوان فاجتمع له بذلك كل ما أراد من حل الإرجاف، وزوال ما منه كان يخاف بأن جعل الاثني عشر ذراعا أربع عشرة لأن كل ذراع أربع وعشرون إصبعا، فجعلها ثمانيا وعشرين من أوّلها إلى الاثني عشر ذراعا يكون مبلغ الزيادة على الاثني عشر ثمانيا وأربعين إصبعا وهي الذراعان، وجعل الأربع عشرة ست عشرة والست عشرة ثماني عشرة والثماني عشرة عشرين. قال القضاعيّ: وفي هذا الحساب نظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار وانتقاض الأحوال وشاهد ذلك: أن المقاييس القديمة الصعيدية من أوّلها إلى آخرها أربع وعشرون إصبعا، كل ذراع، والمقاييس الإسلامية على ما ذكر منها المقياس الذي بناه أسامة بن زيد التنوخي بالجزيرة، وهو الذي هدمه الماء وبنى المأمون آخر بأسفل الأرض بالبروذات وبنى المتوكل آخر بالجزيرة، وهو الذي يقاس عليه الماء الآن وقد تقدّم ذكره. قال ابن عفير «1» عن القبط المتقدّمين إذا كان الماء في اثني عشر يوما من مسرى اثنتي عشرة ذراعا فهي سنة ماء. وإلا فالماء ناقص، وإذا تمّ ست عشرة ذراعا قبل النوروز فالماء يتم فاعلم ذلك. وقال أبو الصلت: وأما النيل وينبوعه فهو من وراء خط الاستواء من جبل هناك يعرف بجبل القمر، فإنه يبتدئ في التزايد في شهر أبيب، والمصريون يقولون: إذا دخل أبيب كان للماء دبيب، وعند ابتدائه في التزايد يتغير جميع كيفياته، ويفسد. والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه آجنة يخالطها فيجتلبها معه إلى غير ذلك مما يحتمله فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعا وزاد من السادس عشر إصبعا واحدا كسر الخليج، ولكسره يوم معدود، ومقام مشهود، ومجتمع خاص يحضره العام والخاص، فإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات

الخلجان ففاض الماء، وساح وغمر القيعان والبطاح، وانضم الناس إلى أعالي مساكنهم من الضياع والمنازل وهي على آكام وربا لا ينتهي الماء إليها ولا يتسلط السيل عليها، فتعود أرض مصر بأسرها عند ذلك بحرا غامرا لما بين جبليها ريثما يبلغ الحدّ المحدود في مشيئة الله عز وجل له، وأكثر ذلك يحوم حول ثماني عشرة ذراعا، ثم يأخذ عائدا في صبه إلى مجرى النيل ومسربه، فينضب أوّلا عما كان من الأرض عاليا ويصير فيما كان منها متطامنا، فيترك كل قرارة كالدرهم، ويغادر كل ملقة كالبرد المسهم. وقال القاضي أبو الحسن عليّ بن محمد الماورديّ «1» في كتاب الأحكام السلطانية: وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بأصبع وثلثي أصبع، وأوّل من وضعها أمير المؤمنين هارون الرشيد قدّرها بذراع خادم أسود كان على رأسه قائما، وهي التي تتعامل الناس بها في ذرع البز والتجارة والأبنية، وقياس نيل مصر. وأكثر ما وجد في القياس من النقصان سنة سبع وتسعين ومائة وجد في المقياس تسعة أذرع وأحد وعشرون أصبعا. وأقل ما وجد منه سنة خمس وستين ومائة فإنه وجد فيه ذراع واحد وعشر أصابع، وأكثر ما بلغ في الزيادة سنة تسع وتسعين ومائة فإنه بلغ ثمانية عشر ذراعا وتسعة عشر أصبعا، وأقل ما كان في سنة ست وخمسين وثلثمائة الهلالية فإنه بلغ اثني عشر ذراعا وتسع عشرة أصبعا، وهي أيام كافور الإخشيدي. والمقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه، وهذا العمود مفصل على اثنين وعشرين ذراعا، كل ذراع مفصل على أربعة وعشرين قسما متساوية تعرف بالأصابع ما عدا الاثني عشر ذراعا الأولى، فإنها مفصلة على ثمان وعشرين أصبعا كل ذراع. وقال المسعوديّ: قالت الهند: زيادة النيل ونقصانه بالسيول ونحن نعرف ذلك بتوالي الأنواء وكثرة الأمطار. وقالت الروم: لم يزد قط ولم ينقص وإنما زيادته، ونقصانه من عيون كثرت واتصلت. وقالت القبط: زيادته ونقصانه من عيون في شاطئه يراها من سافر ولحق بأعاليه. وقيل: لم يزد قط وإنما زيادته بريح الشمال إذا كثرت، واتصلت تحبسه، فيفيض على وجه الأرض. وقال قوم: سبب زيادته هبوب ريح تسمى ريح الملتن، وذلك أنها تحمل السحاب

الماطر من خلف خط الاستواء فيمطر ببلاد السودان، والحبشة، والنوبة فيأتي مدده إلى أرض مصر بزيادة النيل، ومع ذلك فإن البحر الملح يقف ماؤه على وجه النيل، فيتوقف حتى يروي البلاد وفي ذلك يقول «1» : فاسمع فللسامع أعلى يدا ... عندي وأسمى من يد المحسن فالنيل ذو فضل ولكنه ... الشكر في ذلك للملتن ويبتدئ النيل بالتنفس، والزيادة بقية بؤنة وهو حزيران، وأبيب وهو تموز، ومسرى وهو آب، فإذا كان الماء زائدا زاد شهر توت كله، وهو أيلول إلى انقضائه. فإذا انتهت الزيادة إلى الذراع الثامن عشر؛ ففيه تمام الخراج وخصب الأرض وهو ضارّ بالبهائم لعدم الرعي والكلا. وأتمّ الزيادات كلها العامّة النفع للبلد كله سبعة عشر ذراعا وفي ذلك كفايتها وريّ جميع أرضها، وإذا زاد على ذلك، وبلغ ثمانية عشر ذراعا، وغلقها استبحر من أرض مصر الربع. وفي ذلك ضرر لبعض الضياع لما ذكرنا من الاستبحار، وإذا كانت الزيادة على ثمانية عشر ذراعا كانت العاقبة في انصرافه حدوث وباء وأكثر الزيادات ثمان عشرة ذراعا. وقد بلغ في خلافة عمر بن عبد العزيز اثني عشر ذراعا، ومساحة الذراع إلى أن يبلغ اثنتي عشرة ذراعا، ثمان وعشرون أصبعا، ومن اثنتي عشرة ذراعا إلى ما فوق ذلك يكون الذراع أربعا وعشرين أصبعا، وأقل ما يبقى في قاع المقياس من الماء ثلاثة أذرع، وفي تلك السنة يكون الماء قليلا، والأذرع التي يستسقى عليها بمصر هي ذراعان تسميان منكرا ونكيرا، وهي الذراع الثالث عشر، والذراع الرابع عشر، فإذا انصرف الماء عن هذين الذراعين وزيادة نصف ذراع من الخمس عشرة استستقى الناس بمصر. فكان الضرر الشامل لكل البلدان، وإذا تمّ خمس عشرة ودخل في ست عشرة ذراعا كان فيه صلاح لبعض الناس، ولا يستسقى فيه وكان ذلك نقصا من خراج السلطان، والنبيذ يتخذ بمصر من ماء طوبة، وهو كانون الثاني بعد الغطاس، وهو لعشرة تمضي من طوبة، وأصفى ما يكون ماء النيل في ذلك الوقت، وأهل مصر يفتخرون بصفاء ماء النيل في هذا الوقت، وفيه يخزن الماء أهل تنيس ودمياط وتونة وسائر قرى البحيرة. وقد كانت مصر كلها تروي من ست عشرة ذراعا، غامرها وعامرها لما أحكموا من جسورها وبناء قناطرها، وتنقية خلجانها، وكان الماء إذا بلغ في زيادته تسع أذرع، دخل خليج المنهي، وخليج الفيوم، وخليج سردوس، وخليج سخا. قال: والمعمول عليه في وقتنا هذا، وهو سنة خمس وأربعين وثلثمائة إنه إن زاد على

الستة عشر ذراعا أو نقص عنها نقص من خراج السلطان، وقد تغير في زماننا هذا عامة ما تقدّم ذكره لفساد حال الجسور والترع والخلجان وقانون اليوم: أنه يزيد في القيظ إذا حلت الشمس برج السرطان والأسد والسنبلة حين تنقص عامة الأنهار التي في المعمور، ولذلك قيل: إن الأنهار تمدّه بمائها عند غيضها، فتكون زيادته وتبتدىء الزيادة من خامس بؤنة «1» ، وتظهر في ثاني عشره، وأول دفعه في الثاني من أبيب «2» وتنتهي زيادته في ثامن بابه «3» ، ويؤخذ في النقصان من العشرين منه. فتكون مدّة زيادته من ابتدائها إلى أن ينقص ثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يوما. وهي: أبيب ومسرى «4» وتوت «5» وعشرون يوما من بابه، ومدّة مكثه بعد انتهاء زيادته اثنا عشر يوما ثم يأخذ في النقصان. ومن العادة أن ينادى عليه دائما في اليوم السابع والعشرين من بؤنة بعد ما يؤخذ قاعه، وهو ما بقي من الماء القديم في ثالث عشر بؤنة، وبفتح الخليج الكبير إذا أكمل الماء ستة عشر ذراعا وأدركت الناس يقولون: نعوذ بالله من أصبع من عشرين وكنا نعهد الماء إذا بلغ أصابع من عشرين ذراعا فاض ماء النيل، وغرّق الضياع والبساتين وفارت البلاليع، وها نحن في زمن منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة إذا بلغ الماء في سنة أصبعا من عشرين لا يعم الأرض كلها لما قد فسد من الجسور، وكان إلى ما بعد الخمسمائة من الهجرة قانون النيل ستة عشر ذراعا في مقياس الجزيرة، وهي في الحقيقة ثمانية عشر ذراعا؛ وكانوا يقولون: إذا زاد على ذلك ذراعا واحدة؛ زاد خراج مصر مائة ألف دينار لما يروي من الأراضي العالية؛ فإن بلغ ثمانية عشر ذراعا كانت الغاية القصوى، فإن الثمانية عشر ذراعا في مقياس الجزيرة اثنان وعشرون ذراعا في الصعيد الأعلى؛ فإن زاد على الثمانية عشر ذراعا واحدا نقص من الخراج مائة ألف دينار لما يستبحر من الأرض المنخفضة. قال ابن ميسر في حوادث سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وفيها بلغت زيادة ماء النيل تسعة عشر ذراعا وأربعة أصابع، وبلغ الماء الباب الجديد أوّل الشارع خارج القاهرة، وكان الناس يتوجهون إلى القاهرة من مصر من ناحية المقابر، فلما بلغ الخليفة الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد بن محمد أن الماء وصل إلى الباب الجديد أظهر الحزن، والانقطاع فدخل إليه بعض خواصه، وسأله عن السبب، فأخرج له كتابا فإذا فيه: إذا وصل الماء بالباب الجديد انتقل الإمام عبد المجيد، ثم قال: هذا الكتاب الذي تعلم منه أحوالنا وأحوال دولتنا،

وما يأتي بعدها فمرض الحافظ في آخر هذه السنة، ومات في أوّل سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وقال القاضي الفاضل: في متجدّدات سنة ست وسبعين وخمسمائة وفي يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر ربيع الأوّل، وهو السادس عشر من مسرى. وفي النيل على ستة عشر ذراعا، وهو الوفاء ولا يعرف وفاؤه بهذا التاريخ في زمن متقدّم، وهذا أيضا مما تغير فيه قانون النيل في زماننا فإنه صار يوفي في أوائل مسرى ولقد كان الوفاء في سنة اثنتي عشرة، وثمانمائة في اليوم التاسع والعشرين من أبيب قبل مسرى بيوم، وهذا من أعجب ما يؤرخ في زيادات النيل، واتفق أن في الحادي عشر من جمادى الأولى سنة تسع وسبعمائة، وفي النيل وكان ذلك اليوم التاسع عشر من بابه بعد النوروز بتسعة وأربعين يوما. قال: وفي تاسع عشرة يعني شوّال سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. كسر بحر أبي المنجى وباشر الملك العزيز عثمان كسره وزاد النيل فيه أصبعا وهي الأصبع الثامنة عشرة من ثمان عشرة ذراعا، وهذا الحدّ يسمى عند أهل مصر اللجة الكبرى. فانظر كيف يسمي القاضي الفاضل هذا القدر اللجة الكبرى؟! وإنه والعياذ بالله لو بلغ ماء النيل في سنة هذا القدر فقط لحل بالبلاد غلاء يخاف منه أن يهلك فيه الناس، وما ذاك إلا لما أهمل من عمل الجسور؛ ويحصل لأهل مصر بوفاء النيل ست عشرة ذراعا فرح عظيم، فإن ذلك كان قانون الري في القديم واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا. ويتخذ ذلك اليوم عيدا يركب فيه السلطان بعساكره، وينزل في المراكب لتخليق المقياس. وقد ذكرنا ما كان في الدولة الفاطمية من الاهتمام بفتح الخليج عند ذكر مناظر اللؤلؤة. وقال بعض المفسرين رحمهم الله تعالى: إن يوم الوفا هو اليوم الذي وعد فرعون موسى عليه السلام بالاجتماع في قوله تعالى: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه/ 59] . وقد جرت العادة أن اجتماع الناس للتخليق يكون في هذا الوقت. ومن أحسن السياسات في أمر النداء على النيل ما حكاه الفقيه ابن زولاق «1» في سيرة المعز «2» لدين الله قال: وفي هذا الشهر، يعني شوّال، سنة اثنتين وستين وثلثمائة منع المعز لدين الله من النداء بزيادة النيل، وأن لا يكتب بذلك إلا إليه، وإلى القائد جوهر، فلما تم

أباح النداء، يعني لما تم ست عشرة ذراعا، وكسر الخليج فتأمّل ما أبدع هذه السياسة؛ فإنّ الناس دائما إذا توقف النيل في أيام زيادته، أو زاد قليلا يقلقون، ويحدّثون أنفسهم بعدم طلوع النيل، فيقبضون أيديهم على الغلال، ويمتنعون من بيعها رجاء ارتفاع السعر، ويجتهد من عنده مال في خزن الغلة؛ إما لطلب السعر، أو لطلب ادّخار قوت عياله، فيحدث بهذا الغلاء. فإن زاد الماء انحلّ السعر وإلا كان الجدب والقحط ففي كتمان الزيادة عن العامّة أعظم فائدة، وأجلّ عائدة. وقال المسبحي «1» في تاريخ مصر: وخرج أمر صاحب القصر إلى ابن حيران بتحرير ما يستفتح به القياسون كلامهم إذا نادوا على النيل، فقال: نعم لا تحصى من خزائن الله لا تفنى زاد الله في النيل المبارك كذا، ومن عادة نيل مصر إذا كان عند ابتداء زيادته اخضرّ ماؤه، فتقول عامّة أهل مصر: قد توحم النيل، ويرون أن الشرب منه حينئذ مضر. ويقال في سبب اخضراره: إنّ الوحوش سيما الفيلة ترد البطيحات التي في أعالي النيل، وتستنقع فيها مع كثرة عددها لشدّة الحرّ هناك، فيتغير ماء تلك البطيحات، فإذا وقع المطر في الجهة الجنوبية في أوقاته عندهم تكاثرت السيول حينئذ في البطيحات، فخرج ما كان فيها من الماء الذي قد تغير، ومرّ إلى مصر، وجاء عقيبه الماء الجديد، وهو الزيادة بمصر وحينئذ يكون الماء محمرّا لما يخالطه من الطين الذي تأتي به السيول فإذا تناهت زيادته غشي أرض مصر، فتصير القرى التي في الأقاليم فوق التلال والروابي، وقد أحاط بها الماء، فلا يتوصل إليها إلا في المراكب، أو من فوق الجسور الممتدّة التي يصرف عليها إذا عملت كما ينبغي ربع الخراج ليحفظ عند ذلك ماء النيل حتى ينتهي ريّ كل مكان إلى الحدّ المحتاج إليه، فإذا تكامل ريّ ناحية من النواحي قطع أهلها الجسور المحيطة بها من أمكنة معروفة عند خولة البلاد، ومشايخها في أوقات محدودة لا تتقدّم، ولا تتأخر عن أوقاتها المعتادة على حسب ما يشهد به قوانين كل ناحية من النواحي، فتروى كل جهة مما يليها مع ما يجتمع فيها من الماء المختص؛ ولولا إتقان ما هنالك من الجسور، وحفر الترع والخلجان لقل الانتفاع بماء النيل كما قد جرى في زماننا هذا. وقد حكى أنه كان يرصد لعمارة جسور أراضي مصر في كل سنة ثلث الخراج لعنايتهم في القديم بها من أجل أنه يترتب على عملها ريّ البلاد الذي به مصالح العباد، وستقف إن شاء الله تعالى عن قريب على ما كان من أعمال القدماء، ومن بعدهم في ذلك، وكان للمقياس في الدولة الفاطمية رسوم لكنس مجاري الماء خمسون دينارا في كل سنة تطلق لابن أبي الردّاد.

ذكر الجسر الذي كان يعبر عليه في النيل

ذكر الجسر الذي كان يعبر عليه في النيل اعلم أنه كان في النيل جسر من سفن فيما بين الفسطاط والجزيرة التي تعرف اليوم: بالروضة، وكان فيما بين الجزيرة، والجيزة أيضا جسر في كل جسر منهما ثلاثون سفينة. ذكر ما قيل في ماء النيل من مدح وذم قال الرئيس أبو عليّ ابن سينا عفا الله عنه، وقوم يفرطون في مدح النيل إفراطا شديدا، ويجمعون محامده في أربعة: بعد منبعه، وطيب مسلكه، وغمورته، وأخذه إلى الشمال عن الجنوب. فأخذه إلى الشمال عن الجنوب: ملطف لما يجري فيه من المياه، وأما غمورته فيشاركه فيها غيره. قال: فأفضل المياه مياه العيون، ولا كل العيون ولكن مياه العيون الحرّة الأرض التي لا يغلب على تربتها شيء من الأحوال والكيفيات الغريبة أو تكون حجرية فتكون أولى بأن لا تعفن عفونة الأرضية لكن التي هي من طينة حرّة خير من الحجرية، ولا كل عين حرّة، بل التي هي مع ذلك جارية، ولا كل جارية بل الجارية المكشوفة للشمس، والرياح وإنّ هذا مما يكسب الجارية فضيلة. وأما الراكدة فربما اكتسب بالكشف رداءة لا تكسبها بالغور والستر. واعلم أنّ المياه التي تكون طيبة المسيل خير من التي تجري على الأحجار، فإنّ الطين ينقي الماء ويأخذ منه الممزوجات الغريبة ويروّقه، والحجارة لا تفعل ذلك. لكنه يجب أن يكون طين مسيله حرّا لا حمأة، ولا سبخة، ولا غير ذلك. فإن اتفق أن كان هذا الماء غمرا شديد الجرية يحيل بكثرة ما يخالطه إلى طبيعته. فإن كان يأخذ إلى الشمس في جريانه فيجري إلى المشرق، وخصوصا إلى الصيفيّ منه، فهو أفضل لا سيّما إذا بعد جدّا من ميدانه، ثم ما يتوجه إلى الشمال والمتوجه إلى المغرب والجنوب رديء خصوصا عند هبوب ريح الجنوب، والذي ينحدر من مواضع عالية مع سائر الفضل أفضل، وما كان بهذه الصفة كان عذبا يخيل، إنه حلو ولا يحتمل الخمر إذا مزج به منه إلا قليلا، وكان خفيف الوزن سريع البرد، والتسخين لتخلخله باردا في الشتاء حارا في الصيف لا يغلب عليه طعم البتة، ولا رائحة ويكون سريع الانحدار من الشراسيف سريعا لهري ما يهري فيه وطبخ ما يطبخ فيه. قال الرئيس علاء الدين عليّ بن أبي الحرم بن نفيس في شرح القانون: هذه المحامد التي ذكرها ليست علامات للحمد بل هي من الأشياء الموجبة لكونه محمودا وأحد هذه الأربعة بعد منبعه، وقد بينا أنّ ذلك يوجب لطافة الماء بسبب كثرة حركته، واعلم أن منبع النيل من جبل يقال له جبل القمر، وهذا الجبل وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة وثلاثين دقيقة، فماؤه أعظم دائرة في الأرض بثلاثمائة درجة وستين، وابتداء هذا الجبل من السادسة والأربعين درجة وثلاثين دقيقة من أوّل العمارة من جهة المغرب، وآخره عند آخر

إحدى وستين درجة وخمسين دقيقة، فيكون امتداد هذا الجبل مقدار خمس عشرة درجة وعشرين دقيقة، مما به أعظم دائرة في الأرض ثلثمائة وستون درجة، ويخرج من هذا الجبل عشرة أنهار من أعين فيه ترمي كل خمسة منها إلى بحيرة عظيمة مدوّرة، وإحدى هاتين البحيرتين مركزها حيث البعد من ابتداء العمارة بالمغرب خمسون درجة، والبعد من خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة، ومركز الثانية حيث البعد عن أوّل العمارة بالمغرب سبع وخمسون درجة، وحيث البعد من خط الاستواء في الجنوب سبع درج وإحدى وثلاثون دقيقة، وهاتان البحيرتان متساويتان وقطر كل واحدة منهما مقدار خمس درج، ويخرج من كل واحدة من البحيرتين أربعة أنهار ترمي إلى بحيرة صغيرة مدوّرة في الإقليم الأوّل بعد مركزها عن أوّل العمارة بالمغرب ثلاث وخمسون درجة وثلاثون دقيقة، وعن خط الاستواء من الشمال درجتان من الإقليم الأوّل، ومقدار قطرها درجتان ويصب كل واحد من الأنهار الثمانية في بحيرة وفي هذه البحيرة نهر واحد وهو: نيل مصر، ويمرّ ببلاد النوبة «1» نهر آخر ابتداؤه من غير مركزها على خط الاستواء كبيرة مستديرة مقدار قطرها ثلاث درج وبعد مركزها من أوّل العمارة بالمغرب: ثلاث وأربعون درجة، ويلقي نهر هذه العين لنهر النيل حيث البعد من أوّل العمارة بالمغرب ثلاث وأربعون دقيقة، وإذا تعدّى النيل مدينة مصر إلى بلد يقال له: شطنوف «2» يفرق هناك إلى نهرين يرميان إلى البحر المالح أحدهما يعرف ببحر رشيد، ومنه يكون خليج الإسكندرية، وثانيهما يعرف ببحر دمياط، وهذا البحر إذا وصل إلى المنصورة تفرّع منه نهر يعرف ببحر أشمون يرمي إلى بحيرة هناك. وباقية يرمي إلى البحر المالح عند دمياط، وزيادة النيل هي من أمطار كثيرة ببلاد الحبشة، والله أعلم. واعلم أن الوزن من الدستورات المنتخبة من حال الماء فإنّ الأخف في أكثر الأحوال أفضل فهذا ما ذكره الرئيس ابن سيناء من صفات المياه الفاضلة، واعتبر ما قاله تجد ذلك قد اجتمع في ماء النيل. فأوّله أن ماء النيل عين تمرّ على أراضي حرّة، ولا يغلب على تربه ما يمرّ به شيء من الأحوال والكيفيات الردية كمعادن النفط، والشب والأملاح والكباريت، ونحوها بل يمرّ على الأراضي التي تنبت الذهب بدليل ما يظهر في الشطوط من قراضات الذهب، وقد عانى جماعة تصويل الذهب من الرمل المأخوذ من شطوط النيل فربحوا منه مالا وفضيلة كون الذهب في المال لا تنكر. الثاني: أن النيل في جريانه أبدا مكشوف للشمس والرياح.

الثالث: أنّ طينه من طين مسيل مياه مجتمعة من أمطار تمرّ على أراضي حرّة، ويظهر لك ذلك من عطرية روائح الطين إذا نديته بماء. الرابع: غمورة ماء النيل، وشدّة جريته التي تكاد تقصف العمد إذا اعترضتها، وتدفع الأثقال العظيمة إذا عارضتها. الخامس: بعد مبدأ خروجه من مصبه في البحر المالح، وقد تقدّم من طول مسافته ما لا نجده في نهر غيره من أنهار المعمور. السادس: انحداره من علوّ فإن الجنوب مرتفع عن الشمال لا سيما إذا صار إلى الجنادل انحط من أعلى جبل مرتفع إلى وادي مصر. وذكر ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث من حديث جرير بن عبد الله البجليّ حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منزله ببلنسة فذكره إلى أن قال: وماؤنا يمتنع أن يجري من علوّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «خير الماء السنم» أي ما كان ظاهرا على وجه الأرض والسنم: الماء على وجه الأرض، وكل شيء علا شيئا فقد تسنمه مأخوذ من سنام البعير لعلوّه. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ [المطففين/ 27] أي يمزج بما ينزل من علوّ. السابع: أنه يمرّ من الجنوب إلى الشمال فتستقبله ريح الشمال الطيبة دائما. الثامن: من خفته في الوزن، وقد اعتبر ذلك غير مرّة مع غيره من المياه فخف عنها في الوزن. التاسع: عذوبة طعمه وحسن أثره في هضم الغذاء وأحداره عن المعدة بحيث إنه يحدث بعد شربه جشاء، وهذه صفات إن كنت ممن مارس العلم الطبيعيّ، وعرف الطب فإنه يعظم عندك قدر ماء النيل، وتبين لك غزارة نفعه وكثرة محاسنه. ويقال: إنّ ذا القرنين كتب كتابا فيه ما شاهده من عجائب الدنيا فضمنه كل أعجوبة، ثم قال في آخره: وليس ذلك بعجب بل العجب نيل مصر، وقال بعض الحكماء: لولا ما جعل الله في نيل مصر من حكمة الزيادة في زمن الصيف على التدريج حتى يتكامل ريّ البلاد، وهبوط الماء عنها عند بدء الزراعة لفسد إقليم مصر، وتعذر سكناه لأنه ليس فيه أمطار كافية، ولا عيون جارية تعم أرضه إلا بعض إقليم الفيوم، ولله در القائل: واها لهذا النيل أيّ عجيبة ... بكر بمثل حديثها لا يسمع يلقي الثرى في العام وهو مسلم ... حتى إذا ما ملّ عاد يودّع مستقبل مثل الهلال فدهره ... أبدا يزيد كما يريد ويرجع

وقال آخر: كأنّ النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه فيأتي حين حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه وقال تميم بن المعتمر: يوم لنا بالنيل مختصر ... ولكل يوم مسرّة قصر والسفن تجري كالخيول بنا ... صعدا وجيش الماء منحدر وكأنما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر وقال أيضا: أما ترى الرعد بكى واشتكى ... والبرق قد أومض واستضحكا فاشرب على غيم بصنع الدجى ... يضحك وجه الأرض لما بكى وانظر لماء النيل في مدّه ... كأنما صندل أو مصطكا «1» وقال آخر: والله مجرى النيل منه إذا الصبا ... أرينا به من برها عسكرا بحرا بشط بنهر السمهرية دبلا ... وموج بنهر البيض هندية بترا إذا مرّ حاكى الورد غضا وإن صفا ... حكى ماءه لونا ولو بعده مرّا وقال أبو الحسن محمد بن الوزير في تدريج زيادة النيل وعظم منفعته: أرى أبدا كثيرا من قليل ... وبدرا في الحقيقة من هلال فلا تعجب فكل خليج ماء ... بمصر مسيب بخليج مال زيادة أصبع في كل يوم ... زيادة أذرع في حسن حال وقال الشهاب أحمد بن فضل الله العمري: بمصر فضل باهر ... لعيشها الرغد النضر في سفح روض يلتقي ... ماء الحياة والخضر وقال ابن قلاقس: انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة ... وانظر لما بعدها من حمرة الشفق غابت وألقت شعاعا منه يخلفها ... كأنما احترقت بالماء في الغرق وللهلال فها وافى لينفدها ... في إثرها زورق قد صيغ من ورق

وقال بشر الملك ابن المنجم: يا رب سامية في الجو قمت بها ... أمدّ طرفي في أرض من الأفق حيث العشية في التمثيل معترك ... إذا رآها جبان مات للفرق للشمس غاربة للغرب ذاهبة ... بالنيل مصفرّة من هجمة الغسق وللهلال انعطاف كالسنان بدا ... من سورة الطعن ملقى في دم الشفق وقال القاضي الفاضل رحمه الله تعالى عليه: وأما النيل، فقد ملأ البقاع، وانتقل من الأصبع إلى الذراع، فكأنما غار على الأرض، فغطاها وأغار عليها فاستقعدها، وما تخطاها فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلا إياه. ونيل مصر: مخالف في جريه لغالب الأنهار، فإنه يجري من الجنوب إلى الشمال وغيره، ليس كذلك إلا نهران فإنهما يجريان كما يجري النيل، وهما نهر مكران بالسند ونهر الأريط «1» ، وهو الذي يعرف اليوم بنهر العاصي في حماه إحدى مدائن الشام. وقد عاب ماء النيل قوم. قال أبو بكر ابن وحشية «2» في كتاب الفلاحة النبطية: وأما ماء النيل فمخرجه من جبال وراء بلاد السودان يقال لها جبال القمر، وحلاوته وزيادته يدلان على موقعه من الشمس أنها أحرقته لا كل الإحراق، بل أسخنته إسخانا طويلا لينا لا تزعجه الحرارة، ولا تقوى عليه بحيث تبدّد أجزاءه الرطبة وتبقى أجزاءه الراسخة، بل يعتدل عليه فصار ماؤه لذلك حلوا جدّا، وصار كثرة شربه يعفن البدن، ويحدث البثور، والدماميل والقروح، وصار أهل مصر- الشاربون منه- دمويين محتاجين إلى استفراغ الدم عن أبدانهم في كل مدّة قصيرة، فمن كان عالما منهم بالطبيعة، فهو يحسن مداواة نفسه حتى يدفع عن جسمه ضرر ماء النيل، وإلا فهو يقع فيما ذكرنا من العفونات وانتشار البثر والدماميل. وذلك أن هذا الماء ناقص البرد عن سائر المياه قد صير له الطبخ قواما هو أثخن من قوام الماء؛ فصار إذا خالط الطعام في الأبدان كثر فيها الفضول الردية العفنة، فيحدث من ذلك ما ذكرناه. ودواء أهل مصر الذي يدفع عنهم ضرر ماء النيل، إدمان شرب ربوب الفاكهة الحامضة القابضة، وأخذ الأدوية المستفرغة للفضول ولو زادت حرارة الشمس على ماء النيل، وطال طبخها له لصار مالحا بمنزلة ماء البحار الراكدة التي لا حركة لها إلا وقت

جزر البحر، وهبوب الرياح، وهو أوفق للزروع والمنابت من الحيوان. وقال ابن رضوان: والنيل يمرّ بأمم كثيرة من السودان، ثم يصير إلى أرض مصر، وقد غسل ما في بلاد السودان من العفونات، والأوساخ ويشق مارا بوسط أرض مصر من الجنوب إلى الشمال إلى أن يصب في بحر الروم. ومبدأ زيادته في فصل الصيف، وتنتهي زيادته في فصل الخريف، ويرتقي في الجوّ منه في أوقات مدّة رطوبات كثيرة بالتحلل الخفيّ، فيرطب ذلك يبس الصيف، والخريف، وإذا مدّ النهر فاض على أرض مصر فغسل ما فيها من الأوساخ نحو جيف الحيوانات، وأزبالها وفضول الآجام، والنبات ومياه النقاع، وأحدر جميع ذلك معه، وخالطه من تراب هذه الأرض، وطينها مقدار كثير من أجل سخافتها وباض فيه من السمك الذي تربى فيه وفي مياه النقائع، ومن قبل ذلك تراه في أوّل مدّة يخضر لونه بكثرة ما يخالطه من مياه النقائع العفنة التي قد اجتمع فيها العرمض، والطحلب واخضر لونها من عفنها ثم يتعكر حتى يصير آخر أمره مثل الحمأة، وإذا صفا اجتمع منه في الإناء طين كثير، ورطوبة لزجة لها سهوكة، ورائحة منكرة. وهذا من أوكد الأشياء في ظهور رداءة هذا الماء، وعفنه. وقد بيّن بقراط وجالينوس: أنّ أسرع المياه إلى العفن ما لطفته الشمس بمياه الأمطار ومن شأن هذا الماء أن يصل إلى أرض مصر، وهو في الغاية من اللطافة من شدّة حرارة بلاد السودان، فإذا اختلط به عفونات أرض مصر زاد ذلك في استحالته، ولذلك يتولد منه من أنواع السمك شيء كثير جدّا. فإنّ فضول الحيوانات والنبات وعفونة هذا الماء، وبيض السمك يصير جميعها موادّا في تكوّن هذه الأسماك. كما قال أرسطاطاليس في كتاب الحيوان: وذلك شيء ظاهر للحس فإن كل شيء يتعفن يتولد من عفونته الحيوان، ولهذا صار ما يتولد من الدود، والفأر والثعابين والعقارب والزنابير والذباب، وغيرها بأرض مصر كثيرا، فقد استبان أن المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة والرطوبة الفضلية. وإنها ذات أجزاء كثيرة، وإن هواءها وماءها رديان، وربما انقطع النيل في آخر الربيع وأوّل الصيف من جهة الفسطاط. فيعفن بكثرة ما يلقي فيه إلى أن يبلغ عفنه إلى أن يصير له رائحة منكرة محسوسة. وظاهر أن هذا الماء إذا صار على هذه الحالة غيّر مزاج الناس تغيرا محسوسا، وينبغي أن يستقي ماء النيل من الموضع الذي فيه جريه أشدّ، والعفونة فيه أقل، ويصفي كل إنسان هذا الماء بحسب ما يوافق مزاجه. أما المحرورون في أيام الصيف فبالطباشير، والطين الأرمنيّ، والمغرة والنبق المرضوض، والزعرور المرضوض، والخل. وأما المبرودون في أيام الشتاء فباللوز المرّ، داخل نوى المشمش، والصعتر والشب. وينبغي أن ينظف ما يروّق ويشرب وإن شئت أن تصفيه بأن تجعله في آنية الخزف، والفخار والجلود، وما يمصل من ذلك بالرشح، وإن شئت طبخته

ذكر عجائب النيل

بالنار، وجعلته في هواء الليل حتى يروق، ثم نظفت منه ما يروق واستعملته. وإذا ظهرت فيه كيفيات رديئات فاطبخه بالنار ثم بردّه تحت السماء في برودة الليل، وصفه بأخلاط الأدوية التي ذكرتها وأجود ما اتخذ هذا الماء أن يصفى مرارا، وذلك بأن يسخنه أو يطبخه، ثم يبرّده في هواء الليل، ويقطف ما يروق منه فتصفيه أيضا ببعض الأدوية ثم تأخذ ما يروق فتجعله في آنية تمصل في برد الليل، وتأخذ الرشح فتشربه، واجعل آنية هذا الماء في الصيف الخزف، والفخار المعمولين في طوبة والظروف الحجرية، والقرب ونحوها مما يبرد. وفي الشتاء الآنية الزجاج والمدهون، وما يعمل في الصيف من الفخار، والخزف ويكون موضعه في الصيف تحت الأسراب وفي مخاريق ريح الشمال، وفي الشتاء بالمواضع الحارة، ويبرد في الصيف بأن يخلط معه ماء الورد، ويؤخذ خرقة نظيفة ويشدّ فيها طباشير وبزر رجلة أو خشخاش أبيض أو طين أرمنيّ، أو مغرة ويلقي فيه كيما يأخذ من بردها، ولا يخالطه جسمها، وتغسل ظروفه في الصيف بالخزف المدقوق وبدقيق الشعير، والباقلاء والصندل. وفي الشتاء بالأشنان والسعد ويبخر بالمصطكى، والعود. وأردأ ما يكون ماء النيل بمصر عند فيضه، وعند وقوف حركته، فعند ذلك ينبغي أن يطبخ ويبالغ في تصفيته بقلوب نوى المشمش وسائر ما يقطع لزوجته. وأجود ما يكون في طوبة عند تكامل البرد، ومن أجل هذا عرفت المصريون بالتجربة أن ماء طوبة أجود المياه حتى صار كثير منهم يخزنه في القوارير الزجاج والصينيّ ويشربه السنة كلها، ويزعم أنه لا يتغير وصاروا أيضا لا يصفونه في هذا الزمان لظنهم أنه على غاية الخلاص، وأما أنت فلا تسكن إلى ذلك وصفه على أي حالة كان فالماء المخزون لا بدّ أن يتغير فهذا ما عندي من ذمّ ماء النيل. وحاصله: أن الماء تتغير كيفيته بما يمرّ عليه، لا أن ذاته ردية، فلا يهولنك ما تسمع، فما الأمر إلا ما قلت لك، وإذا كان الضرر بحسب ما تغير من كيفيته لا من كميته، فقد عرفت ما تعالجه به كي يزول ما يخالطه من الكيفيات الردية، والله الموفق بمنه وكرمه. ذكر عجائب النيل ومن عجائب النيل فرس البحر. قال عبد الله بن أحمد بن سليم الأسواني في كتاب أخبار النوبة: ومسافة ما بين دنقلة إلى أوّل بلد علوة أكثر مما بين دنقلة وأسوان، وفي ذلك من القرى والضياع والجزائر، والمواشي والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم. أضعاف ما في الجانب الذي يلي أرض الإسلام. وفي هذه الأماكن جزائر عظام مسيرة أيام فيها الحيات والوحوش والسباع، ومفاوز يخاف فيها العطش، وماء النيل ينعطف من هذه النواحي إلى مطلع الشمس، وإلى مغربها مسافة أيام حتى يصير الصعيد كالمنحدر، وهي الناحية التي تبلغ العطوف من النيل إلى

المعدن المعروف بالشتكة وهي بلد معروف بشنقير، ومنه يخرج القمريّ وفرس البحر يكثر في هذا الموضع. وحدثني سيمون صاحب عهد علوة أنه أحصى في جزيرة سبعين دابة منها، وهي من دواب الشطوط في خلق الفرس في غلظ الجاموس قصيرة القوائم لها خف، وهي في ألوان الخيل بأعراف وآذان صغار كآذان الخيل، وأعناقها كذلك، وأذنابها مثل أذناب الجواميس، ولها خرطوم عريض يظنّ الناظر إليها أنّ عليها مخلاة لها صهيل وأنياب لا يقوم حذاءها تمساح، وتعترض المراكب عند الغضب فتغرّقها ورعيها في البرّ العشب، وجلدها فيه متانة عظيمة يتخذ منه دبابيس، انتهى. وهو كفرس البرّ إلا أنه أكبر عرفا وذنبا وأحسن لونا وحافره مشقوق كحافر البقر، وجثته أكبر من الحمار بقليل، وهو يأكل التمساح أكلا ذريعا، ويقوى عليه قوّة ظاهرة، وربما خرج من الماء ونزا على فرس البرّ، فيتولد بينهما فرس في غاية الحسن. واتفق أن بعض الناس نزل على طرف النيل ومعه حجرة، فخرج من الماء فرس أدهم عليه نقط بيض، فنزا على الحجرة، فحملت منه، وولدت مهرا عجيب الصورة، فطمع في مهر آخر. فجاء بالحجرة والمهر إلى ذلك الموضع، فخرج الفرس من الماء، وشمّ المهر ساعة، ثم وثب إلى الماء، ومعه المهر فصار الرجل يتعهد ذلك المكان كثيرا فلم يعد الفرس ولا المهر إليه. قال المسعودي: وفي نيل مصر وأرضها عجائب كثيرة من الحيوانات، فمن ذلك السمك المعروف بالرعاد والواحدة نحو الذراع إذا وقعت في شبكة الصياد ارتعدت يده، وعضده، فيعلم بوقوعها فيبادر إلى أخذها، وإخراجها من شبكته ولو أمسكها بخشب أو قصب فعلت ذلك. وقد ذكرها جالينوس أنها إن جعلت على رأس من به صداع شديد أو شقيقة وهي في الحياة هدأ من ساعته. قال ابن البيطار «1» عن جالينوس: هو الحيوان البحري الذي يحدث الخدر، وزعم قوم أنه أدنى من رأس من يشتكي الصداع سكن صداعه، وإن أدنى من مقعدة من انقلبت مقعدته أصلحها، ولكن أنا جربت الأمرين جميعا فلم أجد يفعل ولا واحدا منهما، ففكرت أني أدنيته من رأس المصدوع والحيوان ما هو حيّ لأنني ظننت أنه على هذه الحال يكون دواء يمكن أن يسكن الصداع بمنزلة الأدوية، فوجدته ينفع ما دام حيا. قال ديسقوريدوس: هو سمكة بحرية مخدّرة إذا وضعت على الرأس الذي عرض له الصداع المزمن سكن شدّة

وجعه، وإذا احتمله ذو المقعدة التي تبرز إلى خارج أصلحها. وقال يونس: الزيت الذي يطبخ فيه يسكن أوجاع المفاصل الحريفة إذا دهنت به. قال ابن البيطار: رأيت بساحل مدينة مالقة من بلاد الأندلس سمكة عريضة لون ظاهرها لون رعاد مصر سواء، وباطنها أبيض، وفعلها في تخدير ماسكها كفعل رعاد مصر، أو أشدّ إلا أنها لا تؤكل البتة. وقال بعضهم: إذا علقت المرأة شيئا من الرعاد عليها لم يطق زوجها البعد عنها، وكذلك إن علق منها الرجل عليه لم تكد المرأة أن تفارقه. والسقنقور «1» : هو صنف يتوالد من السمك، والتمساح فلا يشاكل السمك، لأنّ له يدين ورجلين، ولا يشاكل التمساح لأنّ ذنبه أجرد أملس عريض غير مضرّس، وذنب التمساح سخيف مضرّس، ويتعالج بشحم السقنقور للجماع، ولا يكون بمكان إلا في النيل، وفي نهر مهران من أرض الهند، وقد بلغني أنّ أقواما شووها وأكلوا منها فماتوا كلهم في ساعة واحدة. والسقنقور قال ابن سيناء: هو ورن يصاد من نيل مصر. يقولون: إنه من نسل التمساح، وأجود ما يصطاد في الربيع. وقال آخر: إنه فرخ التمساح فإذا خرج من البيض فما قصد الماء صار تمساحا، وما قصد الرمل صار سقنقورا. وقال ابن البيطار: هو جنس من الجراد يحفف في الخريف إذا شرب منه وزن درهمين من الموضع الذي يلي كلاه بشراب أنهض الجماع، وهو شديد الشبه بالورن. يوجد بالرمال التي تلي نيل مصر في نواحي صعيدها، وهو مما يسعى في البر، ويدخل في الماء يعني النيل، ولهذا قيل له: الورن المائيّ لشبهه به، ولدخوله في الماء وهو يتولد من ذكر وأنثى، ويوجد للذكر خصيتان كخصيتي الديك في خلقهما وموضعهما، وإنانة تبيض فوق العشرين بيضة وتدفنها في الرمل، وللذكر من السقنقور إحليلان، وللأنثى فرجان، والسقنقور يعض الإنسان، ويطلب الماء فإن وجده دخل فيه وإن لم يجده بال، وتمرّغ في بوله، وإذا فعل ذلك مات المعضوض لوقته وسلم السقنقور، فإن اتفق أن سبق المعضوض إلى الماء فدخله قبل دخول السقنقور الماء وتمرّغه في بوله مات السقنقور لوقته وسلم المعضوض. والأفضل الذكر منه والأبلغ في نفع الباه بل هو المخصوص بذلك دون الأنثى. والمختار من أعضائه ما يلي أصل ذنبه ومحاذى سرته. والوقت الذي يصاد فيه: الربيع فإنه يكون فيه هائجا للسفاد، فيكون في هذا الوقت أبلغ نفعا فإذا أخذ ذكى في يوم صيده فإنه إن ترك حيا زال شحمه، وهزل لحمه، وضعف فعله، ثم يقطع رأسه وطرف ذنبه من غير استئصال ويشق

جوفه طولا ويلقي ما فيه إلا كلاه، وكيسه فإذا نظف حشي ملحا وخيط الشق، وعلق منكوسا في ظل معتدل الهواء حتى يجف ويؤمن فساده، ثم يرفع في إناء متخرق للهواء كالسلال المضفورة من قضبان شجر الصفصاف، والخوص ونحوه إلى وقت الحاجة. ولحمه طريا حار رطب والمجفف أشدّ حرارة، وأقل رطوبة ولا يوافق استعماله من مزاجه حار يابس. وإنما يوافق ذوي الأمزجة الباردة الرطبة، وخاصة لحمه وشحمه. إنهاض شهوة الجماع، ويهيج الشبق ويقوّي الاتعاظ، وينفع أمراض العصب الباردة وخاصة ما يلي سرته، ويحاذي ذنبه وينفع مفردا ومركبا، واستعماله مفردا أبلغ والمقدار منه بعد تجفيفه من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل بحسب السنّ، والمزاج والبلد والوقت الحاضر يسحق ويذاب بشراب أو ماء العسل، أو نقيع الزبيب أو يذرّ على صفرة بيض الدجاج النيمرشت ويتحسى، وكذلك يفعل بلحمه، إذا أخذ منه من درهم إلى درهمين، وذرّ على صفرة البيض بمفرده أو مع مثله بزر جرجير مسحوق، ولا يوجد السقنقور إلا في بلاد الفيوم خاصة وأكثر صيده في الأربعينات إذا اشتدّ البرد، وخرج من الماء إلى البرّ فحينئذ يصاد. وقال المسعوديّ: والفرس الذي يكون في نيل مصر إذا خرج من الماء وانتهى وطؤه إلى بعض المواضع من الأرض، علم أهل مصر أنّ النيل يزيد إلى ذلك الموضع بعينه غير زائد عليه، ولا مقصر عنه لا يتخلف ذلك عندهم لطول العادات، والتجارب. وفي ظهوره من الماء ضرر بأرباب الأرض والغلات لرعيه الزرع، وذلك أنه يظهر من الماء في الليل، فينتهي إلى موضع من الزرع ثم يولي عائدا إلى الماء، فيرعى في حال رجوعه من الموضع الذي انتهى إليه مسيره، ولا يرعى من ذلك الذي قد رعاه شيئا في ممرّه، وإذا رعى ورد الماء وشرب ثم قذف ما في جوفه في مواضع شتى فينبت ذلك مرّة ثانية، وإذا كثر ذلك من فعله واتصل ضرره بأرباب الضياع طرحوا له من الترمس في الموضع الذي يعرف خروجه منه مكاكي كثيرة مبدرا مبسوطا فيأكله ثم يعود إلى الماء، فإذا شرب منه ربا الترمس «1» في جوفه وانتفخ، فينشق جوفه منه، ويموت ويطفو على الماء، ويقذف به إلى الساحل والموضع الذي يرى فيه لا يرى به تمساح، وهو على صورة الفرس إلا أنّ حوافره وذنبه بخلاف ذلك، وجبهته واسعة. وقال المسبحي: إنّ الصنف المعروف بالبلطي من أصناف السمك أوّل ما عرف بنيل مصر في أيام الخليفة- العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله- ولم يكن يعرف قبله في النيل، وظهر في أيامه أيضا سمك يعرف باللبيس، وإنما سمي باللبيس لأنه يشبه البوري الذي بالبحر الملح، فالتبس به وغالب الظنّ أنها من أسماك البحر الملح دخلت في الحلو. ومن حيوان البحر: التمساح. قال ابن البيطار: التمساح حيوان معروف يكون في

الأنهار الكبار. وفي النيل كثيرا ويوجد في نهر مهران، وقد يوجد في بلاد السودان، وهو الورن النيليّ. وقال ابن زهران: كل حيوان يحرّك فكه الأسفل إذا أكل ما خلا التمساح فإنه يحرّك فكه الأعلى دون الأسفل وشحم التمساح إذا عجن بالسمن، وجعل فيه فتيلة وأسرج في نهر أو أجمة لم ينعق ضفادعها، ما دامت تقد، وإن طيف بجلد تمساح حول قرية، ثم علق على سطح دهليز لم يقع البرد في تلك القرية، وإذا عض التمساح إنسانا فوضع على العضة شحم التمساح برأ من ساعته، وإن لطخ بشحمه جبهة كبش نطاح نفر كل كبش يناطحه، وهرب منه. ومرارته يكتحل بها للبياض في العين فيذهبه، وكبده ينجر بها المجنون فيبرأ، وزبل التمساح يزيل البياض من العين الحديث والقديم، وإن قلعت عيناه وهو حيّ وعلقت على من به جذام أوقفه، ولم يزد عليه شيء، وإن علق شيء من التي بجانب الأيمن رجل زاد في جماعه، وعينه اليمنى لمن يشتكي عينه اليمنى، وعينه اليسرى لمن يشتكي عينه اليسرى، وشحمه إذا أذيب بدهن ورد نفع من وجع الصلب والكليتين وزاد في الباه، وإذا أخذ دم التمساح وخلط به هليلج وأملج وطلي به على الوضح أذهبه، وغيّر لونه، وإذا طلي به على الجبهة والصدغين نفع من وجع الشقيقة، وإذا أكل لحمه اسفيد باجا سمن البدن النحيف، وشحمه إذا قطر بعد أن يذاب في الأذن الوجعة نفعها، وإن أدمن تقطيره في الأذن نفع من الصمم، وإذا دهن به صاحب حمى الربع سكنت عنه، ولحمه رديء الكيموس. وقال المسعودي: وكذلك التمساح آفته من دويبة تكون في سواحل النيل وجزائره، وهو أنّ التمساح لا دبر له وما يأكله يتكوّن في بطنه دودا، فإذا أذاه ذلك خرج إلى البرّ فاستلقى على قفاه فاغرا فاه فينقض إليه طير الماء، وقد اعتاد ذلك منه، فيأكل ما يظهر من جوفه من ذلك الدود العظيم وتكون تلك الدويبة قد كمنت في الرمل فتثب إلى حلقه وتصير إلى جوفه وتخرج فيخبط بنفسه إلى الأرض ويطلب قعر النيل حتى تأتي الدويبة على حشو جوفه، ثم تخرج جوفه وتخرج. وربما قتل نفسه قبل أن تخرج فتخرج بعد موته، وهذه الدويبة تكون نحو الذراع على صورة ابن عرس ذات قوائم شتى ومخالب. ويقال: إن بجبال فسطاط مصر طلسم معمول بها، وكان التمساح لا يستطيع القرب حوله بل كان إذا بلغ حددوده انقلب، واستلقى على ظهره فيعبث به الصبيان إلى أن يجاوز نهاية المدينة، ثم يعود مستويا ويعود إلى طباعه، ثم إن هذا الطلسم كسر فبطل فعله، ويقال: إن التمساح يبيض كبيض الأوز، وربما تولد فيه جرادين صغار ثم تكبر حتى يبلغ طولها عشرة أذرع، وتزداد طولا كلما عمرت، والتمساح يرتعش ستين مرّة في حركة واحدة ومحل واحد، وسنه اليسرى نافعة للنافض.

ذكر طرف من تقدمة المعرفة بحال النيل في كل سنة

ذكر طرف من تقدمة المعرفة بحال النيل في كل سنة قال ابن رضوان في شرح الأربع: وقد يحتاج أمر النيل إلى شروط. منها: أن تكون الأمطار متوالية في نواحي الجنوب قبل مدّه، وفي وقت مدّه، ولذلك وجب أن يكون النيل متى كانت الزهرة وعطارد مقترنين في مدخل الصيف، كثير الزيادة لرطوبة الهواء، ومتى كان المريخ، أو بعض المنازل في ناحية الجنوب في مدخل الربيع أو الصيف كان قليلا لقلة الأمطار في تلك الناحية، ومنها: أن تكون الرياح شمالية لتوقف جريه. فأما الجنوبية: فإنها تسرع انحداره ولا تدعه يلبث فإذا علمت ما يكون في ناحية الجنوب من كثرة الأمطار أو قلتها وفي ناحية مصر من هبوب مصر في فصلي الربيع والصيف، فقد علمت حال النيل كيف يكون، وتعلم من حاله ما يعرض بمصر من الخصب والجدب. وقال أبو سامر بن يونس المنجم عن بطليموس: إذا أردت أن تعلم مقدار النيل في الزيادة والنقصان، فانظر حين تحل الشمس برج السرطان إلى الزهرة، وعطارد، والقمر، فإن كانت أحوالها جيدة وهي برية من النحوس، فالنيل يمتدّ وتبلغ الحاجة به وإن كانت أحوالها بخلاف ذلك وهي ضعيفة فانكس القول فإن ضعف بعضها وصلح البعض توسط الحال في النيل، والضابط أن قوّة الثلاثة تدل على تمام النيل، وضعفها على توسطه، وانتحاسها أو احتراقها أو وقوعها في بعدها الأبعد من الأرض على النقص، وإنه قليل جدّا إلا أن احتراق الزهرة في برج الأسد يستنزل الماء من الجنوب. وقال أبو معشر «1» : ينظر عند انتقال الشمس إلى برج السرطان للزهرة وعطارد والقمر، فإن كانت في سيرها الأكبر فإن زيادة النيل عظيمة، وإن كانت في سيرها الأوسط فاعرف كم أكثر مسيرها، وكم أقله وأنسبه بحسب ما تراه، وإن كانت بطيئة السير فزيادة النيل قليلة، وإن اختلف مسير هذه الثلاثة فكان بعضها في مسيره الأكبر، وبعضها بطيء السير، فغلب أقواها وأمزج الدلالة وقل بحسب ذلك. وقالت القبط: ينظر أوّل يوم من شهر برمودة «2» ما الذي يوافقه من أيام الشهر العربيّ، فما كان من الأيام فزد عليه خمسة وثمانين، فما بلغ خذ سدسه فإنه يكون عدد مبلغ النيل من الأذرع في تلك السنة.

قالوا: ومن المعتبر أيضا في أمر النيل أن تنظر اليوم الذي تفطر فيه النصارى اليعاقبة بمصر وما بقي من الشهر العربيّ فزد عليها أربعا وثلاثين، فما بلغ أسقطه اثني عشر فإن بقي بعد ذلك الإسقاط من العدد زيادة على اثني عشر، فهو زيادة النيل من الأذرع في تلك السنة، مع الاثني عشر وإن بقي اثني عشر فهي سنة رديئة. قالوا: وإذا كان العاشر من الشهر العربيّ موافقا لشهر أبيب «1» ، والقمر في برج العقرب، فإن كان مقارنا لقلب العقرب كان النيل مقصرا وإلا فهو جيد. قالوا: وينظر أوّل يوم من بؤنة «2» فإن هبت الريح شمالا في بكرة النهار كان النيل عاليا، وإن هبت وسط النهار فإنه متوسط، وإن هبت آخر النهار كان نيلا قاصرا، وإن لم تهب لم يطلع تلك السنة. وقيل: يعتبر هكذا أول خميس من بؤنة. ومن المعتبر الذي جرّبته أنا سنين، وأخبرني بعض شيوخنا: أنه جرّبه وأخبره به من جرّبه فصح أن ينظر أوّل يوم من مسرى كم مبلغ النيل، فزد عليه ثمانية أذرع، فما بلغ فهو زيادة النيل في تلك السنة، ومما اشتهر عند أهل مصر وجربته أيضا، فصح أن يؤخذ قبل عيد ميكائيل بيوم في وقت الظهر من الطين الذي مرّ عليه ماء النيل قطعة زنتها ستة عشر درهما سواء، وترفع في إناء مغطى إلى بكرة يوم عيد ميكائيل وتوزن فما زاد على وزنها من الخراريب كان مبلغ النيل في تلك السنة بقدر عدد تلك الخراريب لكل خرّوبة ذراع، ومن ذلك أخذ شيء من دقيق القمح، وعجنه بماء النيل في إناء فخار، وقد عمل من طين مرّ عليه النيل، وتركه مغطى طول ليلة عيد ميكائيل، فإذا وجد بكرة يوم العيد قد اختمر بنفسه، كان النيل تامّا وافيا، وإن وجده لم يختمر دل على قصور هذا النيل، ثم ينظرون مع ذلك بكرة يوم عيد ميكائيل إلى الهواء، فإن هبت طيابا فهو نيل كبير، وإن هبت غير طياب فهو نيل مقصر، لا سيما إن هبت مريسيا فإنه يكون نيلا غير كاف، والشأن عندهم إنما هو في دلالة العلامات الثلاث على شيء واحد، فأما إذا اختلف فالحكم لا يكاد يصح. وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية، وذكر أصحاب التجارب: أنه إذا تقدّم فعمد إلى لوح وزرع عليه من كل زرع ونبات حتى إذا كانت الليلة الخامسة والعشرون من شهر تموز أحد شهور الروم وهي آخر أيام الباحور، ثم وضع اللوح بارزا لطلوع الكواكب، وغروبها لا يحول بينه وبين السماء شيء، فإن كل ما لا يزكو في تلك السنة من الزروع يصبح أصفر، وما يصلح ريعه منها يبقى أخضر، وكذلك كانت القبط تفعل ذلك وقد جرّبت أنا على ما أفادنيه بعض الكتاب أنه إذا حصل مطر ولو قل في شهر بابة ينظر ما ذلك اليوم من الشهر القبطيّ فإنه يبلغ سعر الويبة القمح تلك السنة من الدراهم بعدد ما مضى من أيام شهر بابة. وأوّل ما جرّبت هذا أنه وقع مطر في بابة يوم الخميس الخامس عشر منها فبيعت الويبة «3» تلك السنة بخمسة عشر درهما.

ذكر عيد الشهيد

ذكر عيد الشهيد ومما كان يعمل بمصر عيد الشهيد، وكان من أنزه فرج مصر، وهو (اليوم الثامن من بشنس) «1» . أحد شهور القبط، ويزعمون أن النيل بمصر لا يزيد في كل سنة حتى يلقي النصارى فيه تابوتا من خشب فيه أصبع من أصابع أسلافهم الموتى. ويكون ذلك اليوم عيدا ترحل إليه النصارى من جميع القرى، ويركبون فيه الخيل، ويلعبون عليها، ويخرج عامّة أهل القاهرة، ومصر على اختلاف طبقاتهم، وينصبون الخيم على شطوط النيل وفي الجزائر، ولا يبقى مغنّ ولا مغنية، ولا صاحب لهو، ولا رب ملعوب، ولا بغيّ ولا مخنث ولا ماجن، ولا خليع ولا فاتك ولا فاسق إلا ويخرج لهذا العيد، فيجتمع عالم عظيم لا يحصيهم إلا خالقهم. وتصرف أموال لا تنحصر ويتجاهر هناك بما لا يحتمل من المعاصي والفسوق، وتثور فتن وتقتل أناس ويباع من الخمر خاصة في ذلك اليوم بما ينيف على مائة ألف درهم فضة عنها خمسة آلاف دينار ذهبا وباع نصرانيّ في يوم واحد بإثني عشر ألف درهم فضة من الخمر، وكان اجتماع الناس لعيد الشهيد دائما بناحية شبرى من ضواحي القاهرة، وكان اعتماد فلاحي شبرى دائما في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشهيد. ولم يزل الحال على ما ذكر من الاجتماع كذلك إلى أن كانت سنة اثنتين وسبعمائة، والسلطان يومئذ بديار مصر: الملك الناصر محمد بن قلاوون، والقائم بتدبير الدولة الأمير: ركن الدين بيبرس «2» الجاشنكير، وهو يومئذ أستادار السلطان، والأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة بديار مصر، فقام الأمير بيبرس في إبطال ذلك قياما عظيما، وكان إليه أمور ديار مصر هو والأمير سلار والناصر تحت حجرهما لا يقدر على شبع بطنه إلا من تحت أيديهما، فتقدم أمر الأمير بيبرس أن لا يرمي أصبع في النيل، ولا يعمل له عيد، وندب الحجاب ووالى القاهرة لمنع الناس من الاجتماع بشبرى على عادتهم، وخرج البريد إلى سائر أعمال مصر، ومعهم الكتب إلى الولاة بإجهار النداء وإعلانه في الأقاليم بأن لا يخرج أحد من النصارى، ولا يحضر لعمل عيد الشهيد، فشق ذلك على أقباط مصر كلهم من أظهر الإسلام منهم، وزعم أنه مسلم، ومن هو باق على نصرانيته، ومشى بعضهم إلى بعض وكان منهم رجل يعرف: بالتاج بن سعيد الدولة يعاني الكتابة، وهو يومئذ في خدمة الأمير بيبرس، وقد احتوى على عقله واستولى على جميع أموره كما هي عادة ملوك مصر، وأمرائها

من الأتراك في الانقياد لكتابهم من القبط سواء منهم من أسرّ الكفر ومن جهر به. وما زال الأقباط بالتاج إلى أن تحدّث مع مخدومه الأمير بيبرس في ذلك، وخيل له من تلف مال الخراج إذا بطل هذا العيد. فإن أكثر خراج شبرى إنما يحصل من ذلك، وقال له: متى لم يعمل العيد لم يطلع النيل أبدا. ويخرب إقليم مصر لعدم طلوع النيل، ونحو ذلك من هتف القول، وتنميق المكر فثبت الله الأمير بيبرس، وقوّاه حتى أعرض عن جميع ما زخرفه من القول واستمرّ على منع عمل العيد. وقال للتاج: إن كان النيل لا يطلع إلا بهذا الأصبع فلا يطلع، وإن كان الله سبحانه هو المتصرف فيه فنكذب النصارى، فبطل العيد من تلك السنة ولم يزل منقطعا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. وعمّر الملك الناصر محمد بن قلاوون الجسر في بحر النيل ليرمي قوّة التيار عن برّ القاهرة إلى ناحية الجيزة كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، فطاب الأمير يلبغا اليحياويّ، والأمير الطنبغا «1» المارديني من السلطان أن يخرجا إلى الصيد ويغيبا مدّة، فلم تطب نفسه بذلك لشدّة غرامه بهما، وتهتكه في محبتهما، وأراد صرفهما عن السفر، فقال لهما: نحن نعيد عمل عيد الشهيد، فيكون تفرّجكما عليه أنزه من خروجكما إلى الصيد، وكان قد قرب أوان وقت عيد الشهيد فرضيا منه بذلك، وأشيع في الإقليم إعادة عمل عيد الشهيد، فلما كان اليوم الذي كانت العادة بعمله فيه ركب الأمراء النيل في الشخاتير بغير حراريق، واجتمع الناس من كل جهة، وبرز أرباب الغناء وأصحاب اللهو والخلاعة، فركبوا النيل وتجاهروا بما كانت عادتهم المجاهرة به من أنواع المنكرات، وتوسع الأمراء في تنوّع الأطعمة والحلاوات، وغيرها توسعا خرجوا فيه عن الحدّ في الكثرة البالغة، وعمّ الناس منهم ما لا يمكن وصفه لكثرته، واستمرّوا على ذلك ثلاثة أيام، وكانت مدّة انقطاع عمل عيد الشهيد منذ أبطله الأمير بيبرس إلى أن أعاده الملك الناصر، ستا وثلاثين سنة، واستمرّ عمله في كل سنة بعد ذلك إلى أن كانت سنة خمس وخمسين وسبعمائة، تحرّك المسلمون على النصارى وعملت أوراق بما قد وقف من أراضي مصر على كنائس النصارى، ودياراتهم. وألزم كتاب الأمراء بتحرير ذلك وحمل الأوراق إلى ديوان الأحباس، فلما تحرّرت الأوراق اشتملت على خمسة وعشرين ألف فدّان كلها موقوفة على الديارات والكنائس، فعرضت على أمراء الدولة القائمين بتدبير الدولة في أيام الملك الصالح: صالح «2» بن محمد بن قلاوون وهم: الأمير شيخو العمري، والأمير صرغتمش، والأمير طاز، فتقرّر الحال على أن ينعم بذلك على الأمراء زيادة على إقطاعاتهم، وألزم النصارى بما يلزمهم من الصغار، وهدمت لهم

عدّة كنائس كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر الكنائس، فلما كان العشر الأخير من شهر رجب من السنة المذكورة خرج الحاجب والأمير علاء الدين عليّ بن الكورانيّ والي القاهرة إلى ناحية شبرى الخيام من ضواحي مصر، فهدمت كنيسة النصارى، وأخذ منها أصبع الشهيد في صندوق وأحضر إلى الملك الصالح، وأحرق بين يديه في الميدان، وذرى رماده في البحر حتى لا يأخذه النصارى، فبطل عيد الشهيد من يومئذ إلى هذا العهد، ولله الحمد والمنة.

ذكر الخلجان التي شقت من النيل

ذكر الخلجان التي شقت من النيل اعلم أن النيل إذا انتهت زيادته فتحت منه خلجان وترع، يتخرّق الماء فيها يمينا وشمالا إلى البلاد البعيدة عن مجرى النيل، وأكثر الخلجان والترع والجسور، والأخوار بالوجه البحريّ. وأما الوجه القبليّ: وهو بلاد الصعيد فإن ذلك قليل فيه، وقد ذهبت معالمه ودرست رسومه من هنالك. والمشهور من الخلجان: خليج منجا، وخليج منف، وخليج المنهى، وخليج أشموم طناح، وخليج سردوس، وخليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج القاهرة، وبحر أبي المنجا، والخليج الناصري ظاهر القاهرة. قال ابن عبد الحكم عن أبي رهم السماعيّ قال: كانت مصر ذات قناطر، وجسور بتقدير وتدبير حتى إن الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها، فيحسبونه كيف شاءوا، ويرسلونه كيف شاءوا، فذلك قوله تعالى، عما حكى عن قول فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف/ 51] ، ولم يكن يومئذ في الأرض ملك أعظم من ملك مصر، وكانت الجنات بحافتي النيل من أوّله إلى آخره في الجانبين معا جميعا مما بين أسوان إلى رشيد، وسبع خلج: خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهي، وخليج سردوس، جنات متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزرع ما بين الجبلين من أوّل مصر إلى آخرها مما يبلغه الماء. وكانت جميع أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا لما قدّروا ودبروا من قناطرها وخلجها وجسورها، فذلك قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان/ 26] . قال: والمقام الكريم: المنابر، كان بها ألف منبر. (خليج سخا) «1» وخليج سخا: حفره ندارس بن صا ابن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح وهو: أحد ملوك القبط القدماء الذين ملكوا مصر في الدهر الأوّل. قال ابن وصيف شاه: ندارس الملك أوّل من ملك الأحياز كلها بعد أبيه صا، وصفا له ملك مصر، وكان ندارس محتنكا مجرّبا ذا أيد وقوّة، ومعرفة بالأمور، فأظهر العدل، وأقام

الهياكل وأهلها قياما حسنا، ودبر جميع الأحياز. ويقال: إنه الذي حفر خليج سخا وارتفع مال البلد على يده مائة ألف ألف دينار وخمسين ألف ألف دينار، وقصده بعض عمالقة الشام فخرج إليه واستباحه، ودخل فلسطين، وقتل بها خلقا، وسبى بعض حكمائها وأسكنهم مصر، وهابته الملوك وعلى رأس ثلاثين من ملكه طمع السودان من الزنج والنوبة في أرضه، وعاثوا وأفسدوا، فجمع الجيوش من أعمال مصر وأعد المراكب، ووجه قائدا يقال له: فلوطس في ثلثمائة ألف، وقائدا آخر في مثلها، ووجه في النيل ثلثمائة سفينة في كل سفينة كاهن يعمل أعجوبة من العجائب، ثم خرج في جيوش كثيرة، فلقي جمع السودان، وكانوا في زهاء ألف ألف فهزمهم، وقتل أكثرهم أبرح قتل، وأسر منهم خلقا وتبعتهم جيوشه حتى وصلوا إلى أرض الفيلة من بلاد الزنج، فأخذوا منها عدّة ومن النمور والوحوش وساقوها إلى مصر فذللها وعمل على حدود بلده منارا وزبر عليه مسيره، وظفره الوقت الذي سار فيه، ومات بمصر فدفن في ناووس نقل إليه شيئا كثيرا من أصنام الكواكب، ومن الذهب والجوهر والصيغة والتماثيل، وزبر عليه اسمه وتاريخ هلاكه، وجعل له طلسمات تمنع منه وعهد إلى ابنه ماليق بن ندارس. (خليج سردوس) «1» : حفره هامان. قال ابن وصيف شاه طلما بن قومس الملك: جلس على سرير الملك، وحاز جميع ما كان في خزائنهم، وهو الذي تذكر القبط أنه فرعون موسى. فأما أهل الأثر فيزعمون أنه الوليد بن مصعب، وأنه من العمالقة، وذكروا أن الفراعنة سبعة، وكان طلما فيما حكي عنه: قصيرا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى في جبينه شامة، وكان أعرج. وزعم قوم: أنه من القبط ونسب أهل بيته مشهور عندهم. وذكر آخرون: أنه دخل منف على أتان عليها نطرون جاء ليبيعه، وكانوا قد اضطربوا في تولية الملك فرضوا أن يملكوا عليهم أوّل من يطرأ من الناس، فلما رأوه ملكوه عليهم، ولما جلس في الملك بذل الأموال، وقرب من أطاعه، وقتل من خالفه فاعتدل أمره، واستخلف هامان، وكان يقرب منه في نسبه، وأثار بعض الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات وحفر خلجانا كثيرة. ويقال: إنه الذي حفر خليج سردوس، وكان كلما عرّجه إلى قرية من قرى الحوف حمل إليه أهلها مالا حتى اجتمع من ذلك مال كثير فأمر بردّه على أهله. وقال ابن عبد الحكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن فرعون استعمل هامان على حفر خليج سردوس فلما ابتدأ حفره أتاه أهل كل قرية يسألونه أن يجري

الخليج تحت قريتهم، ويعطونه مالا؛ قال: وكان يذهب به إلى هذه القرية من نحو الشرق، ثم يردّه إلى قرية من نحو دبر القبلة، ثم يردّه إلى قرية في الغرب ثم يردّه إلى أهل قرية في القبلة، ويأخذ من أهل كل قرية مالا حتى اجتمع له من ذلك مائة ألف دينار، فأتى بذلك يحمله إلى فرعون فسأله عن ذلك، فأخبره بما فعل في حفره فقال له فرعون: ويحك إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عباده، ويفيض عليهم، ولا يرغب فيما بأيديهم ردّ على أهل كل قرية ما أخذت منهم فردّه كله على أهله. قال: فلا يعلم بمصر خليج أكثر انعطافا منه لما فعل هامان في حفره كان هامان نبطيا. (خليج الإسكندرية) : قال ابن عبد الحكم: ويقال: إن الذي بنى منارة الإسكندرية (فليطرة الملكة) وهي التي ساقت خليجها حتى أدخلته الإسكندرية، ولم يكن يدخلها الماء كان يعدل من قرية يقال لها: كسا قبالة الكريون، فحفرته حتى أدخلته الإسكندرية وهي التي بلطت قاعته. وقال الكندي: إن الحارث بن مسكين قاضي مصر حفر خليج الإسكندرية. وقال الأسعد بن مماتي في كتاب قوانين الدواوين: خليج الإسكندرية عليه عدّة ترع وطوله من فم الخليج ثلاثون ألف قصبة وستمائة قصبة، وعرضه من قصبتين ونصف إلى ثلاث قصبات ونصف، ومقام الماء فيه بالنسبة إلى النيل فإن كان مقصر أقصرت مدّة إقامته فيه، وإن كان عاليا أقام فيه ما يزيده على شهرين. ورأيت جماعة من أهل الخبرة، وذوي المعرفة يقولون: إنه إذا عملت من قبالة منية نتيج إلى نتيج زلاقة استقرّ الماء فيه صيفا وشتاء، ورأيت البحيرة جميعها وحوف ودمسيس والكفور الشاسعة، وقد زرعت عليه القصب، والقلقاس والنيلة وأنواع زراعة الصيفيّ وجرى مجرى بحر الشرق والمحلة، وتضاعفت عليه البلاد، وعظم ارتفاعها وإقامة هذه الزلاقة ممكنة لوجود الحجارة في ربوة والطوب في البحيرة، وإنهم قدّروا ما يحتاج إليه فوجدوه يناهز عشرة آلاف دينار. ويقال: إنه كان الماء فيه جاريا طول السنة، وكان السمك فيه غاية من الكثرة بحيث تصيده الأطفال بالخرق فضمنه بعض الولاة بمال، ومنع الناس من صيده، فعدم منه السمك، ولم ير بعد ذلك فيه سمكة فصار يخرج بالشباك. (خليج الفيوم والمنهى) : مما حفره نبيّ الله يوسف الصديق عليه السلام عندما عمّر الفيوم كما هو مذكور في خبر الفيوم من هذا الكتاب، وهو مشتق من النيل لا ينقطع جريه أبدا، وإذا قابل النيل ناحية دورة سريام التي تعرف اليوم بدورة الشريف يعني ابن يغلن النائب في الأيام الظاهرية بيبرس تشعبت منه في غربيه شعبة تسمى المنهى تستقل نهرا يصل إلى الفيوم، وهو الآن عرف: ببحر يوسف، وهو نهر لا ينقطع جريانه في جميع السنة، فيسقي الفيوم عامّة سقيا دائما، ثم ينجرّ فضل مائه في بحيرة هناك، ومن العجب أنه ينقطع ماؤه من

ذكر ما كانت عليه أرض مصر في الزمن الأول

فوهته، ثم يكون له بلل دون المكان المندي ثم يجري جريا ضعيفا دون مكان البلل، ثم يستقل نهرا جاريا لا يقطع إلا بالسفن، ويتشعب منه أنهار وينقسم قسما يعمّ الفيوم ويسقي قراه ومزارعه وبساتينه وعامّة أماكنه، والله أعلم. (خليج القاهرة) : هذا الخليج بظاهر القاهرة من جانبها الغربي فيما بينها وبين المقس عرف في أوّل الإسلام: بخليج أمير المؤمنين، وتسميه العامّة اليوم: بخليج الحاكمي، وبخليج اللؤلؤة، وهو خليج قديم أوّل من حفره طوطيس بن ماليا أحد ملوك مصر الذين سكنوا مدينة منف، وهو الذي قدم إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في أيامه إلى مصر، وأخذ منه امرأته سارة، وأخدمها هاجر أم إسماعيل صلوات الله عليهما؛ فلما أخرجها إبراهيم هي وابنها إسماعيل إلى مكة بعثت إلى طوطيس تعرّفه أنها بمكان جدب وتستغيثه، فأمر بحفر هذا الخليج، وبعث إليها فيه بالسفن تحمل الحنطة وغيرها إلى جدّة، فأحيا بلد الحجاز، ثم إن أندرومانوس الذي يعرف: بإيليا أحد ملوك الروم بعد الإسكندر بن فيلبس المقدوني، جدّد حفر هذا الخليج، وسارت فيه السفن، وذلك قبل الهجرة النبوية بنيف وأربعمائة سنة. ثم إن عمرو بن العاص رضي الله عنه، جدد حفره لما فتح مصر وأقام في حفره ستة أشهر، وجرت فيه السفن بحمل الميرة إلى الحجاز فسمي: خليج أمير المؤمنين، يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه هو الذي أشار بحفره، ولم تزل تجري فيه السفن من فسطاط مصر إلى مدينة القلزم التي كانت على حافة البحر الشرقي حيث الموضع الذي يعرف اليوم على البحر: بالسويس، وكان يصب ماء النيل في البحر من عند مدينة القلزم إلى أن أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بطمه في سنة خمسين ومائة، فطم وبقي منه ما هو موجود الآن، وسيأتي الكلام عليه مبسوطا إن شاء الله تعالى عند ذكر ظواهر القاهرة من هذا الكتاب. (بحر أبي المنجا) «1» : هذا الخليج تسميه العامّة: بحر أبي المنجا الذي حفره: الأفضل بن أمير الجيوش في سنة ست وخمس مائة، وكان على حفره أبو المنجا بن شعيا اليهودي. فعرف به، وقد ذكر خبر هذا الخليج عند ذكر مناظر الخلفاء، ومواضع نزههم من هذا الكتاب. (الخليج الناصري) : هذا الخليج في ظاهر المقس، حفره: الناصر محمد بن قلاوون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقد ذكر في موضعه من هذا الكتاب. ذكر ما كانت عليه أرض مصر في الزمن الأوّل قال المسعوديّ: وقد كانت أرض مصر على ما زعم أهل الخبرة والعناية، بأخبار شأن

ذكر أعمال الديار المصرية وكورها

العالم يركب أرضها ماء النيل، وينبسط على بلاد الصعيد إلى أسفل الأرض وموضع الفسطاط في وقتنا هذا، وكان بدء ذلك من موضع يعرف: بالجنادل بين أسوان والنوبة إلى أن عرض لذلك موانع من انتقال الماء، وجريانه وما يتصل من النوبة بتياره من موضع إلى موضع، فنضب الماء عن بعض المواضع من بلاد مصر، وسكن الناس بلاد مصر، ولم يزل الماء ينضب عن أرضها قليلا قليلا حتى امتلأت أرض مصر من المدن والعمائر، وطرّقوا للماء، وحفروا له الخلجان، وعقدوا في وجهه المسببات إلى أن خفي ذلك على ساكنيها لأنّ طول الزمان ذهب بمعرفة أوّل سكناهم كيف كان انتهى. قلت: ومما ذكر أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية: أن أرض مصر كان النيل ينبسط عليها، فيطبقها كأنها بحر، ولم يزل الماء ينضب عنها، وييبس ما علا منها أوّلا فأوّلا، ويسكن إلى أن امتلأت بالمدن والقرى والناس. ويقال: إن الناس كانوا قبل سكنى مدينة منف يسكنون بسفح الجبل المقطم في منازل كثيرة نقروها، وهي المغاير التي في الجبل المقابل لمنف من قبليّ المقطم في الجبل المتصل بدير القصير الذي يعرف: بدير البغل المطل على ناحية طرى، ومن وقف عند أهرام نهيار، أي المغائر في الشرقي، وبينهما النيل، ومن صعد من طرا إلى الجبل وسار فيه دخلها وهي: مغاير متسعة، وفيها مغائر تنفذ إلى القلزم تسع المغارة منها أهل مدينة، وإذا دخلها أحد، ولم يهتد على ما يدله على المخرج هلك في تحيره، ويقال: كانت مصر جرداء لا نبات بها فأقطعها متوشلح بن أخنوخ بن يازد بن مهلاييل بن فتيان بن أنوس بن شيث بن آدم لطائفة من أولاده، فلما نزلوها وجدوا نيلها قد سدّ ما بين الجبلين فنضب الماء عن أرض زروعها، فأخرجت الأرض بركاتها، ثم بعد زمان أخذها عنقام الأوّل بن عرياب بن آدم بالغلبة، ونسل بها خلقا عظيما، وجهز لقتال أولاد يزد سبعين ألف مقاتل، وحفر من البحر إلى الجبل نهرا عرضه أربعون قصبة ليمنع من يأتيه، فأتاه بنو يزد، فلم يجدوا إليه سبيلا ففزعوا إلى الله تعالى فبعث على أرض مصر نارا. ذكر أعمال الديار المصرية وكورها اعلم أن أرض مصر كانت في الزمن الأوّل الغابر مائة وثلاثا وخمسين كورة «1» ، في كل كورة مدينة وثلثمائة وخمس وستون كورة، فلما عمرت أرض مصر بعد بخت نصر، صارت على خمس وثمانين كورة، ثم تناقصت حتى جاء الإسلام، وفيها أربعون عامرة بجميع قراها لا تنقص شيئا، ثم استقرّت أرض مصرها كلها في الجملة على قسمين: الوجه القبلي: وهو ما كان في جهة الجنوب من مدينة مصر؛ والوجه البحري: وهو ما كان في شمال مدينة مصر.

وقد قسمت الأرض جميعها قبليها وبحريها على ستة وعشرين عملا وهي: الشرقية، والمرتاحية، والدقهلية، والإيوانية، وثغر دمياط. الوجه البحري: جزيرة قويسنا، والغربية، والسمنودية، والدنجاوية، والمنوفية، والستراوية، وفوّه، والمزاحمتين، وجزيرة بني نصر، والبحيرة، وإسكندرية وضواحيها، وحوف دمسيس. والوجه القبلي: الجيزة، والأطفيحية، والبوصيرية، والفيومية، والبهنساوية، والأشمونين، والمنفلوطية، والأسيوطية، والإخميمية، والقوصية. وهي أيضا ثلاثون كورة، وهي: كورة الفيوم، وفيها مائة وست وخمسون قرية، ويقال: إنها كانت ثلثمائة وستين قرية، وكورة منف ووسيم خمس وخمسون قرية، وكورة الشرقية وتعرف بالأطفيحية سبع عشرة قرية، وقرى أهناس ومنه: قمن ثماني قرى، وكور تادلاص، وبوصير ست قرى، وكورة أهناس خمس وتسعون قرية، سوى الكفور، وكورة البهنسا مائة وعشرون قرية، وكورة الفشن سبع وثلاثون قرية، وكورة طحا سبع وثلاثون قرية، وحوز سنودة ثمان قرى، وكورة الأشمونين مائة وثلاث وثلاثون قرية، وكورة أسفل انصنا إحدى عشرة قرية، وكورة سيوط سبع وثلاثون قرية، وكورة شطب ثمان قرى، وكورة أعلا أنصنا ثنتا عشرة قرية، وكورة قهقوه سبع وثلاثون قرية، وكورة أخميم والدوير ثلاث وستون قرية، وكورة السبابة والواحات ثلاث وستون قرية سوى الكفور، وكورة هو عشرون قرية، وكورة فاو ثمان قرى، وكورة قنا سبع قرى، وكورة دندرة عشر قرى، وكورة قفط ثنتان وعشرون قرية، وكورة الأقصر خمس قرى، وكورة أسنا خمس قرى، وكورة أرمنت سبع قرى، وكورة أسوان سبع قرى، فجميع قرى الصعيد ألف وثلاثون وأربعون قرية سوى المنى، والكفور في ثلاثين كورة. كورة أسفل الأرض: الحوف الشرقيّ خمس وستون قرية، كورة أتريب مائة وثمان قرى سوى المنى والكفور، كورة بنو سبع وثمانون قرية سوى المنى والكفور، كورة نما مائة وخمسون قرية سوى المنى والكفور، كورة بسطة تسع وثلاثون قرية، كورة طرابية ثمان وعشرون قرية منها: السدير والهامة وفاقوس، كورة هربيط ثمان عشرة قرية سوى المنى والكفور، كورة صا وإبليل ست وأربعون قرية منها: سنهور والفرما والعريش. فجميع قرى الحوف الشرقي خمسمائة وتسع وعشرون قرية سوى المنى في سبع كور. بطن الريف كورتادمسيس، ومنوف مائة وأربع قرى سوى المنى والكفور. كورة تاطورة منوف اثنتان وسبعون قرية سوى المنى والكفور، كورة سخا مائة وخمس عشرة قرية، كورة بيدة والأفراحون ثلاث وعشرون قريّة سوى المنى والكفور، كورة البشرود اربع وعشرون قرية، كورة نفر اثنتا عشرة قرية سوى المنى، كورة ببا وبوصير ثمان وثمانون قرية سوى المنى

والكفور، كورة سمنود مائة وثمان وعشرون قرية سوى المنى والكفور، كورة نوسا إحدى وعشرون قرية سوى المنى، كورة الأوسية أربعون قرية سوى المنى، كورة النجوم أربعون قرية سوى المنى، تنيس ودمياط ثلاث عشرة قرية سوى المنى، وهي شيء كثير. الإسكندرية، الحوف الغربي: كورة صا ثلاث وسبعون قرية سوى المنى والكفور، كورة شباس اثنان وعشرون قرية سوى المنى والكفور، كورة اليدقون ثلاث وأربعون قرية سوى المنى والكفور، حيز اليدقون تسع وعشرون قرية سوى المنى والكفور، الشراك تسع قرى، كورة ترنوط ثمان قرى، كورة خربتا اثنا وستون قرية سوى المنى والكفور، كورة قرطسا اثنان وعشرون قرية سوى المنى والكفور، كورتا مصيل والمليدس تسع وأربعون قرية سوى المنى، كورتا احنور ورشيد سبع عشرة قرية، البحيراء والحصص بالإسكندرية والكرومات والبعل ومريوط ومدينة الإسكندرية ولويبه ومراقبه مائة وأربع وعشرون قرية سوى المنى. فالحوف الغربيّ: أربعمائة وتسع وأربعون قرية سوى المنى في ثلاث عشرة كورة. قال المسبّحي في تاريخه: تصير قرى مصر أسفل الأرض ألفا وأربعمائة وتسعا وثلاثين قرية، ويكون جميع ذلك بالصعيد، وأسفل الأرض ألفين وثلثمائة وخمسا وتسعين قرية. وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي: أرض مصر قسمين: فمن ذلك صعيدها وهو ما يلي: مهب الجنوب منها، وأسفل أرضها وهو ما يلي: مهب الشمال منها، فقسم الصعيد على ثمان وعشرين كورة، فمن ذلك كورة الفيوم كلها، وكورتا منف ووسيم، وكورة الشرقية، وكورتا دلاص وأبو صير، وكورة أهناس، وكورتا الفشن والبهنسا، وكورة طحا وحيز سنودة، وكورة بويط، وكورتا الأشمونين وأسفل أنصنا وأعلاها وشطب قوص قام، وكورة سيوط، وكورة قهقوه، وكورتا أخميم والدير وأبشاية، وكورة هوّ وأقنا وفاو ودندرة، وكورة قفط والأقصر، وكورة اسنا وارمنت، وكورة أسوان. فهذه كور الصعيد، ومن ذلك كور أسفل الأرض وهي خمس وعشرون كورة. وفي نسخة: ثلاث وثلاثون كورة، وفي نسخة: ثمان وثلاثون كورة، فمن ذلك: كورة الجوف الشرقيّ: كورتا اتريب وعين شمس، وكورتا بني ونمى، وكورتا بسطه وطرابية، وكورة هربيط، وكورة صا وإبليل، وكورة الفرما والعريش والجفار ومن ذلك: كور بطن الريف من أسفل الأرض، كورة ببا وبوصير، وكورتا سمنود وبوسا، وكورتا الأوسية والنجوم، وكورة دقملة، وكورتا تنيس ودمياط. ومنها: كورة الجزيرة من أسفل الأرض، وكورة دمسيس ومنوف، وكورة طوه ومنوف، وكورة سخا وبيدة والأفراحون، وكورة مقين وديصا، وكورة البشرود.

ومن ذلك كور الحوف الغربيّ: كورة صا، وكورة شباس، وكورة اليدقون وحيزها، وكورة الخيس والشراك، وكورة خربتا، وكورة قرطسا ومصيل والمليدس، وكورتا اخنا والبحيرة ورشيد، وكورة الإسكندرية، وكورة مريوط، وكورة لويبة ومراقية. ومن كور القبلة: كرى الحجاز وهي: كورة الطور وفاران، وكورة راية والقلزم، وكورة ايلة وحيزها ومدين وحيزها والعونيد والحوراء وحيزها، ثم كورة بدا أو شغب. وذكر من له معرفة بالخراج، وأمر الديوان أنه وقف على جريدة عتيقة بخط ابن عيسى بقطر بن شغا الكاتب القبطيّ المعروف: بالبولس متولي خراج مصر للدولة الإخشيدية. يشتمل على ذكر كور مصر وقراها إلى سنة خمس وأربعين وثلثمائة إن قرى مصر بالصعيدين، وأسفل الأرض ألفان وثلثمائة وخمس وتسعون قرية منها بالصعيد: تسعمائة وست وخمسون قرية، وبأسفل الأرض: ألف وأربعمائة وتسع وثلاثون قرية، وهذا عددها في الوقت الذي جرّدت فيه الجرائد المذكورة، وقد تغيرت بعد ذلك بخراب ما خرب منها. وقال ابن عبد الحكم عن الليث بن سعد رضي الله عنه: لما ولي الوليد بن رفاعة مصر، خرج ليحصي عدّة أهلها، وينظر في تعديل الخراج عليهم، فأقام في ذلك ستة أشهر بالصعيد حتى بلغ أسوان، ومعه جماعة من الكتاب، والأعوان يكفونه ذلك بجدّ وتشمير، وثلاثة أشهر بأسفل الأرض، وأحصوا من القرى أكثر من عشرة آلاف قرية، فلم يحصر في أصغر قرية منها أقل من خمسمائة جمجمة من الرجال الذين تفرض عليهم الجزية يكون جملة ذلك خمسة آلاف ألف رجل. والذي استقرّ عليه الحال في دولة الناصر (محمد بن قلاوون) أن الوجه القبلي ستة أعمال وهي من عمل قوص، وهو أجلها، ومنه أسوان وغرب قوله، وعمل أخميم، وعمل أسيوط، وعمل منفلوط، وعمل الأشمونين وبها الطحاوية، وعمل البهنساوية الغربيّ، وهو عبارة عن قرى على غربي المنهي المارّ إلى الفيوم، وعمل الفيوم، وعمل أطفيح، وعمل الجيزة. والوجه البحري ستة أعمال: عمل البحيراء، وهو متصل البرّ بالإسكندرية وبرقة، وعمل الغربية جزيرة واحدة يشتمل عليها ما بين البحرين، وهما البحر المارّ مسكبه عند دمياط ويسمى الشرقيّ، والبحر الثاني مسكبه عند رشيد ويسمى الغربي، والمنوفية ومنها: ابيار، وجزيرة بني نصر، وعمل قليوب، وعمل الشرقية، وعمل أسموم طناح ومنها: الدقهلية والمرتاحية، وهناك موقع ثغر البرلس، وثغر رشيد والمنصورة، وفي هذا الوجه الإسكندرية ودمياط ولا عمل لهما.

ذكر ما كان يعمل في أراضي مصر من حفر الترع وعمارة الجسور ونحو ذلك من أجل ضبط ماء النيل وتصريفه في أوقاته

وأما الواحات: فمنقطعة وراء الوجه القبلي مغاربة لم تعدّ في الولايات ولا في الأعمال، ولا يحكم عليها والي السلطان وإنما يحكم عليها من قبل مقطعها، والله تعالى أعلم. ذكر ما كان يعمل في أراضي مصر من حفر الترع وعمارة الجسور ونحو ذلك من أجل ضبط ماء النيل وتصريفه في أوقاته قال ابن عبد الحكم عن يزيد بن أبي حبيب: وكانت فريضة مصر بحفر خليجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفا. معهم المساحي والطوريات والأداة يعتقبون ذلك لا يدعونه شتاء ولا صيفا. وعن أبي قبيل قال: زعم بعض مشايخ أهل مصر: أن الذي كان يعمل به مصر على عهد ملوكها أنهم كانوا يقرّون القرى في أيدي أهلها كل قرية، بكراء معلوم لا ينقص عنهم إلا في كل أربع سنين من أجل الظمأ، وتنقل اليسار فإذا مضت أربع سنين نقض ذلك، وعدّل تعديلا جديدا، فيرفق بممن استحق الرفق ويزاد على من احتمل الزيادة، ولا يحمل عليهم من ذلك ما يشق عليهم، فإذا جبي الخراج وجمع كان للملك من ذلك الربع خالصا لنفسه يصنع به ما يريد، والربع الثاني لجنده ومن يقوى به على حربه وجباية خراجه ودفع عدوه، والربع الثالث في مصلحة الأرض وما تحتاج إليه من جسورها وحفر خلجها، وبناء قناطرها والقوّة للزارعين على زرعهم وعمارة أرضهم، والربع الرابع يخرج منه ربع ما يصيب كل قرية من خراجها، فيدفن ذلك لنائبة تنزل أو جائحة بأهل القرية، فكانوا على ذلك، والذي يدفن في كل قرية من خراجها هي: كنوز فرعون التي يتحدّث الناس بها أنها ستظهر فيطلبها الذين يتتبعون الكنوز. وذكر أن بعض فراعنة مصر جبى خراج مصر اثنين وسبعين ألف ألف دينار، وأن من عمارته أنه أرسل ويبة قمح إلى أسفل الأرض وإلى الصعيد في وقت تنظيف الأرض والترع من العمارة، فلم يوجد لها أرض فارغة تزرع فيها، وذكر أنه كان عند تناهي العمارة يرسل بأربع ويبات برسيم إلى الصعيد، وإلى أسفل الأرض وإلى أيّ كورة، فإن وجد لها موضعا خاليا فزرعت فيه، ضرب عنق صاحب الكورة، وكانت مصر يومئذ عمارتها متصلة أربعين فرسخا في مثلها، والفرسخ: ثلاثة أميال، والبريد: أربعة فراسخ، فتكون عشرة برد في مثلها، ولم تزل الفراعنة تسلك هذا المسلك إلى أيام فرعون موسى فإنه عمرها عدلا وسماحة، وتتابع الظمأ ثلاث سنين في أيامه، فترك لأهل مصر خراج ثلاث سنين، وأنفق على نفسه وعساكره من خزائنه، ولما كان في السنة الرابعة أضعف الخراج واستمرّ فاعتاض ما أنفق

ذكر مقدار خراج مصر في الزمن الأول

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن اسئل المقوقس عن مصر، من أين تأتي عمارتها وخرابها؟ فسأله عمرو، فقال له المقوقس: عمارتها وخرابها من وجوه خمسة: أن يستخرج خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من زروعهم، ويرفع خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم، ويحفر في كل سنة خلجانها، وتسدّ ترعها وجسورها، ولا يقبل مطل أهلها يريد البغي، فإذا فعل هذا فيها عمرت وإن عمل فيها بخلافه خربت. وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما استبطأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عمرو بن العاص رضي الله عنه، في الخراج كتب إليه: أن ابعث إليّ رجلا من أهل مصر، فبعث إليه رجلا قديما من القبطة فاستخبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مصر وخراجها قبل الإسلام فقال: يا أمير المؤمنين مصر كان لا يؤخذ منها شيء إلا بعد عمارتها، وعاملك لا ينظر إلى العمارة، وإنما يأخذ ما ظهر له كأنه لا يريدها إلا لعام واحد، فعرف عمر رضي الله عنه ما قال، وقبل من عمرو ما كان يعتذر به. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه للمقوقس: أنت وليت مصر فبم تكون عمارتها؟ فقال: بخصال أن تحفروا خلجانها، وتسدّ جسورها وترعها، ولا يؤخذ خراجها إلا من غلتها، ولا يقبل مطل أهله، ويوفي لهم بالشروط، ويدر الأرزاق على العمال لئلا يرتشوا، ويرتفع عن أهله المعاون والهدايا، ليكون قوّة لهم، فبذلك تعمر ويرجى خراجها. ويقال: إن ملوك مصر من القبط كانوا يقسمون الخراج أربعة أقسام: قسم لخاصة الملك، وقسم لأرزاق الجند، وقسم لمصالح الأرض، وقسم يدخر لحادثة تحدث فينفق فيها. ولما ولي عبيد الله بن الحبحاب خراج مصر، لهشام بن عبد الملك خرج بنفسه، فمسح أرض مصر كلها عامرها وغامرها مما يركبه النيل، فوجد فيها مائة ألف ألف فدّان، والباقي استبحر وتلف، واعتبر مدّة الحرث، فوجدها ستين يوما، والحرّاث يحرث خمسين فدّانا، وكانت محتاجة إلى أربعمائة ألف وثمانين ألف حرّاث. ذكر مقدار خراج مصر في الزمن الأوّل قال ابن وصيف شاه: وكان منقاوس «1» قسم خراج البلاد أرباعا، فربع للملك خاصة يعمل فيه ما يريد، وربع ينفق في مصالح الأرض وما تحتاج إليه من عمل الجسور وحفر

الخلج وتقوية أهلها على العمارة، وربع يدفن لحادثة تحدث أو نازلة تنزل، وربع للجند، وكان خراج البلد ذلك الوقت مائة ألف ألف وثلاثة آلاف ألف دينار وقسمها على مائة وثلاث كور بعدّة الآلاف. ويقال: إن كل دينار عشرة مثاقيل من مثاقيلنا الإسلامية وهي اليوم: خمس وثمانون كورة. أسفل الأرض: خمس وأربعون كورة، والصعيد: أربعون كورة، وفي كل كورة كاهن يدبرها، وصاحب حرب وارتفع مال البلد على يد ندارس بن صا مائة ألف ألف دينار وخمسين ألف ألف دينار، وفي أيام كلكن بن خربتا بن ماليق بن ندارس مائة ألف ألف دينار وبضعة عشر ألف ألف دينار ولما زالت دولة القبط الأولى من مصر وملكها العمالقة اختل أمرها، وكان فرعون الأوّل يجبيها تسعين ألف ألف دينار يخرج من ذلك عشرة آلاف ألف دينار لأولياء الأمر والجند والكتّاب، وعشرة آلاف ألف دينار لمصالح فرعون، ويكنزون لفرعون خمسين ألف ألف دينار. وبلغ خراج مصر في أيام الريان بن الوليد وهو فرعون يوسف عليه السلام، سبعة وتسعين ألف ألف دينار، فأحب أن يتمه مائة ألف ألف دينار، فأمر بوجوه العمارات وإصلاح جسور البلد، والزيادة في استنباط الأرض حتى بلغ ذلك وزاد عليه. وقال ابن دحية: وجبيت مصر في أيام الفراعنة فبلغت تسعين ألف ألف دينار بالدينار الفرعونيّ وهو ثلاثة مثاقيل في مثقالنا المعروف الآن بمصر الذي هو: أربعة وعشرون قيراطا، كل قيراط: ثلاث حبات من قمح، فيكون بحساب ذلك مائتي ألف ألف وسبعين ألف ألف دينار مصرية. وذكر الشريف الجوّاني «1» : أنه وجد في بعض البرابي بالصعيد مكتوبا باللغة الصعيدية مما نقل بالعربية مبلغ ما كان يستخرج لفرعون يوسف عليه السلام، وهو الريان بن الوليد من أموال مصر بحق الخراج مما يوجبه الخراج، وسائر وجوه الجبايات لسنة واحدة على العدل والإنصاف، والرسوم الجارية من غير تأوّل ولا اضطهاد ولا مشاحة على عظيم فضل كان في يد المؤدي لرسمه وبعد وضع ما يجب وضعه لحوادث الزمان نظرا للعاملين وتقوية لحالهم من العين أربعة وعشرون ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، وذكر ما فيه كما في خبر الحسن بن علي الأسدي. وقال الحسن بن علي الأسدي: أخبرني أبي قال: وجدت في كتاب قبطي باللغة

ذكر ما عمله المسلمون عند فتح مصر في الخراج وما كان من أمر مصر في ذلك مع القبط

الصعيدية، مما نقل إلى اللغة العربية أن مبلغ ما كان يستخرج لفرعون مصر بحق الخراج الذي يوجد وسائر وجوه الجبايات لسنة كاملة على العدل والإنصاف والرسوم الجارية من غير اضطهاد ولا مناقشة على عظيم فضل كان في يد المؤدّي لرسمه وبعد وضع ما يجب وضعه لحوادث الزمان رفقا بالمعاملين وتقوية لهم من العين أربعة وعشرين ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار من جهات مصر، وذلك ما يصرف في عمارة البلاد لحفر الخلج وإتقان الجسور، وسدّ الترع وإصلاح السبل، والساسة ثم في تقوية من يحتاج التقوية من غير رجوع عليه بها لإقامة العوامل والتوسعة في البدار وغير ذلك، وثمن الآلات وأجرة من يستعان به من الأجراء لحمل الأصناف، وسائر نفقات تطريق أراضيهم من العين ثمانمائة ألف دينار، ولما يصرف في أرزاق الأولياء الموسومين بالسلاح وحملته والغلمان، وأشياعهم مع ألف كاتب موسومين بالدواوين سوى أتباعهم من الخزان، ومن يجري مجراهم وعدّتهم مائة ألف وأحد عشر ألف رجل من العين ثمانية آلاف ألف دينار، ولما يصرف في الأرامل، والأيتام فرضا لهم من بيت المال، وإن كانوا غير محتاجين إليه حتى لا تخلو آمالهم من برّ يصل إليهم من العين أربعمائة ألف دينار، ولما يصرف في كهنة برابيهم، وأئمتهم وسائر بيوت صلواتهم من العين مائة ألف دينار، ولما يصرف في الصدقات، وينادى في الناس: برئت الذمة من رجل كشف وجهه لفاقة، فليحضر فلا يرد عند ذلك أحد، والأمناء جلوس فإذا رؤي رجل لم تجر عادته بذلك أفرد بعض قبض ما يقبضه، حتى إذا فرّق المال، واجتمع من هذه الطائفة عدّة دخل أمناء فرعون إليه وهنوه بتفرقة المال، ودعوا له بالبقاء والسلامة وأنهوا حال الطائفة المذكورة، فيأمر بتغيير شعثها بالحمام واللباس، وبمدّ الأسمطة، ويأكلون ويشربون، ثم يستعلم من كلواحد سبب فاقته، فإن كان من آفة الزمان ردّ عليه مثل ما كان وأكثر، وإن كان عن سوء رأي وضعف تدبير ضمه إلى من يشرف عليه، ويقوم بالأمر الذي يصلح له من العين مائتا ألف دينار. فذلك جملة ما تبين، وفصل في هذه الجهات المذكورة من العين تسعة آلاف ألف وثمانمائة ألف دينار، ويحصل بعد ذلك ما يتسلمه فرعون في بيوت أمواله عدّة لنوائب الدهر، وحادثات الزمان من العين أربعة عشر ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار. وقيل لبعضهم: متى عقدت مصر تسعين ألف ألف دينار؟ قال: في الوقت الذي أرسل فرعون بويبة قمح إلى أسفل الأرض وإلى الصعيد فلم يجد لها موضعا تبذر فيه لشغل جميع البلاد بالعمارة. ذكر ما عمله المسلمون عند فتح مصر في الخراج وما كان من أمر مصر في ذلك مع القبط قال زهير بن معاوية: حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«منعت العراق درهمها وقفيزها «1» ، ومنعت الشام مدّها «2» ودينارها، ومنعت مصر إردبها «3» وعدتم من حيث بدأتم» . قال أبو عبيد: قد أخبر صلى الله عليه وسلم بما لم يكن، وهو في علم الله كائن فخرّج لفظه على لفظ الماضي لأنه ماض في علم الله وفي إعلامه بهذا قبل وقوعه، ما دل على إثبات نبوّته، ودل على رضاه من عمر رضي الله عنه ما وظفه على الكفرة من الخراج في الأمصار. وفي تفسير المنع وجهان: أحدهما: أنه علم أنهم سيسلمون ويسقط عنهم ما وظف عليهم، فصاروا مانعين بإسلامهم ما وظف عليهم، يدل عليه قوله: «وعدتهم من حيث بدأتم» . وقيل معناه: أنهم يرجعون عن الطاعة، والأوّل أحسن. وقال ابن عبد الحكم عن عبيد الله لن لهيعة: لما فتح عمرو بن العاص مصر صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ولا صبيّ ولا شيخ على دينارين دينارين، فأحصوا ذلك، فبلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف. وعن هشام بن أبي رقية اللخميّ: أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر: إن من كتمني كنزا عنده فقدرت عليه قتلته، وإنّ قبطيا من أرض الصعيد يقال له: بطرس، ذكر لعمرو: إن عنده كنزا فأرسل إليه فسأله، فأنكر، وجحد فحبسه في السجن، وعمرو يسأل عنه: هل تسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا: لا، إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور، فأرسل عمرو إلى بطرس، فنزع خاتمه، ثم كتب إلى ذلك الراهب: أن ابعث إليّ بما عندك، وختمه بخاتمه، فجاء الرسول بقلّة شامية مختومة بالرصاص، ففتحها عمرو، فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها: (ما لكم تحت الفسقية «4» الكبيرة) فأرسل عمرو إلى الفسقية، فحبس عنها الماء، ثم قلع البلاط الذي تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مصريا مضروبة، فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد، فأخرج القبط كنوزهم شفقا أن يبغي على أحد منهم، فيقتل كما قتل بطرس. وعن يزيد بن أبي حبيب: أن عمرو بن العاص، استحل مال قبطيّ من قبط مصر لأنه

استقرّ عنده أنه يظهر الروم على عورات المسلمين، ويكتب إليهم بذلك، فاستخرج منه بضعا وخمسين أردبا دنانير. قال ابن عبد الحكم: وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه، يبعث إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه، وكانت فريضة مصر لحفر خلجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفا معهم الطور والمساحي والأداة يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفا ولا شتاء، ثم كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن تختم في رقاب أهل الذمّة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم ويركبوا على الأكف عرضا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرتعليه الموسى، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان، ولا تدعهم يتشبهون بالمسلمين في ملبوسهم. وعن يزيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد: أن لا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى، وجزيتهم أربعون درهما على أهل الورق، وأربعة دنانير على أهل الذهب، وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدّان من حنطة، وثلاثة أقساط من زيت في كل شهر لكل إنسان من أهل الشام، والجزيرة، وودك «1» وعسل لا أدري كم هو، ومن كان من أهل مصر، فأردب في كل شهر لكل إنسان، ولا أدري كم الودك والعسل، وعليهم من البز الكسوة التي يكسوها أمير المؤمنين الناس ويضيفون من نزل بهم من أهل الإسلام ثلاثة أيام وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا لكل إنسان، ولا أدري كم لهم من الودك، وكان لا يضرب الجزية على النساء والصبيان، وكان يختم في أعناق رجال أهل الجزية، وكانت ويبة عمر في ولاية عمرو بن العاص: ستة أمداد. قال: وكان عمرو بن العاص، لما استوثق له الأمر أقرّ قبطها على جباية الروم، فكانت جبايتهم بالتعديل إذا عمرت القرية، وكثر أهلها زيد عليهم، وإن قل أهلها وخربت نقصوا، فيجتمع عرّافوا كل قرية وأمراءها ورؤساء أهلها فيتناظرون في العمارة والخراب حتى إذا أقرّوا من القسم بالزيادة انصرفوا بتلك القسمة إلى الكور، ثم اجتمعوا هم ورؤساء القرى، فوزعوا ذلك على احتمال القرى وسعة المزارع، ثم يجتمع كل قرية بقسمهم فيجمعون قسمهم وخراج كل قرية، وما فيها من الأرض العامرة، فيبتدئون ويخرجون من الأرض فدّادين لكنائسهم وحماياتهم ومعدياتهم من جملة الأرض، ثم يخرج منها عدد الضيافة للمسلمين، ونزول السلطان فإذا فرغوا نظروا لما في كل قرية من الصناع والأجراء فقسموا عليهم بقدر احتمالهم، فإن كانت فيهم جالية قسموا عليها بقدر احتمالها، وقلما كانت تكون إلا لرجل الشاب أو المتزوج ثم ينظرون ما بقي من الخراج، فيقسمونه بينهم

على عدد الأرض، ثم يقسمون ذلك بين من يريد الزرع منهم على قدر طاقتهم، فإنن عجز أحد منهم وشكا ضعفا عن زرع أرضه، وزعوا ما عجز عنه على ذوي الاحتمال، وإن كان منهم من يريد الزيادة أعطي ما عجز عنه أهل الضعف، فإن تشاحوا قسموا ذلك على عدّتهم، وكانت قسمتهم على قراريط الدنانير أربعة وعشرين قيراطا «1» يقسمون الأرض على ذلك. ولذلك روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا» . وجعل لكل فدان عليهم: نصف أردب قمح، وويبتين من شعير إلا القرظ «2» فلم يكن عليه ضريبة، والويبة ستة أمداد، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ ممن صالحه من المعاهدين ما سمى على نفسه لا يضع من ذلك شيئا، ولا يزيد عليه، ومن نزل منهم على الجزية ولم يسم شيئا يؤدّيه نظر عمر في أمره فإذا احتاجوا خفف عنهم، وإن استغنوا زاد عليهم بقدر استغنائهم. وقال هشام بن أبي رقية اللخمي: قدم صاحب أخنا على عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال له: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها؟ فقال عمرو، وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، ومن ذهب إلى هذا الحديث ذهب إلى أن مصر فتحت عنوة. وعن يزيد بن أبي حبيب قال: قال عمر بن عبد: العزيز أيّما ذميّ أسلم فإن إسلامه يحرز له نفسه وماله، وما كان من أرض فإنها من فيء الله على المسلمين، وأيما قوم صالحوا على جزية يعطونها فمن أسلم منهم كانت داره وأرضه لبقيتهم. وقال الليث: كتب إليّ يحيى بن سعيد: أن ما باع القبط في جزيتهم، وما يؤخذون به من الحق الذي عليهم من عبد أو وليدة أو بعير أو بقرة أو دابة فإن ذلك جائز عليهم، فمن ابتاعه منهم فهو غير مردود عليهم أن أيسروا وما أكروا من أرضهم فجائز كراؤه إلا أن يكون يضر بالجزية التي عليهم فلعل الأرض إن ترد عليهم أن أضرت بجزيتهم وإن كان فضلا بعد الجزية، فإنا نرى كراءها جائزا لمن يكراها منهم. قال يحيى: فنحن نقول: الجزية جزيتان: جزية على رؤوس الرجال، وجزية جملة

تكون على أهل القرية يؤخذ بها أهل القرية، فمن هلك من أهل القرية التي عليهم جزية مسماة على القرية ليست على رؤوس الرجال، فإنا نرى أنّ من هلك من أهل القرية ممن لا ولد له ولا وارث إن أرضه ترجع إلى قريته في جملة ما عليهم من الجزية، ومن هلك ممن جزيته على رؤوس الرجال، ولم يدع وارثا فإن أرضه للمسلمين. وقال الليث عن عمر بن العزيز: الجزية على الرءوس وليست على الأرضين، يريد أهل الذمّة. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح: أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم، وهذا يدل على أنّ عمر كان يرى أنّ أرض مصر فتحت عنوة، وأن الجزية إنما هي على القرى، فمن مات من أهل القرى كانت تلك الجزية ثابتة عليهم وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم من الجزية شيئا. قال: ويحتمل أن تكون مصر فتحت بصلح فذلك الصلح ثابت على من بقي منهم وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم ممن صالحوا عليه شيئا. قال الليث: وضع عمر بن عبد العزيز الجزية على من أسلم من أهل الذمّة من أهل مصر، وألحق في الديوان صلح من أسلم منهم في عشائر من أسلموا على يديه، وكانت تؤخذ قبل ذلك ممن أسلم، وأوّل من أخذ الجزية ممن أسلم من أهل الذمّة: الحجاج بن يوسف، ثم كتب عبد الملك بن مروان إلى عبد العزيز بن مروان: أن يضع الجزية على من أسلم من أهل الذمّة، فكلمه ابن حجيرة في ذلك فقال: أعيذك بالله أيها الأمير أن تكون أوّل من سنّ ذلك بمصر، فو الله إن أهل الذمّة ليتحملون جزية من ترهب منهم، فكيف نضعها على من أسلم منهم فتركهم عند ذلك. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح: أن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، فإن الله تبارك وتعالى قال: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة/ 5] ، وقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة/ 29] . وكتب حيان بن شريح إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينارا تمت بها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل، فكتب إليه عمر: أما بعد: فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر، وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطا، فضع الجزية عن من أسلم قبح الله رأيك فإن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه.

قال: ولما استبطأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخراج من قبل عمرو بن العاص كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص سلام الله عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوّة في برّ وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملا محكما مع شدّة عتوهم وكفرهم فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدّي نصف ما كانت تؤدّيه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط، ولا جدب، وقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر، ورجوت أن تفيق فترفع إليّ ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها لا توافق الذي في نفسي لست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي، وقبضك، فلئن كنت مجرّبا كافيا صحيحا إن البراءة لنافعة، وإن كنت مضيعا نطعا إن الأمر لعلى غير ما تحدّث به نفسك، وقد تركت أن أبتلي ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق، فترفع إليّ ذلك وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا أن أعمالك عمال السوء، وما توالس عليك وتلفف اتخذوك كهفا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطاه، فإن النهر يخرج الدرّ والحق أبلج ودعني وما عنه تلجلج، فإنه قد برح الخفاء والسلام. فكتب إليه عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فقد بلغني كتابك أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج والذي ذكر فيها من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها مذ كان الإسلام، ولعمري للخراج يومئذ أوفر وأكثر، والأرض أعمر لأنهم كانوا على كفرهم، وعتوّهم أرغب في عمارة أرضهم منا مذ كان الإسلام، وذكرت أن النهر يخرج الدر، فحلبتها حلبا قطع درها، وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وتربت وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبر، فجئت لعمري بالمقطعات المقدّعات، ولقد كان لك فيه من الصواب من القول رصين صارم بليغ صادق، ولقد عملنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن بعده، فكنا نحمد الله مؤدّين لأماناتنا حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا نرى غير ذلك قبيحا، والعمل به شينا، فتعرف ذلك لنا وتصدّق فيه قلبنا معاذ الله من تلك الطعم ومن شرّ الشيم، والاجتراء على كل مأثم، فامض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية، والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا، ولم تكرم فيه أخا، والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشدّ غضبا لنفسي ولها إنزاها وإكراما، وما عملت من عمل أرى عليه فيه متعلقا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت، يغفر الله لك ولنا، وسكتّ عن أشياء كنت بها عالما وكان اللسان

بها مني ذلولا، ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل. فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإني قد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج، وكتابك إلى بثنيات الطرق، وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدّمك إلى مصر أجعلها لك طعمة، ولا لقومك ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج، وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قوم محصورون، والسلام. فكتب إليه عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب، من عمرو بن العاص سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج ويزعم أني أحيد عن الحق، وأنكث عن الطريق، وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم، ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم، فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرا من أن نخرق بهم، فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه، والسلام. وقال الليث بن سعد رضي الله عنه: جباها عمرو بن العاص رضي الله عنه اثني عشر ألف ألف دينار، وجباها المقوقس قبله لسنة عشرين ألف ألف دينار، فعند ذلك كتب إليه عمر بن الخطاب بما كتب، وجباها عبد الله بن سعد بن سرح حين استعمله عثمان رضي الله عنه على مصر أربعة عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو بن العاص بعد ما عزله عن مصر: (يا أبا عبد الله درت اللقحة بأكثر من درها الأوّل) . قال: أضررتم بولدها، فقال: ذلك أن لم يمت الفصيل. وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى وردان» ، وكان قد ولي خراج مصر: أن زد على كل رجل من القبط قيراطا، فكتب إليه وردان: كيف نزيد عليهم وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم شيء؟ فعزله معاوية وقيل في عزل وردان غير ذلك. وقال ابن لهيعة: كان الديوان في زمان معاوية أربعين ألفا، وكان منهم أربعة آلاف في مائتين مائتين، فأعطى مسلمة «2» بن مخلد أهل الديوان عطياتهم، وعطيات عيالهم، وأرزاقهم ونوائب البلاد من الجسور، وأرزاق الكتبة وحملان القمح إلى الحجاز، ثم بعث إلى معاوية بستمائة ألف دينار فضل.

ذكر انتقاض القبط وما كان من الأحداث في ذلك

وقال ابن عفير: فلما نهضت الإبل لقيهم برح بن كسحل المهري فقال: ما هذا؟ ما بال مالنا يخرج من بلادنا؟ ردّوه، فردّوه حتى وقف على باب المسجد، فقال: أخذتم عطياتكم، وأرزاقكم وعطاء عيالكم ونوائبكم، قالوا: نعم، قال: لا بارك الله لهم فيه خذوه فساروا به. وقال بعضهم: جبى عمرو بن العاص عشرة آلاف دينار فكتب إليه عمر بن الخطاب بعجزه، ويقول له جباية الروم: عشرون ألف ألف دينار فلما كان العام المقبل جباه عمرو اثني عشر ألف ألف دينار، وقال ابن لهيعة: جبى عمرو بن العاص الإسكندرية الجزية ستمائة ألف دينار، لأنه وجد فيها ثلاثمائة ألف من أهل الذمّة فرض عليهم دينارين دينارين، والله تعالى أعلم. ذكر انتقاض القبط وما كان من الأحداث في ذلك خرّج الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كيف أنتم إذا لم تجبوا دينارا ولا درهما؟ قالوا: وكيف نرى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟ قال: إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق والمصدوق، قالوا: عم ذلك؟ قال: تنتهك ذمّته وذمّة رسوله فيشدّ الله عز وجل قلوب أهل الذمّة فيمنعون ما في أيديهم. قال أبو عمرو محمد بن يوسف «1» الكنديّ في كتاب أمراء مصر، وأمرة الحرّ «2» بن يوسف أمير مصر كتب عبد الله بن الحبحاب صاحب خراجها إلى هشام بن عبد الملك، بأنّ أرض مصر تحتمل الزيادة، فزاد على كل دينار قيراطا، فانتقصت كورة تنو ونمي وقربيط وطرابية، وعامة الحوف الشرقيّ، فبعث إليهم الحر بأهل الديوان، فحاربوهم فقتل منهم بشر كثير، وذلك أول انتقاض القبط بمصر، وكان انتقاضهم في سنة سبع ومائة، ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر، ثم انتقض أهل الصعيد، وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة، فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر، أهل الديوان، فقتلوا من القبط ناسا كثيرا، وظفر بهم وخرج- بخنس- رجل من القبط في سمنود، فبعث إليه عبد الملك بن مروان: موسى بن نصير أمير مصر، فقتل- بخنس- في كثير من أصحابه، وذلك في سنة اثنين وثلاثين ومائة، وخالفت القبط برشيد. فبعث إليهم مروان بن محمد الجعديّ لما دخل مصر فارا من بني العباس، بعثمان بن

ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع معاشا وما كان في نزولهم من الأحداث

أبي قسعة، فهزمهم، وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا، ونابذوا العمال وأخرجوهم، وذلك في سنة خمسين ومائة، وصاروا إلى شبرا سنباط، وانضم إليهم أهل اليشرود والأريسية والنجوم، فأتى الخبر يزيد بن حاتم، فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان، ووجوه مصر، فخرجوا إليهم فبتهم القبط، وقتلوا من المسلمين. فألقى المسلمون النار في عسكر القبط، وانصرف المسلمون إلى مصر منهزمين. وفي ولاية موسى بن عليّ بن رباح على مصر خرج القبط ببلهيب في سنة ست وخمسين ومائة، فخرج إليهم عسكر فهزمهم، ثم انتقضوا مع من انتقض في سنة ست عشرة ومائتين، فأوقع بهم الأفشين في ناحية اليشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين، عبد الله المأمون، فحكم فيهم بقتل الرجال، وبيع النساء والأطفال. فبيعوا وسبى أكثرهم. ومن حينئذ أذل الله القبط في جميع أرض مصر، وخذل شوكتهم فلم يقدر أحد منهم على الخروج، ولا القيام على السلطان، وغلب المسلمون على القرى، فعاد القبط من بعد ذلك إلى كيد الإسلام وأهله بإعمال الحيلة، واستعمال المكر، وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج، وكان للمسلمين فيهم وقائع يأتي خبرها في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع معاشا وما كان في نزولهم من الأحداث قال الكندي: وفي ولاية الوليد بن رفاعة الفهميّ «1» على مصر، نقلت قيس إلى مصر في سنة تسع ومائة، ولم يكن بها أحد منهم قبل ذلك إلا ما كان من فهم وعدوان، فوفد ابن الحبحاب على هشام بن عبد الملك، فسأله أن ينقل إلى مصر منهم أبياتا، فأذن له هشام في لحاق ثلاثة آلاف منهم، وتحويل ديوانهم إلى مصر على أن لا ينزلهم بالفسطاط، فعرض لهم ابن الحبحاب وقدم بهم فأنزلهم الحوف الشرقيّ، وفرّقهم فيه. ويقال: إن عبيد الله بن الحبحاب لما ولاه هشام بن عبد الملك مصر قال: ما أرى لقيس فيها حظا إلا لناس من جديلة وهم فهم وعدوان. فكتب إلى هشام: إنّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قد شرّف هذا الحيّ من قيس ونعشهم ورفع من ذكرهم وإني قدمت مصر، ولم أر لهم حظا إلا أبياتا من فهم، وفيها كور ليس فيها أحد، وليس يضر بأهلها نزولهم

معهم، ولا يكسر ذلك خراجا وهي بلبيس. فإن رأى أمير المؤمنين أن ينزلها هذا الحي من قيس، فليفعل. فكتب إليه هشام: أنت وذاك، فبعث إلى البادية فقدم عليه مائة أهل بيت من بني نضر، ومائة أهل بيت من بني سليم، فأنزلهم بلبيس، وأمرهم بالزرع، ونظر إلى الصدقة من العشور فصرفها إليهم، فاشتروا إبلا فكانوا يحملون الطعام إلى القلزم، وكان الرجل يصيب في الشهر العشرة دنانير وأكثر، ثم أمرهم باشتراء الخيول فجعل الرجل يشتري المهر، فلا يمكث إلّا شهرا حتى يركب، وليس عليهم مؤونة في علف إبلهم ولا خيلهم لجودة مرعاهم. فلما بلغ ذلك عامة قومهم تحملوا إليهم فوصل إليهم خمسمائة أهل بيت من البادية، فكانوا على مثل ذلك فأقاموا سنة فأتاهم نحو من خمسمائة أهل بيت، فصار ببلبيس: ألف وخمسمائة أهل بيت من قيس، حتى إذا كان زمن مروان بن محمد، وولى الحوثرة بن سهيل الباهلي مصر. مالت إليه قيس فمات مروان، وبها ثلاث آلاف أهل بيت، ثم توالدوا وقدم عليهم من البادية من قدم. وفي سنة ثمان وسبعين ومائة، كشف إسحاق بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس أمير مصر أمر الخراج، وزاد على المزارعين زيادة أجحفت بهم، فخرج عليهم أهل الحوف وعسكروا فبعث إليهم الجيوش، وحاربهم فقتل من الجيش جماعة، فكتب إلى أمير المؤمنين: هارون الرشيد يخبره بذلك، فعقد لهرثمة بن أعين في جيش عظيم، وبعث به إلى مصر، فنزل الحوف وتلقاه أهله بالطاعة، وأذعنوا بأداء الخراج فقبل هرثمة منهم واستخرج خراجه كله، ثم إن أهل الحوف خرجوا على الليث بن الفضل البيودي أمير مصر، وذلك أنه بعث بمساح يمسحون عليهم أراضي زرعهم، فانتقصوا من القصبة «1» أصابع فتظلم الناس إلى الليث، فلم يسمع منهم فعسكروا، وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم الليث في أربعة آلاف من جند مصر في شعبان سنة ست وثمانين ومائة، فالتقى معهم في رمضان فانهزم عنه الجند في ثاني عشره وبقي في نحو المائتين، فحمل بمن معه على أهل الحوف، فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة، وكان التقاؤهم على أرض جب عميرة، وبعث الليث إلى الفسطاط بثمانين رأسا من رؤوس القيسية، ورجع إلى الفسطاط، وعاد أهل الحوف إلى منازلهم، ومنعوا الخراج. فخرج ليث إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد في محرم سنة سبع وثمانين ومائة، وسأله أن يبعث معه بالجيوش فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش يبعث معه، وكان محفوظ بن سليم بباب الرشيد، فرفع محفوظ إلى الرشيد يضمن له خراج مصر

عن آخره بلا سوط ولا عصا، فولاه الخراج، وصرف ليث بن الفضل عن صلاة مصر، وخراجها، وفي ولاية الحسين بن جميل امتنع أهل الحوف من أداء الخراج، فبعث أمير المؤمنين هارون الرشيد يحيى بن معاذ في أمرهم فنزل بلبيس في شوال سنة إحدى وتسعين ومائة، وصرف الحسين بن جميل عن أمارة مصر في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين ومائة. وولى مالك بن دلهم، وفرغ يحيى بن معاذ من أمر الحوف، وقدم الفسطاط في جمادى الآخرة، فورد عليه كتاب الرشيد، يأمره بالخروج إليه فكتب إلى أهل الحوف: أن اقدموا حتى أوصي بكم مالك بن دلهم، وأدخل بينكم وبينه في أمر خراجكم، فدخل كل رئيس منهم من اليمانية والقيسية، وقد أعدّ لهم القيود فأمر بالأبواب، فأخذت ثم دعا بالحديد، فقيدهم وتوجه بهم للنصف من رجب منها. وفي أمارة عيسى بن يزيد الجلوديّ على مصر ظلم، صالح بن شيرزاد عامل الخراج الناس، وزاد عليهم في خراجهم، فانتقض أهل أسفل الأرض وعسكروا، فبعث عيسى بابنه محمد في جيش لقتالهم، فنزل بلبيس، وحاربهم فنجا من المعركة بنفسه، ولم ينج أحد من أصحابه وذلك في صفر سنة أربع عشرة ومائتين، فعزل عيسى عن مصر. وولى عمير بن الوليد التميميّ فاستعدّ لحرب أهل الحوف، وسار في جيوشه في ربيع الآخر، فزحفوا عليه واقتتلوا، فقتل من أهل الحوف جمع وانهزموا، فتبعهم عمير في طائفة من أصحابه، فعطف عليه كمين لأهل الحوف، فقتلوه لست عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر. فولى عيسى الجلودي ثانيا، وسار إليهم فلقيهم بمنية مطر فكانت بينهم وقعة آلت إلى أن انهزم منهم إلى الفسطاط، وأحرق ما ثقل عليه من رحله، وخندق على الفسطاط وذلك في رجب، وقدم أبو إسحاق بن الرشيد من العراق فنزل الحوف، وأرسل إلى أهله فامتنعوا من طاعته، فقاتلهم في شعبان ودخل وقد ظفر بعدة من وجوههم إلى الفسطاط في شوال، ثم عاد إلى العراق في المحرّم سنة خمس عشرة ومائتين بجمع من الأسارى. فلما كان في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين انتقض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد، وقبطها وأخرجوا العمال، وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيهم، فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب امتدّت إلى أن قدم الخليفة عبد الله أمير المؤمنين المأمون إلى مصر لعشر خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسخط على عيسى بن منصور الرافقي، وكان على أمارة مصر وأمر بحل لوائه، وأخذه بلباس البياض عقوبة له. وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد. ثم عقد المأمون على جيش بعث به إلى الصعيد، وارتحل هو إلى سخا، وبعث

بالأفشين «1» إلى القبط وقد خلعوا الطاعة، فأوقع بهم في ناحية البشرود، وحصرهم حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين، فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال، وبيع النساء والأطفال، فسبى أكثرهم، وتتبع المأمون كل من يومي إليه بخلاف، فقتل ناسا كثيرا، ورجع إلى الفسطاط في صفر ومضى إلى حلوان، وعاد فارتحل لثمان عشرة خلت من صفر، وكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوما. وكان خراج مصر قد بلغ في أيام المأمون على حكم الإنصاف في الجباية أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف دينار وسبعة وخمسين ألف دينار. ويقال: إن المأمون، لما سار في قرى مصر كان يبني له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقة والعساكر من حوله، وكان يقيم في القرية يوما وليلة، فمرّ بقرية يقال لها: طاء النمل، فلم يدخلها لحقارتها، فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهي تصيح، فظنها المأمون مستغيثة متظلمة، فوقف لها وكان لا يمشي أبدا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس، فذكروا له إن القبطية قالت: يا أمير المؤمنين، نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي، والقبط تعيرني بذلك، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف، ولعقبي، ولا تشمت الأعداء بي، وبكت بكاء كثيرا. فرقّ لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ، وسأله كم تحتاج من الغنم والدجاج والفراخ والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة، وغير ذلك مما جرت به عادته، فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة. وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس، وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن داود، فأحضرت لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده، ولم تكل أحدا منهم ولا من القوّاد إلى غيره، ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئا كثيرا، حتى أنه استعظم ذلك. فلما أصبح، وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشر وصائف مع كل وصيفة طبق. فلما عاينها المأمون من بعد. قال لمن حضر: قد جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناه والصبر فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته. فقالت: لا والله لا أفعل فتأمّل الذهب، فإذا به ضرب عام واحد كله، فقال: هذا والله أعجب، ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك. فقالت: يا أمير المؤمنين، لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا، فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية، ولا نحب التثقيل عليك فردّي مالك بارك الله فيك، فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين، هذا وأشارت إلى الذهب، من هذا وأشارت إلى الطينة التي

ذكر قبالات أراضي مصر بعد ما فشا الإسلام في القبط ونزول العرب في القرى وما كان من ذلك إلى الروك الأخير الناصري

تناولتها من الأرض، ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها، وأقطعها عدّة ضياع، وأعطاها من قريتها طاء النمل مائتي فدّان بغير خراج، وانصرف متعجبا من كبر مروءتها وسعة حالها. ذكر قبالات أراضي مصر بعد ما فشا الإسلام في القبط ونزول العرب في القرى وما كان من ذلك إلى الروك الأخير الناصري وكان من خبر أراضي مصر بعد نزول العرب بأريافها واستيطانهم وأهاليهم فيها واتخاذهم الزرع معاشا وكسبا وانقياد جمهور القبط إلى إظهار الإسلام واختلاط أنسابهم بأنساب المسلمين لنكاحهم المسلمات، أنّ متولي خراج مصر كان يجلس في جامع عمرو بن العاص من الفسطاط في الوقت الذي تتهيأ فيه قبالة الأراضي، وقد اجتمع الناس من القرى والمدن فيقوم رجل ينادي على البلاد صفقات صفقات، وكتاب الخراج بين يدي متولي الخراج يكتبون ما ينتهي إليه مبالغ الكور والصفقات على من يتقبلها من الناس، وكانت البلاد يتقبلها متقبلوها بالأربع سنين لأجل الظمأ والاستبحار، وغير ذلك فإذا انقضى هذا الأمر، خرج كل من كان تقبل أرضا وضمنها إلى ناحيته فيتولى زراعتها، وإصلاح جسورها وسائر وجوه أعمالها بنفسه وأهله، ومن ينتدبه لذلك، ويحمل ما عليه من الخراج في إبائه على أقساط ويحسب له من مبلغ قبالته، وضمانه لتلك الأراضي ما ينفقه على عمارة جسورها وسدّ تراعها وحفر خلجها بضرائب مقدّرة في ديوان الخراج، ويتأخر من مبلغ الخراج في كل سنة في جهات الضمان والمتقبلين. يقال: لما تأخر من مال الخراج البواقي وكانت الولاة تشدّد في طلب ذلك مرّة وتسامح به مرّة، فإذا مضى من الزمان ثلاثون سنة حوّلوا السنة، وراكوا البلاد كلها، وعدّلوها تعديلا جديدا، فزيد فيما يحتمل الزيادة من غير ضمان البلاد، ونقص فيما يحتاج إلى التنقيص منها، ولم يزل ذلك يعمل في جامع عمرو بن العاص إلى أن عمّر أحمد بن طولون جامعه وصار العسكر منزلا لأمراء مصر. فنقل الديوان إلى جامع أحمد بن طولون، ثم نقل أيام العزيز بالله نزار إلى دار الوزير يعقوب بن كلس، فلما مات الوزير نقل الديوان إلى القصر بالقاهرة، واستمرّ به مدّة الدولة الفاطمية، ثم نقل منه بعدها وسأتلوا عليك من نبأ ذلك ما يتضح به ما ذكرت. قال ابن ذولاق في كتاب أخبار الماردانيين كتاب مصر: وحضر أبو الحسن وهب بن إسماعيل، مجلس أبي بكر بن عليّ المارداني في المسجد الجامع، وهو يعقد الضياع، فقال له أبو بكر: الساعة آمر بالنداء على صفقة فخذها شركة بيني وبينك، فنودي على صفقة، فقال أبو بكر: اعقدوها على أبي الحسن، فعقدت عليه، وتحملها فأفضلت له

أربعين ألف دينار فاستنض عشرين ألف دينار، ولم يدر ما يعمل فيها إلى أن اجتمع مع أبي يعقوب- كاتب أبي بكر- ليتحدثا، فقال أبو يعقوب: رأيت الشيخ- يعني أبا بكر الماردانيّ- في اليوم مشغول القلب أراد جمع مال، وقد عجز عنه، فقال له أبو الحسن: عندي نحو عشرين ألف دينار، فقال: جئني بها فأنفذها إليه، وجاءه خطه بالمبلغ فاتفق أن مضى أبو الحسن إلى أبي بكر الماردانيّ، فقال له: تلك الصفقة قد غلقت ما عليها وفضل أربعون ألف دينار، وقد حصل عندي عشرون ألف دينار حملتها إلى أبي يعقوب، وأرسلت في استخراج الباقي فأحمله، فقال الماردانيّ: ما هذا العجز؟ إنما قلت لك: تكون بيني وبينك خوفا من تفريطك، وإنما أردت حفظ المال عليك ثم أمر أبا يعقوب أن يردّ عليه ما دفعه إليه، وقال لأبي الحسن: ردّ عليه خطه فقبض ما دفعه إلى أبي يعقوب. وبلغ خراج مصر في السنة التي دخل فيها جوهر القائد ثلاثة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار ونيفا. وقال في كتاب سيرة المعز لدين الله: معدّ ولست عشرة بقيت من المحرّم سنة ثلاث وستين وثلثمائة، قلد المعز لدين الله الخراج، ووجوه الأموال، وغير ذلك: يعقوب بن كلس، وعسلوج بن الحسن، وجلسا في هذا اليوم في دار الإمارة في جامع ابن طولون للنداء على الضياع، وسائر وجوه الأموال، وحضر الناس للقبالات، وطلبوا البقايا من الأموال مما على المالكين والمتقبلين والعمال. وقال جامع سيرة الوزير الناصر للدين الحسن بن عليّ اليازوري «1» : وأراد أن يعرف قدر ارتفاع الدولة وما عليها من النفقات ليقايس بينهما، فتقدّم إلى أصحاب الدواوين بأن يعمل كل منهم ارتفاع ما يجري في ديوانه، وما عليه من النفقات، فعمل ذلك وسلمه إلى متولي ديوان المجلس، وهو زمام الدواوين فنظم عليه عملا جامعا وأحضره إياه، فرأى ارتفاع الدولة ألفي ألف دينار، منها الشام ألف ألف دينار ونفقاته بإزاء ارتفاعه، ومنها الريف وباقي الدولة ألف ألف دينار يقف منها عن معلول ومنكسر على موتى وهرّاب ومفقود مائتا ألف دينار ويبقى ثمانمائة ألف دينار يصرف منها للرجال عن واجباتهم وكساويهم ثلثمائة ألف دينار، وعن ثمن غلة للقصور مائة ألف دينار، وعن نفقات القصور مائتا ألف دينار، وعن عمائر وما يقام للضيوف الواصلين من الملوك وغيرهم مائة ألف دينار، ويبقى بعد ذلك مائة ألف دينار حاصله يحملها كل سنة إلى بيت المال المصون، فحظي بذلك عند سلطانه وخف على قلبه. قال: وانتهى ارتفاع الأرض السفلى إلى ما لا نسبة له من ارتفاعها الأوّل، يعني بعد موت البازوري وحدوث الفتن، وهو قبل سني هذه الفتن يعني في أيام البازوري ستمائة ألف دينار كانت تحمل في دفعتين في السنة في مستهل رجب ثلاثمائة ألف دينار،

وفي مستهل المحرّم بثلاثمائة ألف دينار، فاتضع الارتفاع وعظمت الواجبات. وقال ابن ميسرة: وأمر الأفضل بن أمير الجيوش بعمل تقدير ارتفاع ديار مصر، فجاء خمسة آلاف دينار وكان متحصل الأهراء ألف ألف أردب، وقال الأمير جمال الدين والملك موسى بن المأمون البطائحيّ في تاريخه من حوادث سنة إحدى وخمسمائة ثم رأى القائد أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحي من اختلال أحوال الرجال العسكرية والمقطعين، وتضررهم من كون إقطاعاتهم قد خس ارتفاعها، وساءت أحوالهم لقلة المتحصل منها وإن إقطاعات الأمراء قد تضاعف ارتفاعها، وازدادت عن غيرها، وإن في كل ناحية من الفواضل للديوان جملة تجيء بالعسف، وبتردّد الرسل من الديوان الشريف بسببها، فخاطب الأفضل ابن أمير الجيوش: في أن يحل الإقطاعات جميعها ويروكها وعرّفه أن المصلحة في ذلك تعود على المقطعين والديوان لأنّ الديوان يتحصل له من هذه الفواضل جملة يحصل بها بلاد مقورة، فأجاب إلى ذلك، وحلّ جميع الإقطاعات وراكها وأخذ كل من الأقوياء والمميزين يتضررون، ويذكرون أن لهم بساتين وأملاكا ومعاصر في نواحيهم فقال له: من كان له ملك فهو باق عليه لا يدخل في الإقطاع وهو محكم إن شاء باعه، وإن شاء آجره. فلما حلت الإقطاعات أمر الضعفاء من الأجناد أن يتزايدوا فيها فوقعت الزيادة في إقطاعات الأقوياء إلى أن انتهت إلى مبلغ معلوم، وكتبت السجلات بأنها باقية في أيديهم إلى مدّة ثلاثين سنة لا يقبل عليهم فيها زائد وأحضر الأقوياء وقال لهم: ما تكرهون من الإقطاعات التي كانت بيد الأجناد؟ قالوا: كثرة عبرتها وقلة متحصلها وخرابها، وقلة الساكن بها. فقال لهم: ابذلوا في كل ناحية ما تحمله، وتقوى رغبتكم فيه ولا تنظروا في العبرة الأولى، فعند ذلك طابت نفوسهم، وتزايدوا فيها إلى أن بلغت إلى الحدّ الذي رغب كل منهم فيه، فأقطعوا به وكتب لهم السجلات على الحكم المتقدّم، فشملت المصلحة الفريقين، وطابت نفوسهم وحصل للديوان بلاد مقورة بما كان مفرّقا في الإقطاعات بما مبلغه خمسون ألف دينار. وقال في حوادث سنة خمس عشرة وخمسمائة، وكان قد تقدّم أمر الأجلّ المأمون بعمل حساب الدولة من الهلالي والخراجيّ، وجعل نظمه على جملتين: إحداهما إلى سنة عشر وخمسمائة الهلالية الخراجية، والجملة الثانية إلى آخر سنة خمس عشرة وخمسمائة هلالية، وما يوافقها من الخراجية فعقدت على جملة كثيرة من العين والأصناف، وشرحت بأسماء أربابها، وتعيين بلادها. فلما أحضرت أمر بكتب سجل يتضمن المسامحة بالبواقي إلى آخر سنة عشر وخمسمائة، ونسخته بعد التصدير. ولما انتهى إلينا حال المعاملين، والضمناء والمتصرفين وما في جهاتهم من بقايا معاملاتهم أنعمنا بما تضمنه هذا السجل من المسامحة قصدا في استخلاص ضامن طالت

غفلته، وخربت ذمّته، وإنقاذ عامل أجحف به من الديوان طلبته وتوفير الرغبة على عمارتها، وجريها فيها على قديم عادتها، ولما كان ذلك من جميل الأحدوثة التي لم نسبق إليها ولا شاركنا ملك فيها اقتضت الحال إيرادها في هذا الكتاب، وإيداعها هذا الباب لما اطلعنا عليه مما انتهت إليه أحوال الضمناء والمعاملين بالمملكة من الاختلال وتجمد البقايا في جهاتهم، والأموال عطفنا عليهم برأفة ورحمة وطالعنا المقام الأشرف النبويّ بالتفصيل من أمورهم والجملة واستخرجنا الأمر العالي بوضع ذلك في الحال وأنشأ السجلات الكريمة مقصورة على ذكر هذا الإحسان وتنفيذها إلى جميع البلدان ليقرأ على رؤوس الأشهاد بسائر البلاد، ومبلغ ما انتهت إليه هذه المسامحة إلى حين ختم هذا السجل من العين ألفا ألف وسبعمائة ألف وعشرون ألفا وسبعمائة وسبعة وستون دينارا ونصف وثلث وثلثان وربع قيراط، ومن الفضة النقرة أربعة دراهم، ومن الورق سبعة وستون ألفا وخمسة دراهم ونصف وسدس درهم، ومن الغلة ثلاثة آلاف ألف وثمان مائة ألف وعشرة آلاف ومائتان وتسعة وثلاثون أردبا وثمن ونصف سدس وثلثي قيراط، ومن العناب ربع أردب، ومن ورق الصباغ ألفان وأربعمائة وثلاثة أرادب ونصف، ومن زريعة الوسمة عشرة أرادب وربع، ومن الصباغ ألف وأربعمائة وثمانون قنطارا ورطل ونصف، ومن الفوّة أربعمائة وسبعون رطلا، ومن الشب تسعمائة وثلاثة عشر قنطارا ونصف، ومن الحديد خمسمائة رطل واحد وثلاثون رطلا، ومن الزفت ألف وثلثمائة وثلاثة أرطال وربع وسدس، ومن القطران تسعة عشر رطلا وثلث، ومن الثياب الحلبيّ ثلاثة أثواب، ومن المآزر مائة مئز صوف، ومن الغرابيل مائة وسبعون غربالا، ومن الأغنام مائتا ألف وخمسة وثلاثون ألفا وثلثمائة وخمسة أرؤس، ومن البسر ثلثمائة وثلاثة عشر قنطارا وثمانية وثلاثون رطلا، ومن السحيل ثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفا وخمسمائة وخمسون باعا، ومن الجريد أربعمائة ألف وثمانية وثلاثون ألفا وسبعمائة وثلاثة وخمسون جريدة، ومن السلب ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون سلبة، ومن الأطراف ستة آلاف وسبعمائة وثلاثة أطراف، ومن الملح ألفان وسبعمائة وثلاثة وتسعون أردبا وثلث، ومن الأشنان أحد عشر أردبا، ومن الرمان ألفا حبة، ومن العسل النحل خمسمائة واحد وأربعون قنطارا أو سدس، ومن الشهد اثنان وثلاثون زيرا وقادوسا واحدا، ومن الشمع أربعمائة وأربعون رطلا، ومن الخلايا ثلاثة آلاف وأربعمائة وخليتان، ومن عسل القصب مائة وثمانية وثلاثون قنطارا، ومن الأبقار اثنان وعشرون ألفا ومائة وأربعة وستون رأسا، ومن الدواب أربعة وسبعون رأسا، ومن السمن ألفان وتسعمائة وستة وتسعون مطر أو سدس وثمن، ومن الجبن ثلثمائة وعشرون رطلا، ومن الصوف أربعة آلاف ومائة وثلاثة وعشرون جزة، ومن الشعر ستة آلاف وخمسون رطلا وربع، ومن بيوت الشعر بيتان، وفصل ذلك بجهاته ومعاملاته. قال: ولما انتهى إلى المأمون ما يعتمد في الدواوين من قبول الزيادات وفسخ عقود الضمانات وانتزاعها ممن كابد فيها المشقة، والتعب وتسليمها إلى

باذل الزيادة من غير كلفة ولا نصب أنكر ذلك، ومنع من ارتكابه ونهى عن الولوج في بابه، وخرج أمره بإعفاء الكافة أجمعين والضمناء والمعاملين من قبول الزيادة فيما يتصرفون فيه، ويستولون عليه ما داموا مغلقين وبأقساطهم قائمين، وتضمن ذلك منشور قرىء في الجامعين الأزهر بالقاهرة والعتيق بمصر، وديواني المجلس والخاص إلّا أمرين السعيدين ونسخته بعد التصدير. ولما انتهى إلى حضرتنا ما يعتمد في الدواوين ويقصده جماعة من المتصرفين والمستخدمين من تضمين الأبواب والرباع والبساتين والحمامات والقياسر والمساكن، وغير ذلك من الضمانات للرّاغبين فيها ممن تستمرّ معاملته، ولا تنكر طريقته فما هو إلا أن يحضر من يزيد عليه في ضمانه حتى قد نقض عليه حكم الضمان، وقبل ما يبذل من الزيادة كائنا من كان وقبضت يد الضامن الأوّل عن التصرّف، ومكن الضامن الثاني من التصرف من غير رعاية للعقد على الضامن الأول، ولا تحرّز في فسخه الذي لا يبيحه الشرع، ولا يتأوّل أنكرنا ذلك على معتمديه، وذممنا من قصدنا عليه ومرتكبيه إذ كان للحق مجانبا وعن مذهب الصواب ذاهبا، وعرضنا ذلك بالمواقف المقدّسة المطهرة ضاعف الله أنوارها وأعلى أبدا منارها واستخرجنا الأوامر المطاعة في كتب هذا المنشور إلى سائر الأعمال بأنه أيّ أحد من الناس ضمن ضمانا من باب، أو ربع أو بستان أو ناحية أو كفر، وكان لأقساط ضمانه مؤدّيا، ولما يلزمه من ذلك مبديا، وللحق متبعا فإن ضمانه باق في يده لا تقبل زيادة عليه مؤدّيا، ولما يلزمه من ذلك مبديا، وللحق متبعا فإن ضمانه باق في يده لا تقبل زيادة عليه مدّة ضمانه على العقد المعقود عملا بالواجب، والنظام المحمود وإتباعا لما أمر الله تعالى به في كتابه المجيد إذ يقول جلّ من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة/ 1] إلى أن تنقضي مدّة الضمان، ويزول حكمها ويذهب وضعها ورسمها حملا على قضية الواجب وسننها، واعتمادا على حكم الشريعة التي ما ضل من اهتدى بفرائضها وسننها. فأما من ضمن ضمانا ولم يقم بما يجب عليه فيه وأصرّ على المدافعة والمغالطة التي لا يعتمدها إلا كل ذميم الطباع سفيه، فذلك الذي فسخ حكم ضمانه بنقصه الشروط المشروطة عليه، وحكمه حكم من إذا زيد عليه في ضمانه نقل عنه، وأخرج من يديه لأنه الذي بدأ بالفسخ، وأوجد السبيل إليه، فليعتمد كافة أرباب الدواوين وجميع المتصرفين والمستخدمين العمل بما تضمنه هذا المشهور، وامتثال المأمور وحمل هؤلاء الضمناء والمعاملين على ما نص فيه، والحذر من تجاوزه وتعدّيه بعد ثبوته في ديواني المجلس والخاص إلّا أمرين السعيدين، وبحيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى. قال: ووصلته المكاتبة من الوالي والمشارف، ومن كان ندب صحبته لكشف الأراضي والسواقي ومساحتها متضمنة ما أظهره الكشف، وأوضحته المساحة على من بيده السواقي، وهم عدّة كثيرة ومن جملتها ساقية مساحتها: ثلثمائة وستون فدّانا تشتمل على النخل والكرم

وقصب السكر بمدينة إسنا، خراجها في السنة عشرة دنانير، وما يجري في الأعمال هذا المجرى وأنهم وضعوا يد الديوان على جميعها، وطلبوا من أرباب السواقي ما يدل على ما بأيديهم، فذكروا أنها انتقلت إليهم ولم يظهروا ما يدل عليها، وقد سيروا أملاكها إلى الباب تحت الحوطة ليخرج الأمر بما يعتمد عليه في أمرهم، وعند وصولهم أوقع الترسيم عليهم إلى أن يقوموا بما يجب من الخراج عن هذه السواقي فإن الأملاك بجملتها لا تقوم بما يجب عليها، فوقف المذكورون للمأمون في يوم جلوسه للمظالم، فأمر بحضورهم بين يديه، وتقدّم إلى القاضي، جلال الملك أبو الحجاج يوسف بن أبي أيوب المغربيّ وهو يومئذ قاضي القضاة لمحاكمتهم فجرى له معهم مفاوضة أوجبت الحق عليهم، وألزمهم بالقيام بما يستغرق أموالهم وأملاكهم، فحصل من تضرّرهم ما أوجب العاطفة عليهم، وأخذهم بالخراج من بعد، وأن يضرب عما تقدّم صفحا. وكتب منشور نسخته: قد علم الكافة ما تراه من إفاضة سحب العدل عليهم، والإحسان والنظر في مصالح كل قاص منهم ودان. وإنا لا ندع ضررا يتوجه إلى أحد من الرعية إلا حسمناه، ولا نعلم صلاحا يعود نفعه عليه إلا قوينا سببه، ووصلناه حسب ما يتعين على رعاة الأمم، وعملا بالواجب في البعيد والأمم وسلوكا لمحجة الدولة الفاطمية خلد الله ملكها القويمة، واستمرارا على قضاياها وسجاياها الكريمة، ولما كنا نرى النظر في مصالح الرعايا أمرا واجبا ونصرف إلى سياستهم عزما ماضيا، ورأيا ثاقبا. كذلك نرى النظر في أمور الدواوين واستيفاء حقوقها المصروفة إلى حماية البيضة، والمحاماة عن الدين وجهاد الكفرة والملحدين ليكون ما نراعيه، وننظر فيه جاريا على سنن الواجب محروسا من الخلل بإذن الله من جميع الجوانب، ومن الله نستمدّ مواد التوفيق في الحل والعقد، ونسأله الإرشاد إلى سواء السبيل والقصد، وما توفيقنا إلا بالله عليه نتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكان القاضي الرشيد بن الزبير أيام مشارفته الصعيد الأعلى قد طالع المجلس الأفضليّ بحال أرباب الأملاك هناك، وأنهم قد استضافوا إلى أماكنهم من أملاك الدواوين أراضي اغتصبوها، ومواضع مجاورة لأملاكهم تعدّوا عليها، وخلطوها بها وحازوها، ورسم له كشفها ونظم المشاريج بها، وارتجاعها للديوان. وأن يعتمد في ذلك ما يوجبه حكم العدل المثبت في كل قطر ومكان، وبآخر ذلك سيرنا من الباب من يكشف ذلك على حقيقته، وإنهائه على طيته فاعتمدوا ما أمروا به من الكشف في هذه الأملاك، ووردت المطالعة منهم بأنهم التمسوا ممن بيده ملك أو ساقية ما يشهد بصحة ملكه ومبلغ فدنه، وذكر حدوده، فلم يحضر أحد منهم كتابا ولا أوضح جوابا، وأصدروا إلى الديوان المشاريج بما كشفوه، وأوضحوه فوجدوا التعدّي فيه ظاهرا وباب الحيف والظلم غير متقاصر، والشرع يوجب وضع اليد على ما هذه حاله ومطالبة صاحبه بريعه، واستغلاله، لا سيما وليس بيده كتاب

يشهد بصحة الملك رأسا، ولا يستند في ذلك حجة ادّخرها احترازا عن مجاهدة سبيله، واحتراسا. ولكن نحكم بما نراه من المصلحة للرعية والعدل الذي أقمنا مناره، وأحيينا معالمه وآثاره مع الرغبة في عمارة البلاد ومصالح أحوالها، واستنباط الأرضين الداثرة، وإنشاء الغروس، وإقامة السواقي بها أمرنا بكتب هذا المنشور، وتلاوته بأعمال الصعيد الأعلى بإقرار جميع الأملاك والأرضين والسواقي بأيدي أربابها الآن من غير انتزاع شيء منها، ولا ارتجاعه، وأن يقرّر عليها من الخراج ما يجب تقريره، ويشهد الديوان على أمثالهم بمثله إحسانا إليهم. لم نزل نتابع مثله ونواليه وإنعاما ما برحنا نعيده عليهم ونبديه، وقد أنعمنا وتجاوزنا عما سلف، ونهينا من يستأنف، وسامحنا من خرج عن التعدّي إلى المألوف وجرينا على سننا في العفو والمعروف، وجعلناها توبة مقبولة من الجماعة الجانين، ومن عاد من الكافة أجمعين فلينتقم الله منه، وطولب بمستأنفه وأمسه وبرئت الذمة من ماله ونفسه وتضاعفت عليه الغرامة والعقوبة، وسدّت في وجهه أبواب الشفاعة والسلامة، وقد فسحنا مع ذلك لكل من يرغب في عمارة أرض حلفاء داثرة، وإدارة بئر مهجورة معطلة في أن يسلم إليه ذلك، ويقاس عليه، ولا يؤخذ منه خراج إلا في السنة الرابعة من تسليمه إياه، وأن يكون المقرّر على كل فدّان ما توجبه زراعته لمثله خراجا مؤبدا وأمرا مؤكدا، فليعتمد ذلك النوّاب، وحكام البلاد ومن جرت العادة بحضوره عقد مجلس، وإحضار جميع أرباب الأملاك والسواقي، وإشعارهم ما شملهم من هذا الإحسان الذي تجاوز آمالهم في إجابتهم إلى ما كانوا يسألون فيه، وتقرير ما يجب على الأملاك المذكورة من الخراج على الوضع الذي مثلناه، ويجيز الديوان تقريره ويرضاه مع تضمين الأراضي الدائرة، والآبار المعطلة لمن يرغب في ضمانها ونظم المشاريج بذلك وإصدارها إلى الديوان ليخلد فيه على حكم أمثالها بعد ثبوت هذا المنشور بحيث يثبت مثله قال: ولما سرت هذه المصالح إلى جميع أهل هذه الأعمال حصل الاجتهاد في تحصيل مال الديوان وعمارة البلاد. واعلم أنه لم يكن في الدولة الفاطمية بديار مصر ولا فيما مضى قبلها من دول أمراء مصر لعساكر البلاد إقطاعات بمعنى ما عليه الحال اليوم في أجناد الدولة التركية، وإنما كانت البلاد تضمن بقبالات معروفة لمن شاء من الأمراء، والأجناد والوجوه وأهل النواحي من العرب والقبط، وغيرهم لا يعرف هذه إلّا بذة التي يقال لها اليوم الفلاحة، ويسمى المزارع المقيم بالبلد: فلاحا قرارا، فيصير عبدا قنا لمن أقطع تلك الناحية إلا أنه لا يرجو قط أن يباع ولا أن يعتق بل هو قنّ ما بقي، ومن ولد له كذلك. بل كان من اختار زراعة أرض يقبلها كما تقدّم، وحمل ما عليه لبيت المال، فإذا صار مال الخراج بالديوان أنفق في طوائف العسكر من الخزائن، وكان مع ذلك إذا انحط ماء النيل عن الأراضي، وتعلقت نواحي مصر بأصناف الزراعات ندب من الحضرة من فيه نباهة،

وخرج معه عدول يوثق بهم، وكانت لهم معرفة بعلم الخراج وكثيرا ما كان هذا الكاتب من النصارى الأقباط ويخرج إلى كل ناحية من ذكرنا، فيحرّرون مساحة ما شمله الريّ من الأراضي مما لعله بار أو شرق. ويكتب بذلك مكلفات واضحة بالفدن، والقطائع على جميع الأصناف المزروعة، ويحضر إلى دواوين الباب. فإذا مضى من السنة القبطية أربعة أشهر ندب من الأجناد من عرف بالحماسة وقوّة البطش، وعين معه من الكتاب العدول من قد اشتهر بالأمانة، وكاتب من نصارى القبط غير من خرج عند المساحة، وساروا إلى كل ناحية. كذلك فاستخرج مباشر وأكل بلد ثلث ما وجب من مال الخراج على ما شهدت به المكلفات، فإذا أحضر هذا الثلث صرف في واجبات العساكر، وهكذا العمل في استخراج كل قسط طول الزمان من كل سنة، وكانت تبقى في جهات الضمان والمتقبلين جملة بواق. وكانت بلاد مصر إذ ذاك تقبل بعين وغلة وأصناف، وقد عرف ذلك من نسخة المسموح الذي تضمن ترك البواقي في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله، ووزارة المأمون البطائحي، ورأيت بخط الأسعد بن مهذب بن زكريا بن مماتي الكاتب المصري سألت القاضي الفاضل عبد الرحيم: كم كانت عدّة العساكر في عرض ديوان الجيش لما كان سيدنا يتولى ذلك في أيام رزيك بن الصالح؟ فقال: أربعين ألف فارس ونيفا وثلاثين ألف راجل من السودان. وقال أبو عمرو عثمان النابلسي في كتاب حسن السريرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة: أنّ ضرغاما لما ثار على شاور وفرّ شاور إلى السلطان نور الدين محمود بن زنكي بدمشق يستنجد به على ضرغام، ويعده بأنه يكون نائبا عنه بمصر، ويحمل إليه الخراج أنشأ لنور الدين عزما لم يكن، فجهز ألف فارس، وقدّم عليه أسد الدين شيركوه، وأمره بالتوجه فأبى وقال: لا أمضي أبدا. فإنّ هلاكي ومن معي وسوء ما سمعه السلطان معلوم من هنا، وكيف أمضي بألف فارس إلى إقليم فيه عشرة آلاف فارس ومائة سبهبد فيها عشرة آلاف مقاتل وأربعون ألف عبد، وقوم مستوطنون في أوطانهم فرأيت حرابتهم، ونحن نأتيهم من تعب السفر بهذه العدّة القليلة. قال: ثم أجابه بعد ذلك هذا أعزك الله بعد ما كانت عساكر أحمد بن طولون ما سنراه في ذكر القطائع إن شاء الله تعالى. ثم ما كان من عساكر الأمير أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد وهي على ما حكاه غير واحد، منهم ابن خلكان: أنها كانت أربعمائة ألف، ولما انقضت دولة الفاطميين بدخول الغز من بلاد الشام، واستولى صلاح الدين يوسف بن أيوب على مملكة مصر، تغير الحال بعض التغير لا كله. قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة في ثامن المحرّم:

خرجت الأوامر الصلاحية بركوب العساكر قديمها وجديدها بعد أن أنذر حاضرها وغائبها وتوافى وصولها، وتكامل سلاحها وخيولها، فحضر في هذا اليوم جموع شهد كل من علا سنه وقرطس «1» ظنه أن ملكا من ملوك الإسلام لم يحز مثلها، وشاهدت رسل الروم والفرنج ما أرغم أنوف الكفرة، ولم يتكامل اجتياز العساكر موكبا بعد موكب، وطلبا بعد طلب. والطلب بلغة الغز هو: الأمير المقدّم الذي له علم معقود، وبوق مضروب، وعدّة من مائتي فارس إلى مائة فارس إلى سبعين فارسا إلى أن انقضى النهار، ودخل الليل، وعاد ولم يكمل عرضهم، وكانت العدّة الحاضرة مائة وسبعة وأربعين طلبا والغائب منها عشرون طلبا، وتقدير العدّة يناهز أربعة عشر ألف فارس أكثرها طواشية، والطواشي: من رزقه من سبعمائة إلى ألف إلى مائة وعشرين، وما بين ذلك وله برك من عشرة رؤوس إلى ما دونها ما بين فرس، وبرذون وبغل وجمل وله، غلام يحمل سلاحه وقرا غلامية تتمة الجملة. قال: وفي هذه السفرة عرض العربان الخدّامين، فكانت عدّتهم سبعة آلاف فارس واستقرّت عدّتهم على ألف وثلثمائة فارس لا غير. وأخذ بهذا الحكم عشر الواجب، وكان أصله ألف ألف دينار على حكم الاعتداد الذي يتأصل ولا يتحصل وكلف التغالبة ذلك، فامتعضوا ولوّحوا بالتحيز إلى الفرنج. وقال في متجدّدات شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة، استمر انتصاب السلطان صلاح الدين في هذه السنة للنظر في أمور الإقطاعات، ومعرفة عبرها والنقص منها، والزيادة فيها وإثبات المحروم وزيادة المشكور إلى أن استقرّت العدّة على ثمانية آلاف وستمائة وأربعين فارسا أمراء مائة وأحد عشر أميرا طواشية «2» ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعون قراغلامية ألف وخمسمائة وثلاثون وخمسون، والمستقرّ لهم من المال ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة دينار، وذاك خارج عن المحلولين من الأجناد الموسومين بالجوالة على العشر، وعن عدّة العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة، وعن الكاتبين والمصريين والفقهاء والقضاة والصوفية، وعما يجري بالديوان ولا يقصر عن ألف ألف دينار. وقال في متجدّدات سنة خمس وثمانين وخمسمائة أوراق بما استقر عليه عبر البلاد من إسكندرية إلى عيذاب إلى آخر الرابع والعشرين من شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة خارجا عن الثغور وأبواب الأموال الديوانية والأحكار والحبس ومنفلوط ومنقباط، وعدّة نواح أوردت أسماءها ولم يعين لها في الديوان عبرة من جملة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف

وثلاثة وخمسين ألفا وتسعة عشر دينارا. بعدما يجري في الديوان العادلي السعيد وغيره عن الشرقية والمرتاحية والدقهلية وبوش وغير ذلك، وهو ألف ألف ومائة ألف وتسعون ألفا وتسعمائة وثلاثة وعشرون دينارا. تفصيل ذلك: الديوان العادلي: سبعمائة ألف وثمانية وعشرون ألفا ومائتان وثمانية وأربعون دينارا. الأمراء والأجناد المرسوم بإبقاء إقطاعاتهم بالأعمال المذكورة مائة ألف وثمانية وخمسون ألفا ومائتان وثلاثة دنانير. ديوان السور المبارك والأشراف: ثلاثة عشر ألفا وثمانمائة وأربعة دنانير، العربان: مائتا ألف وأربعة وثلاثون ألفا ومائتان وستة وتسعون دينارا. الكنانية: خمسة وعشرون ألفا وأربعمائة واثنا عشر دينارا، القضاة والشيوخ: سبعة آلاف وأربعمائة وثلاثة دنانير، القيمارية والصالحية والأجناد المصريون: اثنا عشر ألفا وخمسمائة وأربعة دنانير، الغزاة والعساقلة المركزة بدمياط وتنيس وغيرهم: عشرة آلاف وسبعمائة وخمسة وعشرون دينارا، البارز: ثلاثة آلاف ألف وأربعمائة ألف واثنان وستون ألفا وخمسة وتسعون دينارا. الوجه البحري: ألف ألف ومائة ألف واحد وخمسون ألفا وثلاثة وخمسون دينار (تفصيله) ضواحي ثغر الاسكندرية وثمانية وثلاثون دينارا، ثغر رشيد: ألفا دينار، البحيرة: مائة ألف وخمسة عشر ألفا وخمسمائة وستة وسبعون دينارا، حوف رمسيس: اثنان وتسعون ألفا وأربعمائة وثلاثة دنانير، فوّه والمزاحميتين: عشرة آلاف ومائة وخمسة وعشرون دينارا، النبراوية: خمسة عشر ألفا وثلثمائة وخمسة دنانير، جزيرة بني نصر: مائة ألف واثنا عشر ألفا وستمائة وستة وأربعون دينارا، جزيرة قوسنينا: مائة ألف وثلاثون ألفا وخمسمائة واثنان وتسعون دينارا، الغربية: ستمائة ألف وأربعة وسبعون ألفا وستمائة وخمسة دنانير، السمنودية: مائتا ألف وخمسة وأربعون ألفا وأربعمائة وتسعة وسبعون دينارا، الدنجاوية: ستة وأربعون ألفا ومائتا وأربعة وسبعون دينارا، المنوفية: مائة ألف وثمانية وأربعون ألفا وثلثمائة وسبعة وأربعون دينارا. الوجه القبلي: ألف ألف وستمائة وعشرة آلاف وأربعمائة وأحد وأربعون دينارا. تفصيل ذلك: الجيزة: مائة ألف وثلاثة وخمسون ألفا ومائتان وأربعة دنانير، الأفطيحية: تسعة وخمسون ألفا وسبعمائة وثمانية وعشرون دينارا، البوصيرية: ستون ألفا وأربعمائة وستة وستون دينارا، الفيومية: مائة ألف واثنان وخمسون ألفا وستمائة وأربعة وثلاثون دينارا، البهنسية: ثلثمائة ألف واثنان وخمسون ألفا وستمائة وأربعة وثلاثون دينارا، الواحات الداخلة، والخارجتين، وواح البهنسا: خمسة وعشرون ألف دينار، الأشمونين: مائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة وأربعة دنانير، الأخميمية: مائة ألف وثمانية آلاف وثمانمائة واثنا عشر دينارا، الأعمال القوصية: ثلثمائة ألف واثنان وستون ألفا وخمسمائة

ذكر الروك الأخير الناصري

دينار، ثغر أسوان: خمسة وعشرون ألف دينار، ثغر عيذاب: يجري في غير هذا الديوان. وقال في متجدّدات سنة ثمان وثمانين وخمسمائة: والذي انعقد عليه ارتفاع الديوان السلطانيّ ثلثمائة ألف وأربعة وخمسون ألفا وأربعة وأربعون دينارا، والذي يميز زائد الارتفاع لسنة سبع وثمانين وخمسمائة على ارتفاع سنة ست وثمانين اثنان وعشرون ألفا وأربعمائة وخمسة وأربعون دينارا، والذي انساق من البواقي للسنة المذكورة أحد وثلاثون ألفا وستمائة واثنان وعشرون دينارا والذي اشتمل عليه متحصل ديوان الخاص الملكي الناصري بالديار المصرية لسنة سبع وثمانين اثنان وعشرون ألفا وأربعمائة وخمسة وأربعون دينارا؛ والذي انساق من البواقي للسنة المذكورة أحد وثلاثون ألفا وستمائة واثنان وعشرون دينارا والذي اشتمل عليه متحصل ديوان الخاص الملكي الناصري بالديار المصرية لسنة سبع وثمانين وخمسمائة ثلثمائة ألف وأربعة وخمسون ألفا وأربعمائة وأربعة وخمسون دينارا ونصف وثلث وثمن. ذكر الروك الأخير الناصري «1» وكان الجندي، إقطاعه بمفرده، وله تبع واحد من عشرين ألف درهم إلى ثلاثين، وفيهم من إقطاعه خمسة عشر ألفا وأقلهم عشرة آلاف، وذلك سوى الضيافة، وبلغ خمسة آلاف درهم في الإقطاع الثقيل، وكان الجنديّ يخرج إلى السكان بطوالة خيل، ويخرج مقدّم الحلقة كأمير عشرة، وتكون مضافته إذا نزل حوله، وأكثرهم يأكل على سماطه ولا يمكن الأمير أن يأكل إلا وجميع أجناده معه، ويأخذ غلمان أجناده كل يوم الطعام من مطبخه، وإذا رأى نارا توقد سأل عنها فيقال: إن فلانا اشتهى كذا، فيغضب ممن لا يأكل عنده، ومع ذلك كانت أشكالهم بشعة وملابسهم غير خائلة. فلما أفضت السلطنة إلى المنصور لاجين «2» : راك «3» البلاد وذلك أن أرض مصر كانت أربعة وعشرين قيراطا، فيختص السلطان منها بأربعة قراريط، ويختص الأجناد بعشرة قراريط، ويختص الأمراء بعشرة قراريط، وكان الأمراء يأخذون كثيرا من إقطاعات الأجناد فلا يصل إلى الأجناد منها شيء، ويصير ذلك الإقطاع في دواوين الأمراء، ويحتمي بها قطاع الطريق وتثور بها الفتن، ويقوم بها الهوشات ويمنع منها الحقوق والمقرّرات الديوانية،

وتصير مأكلة لأعوان الأمراء ومستخدميهم، ومضرّة على أهل البلاد التي تجاورها، فأبطل السلطان ذلك، وردّ تلك الإقطاعات على أربابها وأخرجها بأسرها من دواوين الأمراء. وأوّل ما بدأ به ديوان الأمير سيف الدين منكوتمر نائب السلطنة، فأخرج منه ما كان فيه من هذه الإقطاعات، وكان يتحصل له منها مائة ألف أردب غلة في كل سنة، واقتدى به جميع الأمراء، وأخرجوا ما في إقطاعاتهم من ذلك فبطلت الحمايات، وجعل السلطان في هذا الروك للأمراء والأجناد أحد عشر قيراطا، وأفرد تسعة قراريط ليخدم بها عسكر أو يقطعهم إياها ثم رتب أوراقا بتكفية الأمراء والأجناد بعشرة قراريط، ووفر قيراطا لزيادة من عساه يطلب زيادة لقلة متحصل إقطاعه، وأفرد لخاص السلطان عدّة أعمال جليلة، وأفرد للنائب منكوتمر لتفرقة المثالات في تابعيه، فتنكرت قلوب الأمراء حتى كان من المنصور لاجين، ونائبه منكوتمر ما كان. فلما كانت الأيام الناصرية راك الناصر محمد البلاد، قال جامع السيرة الناصرية: وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة اختار السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أن يروك الديار المصرية، وأن يبطل منها مكوسا كثيرة، ويفضل لخاص مملكته شيئا كثيرا من أراضي مصر، وكان سبب ذلك أنه اعتبر كثيرا من أخباز المماليك والحاشية الذين كانوا للملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير سلار وسائر المماليك البرحية، فإذا هي ما بين ألف دينار إلى ثمانمائة دينار، وخشي من قطع أخباز المذكورين، فولد له الرأي مع القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش أن يروك ديار مصر، ويقرّر إقطاعات مما يختار، ويكتب بها مثالات سلطانية، فتقدّم الفخر، ناظر الجيش، فعمل أوراقا بما عليه عبر النواحي ومساحتها. وعين السلطان لكل إقليم من أقاليم ديار مصر أناسا، وكتب مرسوما للأمير بدر الدين جيكل بن البابا أن يخرج لناحية الغربية ومعه أعزل الحاجب ومن الكتاب المكين بن فرويته، وأن يخرج الأمير عز الدين إيدمر الخطيريّ إلى ناحية الشرقية، ومعه الأمير ايتمش المجدي، ومن الكتاب أمين الدولة ابن قرموط، وأن يخرج الأمير بلبان الصرخدي والقليجي وابن طرنطاي، وبيبرس الجمدار إلى ناحية المنوفية والبحيرة، وأن يخرج البليلي والمرتيني إلى الوجه القبلي، وندب معهم كتابا ومستوفين وقياسين، فساروا إلى حيث ذكر، فكان كل منهم إذا نزل بأوّل عمله طلب مشايخ كل بلد ودللائها وعدولها وقضاتها وسجلاتها التي بأيدي مقطعيها، وفحص عن متحصلها من عين وغلة وأصناف، ومقدار ما تحتوي عليه من الفدن ومزروعها وبورها، وما فيها من ترايب وبواق وغرس ومستبحر، وعبرة الناحية وما عليها لمقطعيها من غلة ودجاج وخراف وبرسيم وكشك وكعك، وغير ذلك من الضيافة فإذا حرّر ذلك كله ابتدأ بقياس تلك الناحية وضبط بالعدول والقياسين وقاضي العمل ما يظهر بالقياس الصحيح، وطلب مكلفات تلك القرية وغنداقها وفضل ما فيها من الخاص السلطاني وبلاد

الأمراء وإقطاعات الأجناد والرزق حتى ينتهي إلى آخر عمله. ثم حضروا بعد خمسة وسبعين يوما وقد تحرّر في الأوراق المحضرة حال جميع ضياع أرض مصر، ومساحتها وعبرة أراضيها وما يتحصل عن كل قرية من عين وغلة وصنف، فطلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقيّ الأسعد بن أمين الملك المعروف بكاتب سرلغي وسائر مستوفي الدولة وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم، وعلى إقطاعات الأمراء، وأضاف على عبرة كل بلد ما كان على فلاحيها من ضيافة لمقطعيها وأضاف إلى العبرة ما في الإقطاع من الجوالي، وكتب مثالات للأجناد بإقطاعات على هذا الحكم فاعتدّ منها بما كان يصرف في كلف حمل الغلال من النواحي إلى ساحل القاهرة، وما كان عليها من المكس، وأبطل السلطان عدّة مكوس: منها مكس ساحل الغلة، وكان جلّ متحصل الديوان وعليه إقطاعات الأمراء والأجناد ويتحصل منه في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم وعليه أربعمائة مقطع لكل منهم من عشرة آلاف إلى ثلاثة آلاف ولكل من الأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف، وكانت جهة عظيمة لها متحصل كثير جدّا، وينال القبط منها منافع كثيرة لا تحصى، ويحلّ بالناس من ذلك بلاء شديد وتعب عظيم من المغارم والظلم. فإن مظالمها كانت تتعدّد ما بين نواتية «1» تسرق وكيالين تبخس وشادّين «2» وكتاب يريد كل منهم شيئا، وكان مقرّر الأردب: درهمين للسلطان، ويلحقه نصف درهم غير ما ينهب ويسرق، وكان لهذه الجهة مكان يعرف بخص الكيالة في ساحل بولاق يجلس فيه شاد وستون متعمما ما بين كتاب ومستوفين وناظر، وثلاثون جنديا مباشرون، ولا يمكن أحدا من الناس أن يبيع قدحا من غلة في سائر النواحي بل تحمل الغلات حتى تباع في خص الكيالة ببولاق. ومما أبطل أيضا نصف السمسرة، وهو عبارة عن أن من باع شيئا من الأشياء فإنه يعطي أجرة الدلال على ما تقرّر من قديم عن كل مائة درهم درهمين، فلما ولي ناصر الدين الشيخي الوزارة قرّر على كل دلال من دلالته درهما من كل درهمين. فصار الدلال يعمل معدّله ويجتهد حتى ينال عادته وتصير الغرامة على البائع، فتضرّر الناس من ذلك وأوذوا فلم يغاثوا حتى أبطل ذلك السلطان، ومما أبطل رسوم الولاية وكانت جهة تتعلق بالولاة المقدّمين، فيجبيها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، ولهذه الجهة ضامن وتحت يده عدّة صبيان وعليها جند مستقطعون وأمراء وغيرهم، وكانت تشتمل على ظلم شنيع وفساد، قبيح وهتك قوم مستوزين وهجم لبيوت أكثر الناس، ومما أبطل مقرّر الحوائص والبغال من المدينة وسائر أعمال مصر كلها من الوجه القبلي والبحري، فكان على

كل من الولاة والمقدّمين مقرر يحمل في كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلثمائة درهم، وعن ثمن بغل خمسمائة درهم وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين ويفضل منها ما يحمل، وكان يصيب الناس من هذه الجهة ما لا يوصف ويحلّ بهم من عسف الرقاصين ما يهون معه الموت، ومن ذلك مقرّر السجون، وهو عبارة عما يؤخذ من كل من يسجن فللسجان على حكم المقرّر ستة دراهم سوى كلف أخرى، وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين ويرغب فيها الضمان ويتزايدون في مبلغ ضمانها لكثرة ما يتحصل منها فإنه كان لو تخاصم رجل مع امرأته أو ابنه رفعه الوالي إلى السجن فبمجرّد ما يدخل السجن، ولو لم يقم به إلا لحظة واحدة أخذ منه المقرّر، وكذلك كان على سجن القضاة أيضا. ومن ذلك مقرّر طرح الفراريج: ولها ضمان عدّة في سائر نواحي أرض مصر يطرحون على الناس الفراريج فيمرّ بضعفاء الناس من ذلك بلاء عظيم، وتقاسي الأرامل من العسف والظلم شيئا كثيرا، وكان على هذه الجهة عدّة مقطعين، ولا يمكن أحدا من الناس في جميع الأقاليم أن يشتري فروجا فما فوقه إلا من الضامن ومن عثر عليه أنه اشترى أو باع فروجا من سوى الضامن جاءه الموت من كل مكان، وما هو بميت. ومن ذلك مقرّر الفرسان: وهو عبارة عما يجيبه ولاة النواحي من سائر البلاد فلا يؤخذ درهم مقرّر حتى يغرم عليه صاحبه درهمين ويقاسي الناس فيه أهوالا صعبة. ومن ذلك مقرّر الأقصاب والمعاصر: وهو ما يجبى من مزارعي قصب السكر، ومن المعاصر ورجال المعاصر. ومن ذلك مقرّر رسوم الأفراح: ويجبي من سائر النواحي ولهذه الجهة عدّة ضمان ولا يعرف لهذه الجهة أصل البتة، وإنما يجبي بضرائب ينال الناس فيها مع المقرّر غرامات وروعات. ومن ذلك حماية المراكب: وهي عبارة عما يؤخذ من كل مركب بتقرير معين يعرف بمقرّر الحماية وكانت هذه الجهة أشدّ ما ظلم به الناس فيؤخذ من كل من ركب البحر للسفر حتى من السؤال والمكدين. ومن ذلك حقوق القينات: وهو عبارة عما يجمع من الفواحش والمنكرات فيجبيه مهتار الطشتخاناه السلطانية من أوباش الناس. ومن ذلك شدّ الزعماء: وهي جهة مفردة وحقوق السودان وكشف المراكب ومقرّر ما على كل جارية، أو عبد حين نزولهم بالخانات لعمل الفاحشة فيؤخذ من كل ذكر وأنثى مقرّر معين، ومتوفر الجراريف، وهو ما يجبي من سائر النواحي فيحمل ذلك مهندسوا البلاد إلى بيت المال بإعانة الولاة لهم في تحصيل ذلك وعلى هذه الجهة عدّة مقطعين من الجند.

ومقرّر المشاعلية وهو عبارة عما يؤخذ عن كسح الأفنية وحمل ما يخرج منها من الوسخ إلى الكيمان، فكان إذا امتلأ سراب جامع أو مدرسة أو مسمط أو تربة أو منزل من منازل سائر الناس لا يمكنه ولو بلغ من العظمة ما عسى أن يبلغ التعرّض لذلك حتى يأتيه ضامن الجهة، ويقاوله على كسح ذلك بما يريد وكان من عادة الضامن الإشطاط في السوم، وطلب أضعاف القيمة فإن لم يرض رب المنزل بما طلب الضامن وإلا تركه وانصرف فلا يقدر على مقاساة ترك الوسخ ويضطرّ إلى سؤاله ثانيا، فيعظم تحكمه ويشتدّ بأسه إلى أن يرضيه بما يختار حتى يتمكن من كسح فنائه ورفع ما هنالك من الأقذار. ومن ذلك إبطال المباشرين من النواحي: وكانت بلاد مصر كلها من الوجهين القبليّ والبحري ما من بلد صغير وكبير إلا وفيه عدّة من كتاب وشادّ ونحو ذلك، فأبطل السلطان المباشرين وتقدّم منعهم من مباشرة النواحي إلا من بلد فيها مال السلطان فقط، فأراح الله سبحانه الخلق بإبطال هذه الجهات من بلاء لا يقدر قدره ولا يمكن وصفه. ولما أبطل السلطان، هذه الجهات، وفرغ من تعيين الإقطاعات للأمراء والأجناد أفرز لخاص السلطان من بلاد أرض مصر عدّة نواح، مما كان في إقطاعات البرجية وهي الجيزة وأعمالها وهو والكوم الأحمر، ومنفلوط والمرج والخصوص، وغير ذلك مما بلغ عشرة قراريط من الإقليم، وصار لإقطاعات الأمراء والأجناد، وغيرهم أربعة عشر قيراطا، ومكر الأقباط فيما أمكنهم المكر فيه، فبدأوا بأن أضعفوا عسكر مصر، ففرّقوا الإقطاع الواحد في عدّة جهات، فصار بعض الجبي في الصعيد وبعضه في الشرقية، وبعضه في الغربية إتعابا للجنديّ، وتكثيرا للكلفة، وأفردوا جوالي «1» الذمّة من الخاص، وفرّقوها في البلاد التي أقطعت للأمراء والأجناد. فإن النصارى كانوا مجتمعين في ديوان واحد كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، فصار نصارى كل بلد يدفعون جاليتهم إلى مقطع تلك الضيعة، فاتسع مجال النصارى، وصاروا يتنقلون في القرى، ولا يدفعون من جزيتهم إلا ما يريدون، فقلّ متحصل هذه الجهة بعد كثرته، وأفردوا ما بقي من جهات المكوس «2» برسم الحوائج خاناه التي تصرف للسماط ليتناولوا ذلك ويوردوا منه ما شاءوا، ثم يتولوا صرف ما يحصل منه في جهات تستهلك بالأكل، وصارت جهات المكوس مما يتحدّث فيه الوزير، وشاد الدواوين. ثم نظر السلطان فيما كان بيد الأميرين بيبرس الجاشنكير، وسلار نائب السلطنة من البلاد، فأخذ ما كان باسم كل منهما وباسم حواشيه، ولم يدع من ذلك شيئا مما كانوا قد

وقفوه حتى حله، وجعل الجميع إقطاعات، واعتدّ في سائر الإقطاعات بما كان يستهديه المقطع من فلاحه، فحسب ذلك وأقامه من جملة عبر الإقطاع وأبطل الهدية، فلم يتهيأ له الفراغ من ذلك إلى آخر السنة، فلما أهلّ المحرّم من سنة ست عشرة وسبعمائة، وقد نظمت الحسبانات على ثلث مغلّ سنة خمس عشرة. جلس السلطان في الإيوان الذي استجدّه بقطعة الجبل، وقد تقدّم لسائر نقباء الأجناد على لسان نقيب الجيش بالحضور بأجنادهم، وجعل للعرض في كل يوم أميرين من الأمراء المقدّمين بمضافيهما، فكان الأمير مقدّم الألف يقف، ومعه مضافوه، وناظر الجيش يستدعيهم من تقدمة ذلك الأمير بأسمائهم على قدر منازلهم، فيقدّم نقيب الجيش، الواحد بعد الواحد من يد نقيبه إلى ما بين يدي السلطان، فإذا مثل بحضرته سأله السلطان بنفسه من غير واسطة عن اسمه، وأصله وجنسه، ووقت حضوره إلى ديار مصر، ومع من قدم، وإلى من صار من الأمراء وغيرهم، وعن مشاهده التي حضرها في الغزو، وعما يعرفه من صناعة الحرب وغير ذلك من الاستقصاء، فإذا انتهى استفهامه إياه ناوله بيده مثالا من غير تأمّل بحسب ما قسم الله له، فلم يمرّ به في مدّة العرض أحد إلا وقد عرفه وأشار إلى الأمراء بذكر شيء من خبره. هذا وقد تقدّم إلى سائر الأمراء بأسرهم بأن يحضروا إلى الإيوان عند العرض، ولا يعارض أحد منهم السلطان في شيء يفعله، فكانوا يحضرون وهم سكوت لا يتكلم أحد منهم خوفا من مخالفة السلطان لما يقوله، وأخذ السلطان في مواربة الأمراء فما أثنوا على أحد في مجلس العرض إلا وأعطاه السلطان مثالا بإقطاع رديء، فلما عملوا ذلك أمسكوا عن الكلام معه جملة، وانفرد بالاستبداد بأموره دونهم، فما عرف منه أنه قدّم إليه أحد إلا وسأله: إن كان مملوكا عمن أقدمه من التجار، وسائر ما تقدّم، وإن كان شيخا فعن أصله وسنه وكم مصاف حضرها؟ حتى أتى على الجميع وأفرد المشايخ العاجزين فلم يعطهم إقطاعات، وجعل لكل منهم مرتبا يقوم به، فانتهى العرض في طول المحرّم، وتوفر كثير من مثالات الأجناد فبلغ عدّة مائتي مثال، ثم أخذ في عرض أطباق المماليك السلطانية، ووفر من جوامكهم كثيرا، وقطع عدّة رواتب من رواتبهم، وعوّضهم عن ذلك إقطاعات، وجعل جهة مكس قطيا لضعفاء الأجناد ممن قطع خبزه فجعل لك منهم في السنة ثلاثة آلاف درهم. وكان لبيبرس، وسلار الجوكندار، تعلقات كثيرة في بيت المال وفي الأعمال كالجيزة والإسكندرية من متجر، وحمايات فارتجع ذلك وأبطله وما شابهه، وأضاف ما لم يقطعه إلى ديوان الخاص، ومما أمر به في مدّة العرض أن لا يردّ أحد مثالا أخذه من السلطان ولو استقله، ولا يشفع أمير في جنديّ، وإنّ من خالف ذلك ضرب وحبس ونفي وقطع خبزه، فعظمت مهابة السلطان وقويت حرمته، ولم يجسر أحد أن يردّ عليه مثالا أخذ من السلطان، ولا استطاع أمير أن يتكلم لأحد، وصار كثير ممن كان إقطاعه مثلا ألف دينار إلى إقطاع مائتي دينار، ونحوها وكثير ممن كان إقطاعه قليلا إلى إقطاع معتبر، فإنه كان يعطي المثال

من غير تأمّل كيفما وقعت يده عليه. وقدّر الله سبحانه وتعالى أنّ السلطان كان من جملة صبيان مطبخه، رجل مضحك يهزل بحضرته، فيضحك منه، ويعجب به ولا يعترض فيما يقول من السخف، فجلس السلطان في بعض أيام العرض في البستان بقلعة الجبل، وعنده الخاصة من الأمراء فدخل هذا المضحك، وأخذ في السخرية على عادته ليضحك السلطان، إلى أن قال: وجدت بعض أجناد الروك الناصريّ، وهو راكب الإكديش، وخرجه خلفه ورمحه فوق كتفه يقصد بهذا السخرية، والطعن، فغضب السلطان غضبا شديدا وصاح: خذوه وعرّوه ثيابه، فتبادره الأعوان، وجرّوه برجله، ونزعوا ثيابه وربطوه في الساقية مع القواديس، وأكثروا من ضرب الأبقار حتى أسرعت بدوران الساقية، فصار المسكين ينقلب مع القواديس ويغطس في المادة تارة ويرقى أخرى ثم ينتكس، والماء يمرّ عليه مقدار ساعة إلى أن انقطع حسه، وأشرف على الهلاك، واشتدّ رعب الأمراء لما رأوا من قوّة غضب السلطان. ثم تقدّم الأمير طغاي الدوادار في طائفة من الأمراء الخاصكية، واعتذروا عن هذا المسكين بأنه لم يرد إلا أن يضحك السلطان من كلامه، ولم يقصد عيب الأجناد، ولا انتقاصهم ونحو هذا من القول إلى أن أمر بحله، فإذا ليس فيه حركة، فسحب ورسم السلطان بأنه إن كان حيا لا يبيت بديار مصر، فأخرج من وقته منفيا وحمد الله كل من الأمراء على ما وفقه من السكوت عن الكلام في حال العرض. وما زال الأمر بمصر على ما رسمه الملك الناصر في هذا الروك إلى أن زالت دولة بني قلاوون بالملك الظاهر برقوق في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فأبقي الأمر على ذلك إلا أنّ أشياء منه أخذت تتلاشى قليلا قليلا إلى أن كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة حيث حدث من أنواع التغيرات، وتنوّع الظلم ما لم يخطر ببال أحد، وسيمرّ بك حمل من ذلك عند ذكر أسباب خراب إقليم مصر إن شاء الله تعالى، وكانت لأراضي مصر تقاو مخلدة في نواحيها وهي على قسمين: تقاو سلطانية، وتقاو بلدية، فالتقاوي السلطانية، وضعها الملوك في النواحي، وكان الأمير أو الجنديّ عند ما يستقرّ على الإقطاع يقبض ماله من التقاوي السلطانية، فإذا خرج عنه طولب بها، فلما كان الروك الناصري خلدت تقاوي كل ناحية بها، وضبطت في الديوان السلطاني فبلغت جملتها مائة ألف وستين ألف أردب سوى التقاوي البلدية.

ذكر الديوان

ذكر الديوان قال أقضى القضاة أبو الحسن الماورديّ: الديوان محفوظ بحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمال، وفي تسميته ديوانا وجهان: أحدهما: أن كسرى اطلع ذات يوم على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانه، أي: مجانين، فسمي موضعهم بهذا الاسم، ثم حذفت الهاء عند كثرة الاستعمال تخفيفا للاسم، فقيل: ديوان. والثاني: أن الديوان اسم بالفارسية للشياطين، فسمي الكتاب باسمهم لحذقهم بالأمور، ووقوفهم على الجليّ والخفيّ، وجمعهم لما شذ وتفرّق، واطلاعهم على ما قرب وبعد، ثم سمي مكان جلوسهم باسمهم، فقيل: ديوان. انتهى. واعلم أن كتابة الديوان على ثلاثة أقسام: كتابة الجيوش، وكتابة الخراج، وكتابة الإنشاء والمكاتبات، ولا بدّ لكل دولة من استعمال هذه الأقسام الثلاثة، وقد أفرد العلماء في كتابة الخراج، وفي كتابة الإنشاءات عدّة مصنفات، ولم أر أحدا جمع شيئا في كتابة الجيوش، والعساكر، وكانت كتابة الدواوين في صدر الإسلام أن يجعل ما يكتب فيه صحفا مدرجة، فلما انقضت أيام بني أمية، وقام عبد الله بن محمد: أبو العباس السفاح، استوزر خالد بن برمك بعد أبي سلمة حفص بن سليمان الخلال، فجعل الدفاتر في الدواوين من الجلود، وكتب فيها وترك الدروج إلى أن تصرّف جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك في الأمور أيام الرشيد، فاتخذ الكاغد، وتداوله الناس من بعده إلى اليوم. وذكر أبو النمر الوراق قال: حدّثني أبو حازم القاضي قال: قال لي أبو الحسن بن المدبر: لو عمرت مصر كلها لوفت بأعمال الدنيا، وقال: إنّ أرض مصر مساحتها للزراعة ثمانية وعشرون ألف ألف فدّان، وإنما المعمر منها ألف ألف فدّان. قال: وقال لي ابن المدبر: إنه كان يتقلد ديوان المشرق وديوان المغرب. قال: ولم أبت قط ليلة من الليالي حتى أنهيه، ولا بقيته، وتقلدت مصر فكنت ربما نمت وقد بقي عليّ شيء من العمل فأستتمه إذا أصبحت.

ذكر ديوان العساكر والجيوش

ذكر ديوان العساكر والجيوش يقال: إنّ أول من وضع ديوان الجند بخيلهم، كيهراسف، أحد ملوك الطبقة الثانية من الفرس، وإنّ كيقباذ قبله كان قد أخذ العشر من الغلات، وصرفه في أرزاق جنده، وأما في الإسلام، فما خرجه البخاري ومسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس» ، فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل، الحديث. ذكره البخاريّ في باب كتابة الإمام الناس، وللبخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وامرأتي حاجة؟ قال: «ارجع فاحجج مع امرأتك» . وقال عمرو بن منبه عن معمر عن قتادة قال: آخر ما أتي به النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمانمائة ألف درهم من البحرين، فما قام من مجلسه حتى أمضاه، ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بيت مال، ولا لأبي بكر. وأوّل من اتخذ بيت مال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال ابن شهاب: عمر أوّل من دوّن الدواوين. وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قسم أبي الفيء عام أوّل، فأعطى الحرّ عشرة، والملوك عشرة، والمرأة عشرة، وأمتها عشرة، ثم قسم العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين. فقيل: إن سببه أن أبا هريرة رضي الله عنه قدم على عمر رضي الله عنه بمال من البحرين، فقال له عمر: ماذا جئت به؟ فقال: خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر! وقال: أتدري ما تقول؟ قال: نعم، مائة ألف خمس مرّات، فقال عمر: أطيب هو؟ قال: لا أدري، فصعد عمر المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا، وإن شئتم عددنا لكم عدّا، فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدوّنون ديوانا لهم، فدوّن أنت ديوانا، فدوّن عمر. وقيل: بل سببه أن عمر بعث بعثا وعنده الهرمزان، فقال لعمر: هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلف منهم رجل من أين يعلم صاحبك به، فأثبت لهم ديوانا، فسأله عن الديوان حتى فسره له، فاستشار المسلمين في تدوين الدواوين فقال له عليّ بن أبي طالب: تقسم كل سنة ما اجتمع عندك من المال، ولا تمسك منه شيئا، وقال عثمان رضي الله عنه: أرى مالا كثيرا يسع الناس، فإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: قد كنت بالشام، فرأيت ملوكها دوّنوا ديوانا وجندوا جنودا، فدوّن ديوانا، وجند جنودا، فأخذ بقوله، ودعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا كتاب قريش، فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فبدأوا ببني هاشم، وكتبوهم، ثم أتبعوهم أولاد أبي بكر، وقومه، ثم عمر وقومه، وكتبوا القبائل، ووضعوها على الخلافة، ثم رفعوا ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فلما نظر فيه قال: لا، ولكن ابدأوا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرب، فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله

فشكره العباس رضي الله عنه على ذلك، وقال: وصلت رحمك، وقد اختلف في السنة التي فرض فيها عمر رضي الله عنه الأعطية ودوّن الدواوين فقال الكلبيّ في سنة خمس عشرة، وحكى ابن سعد عن عمر الواقدي: أنه جعل ذلك في سنة عشرين. قال الزهريّ: وكان ذلك في المحرّم سنة عشرين من الهجرة، وقيل: لما فتح الله على المسلمين القادسية، وقدمت على عمر رضي الله عنه الفتوح من الشام جمع المسلمين، وقال: ما يحلّ للوالي من هذا المال، فقالوا: جميعا. أما الخاصة، فقوته وقوت عياله لا وكس وشطط، وكسوته وكسوتهم للشتاء والصيف، ودابتان إلى جهاده وحوائجه وحملانه إلى حجته وعمرته، والقسم بالسوية، وأن يعطي أهل البلاد على قدر بلادهم ويرم أمور الناس بعد، ويتعاهدهم في الشدائد والنوازل حتى تنكشف، ويبدأ بأهل القيء ثم يجوزهم إلى كل مغلوب ما بلغ الفيء. وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما افتتحت القادسية، وصالح من صالح من أهل السواد، وافتتحت دمشق وصالح أهل الشام. قال عمر رضي الله عنه للناس: اجتمعوا فأحضروني علمكم فيما أفاء الله على أهل القادسية وأهل الشام، فاجتمع رأي عليّ وعمر رضي الله عنهما أن يأخذوه من قبل القرآن فقالوا: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الحشر/ 7] يعني: من الخمس فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ يعني: من الله الأمر وعلى الرسول القسم وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ ثم فسروا ذلك بالآية الأخرى التي تليها: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ [الحشر/ 8] الآية، فأخذوا أربعة الأخماس على ما قسم عليه الخمس فيمن بدىء به، وثنى وثلث وأربعة أخماس لمن أفاء الله عليه المغنم، ثم استشهدوا على ذلك بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال/ 41] الآية من تلك الطبقات الثلاث وأربعة أخماس لمن أفاء الله عليه، فقسم الأخماس على ذلك، فاجتمع على ذلك عمر وعليّ، وعمل به المسلمون بعد ذلك، فبدأ بالمهاجرين ثم الأنصار ثم التابعين الذين شهدوا معهم، وأعانوهم ثم فرض الأعطية من الجزاء على من صالح، أو دعا إلى الصلح من حرابة فردّه عليهم بالمعروف، وليس في الجزء أخماس الجزء لمن منع الذمّة، ووفى لهم ممن ولي ذلك منهم، ولمن لحق بهم، فأعانهم بأسوة إلا أن يواسوا بفضله عن طيب أنفس منهم، من لم ينل مثل الذي نالوا. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال عمر رضي الله عنه: إني مجيد المسلمين على الأعطية ومدوّنهم ومتحرّي الحق، فقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعليّ رضي الله عنهم: ابدأ بنفسك، قال: لا أبدأ إلا بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأقرب فالأقرب منهم من رسول الله، ففرض للعباس، وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف، ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر رضي الله عنه عن أهل الردّة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ودخل في ذلك من شهد الفتح، وقاتل عن أبي بكر ومن ولي الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء على ثلاثة آلاف ثلاثة

آلاف، ثم فرض لأهل القادسية، وأهل الشام أصحاب اليرموك ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاد النازح منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام، فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا لاها الله إذن، وقيل له: قد سوّيتهم على بعد دارهم بمن قد قربت داره، وقاتل عن فنائه، فقال: هم كانوا أحق بالزيادة لأنهم كانوا ردء الحقوق، وشجى للعدوّ. وأيم الله ما سوّيتهم حتى استطبتهم، فهلا قال المهاجرون مثل قولهم حين سوّينا بين السابقين من المهاجرين، وبين الأنصار، وقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد، وفرض للروادف الذين ردفوا بعد افتتاح القادسية واليرموك بعد الفتح ثلثمائة ثلثمائة سوّى كل طبقة في العطاء ليس بينهم تفاضل، قويهم وضعيفهم عربيهم وأعجميهم في طبقاتهم سواء حتى إذا حوى أهل الأمصار من حووا من سباياهم، وردفت المربع من الروادف فرض لهم على خمسين ومائتين، وفرض لمن ردف من الروادف الخمس على مائتين، فكان آخر من فرض له عمر رضي الله عنه أهل هجر على مائتين، ومات عمر على ذلك. وأدخل في أهل بدر أربعة من غير أهل بدر: الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان، وقال أبو سلمة: فرض عمر للعباس على خمسة وعشرين ألفا. وقال الزهريّ: على اثني عشر ألفا، وجعل نساء أهل بدر إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعد ذلك إلى الأيام قبل القادسية على ثلثمائة ثلثمائة، ثم نساء أهل القادسية على مائتين مائتين، ثم سوّى بين النساء بعد ذلك، وجعل للصبيان من أهل بدر وغيرهم مائة مائة، ثم دعا ستين مسكينا، فأطعمهم خبزا بملح فأحصوا ما أكلوه فوجدوه يخرج من جزيتين، ففرض لكل إنسان يقوم بالأمر له ولعياله جزيتين جزيتين في كل شهر: مسلمهم وكافرهم، وفرض لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف عشرة آلاف، إلا من جرى عليه البيع، فقالت أمّهات المؤمنين: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضلنا عليهنّ في القسمة ولكن كان يسوّي بيننا فسوّ بيننا، فجعلهن على عشرة آلاف عشرة آلاف، وفضل عائشة رضي الله عنها بألفين، فأبت. فقال لفضل: منزلتك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذتها فشأنك. وكان الناس أعشارا، فكانت العرفاء ثلاثة آلاف عريف كل عريف على عشرة، ورزق الخيل على أعرافها، فما زالوا كذلك حتى اختطت الكوفة والبصرة، فغيرت العرفاء والأعشار، وجعلت أسباعا، وجعل مائة عريف على كل مائة ألف درهم عريف، وكانت كل عرافة من القادسية خاصة ثلاثة وأربعين رجلا وثلاثا وأربعين امرأة، وخمسين من العيال لهم مائة ألف درهم، وكل عرافة من أهل الأيام عشرين رجلا على ثلاثة آلاف وعشرين امرأة، ولكل عيل مائة على مائة ألف درهم، وكل عرافة من الرادفة الأولى ستين رجلا وستين امرأة، وأربعين من العيال ممن كان رجالهم ألحقوا على ألف وخمسمائة على مائة ألف درهم، وكان العطاء يدفع إلى أمراء الأسباع وأصحاب الرايات، والرايات على أيادي العرب

فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه إلى أهله في دورهم. فمات عمر رضي الله عنه والأمر على ذلك، وقد عزم قبل موته أن يجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، وقال: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، ألف يخلفها الرجل في أهله، وألف يتزوّدها معه في سفره، وألف يتجهز بها، وألف يترفق بها، فمات وهو في ارتياد ذلك قبل أن يفعل، وكان يقري البعوث على قدر المسافة إن كان بعيدا فسنة، وإن كان دون ذلك فستة أشهر، فإذا أخل الرجل بثغره نزعت عمامته، وأقيم في مسجد حيه، فقيل هذا فلان قد أخل. وقال سيف بن عمر: أول عطاء أخذ سنة خمس عشرة، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يبعث من مصر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه، فلما استخلف عثمان رضي الله عنه لثلاث مضين من المحرّم سنة أربع وعشرين زاد الناس مائة، وكان أوّل من زاد، ورفد أهل الأمصار، وهو أوّل من رفدهم، وصنع فيهم الصنائع، فاستن به الخلفاء في الزيادة. وكان عمر، قد فرض لكل نفس منفوسة من أهل الفيء في رمضان درهما في كل يوم، وفرض لأمهات المؤمنين درهمين. فقيل له: لو صنعت لهم به طعاما، فجمعتهم عليه فقال: اشبعوا الناس في بيوتهم، فأقرّ عثمان رضي الله عنه ذلك، وزاد فوضع لهم طعام رمضان. وقال: هو للمتعبد الذي يتخلف في المسجد، ولابن السبيل، وللمعترين بالناس في رمضان فاقتدى به الخلفاء من بعده. وكان بمصر، في خلافة معاوية بن أبي سفيان أربعون ألفا، وكان منهم أربعة آلاف في مائتين مائتين، وكان إنما يحمل إلى معاوية ستمائة ألف دينار عن فضل أعطيات الجند، وما يصرف إلى الناس، وكان معاوية قد جعل على كل قبيلة من قبائل العرب بمصر، رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول: هل ولد الليلة فيكم مولود؟ وهل نزل بكم نازل؟ فيقال: ولد لفلان غلام، ولفلان جارية، فيكتب أسماءهم، ويقال: نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله، فيسميه وعياله فإذا فرغ من القيل أتى الديوان حتى يثبت ذلك، وأعطى مسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر، أهل الديوان أعطياتهم وأعطيات عيالهم، وأرزاقهم ونوائبهم ونوائب البلاد من الجسور، وأرزاق الكتبة وحملان القمح إلى الحجاز، وبعث إلى معاوية ستمائة ألف دينار فضلا. وأوّل تدوين كان بمصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثم دوّن عبد العزيز بن مروان تدوينا ثانيا، ودوّن قرّة بن شريك التدوين الثالث، ثم دوّن بشر بن صفوان تدوينا رابعا، ثم لم يكن بعد تدوين بشر شيء له ذكر إلا ما كان من إلحاق قيس بالديوان في خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان. فلما انقرضت دولة بني أمية وغلبت المسودّة بنو العباس أحدثوا أشياء حتى إذا مات

عبد الله المأمون بن هارون الرشيد لسبع خلون من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وبويع أخوه المعتصم، أبو إسحاق محمد بن هارون كتب إلى كندر بن نصر الصفدي أمير مصر، يأمره بإسقاط من في ديوان مصر من العرب، وقطع العطاء عنهم ففعل ذلك، وكان مروان بن محمد الجعدي آخر خلائف بني أمية قطع عن أهل مصر العطاء سنة، ثم كتب إليهم كتابا يعتذر فيه: إني إنما حبست عنكم العطاء في السنة الماضية لعدوّ حضرني، فاحتجت إلى المال، وقد وجهت إليكم بعطاء السنة الماضية، وعطاء هذه السنة فكلوه هنيئا مريئا، وأعوذ بالله أن أكون أنا الذي يجري الله قطع العطاء على يديه، ولما قطع كندر عطاء أهل مصر خرج يحيى بن الوزير الجرويّ في جمع من لخم وجذام وقال له: هذا أمر لا يقوم فينا أفضل منه لأنا منعنا حقنا وفيئنا، فاجتمع إليه نحو خمسمائة رجل. ومات كندر في ربيع الآخر سنة تسع عشرة ومائتين، وولي ابنه المظفر مصر من بعده، فسار إلى يحيى، وقاتله في بحيرة تنيس، وأخذه أسيرا فانقرضت دولة العرب من مصر، وصار جندها العجم والموالي من عهد المعتصم إلى أن ولي الأمير أبو العباس أحمد بن طولون مصر، فاستكثر من العبيد، وبلغت عدّتهم زيادة على أربعة وعشرين ألف غلام تركيّ، وأربعين ألف أسود، وسبعة آلاف حرّ مرتزق، ثم استجدّ ابنه الأمير أبو الجيش خمارويه بعده عدّة من شناترة حوف مصر، فلما كانت إمارة الأمير أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد على مصر، بلغت عدّة عساكره بمصر والشام أربعمائة ألف تشتمل على عدّة طوائف. ثم إن الأستاذ أبا المسك كافورا الإخشيدي استجدّ عدّة من السودان في أيام تحكمه بمصر، فلما تغلب الإمام المعز لدين الله أبو تميم معدّ الفاطمي على مصر صارت عساكرها ما بين كتامة وزويلة ونحوها من طوائف البربر، وفيهم الروم والصقالبة، وهم في العدد كما قيل. ومنهم معدّ. ولم تكن جيوشه تعدّ، ولا لما أوتيه كان حدّ، من كل ما يسعد فيه جدّ، وحتى قيل: إنه لم يطأ الأرض بعد جيش الإسكندر بن فليبس المقدوني أكثر عددا من جيوش المعز، فلما قام في الخلافة بمصر من بعده ابنه العزيز بالله أبو منصور نزار استخدم الديلم والأتراك واختص بهم. وذكر الأمير المختار عبد الملك المسبحي في تاريخه: أن خزانة الخاص حملها لما خرج العزيز إلى الشام عشرون ألف جمل خارجا عن خزائن القوّاد وأكابر الدولة. وذكر ابن ميسر في تاريخه: أن عبيد السيدة أم المستنصر بالله أبي تميم، معدّ بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور بن العزيز بالله خاصة كانت عدّتهم خمسين ألف عبد سوى طوائف العسكر، ورأيت بخط الأسعد بن مماتي أن عدّة الجيوش بمصر في أيام رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك كانت أربعين ألف فارس،

وستة وثلاثين ألف راجل، وزاد غيره، وعشرة شواني «1» بحرية فيها عشرة آلاف مقاتل، وهذا عند انقراض الدولة الفاطمية، فلما زالت دولتهم على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، أزال جند مصر من العبيد السود والأمراء المصريين والعربان والأرمن، وغيرهم واستجدّ عسكرا من الأكراد والأتراك خاصة، وبلغت عدّة عساكره بمصر اثني عشر ألف فارس لا غير، فلما مات، افترقت من بعده، ولم يبق بمصر مع ابنه الملك العزيز عثمان سوى ثمانية آلاف فارس، وخمسمائة فارس إلا أن فيهم من له عشرة أتباع، وفيهم من له عشرون، وفيهم من له أكثر من ذلك إلى مائة تبع لرجل واحد من الجند، فكانوا إذا ركبوا ظاهر القاهرة يزيدون على مائتي ألف، ثم لم يزالوا في افتراق، واختلاف حتى زالت دولتهم بقيام عبيدهم المماليك الأتراك، فحذوا حذو مواليهم بني أيوب، واقتصروا على الأتراك وشيء من الأكراد، واستجدّوا من المماليك التي تجلب من بلاد الترك شيئا كثيرا حتى يقال: إنّ عدّة مماليك الملك المنصور قلاون كانت سبعة آلاف مملوك، ويقال: اثني عشر ألفا، وكانت عدّة مماليك ولده الأشرف خليل بن قلاون اثني عشر ألف مملوك، لم تبلغ بعد ذلك قريبا من هذا إلى أن زالت دولة بني قلاون في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة بالملك الظاهر برقوق، فأخذ في محو المماليك الأشرفية، وأنشأ لنفسه دولة من المماليك الجركسية بلغت عدّتهم ما بين مشترى ومستخدم أربعة آلاف أو تزيد قليلا، فلما قدم من بعده ابنه الناصر فرج، افترقوا واختلفوا، فلم يقتل حتى هلك كثير منهم بالقتل وغيره. وعساكر مصر في الدولة التركية على قسمين: أجناد الحلقة، والمماليك السلطانية، وأكثر ما كانت أجناد الحلقة في أيام الناصر محمد بن قلاون، فإنها بلغت على ما رأيته في جرائد ديوان الجيش بأوراق الروك الناصري أربعة وعشرين ألف فارس، ثم ما زالت تنقص حتى صارت اليوم مع قلّة عدّتها سواء منها الألف والواحد فإنها لا تنفع ولا تدفع، وأما المماليك، فإنها اليوم قليل عددها بحيث لو جمعت أجناد الحلقة مع المماليك السلطانية لا تكاد أن تبلغ خمسة آلاف فارس يصلح منها لأن يباشر القتال ألف أو دونها، وهي اليوم قسمان: أجناد الحلقة، والمماليك السلطانية. والمماليك السلطانية ثلاثة أقسام: ظاهرية وناصرية ومؤيدية، والمؤيدية ما بين حكمية ونوروزية، ومن استجدّه المؤيد وإن خوفي ليكثر أن يكون الحال بعد الملك المؤيّد، أبي النصر شيخ- خلد الله ملكه- يتلاشى إلى أن يؤيد الله الملك بابنه الأمير، صارم الدين إبراهيم- شدّ الله به أزره- فإنه فتح من البلاد الرومية ما لا ملكه أحد من

ملوك مصر في الدولة الإسلامية قبله. والشبل في المخبر مثل الأسد، وابن السريّ إذا سري أسراهما. ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده، بأبه اقتدى عدي في الكرم ... ومن يشابه أبه فما ظلم إن الأصول عليها ينبت الشجر. ثم لما ملك الأشرف برسباي «1» صارت المماليك سبع طوائف: ظاهرية وناصرية ومؤيدية ونوروزية وحكمية وططرية وأشرفية، كل طائفة منها مباينة لجميعها، فلذلك اضمحلت شوكتهم، وانكسرت حدّتهم، وأمنت على السلطان غائلتهم، ولم يخف ثورتهم لتفرّقهم، وإن كانوا مجتمعين وتباينهم وإن كانوا في الظاهر متفقين. واعلم أنه كانت عادة الخلفاء من بني أمية وبني العباس والفاطميين من لدن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أن تجبى أموال الخراج، ثم تفرّق من الديوان في الأمراء أو العمال والأجناد على قدر رتبهم، وبحسب مقاديرهم، وكان يقال لذلك في صدر الإسلام العطاء، وما زال الأمر على ذلك إلى أن كانت دولة العجم، فغير هذا الرسم، وفرّقت الأراضي إقطاعات على الجند، وأوّل من عرف أنه فرّق الإقطاعات على الجند نظام الملك أبو عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق بن العباس الطوسي وزير البرشلان بن داود بن ميكال بن سلجوق، ثم وزر ابنه ملكشاه بن البرشلان، وذلك أن مملكته اتسعت، فرأى أن يسلم إلى كل مقطع قرية أو أكثر أو أقلّ على قدر إقطاعه لأنه رأى أن في تسليم الأراضي إلى المقطعين عمارتها لاعتناء مقطعيها بأمرها بخلاف ما إذا شمل جميع أعمال المملكة ديوان واحد، فإن الخرق يتسع ويدخل الخلل في البلاد ففعل نظام الملك ذلك، وعمرت به البلاد، وكثرت الغلات، واقتدى بفعله من جاء بعده من الملوك من أعوام بضع وثمانين وأربعمائة إلى يومنا هذا، وكانت الخلفاء ترزق من بيت المال. فذكر عطاء بن السائب، في حديث: أن أبا بكر رضي الله عنه، لما استخلف فرض له كل يوم شطر شاة وما يكسى به الرأس والبطن، وذكر عن حميد بن هلال: أنه فرض له بردان إذا أخلقهما وضعهما، وأخذ مثلهما، وطهره إذا سافر ونفقته على أهله، كما كان ينفق قبل أن يستخلف. وذكر ابن الأثير في تاريخه: أن الذي فرضوا له ستة آلاف درهم في السنة، وفرض لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استخلف ما يصلحه ويصلح عياله بالمعروف، وقال له عليّ رضي الله عنه: ليس لك غيره، فقال القوم: القول ما قال عليّ يأخذ قوته، وفرض

ذكر القطائع والإقطاعات

عمر لمعاوية بن أبي سفيان على عمله في الشام عشرة آلاف دينار في السنة، وقيل: بل رزقه ألف دينار وهو أشبه. ذكر القطائع والإقطاعات يقال: اقتطع طائفة من الشيء: أخذها، والقطيعة ما اقتطعه منه وأقطعني إياها أذن لي في اقتطاعها واستقطعه إياهما: سأله أن يقطعه إياها، وأقطعه نهرا وأرضا أباح له ذلك، وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتألف على الإسلام قوما، وأقطع الخلفاء من بعده من رأوا في إقطاعه صلاحا. روى ابن أبي نجيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع أناسا من مزينة أو جهينة أرضا، فلم يعمروها، فجاء قوم فعمروها، فخاصمهم الجهينيون أو المزينيون إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: لو كانت مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنين لا يعمرها، فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها. وقال هشام بن عروة، عن أبيه: أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير أرضا فيها نخل من أموال بني النضير، وذكر أنها أرض يقال لها الجرف. وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أقطع العقيق: أجمع الناس حتى جازت قطيعة عروة، فقال ابن الزبير: المستقطعون فند اليوم، فإن يك فيه خير فتحت قدمي. قال خوّات بن جبير: أقطعنيه فأقطعه إياه، وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: لما قدم النبيّ أقطع أبا بكر وأقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقال أشعث بن سوار، عن حبيب بن أبي ثابت، عن صلت المكيّ، عن أبي رافع قال: أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم قوما أرضا فعجزوا عن عمارتها، فباعوها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثمانية آلاف دينارا وبثمانمائة ألف درهم، فوضعوا أموالهم عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما أخذوها، وجدوها ناقصة، فقالوا: هذا ناقص، قال: احسبوا زكاته، قال: فحسبوا زكاته فوجدوه وافيا، فقال: أحسبتم أن أمسك مالا ولا أزكيه، وقد سأل تميم الداري، رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطعه عيون البلد الذي كان منه بالشام قبل فتحه، ففعل. وسأله أبو ثعلبة الخشني أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم، فأعجبه ذلك وقال: ألا تسمعون ما يقول؟ فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحن عليك، فكتب له بذلك كتابا، وقال ثابت بن سعد عن أبيه عن جده: إن الأبيض بن جمال، استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملح مأرب فأقطعه، فقال الأقرع بن حابس التميمي: يا رسول الله إني وردت هذا الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس فيها ملح، من ورده أخذه، وهو مثل الماء العذب بالأرض، فاستقال

الأبيض، فقال: قد أقلتك على أن تجعله مني صدقة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هو منك صدقة، وهو مثل الماء العذب من ورده أخذه» . وقال كثير بن عبد الله بن عوف المزنيّ عن أبيه عن جدّه: أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المعادن القبلية جليتها وغورتها، وقال مالك عن ربيعة عن قوم من علمائهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحرث المزني معادن بناحية الفرع. وعن ربيعة عن الحرث بن بلال عن أبيه بلال بن الحرث، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع، وعن حماد بن سلمة عن أبي مكين عن أبي عكرمة مولى بلال بن الحرث قال: أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أرضا فيها جبل معدن، فباع بنو بلال: عمر بن عبد العزيز أرضا منها، فظهر فيها معدن، أو قال: معدنان، فقالوا: إنما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعادن، وجاءوا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في جريدة، فقبلها عمر وفتح ومسح بها عينيه، وقال لقيمه: انظر ما خرج منها، وما أنفقت، فقاصهم بالنفقة، وردّ عليهم الفضل، واصطفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرض السواد أموال كسرى، وأهل بيته، وما هرب عنه أربابه أو هلكوا، فكان مبلغ غلته تسعة آلاف ألف درهم كان يصرفها في مصالح المسلمين، ولم يقطع شيئا منها، ثم إن عثمان رضي الله عنه أقطعها لأنه رأى إقطاعها أوفر لغلتها من تعطيلها، وشرط على من أقطعها أن يأخذ منه حق الفيء، فكان مبلغ غلته خمسين ألف ألف درهم كان منها صلاته وعطاياه، ثم تناقلها الخلفاء بعده، فلما كان عام الجماجم سنة اثنتين وثمانين في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث، أحرق الديوان، وأخذ كل قوم ما يليهم، وأقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ابن سندر منية الأصبغ، فحاز منها لنفسه ألف فدّان، وقال وكيع عن سفيان عن جابر الجعفي عن عامر: لم يقطع أبو بكر ولا عمر ولا عليّ رضي الله عنهم، وأوّل من أقطع القطائع، عثمان رضي الله عنه، وبيعت الأرضون في خلافة عثمان. قال الليث بن سعد: ولم يبلغنا أن عمر بن الخطاب أقطع أحدا من الناس شيئا من أرض مصر إلا ابن سندر، فإنه أقطعه أرض منية الأصبغ، فلم تزل له حتى مات، فاشتراها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان من ورثته، فليس بمصر قطيعة أقدم منها، ولا أفضل. وقال الأعمش عن إبراهيم بن المهاجر عن موسى بن طلحة قال: أقطع عثمان رضي الله عنه عبد الله ابن مسعود النهرين، وعمار بن ياسر إسنسا، وأقطع خبابا وصهيبا، وأقطع سعد بن أبي وقاص قرية هرمز وكان عبد الله بن مسعود وسعد يعطيان أرضهما بالثلث والربع. وقال سيف بن عمر، عن عمرو بن محمد عن عمر قال: أقطع الزبير وخباب وعبد الله ابن مسعود وعمار بن ياسر، وابن هبار أزمان عثمان، فإن يكن عثمان أخطأ، فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأوا، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا، وأقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طلحة وجرير بن عبد الله والربيل بن عمرو، وأقطع أبا مفرز دار النيل في عدّة ممن أخذنا عنه، وإنما القطائع على وجه النفل من خمس ما أفاء الله.

وكتب عمر رضي الله عنه إلى عثمان بن حنيف مع جرير بن عبد الله البجلي: أما بعد، فأقطع جرير بن عبد الله قدر ما يقوّته ولا وكس ولا شطط، فكتب عثمان إلى عمر: إن جريرا قدم عليّ بكتاب منك نقطعه ما يقوّته، فكرهت أن أمضي ذلك حتى أراجعك فيه، فكتب إليه صدق جرير، فأنفذ ذلك، وقد أحسنت في مؤامرتي، وأقطع أبو موسى الأشعريّ، وأقطع عليّ بن أبي طالب رحبة كردوس بن هاني، وأقطع سويد بن غفلة الجعفي. قال سيف عن ثابت بن هزيمة عن سويد بن غفلة قال: استقطت عليا، فقال: اكتب هذا ما أقطع عليّ سويدا أرضا لدوابه ما بين كذا إلى كذا ما شاء الله، وذكر أبو القسم، عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ما أقطعه معاوية بن أبي سفيان ومن بعده من الخلفاء من دور مصر، فأورد شيئا كثيرا. وقد كان خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس يقطعون الأراضي من أرض مصر، النفر من خواصهم لا كما هو الحال اليوم، بل يكون مال خراج أرض مصر يصرف منه أعطية الجند، وسائر الكلف، ويحمل ما يفضل إلى بيت المال، وما أقطع من الأراضي فإنه بيد من أقطعه. وأما منذ كانت أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى يومنا هذا. فإن أراضي مصر كلها صارت تقطع للسلطان وأمرائه وأجناده. وأرض مصر اليوم على سبعة أقسام: قسم يجري في ديوان السلطان، وهذا القسم ثلاثة أقسام، منه ما يجري في الديوان الخاص، ومنه ما يجري في الديوان المفرد، وقسم من أراضي مصر قد أقطع الأمراء والأجناد، وقد ذكر تفصيل ذلك عند ذكر الروك الناصري، وقسم ثالث جعل وقفا محبسا على الجوامع والمدارس والخوانك «1» ، وعلى جهات البرّ، وعلى ذراري واقفي تلك الأراضي وعتقائهم، وقسم رابع يقال له: الأحباس يجري فيه أراض بأيدي قوم يأكلونها. إما عن قيامهم بمصالح مسجد أو جامع، وإما يكون لهم لا في مقابلة عمل، وقسم خامس قد صار ملكا يباع ويشتري ويورث ويوهب لكونه اشترى من بيت المال، وقسم سادس لا يزرع للعجز عن زراعته فترعاه المواشي أو ينبت الحطب ونحوه، وقسم سابع لا يشمله ماء النيل، فهو قفر وهذا القسم منه ما لم يزل كذلك منذ عرفت أحوال الخليقة، ومنه ما كان عامرا في الدهر الأوّل ثم خرب، وسائر هذه الأقسام مذكورة أخبارها في هذا الكتاب تجدها إن أنت تأمّلته إن شاء الله تعالى. وقال أبو عبد الله «2» القاسم بن سلام في كتاب الأموال في الكلام على حديث معمر

عن عبد الله بن طاوس عن أبيه طاوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم» . قلت: ما معنى ذلك؟ قال: تكون إقطاعا، هذا الخبر أصل في الإقطاع والعادي كل أرض كان لها سكان فانقرضوا، أي صارت خرابا فإن حكمها إلى الإمام قال: وأما الأرض التي جعلها النبيّ صلى الله عليه وسلم لبعض الناس وهي عامرة لها أهل فإعطاء الإمام يكون على وجه النفل، ومن ذلك ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم تميما الداري، فإنه أعطاه أرضا بالشام من قبل أن يفتح الشام، وقبل أن يملكها المسلمون، فجعلها له نفلا من أموال أهل الحرب إذا ظهر عليهم، كما فعل نائبه، نفيلة، لما وهبها الشيباني قبل افتتاح الحيرة، فأمضاها له خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكذلك أمضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتميم الداري لما فتحت فلسطين، ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم نفله، انتهى. فقد خرّج أبو عبد الله، هذه العطية المعلقة مخرج النفل الذي ينفله الإمام بعض المقاتلة. وقال أبو الحسن عليّ بن محمد بن حبيب الماوردي «1» في الأحكام السلطانية: والإقطاع ضربان: إقطاع استغلال، وإقطاع تمليك. والثاني ينقسم إلى موات وعامر، والثاني ضربان: أحدهما: ما يتعين مالكه ولا نظر للسلطان فيه إلا بتلك الأرض في حق لبيت المال إذا كانت في دار الإسلام فإن كانت في دار الحرب حيث لم يثبت للمسلمين عليها يد، فأراد الإمام أن يقطعها ليملكها المقطع عند الظفر بها، فإنه يجوز فقد سأل تميم الداري، رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيه عيون البلد الذي كان منه قبل أن يفتح الشام ففعل، وسأله أبو ثعلبة الخشني أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه ذلك وقال: ألا تسمعون ما يقول هذا؟ فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحنّ عليك، فكتب له بذلك كتابا. قال الماورديّ: وهكذا لو استوهب أحد من الإمام مالا في دار الحرب وهو على ملك أهلها أو استوهبه شيئا من سبيها أو ذراريها ليكون أحق به إذا فتحت جاز وصحت العطية منه مع الجهالة بها لتعلقها بالأمور العامة. وقد روي الشعبيّ: أن خزيمة بن أوس الطائيّ، قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن افتح الله عليك الحيرة فأعطني بنت نفيلة، فلما أراد خالد صلح أهل الحيرة قال له خزيمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني بنت نفيلة، فلا تدخلها في صلحك، فشهد له بشر بن سعد، ومحمد بن مسلمة، فاستثناها من الصلح ودفعها إلى خزيمة، فاشتريت بألف درهم، وكانت عجزت وحالت عما عهد منها، فقيل له: قد أرخصتها وكان أهلها يدفعون لك أضعاف ما سألت، فقال: ما كنت أظنّ أن عددا يكون أكثر من ألف.

ذكر ديوان الخراج والأموال

قال الماورديّ: وإذا صح الإقطاع والتمليك على هذا الوجه نظر حال الفتح فإن كان صلحا خلصت الأرض لمقطعها، وكانت خارجة عن حكم الصلح بالإقطاع السابق، وإن كان الفتح عنوة كان المقطع والمستوهب أحق بما استقطعه، واستوهبه من الغانمين ونظر في الغانمين فإن كانوا علموا بالإقطاع أو الهبة قبل الفتح، فليس لهم المطالبة بعوض، وإن لم يعلموا حتى فتحوا عاوضهم الإمام بما يستطيب نفوسهم من غير ذلك من الغنائم. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا يلزم الإمام استطابة نفوسهم منه ولا من غيره من الغنائم إذا رأى المصلحة في ذلك. ذكر ديوان الخراج والأموال يقال لكتابة الخراج: قلم التصريف، وأوّل ما دوّن هذا الديوان في الإسلام بدمشق والعراق على ما كان عليه قبل الإسلام، وكان ديوان الشام بالرومية، وديوان العراق بالفارسية، وديوان مصر بالقبطية، فنقلت دواوين هذه الأمصار إلى العربية، والذي نقل ديوان مصر من القبطية إلى العربية: عبد الله بن عبد الملك بن مروان أمير مصر، في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة سبع وثمانين، ونسخها بالعربية وصرف أنتناش عن الديوان وجعل عليه ابن يربوع الفزاريّ من أهل حمص، وأوّل من نقل الدواوين من الفارسية إلى العربية: الوليد بن هشام بن مخزوم بن سليمان بن ذكوان، وتوفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، والأكثرون على أن الذي نقل ديوان العراق إلى العربية صالح بن عبد الرحمن كاتب الحجاج، وكان مولى لبني سعد، وهو يومئذ صاحب دواوين العراق، وذلك بعد سنة ثمانين، وسبب ذلك أن صالح بن عبد الرحمن هذا، كان أبوه من سبي سجستان، ومهر صالح في الكتابة، وكتب لزادان فروح كاتب الحجاج بن يوسف الثقفيّ، وخط بين يديه بالفارسية والعربية، فخف على قلب الحجاج فخاف من زادان، وقال له: أنت الذي رقيتني حتى وصلت إلى الأمير، وأراه قد استخفني، ولا آمن أن يقدّمني عليك، فتسقط منزلتك، فقال زادان: لا تظنّ ذلك هو أحوج إليّ مني إليه لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري، فقال صالح: والله لو شئت أن أحوّل الحساب إلى العربية لحوّلته، قال: فحوّل منه أسطرا حتى أرى! ففعل، فقال له: تمارض، فتمارض، فبعث إليه الحجاج بطبيبه، فشق ذلك على زادان، وأمره أن لا يظهر للحجاج، فاتفق عقيب ذلك أن زادان قتل في فتنة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وهو خارج من موضع كان فيه إلى منزله، فاستكتب الحجاج بعده صالحا، فأعلم الحجاج بما جرى له مع زادان في نقل الديوان، فأعجبه ذلك وعزم عليه في إمضائه، فنقله من الفارسية إلى العربية، وشق ذلك على الفرس، وبذلوا له مائة ألف درهم على أن لا يظهر النقل، فأبى عليهم، فقال له مروان شاه بن زادان فروح: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية، وكان

ذكر خراج مصر في الإسلام

عبد الحميد بن يحيى يقول: لله در صالح ما أعظم منته على الكتاب. وأما ديوان الشام، فإن الذي نقله من الرومية إلى العربية أبو ثابت سليمان بن سعد «1» كاتب الرسائل، واختلف في وقت نقله فقيل: نقل في خلافة عبد الملك بن مروان، وقيل: في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان الذي يكتب على ديوان الشام، سرجون بن منصور النصراني في أيام معاوية بن أبي سفيان، ثم كتب بعده ابنه منصور بن سرجون. ذكر خراج مصر في الإسلام أوّل من جبى خراج مصر في الإسلام، عمرو بن العاص رضي الله عنه، فكانت جبايته اثني عشر ألف ألف دينار، بفريضة دينارين دينارين من كل رجل، ثم جبى، عبد الله بن سعد ابن أبي سرح مصر أربعة عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله درت اللقحة بأكثر من درها الأوّل، فقال: أضررتم بولدها، وهذا الذي جباه عمرو، ثم عبد الله إنما هو من الجماجم خاصة دون الخراج، وانحط خراج مصر بعدهما لنموّ الفساد مع الزمان، وسريان الخراب في أكثر الأرض، ووقوع الحروب، فلم يجبها بنو أمية، وخلفاء بني العباس إلا دون الثلاثة آلاف ألف، ما خلا أيام هشام بن عبد الملك، فإنه وصى عبيد الله بن الحبحاب عامل مصر بالعمارة فيقال: إنه لم يظهر من خراج مصر بعد تناقصه كثرة إلا في وقتين، أحدهما في خلافة هشام بن عبد الملك عند ما ولي الخراج عبيد الله بن الحبحاب، فخرج بنفسه ومسح العامر من أراضي مصر، والغامر مما يركبه ماء النيل، فوجد قانون ذلك ثلاثين ألف ألف فدّان سوى ارتفاع الجرف ووسخ الأرض فراكها كلها، وعدّ لها غاية التعديل، فعقدت معه أربعة آلاف ألف دينار هذا والسعر راخ، والبلد بغير مكس، ولا ضريبة. وفي سنة سبع ومائة لأوّل أيام هشام بن عبد الملك، وظف ابن الحبحاب بمصر، طبقات معلومة منسوبة في الدواوين، ولم تزل إلى ما بعد ذهاب بني أمية، ومبلغها ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار وثمانمائة وسبعة وثلاثون دينارا منها على كور الصعيد: ألف ألف وأربعمائة دينار وعشرون دينارا. ونصف والباقي على كور أسفل الأرض. ويقال: إن أسامة بن زيد جباها في خلافة سليمان بن عبد الملك، مبلغ اثني عشر ألف ألف دينار. والوقت الثاني في إمارة أحمد بن طولون لما تسلم أرض مصر من أحمد بن محمد بن مدبر، وقد خربت أرض مصر حتى بقي خراجها ثمانمائة ألف ألف دينار، فاستقصى

أحمد بن طولون في العمارة، وبالغ فيها، فعقدت معه أربعة آلاف ألف دينار وثلثمائة ألف دينار، وجباها ابنه الأمير أبو الجيش، خمارويه بن أحمد أربعة آلاف ألف دينار مع رخاء الأسعار أيامئذ، فإنه ربما بيع في الأيام الطولونية القمح كل عشرة أرادب بدينار. وذكر ابن خرداذبه أن خراج مصر في أيام فرعون، كان ستة وتسعين ألف ألف دينار، وأن ابن الحبحاب، وجباها ألفي ألف وسبعمائة ألف وثلاثة وعشرين ألفا وثمانمائة وتسعة وثلاثين دينارا، وهذا وهم منه، فإن هذا القدر هو ما حمله إلى بيت المال بدمشق بعد أعطية أهل مصر، وكلفها قال: وحمل منها موسى بن عيسى الهاشميّ ألفي ألف ومائة ألف وثمانين ألف دينار، يعني بعد العطاء والمؤن وسائر الكلف، قال: وكان خراج مصر إذا بلغ النيل سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف وسبعة وخمسين ألف دينار، والمقبوض عن الفدّان دينارين في خلافة المأمون وغيره. وبلغ خراج مصر في أيام الأمير أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد ألفي ألف دينار سوى ضياعه التي كانت ملكا له والإخشيد أوّل من عمر الرواتب بمصر، وكان كاتبه، ابن كلا، قد عمل تقديرا عجز فيه المرتب عن الارتفاع مائتي ألف دينار، فقال له الإخشيد: كيف نعمل؟ قال: حط من الجرايات والأرزاق فليس هؤلاء أولى من الواجب، فقال: غدا تجيئني، وتدبر هذا، فلما أتاه من الغد قال له الإخشيد: قد فكرت فيما قلت فإذا أصحاب الرواتب الضعفاء، وفيهم المستورون وأبناء النعم، ولستت آخذ هذا النقص إلا منك، فقال ابن كلا: سبحان الله! فقال: تسبيحا، وما زال به الإخشيد حتى أخذ خطه بالقيام بذلك، فعوتب على ما صنعه، فقال: يا قوم اسمعوا إيش كان يعمل؟ جاءه أحمد بن محمد بن المارداني فقال له: ما بيني وبين السلطان معاملة، ولا للإخشيد عليّ طريق، وهذه هدية عشرة آلاف دينار للإخشيد وألف دينار لك، فجاءني، وقال لك قبل ابن المارداني مطالبة، فقلت: لا، فقال: هذه ألف دينار قد جاءتك على وجه الماء، فأعطاني ألفا وأخذ عشرة آلاف دينار، وأهدى إليّ محمد بن عليّ المارداني في وقت عشرين ألف دينار على يده فاستقللتها، فلما اجتمعنا عاتبته فقال لي: أرسلت إليك مائة ألف دينار ولابن كلا كاتبك عشرين ألف دينار، فأخذ المائة وأعطاني العشرين ألفا، فذكرت قول محمد بن عليّ له، فقال: ما أبرد هذا! حفظت لك المائة ألف لوقت حاجتك تريدها خذها، وأنا أعلم أنك تتلفها. وبلغت الرواتب في أيام كافور الإخشيدي، خمسمائة ألف دينار في السنة لأرباب النعم والمستورين وأجناس الناس ليس فيهم أحد من الجيش، ولا من الحاشية، ولا من المتصرّفين في الأعمال، فحسن له عليّ بن صالح الروذبادي الكاتب، أن يوفر من مال الرواتب شيئا ينتقصه من أرزاق الناس، فساعة جلس يعمل حكه جبينه، فحكه بقلمه

والحكاك يزيد به إلى أن قطع العمل، وقام لما به، فعولج حينئذ بالحديد حتى مات في رمضان سنة سبع وأربعين وثلثمائة، وهذه موعظة من الله لمن توسط للناس بالسوء، قال تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر/ 43] . ولما مات كافور نزلت محن شديدة كثيرة بمصر من الغلاء والفناء والفتن، فاتضع خراجها إلى أن قدم جوهر القائد من بلاد المغرب بعساكر مولاه، المعز لدين الله أبي تميم معدّ، فجبى الخراج لسنة ثمان وخمسين وثلثمائة ثلاثة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار ونيفا، وأمر الوزير الناصر للدين أبو الحسين عبد الرحمن اليازوري وزير مصر، في خلافة المستنصر بالله بن الظاهر أن يعمل قدر ارتفاع الدولة، وما عليها من النفقات، فعمل أرباب كل ديوان ارتفاعه، وما عليه وسلّم الجميع لمتولي ديوان المجلس، وهو زمام الدواوين، فنظم عليه عملا جامعا وأتاه به، فوجد ارتفاع الدولة ألفي ألف دينار منها، الشام ألف ألف دينار، ونفقاته بإزاء ارتفاعه، والريف وباقي الدولة ألف ألف دينار. قال القاضي أبو الحسن في كتاب المنهاج في علم الخراج: وقفت على مقايسة عملت لأمير الجيوش، بدر الجمالي «1» حين قدم مصر في أيام الخليفة المستنصر وغلب على أمرها، وقهر من كان بها من المفسدين شرح فيها أن الذي اشتمل عليه الارتفاع في الهلاليّ لسنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وفي الخراجيّ على ما يقتضيه الديوان فيه، مما كان جاريا في الأعمال المصرية من الخراج، وما يجري معه، والمضمون والمقطع والمورد بغيره والمحلول بالقاهرة ومصر وضواحيهما وناحيتي الشرقية والغربية من أسفل الأرض، وأعمالها وتنيس ودمياط وأعمالها والإسكندرية والبحيرة والأعمال الصعيدية العالية، والدانية وواحات، وعيذاب لسنة ثمانين وأربعمائة الخراجية على الرسوم المصرية، وما كان من الأعمال الشامية التي أوّلها من حدّ الشجرتين، وهو أوّل الأعمال الفلسطينية والأعمال الطبرابلسية ولسنة ثمان وسبعين وأربعمائة الخراجية على ما استقرّت عليه الجملة عينا ثلاثة آلاف ألف ومائة ألف دينار، وإن الذي استقرّ عليه جملة ما كان يتأدّى في سنة ست وستين وأربعمائة الهلالية قبل نظر أمير الجيوش الموافقة لسنة ثلاث وستين وأربعمائة الخراجية، فكان مبلغها ألفي ألف وثمانمائة ألف دينار، وكان الزائد للسنة الجيوشية عما قبلها ثلثمائة ألف دينار، مما أعرب عنه حسن العمارة، وشمول العدل، وكان نظم هذه المقايسة سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. وذكر ابن ميسر: أن الأفضل بن أمير الجيوش أمر بعمل تقدير ارتفاع ديار مصر، فجاء خمسة آلاف ألف دينار.

ذكر أصناف أراضي مصر وأقسام زراعتها

وذكر القاضي الفاضل في مياوماته: أنه عبر البلاد من إسكندرية إلى عيذاب لسنة خمس وثمانين وخمسمائة خارجا عن الثغور، وأرباب الأموال الديوانية، وعدّة نواح أربعة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسين ألفا وتسعة وعشرين دينارا، ثم تقاصرت إلى أن جباها القاضي الموفق أبو الكرم بن معصوم العاصميّ التنيسيّ، عينا خالصا إلى بيت المال بعد المؤن، والكلف ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار إلى آخر سنة أربعين وخمسمائة، ثم بعده لم يجبها هذه الجباية أحد حتى انقرضت الدولة الفاطمية. وسبب اتضاع خراج مصر، بعد ما بلغ مع الروم في آخر سنة ملكوا قبل فتح مصر عشرين ألف ألف دينار، أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق في كلف عمارة الأرض، فإنها تحتاج أن ينفق عليها ما بين ربع متحصلها إلى ثلثه، وآخر ما اعتبر حال أرض مصر، فوجد مدّة حرثها ستين يوما، ومساحة أرضها مائة ألف ألف وثمانين ألف ألف فدّان، يزرع منها في مباشرة ابن مدبر أربعة وعشرون ألف ألف فدّان، وإنه لا يتم خراجها، حتى يكون فيها أربعمائة ألف وثمانون ألف حرّاث يلزمون العمل فيها دائما، فإذا أقيم بها هذا القدر من العمال في الأرض تمت عمارتها، وكمل خراجها، وآخر ما كان بها مائة ألف وعشرون ألف مزارع في الصعيد، سبعون ألفا، وفي أسفل الأرض خمسون ألفا، وقد تغير الآن جميع ما كان بها من الأوضاع القديمة، واختلت اختلالا فاضحا. ذكر أصناف أراضي مصر وأقسام زراعتها اعلم أن أراضي مصر عدّة أصناف: أعلاها قيمة وأوفاها سعرا وأعلاها قطيعة الباق «1» ، وهو: أثر القرط، والمقاثي «2» فإنه يصلح لزراعة القمح، وبعد الباق ري الشراقي، وهو الأرض التي ظمئت في الخالية، فلما رويت في الآتية، وصارت مستريحة من الزرع، وزرعت أنجب زرعها، والبرايب، وهو أثر القمح والشعير وسعرها دون الباق لضعف الأرض بزراعة هذين الصنفين، فمتى زرعت على أثر أحدهما لم ينجب كنجابة الباق، والبرايب صالح لزراعة القرط والقطاني والمقاثي، فإن الأرض تستريح بزراعة هذه الأصناف وتصير في القابل أرض باق، والسقماهية أثر الكتان فإن زرعت قمحا خسر، والشتونية أثر ما روي، وبار في السنة الماضية، وهو دون الشراقي، والسلايح ما روي وبار فحرث وتعطل، وهو مثل ريّ الشراقي فإن زرعه يكون ناجبا والنقا: كل أرض خلت من أثر ما زرع فيها، ولم يبق بها شاغل عن قبول ما يزرع فيها من أصناف الزراعات، والوسخ: كل أرض استحكم وسخها، ولم يقدر الزارعون على إزاحته كله منها بل حرثوا، وزرعوا فيها فجاء

زرعها مختلطا بالحلفاء ونحوها، والغالب كل أرض حصل فيها نبات شغلها عن قبول الزراعة، ومنع كثرته من زراعتها، وصارت مراعي، والخرس: كل أرض فسدت بما استحكم فيها من موانع قبول الزرع وكانت بها مراع وهو أشدّ من الوسخ الغالب، وإذا أدمن على إزالة ما فيها من الموانع تهيأ صلاحها، والشراقي: كل أرض لم يصل إليها الماء إما لقصور ماء النيل أو علوّ الأرض، أو سدّ طريق الماء عنها، أو غير ذلك، والمستبحر: كل أرض وطيئة حصل بها الماء، ولم يجد مصرفا حتى فات أوان الزرع، وهو باق في الأرض، والسباخ: كل أرض غلب عليها الملح حتى ملحت، ولم ينتفع بها في زراعة الحبوب، وربما زرعت ما لم يستحكم السباخ فيها غير الحبوب كالهليون والباذنجان، ويزرع فيها القصب الفارسي. ومما لا غنى لأراضي مصر عنه الجسور وهي على قسمين: سلطانية وبلدية. فالجسور السلطانية: هي العامة النفع في حفظ النيل على البلاد كافة إلى حين يستغني عنه ولها رسوم موظفة على الأعمال الشرقية، والأعمال الغربية، وكانت في القديم تعمل من أموال النواحي ويتولى عملها مستقبلو الأراضي، ويعتدّ لهم بما صرف عليها مما عليهم من قبالات الأراضي، ثم صار بعد ذلك يستخرج برسم عملها من هذين العملين، مال بأيدي المستخدمين من الديوان، ويصرف عليها ويفضل من المال بقية تحمل إلى بيت المال، ثم صار يتولى ذلك أعيان أمراء الدولة إلى أن حدثت الحوادث في أيام الناصر فرج، فصار يجبي من البلاد مال عظيم، ولا يصرف منه شيء البتة، بل يرفع إلى السلطان، ويتفرّق كثير منه بأيدي الأعوان، ويسخر أهل البلاد في عمل الجسور، فيجيء الخلل كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى عند ذكر أسباب الخراب. وأما الجسور البلدية: فإنها عبارة عما يخص نفعها ناحية دون ناحية، ويتولى إقامتها المقطعون والفلاحون من أصل مال الناحية. ومحل الجسور السلطانية من القرى محل سور المدينة الذي يتعين على السلطان الاهتمام بعمارته، وكفاية الرعية أمره. ومحل الجسور البلدية، محل الدوز التي من داخل السور، فيلزم صاحب كل دار أن يصلحها، ويزيل ضررها ومن العادة أن المقطع إذا انفصل وكان قد أنفق شيئا من مال إقطاعه في إقامة جسر لأجل عمارة السنة التي انتقل الإقطاع عنه فيها، فإن له أن يستعيد من المقطع الثاني نظير ما أنفقه من مال سنته في عمارة سنة غيره. وأصلح ما زرع القمح في أثر الباق والشراقي، وكان يزرع بالصعيد القمح على أثر القمح لكثرة الطرح، وربما زرع هناك على أثر الكتان والشعير، ويزرع القمح من نصف شهر بابه إلى آخر هتور، وهذا في العوالي من الأرض التي تخرج بدريا. وأما البحائر المتأخرة: فيمتدّ وقت الزرع فيها إلى آخر كيهك، ومقدار ما يحتاج إليه

الفدّان الواحد من بذر القمح يختلف بحسب قوّة الأرض وضعفها ورقتها وتوسطها وما يزرع في اللوق وما يزرع في الحرث، وأكثر البذر من أردب إلى خمس ويبات وأربع ويبات أيضا. ويوجد في الصعيد أراض تحتمل دون هذا وفي حوف رمسيس أراض يكفي الفدّان منها نحو الويبتين، ويدرك الزرع بمصر في بشنس وهو نيسان، ويختلف ما يخرج من فدّان القمح بحسب الأراضي فيرمي من أردبين إلى عشرين أردبا. وقال أبو بكر بن وحشية في كتاب الفلاحة: وذكر أن في مصر إذا زرعوا يخرج من المدّ ثلثمائة مدّ، والعلة في ذلك حرارة هواء بلادهم مع سمن أرضهم، وكثرة كدورة ماء النيل. ولما كان في سنة ست وثمانمائة انحسر الماء عن قطعة أرض من بركة الفيوم التي يقال لها اليوم: بحر يوسف، فزرعت وجاء زرعها عجيبا رمى الفدّان منها، أحدا وسبعين أردبا من شعير بكيل الفيوم، وأردبها تسع ويبات، وكانت قطيعة فدّان القمح ببلاد الصعيد في أيام الفاطمية: ثلاثة أرادب، فلما مسحت البلاد في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة تقرّر على كل فدّان أردبان ونصف، ثم صار يؤخذ أردبان عن الفدّان. وأما أراضي أسفل الأرض فيأخذ عنها لا غلة، ويزرع الشعير في أثر القمح وغيره في الأرض التي غرقت وهي رطبة، ويتقدّم زراعته على زراعة القمح بأيام، وكذلك حصاده، فإنه يحصد قبل القمح، ويحتاج الفدّان منه أن يبذر فيه بحسب الأرض ويخرج أكثر من القمح ويكون إدراكه في برموده وهو أذار. ويزرع الفول في الحرث إثر البرايب، من أوّل شهر بابه ويؤكل وهو أخضر في شهر كيهك، ويحتاج الفدّان من البذر منه إلى ثلاث ويبات ونحوها، ويدرك في برموده، ويتحصل من فدّانه، ما بين عشرين أردبا إلى ما دون ذلك. ويزرع العدس والحمص من هتور إلى كيهك، والجلبان لا يزرع إلا في أرق الأراضي حرثا من الأرض العالية، ويزرع تلويقا في الأراضي الخرس، ويبذر في كل فدّان من الحمص من أردب إلى ثمان ويبات، ومن الجلبان: من أردب إلى أربع ويبات، ومن العدس، من ويبتين إلى ما دونهما، وتدرك هذه الأصناف في برموده، ويتحصل من فدّان الحمص من أربعة أرادب إلى عشرة، ومن الجلبان، من عشرة أرادب إلى ما دونها، والعدس من عشرين أردبا فما دونها. وأنجب ما يكون الكتان ذا زرع في البرش «1» ، ويحتاج أن يسبخ بتراب سباخ، وهو إذا

طال رقد، ويقلع قضبانا ويسمى حينئذ: أسلافا وينشر في موضعه حتى يجف، فإذا جف حمل وهدر وعزل جوزه، فيخرج منه بزر الكتان، ويستخرج منه الزيت الحار، ويزرع الكتان في شهر هتور، ويحتاج الفدّان أن يبذر فيه من البزر ما بين أردب وثلث إلى ما دون ذلك، ويدرك في شهر برموده، ويخرج من الفدّان ما بين ثلاثين شدّة إلى ما دون ذلك، ومن البزر من ستة أرادب إلى ما دونها، وكانت قطيعة الفدّان منه في القديم بأرض الصعيد، من خمسة دنانير إلى ثلاثة، وفي دلاص ثلاثة عشر دينارا، وفيما عدا ذلك ثلاثة دنانير. ويزرع القرط «1» عند أخذ ماء النيل في النقصان، ولا ينبغي تأخير زرعه إلى أوان هبوب الريح الجنوبية التي يقال لها: المريسية وأوّل ما يبذر في شهر بابه، وربما زرع بعد النوروز، والحراثيّ منه، يزرع في كيهك وطوبة، ويزرع أحيانا في هتور ويبذر في كل فدّان من ويبتين ونصف إلى ما حولها، ويدرك الأخضر منه في آخر شهر كيهك، ويدرك الحراثي في طوبة وأمشير، ويتحصل من الفدّان الحراثيّ ما بين أردبين إلى أربع ويبات. ويزرع البصل والثوم من شهر هتور إلى نصف كيهك، ويبذر في فدّان البصل، من نصف وربع ويبة إلى ويبة، والثوم من مائة حزمة إلى مائة وخمسين حزمة، ويدرك ذلك في برموده، والبصل الذي يخرج ليزرع زريعة فإنه يزرع من أوّل كيهك إلى العاشر من طوبة، ويخرج من زريعته، عشرة أرادب من الفدّان ويدرك في بشنس. ويزرع الترمس في طوبة وزريعته لكل فدّان أردب، ويدرك في برموده، ويتحصل من الفدّان ما بين عشرين أردبا إلى ما دونها، وهذه هي الأصناف الشتوية. وأما الأصناف الصيفية: فإنّ البطيخ واللوبيا يزرعان من نصف برمهات إلى نصف برموده، ويزرع في الفدّان قدحان ويدرك في بشنس، ويزرع السمسم في برموده وزريعته ربع ويبة للفدّان، ويدرك في أبيب ومسري، ويتحصل من الفدّان ما بين أردب إلى ستة أرادب. ويزرع القطن في برموده وزريعته أربع ويبات حب للفدّان، ويدرك في توت فيخرج من الفدّان، من ثمانية قناطير بالجرويّ إلى ما دونها. ويزرع قصب السكر من نصف برمهات في أثر الباق والبرش وتبرش أرضه سبع سكك، وأنجبه ما تكامل له ثلاث غرقات قبل انقضاء شهر بشنس، ومقدار زريعته ثمن فدّان وما حوله لكل فدّان، ويحتاج القصب إلى أرض جيدة دمثة قد شملها الريّ، وعلاها ماء النيل، وقلع ما بها من الحلفاء ونظفت، ثم برشت بالمقلقلات وهي محاريث كبار ستة

وجوه، وتجرّف حتى تتمهد، ثم تبرش ستة وجوه أخرى وتجرّف، ومعنى البرش: الحرث. فإذا صلحت الأرض وطابت ونعمت وصارت ترابا ناعما، وتساوت بالتحريف شقت حينئذ بالمقلقلات ويرمي فيها القصب قطعتين، قطعة مثناة، وقطعة مفردة بعد أن تجعل الأرض أحواضا وتفرز لها جداول يصل الماء إلى الأحواض، ويكون طول كل قطعة من القصب ثلاثة أنابيب كوامل، وبعض أنبوبة من أعلى القطعة وبعض أخرى من أسفلها، ويختار ما قصرت أنابيبه وكثرت كعوبه من القصب ويقال لهذا الفعل: النصب، فإذا كمل نصب القصب أعيد التراب عليه، ولا بدّ في النصب أن تكون القطعة ملقاة لا قائمة، ثم يسقي من حين نصبه في أوّل فصل الربيع لكل سبعة أيام مرّة فإذا أنبت القصب، وصار أوراقا ظاهرة نبتت معه الحلفاء والبقلة الحمقاء التي يسميها أهل مصر، الرجلة، فعند ذلك تعزق أرضه، ومعنى العزاق: أن تنكش أرض القصب، وينظف ما نبت مع القصب ولا يزال يتعاهد ذلك حتى يغزر القصب ويقوى ويتكاثف، فيقال عند ذلك: طرد القصب عزاقه فإنه لا يمكن عزاق الأرض، ولا يكون هذا حتى يبرز الأنبوب منه، ومجموع ما يسقي بالقادوس ثمانية وعشرون ماء، والعادة أن الذي ينصب من الأقصاب على كل مجال بحرانيّ أي مجاور للبحر إذا كانت مزاحة الغلة بالأبقار الجياد مع قرب رشا الآبار ثمانية أفدنة، ويحتاج إلى ثمانية أرؤس بقر، فإن كانت الآبار بعيدة عن مجرى النيل لا يمكن حينئذ أن يقوم المجال بأكثر من ستة أفدنة إلى أربعة، فإذا طلع النيل وارتفع سقى القصب عند ذلك ماء الراحة. وصفة ذلك أن يقطع عليه من جانب جسر يكون قد أدير عليه ليقيه من الغرق عند ارتفاع النيل بالزيادة فيدخل الماء من ثلمه في ذلك الجسر حتى يعلو على أرض القصب نحو شبر ثم يسدّ عنه الماء حتى لا يصل إليه، ويترك الماء فوق الأرض قدر ساعتين أو ثلاث إلى أن يسجن، ثم يصرف من جانب آخر حتى ينضب كله ويجدّد عليه ماء آخر كذلك فيتعاهد ما ذكرنا مرارا في أيام متفرّقة بقدر معلوم، ثم يفطم بعد ذلك فإذا عمل ما قلناه وفي القصب حقه، فإن نقص عن ذلك حصل فيه الخلل، ولا بدّ للقصب من القطران قبل أن يحلو حتى لا يسوّس، ويكسر القصب في كيهك ولا بدّ من حرق آثار القصب بالنار ثم سقيه وعزقه كما تقدّم، فينبت قصبا يقال له: الخلفة، ويسمى الأوّل: الرأس، وقنود الخلفة أجود غالبا من قنود الرأس، ووقت إدراك الرأس في طوبة، والخلفة في نصف هتور، وغاية إدارة معاصر القصب إلى النوروز، ويحصل من الفدّان، ما بين أربعين أبلوجة قند إلى ثمانين أبلوجة، والأبلوجة تسع قنطارا فما حوله. ويزرع القلقاس مع القصب، ولكل فدّان عشرة قناطير قلقاس جروية ويدرك في هتور. ويزرع الباذنجان في برمهات وبرموده وبشنس وبؤونة ويدرك من بؤونة إلى مسرى. وتزرع النيلة من بشنس، والزريعة للفدّان ويبة ويدرك من أبيب.

ويزرع الفجل طول السنة وزريعة الفدّان من قدح واحد إلى قدحين. ويزرع اللفت في أبيب وزريعة الفدّان قدح واحد، ويدرك بعد أربعين يوما. ويزرع الخس في طوبة شتلا، ويؤكل بعد شهرين. ويزرع الكرنب في توت شتلا ويدرك في هتور. ويغرس الكرم في أمشير نقلا وتحويلا. ويغرس التين والتفاح في أمشير. ويقلم التوت في برمهات. ويغرس ويبلّ اللوز والخوخ والمشمش في ماء طوبة ثلاثة أيام، وهي قضبان، ثم يغرس ويحوّل شجرها في طوبة. ويزرع نوى التمر ثم يتحوّل وديا فينقل. ويدفن بصل النرجس في مسرى. ويزرع الياسمين في أيام النسيء وفي أمشير. ويزرع المرسين «1» في طوبة وأمشير غرسا. ويزرع الريحان في برموده. ويزرع حب المنثور في أيام النيل. ويزرع الموز الشتويّ في طوبة والصيفيّ في أمشير. ويحوّل الخيار شنبر في برمهات. وتقلم الكروم على ريح الشمال إلى ليال من برمهات حتى تخرج العين منها. وتقلم الأشجار في طوبة وأمشير إلا السدر، وهو شجر النبق فإنه يقلم في برمودة. وتسقي الأشجار في طوبة ماء واحدا ويسمونه ماء الحياة، وتسقي في أمشير ثانيا عند خروج الزهر، وتسقي في برمهات ماءين آخرين إلى أن ينعقد التمر، وتسقي في بشنس ثلاث مياه وتسقي في بؤونة وأبيب ومسرى ماء في كل سبعة أيام، وتسقي في توت وبابة مرّة واحدة تغريقا من ماء النيل، وتسقي في هتور من ماء النيل بتغريق المساطب، ويسقي البعل

ذكر أقسام مال مصر

من الكروم في هتور من ماء النيل مرّة واحدة تغريقا. وجميع أراضي مصر تقاس بالفدّان، وهو عبارة عن أربعمائة قصبة حاكمية طولا في عرض قصبة واحدة، والقصبة ستة أذرع وثلثا ذراع بذراع القماش، وخمسة أذرع بذراع النجار تقريبا. وقال القاضي أبو الحسن في كتاب المنهاج: خراج مصر قد ضرب على قصبة في المساحة اصطلح عليها زرع المزارع على حكمها، وتكسير الفدّان أربعمائة قصبة لأنه عشرون قصبة طولا في عشرين قصبة عرضا وقصبة المساحة تعرف بالحاكمية، وهي تقارب خمسة أذرع بالنجاري. ذكر أقسام مال مصر اعلم أن مال مصر في زمننا ينقسم قسمين: أحدهما يقال له: خراجيّ، والآخر يقال له: هلاليّ. فالمال الخراجيّ: ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تزرع حبوبا ونخلا وعنبا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج والكشك وغيره من طرف الريف. والمال الهلاليّ عدّة أبواب، كلها أحدثوها ولاة السوء شيئا بعد شيء، وأصل ذلك في الإسلام أن أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بلغه أن تجارا من المسلمين يأتون أرض الجند، فيأخذون منهم العشر، فكتب إلى أبي موسى الأشعريّ، وهو على البصرة أن خذ من كل تاجر يمرّ بك من المسلمين من كل مائتي درهم خمسة دراهم، وخذ من كل تاجر من تجار العهد، يعني أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما، ومن تجار الحرب، من كل عشرة دراهم درهما، وقيل لابن عمر: كان عمر يأخذ من المسلمين العشر، قال: لا، ونهى عمر بن عبد العزيز عن ذلك، وكتب: ضعوا عن الناس هذه المكوس فليس بالمكس، ولكنه النجس. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتاه ناس من أهل الشام فقالوا: أصبنا دواب وأموالا فخذ منها صدقة تطهر نابها، فقال: كيف أفعل ما لم يفعل من كان قبلي؟ وشاور، فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لا بأس به إن لم يأخذه من بعدك، فأخذ عن العبد عشرة دراهم، وكذلك عن الفرس وعن الهجين ثمانية، وعن البرذون والبغل خمسة. وأوّل من وضع على الحوانيت الخراج في الإسلام أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر المنصور في سنة سبع وستين ومائة وولي ذلك سعيد الجرسي. وأوّل من أحدث مالا سوى مال الخراج بمصر أحمد بن محمد بن مدبر لما ولي خراج مصر بعد سنة خمسين ومائتين، فإنه كان من دهاة الناس، وشياطين الكتاب، فابتدع في مصر بدعا صارت مستمرّة من بعده لا تنقض، فأحاط بالنطرون وحجر عليه بعد ما كان مباحا

لجميع الناس، وقرّر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرّر على ما يطعم الله من البحر مالا وسماه المصايد إلى غير ذلك، فانقسم حينئذ مال مصر إلى خراجيّ وهلاليّ، وكان الهلاليّ يعرف في زمنه وما بعده: بالمرافق والمعاون، فلما ولي الأمير أبو العباس أحمد بن طولون إمارة مصر، وأضاف إليه أمير المؤمنين المعتمد على الله الخراج والثغور الشامية، رغب وتنزه عن أدناس المعاون والمرافق، وكتب بإسقاطها في جميع أعماله، وكانت تبلغ بمصر خاصة، مائة ألف دينار في كل سنة، وله في ذلك خبر فيه أكبر معتبر قد ذكرته عند ذكر أخبار الجامع الطولوني من هذا الكتاب، ثم أعيدت الأموال الهلالية في أثناء الدولة الفاطمية عند ما ضعفت، وصارت تعرف: بالمكوس. فلما استبدّ السلطان الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب بملك مصر، أمر بإسقاط مكوس مصر والقاهرة. فكتب عنه القاضي الفاضل مرسوما بذلك، وكان جملة ذلك في كل سنة: مائة ألف دينار. تفصيلها: مكس البهار وعمالته: ثلاثة وثلاثون ألفا وثلثمائة وأربعة وستون دينارا؛ مكس البضائع والقوافل وعمالتها: تسعة آلاف وثلثمائة وخمسون دينارا؛ منفلت الصناعة عن مكس البز الوارد إليها والنحاس والقزدير والمرجان والفاضلات: خمسة آلاف ومائة وثلاثة وتسعون دينارا؛ الصادر عن الصناعة بمصر: ستة آلاف وستمائة وستة وستون دينارا؛ سمسرة التمر: ثلثمائة دينار؛ الفندق بالمنية عن مكس البضائع: ثمانمائة دينار وستة وخمسون دينارا؛ رسوم دار القند: ثلاثة آلاف ومائة وثمانية دنانير؛ رسوم الخشب الطويل والملح: ستمائة وستة وسبعون دينارا؛ رسوم العلب المنسوبة إلى بلبيس والبوري: مائة دينار؛ رسوم التفتيش بالصناعة عن البهار وغيره: مائتان وسبعة عشر دينارا؛ خيمة أرمنت عن الوارد إليها: سبعة وستون دينارا؛ فندق القطن: ألفا دينار؛ سوق الغنم بالقاهرة ومصر والسمسرة وعبور الأغنام بالجيزة: ثلاثة آلاف وثلثمائة وأحد عشر دينارا؛ عبور الأغنام والكتّان والأبقار بباب القنطرة: ألف ومائتا دينارا؛ واجب ما ورد من الكتان الحطب إلى الصناعة: مائتا دينار؛ رسوم واجب الغلات كالحبوب الواردة إلى الصناعة، والمقس والمنية والجسر والتباين، ومفالت جزيرة الذهب، وطموه ومنبر الدرج: ستة آلاف دينار. مكس ما يرد إلى الصناعة من الأغنام: ستة وثلاثون دينارا؛ الأغنام البيتوتية؛ اثنا عشر دينارا؛ العرصة والسرسناوي بالجيزة، ومكس الأغنام: مائة وتسعون دينارا؛ منفلت الفيوم عما يرد من الكتان من القبلة، ومن البضائع الواردة من الفيوم وغيره: أربعة آلاف ومائة وستون دينارا؛ مكس الورق المجلوب إلى الصناعة، ورسم التفتيش: مائتا دينارا؛ الحصة بساحل الغلة والأقوات والرسائل: سبعمائة وثمانية وستون دينارا؛ دار التفاح والرطب بمصر والعرصة بالقاهرة: ألف وسبعمائة دينار؛ رسم ابن المليحي: مائتا دينار؛ دار الجبن: ألف

دينار؛ مشارفة الخزائن: مائتان وأربعون دينارا؛ واجب الحلي الوارد من الوجه البحري، والقطن: ألف وعشرون دينارا؛ رسم سمسرة الصفا: ألف ومائتا دينار؛ منفلت بالصعيد: مائة وأحد وستون دينارا؛ خاتم الشرب والديبقي: ألف وخمسمائة دينار؛ مكس الصوف: مائتا دينار؛ نصف الموردة بساحل المقس: أربعة عشر دينارا؛ دكة السمسار: ثلثمائة وخمسون دينارا؛ منفلت العريف بالصناعة وحملة البهار والبضائع: مائتان وستة عشر دينارا؛ الحلفاء الواردة من القبلة: مائة وخمسة وثلاثون دينارا؛ الوقد والسرقين والطعم بدار التفاح ومنفلت القبلة بالتبانين والجسر: خمسة وثلاثون دينارا؛ رسوم الصفا والحمراء ورسوم دار الكتان: ستون دينارا؛ حماية الغلات بالمقس ودار الجبن: مائة وأربعون دينار؛ الحلفاء الواردة على الجسر ومعدّية المقياس: مائة دينار؛ خمس البرنية بالجيزة: عشرون دينارا؛ تلّ التعريف بالصناعة: ثمانية وعشرون دينارا؛ منفلت الغلات بمعدّية جزيرة الذهب: عشرة دنانير؛ رسوم الحمام بساحل الغلة: خمسمائة وأربعة وثلاثون دينارا؛ واجب الحناء الواردة في البرّ: ثمانمائة دينار؛ واجب الحلفاء والقصاب: ثلاثة وستون دينارا؛ مكس ما يرد من البضائع إلى المنية: مائة وأربعة وثمانون دينارا؛ مسلخة شطنوف والبرانية: مائتا دينار؛ سوق السكر: بين خمسون دينارا؛ رسوم خيمة الجملي بالشارع وسوق وردان: تسعة عشر دينارا؛ واجب الفحم الوارد إلى القاهرة: عشرة دنانير؛ معدّية الجسر بالجيزة: مائة وعشرون دينارا؛ خيمة البقري: أربعون دينارا؛ الخيمة بدار الدباغة: تسعة عشر دينارا. سمسمرة الحبس الجيوشي: ثلثمائة واثنا عشر دينارا؛ دكان الدهن ومعصرة الشيرج والخل بالقاهرة: خمسمائة دينار؛ الخل الحامض وما معه: أربعمائة دينار؛ بيوت الغزل والمصطبة: ثلثمائة وخمسون دينارا؛ ذبائح الأبقار: ألف دينار؛ سوق السمك بالقاهرة ومصر: ألف ومائتا دينار؛ رسوم الدلالة: ثلثمائة دينار؛ سمسرة الكتان: ثلثمائة دينار؛ رسوم حماية الصناعتين: أربعمائة دينار؛ مربعة العسل: مائتان واثنان وثلاثون دينارا؛ معادي جزيرة الذهب وغيرها: ثلثمائة دينار؛ خاتم الشمع بالقاهرة: ثلاثة وستون دينارا؛ زريبة الذبيحة: سبعمائة دينار؛ معدّية المقياس وأنبابة: مائتا دينار؛ حمولة السلجم: ثلثمائة وثلاثون دينارا؛ دكة الدباغ: ثمانمائة دينار؛ سوق الرقيق: خمسمائة دينار؛ معمل الطبري: مائتان وأربعون دينارا؛ سوق منبوية: مائة وأربعة وستون دينارا؛ ذبائح الضأن بالجيزة، ورسوم ساحل السنط: عشرة دنانير؛ نخ السمك: خمسة دنانير؛ تنور الشوي: مائة دينار؛ نصف الرطل من مطابخ السكر: مائة وخمسة وثلاثون دينارا؛ سوق الدواب بالقاهرة ومصر: أربعمائة دينار؛ سوق الجمال: مائتان وخمسون دينارا؛ قبان الحناء: ثلاثون دينارا؛ واجب طاقات الأدم: ستة وثلاثون دينارا؛ امنفلت الخام بالشاشيين: ثلاثة وثلاثون دينارا؛ أنولة القصار: أربعون دينارا؛ بيوت الفرّوج: ثلاثون دينارا؛ الشعر والطارات: أربعة دنانير؛ رسوم الصبغ والحرير: ثلثمائة وأربعة وثلاثون دينارا؛ وزن الطفل: مائة وأربعون دينارا؛

معمل المزر: أربعة وثمانون دينارا؛ الفاخور بمصر والقاهرة: مائتان وستة وثلاثون دينارا. وذكر ابن أبي طيّ: أن الذي أسقطه السلطان صلاح الدين والذي سامح به لعدّة سنين، آخرها سنة أربع وستين وخمسمائة مبلغه عن نيف ألف ألف دينار وألفي ألف أردب، سامح بذلك وأبطله من الدواوين، وأسقطه عن المعاملين. فلما ولي السلطان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف، أعاد المكوس وزاد في شناعتها. قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة تسعين وخمسمائة، وكان قد تتابع في شعبان أهل مصر والقاهرة في إظهار المنكرات، وترك الإنكار لها، وإباحة أهل الأمر والنهي لها، وتفاحش الأمر فيها إلى أن غلا سعر العنب لكثرة من يعصره، وأقيمت طاحون بحارة المحمودية لطحن حشيش المزر «1» ، وأفردت برسمه وحميت بيوت المزر، وأقيمت عليها الضرائب الثقيلة، فمنها ما انتهى أمره في كل يوم إلى ستة عشر دينارا، ومنع المزر البيوتي ليتوفر الشراء من البيوت المحمية، وحملت أواني الخمر على رؤوس الأشهاد، وفي الأسواق من غير منكر، وظهر من عاجل عقوبة الله عز وجل، وقوف زيادة النيل عن معتادها، وزيادة سعر الغلة في وقت ميسورها. وقال في متجدّدات سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وآل الأمر إلى وقوف وظيفة الدار العزيزية من خبز ولحم إلى أن يتحمل في بعض الأوقات لا كلها لبعض ما يتبلغ به من خبز، وكثر ضجيجهم، وشكواهم فلم يسمع. ووقف الحال فيما ينفق في دار السلطان، وفيما يصرف إلى عياله، وفيما يقتات به أولاده، وما يغصب من أربابه، وأفضى هذا إلى غلاء الأسعار، فإنّ المتعيشين من أرباب الدكاكين يزيدون في أسعار المأكولات العامة بمقدار ما يؤخذ منهم للدار السلطانية، فأفضى ذلك إلى النظر في المكاسب الخبيثة، وضمن المزر والخمر باثني عشر ألف دينار. وفسح في إظهار منكره والإعلان به والبيع له في القاعات والحوانيت، مع قرب استهلال رجب، وما استطاع أحد من العامة الإنكار لا باليد ولا باللسان، وصار هذا السحت مما ينفرد السلطان به لنفقته وطعامه، وانتقل مال الثغور، ومال الجواليّ الحل الطيب إلى أن يصير حوالات لمن لا يبالي من أين أخذ المال، ولا يفرّق بين الحرام والحلال، وفي شهر رمضان: غلا سعر الأعناب لكثرة العصير منها، وتظاهر به أربابه لتحكير تضمينه السلطانيّ، واستيفاء رسمه بأيدي مستخدميه، وبلغ ضمانه سبعة عشر ألف دينار، وحصل منه شيء حمل إليه، فبلغني أنه صنع به آلات للشراب ذهبيات وفضيات، وكثر اجتماع

النساء والرجال في شهر رمضان لا سيما على الخليج لما فتح، وعلى مصر لما زاد الماء وتلقى فيه النيل بمعاص نسأل الله أن لا يؤاخذنا بها، وأن لا يعاقبنا عليها بجرأة أهلها. وقال جامع السيرة التركية: ولما استقل الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ بمملكة مصر في سنة خمسين وستمائة، بعد انقراض دولة بني أيوب استوزر شخصا من نظار الدواوين يعرف بشرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، أحد كتاب الأقباط، وكان قد أظهر الإسلام من أيام الملك الكامل، وترقى في خدمة الكتابة، فقرّر في وزارته أموالا على التجار، وذوي اليسار، وأرباب العقار، ورتب مكوسا وضمانات سموها: حقوقا ومعاملات. ولما ولي الملك المظفر «1» سيف الدين قطز: مملكة مصر، بعد خلعه الملك المنصور، علّي بن المعز أيبك أحدث عند سفره الذي قتل فيه مظالم كثيرة لأجل جمع المال، وصرفه في الحركة لقتال جموع التتر، منها: تصقيع الأملاك، وتقويمها وزكاتها، وأحدث على كل إنسان دينارا يؤخذ منه، وأخذ ثلث التركات الأهلية، فبلغ ذلك ستمائة ألف دينار في كل سنة. فلما قتل قطز وجلس الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بعده على سرير الملك بقلعة الجبل، أبطل ذلك جميعه، وكتب به مساميح قرئت على المنابر، ثم أبطل ضمان المزر وجهاته في سنة اثنتين وستين وستمائة. وكتب وهو بالشام إلى الأمير عز الدين الحليّ نائب السلطنة بمصر: أن يبطل بيوت المزر، ويعفي آثاره، ويخرب بيوته، ويكسر مواعينه، ويسقط ارتفاعه من الديوان. فإنّ بعض الصالحين تحدّث معي في ذلك، وقال: القمح الذي جعله الله تعالى يداس بالأرجل، وقد تقرّبت إلى الله تعالى بإبطاله، ومن ترك شيئا لله عوّضه خيرا منه، ومن كان له على هذه الجهة شيء يعوّضه الله من المال الحلال، فأبطل الحليّ ذلك، وعوّض المقطعين عليه بدله. وفي سنة ثلاث وستين أبطل حراسة النهار بالقاهرة ومصر، وكانت جملة مستكثرة، وكتب بذلك توقيعا، وأبطل من أعمال الدقهلية والمرتاحية عن رسوم الولاية، أربعة وعشرين ألف دينار، وفي خامس عشري شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة، قرىء بجامع مصر مكتوب بإبطال ما قرّر على رسوم ولاية مصر من الرسوم، وهي مائة ألف درهم مصرية، فبطل ذلك، وأبطل ضمان الحشيش من ديار مصر كلها في سنة خمس وستين وستمائة.

وأمر بإراقة الخمور، وإبطال المنكرات، وتعفية بيوت المسكرات، ومنع الخانات والخواطىء بجميع أقطار مملكة مصر والشام، فطهرت من ذلك البقاع، ولما وردت المراسيم بذلك على القاضي ناصر الدين أحمد بن المنير قال: ليس لإبليس عندنا أرب ... غير بلاد الأمير مأواه حرفته الخمر والحشيش معا ... حرّمتا ماؤه ومرعاه وقال الأديب الفاضل أبو الحسين الجزار: قد عطل الكوب من حبابه ... وأخلى الثغر من رضابه وأصبح الشيخ وهو يبكي ... على الذي فات من شبابه وفي تاسع جمادى الآخرة سنة ست وستين وستمائة، أمر الملك الظاهر بيبرس بإراقة الخمور وإبطال الفساد، ومنع النساء الخواطىء من التعرّض للبغاء من جميع القاهرة ومصر، وسائر الأعمال المصرية، فتطهرت أرض مصر من هذا المنكر، ونهبت الخانات التي كانت معدّة لذلك، وسلب أهلها جميع ما كان لها، ونفى بعضهم، وحبست النساء حتى يتزوّجن. وكتب إلى جميع البلاد بمثل ذلك، وحط المال المقرّر على البغايا من الديوان، وعوّض الحاشية من جهات حلّ بنظيره، وفي سابع عشر ذي الحجة سنة تسع وستين وستمائة، أريقت الخمور، وأبطل ضمانها، وكان كل يوم ألف دينار، وكتب توقيع بذلك قرىء على المنابر، وافتتح سنة سبعين بإراقة الخمور، والتشدّد في إزالة المنكرات، وكان يوما مشهودا بالقاهرة، وبلغه في سنة أربع وسبعين عن الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف: بصدر الباز، وكان قد تمكن منه تمكنا كثيرا أنه يشرب الخمر، فشنقه تحت قلعة الجبل. ولما ولي الملك المنصور سيف الدين قلاون الإلفي، مملكة مصر أبطل زكاة الدولة، وهو ما كان يؤخذ من الرجل عن زكاة ماله أبدا، ولو عدم منه، وإذا مات يؤخذ من ورثته، وأبطل ما كان يجبى من أهل إقليم مصر كله إذا حضر مبشر بفتح حصن، أو نحوه، فيؤخذ من الناس بالقاهرة ومصر على قدر طبقاتهم، ويجتمع من ذلك مال كثير، وأبطل ما كان يجبى من أهل الذمة، وهو دينار سوى الجالية برسم نفقة الأجناد في كل سنة، وأبطل مقرّر جباية الدينار من التجار عند سفر العسكر والغزاة، وكان يؤخذ من جميع تجار القاهرة ومصر من كل تاجر دينار، وأبطل ما كان يجبى عند وفاء النيل مما يعمل به شوى وحلوى وفاكهة في المقياس، وجعل مصر ذلك من بيت المال، وأبطل أشياء كثيرة من هذا النمط. وأبطل الملك الناصر، محمد بن قلاون عدّة جهات قد ذكرت في الروك الناصريّ،

وآخر ما أدركنا إبطاله ضمان الأغاني، وضمان القراريط في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، على يد الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون. فأما ضمان الأغاني فكان بلاء عظيما، وهو عبارة عن أخذ مال من النساء البغايا، فلو خرجت أجلّ امرأة في مصر تريد البغاء حتى نزلت اسمها عند الضامنة، وقامت بما يلزمها لما قدر أكبر أهل مصر على منعها من عمل الفاحشة، وكان على النساء، إذا تنفسن أو عرّسن امرأة أو خضبت امرأة يدها بحناء، أو أراد أحد أن يعمل فرحا لا بدّ من مال بتقرير تأخذه الضامنة، ومن فعل فرحا بأغان أو نفس امرأته من غير إذن الضامنة حلّ به بلاء لا يوصف. وأما ضمان القراريط، فإنه كان يؤخذ من كل من باع ملكا عن كل ألف درهم، عشرون درهما، وكان متحصل هاتين الجهتين مالا كثيرا جدّا. وأبطل الملك الظاهر برقوق، ما كان يؤخذ من أهل البرلس وشورى وبلطيم شبه الجالية في كل سنة ستين ألف درهم، وأبطل ما كان على القمح من مكس، يؤخذ من الفقراء بثغر دمياط ممن يبتاع من أردبين، فما دونهما، وأبطل ما كان يؤخذ مكسا من معمل الفرّوج بالنحريرية، والأعمال الغربية، وأبطل ما كان يؤخذ تقدمة لمن يسرح إلى العباسة من الخيل والجمال والغنم وغير ذلك، وأبطل ما كان يؤخذ على الدريس والحلفاء بباب النصر خارج القاهرة، وأبطل ضمان الأغاني بمنية ابن خصيب بأعمال الأشمونين، وبزفتا بالأعمال الغربية، وأبطل الأبقار التي كانت ترمي بالوجه البحري عند فراغ الجسور، وأبطل الأمير بلبغا السالمي، لما ولي استادار السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق في سنة إحدى وثمانمائة تعريف الغلال بمنية ابن خصيب، وضمان العرصة بها وأخصاص الغسالين، وكانت من المظالم القبيحة، وأبطل من القاهرة ضمان بحيرة البقر، ثم أعاده القبط من بعده. وقد بقيت إلى الآن من المكوس بقايا، أخبرني الأمير الوزير المشير الإستادار بلبغا السالمي في أيام وزارته، أن جهات المكوس بديار مصر تبلغ في كل يوم، بضعا وسبعين ألف درهم، وأنه اعتبرها فلم يجدها تصرف في شيء من مصالح الدولة، بل إنما هي منافع للقبط وحواشيهم، وكان قد عزم على إبطال المكوس فلم يمهل. والمال الهلالي: عبارة عما يستأدي مشاهرة كأجر الأملاك المسقفة من الآدر والحوانيت والحمامات والأفران والطواحين، وعداد الغنم والجهة الهوائية المضمونة والمحلولة، وعدّ بعض الكتاب، أحكار البيوت وريع البساتين التي تستخرج أجرها مشاهرة ومصايد السمك ومعاصر الشيرج والزيت في المال الهلالي.

ومن اصطلاح كتاب مصر القدماء، أن تورد جزية أهل الذمة من اليهود والنصارى، قلما واحدا مستقلا بذاته بعد الهلالي، وقبل الخراجي، وذلك أنها تستأدي مسانهة، وكانوا يرون وجوبها مشاهرة وفائدته فيمن أسلم أو مات أثناء الحول، فإنهم كانوا يلزمونه بقدر ما مضى من السنة قبل إسلامه، أو وفاته فلذلك أوردت فيما بين الهلاليّ والخراجيّ. وكانوا في الإقطاعات الجيشية يجرونها، مجرى المال الهلاليّ عند خروج إقطاع من يقطع، ودخول آخر على ذلك الإقطاع، فإنها كانت تستخرج على حكم الشهور الهلالية لا الشمسية بحيث لو تعجلها مقطع في غرّة السنة على العادة في ذلك، وخرج الإقطاع عنه في أثناء السنة بوفاة أو نقلة إلى غيره، استحق منها نظير ما مضى من شهور السنة إلى حين انتقال الإقطاع عنه، لا على حكم ما استحق من المغلّ، ويستحق المتصل من استقبال تاريخ منشوره كعادة النقود، والمتخلل بينهما من المدّة مستحق ذلك الديوان، فيردّ من جملة المحلولات من الإقطاعات وكان من أبواب الهلالي جهات تسمى المعاملات، وهي: الزكاة والمواريث والثغور والمتجر والشب والنطرون والجبس الجيوشي ودار الضرب ودار العيار والجاموس وأبقار الجبس والأغنام والغروس والبساتين والأحكار والرباع والمراكب، وما يستأدي من الذمة غير الجوالي، وساحل السنط، والخراج والقرظ ومقرّر الجسور وموظف الاتبان ومقرّر القصب ومقرّر البريد ومقرّر البسط وعشر العرق، وغير ذلك من جهات المكوس. فأما الجزية: وتعرف في زمننا بالجوالي فإنها تستخرج سلفا وتعجيلا في غرّة السنة، وكان يتحصل منها مال كثير فيما مضى. قال القاضي الفاضل في متجدّدات الحوادث الذي انعقد عليه ارتفاع الجوالي لسنة سبع وثمانين وخمسمائة مائة ألف وثلاثون ألف دينار، وأما في وقتنا هذا، فإنّ الجوالي قلت جدّا لكثرة إظهار النصارى للإسلام في الحوادث التي مرّت بهم. ولما استبدّ السلطان الملك المؤيد شيخ بملك مصر، بعد الخليفة العباس بن محمد أمير المؤمنين المستعين بالله، ولى رجلا جباية الجوالي فكثر الاستقصاء عن الذمة والكدّ في الاستخراج منهم، فبلغت الجوالي في سنة ست عشرة وثمانمائة أحد عشر ألف دينار وأربعمائة دينار، سوى ما غرم للأعوان وهو قدر كثير. وأما المراعي وهو الكلأ المطلق المباح الذي أنبته الله تعالى لرعي دواب بني آدم فأوّل من أدخلها الديوان بمصر أحمد بن مدبر، لما ولي الخراج، وصير لذلك ديوانا وعاملا جلدا يحظر على الناس أن يتبايعوا المراعي، أو يشتروها إلا من جهته، وأدركنا المراعي ببلاد الصعيد مما يضاف إلى الإقطاعات، فيأخذ الأمير ممن يرعى دوابه في أرض بلده الكتيح في كل سنة، مالا عن كل رأس فيجبى من صاحب الماشية بعدد أنعامه، فلما اختلّ أمر الصعيد

في الحوادث الكائنة منذ سنة ست وثمانمائة، تلاشى الأمر في ذلك، وكانت العادة القديمة أن يندب للمراعي مشدّ وشهود، وكاتب، فيعدّون المواشي، ويستخرجون من أربابها عن كل رأس شيئا، ولا يكون ذلك إلا بعد هبوط النيل، ونبات الكلأ واستهلاكه للمرعى. وأما المصايد فهي ما أطعم الله سبحانه وتعالى من صيد البحر، وأوّل من أدخلها الديوان أيضا ابن مدبر، وصير لها ديوانا واحتشم من ذكر المصايد، وشناعة القول فيها، فأمر أن يكتب في الديوان خراج مضارب الأوتار ومغارس الشباك، فاستمرّ ذلك، وكان يندب لمباشرتها مشدّ وشهود وكاتب إلى عدّة جهات، مثل: خليج الإسكندرية، وبحيرة الإسكندرية، وبحيرة نسترو وثغر دمياط وجنادل ثغر أسوان، وغير ذلك من البرك والبحيرات، فيخرجون عند هبوط النيل، ورجوع الماء من المزارع إلى بحر النيل بعد ما تكون أفواه الترع قد سكرت، وأبواب القناطر قد سدّت عند انتهاء زيادة النيل كيما يتراجع الماء، ويتكائف مما يلي المزارع، ثم تنصب شباك، وتصرف المياه، فيأتي السمك وقد اندفع مع الماء الجاري، فتصدّه الشباك عن الانحدار مع الماء، ويجتمع فيها فيخرج إلى البر، ويوضع على أنخاخ ويملح، ويوضع في الأمطار فإذا استوى بيع، وقيل له: الملوحة والصير، ولا يكون ذلك إلا فيما كان من السمك في قدر الأصبع فما دونه، ويسمون هذا الصنف إذا كان طريا ابسارية، فتؤكل مشوية ومقلية، ويصاد من بحيرة نسترو، وبحيرة تنيس، وبحيرة الإسكندرية، أسماك تعرف: بالبوري، وقيل لها ذلك لأنها كانت تصاد عند قرية من قرى تنيس يقال لها: بورة، وقد خربت، والنسبة إليها البوريّ، ونسب إليها جماعة من الناس منهم بنو البوري. وقيل لهذا السمك البوريّ إضافة إلى القرية المذكورة، وقد بطل في زمننا اليوم أمر هذه المصايد إلا من بحيرة نسترو بالبرلس وبحيرة تنيس بدمياط فقط، وهاتان البحيرتان تجريان في ديوان الخاص وهما مضمنتان، وما يخرج منهما من البوريّ وغيره من أنواع السمك، فللسلطان لا يقدر أحد أن يتعرّض لصيد شيء منه إلا أن يكون من صياديهما القائمين بالضمان، وما عدا هاتين البحيرتين من البرك والأملاق والخلجان، فليست للسلطان، وأما بحيرة اسكندرية فقد جفت وثغر أسوان، فقد خرج عن يد السلطنة وتغلب عليه أولاد الكفرة، ثم برك بأيدي أقوام كبركة الفيل، بيد أولاد الملك الظاهر بيبرس، وبركة الرطلي، بيد أولاد الأمير بكتمر الحاجب، وغير ذلك. فإنّ أسماكها مضمنة لهم يبيعونها ومع ذلك لا يمنع أحد الصيد منها. وأما بحر النيل فما صيد منه يحمل إلى دار السمك بالقاهرة، فيباع ويؤخذ منه مكس السلطان إلا أنّ الأمير جمال الدين يوسف الإستادار، زاد فيما كان يؤخذ من الصيادين مكسا، ومن حينئذ قلّ السمك بالقاهرة وغلا سعره.

وقال أبو سعيد عبد الرحمن «1» بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر: إنّ صنما كان بالإسكندرية يقال له شراحيل على حشفة من حشاف البحر مستقبلا بأصبع من كفة قسطنطينية لا يدري أكان مما عمله سليمان النبيّ، أم عمله الإسكندر، فكانت الحيتان تدور بالإسكندرية، وتصاد عنده، فيما زعموا. قال زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أخبرني أبي عن أبيه: أنه انبطح على بطنه ومدّ يديه ورجليه فكان طوله طول قدم الصنم، فكتب رجل يقال له: أسامة بن زيد كان عاملا على مصر للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين: إنّ عندنا بالإسكندرية صنما يقال له: شراحيل من نحاس، وقد غلت علينا الفلوس فإن رأى أمير المؤمنين أن ينزله ويضربه فلوسا فعل، وإن رأى غير ذلك فليكتب إليّ من أمره، فكتب إليه: لا تنزله حتى أبعث إليك ضمناء يحضرونه، فبعث إليه رجالا أمناء حتى أنزل من الحشفة، فوجدوا عينيه ياقوتتين حمراوين ليس لهما قيمة فضربه فلوسا، فانطلقت الحيتان فلم ترجع إلى ما هناك. وأما الزكاة: فإنّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أوّل من جباها بمصر. قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة ثالث عشر ربيع الآخر، فرّقت الزكوات بعد ما جمعت على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين، بعد أن رفع إلى بيت المال السهام الأربعة وهي: سهام العاملين، والمؤلفة، وفي سبيل الله، وفي الرقاب، وقرّرت لهم فريضة واستودى على الأموال والبضائع وعلى ما يتقرر عليه من المواشي، والنخل والخضراوات. قال: والذي انعقد عليه ارتفاع الجوالي لسنة سبع وثمانين وخمسمائة ثلاثون ألف دينار، والزائد في معاملة الزكاة ودار الضرب لسنتي ست وسبع وثمانين وخمسمائة أحد وعشرون ألف دينار وثمانمائة وأحد وستون دينارا. وقال في سنة ثمان وثمانين واستخدم ابن أحمدان في ديوان الزكاة وكتب خطه بما مبلغه: اثنان وخمسون ألف دينار لسنة واحدة من مال الزكاة، وجعل الطواشي قراغش الشادّ في هذا المال، وأن لا يتصرّف فيه بل يكون في صندوق مودعا للمهمات التي يؤمر بها. ولما قدم ابن عنين الشاعر من عند الملك العزيز سيف الإسلام طفتكين بن نجم الدين أيوب بن شادي ملك اليمن إلى مصر، وقد أجزل صلته عند ما وفد عليه وفارقه، وقد أثرى ثراء كثيرا، قبض أرباب ديوان الزكاة بمصر على ما قدم به من المتجر وطالبوه بزكاة ما معه، وكان ذلك في أيام الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فقال: .

ما كان من يتسمى بالعزيز لها ... أهل ولا كل برق سحبه غدقه بين العزيزين فرق في فعالهما ... هذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه ثم إنّ العزيز كشف عما يستأدي من الزكاة فإنه انتهى إليه فيها أقوال شنيعة منها: أنه أخذ من رجل فقير يبيع الملح في قفة على رأسه، زكاة عما في القفة، وأنه بيع جمل بخمسة دنانير ذهب، فأخذ زكاتها خمسة دراهم، فأمر بتفويض أمرها إلى أرباب الأموال ومن وجب عليه حق. ثم لما كانت سلطنة الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب أخرج من زكاة الأموال التي كانت تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين، وأمر بصرفهما في مصارفهما الشرعية، ورتب من جملة هذين السهمين معاليم للفقهاء والصلحاء، وأهل الخير تجري عليهم، فاستحسن ذلك من فعله وحمله إلى ديوان الزكاة قبل منه، ومن لم يحمل لا يتعرّض إليه فبخل الأغنياء بزكاة أموالهم حتى تضرّر الفقراء والمساكين، وأخذ السعاة يبذلون في ضمانها الأموال لتعود إلى ما كانت عليه فولي النظر في ديوان الزكاة القاضي الأسعد شرف الدين أبو المكارم أسعد بن مهذب بن مماتي، فاستخرج الزكاة من أربابها ثم ضمنت بمال كثير، وعاد الأمر فيها إلى ما كان عليه من العسف والجور، وكانت أعوان متولي الزكاة تخرج إلى منية ابن خصيب وأخميم وقوص لكشف أحوال المسافرين من التجار والحجاج وغيرهم، فيبحثون عن جميع ما معهم، ويدخلون أيديهم أوساط الرجال خشية أن يكون معهم مال ويحلفون الجميع بالإيمان الحرجة على ما بأيديهم وما عندهم غير ما وجدوه، وتقوم طائفة من مردة هذه الأعوان وبأيديهم المسال الطوال ذوات الأنصبة، فيصعدون إلى المراكب ويجسون بمسالهم جميع ما فيها من الأحمال والغرائر مخافة أن يكون فيها شيء من بضاعة أو مال فيبالغون في البحث والاستقصاء بحيث يقبح، ويستشنع فعلهم ويقف الحجاج بين يدي هؤلاء الأعوان مواقف خزي ومهانة، لما يصدر منهم عند تفتيش أوساطهم وغرائر أزوادهم، ويحلّ بهم من العسف وسوء المعاملة ما لا يوصف، وكذلك يفعل في جميع أرض مصر منذ عهد السلطان صلاح الدين بن أيوب. وأما الثغور فهي: دمياط وتنيس ورشيد وعيذاب وأسوان والإسكندرية وهي أعظمها قدرا فإنه كان فيها عدّة جهات منها: الخمس والمتجر، فالخمس: ما يستأدي من تجار الروم الواردين في البحر عما معهم من البضائع للمتجر بمقتضى ما صولحوا عليه، وربما بلغ ما يستخرج منهم ما قيمته مائة دينار ومائتان وخمسة وثلاثون دينارا، وربما انحط عن عشرين دينارا. ويسمى كلاهما خمسا. ومن أجناس الروم من يؤخذ منهم العشر ولذلك ضرائب مقرّرة. وقال القاضي الفاضل: والحاصل من خمس الإسكندرية في سنة سبع وثمانين

وخمسمائة ثمانية وعشرون ألف دينار وستمائة وثلاثة عشر دينارا، والمتجر عبارة عما يبتاع للديوان من بضائع تدعو إليها الحاجة ويقتضيه طلب الفائدة. قال جامع سيرة الوزير اليازوري: وقصر النيل بمصر في سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ولم يكن في مخازن الغلات شيء، فاشتدّت المسغبة بمصر، وكان لخلوّ المخازن سبب أوجب ذلك وهو أنّ الوزير، الناصر للدين لما أضيف إليه القضاء في أيام أبي البركات الوزير كان يبتاع للسلطان في كل سنة غلة بمائة ألف درهم، وتجعل متجرا فمثل القاضي بحضرة الخليفة المستعين بالله، وعرّفه أنّ المتجر الذي يقام بالغلة فيه أوفى مضرّة على المسلمين، وربما انحط السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها فتتعفن في المخازن وتتلف، وأنه يقيم متجرا لا كلفة فيه على الناس، ويفيد أضعاف فائدة الغلة، ولا يخشى عليه من تغيره في المخازن ولا انحطاط سعره وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل وما أشبه ذلك، فأمضى السلطان له ما رآه، واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس فوسعوا فيه مدّة سنين ثم عمل الملوك بعد ذلك ديوانا للمتجر وآخر من عمله الظاهر برقوق. وأما الشب: فإنّ معادنه بالصعيد، وكانت عادة الديوان الإنفاق، في تحصيل القنطار، منه بالليثيّ يبلغ ثلاثين درهما، وكانت العربان تحضره من معادنه إلى ساحل أخميم وسيوط والبهنسا ليحمل إلى الإسكندرية أيام النيل في الخليج ويشترى بالقنطار الليثيّ، ويباع بالقنطار الجرويّ، فيباع منه على تجار الروم قدر اثني عشر ألف قنطاريا بالجروي بسعر أربعة دنانير كل قنطار إلى ستة دنانير ويباع منه بمصر على اللبوديين والصباغين نحو الثمانين قنطارا بالجرويّ سعر ستة دنانير ونصف القنطار، ولا يقدر أحد على ابتياعه من العربان ولا غيرهم، فإن عثر على أحد أنه اشترى منه شيئا أو باعه سوى الديوان نكل به واستهلك ما وجد معه منه، وقد بطل هذا. وأما النطرون «1» : فيوجد في البرّ الغربيّ من أرض مصر بناحية الطرّانة، وهو أحمر وأخضر ويوجد منه بالفاقوسية شيء دون ما يوجد في الطرّانة، وهو أيضا مما خطر عليه ابن مدبر من الأشياء التي كانت مباحة، وجعله في ديوان السلطان وكان من بعده على ذلك إلى اليوم، وقد كان الرسم فيه بالديوان أن يحمل منه في كل سنة عشرة آلاف قنطار، ويعطى الضمان منها في كل سنة قدر ثلاثين قنطارا يتسلمونها من الطرّانة، فتباع في مصر بالقنطار المصري، وفي بحر الشرق والصعيد بالجرويّ، وفي دمياط بالليثي. قال القاضي الفاضل: وباب النطرون كان مضمونا إلى آخر سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمبلغ خمسة عشر ألفا وخمسمائة دينار، وحصل منه في سنة ست وثمانين مبلغ سبعة آلاف وثمانمائة دينار،

وأدركنا النطرون إقطاعا لعدّة أجناد. فلما تولى الأمير محمود بن عليّ الإستادارية، وصار مدبر الدولة في أيام الظاهر برقوق حاز النطرون، وجعل له مكانا لا يباع في غيره، وهو إلى الآن على ذلك. وأما الحبس «1» الجيوشي: فكان في البرّين الشرقيّ والغربيّ. ففي الشرقيّ: بهتين والأميرية والمنية، وكانت تسجل هذه النواحي بعين، وفي الغربيّ: سفط ونهيا ووسيم، وهذه النواحي حبسها أمير الجيوش، بدر الجمالي، على عقبه هي والبساتين ظاهر باب الفتوح، فلما مات وطال العهد استأجرها الوزراء بأجرة يسيرة طلبا للفائدة، ثم أدخلت في الديوان. قال ابن المأمون في تاريخه: وجميع البساتين المختصة بالورثة الجيوشية مع البلاد التي لهم لم تزل في مدّة أيام الوزير المأمون البطائحيّ بأيديهم لم تخرج عنهم بضمان ولا بغيره. فلما توفي الخليفة الآمر بأحكام الله، وجلس أبو عليّ بن الأفضل بن أمير الجيوش، في الوزارة، أعاد الجميع إلى الملاك لكون نايبه في ذلك الأوفر. فلما قتل، واستبدّ الخليفة، الحافظ لدين الله أمر بالقبض على جميع الأملاك، وحلّ الأحباس المختصة بأمير الجيوش، فلم يزل يأنس به، لأنه غلام الأفضل والوزير في ذلك الوقت، وعز الملك غلام الأوحد بن أمير الجيوش يتلطفان ويراجعان الخليفة مع الكتب التي أظهرها الورثة، وعليها خطوط الخلفاء إلى أن أبقاها عليهم، ولم يخرجها عنهم، ثم ارتفعت الحوطة عنها في سنة سبع وعشرين وخمسمائة للديوان الحافظي. ولما خدم الخطير والمرتضى في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة في وزارة رضوان بن ولخشي، أعاد البساتين خاصة دون البلاد على الورثة بحكم ما آل أمرها إليه من الاختلال ونقص الارتفاع. ولما انقرض عقب أمير الجيوش ولم يبق منه سوى امرأة كبيرة، أفتى فقهاء ذلك العصر، ببطلان الحبس، فقبضت النواحي وصارت من جملة الأموال السلطانية، فمنها ما هو اليوم في الديوان السلطانيّ، ومنها ما صار وقفا ورزقا أحباسية وغير ذلك. وأما دار الضرب: فكان بالقاهرة دار الضرب، وبالإسكندرية دار الضرب، وبقوص دار الضرب، ولا يتولى عيار دار الضرب، إلّا قاضي القضاة أو من يستخلفه، ثم رذلت في زمننا حتى صار يليها مسالمة فسقة اليهود، المصرّين على الفسق، مع ادّعائهم الإسلام، وكان يجتهد في خلاص الذهب وتحرير عياره، إلى أن أفسد الناصر فرج ذلك بعمل الدنانير

الناصرية، فجاءت غير خالصة، وكانت بمصر المعاملة بالورق، فأبطلها الملك الكامل، محمد بن أبي بكر بن أيوب في سنة بضع وعشرين، وضرب الدرهم المدوّر الذي يقال له: الكامليّ، وجعل فيه من النحاس قدر الثلث، ومن الفضة الثلثين، ولم يزل يضرب بالقاهرة إلى أن أكثر الأمير، محمود الإستادار من ضرب الفلوس بالقاهرة والإسكندرية، فبطلت الدراهم من مصر، وصارت معاملة أهلها إلى اليوم بالفلوس، وبها يقوّم الذهب وسائر المبيعات، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى، عند ذكر أسباب خراب مصر. وكانت دار الضرب يحصل منها للسلطان مال كثير، فقلّ في زماننا لقلة الأموال ودار الضرب اليوم جارية في ديوان الخاص. وأما دار العيار: فكانت مكانا يحتاط فيه للرعية وتصلح موازينهم ومكاييلهم به ويحصل منها للسلطان مال، وجعلها السلطان صلاح الدين من جملة أوقاف سور القاهرة، وقد ذكرت في خطط القاهرة من هذا الكتاب. وأما الأحكار: فإنها أجر مقرّرة على ساحات بمصر، والقاهرة، فمنها ما صار دورا للسكنى، ومنها ما أنشئ بساتين، وكانت تلك الأجر من جملة الأموال السلطانية، وقد بطل ذلك من ديوان السلطان، وصارت أحكار مصر، والقاهرة وما بينهما أوقافا على جهات متعدّدة. وأما الغروس: فكانت في الغربية فقط عدّة أراض يؤخذ منها شبه الحكر عن كل فدّان مقرّر معلوم، وقد بطل ذلك من الديوان. وأما مقرّر الجسور: فكان على كل ناحية تقرير بعدّة قطع معلومة يجبي منها عن كل قطعة عشرة دنانير لتصرف في عمل الجسور، فيفضل منها مال كثير يحمل إلى بيت المال، وقد بطل هذا أيضا، وجدّد الناصر فرج على الجسور حوادث قد ذكرت في أسباب الخراب. وأما موظف الأتبان: فكان جميع تبن أرض مصر على ثلاثة أقسام: قسم للديوان، وقسم للمقطع، وقسم للفلاح، فيجبى التبن على هذا الحكم من سائر الأقاليم، ويؤخذ في التبن عن كل مائة حمل أربعة دنانير وسدس دينار، فيحصل من ذلك مال كثير، وقد بطل هذا أيضا من الديوان. وأما الخراج: فإنه كان في البهنساوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية، والأخميمية والقوصية: أشجار لا تحصى من سنط، لها حرّاس يحمونها حتى يعمل منها مراكب الأسطول، فلا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار. وكان يستخرج من هذه النواحي مال يقال له: رسم الخراج، ويحتج في جبايته بأنه

نظير ما تقطعه أهل النواحي، وتنتفع به من أخشاب السنط في عمائرها، ومقرّر آخر، كان يجبي منهم يعرف بمقرّر السنط، فيصرف من هذا المقرّر أجرة قطع الخشب وحزه بضريبة عن كل مائة حمل دينار، وعلى المستخدمين في ذلك أن لا يقطعوا من السنط ما يصلح لعمل مراكب الأسطول، لكنهم إنما يقطعون الأطراف التي ينتفع بها في الوقود فقط، ويقال لهذا الذي يقطع حطب النار، فيباع على التجار منه كل مائة حمل بأربعة دنانير، ويكتب على أيديهم زنة ما بيع عليهم، فإذا وردت المراكب بالحطب إلى ساحل مصر، اعتبرت عليهم وقوبل ما فيها بما عين في الرسالة الواردة واستخرج الثمن على ما في الرسالة، وكانت العادة أنه لا يباع مما في البهنسا إلا ما فضل عن احتياج المصالح السلطانية، وقد بطل هذا جميعه، واستولت الأيدي على تلك الأشجار، فلم يبق منها شيء البتة ونسي هذا من الديوان. وأما القرظ: فإنه ثمر شجر السنط، وكان لا يتصرّف فيه إلا الديوان، ومتى وجد منه مع أحد شيء اشتراه من غير الديوان، نكل به واستهلك ما وجد معه منه، فإذا اجتمع مال القرظ أقيم منه مراكب تباع، ويؤخذ من ثمنها الربع عندما تصل إلى ساحل مصر بعد ما تقوّم، أو ينادى عليها وكان فيها حيف كبير، وقد بطل ذلك. وأما ما يستأدى من أهل الذمّة: فإنه كان يأخذ منهم عما يرد ويصدر معهم من البضائع في مصر والإسكندرية وأخميم خاصة دون بقية البلاد، ضرائب بتقرير في الديوان، وقد بطل ذلك أيضا. وأما مقرّر الجاموس ومقرّر بقر الخيس ومقرّر الأغنام: فإنه كان للسلطان من هذه الأصناف شيء كثير جدّا فيؤخذ من الجاموس للديوان على كل رأس من الراتب في نظير ما يتحصل منه في كل سنة، من خمسة دنانير إلى ثلاثة دنانير، ومن اللاحق بحق النصف من الراتب، وأقل ما تنتج كل مائة خمسون إلى غير ذلك من ضرائب مقرّرة على الجاموس، وعلى أبقار الخيس، وعلى الغنم البيض، والغنم الشعاري، وعلى النحل، وقد بطل ذلك جميعه لقلة مال السلطان، وإعراضه عن العمارة وأسبابها، وتعاطي أسباب الخراب. وأما المواريث: فإنها في الدولة الفاطمية لم تكن كما هي اليوم، من أجل أنّ مذهبهم توريث ذوي الأرحام، وأنّ البنت إذا انفردت استحقت المال بأجمعه، فلما انقضت أيامهم، واستولت الأيوبية، ثم الدولة التركية، صار من جملة أموال السلطان مال المواريث الحشرية، وهي التي يستحقها بيت المال عند عدم الوارث، فتعدل فيه الوزارة مرّة وتظلم أخرى. وأما المكوس: فقد تقدّم حدوثها، وما كان من الملوك فيها، والذي بقي منها إلى الآن بديار مصر يلي أمره الوزير، وفي الحقيقة إنما هو نفع للأقباط يتخوّلون فيه بغير حق، وقد تضاعفت المكوس في زمننا عما كنا نعهده، منذ عهد تحدّث الأمير جمال الدين يوسف

الإستادار في الأموال السلطانية، كما ذكر في أسباب الخراب. وأما البراطيل: وهي الأموال التي تؤخذ من ولاة البلاد، ومحتسبيها وقضاتها وعمالها، فأوّل من عمل ذلك بمصر: الصالح بن رزيك في ولاة النواحي فقط، ثم بطل، وعمل في أيام العزيز بن صلاح الدين أحيانا، وعمله الأمير شيخون في الولاة فقط، ثم أفحش فيه الظاهر برقوق كما يأتي في أسباب الخراب. وأما الحمايات والمستأجرات: فشيء حدث في أيام الناصر فرج، وصار لذلك ديوان ومباشرون، وعمل مثل ذلك الأمراء، وهو من أعظم أسباب الخراب كما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى.

ذكر الأهرام

ذكر الأهرام اعلم أنّ الأهرام كانت بأرض مصر كثيرة جدّا، منها بناحية بوصير «1» شيء كثير، بعضها كبار، وبعضها صغار، وبعضها طين ولبن، وأكثرها حجر، وبعضها مدرج، وأكثرها مخروط أملس، وقد كان منها بالجيزة تجاه مدينة مصر، عدّة كثيرة كلها صغار هدمت في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد قراقوش، وبنى بها قلعة الجبل والسور المحيط بالقاهرة، ومصر والقناطر التي بالجيزة. وأعظم الأهرام الثلاثة التي هي اليوم قائمة تجاه مصر، وقد اختلف الناس في وقت بنائها، واسم بانيها والسبب في بنائها، وقالوا في ذلك أقوالا متباينة، أكثرها غير صحيح، وسأقص عليك من نبأ ذلك ما يشفي، ويكفي إن شاء الله تعالى. قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب في أخبار مصر وعجائبها في أخبار سوريد بن سهلوق بن سرياق بن توميدون بن بدرسان بن هوصال أحد ملوك مصر قبل الطوفان الذين كانوا يسكنون في مدينة أمسوس الآتي ذكرها عند ذكر مدائن مصر من هذا الكتاب، وهو الذي بنى الهرمين العظيمين بمصر المنسوبين إلى شدّاد بن عاد، والقبط تنكر أن تكون العادية دخلت بلادهم لقوّة سحرهم. وسبب بناء الهرمين أنه كان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة، قد رأى سوريد في منامه، كأنّ الأرض انقلبت بأهلها، وكأنّ الناس قد هربوا على وجوههم، وكأنّ الكواكب تتساقط ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة، فغمه ذلك، ولم يذكره لأحد، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم، ثم رأى بعد ذلك بأيام كأنّ الكواكب الثابتة، نزلت إلى الأرض في صور طيور بيض، وكأنها تختطف الناس، وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين قد انطبقا عليهم، وكأن الكواكب المنيرة مظلمة مكسوفة، فانتبه مرعوبا مذعورا، ودخل إلى هيكل الشمس، وتضرّع ومرّغ خدّيه على التراب وبكى، فلما أصبح، جمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، وكانوا مائة وثلاثين كاهنا، فخلا بهم وحدّثهم ما رآه أوّلا وآخرا، فأوّلوه بأمر عظيم يحدث في العالم.

فقال عظيم الكهان، ويقال له: إقليمون: إنّ أحلام الملوك لا تجري على محال لعظم أقدارهم، وأنا أخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة، ولم أذكرها لأحد من الناس، رأيت كأني قاعد مع الملك على وسط المنار الذي بأمسوس، وكأنّ الفلك قد انحط من موضعه حتى قارب رؤوسنا، وكان علينا كالقبة المحيطة بنا، وكأن الملك قد رفع يديه نحو السماء، وكواكبها قد خالطتها في صور شتى مختلفة الأشكال، وكأنّ الناس قد جفلوا إلى قصر الملك، وهم يستغيثون به، وكأنّ الملك قد رفع يديه حتى بلغتا رأسه، وأمرني أن أفعل كما فعل، ونحن على وجل شديد، إذ رأينا منها موضعا قد انفتح، وخرج منه نور مضيء، وطلعت علينا منه الشمس، وكأنا استغثنا بالشمس، فخاطبتنا أن الفلك سيعود إلى موضعه، فانتبهت مرعوبا، ثم نمت فرأيت كأن مدينة أمسوس قد انقلبت بأهلها والأصنام تهوي على رؤوسها، وكأن أناسا نزولا من السماء بأيديهم مقام من حديد يضربون الناس بها، فقلت لهم: ولم تفعلون بالناس كذا؟ قالوا: لأنهم كفروا بإلههم! قلت: فما بقي لهم من خلاص؟ قالوا: نعم، من أراد الخلاص، فليلحق بصاحب السفينة، فانتبهت مرعوبا فقال الملك: خذوا الارتفاع للكواكب، وانظروا هل من حادث؟ فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك، وأخبروا بأمر الطوفان، وبعده بالنار التي تخرج من برج الأسد تحرق العالم، فقال الملك: انظروا هل تلحق هذه الآفة بلادنا؟ فقالوا: نعم، تأتي في الطوفان على أكثره ويلحقه خراب يقيم عدّة سنين. قال: فانظروا هل يعود عامرا كما كان؟ أو يبقى مغمورا بالماء دائما؛ قالوا: بل تعود البلاد كما كانت وتعمر، قال: ثم ماذا؟ قالوا: يقصدها ملك يقتل أهلها، ويغنم مالها؛ قال: ثم ماذا؟ قالوا: يقصدها قوم مشوّهون من ناحية جبل النيل، ويملكون أكثرها؛ قال: ثم ماذا؟ قالوا: ينقطع نيلها وتخلو من أهلها؛ فأمر عند ذلك: بعمل الأهرام، وأن يعمل لها مسارب يدخل منها النيل إلى مكان بعينه، ثم يفيض إلى مواضع من أرض الغرب وأرض الصعيد، وملأها طلسمات وعجائب وأموالا وأصناما، وأجساد ملوكهم، وأمر الكهان فزبروا عليها جميع ما قالته الحكماء، وزبر فيها وفي سقوفها وحيطانها وأسطواناتها جميع العلوم الغامضة التي يدّعيها أهل مصر، وصوّر فيها صور الكواكب كلها، وزبر عليها أسماء العقاقير ومنافعها ومضارها وعلم الطلسمات وعلم الحساب والهندسة، وجميع علومهم مفسرا لمن يعرف كتابتهم ولغتهم. ولما شرع في بنائها أمر بقطع الأسطوانات العظيمة ونشر البلاط الهائل، واستخراج الرصاص من أرض المغرب وإحضار الصخور من ناحية أسوان، فبنى بها أساس الأهرام الثلاثة، الشرقيّ والغربيّ والملوّن، وكانت لهم صحائف، وعليها كتابة، إذا قطع الحجر وتمّ إحكامه وضعوا عليه تلك الصحائف وضربوه، فيبعد بتلك الضربة قدر مائة سهم، ثم يعاودون ذلك حتى يصل الحجر إلى الأهرام، وكانوا يمدّون البلاطة، ويجعلون في ثقب بوسطها قطبا من حديد قائما، ثم يركبون عليها بلاطة أخرى مثقوبة الوسط، ويدخلون

القطب فيها، ثم يذاب الرصاص ويصب في القطب حول البلاطة بهندام وإتقان إلى أن كملت. وجعل لها أبوابا تحت الأرض بأربعين ذراعا، فأما باب الهرم الشرقيّ، فإنه من الناحية الشرقية على مقدار مائة ذراع من وسط حائط الهرم، وأما باب الهرم الغربيّ، فإنه من الناحية الغربية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط، وأما باب الهرم الملوّن فإنه من الناحية الجنوبية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط، فإذا حفر بعد هذا القياس، وصل إلى باب الأزج المبنيّ، ويدخل إلى باب الهرم وجعل ارتفاع كل واحد من الأهرام في الهواء مائة ذراع، بالذراع الملكيّ، وهو بذراعهم خمسمائة ذراع بذراعنا الآن، وجعل طول كل واحد من جميع جهاته، مائة ذراع بذراعهم، ثم هندسها من كل جانب حتى تحدّدت أعاليها من آخر طولها على ثمانية أذرع بذراعنا، وكان ابتداء بنائها في طالع سعيد اجتمعوا عليه وتخيروه، فلما فرغت كساها ديباجا ملوّنا من فوقها إلى أسفلها، وعمل لها عيدا حضره أهل مملكته بأجمعهم ثم عمل في الهرم الغربيّ، ثلاثين مخزنا من حجارة صوّان ملوّن، وملئت بالأموال الجمة، والآلات والتماثيل المعمولة من الجواهر النفيسة، وآلات الحديد الفاخر من السلاح الذي لا يصدأ والزجاج الذي ينطوي، ولا ينكسر والطلسمات الغربية، وأصناف العقاقير المفردة والمؤلفة، والسموم القاتلة، وعمل في الهرم الشرقيّ أصناف القباب الفلكية والكواكب، وما عمله أجداده من التماثيل والدخن التي يتقرّب بها إلى الكواكب ومصاحفها وكوّن الكواكب الثابتة، وما يحدث في أدوارها وقتا وقتا وما عمل لها من التواريخ، والحوادث التي مضت، والأوقات التي ينتظر فيها ما يحدث، وكل من يلي مصر إلى آخر الزمان. وجعل فيها المطاهر التي فيها المياه المدبرة وما أشبه ذلك، وجعل في الهرم الملوّن أجساد الكهنة في توابيت من صوّان أسود، ومع كل كاهن مصحف فيه عجائب صناعاته وأعماله وسيرته، وما عمل في وقته، وما كان، وما يكون من أوّل الزمان إلى آخره، وجعل في الحيطان من كل جانب أصناما تعمل بأيديها جميع الصنائع على مراتبها وأقدارها، وصفة كل صنعة وعلاجها وما يصلح لها، ولم يترك علما من العلوم حتى زبره ورسمه، وجعل فيها أموال الكواكب التي أهديت إلى الكواكب، وأموال الكهنة، وهو شيء عظيم لا يحصى. وجعل لكل هرم منها خادما، فخادم الهرم الغربيّ: صنم من حجارة صوّان مجزع، وهو واقف ومعه شبه حربة وعلى رأسه حية قد تطوّق بها من قرب منه، وثبت إليه وطوّقت على عنقه وقتلته، ثم تعود إلى مكانها. وجعل خادم الهرم الشرقيّ: صنما من جزع أسود مجزع بأسود وأبيض له عينان مفتوحتان برّاقتان، وهو جالس على كرسيّ، ومعه حربة إذا نظر أحد إليه سمع من جهته

صوتا يفزع منه، فيخرّ على وجهه، ولا يبرح حتى يموت. وجعل خادم الهرم الملوّن: صنما من حجر البهت على قاعدة منه، من نظر إليه جذبه حتى يلتصق به، فلا يفارقه حتى يموت، فلما فرغ من ذلك، حصّن الأهرام بالأرواح الروحانية، وذبح لها الذبائح لتمنع عن أنفسها من أرادها إلا من عمل لها أعمال الوصول إليها. وذكر القبط في كتبهم: أنّ عليها منقوشا تفسيره بالعربية: أنا سوريد الملك، بنيت هذه الأهرام في وقت كذا وكذا، وأتممت بناءها في ست سنين، فمن أتى بعدي، وزعم أنه ملك مثلي، فليهدمها في ستمائة سنة، وقد علم أن الهدم أيسر من البنيان، وإني كسوتها عند فراغها بالديباج، فليكسها بالحصر، فنظروا فوجدوا أنه لا يقوم بهدمها شيء من الأزمان الطوال. وحكى القبط في كتبهم: أنّ روحانية الهرم الشماليّ، غلام أمرد أصفر اللون عريان في فمه أنياب كبار، وروحانية الهرم الجنوبيّ: امرأة عريانة بادية الفرج حسناء في فمها أنياب كبار تستهوي الإنسان إذا رأته، وتضحك له حتى يدنو منها، فتسلبه عقله، وروحانية الهرم الملوّن: شيخ في يده مجمرة من مجامر الكنائس يبخر بها، وقد رأى غير واحد من الناس هذه الروحانيات مرارا، وهي تطوف حول الأهرام وقت القائلة، وعند غروب الشمس. قال: ولمّا مات سوريد، دفن في الهرم، ومعه أمواله وكنوزه. وقالت القبط: إن سوريد هو الذي بنى البرابي، وأودع فيها كنوزا وزبر عليها علوما ووكل بها روحانيات تحفظها ممن يقصدها، قال: وأما الأهرام الدهشورية، فيقال: إن شدات بن عديم هو الذي بناها من الحجارة التي كانت قد قطعت في زمن أبيه، وشدادت هذا يزعم بعض الناس أنه شدّاد بن عاد، وقال: من أنكر أن يكون العادية دخلت مصر، وإنما غلطوا باسم شدات بن عديم، فقالوا: شدّاد بن عاد، لكثرة ما يجري على ألسنتهم شدّاد بن عاد، وقلة ما يجري على ألسنتهم شدات بن عديم، وإلّا فما قدر أحد من الملوك يدخل مصر، ولا قوي على أهلها غير بخت نصر، والله أعلم. وذكر أبو الحسن المسعودي في كتابه أخبار الزمان: ومن أباده الحدثان، أن الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، لمّا قدم مصر وأتى على الأهرام، أحب أن يهدم أحدها ليعلم ما فيها، فقيل له: إنك لا تقدر على ذلك؟ فقال: لا بدّ من فتح شيء منه، ففتحت له الثلمة المفتوحة الآن بنار توقد وخلّ يرش ومعاول وحدّادين يعملون فيها حتى أنفق عليها أموالا عظيمة، فوجدوا عرض الحائط قريبا من عشرين ذراعا، فلما انتهوا إلى آخر الحائط، وجدوا خلف الثقب مطهرة خضراء فيها ذهب مضروب، وزن كل دينار أوقية، وكان عددها ألف دينار، فجعل المأمون يتعجب من ذلك الذهب ومن جودته، ثم أمر بجملة ما أنفق على

الثلمة فوجدوا الذهب الذي أصابوه لا يزيد على ما أنفقوه، ولا ينقص فعجب من معرفتهم بمقدار ما ينفق عليه، ومن تركهم ما يوازيه في الموضع عجبا عظيما، وقيل: إن المطهرة التي وجد فيها الذهب كانت من زبرجد، فأمر المأمون بحملها إلى خزانته، وكان آخر ما عمل من عجائب مصر. وأقام الناس سنين يقصدونه، وينزلون فيه الزلاقة التي فيه، فمنهم من يسلم ومنهم من يهلك، فاتفق عشرون من الأحداث على دخوله، وأعدّوا لذلك ما يحتاجون من طعام وشراب، وحبال وشمع ونحوه، ونزلوا في الزلاقة، فرأوا فيها من الخفاش ما يكون كالعقبان يضرب وجوههم، ثم إنهم أدلوا أحدهم بالحبال، فانطبق عليه المكان، وحاولوا جذبه حتى أعياهم فسمعوا صوتا أربعهم فغشي عليهم، ثم قاموا وخرجوا من الهرم، فبينما هم جلوس يتعجبون مما وقع لهم، إذ أخرجت الأرض صاحبهم حيا من بين أيديهم يتكلم بكلام لم يعرفوه، ثم سقط ميتا، فحملوه ومضوا به فأخذهم الخفراء وأتوا بهم إلى الوالي فحدّثوه خبرهم، ثم سألوا عن الكلام الذي قال صاحبهم قبل موته، فقيل لهم: معناه: هذا جزاء من طلب ما ليس له، وكان الذي فسر لهم معناه بعض أهل الصعيد. وقال علي بن رضوان الطبيب: فكرت في بناء الأهرام، فأوجب علم الهندسة العلمية ورفع الثقيل إلى فوق أن يكون القوم هندسوا سطحا مربعا، ونحتوا الحجارة ذكرا وأنثى، ورصوها بالجبس البحريّ إلى أن ارتفع البناء مقدار ما يمكن رفع الثقيل، وكانوا كلما صعدوا ضموا البناء حتى يكون السطح الموازي للمربع الأسفل مربعا أصغر من المربع السفلانيّ، ثم عملوا في السطح المربع الفوقانيّ مربعا أصغر بمقدار ما بقي في الحاشية ما يمكن رفع الثقيل إليه، وكلما رفعوا حجرا مهندما رصوه إليه ذكرا وأنثى، إلى أن ارتفع مقدار مثل المقدار الأوّل، ولم يزالوا يفعلون ذلك إلى أن بلغوا غاية لا يمكنهم بعدها أن يفعلوا ذلك فقطعوا الارتفاع، ونحتوا الجوانب البارزة التي فرضوها لرفع الثقيل، ونزلوا في النحت من فوق إلى أسفل، وصار الجميع هرما واحدا. وقياس الهرم الأوّل: بالذراع التي تقاس بها اليوم الأبنية بمصر، كل حاشية منه أربعمائة ذراع، يكون بالذراع السوداء التي طول كل ذراع منها أربعة وعشرون أصبعا خمسمائة ذراع، وذلك أن قاعدته مربع متساوي الأضلاع، والزوايا ضلعان منهما، على خط نصف النهار، وضلعان على خط المشرق والمغرب، وكل ضلع بالذراع السوداء خمسمائة ذراع، والخط المنحدر على استقامة من رأس الهرم إلى نصف ضلع المربع أربعمائة وسبعون ذراعا، يكون إذا تمم أيضا، خمسمائة ذراع. وأحيط بالهرم، أربع مثلثات ومربع، وكل مثلث منها متساوي الساقين، كل ساق منه إذا تمم خمسمائة وستون ذراعا، والمثلثات الأربعة تجتمع رؤوسها عند نقطة واحدة، وهي

رأس الهرم إذا تمم فيلزم أن يكون عموده أربعمائة وثلاثين ذراعا، وعلى هذا العمود مراكز أثقاله، ويكون تكسير كل مثلث من مثلثاته: مائة وخمسة وعشرين ألف ذراع، إذا اجتمع تكاسيرها كان مبلغ تكسير سطح هذا الهرم: خمسمائة ألف ذراع بالسوداء، وما أحسب على وجه الأرض بناء أعظم منه ولا أحسن هندسة ولا أطول، والله أعلم. وقد فتح المأمون نقبا من هذا الهرم، فوجد فيه زلاقة تصعد إلى بيت مربع مكعب، ووجد في سطحه قبر رخام وهو باق فيه إلى اليوم، ولم يقدر أحد يحطه، وبذلك أخبر جالينوس، أنها قبور. فقال في آخر الخامسة من تدبير الصحة بهذا اللفظ، وهم يسمون، من كان في هذا السن: الهرم، وهو اسم مشتق من الأهرام التي هم إليها صائرون عن قريب. وقال الحوقليّ في صفة مصر: وبها الهرمان اللذان ليس على وجه الأرض لهما نظير في ملك مسلم ولا كافر ولا عمل ولا يعمل لهما، وقرأ بعض بني العباس على أحدهما: إني قد بنيتهما فمن كان يدّعي قوّة في ملكه فليهدمها، فالهدم أيسر من البنيان، فهمّ بذلك وأظنه المأمون أو المعتصم، فإذا خراج مصر لا يقوم به يومئذ، وكان خراجها على عهده بالإنصاف في الجباية وتوخي الرفق بالرعية والمعدلة إذا بلغ النيل سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع، أربعة آلاف ألف ومائتي ألف وسبعة وخمسين ألف دينار، والمقبوض على الفدّان، دينارين، فأعرض عن ذلك ولم يعد فيه شيئا. وفي حدّ الفسطاط في غربيّ النيل أبنية عظام يكثر عددها مفترشة في سائر الصعيد تدعى: الأهرام، وليست كالهرمين اللذين تجاه الفسطاط، وعلى فرسخين منها ارتفاع كل واحد منهما: أربعمائة ذراع، وعرضه كارتفاعه، مبنيّ بحجارة الكدّان التي سمك الحجر، وطوله وعرضه من العشر أذرع إلى الثمان بحسب ما دعت الحاجة إلى وضعه في زيادته ونقصه، وأوجبته الهندسة عندهم لأنهما كلما ارتفعا في البناء ضاقا حتى يصير أعلاهما من كل واحد منهما مثل مبرك جمل، وقد ملئت حيطانهما بالكتابة اليونانية، وقد ذكر قوم أنهما قبران وليس كذلك، وإنما حمل صاحبهما على عملهما أنه قضى بالطوفان أنه يهلك جميع ما على وجه الأرض إلا ما حصن في مثلهما، فخزن ذخائره وأمواله فيهما، وأتى الطوفان، ثم نضب فصار ما كان فيهما إلى بيصر بن مصرايم بن حام بن نوح، وقد خزن فيهما بعض الملوك المتأخرين وجعلهما هراءه، والله أعلم. وقال أبو يعقوب محمد بن إسحاق النديم «1» الوراق في كتاب الفهرست: وقد ذكر هرمس البابليّ قد اختلف في أمره فقيل: إنه كان أحد السدنة السبعة الذين رتبوا لحفظ البيوت السبعة، وإنه كان لترتيب عطارد وباسمه سمي، فإن عطارد باللغة الكلدانية: هرمس،

وقيل: إنه انتقل إلى أرض مصر بأسباب، وإنه ملكها وكان له أولاد منهم: طا، وصا، وأشمن، وأتريب، وقفط، وإنه كان حكيم زمانه، وإنه لما توفي دفن في البناء الذي يعرف بمدينة مصر: بأبي هرمس، ويعرفه العامة بالهرمين، فإن أحدهما قبره والآخر قبر زوجته، وقيل: قبر ابنه الذي خلفه بعد موته، وهذه البنية يعني الأهرام: طولها بالذراع الهاشمي، أربعمائة ذراع وثمانون ذراعا على مساحة أربعمائة وثمانين ذراعا، ثم ينخرط البناء فإذا حصل الإنسان في رأسه كان مقدار سطحه أربعين ذراعا، هذا بالهندسة وفي وسط هذا السطح، قبة لطيفة في وسطها شبيهة بالمقبرة، وعند رأس ذلك القبر صخرتان في نهاية النظافة والحسن وكثرة التلوّن، وعلى كل واحدة منهما شخصان من حجارة، صورة ذكر وأنثى، وقد تلاقيا بوجهيهما، وبيد الذكر لوح من حجارة فيه كتابة، وبيد الأنثى مرآة، والرف ذهّب نقشه نقاش، وبين الصخرتين برنية من حجارة على رأسها غطاء ذهب، فلما قلع فإذا فيها شبيه بالنار بغير رائحة قد يبس، وفيها حقة ذهب فنزع رأسها، فإذا فيها دم عبيط ساعة قرعه الهواء جمد، كما يجمد الدم وجف، وعلى القبور أغطية حجارة، فلما قلعت إذا رجل نائم على قفاه على نهاية الصحة والجفاف بين الخلقة ظاهر الشعور، وإلى جنبه امرأة على هيئته، قال: وذلك السطح منقر نحو قامة كما يدور مثل المسمار ذات آزاج من حجارة فيها صور وتماثيل مطروحة وقائمة، وغير ذلك من الآلة التي لا تعرف أشكالها. وقال العلامة موفق الدين عبد اللطيف بن أبي العز يوسف بن أبي البركات محمد بن عليّ بن سعد البغدادي المعروف بابن المطحن في سيرته، وجاء رجل جاهل عجميّ، فخيّل إلى الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف أن الهرم الصغير تحته مطلب، فأخرج إليه الحجارين وأكثر العسكر وأخذوا في هدمه، وأقاموا على ذلك شهورا، ثم تركوه عن عجز وخسران مبين في المال والعقل، ومن يرى حجارة الهرم يقول: إنه قد استوصل الهرم، ومن يرى الهرم لا يجد به إلا تشعيثا يسيرا، وقد أشرفت على الحجارين فقلت لمقدّمهم: هل تقدرون على إعادته؟ فقال: لو بذل لنا السلطان عن كل حجر ألف دينار لم يمكنا ذلك. وقال أبو الحسن المسعودي في مروج الذهب: وأما الأهرام فطولها عظيم وبنيانها عجيب عليها أنواع من الكتابات بأقلام الأمم السالفة، والممالك الدائرة لا يدرى ما تلك الكتابة ولا المراد بها، وقد قال من عني بتقدير ذرعها: أن مقدار ارتفاع الهرم الكبير ذهابا في الجوّ نحو أربعمائة ذراع أو أكثر، وكلما صعد دق ذلك، والعرض نحو ما وصفنا، وعليها من الرسوم علوم وخواص وسحر وأسرار الطبيعة، وإن من تلك الكتابة مكتوبا، إنا بنيناها فمن يدّعي موازاتنا في الملك، وبلوغ القدرة وانتهاء أمر السلطان فليهدمها وليزع رسمها فإن الهدم أيسر من البناء والتفريق أسهل من التأليف. وقد ذكر أن بعض ملوك الإسلام شرع يهدم بعضها فإذا خراج مصر لا يفي بقلعها،

وهي من الحجر والرخام، وأنها قبور لملوك، وكان الملك منهم إذا مات، وضع في حوض من حجارة، ويسمى بمصر والشام: الجرون، وأطبق عليه، ثم بني من الهرم على مقدار ما يريدون من ارتفاع الأساس، ثم يحمل الحوض، ويوضع وسط الهرم، ثم يقنطر عليه البنيان، ثم يرفعون البناء على المقدار الذي يرونه، ويجعل باب الهرم تحت الهرم، ثم يحفر له طريق في الأرض، ويعقد أزج طوله تحت الأرض مائة ذراع أو أكثر، ولكل هرم من هذه الأهرام باب مدخله على ما وصفت، قال: وكان القوم يبنون الهرم من هذه الأهرام مدرجا ذا مراق كالدرج، فإذا فرغوا نحتوه من فوق إلى أسفل، فهذه كانت جبلتهم، وكانوا مع ذلك لهم قوّة وصبر وطاعة. وقال في كتاب البنية والإشراف: والهرمان اللذان في الجانب الغربيّ من فسطاط مصر هما من عجائب بنيان العالم، كل واحد منهما أربعمائة ذراع في سمك مثل ذلك، مبنيان بالحجر العظيم على الرياح الأربع كل ركن من أركانهما يقابل ريحا منها فأعظمهما فيهما تأثيرا ريح الجنوب وهي: المريسي وأحد هذين الهرمين، قبر أعاديمون، والآخر قبر هرمس، وبينهما نحو ألف سنة وأعاديمون المتقدّم، وكان سكان مصر وهم الأقباط يعتقدون نبوّتهما قبل ظهور النصرانية فيهم على ما يوجبه رأي الصابئين في النبوّات لا على طريق الوحي، بل هم عندهم نفوس طاهرة صفت وتهذبت من أدناس هذا العالم، فاتحدت بهم موادّ علوية، فأخبروا عن الكائنات قبل كونها، وعن سرائر العالم وغير ذلك، وفي العرب: من اليمانية من يرى أنهما قبر شدّاد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العارية من العماليق وغيرهم وهي عند من ذكرنا من الصابئين قبور أجساد طاهرة. وذكر أبو زيد البلخيّ: أنه وجد مكتوبا على الأهرام بكتابتهم خط فعرّب، فإذا هو: بني هذان الهرمان والنسر الوقع في السرطان، فحسبوا من ذلك الوقت إلى الهجرة النبوية، فإذا هو: ست وثلاثون ألف سنة شمسية مرتين، يكون اثنتين وسبعين ألف سنة شمسية. وقال الهمداني في كتاب الإكليل: لم يوجد مما كان تحت الماء وقت الغرق من القرى، قرية فيها بقية، سوى نهاوند وجدت كما هي اليوم لم تتغير، وأهرام الصعيد من أرض مصر. وذكر أبو محمد عبد الله بن عبد الرحيم القيسي في كتاب تحفة الألباب: أن الأهرام مربعة الجملة مثلثة الوجوه، وعددها ثمانية عشر هرما، في مقابلة مصر الفسطاط ثلاثة أهرام، أكبرها دورة ألفا ذراع في كل وجه خمسمائة ذراع، وعلوه خمسمائة ذراع، وكل حجر من حجارتهما ثلاثون ذراعا في غلظ عشرة أذرع قد أحكم إلصاقه ونحته. ومنها عند مدينة فرعون يوسف، هرم أعظم، وأكبر دوره ثلاثة آلاف ذراع، وعلوه

سبعمائة من حجارة، كل حجر خمسون ذراعا، وعند مدينة فرعون موسى أهرام أكبر وأعظم، وهرم آخر يعرف بهرم، مدون كأنه جبل، وهو خمس طبقات، وفتح المأمون الهرم الكبير الذي تجاه الفسطاط، قال: وقد دخلت في داخله، فرأيت قبة مربعة الأسفل مدوّرة الأعلى كبيرة في وسطها بئر عمقها، عشرة أذرع، وهي مربعة ينزل الإنسان فيها، فيجد في كل وجه من تربيع البئر بابا يفضي إلى دار كبيرة فيها موتى من بني آدم عليهم أكفان كثيرة أكثر من مائة ثوب على كل واحد، قد بليت بطول الزمان واسودّت وأجسامهم مثلنا ليسوا طوالا، ولم يسقط من أجسامهم، ولا من شعورهم شيء، وليس فيهم شيخ، ولا من شعره أبيض، وأجسادهم قوية لا يقدر الإنسان أن يزيل عضوا من أعضائهم البتة، ولكنهم خفوا حتى صاروا كالغثا لطول الزمان، وفي تلك البئر أربعة من الدور مملوءة بأجساد الموتى، وفيها خفاش كثير، وكانوا يدفنون أيضا جميع الحيوان في الرمال، ولقد وجدت ثيابا ملفوفة كثيرا مقدار جرمها، أكثر من ذراع، وقد احترقت تلك الثياب من القدم، فأزلت الثياب إلى أن ظهرت خرق صحاح قوية بيض من كتان أمثال العصائب فيها أعلام من الحرير الأحمر، وفي داخلها هدهد ميت لم يتناثر من ريشه، ولا من جسده شيء كأنه قد مات الآن. وفي القبة التي في الهرم، باب يفضي إلى علو الهرم، وليس فيه درج عرضه نحو خمسة أشبار، يقال: إنه صعد فيها في زمان المأمون فأفضوا إلى قبة صغيرة فيها صورة آدمي من حجر أخضر كالدهنج، فأخرجت إلى المأمون، فإذا هي مطبقة، فلما فتحت وجد فيها جسد آدميّ عليه درع من ذهب مزين بأنواع الجواهر وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له، وعند رأسه حجر ياقوت أحمر كبيضة الدجاجة يضيء كلهب النار فأخذه المأمون. وقد رأيت الصنم الذي أخرج منه ذلك الميت ملقى عند باب دار الملك بمصر في سنة إحدى عشرة وخمسمائة. وقال القاضي الجليل أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي: روي عليّ بن الحسن بن خلف بن قديد عن يحيى بن عثمان بن صالح عن محمد بن عليّ بن صخر التميميّ قال: حدّثني رجل من عجم مصر من قرية من قراها تدعى قفط، وكان عالما بأمور مصر وأحوالها وطالبا لكتبها القديمة ومعادنها، قال: وجدنا في كتبنا القديمة، قال: وأما الأهرام فإن قوما احتفروا قبرا في دير أبي هرميس، فوجدوا فيه ميتا في أكفانه، وعلى صدره قرطاس ملفوف في خرق فاستخرجوه من الخرق، فرأوا كتابا لا يعرفونه، وكان الكتاب بالقبطية الأولى، فطلبوا من يقرأه لهم، فلم يقدروا عليه، فقيل لهم: إنّ بدير القلمون من أرض الفيوم راهبا يقرأه، فخرجوا إليه، وقد ظنوا أنه في الضيعة، فقرأه لهم، وكان فيه: كتب هذا الكتاب في أوّل سنة من ملك ديقلطيانس الملك، وإنّا استنسخناه من كتاب نسخ: في أوّل سنة من ملك فيلبش الملك، وإنّ فيلبش استنسخه من صحيفة من ذهب فرق كتابتها حرفا حرفا، وكان من

الكتاب الأوّل، ترجمه له أخوان من القبط يقال لأحدهما: ايلو، والآخر: يرثا، وإن الملك فيلبس سألهما عن سبب معرفتهما بما جهله الناس من قراءته، فذكرا أنهما من ولد رجل من أهل مصر الأوائل لم ينج من الطوفان من أهل مصر أحد غيره، وكان سبب نجاته أنه أتى نوحا عليه السلام فآمن به، ولم يأته من أهل مصر غيره، فحمله معه في السفينة، فلما نضب ماء الطوفان أتى مصر، ومعه نفر من ولد حام بن نوح، وكان بها حتى هلك، فورث ولده علم كتاب أهل مصر الأوّل، فورثناه عنه كابرا عن كابر. وكان تاريخه الذي مضى إلى أن استنسخه فيلبش، ألفا وثلثمائة واثنتين وسبعين سنة، وإنّ الذي استنسخه في صحيفة من ذهب فرق كتابتها حرفا حرفا على ما وجده فيلبش، وإن تاريخه إلى أن استنسخه ألف وسبعمائة سنة وخمس وثمانون سنة. وكان الكتاب المنسوخ: إنا نظرنا فيما تدل عليه النجوم، فرأينا أن آفة نازلة من السماء وخارجة من الأرض، فلما بان لنا الكون نظرنا ما هو فوجدناه ماء مفسدا للأرض وحيوانها ونباتها، فلما تمّ اليقين من ذلك عندنا قلنا لملكنا سوريد بن سهلوق: مر ببناء أفروشات وقبر لك وقبر لأهل بيتك، فبنى لهم الهرم الشرقيّ، وبنى لأخيه هو حيث الهرم الغربيّ، وبنى لابن هو حيث الهرم الملوّن، وبنيت أفروشات في أسفل مصر، وأعلاها فكتبنا في حيطانها علم غامض أمر النجوم وعللها والصنعة والهندسة والطلب، وغير ذلك مما ينفع ويضرّ ملخصا مفسرا لمن عرف كلامنا وكتابتنا، وإن هذه الآفة نازلة بأقطار العالم، وذلك عند نزول قلب الأسد في أوّل دقيقة من رأس السرطان، ويكون الكوكب عند نزوله إياها في هذه المواضع من الفلك الشمس والقمر في أوّل دقيقة من رأس الحمل، وقوريس في درجة وثمان وعشرين دقيقة من الحمل، وراويس في الحوت في تسع وعشرين درجة وثمان وعشرين دقيقة، وآويس في الحوت في تسع وعشرين درجة وثلاث دقائق، وأفرد وبطر في الحوت في ثمان وعشرين درجة ودقائق، وهرمس في الحوت في سبع وعشرين ودقائق، والجوزهر في الميزان وأوج القمر في الأسد في خمس درجات ودقائق. ثم نظرنا هل يكون بعد هذه الآفة كون مضرّ بالعالم؟ فأصبنا الكواكب تدل على أن آفة نازلة من السماء إلى الأرض وإنها ضدّ الآفة الأولى وهي نار محرقة أقطار العالم، ثم نظرنا متى يكون هذا الكون المضر؟ فرأيناه يكون، عند حلول قلب الأسد في آخر دقيقة من الدرجة الخامسة عشر من الأسد، ويكون إبليس معه في دقيقة واحدة متصلة بقوريس من تثليث الرامي، ويكون راويس مشتري في أوّل الأسد في آخر احتراقه، ومعه آويس في دقيقة، ويكون سليس في الدلو مقابلا لإيليس الشمس، ومعه الذنب في اثنتين وعشرين، ويكون كسوف شديد له مكث يوازي القمر، ويكون هرمس عطارد في بعده الأبعد أمامها مقبلين، أما إفرد وبطن فللاستقامة، وأما هرمس فللرجعة.

قال الملك: فهل عندكم من خبر توقفونا عليه غير هاتين الآفتين؟ قالوا: إذا قطع قلب الأسد ثلثي سدس أدواره لم يبق من حيوان الأرض متحرّك إلا تلف، فإذا استتم أدواره تحللت عقد الفلك، وسقط على الأرض، قال لهم: وأيّ يوم فيه انحلال الفلك؟ قالوا: اليوم الثاني من بدو حركة الفلك، فهذا ما كان في القرطاس. فلما مات الملك سوريد بن سهلوق دفن في الهرم الشرقيّ، ودفن هو حيث في الهرم الغربيّ، ودفن كرورس في الهرم الذي أسفله من حجارة أسوان وأعلاه كدان. ولهذه الأهرام أبواب في أزج تحت الأرض طول كل أزج مائة وخمسون ذراعا. فأما باب الهرم الشرقيّ فمن الناحية البحرية، وأما باب أزج الهرم الموزر فمن الناحية القبلية. وفي الأهرام من الذهب وحجارة الزمرد ما لا يحتمله الوصف. وإنّ مترجم هذا الكتاب من القبطيّ إلى العربيّ أجمل التاريخين إلى أوّل يوم من توت، وهو يوم الأحد طلوع شمسه سنة خمس وعشرين ومائتين من سني العرب، فبلغت أربعة آلاف وثلثمائة وإحدى وعشرين سنة لسني الشمس، ثم نظر كم مضى للطوفان إلى يومه هذا فوجده ألفا وسبعمائة وإحدى وأربعين سنة وتسعة وخمسين يوما وثلاث عشرة ساعة وأربعة أخماس ساعة وتسعة وخمسين جزءا من أربعمائة جزء من ساعة، فألقاها من الجملة فبقي معه ثلثمائة وتسع وتسعون سنة ومائتان وخمسة أيام وعشر ساعات وأحد وعشرون جزءا من أربعمائة جزء من ساعة، فعلم أن هذا الكتاب المؤرخ كتب قبل الطوفان بهذه السنين والأيام والساعات والكسر من الساعة. وأما الهرم الذي بدير أبي هرميس، فإنه قبر قرياس، وكان فارس أهل مصر، وكان يعدّ بألف فارس، فإذا لقيهم لم يقوموا به وانهزموا، وإنه مات فجزع الملك عليه جزعا بلغ منه، واكتأبت لموته الرعية، فدفنوه بدير هرميس وبنوا عليه الهرم مدرجا، وكان طينه الذي بني به مع الحجارة من الفيوم، وهذا معروف إذا نظر إلى طينه لم يعرف له معدن إلا بالفيوم وليس بمنف ووسيم له شبه من الطين. وأما قبر الملك صاحب قرياس هذا، فإنه الهرم الكبير من الأهرام التي في بحري دير أبي هرميس، وعلى بابه لوح كدان مكتوب فيه باللازورد طول اللوح: ذراعان في ذراع وكله مملوء كتبا مثل كتب البرابي يصعد إلى باب الهرم بدرج بعضها صحيح لم ينخرم، وفي هذا الهرم ذخائر صاحبه من الذهب وحجارة الزمرد، وإنما سدّ بابه حجارة سقطت من أعاليه ومن وقف عليه رآه بيتا.

وقال ابن عفير عن أشياخه: أن جياد بن مياد بن شمر بن شدّاد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، ملك الإسكندرية، وكانت تسمى إرم ذات العماد، فطال ملكه، وبلغ ثلثمائة سنة. وهو الذي سار وبنى الأهرام وزبر فيها: أنا جياد بن مياد بن شمر بن شدّاد الشادّ بزراعة الواد المؤيد الأوتاد الجامع الصخر في البلاد المجند الأجناد الناصب العماد الكند الكناد تخرجه أمّة اسم نبيها حماد آية ذلك إذا غشي بلد البلاد سبعة ملوك أجناس السواد تاريخ هذا الزبر ألف سنة وأربعمائة سنة عداد. وقال ابن عفير وابن عبد الحكم: وفي زمان شدّاد بن عاد بنيت الأهرام فيما ذكر بعض المحدّثين، ولم نجد عند أحد من أهل العلم من أهل مصر معرفة في الأهرام ولا خبر ثبت. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم: ما أحسب الأهرام بنيت إلا قبل الطوفان، لأنها لو بنيت بعده لكان علمها عند الناس. وقال عبد الله بن شبرمة الجرهميّ: لما نزلت العماليق أرض مصر حين أخرجها جرهم من مكة بنت الأهرام واتخذت لها المصانع، وبنت فيها العجائب، ولم تزل بمصر حتى أخرجها مالك بن ذعر الخزاعي. وقال محمد بن عبد الحكم: كان من وراء الأهرام إلى المغرب أربعمائة مدينة سوى القرى من مصر إلى المغرب في غربيّ الأهرام. وقال ابن عفير: ولم يزل مشايخنا من أهل مصر يقولون: الأهرام بناها شدّاد بن عاد وهو الذي بنى المغار، وجنّد الأجناد، فالمغار والأجناد هي: الدفائن، وكانوا يقولون بالرجعة، وإذا مات أحدهم دفن معه ماله كائنا ما كان، وإن كان صانعا دفن معه آلة صنعته، وكانت الصابئة تحج إلى الأهرام. وقال أبو الريحان البيروتي في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية: والفرس والمجوس تنكر الطوفان، وأقرّ به بعض الفرس لكنهم قالوا: كان بالشام والمغرب منه شيء في زمان طهمورث «1» ، ولكنه لم يعمّ العمران كله، ولم يتجاوز عقبة حلوان، ولم يبل ممالك الشرق، وأن أهل المغرب لما أنذر به حكماؤهم بنوا أبنية كالهرمين بمصر ليدخلوها عند الآفة، وإن آثار دماء الطوفان وتأثيرات الأمواج كانت بينة على أنصاف الهرمين لم تتجاوزهما، انتهى. ويقال: إن الطوفان لما نضب ماؤه لم يوجد تحت الماء قرية سوى: نهاوند، وجدت

كما هي، وأهرام مصر وبرابيها وهي التي بناها هرميس الأوّل الذي تسميه العرب: إدريس، وكان قد ألهمه الله علم النجوم، فدلته على أنه سينزل بالأرض آفة وأنه سيبقى بقية من العالم يحتاجون فيها إلى علم، فبنى هو وأهل عصره الأهرام والبرابي وكتب علمه فيها. وقال أبو الصلت الأندلسيّ في رسالته: وقد ذكر أخلاق أهل مصر، إلا أنه يظهر من أمرهم أنه كان فيهم طائفة من ذوي المعارف والعلوم، وخصوصا علم الهندسة والنجوم، ويدل على ذلك ما خلفوه من الصنائع البديعة المعجزة كالأهرام والبرابي، فإنها من الآثار التي حيرت الأذهان الثاقبة، واستعجزت الأفكار الراجحة، وتركت لها شغلا بالتعجب منها والتفكر فيها، وفي مثلها يقول أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري من قصيدته التي يرثي بها أباه: تضلّ العقول الهبرزيات رشدها ... ولا يسلم الرأي القويم من الأفن وقد كان أرباب الفصاحة كلما ... رأوا حسنا عدّوه من صنعة الجن وأيّ شيء أعجب، وأغرب بعد مقدورات الله عز وجلّ، ومصنوعاته من القدرة على بناء جسم جسيم من أعظم الحجارة مربع القاعدة مخروط الشكل، ارتفاع عموده ثلثمائة ذراع وتسعة عشر ذراعا يحيط به أربعة سطوح مثلثات متساويات الأضلاع طول كل ضلع منها: أربعمائة ذراع وستون، وهو مع العظم من أحكام الصنعة وإتقان الهندام، وحسن التقدير بحيث لم يتأثر إلى هلم جرّا بعصف الرياح وهطل السحاب، وزعزعة الزلازل وهذه صفة كل واحد من الهرمين المحاذيين للفسطاط من الجانب الغربيّ على ما شاهدناه منهما. وقد ذكرت عجائب مصر وإن ما على وجه الأرض بنية إلا وأنا أرثي لها من الليل والنهار إلّا الهرمان فأنا أرثي لليل والنهار منهما، وهذان الهرمان لهما إشراف على أرض مصر وإطلال على بطائحها، وإصعاد في جوفها وهما اللذان أراد أبو الطيب المتنبي بقوله شعر: أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع تتخلف الآثار عن سكانها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع واتفق يوما إنا خرجنا إليهما فلما طفنا بهما واستدرنا حولهما، كثر التعجب منهما فقال بعضنا: بعيشك هل أبصرت أعجب منظرا ... على طول ما أبصرت من هرمي مصر أنافا عنانا للسماء وأشرفا ... على الجوّ إشراف السماك أو النسر وقد وافينا نشزا من الأرض عاليا ... كأنهما نهدان قاما على صدر وزعم قوم: إنّ الأهرام قبور ملوك عظام آثروا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد

مماتهم كما تميزوا عنهم في حياتهم وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور. ولما وصل الخليفة المأمون إلى مصر أمر بنقبها، فنقب أحد الهرمين المحاذيين للفسطاط بعد جهد شديد وعناء طويل، فوجدوا داخله مهاوي ومراقي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها، ووجدوا في أعلاها بيتا مكعبا طول كل ضلع من أضلاعه، نحو من ثمانية أذرع، وفي وسطه حوض رخام مطبق، فلما كشف غطاؤه لم يجدوا فيه غير رمّة بالية قد أتت عليها العصور الخالية، فعند ذلك أمر المأمون بالكف عن نقب ما سواه، ويقال: إن النفقة على نقبة كانت عظيمة والمؤونة شديدة. ومن الناس من زعم: أنّ هرمس الأوّل المدعوّ بالمثلث، بالنبوّة والملك والحكمة، وهو الذي تسميه العبرانيون: خنوخ بن يزد بن مهلايل بن قينان بن آنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وهو إدريس عليه السلام استدل من أحوال الكواكب على كون الطوفان يعمّ الأرض، فأكثر من بنيان الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم، وما يشفق عليه من الذهاب والدروس حفظا لها واحتياطا عليها. ويقال: إن الذي بناها ملك اسمه: سوريد «1» بن سهلوق بن سرياق، وقال آخرون: إن الذي بنى الهرمين المحاذيين للفسطاط شدّاد بن عاد، لرؤيا رآها، والقبط تنكر دخول العمالقة بلد مصر، وتحقق أن بانيها سوريد لرؤيا رآها، وهي أن آفة تنزل من السماء وهي الطوفان، وقالوا: إنه بناهما في مدّة ستة أشهر، وغشاهما بالديباج الملوّن، وكتب عليهما: قد بنيناهما في ستة أشهر قل لمن يأتي من بعدنا يهدمهما في ستمائة سنة، فالهدم أيسر من البنيان، وكسوناهما الديباج الملوّن، فليكسهما حصرا، فالحصر أهون من الديباج، ورأينا سطوح كل واحد من هذين الهرمين، مخطوطة من أعلاها إلى أسفلها بسطور متضايقة متوازية من كتابة بانيها، لا تعرف اليوم أحرفها ولا تفهم معانيها، وبالجملة الأمر فيها عجيب، حتى أن غاية الوصف لها والإغراق في العبارة عنها، وعن حقيقة الموصوف منها بخلاف ما قاله عليّ بن العباس الروميّ، وإن تباعد الموصوفان وتباين المقصودان إذ يقول: إذا ما وصفت امرأ لامرىء ... فلا تغل في وصفه واقصد فإنّك إن تغل تبد الظنو ... ن فيه إلى الغرض الأبعد فيصغر من حيث عظمته ... لفضل المغيب على المشهد ويقال: إنّ المأمون أمر من صعد الهرم الكبير أن يدلي حبلا فكان طوله ألف ذراع بالذراع الملكيّ، وهو ذراع وخمسان، وتربيعه أربعمائة ذراع في مثلها، وكان صعوده في

ثلاث ساعات من النهار، وأنه وجد مقدار رأس الهرم قدر مبرك ثمانية جمال. ويقال: إنه وجد على المقبور في الهرم حلّة قد بليت، ولم يبق منها سوى سلوكها من الذهب، وأنّ ثخانة الطلاء الذي عليه قدر شبر من مرّ وصبر. ويقال: إنه وجد في موضع من هذا الهرم إيوان في صدره ثلاثة أبواب على ثلاثة بيوت طول، كل باب منها عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع من رخام منحوت محكم الهندام وعلى صفحاته خط أزرق لم يحسنوا قراءته، وأنهم أقاموا ثلاثة أيام يعملون الحيلة في فتح هذه الأبواب إلى أن رأوا أمامها على عشرة أذرع منها ثلاثة أعمدة من مرمر، وفي كل عمود خرق في طوله وفي وسط الخرق صورة طائر، ففي الأوّل من هذه العمد صورة حمام من حجر أخضر، وفي الأوسط صورة بازي من حجر أصفر، وفي العمود الثالث صورة ديك من حجر أحمر، فحرّكوا البازي، فتحرّك الباب الأوّل الذي في مقابلته، فرفعوا البازي قليلا فارتفع الباب، وكان بحيث لا يرفعه مائة رجل من عظمه، فرفعوا التمثالين الآخرين، فارتفع البابان الآخران، فدخلوا إلى البيت الأوسط فوجدوا فيه ثلاثة سرر من حجارة شفافة مضيئة، وعليها ثلاثة من الأموات على كل ميت ثلاث حلل، وعند رأسه مصحف بخط مجهول، ووجدوا في البيت الآخر عدّة رفوف من حجارة عليها أسفاط من حجارة، فيها أوان من الذهب عجيبة الصنعة مرصعة بأنواع الجواهر، ووجدوا في البيت الثالث عدّة رفوف من حجارة عليها أسفاط من حجارة فيها آلات الحرب، وعدد السلاح، فقيس منها سيف فكان طوله سبعة أشبار، وكل ذرع من تلك الدروع اثنا عشر شبرا، فأمر المأمون بحمل ما وجد في البيوت، وأمر فحطت العمد فانطبقت الأبواب كما كانت. ويقال: كانت عدّة الأهرام ثمانية عشر هرما منها تجاه مدينة الفسطاط ثلاثة: أكبرها دوره ألفا ذراع وهو مربع في كل وجه من وجوهه الأربعة خمسمائة ذراع، ويقال: إن المأمون لما فتحه وجد فيه حوضا من حجر مغطى بلوح من رخام، وهو مملوء بالذهب وعلى اللوح مكتوب بقلم عرّب فكان: إنّا عمرنا هذا الهرم في ألف يوم وأبحنا لمن يهدمه في ألف سنة، والهدم أسهل من العمارة، وكسونا جميعه بالديباج وأبحنا لمن يكسوه الحصر، والحصر أيسر من الديباج، وجعلنا في كل جهة من جهاته ما لا يقدر ما يصرف على الوصول إليه، فأمر المأمون أن يحسب ما صرف على النقب، فبلغ قدر ما وجد في الحوض من غير زيادة ولا نقص. ويقال: إنه وجد فيه صورة آدميّ من حجر أخضر كالدهنج فيها طبق كالدواة ففتح فإذا فيه جسد آدميّ عليه درع من ذهب مزين بأنواع الجواهر، وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له، وعند رأسه حجر من ياقوت أحمر في قدر بيضة الدجاجة، فأخذه المأمون وقال: هذا خير من خراج الذهب.

وذكر بعض مؤرخي مصر: أنّ هذا الصنم الأخضر الذي وجدت الرمّة فيه لم يزل معلقا عند دار الملك بمدينة مصر إلى سنة إحدى عشرة وستمائة من سني الهجرة. وكان عند مدينة فرعون، هرمان، وعند ميدوم، هرم، وهذا آخرها. وفي سنة تسع وسبعين وخمسمائة من سني الهجرة ظهر بتربة بوصير من ناحية الجيزة بيت هرميس، ففتحه القاضي ابن الشهرزوري وأخذ منه أشياء من جملتها كباش، وقرود وضفادع من حجر بازهر، وقوارير من دهنج، وأصنام من نحاس. وقال ابن خرداذبه: من عجيب البنيان أن الهرمين بمصر، سمك كل واحد منهما أربعمائة ذراع، وكلما ارتفع دق، وهما من رخام ومرمر، والطول أربعمائة ذراع في عرض أربعمائة ذراع مكتوب عليهما: باليد كل سحر وكل عجيب من الطب، ومكتوب عليهما: إني بنيتهما فمن يدّعي قوّة في ملكه فليهدمهما فإنّ الهدم أيسر من البناء فاعتبر ذلك، فإذا خراج الدنيا لا يفي بهدمهما. وقال في كتاب عجائب البنيان عن الأهرام: قد انفردت مصر بهذه الأشكال، فليس لها بغيرها تمثال يظنهما الناظر للديار المصرية نهدين، ويحسبهما القابل أن مكارم أهلها قد أعدّتهما للتكرّم ابلوجين تراهما العين على بعد المسافة، وإذا حدثت عن عجائبهما يظنّ أنه حديث خرافة، وقد أكثر الناس في ذكر الأهرام، ووصفها ومساحتها وهي كثيرة العدد جدّا، وكلّها ببرّ الجيزة على سمت مصر القديمة تمتدّ نحوا من مسافة ثلاثة أيام، وفي بوصير منها شيء كثير، وبعضها كبار، وبعضها صغار، وبعضها طين، وبعضها لبن، وأكثرها حجر، وبعضها مدرج وأكثرها مخروط أملس. وقد كان منها بالجيزة: عدد كثير كلها صغار هدمت في زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد الطواشي: بهاء الدين قراقوش، أخذ حجارتها وبنى بها القناطر في الجيزة، وقد بقي من هذه الأهرام المهدومة تلّها. وأمّا الأهرام المتحدّث عنها فهي: ثلاثة أهرام موضوعة على خط مستقيم بالجيزة قبالة الفسطاط، وبينها مسافات كثيرة وزوايا متقابلة نحو الشرق، واثنان عظيمان جدّا في قدر واحد، وهما متقاربان ومبنيان بالحجارة البيض، وأما الثالث: فصغير عنهما نحو الربع لكنه مبنيّ بحجارة الصوّان الأحمر المنقط الشديد القوّة والصلابة، ولا يكاد يؤثر فيه الحديد إلا في الزمان الطويل، وتجده صغيرا بالقياس إلى ذينك فإذا أتيت إليه وأفردته بالنظر هالك مرآه وحيّر النظر في تأمله!. وقد سلك في بناء الأهرام، طريق عجيب من الشكل والإتقان، ولذلك صبرت على ممرّ الأيام لا بل على ممرّها صبر الزمان، فإنك إذا تأملتها وجدت الأذهان الشريفة قد

استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثالا في غاية إمكانها، حتى أنها تكاد تحدث عن قوّة قومها، وتخبر عن سيرتهم، وتنطق عن علومهم، وأذهانهم وتترجم عن سيرهم، وأخبارهم، وذلك أن وضعها على شكل مخروط ويبتدئ من قاعدة مربعة، وينتهي إلى نقطة. ومن خواص الشكل المخروط: أن مركز ثقله في وسطه يتساند على نفسه، ويتواقع على ذاته ويتحامل بعضه على بعض، وليس له جهة أخرى يتساقط عليها. ومن عجيب وضعه، أنه شكل مربع قد قوبل بزوايا مهاب الرياح الأربع، فإن الريح تنكسر سورتها عند مسامتتها الزاوية، وليست كذلك عندما تلقي السطح. وذكر المساح: أنّ قاعدة كل من الهرمين العظيمين أربعمائة ذراع بالذراع السوداء، وينقطع المخروط في أعلاه عند سطح مساحته عشرة أذرع في مثلها، وذكر أن بعض الرماة رمى سهما في قطر أحدهما، وفي سمكة فسقط السهم دون نصف المسافة، وذكر أنّ ذرع سطحها أحد عشر ذراعا بذراع اليد، وفي أحد هذين الهرمين، مدخل يلجه الناس يفضي بهم إلى مسالك ضيقة وأسراب متنافذة وآبار ومهالك، وغير ذلك على ما يحكيه من يلجه، وإنّ أناسا كثيرين لهم غرام به وتحيّل فيه فيتوغلون في أعماقه، ولا بدّ أن ينتهوا إلى ما يعجزون عن سلوكه. وأما المسلوك المطروق كثيرا، فزلاقة تفضي إلى أعلاه، فيوجد فيه بيت مربع فيه ناوس من حجر، وهذا المدخل ليس هو الباب في أصل البناء، وإنما هو منقوب نقبا صادف اتفاقا، وذكر أنّ المأمون فتحه. وحكى من دخله وصعد إلى البيت الذي في أعلاه فلما نزلوا حدّثوا بعظيم ما شاهدوه، وإنه مملوء بالخفافيش وأبوالها وتعظم فيه حتى تكون قدر الحمام، وفيه طاقات وروازن نحو أعلاه كأنها عملت مسالك للريح ومنافذ للضوء بحجارة جافية طول الحجر منها: من عشرة أذرع إلى عشرين ذراعا، وسمكه من ذراعين إلى ثلاثة أذرع، وعرضه نحو ذلك. والعجب كل العجب من وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا نجد بينهما مدخل إبرة ولا خلل شعرة، وبينهما طين لونه الزرقة لا يدرى ما هو؟ ولا صفته؟ وعلى تلك الحجارة كتابات بالقلم القديم المجهول الذي لم يوجد بديار مصر من يزعم أنه سمع من يعرفه، وهذه الكتابات كثيرة جدّا حتى لو نقل ما عليها إلى صحف لكانت قدر عشرة آلاف صحيفة، وقرأت في بعض كتب الصابئة القديمة: أنّ أحد هذين الهرمين، قبر أعاديمون، والآخر قبر هرمس، ويزعمون أنهما بيتان عظيمان، وأنّ أعاديمون أقدم وأعظم وإنّه كان يحجج إليهما ويهدى إليهما من أقطار البلاد.

وكان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما استقل بالملك بعد أبيه، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر، فأخرج إليه النقابين والحجارين وجماعة من أمراء دولته وعظماء مملكته وأمرهم بهدمه، فخيموا عنده وحشروا الرجال والصناع، ووفروا عليهم النفقات وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم ورجلهم يهدمون كل يوم بعد الجهد، واستفراغ بذل الوسع الحجر والحجرين فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوس «1» والأشطان «2» ، فإذا سقط سمع له وجبة عظيمة من مسافة بعيدة حتى ترجف الجبال، وتزلزل الأرض ويغوص في الرمل فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجوه، ويضربون فيه بالأسافين بعد ما ينقبون لها موضعا، ويثبتونها فيه فيتقطع قطعا وتسحب كل قطعة على العجل حتى يلقي في ذيل الجبل، وهي مسافة قريبة، فلما طال ثواءهم، ونفدت نفقاتهم، وتضاعف نصبهم، ووهت عزائمهم كفوا محسورين لم ينالوا بغية بل شوّهوا الهرم، وأبانوا عن عجز وفشل، وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، ومع ذلك فإنّ الرائي لحجارة الهرم يظنّ أنه قد استؤصل فإذا عاين الهرم ظنّ أنه لم يهدم منه شيء وإنما سقط بعض جانب منه، وحين ما شوهدت المشقة التي يجدونها في هدم كل حجر، سئل مقدّم الحجارين فقيل له: لو بذل لكم السلطان ألف دينار على أن تردّوا حجرا واحدا إلى مكانه وهندامه هل كان يمكنكم؟ فأقسم بالله إنهم ليعجزون عنه ولو بذل لهم أضعاف ذلك. وبإزاء الأهرام مغاير كثيرة العدد كبيرة المقدار عميقة الأغوار لعلّ الفارس يدخلها برمحه ويتخللها يوما أجمع ولا ينهيها لكبرها وسعتها وبعدها ويظهر من حالها أنها مقاطع حجارة الأهرام. وأما مقاطع حجارة الهرم الأحمر فيقال: إنها بالقلزم وبأسوان، وعند هذه الأهرام آثار أبنية جبابرة ومغاير كثيرة منقبة، وقلما ترى من ذلك شيئا إلّا وترى عليه كتابات بهذا القلم المجهول، ولله در الفقيه عمارة اليمنيّ حيث يقول: خليليّ ما تحت السماء بنية ... تماثل في إتقانها هرمي مصر بناء يخاف الدهر منه وكلّ ما ... على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر تنزه طرفي في بديع بنائها ... ولم يتنزه في المراد بها فكري أخذ هذا من قول بعض الحكماء، كل شيء يخشى عليه من الدهر إلا الأهرام فإنه يخشى على الدهر منها، وقال عبد الوهاب بن حسن بن جعفر بن الحاجب، ومات في سنة

سبع وثمانين وثلثمائة: انظر إلى الهرمين إذ برزا ... للعين في علو وفي صعد وكأنما الأرض العريضة قد ... ظمئت لطول حرارة الكبد حسرت عن الثديين بارزة ... تدعو الإله لفرقة الولد فأجابها بالنيل يشبعها ... ريا وينقذها من الكمد لكرامة المولى المقيم بها ... خير الأنام مقوّم الأود وقال سيف «1» الدين بن جبارة: لله أيّ عجيبة وغريبة ... في صنعة الأهرام للألباب أخفت عن الأسماع قصة أهلها ... ونضت عن الأبداع كل نقاب فكأنما هي كالخيام مقامة ... من غير ما عمد ولا أطناب وقال آخر: انظر إلى الهرمين واسمع منهما ... ما يرويان عن الزمان الغابر وانظر إلى سرّ الليالي فيهما ... نظرا بعين القلب لا بالناظر لو ينطقان لخبرانا بالذي ... فعل الزمان بأوّل وبآخر وإذا هما بديا لعيني ناظر ... وصفا له أذني جواد عائر وقال الإمام أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي: ألست ترى الأهرام دام بناؤها ... ويفني لدينا العالم الإنس والجنّ كأن رحى الأفلاك أكوارها على ... قواعدها الأهرام والعالم الطحن وقال: قد كان للماضين من ... سكان مصرهم فالفضل عنهم فضلة ... والعلم فيهم علم ثم انقضت أعلامهم ... وعلمهم واحتطموا وانظر تراها ظاهرا ... باد عليها الهرم وقال: خليليّ لا باق على الحدثان ... من الأوّل الباقي فيحدث ثاني إلى هرمي مصر تناهت قوى الورى ... وقد هرمت في دهرها الهرمان فلا تعجبا أن قد هرمت فإنما ... رماني بفقدان الشباب زماني

ذكر الصنم الذي يقال له أبو الهول

وعوجا بقرطاجنة فانظرا بها ... جنايتي العادين تنتحبان وإيوان كسرى فانظراه فإنه ... يخبر كما بالصدق كل أوان فلا تحسبا أن الفناء يخصني ... ألا كل ما فوق البسيطة فاني ووجدت بخط الشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني أنشدني القاضي فخر الدين عبد الوهاب المصريّ لنفسه في الأهرام سنة خمس وخمسين وسبعمائة وأجاد: أمباني الأهرام كم من واعظ ... صدع القلوب ولم يفه بلسانه اذكرنني قولا تقادم عهده ... أين الذي الهرمان من بنيانه هنّ الجبال الشامخات تكاد أن ... تمتدّ فوق الأرض عن كيوانه لو أنّ كسرى جالس في سفحها ... لأجلّ مجلسه على إيوانه ثبتت على حرّ الزمان وبرده ... مددا ولم تأسف على حدثانه والشمس في إحراقها والريح عن ... د هبوبها والسيل في جريانه هل عابد قد خصها بعبادة ... فمباني الأهرام من أوثانه أو قائل يقضي برجعي نفسه ... من بعد فرقته إلى جثمانه فاختارها لكنوزه ولجسمه ... قبرا ليأمن من أذى طوفانه أو أنها للسائرات مراصد ... يختار راصدها أعز مكانه أو أنها وصفت شؤون كواكب ... أحكام فرس الدهر أو يونانه أو أنهم نقشوا على حيطانها ... علما يحار الفكر في تبيانه في قلب رائيها ليعلم نقشها ... فكر يعض عليه طرف بنانه ذكر الصنم الذي يقال له أبو الهول هذا الصنم بين الهرمين عرف أوّلا ببلهيب، وتقول أهل مصر اليوم أبو الهول. قال القضاعي: صنم الهرمين وهو بلهويه، صنم كبير من حجارة فيما بين الهرمين لا يظهر منه سوى رأسه فقط تسميه العامة بأبي الهول ويقال: بلهيب، ويقال: إنه طلسم للرمل، لئلا يغلب على إبليز الجيزة. وقال في كتاب عجائب البنيان: وعند الأهرام رأس وعنق بارزة من الأرض في غاية العظم تسميه الناس: أبا الهول، ويزعمون أن جثته مدفونة تحت الأرض، ويقتضي القياس بالنسبة إلى رأسه أن يكون طوله سبعين ذراعا فصاعدا، وفي وجهه حمرة ودهان يلمع عليه رونق الطراوة، وهو حسن الصورة مقبولها عليه مسحة بهاء وجمال كأنه يضحك تبسما. وسئل بعض الفضلاء، عن عجيب ما رأى فقال: تناسب وجه أبي الهول، فإنّ أعضاء

وجهه كالأنف والعين والأذن متناسبة كما تصنع الطبيعة الصور متناسبة، فإنّ أنف الطفل مثلا مناسب له، وهو حسن به حتى لو كان ذلك الأنف لرجل كان مشوّها، وكذلك أنف الرجل لو كان لصبيّ لتشوّهت صورته، وعلى هذا سائر الأعضاء فكل عضو ينبغي أن يكون على مقدار ماهيته بالقياس إلى الصورة وعلى نسبتها، والعجب من مصوّره كيف قدر أن يحفظ التناسب للأعضاء مع عظمها، وإنه ليس في أعمال الطبيعة ما يحاكيه. ويقابله في برّ مصر قريبا من دار الملك: صنم عظيم الخلقة والهيئة متناسب الأعضاء كما وصف، وفي حجره مولود وعلى رأسه مأجور، الجميع صوّان ماتع يزعم الناس أنه امرأة وأنها سريّة أبي الهول المذكور، وهي بدرب منسوب إليها ويقال: لو وضع على رأس أبي الهول خيط ومدّ إلى سريته لكان على رأسها مستقيما. ويقال: إن أبا الهول، طلسم الرمل يمنعه عن النيل، وإنّ السرية طلسم الماء يمنعه عن مصر. وقال ابن المتوّج «1» : زقاق الصنم، هو الزقاق الشارع، أوّله بأوّل السوق الكبير بجوار درب عمار، ويعرف الصنم بسرية فرعون، وذكر أنه طلسم النيل لئلا يغلب على البلد. وقيل: إن بلهيب الذي عند الأهرام يقابله، وإنّ ظهر بلهيب إلى الرمل، وظهر هذا إلى النيل، وكل منهما مستقبل الشرق، وقد نزل في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، أمير يعرف ببلاط في نفر من الحجارين والقطاعين وكسروا الصنم المعروف بالسرية، وقطعوه أعتابا وقواعد ظنا أن يكون تحته مال، فلم يوجد سوى أعتاب من حجر عظيمة، فحفر تحتها إلى الماء فلم يوجد شيء، وجعل من حجرة قواعد تحتانية للعمد الصوّان التي بالجامع المستجد بظاهر مصر المعروف: بالجامع الجديد الناصريّ، وأزيل عين هذا الصنم من مكانه، والله أعلم. وفي زمننا، كان شخص يعرف بالشيخ محمد صائم الدهر من جملة صوفية الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، قام في نحو من سنة ثمانين وسبعمائة لتغيير أشياء من المنكرات، وسار إلى الأهرام وشوّه وجه أبي الهول وشعثه، فهو على ذلك إلى اليوم، ومن حينئذ غلب الرمل على أراض كثيرة من الجيزة، وأهل تلك النواحي يرون أن سبب غلبة الرمل على الأراضي فساد وجه أبي الهول ولله عاقبة الأمور، وما أحسن قول ظافر الحدّاد: تأمّل هيئة الهرمين واعجب ... وبينهما أبو الهول العجيب كعمار يبتن على رحيل ... بمحبوبين بينهما رقيب

وماء النيل تحتهما دموع ... وصوت الريح عندهما نحيب وظاهر سجن يوسف مثل صب ... تخلف فهو محزون كئيب ويقال: إن أتريب «1» بن قبط بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح أوصى أخاه صا «2» ، عند موته، أن يحمله في سفينة ويدفنه بجزيرة في وسط البحر، فلما مات، فعل ذلك من غير أن يعلم به أهل مصر فاتهمه الناس بقتل أتريب، وحاربوه تسع سنين، فلما مضى من حربهم خمس سنين مضى بهم حتى أوقفهم على قبر أتريب، فحفروه فلم يجدوا به شيئا، وقد نقلته الشياطين إلى موضع أبي الهول، ودفنته هناك بجانب قبر أبيه وجدّه بيصر، فازدادوا له تهمة وعادوا إلى مدينة منف وتحاربوا فأتاهم إبليس، فدلهم على قبر أتريب حيث نقله، فأخرجوه من قبره، ووضعوه على سرير، فتكلم لهم الشيطان على لسانه حتى افتتنوا به وسجدوا له وعبدوه، فيما عبدوا من الأصنام، وقتلوا صا، ودفنوه على شاطىء النيل فكان النيل إذا زاد لا يعلو قبره، فافتتن به طائفة، وقال: قتل ظلما وصاروا يسجدون لقبره كما يسجد أولئك لأتريب، فعمد آخرون إلى حجر فنحتوه على صورة أشموم، وكان يقال له: أبو الهول، ونصبوه بين الهرمين، وجعلوا يسجدون له، فصار أهل مصر ثلاث فرق ولم تزل الصابئة تعظم أبا الهول وتقرّب إليه الديكة البيض وتبخره بالصندروس.

ذكر الجبال

ذكر الجبال اعلم أنّ أرض مصر بأسرها محصورة بين جبلين آخذين من الجنوب إلى الشمال قليلي الارتفاع، وأحدهما أعظم من الآخر، والأعظم منهما هو الجبل الشرقيّ المعروف بجبل لوقا، والغربيّ جبل صغير، وبعضه غير متصل ببعض والمسافة بينهما تضيق في بعض المواضع وتتسع في بعضها، وأوسع ما يكون بأسفل أرض مصر، وهذان الجبلان أقرعان لا يثبت فيهما نبات، كما يكون في جبال البلدان الأخر، وعلة ذلك: أنهما بورقيان مالحان لأنّ قوّة طين مصر تجذب منهما الرطوبات الموافقة في التكوين، ولأنّ قوّة الحرارة تحلل منهما الجوهر اللطيف العذب، وكذلك مياه الآبار منهما مالحة، وهذان الجبلان يجففان ما يدفن فيهما، فإنّ أرض مصر بالطبع قليلة الأمطار. وجبل لوقا في مشرق أرض مصر يعوق عنها ريح الصبا، فعدمت مصر هذا الريح، ويعوق أيضا إشراق الشمس على أرض مصر إذا كانت على الأفق وتتعدّد أسماء هذين الجبلين بحسب مواضعهما من الإقليم، فيطلّ على الفسطاط، وعلى القاهرة الجبل المقطم. ذكر الجبل المقطم اعلم أنّ الجبل المقطم أوّله من الشرق من الصين حيث البحر المحيط، ويمرّ على بلاد الططر حتى يأتي فرغانة إلى جبال اليتم الممتدّ بها نهر السغد إلى أن يصل الجبل إلى جيحون فيقطعه، ويمضي في وسطه بين شعبتين منه وكأنه قطع، ثم في وسطه ويستمرّ الجبل إلى الجورجان، ويأخذ على الطالقان إلى أعمال مروالرود إلى طوس، فيكون جميع مدن طوس فيه، ويتصل به جبال أصبهان وشيراز إلى أن يصل إلى البحر الهندي، وينعطف هذا الجبل ويمتدّ إلى شهر زور فيمرّ على الدجلة، ويتصل بجبل الجوديّ موقف سفينة نوح عليه السلام في الطوفان ولا يزال هذا الجبل مستمرّا من أعمال آمد وميافارقين، حتى يمرّ بثغور حلب فيسمى هناك جبل اللكام «1» ، إلى أن يعدّي الثغور فيسمى نهرا حتى يجاوز حمص فيسمى لبنان، ثم يمتدّ على الشام حتى ينتهي إلى بحر القلزم من جهة، ويتصل من الجهة الأخرى، ويسمى المقطم، ثم يتشعب ويتصل أواخر شعبه بنهاية الغرب.

ويقال: إنه عرف بمقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وجبل المقطم: يمرّ على جانبي النيل إلى النوبة ويعبر من فوق الفيوم فيتصل بالغرب إلى أرض مقراوة ويمضي مغربا إلى سجلماسة، ومنها إلى البحر المحيط مسيرة خمسة أشهر. وقال إبراهيم بن وصيف شاه: وذكر مجيء مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح إلى أرض مصر، وكشف أصحاب إقليمون الكاهن عن كنوز مصر، وعلومهم التي هي بخط البرابي وآثارهم والمعادن من الذهب والزبرجد والفيروزج، وغير ذلك. ووصفوا لهم عمل الصنعة يعني الكيمياء، فجعل مصرايم أهلها إلى رجل من أهل بيعة يقال له: مقيطام الحكيم، فكان يعمل الكيمياء في الجبل الشرقي، فسمي به: المقطم، من أجل أنّ مقيطام الحكيم كان يعمل فيه الكيمياء، واختصر من اسمه وبقي ما يدل عليه، فقيل له: جبل المقطم، يعني جبل مقيطام الحكيم. وقال البكري رحمه الله تعالى عليه: المقطم، بضم أوّله وفتح ثانيه، وتشديد الطاء المهملة وفتحها: جبل متصل بمصر يوارون فيه موتاهم. وقال القضاعي: المقطم، ذكر أبو عبد الله اليمنيّ، أنّ هذا الجبل باسمه، وليس هذا بصحيح لأنه لا يعرف لمصر ولد اسمه المقطم. والذي ذكره العلماء: أنّ المقطم مأخوذ من القطم، وهو القطع فكأنه لما كان منقطع الشجر والنبات سمي: مقطما، ذكر ذلك عليّ بن الحسن الهناءي الدوسي المنبوذ بكراع وغيره. وروى عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم عن الليث بن سعد رضي الله عنه، قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن يبيعه سفح الجبل المقطم بسبعين ألف دينار، وفي نسخة: بعشرين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك، وقال: اكتب بذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع، ولا يستنبط بها ماء؟ فسأله، فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه: إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين فاقبر فيها، من مات قبلك من المؤمنين، ولا تبعه بشيء، فكان أوّل من قبر فيها رجلا من المعافر، يقال له: عامر، فقيل: عمرت، فقال المقوقس لعمرو: وما ذلك وما على هذا عاهدتنا، فقطع لهم الحدّ الذي بين المقبرة وبينهم. وذكر عمر بن أبي عمر الكندي في فضائل مصر: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه، سار في سفح الجبل المقطم، ومعه المقوقس، فقال له: ما لجبلكم هذا أقرع؟ أليس به نبات

الجبل الأحمر

كجبال الشام فلو شققنا في أسفله نهرا من النيل وغرسناه نخلا؟ فقال المقوقس: وجدنا في الكتب أنه كان أكثر الجبال أشجارا ونباتا وفاكهة، وكان منزل المقطم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، فلما كانت الليلة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام، أوحى الله إلى الجبال إني مكلم نبيا من أنبيائي على جبل منكم فسمت الجبال كلها، وتشامخت إلّا جبل بيت المقدس، فإنه هبط وتصاغر، فأوحى الله إليه لم فعلت ذلك؟ وهو به أخبر! فقال: إعظاما وإجلالا لك يا رب، قال: فأمر الله سبحانه الجبال أن يحبوه كل جبل بما عليه من النبت، فجادله المقطم بكل ما عليه من النبت حتى بقي كما ترى، فأوحى الله إليه: إني معوّضك على فعلك بشجر الجنة، أو غراس الجنة، فكتب بذلك عمرو بن العاص رضي الله عنه، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لا أعلم شجر الجنة غير المؤمنين فاجعله لهم مقبرة ففعل، فغضب المقوقس من ذلك، وقال لعمرو: ما على هذا صالحتني، فقطع له عمر قطيعا نحو الحبش تدفن فيه النصارى. قال: وروي أن موسى عليه السلام سجد، فسجد معه كل شجرة من المقطم إلى طرا. وروي أنه مكتوب، وإذا فتح مقدّسي يريد وادي مسجد موسى عليه السلام بالمقطم عند مقطع الحجارة، فإنّ موسى عليه السلام كان يناجي ربه بذلك الوادي. وروى أسد بن موسى قال: شهدت جنازة مع موسى بن لهيعة، فجلسنا حوله فرفع رأسه، فنظر إلى الجبل فقال: إنّ عيسى ابن مريم عليه السلام، مرّ بسفح هذا الجبل، وعليه جبة صوف وقدّ شد وسطه بشريط وأمّه إلى جانبه، فالتفت إليها وقال: يا أمّه هذه مقبرة أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم، وروى عبد الله بن لهيعة، عن عياش بن عباس: أن كعب الأحبار رضي الله عنه، سأل رجلا يريد مصر، فقال له: اهدني تربة من سفح مقطمها فأتاه منه بجراب، فلما حضرت كعبا الوفاة أمر به، فجعل في لحده تحت جثته. وروي عن كعب أنه سئل عن جبل مصر، فقال: إنه لمقدّس ما بين القصير إلى اليحموم، قال ابن لهيعة: والمقطّم: ما بين القصير إلى مقطع الحجارة، وما بعد ذلك، فمن اليحموم وفي هذا الجبل حجر الجوهر، وشيء من الفولاذ، وهو يمتدّ إلى أقاصي بلاد السودان. الجبل الأحمر هذا الجبل مطلّ على القاهرة من شرقيها الشماليّ، ويعرف: باليحموم. قال القضاعيّ: اليحاميم هي: الجبال المتفرّقة المطلة على القاهرة من جانبها الشرقيّ وجبابها، وتنتهي هذه الجبال إلى بعض طرق الجب، وقيل لها: اليحاميم لاختلاف ألوانها، واليحموم في كلام العرب الأسود المظلم.

جبل يشكر

وقال ابن عبد الحكم عن سعي بن عبيد أنه لما قدم مصر، وأهل مصر، قد اتخذوا مصلى بحذاء ساقية أبي عون التي في العسكر فقال: ما لهم وضعوا مصلاهم في الجبل الملعون وتركوا الجبل المقدّس، يعني المقطّم؟. وقال ابن عبد الظاهر: الجبل الأحمر، ذكر القضاعيّ: أن اليحموم هو: الجبل المطلّ على القاهرة، ولا أرى جبلا يطلّ على القاهرة غيره. وقال البكري: اليحموم، بفتح أوّله وإسكان ثانيه. قال الحربي: اليحموم: جبل بمصر. وروي من طريق أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو: أنه سأل كعبا عن المقطم: أملعون؟ قال: ليس بملعون، ولكنه مقدّس من القصير إلى اليحموم. وذكر البكريّ أيضا: أنّ عابدا، بالباء الموحدة والدال المهملة، على وزن فاعل: جبل بمصر قبل المقطم. جبل يشكر «1» هذا الجبل فيما بين القاهرة ومصر عليه الجامع الطولوني. قال القضاعيّ: جبل يشكر: هو يشكر بن جديلة من لخم، وهو الذي عليه جامع ابن طولون، ويشكر بن جديلة: قبيلة من قبائل العرب احتطت عند الفتح بهذا الجبل، فعرف بجبل يشكر لذلك. قال ابن عبد الظاهر: وجامع ابن طولون على جبل يشكر، وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، ومكان مبارك، وقيل: إن موسى عليه السلام ناجى ربه عليه بكلمات، وكان هذا الجبل يشرف على النيل، وليس بينه وبين النيل شيء، وكان يشرف على البركتين، أعني بركة الفيل، والبركة التي تعرف اليوم: ببركة قارون، وعلى هذا الجبل كانت تنصب المجانيق التي تجرّب قبل إرسالها إلى الثغور. الكبش: هو جبل، بجوار يشكر كان قديما يشرف على النيل من غربيه، ثم لما اختط المسلمون مدينة الفسطاط بعد فتح أرض مصر، صار الكبش من جملة خطة الحمراء القصوى وسمي: الكبش. الشرف: اسم لثلاثة مواضع، فاثنان منها: فيما بين القاهرة ومصر، وواحد فيما بين بركة الحبش وفسطاط مصر، فأما الذي بظاهر القاهرة، فأحدهما عليه الآن قلعة الجبل، وهو

ذكر الرصد

من جملة الجبل المقطم، والآخر: فيما بين الجامع الطولونيّ ومصر، فيشرف غربيه على جهة الخليج الكبير، ويصير فيما بين كوم الجارح، وخط الجامع الطولونيّ، وكان من خطة تجيب، ثم صار من جملة العسكر، وأما الشرف الثالث فيعرف اليوم: بالرصد، وهو يشرف على راشدة، وكان يقال للشرف: سند، والسند: ما قابلك من الجبل، وعلا من السفح ويقال: فلان سند، أي: معتمد. ذكر الرّصد هذا المكان شرف يطلّ من غربيّة على راشدة، ومن قبلّيه على بركة الحبش، فيحسبه من رآه من جهة راشدة جبلا وهو من شرقيه سهل يتوصل إليه من القرافة بغير ارتقاء ولا صعود، وهو محاذ للشرف الذي كان من جملة العسكر، والشرف الذي يعرف اليوم بالكبش، وكان يقال له قديما: الجرف، ثم عرف بالرصد من أجل أنّ الأفضل أبا القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ، أقام فوقه كرة لرصد الكواكب، فعرف من حينئذ بالرصد. قال في كتاب عمل الرصد: وحمل إلى الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر من الشام تقاويم لما يستأنف من السنين لاستقبال سنة خمسمائة من سني الهجرة، قيل: مائة تقويم، أو نحوها، وكان منجمو الحضرة يومئذ ابن الحلبيّ وابن الهيثمي وسهلون وغيرهم، يطلق لهم الجاري في كل شهر، والرسوم والكسوة على عمل التقويم في كل سنة، وكان كل منهم يجتهد في حسابه وما تصل قدرته إليه، فإذا كان في غرّة السنة حمل كلّ منهم تقويمه، فيقابل بينها وبين التقويمات المحضرة من الشام، فيوجد بينها اختلاف كثير، فأنكر ذلك، فلما كان غرّة ثلاث عشرة وخمسمائة عند إحصاء التقاويم على العادة، جمع المنجمين والحساب، وأهل العلم وسألهم عن السبب في الخلف بين التقاويم؟ فقالوا: الشاميّ يحسب ويعمل على رأي الزيج المهجور المأمونيّ، ونحن نعمل على رأي الزيج الحاكميّ لقرب عهده، وبين المتقدّم والمتأخر تفاوت وخلف، وقد أجمع القدماء أن القريب العهد أصح من المتقدّم لتنقل الكواكب، وتغير الحساب، وتحدّثوا في معنى ذلك بما هو مذكور في موضعه، وأشاروا عليه بعمل رصد مستجدّ يصحح به الحساب، ويخرج به المعور والتفاوت، وتحصل به المنفعة العظيمة والفائدة الجليلة والسمعة الشريفة والذكر الباقي، فقال: من يتولى ذلك؟ فقال صاحب دسته «1» ومشيره الشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة: هذا القاضي ابن أبي العيش الطرابلسيّ المهندس العالم الفاضل، وكان ابن أبي العيش صهره زوج ابنته، وهو شيخ كبير السنّ والقدر كثير المال، وساعده على ذلك القائد أبو عبد الله الذي تقلد الوزارة بعد الأفضل، ودعي بالمأمون بن البطائحيّ، فاستصوب الأفضل ذلك، وقال: مروه يهتم بذلك، ويستدعي ما يحتاج إليه، فكان أوّل ما بدأ به لما

حصل ذلك أن مدح نفسه، وكان الأفضل غيورا على كل شيء أشدّ ما عليه من يفتخر أو يلبس ثيابا مذكورة، ثم قال: هذه الآلات عظيمة، وخطرها جسيم ولا كلّ أحد يقوم عليها، ولا يحسنها، وأكثر الكلام والتوسعة، وقال: يحتاج أنّ الذي يتولى ذلك يعتمد معه الإنعام والإكرام لتطيب نفسه للمباشرة وينشرح صدره، ويقدح خاطره لما يعمل في حقه، فضجر الأفضل من ذلك، وقال: لقد أكثر في مدح نفسه ولدده وما يعاملنا بعد، لا حاجة إلى معاملته، فأشار القائد بن البطائحيّ، وقال: هنا من يبلغ الغرض بأسهل مأخذ، وأقرب وقت وأسرعه، وألطف معنى أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح والسروج والصناعات وغير ذلك، فأحضره للوقت فاتفق له من الحديث الحسن السهل، وما سبب عمل الآلات، ومن ابتدأها من الأول. وذكر القدماء في العلم: ومن رصد منهم واحدا واحدا إلى آخرهم شرحا مستوفيا كأنه يحفظه ظاهرا، أو يقرأه من كتاب، فأعجب الأفضل والحاضرين، وقال: أيّ شيء تحتاج؟ فقال: ما أحتاج كبير أمر، والأمور سهلة وكلّ ما أحتاجه في خزائن السلطان خلد الله ملكه، النحاس والرصاص والآلات، وكلّ ما أحتاج أستدعيه أوّلا أوّلا، إلّا لنفقات وأجرة الصناع، فيتولاها غيري، فأعجب به. وقال: يطلق له جار لنفسه، فقال: أنا مستخدم في عدّة خدم فجواريّ تكفيني، فأنا مملوك الدولة ما أحتاج إلى جار، وإذا بلغت الغرض، وأنهيت الأشغال فهو المقصود. وكان قيل للأفضل، هذا الرصد يحتاج إلى أموال عظيمة، فقال: كم تقول يحتاج إليه؟ فقال: ما ينفق عليه إلا مثل ما ينفق عليه مسجد، أو مستنظر، فرجع يكرّر عليه القول، فقال: هاتوا ورقة، فكتب فيها المملوك يقبل الأرض وينهي دعت الحاجة إلى خروج الأمر العالي إلى دار الوكالة بإطلاق مائتي قنطار من النحاس الثجر وثمانين قنطارا من النحاس القضيب الأندلسيّ، وأربعين قنطارا من النحاس الأحمر ومن الرصاص ألف قنطار، ومن الحطب، ومن الحديد والفولاذ من الصناعة ما لعله يحتاج إليه، ومن الأخشاب ومن النفقة مائة دينار على يد شاهد ينفق عليه، فإذا فرغت أستدعي غيرها، وأختار موضعا يصلح الرصد فيه، ويكون العمل والصناعة فيه ومباشرة السلطان فيما يتوقف عليه وما يستأمر فيه، فاستصوب الأفضل جميع ذلك، وأراد أن يخلع عليه. فقال القائد: هذا فيما بعد إذا شوهدت أعماله، فخدم من أوّل الحال إلى آخرها، ولم يحصل له الدرهم الفرد لأنه كان يستحيي أن يطلب، وهو مستخدم عندهم، وكانوا بأجمعهم يؤملون طول المدّة والبقاء، فقتل الأفضل ثاني سنة وتغيرت الأحوال، ثم إنهم اختاروا للرصد مسجد التنور فوق المقطم، فوجدوه بعيدا عن الحوائج، فأجمعوا على سطح الحرف بالمسجد المعروف: بالفيلة الكبير. وكان قد صرف على المسجد خاصة ستة آلاف دينار، فحفروا في مسجد الفيلة نفرا في الجبل مكان الصهريج الآن، فعمل فيه قالب الحلقة الكبيرة وقطرها عشرة أذرع ودورها

ثلاثون ذراعا وهندموه وحرّروه أياما، وعمل حوله عشر هرج على كل هرجة منفاخان، وفي كل هرجة: أحد عشر قنطارا نحاسا، وأقلّ وأكثر والجميع مائة قنطار وكسر، قسموها على الهرج وطرح فيها النار من العصر، ونفخوا إلى الثانية من النهار، وحضر الأفضل بكرة، وجلس على كرسيّ، فلما تهيأت الهرج، ودارت أمر الأفضل بفتحها، وقد وقف على كل هرجة رجل وأمروا بفتحها في لحظة، ففتحت، وسال النحاس كالماء إلى القالب، وكان قد بقي فيه بعض النداوة، فلما استقرّ به النحاس بحرارته تقعقع المكان الندي، فلم تتمّ الحلقة، ولما بردت وكشف عنها إذ هي تامة ما خلا المكان النديّ، فضجر الأفضل وضاق صدره، ورمي الصناع بكيس فيه ألف درهم، وغضب وركب فلاطفه ابن قرقة، وقال: مثل هذه الآلة العظيمة التي ما سمع قط بمثلها لو أعيد سبكها عشر مرّات حتى تصح ما كان كثيرا، فقال له الأفضل: اهتم في إعادتها فسبكت وصحت، ولم يحضر الأفضل في المرّة الثانية، ففرح بصحتها وعملت ورفعت إلى سطح مسجد الفيلة، وأحضر لها جميع صناع النحاس، وعمل لها بركار خشب من السنديان، وهو بركار عجيب، وبنى في وسط الحلقة مسطبة حجارة منقبة لرجل البركار، وهو قائم مثل عروس الطاحون، وفيه ساعد مثل ناف الطاحون، وقد لبس بالحديد والجميع سنديان جيد، وطرف الساعد مهيأ لعدّة فنون، تارة لتصحيح وجه الحلقة، وتارة لتعديل الأجناب، وتارة للخطوط والحزوز، وأقام في التصحيح فيها، وأخذ زوائدها بالمبارد مدّة طويلة، وجماعة الصناع والمهندسين وأرباب هذا العلم حاضرون، واستدعى لهم خيمة عظيمة ضربت على الجميع، وعقد تحت الحلقة أقباء وثيقة، وأرادوا قيامها على سطح مسجد الفيلة، فلم يتهيأ لهم فإنهم وجدوا المشرق لأوّل بروز الشمس مسدودا، فاتفقوا على نقلها إلى المسجد الجيوشيّ المجاور الأنطاكي المعروف أيضا بالرصد، وكان الأفضل، بناه ألطف من جامع الفيلة، ولم يكمل. فلما صار برسم الرصد كمل، فحضر الأفضل، في نقل الحلقة من جامع الفيلة إلى المسجد الجيوشيّ، وقد أحضرت الصواري الطوال العظام، والسرياقات والمنحاتات من الإسكندرية وغيرها، وجمعت الأسطولية ورجال السودان، وبعض أصحاب الركاب والجند حتى أدلوه وحملوه على العجل إلى مسجد الرصد الجيوشيّ، وثاني يوم حضروا بأجمعهم حتى رفعوه إلى السطح وكملوه، وأقاموا الحلقة وجعلوا تحت أكتافها عمودين من رخام سبكوهما بالرصاص من أسفلهما وأعلاهما، حتى لا يرتخي ثقل النحاس، وجعل في الوسط عمود رخام وبأعلاه قطب العضادة مسبوك بالنحاس الكثير لتدور عليه العضادة، وعملت من نحاس، فما تمارست، ولا دارت فعملوها من خشب ساج وقطبها وأطرافها من نحاس صفائح ليخف الدوران، ثم رصدوا بها الشمس بعد كلفة، وكانت الحلقة ترخي الدرجة والدقائق كل وقت للثقل. فعمل عمود من نحاس فوق عمود الرخام ليمسك رخوها، وغلبوا بعد ذلك فكانت

تختلف لشدّة ما كانوا يحرّرونها بالشواقيل وعضادة الخشب، وتردّد إليها الأفضل مع كبر سنه، وهو يرتعش، والقائد يحمله إلى فوق، ويقعد زمانا من التعب لا يتكلّم ويده ترتعش، فرصدوا قدّامه، وفي خلال ذلك قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقيل للأفضل عن ابن قرقة: إنه أسرف في كبر الحلقة، وعظم مقدارها، فقال له الأفضل: لو اختصرت منها كان أهون، فقال: وحق نعمتك لو أمكنني أن أعمل حلقة تكون رجلها الواحدة على الأهرام، والأخرى على التنور فعلت، فكلما كبرت الآلة صح التحرير، وأين هذا في العالم العلويّ، ثم أكثروا عليه، فعمل حلقة دونها في الموضع المهندم بالطوب الأحمر تحت المسجد الجيوشي، كان قطرها أقل من سبعة أذرع ودورها نحو أحد وعشرين ذراعا. فلما كملت، قتل الأفضل، ولم ينفق من مال السلطان في الأجرة والمؤن، وما لا بدّ منه سوى نحو مائة وستين دينارا، فلما تمت الوزارة للمأمون البطائحيّ، أحب أن يكملها، ويقال له: الرصد المأموني المصحح، كما قيل للأوّل: الرصد المأموني الممتحن، فأخرج الأمر بنقل الرصد إلى باب النصر بالقاهرة، فنقل على الطريقة الأولى بالعتالين والأسطولية وطوائف الرجال، وكان يدفع لهم كل يوم برسم الغداء جملة دراهم، فلما صار فوق العجل مضوا به على الخندق من وراء الفتح على المشاهد إلى مسجد الذخيرة من ظاهر القاهرة، وتعبوا في دخوله من باب النصر تعبا عظيما لخوفهم أن يصدم فيتغير، فنصبوا الصواري على عقد باب النصر من داخل الباب، وتكاثر الرجال في جذب المياحين من أسفل، ومن فوق حتى وصل إلى السطح الكبير. ثم نقلوه من السطح الكبير إلى السطح الفوقانيّ، وأوقفوا له العمد كما تقدّم ذكره، ورصدوا بالحلقة الكبرى كما رصدوا بها على سطح الجرف، فصح لهم ما أرادوا من حال الشمس فقط، ثم اهتموا بعمل ذات حلق يكون قطرها خمسة أذرع، وسبكت في فندق بالعطوفية من القاهرة، وكان الأمر فيها سهلا عندما لحقهم من العناء العظيم في الحلقة الكبيرة، والحلقة الوسطى، وتجرّد المأمون لعملها، والحثّ فيها، وكان ابن قرقة يحضر كل يوم دفعتين، ويحضر أبو جعفر بن جسنداي وأبو البركات بن أبي الليث صاحب الديوان وبيده الحل، والعقد فقال له المأمون: اطلع إليهم كل يوم وأيّ شيء طلبوه وقع لهم به من غير مؤامرة، وكان قصده ما أطمعوه فيه من أن يقال: الرصد المأمونيّ المصحح، فلو أراد الله أن يبقي المأمون قليلا كان كمل جميع رصد الكواكب، لكنه قبض عليه ليلة السبت ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان من جملة ما عدّد من ذنوبه عمل الرصد المذكور، والاجتهاد فيه، وقيل: أطمعته نفسه في الخلافة بكونه سماه الرصد المأمونيّ، ونسبه إلى نفسه، ولم ينسبه إلى الخليفة الآمر بأحكام الله.

وأما العامة والغوغاء، فكانوا يقولون: أرادوا أن يخاطبوا زحل، وأرادوا أن يعلموا الغيب، وقال آخرون منهم: عمل هذا للسحر، ونحو ذلك من الشناعات، فلما قبض على المأمون، بطل وأنكر الخليفة على عمله، فلم يجسر أحد أن يذكره، وأمر فكسر، وحمل إلى المناخات، وهرب المستخدمون ومن كان فيه من الخاص، وكان فيه من المهندسين برسم خدمته وملازمته في كل يوم بحيث لا يتأخر منهم أحد (الشيخ أبو جعفر بن حسنداي والقاضي ابن أبي العيش، والخطيب أبو الحسن عليّ بن سليمان بن أيوب، والشيخ أبو النجا بن سند الساعاتي الإسكندرانيّ المهندس، وأبو محمد عبد الكريم الصقلي المهندس، وغيرهم من الحساب والمنجمين، كابن الحلبيّ وابن الهيثمي وأبي نصر تلميذ سهلون وابن دياب والقلعيّ، وجماعة يحضرون كل يوم إلى ضحوة النهار) ، فيحضر صاحب الديوان ابن أبي الليث، وكان ابن حسنداي ربما تأخر في بعض الأيام فإنه كان امرأ عظيما صاحب كبرياء وهيبة، وفي كل يوم يبعث المأمون من يتفقد الجماعة، ويطالعه بمن غاب منهم لأنه كان كثير التفقد للأمور كلها، وله غمازون وأصحاب أخبار لا تنام، ولا يكاد يفوته شيء من أحوال الخاصة والعامّة بمصر والقاهرة، ومن يتحدّث. وجعل في كل بلد من الأعمال من يأتيه بسائر أخبارها. وأنا أدركت هذا الموضع الذي يعرف اليوم: بالرصد، حيث جامع الفيلة عامرا فيه عدّة مساكن ومساجد، وبه أناس مقيمون دائما، وقد خرب ما هناك، وصار لا أنيس به وكان الملك الناصر: محمد بن قلاون، قد أنشأ فيه سواقي لنقل الماء من أماكن قد حفر لها خليج من البحر، بجوار رباط الآثار النبوية، فإذا صار الماء في سفح هذا الجرف المسمى بالرصد نقل بسواق هناك، قد أنشئت إلى أن يصير إلى القلعة، فمات ولم يكمل ما أراده من ذلك، كما ذكر في أخبار قلعة الجبل من هذا الكتاب، وما زال موضع هذا الرصد منتزها لأهل مصر. ويقال: إنّ المعز لدين الله معدّا لما قدم من بلاد المغرب إلى القاهرة لم يعجبه مكانها؟ وقال للقائد جوهر: فاتك بناء القاهرة على النيل، فهلا كنت بنيتها على الجرف؟ يعني هذا المكان، ويقال: إن اللحم علق بالقاهرة، فتغير بعد يوم وليلة، وعلق بقلعة الجبل، فتغير بعد يومين وليلتين، وعلق في موضع الرصد، فلم يتغير ثلاثة أيام ولياليها لطيب هوائه، ولله در القائل: يا ليلة عاش سروري بها ... ومات من يحسدنا بالكمد وبت بالمعشوق في المشتهي ... وبات من يرقبنا بالرصد

ذكر مدائن أرض مصر

ذكر مدائن أرض مصر قال ابن سيده «1» : مدّن بالمكان: أقام، والمدينة: الحصن يبني في أسطحة الأرض، مشتق من ذلك، والجمع: مدائن ومدن، ومن هنا حكم أبو الحسن فيما حكى الفارسيّ عنه: أنّ مدينة فعيلة، وقال العلامة أثير الدين أبو حيان: المدينة معروفة مشتقة من مدن، فهي: فعيلة ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان، فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها، فإنهم قالوا: مدائن بالهمز، ولا يحفظ مداين بالياء، ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة من دان، ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها، على فعل فإنهم قالوا مدن، كما قالوا صحف في صحيفة؛ واعلم أن مدائن مصر كثيرة، منها ما دثر وجهل اسمه ورسمه، ومنها ما عرف اسمه وبقي رسمه، ومنها ما هو عامر. وأوّل مدينة عرف اسمها في أرض مصر، مدينة: أمسوس، وقد محا الطوفان رسمها، ولها أخبار معروفة؛ وبها كان ملك مصر قبل الطوفان، ثم صارت مدينة مصر بعد الطوفان، مدينة منف، وكان بها ملك القبط والفراعنة، إلى أن خربها، بخت نصر، فلما قدم الإسكندر بن فيليبس المقدونيّ من مملكة الروم عمّر مدينة الإسكندرية عمارة جديدة، وصارت دار المملكة بمصر إلى أن قدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين، وفتح أرض مصر، فاختط فسطاط مصر، وصارت مدينة مصر إلى أن قدم جوهر القائد من الغرب بعساكر المعز لدين الله أبي تميم معدّ، وملك مصر، واختط القاهرة، فصارت دار المملكة بمصر إلى زالت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فبنى قلعة الجبل، وصارت القاهرة مدينة مصر إلى يومنا هذا. وفي أرض مصر: عدّة مدائن ليست دار ملك وهي: مدينة الفيوم، ومدينة دلاص، ومدينة أهناس، ومدينة البهنسا، ومدينة القيس، ومدينة طلخا، ومدينة «2» الأشمونين، ومدينة أنصنا، ومدينة قوص، ومدينة سيوط، ومدينة فاو، ومدينة أخميم، ومدينة البلينا،

ومدين هوّ، ومدينة قنا ومدينة دندرة، ومدينة قفط، ومدينة الأقصر، ومدينة اسنا، ومدينة أرمنت، ومدينة أدفو، وثغر أسوان، وأدركناه مدينة هذه مدائن الوجه القبلي. وكان أهل مصر يسمون من سكن من القبط بالصعيد: المريس، ومن سكن منهم أسفل الأرض يسمونه: البمبا، وفي الوجه البحري مدينة: نوب من الحوف الشرقي بأسفل الأرض، ومدينة عين شمس، ومدينة أتريب، ومدينة تنوا، ومن قراها ناحية زنكلون، ومدينة نميّ، ومدينة بسطه ويعرف اليوم موضعها: بتل بسطة، ومدينة قربيط، ومدينة البتنون، ومدينة منوف، ومدينة طرّة، ومدينة منوف أيضا، ومدينة سخا، ومدينة الأوسة وهي: دميرة، ومدينة تيدة، ومدينة الأفراحون، ومن جملة قراها: نشا، ومدينة بقيرة، ومدينة بنا، ومدينة شبراساط، ومدينة سمنود، ومدينة نوسا، ومدينة سبتي، ومدينة النجوم، وقد غلب على مدينة النجوم: الرمال والسباخ ويعرف اليوم منها: قرية أدكو على ساحل البحر بين إسكندرية ورشيد، ومدينة تنيس، ومدينة دمياط، ومدينة الفرما، ومدينة العريش، ومدينة صا، ومدينة برنوط، ومدينة قرطسا، ومدينة أخنو، ومدينة رشيد، ومدينة مريوط، ومدينة لوبية ومراقية، وليس بعد لوبية ومراقية إلا أرض أنطابلس وهي: بريّة، وفي كور القبلة مدينة فاران، ومدينة القلزم، ومدينة راية، ومدينة ايلة، ومدينة مدين؛ وأكثر هذه المدائن قد خرب ومنها ما له أخبار معروفة، وقد استحدث في الإسلام بعض مدائن وسيأتي من أخبار ذلك إن شاء الله ما يكفي. وديار مصر اليوم وجهان: قبليّ وبحريّ جملتهما، خمس عشرة ولاية. فالوجه القبليّ أكبرهما، وهو تسعة أعمال عمل قوص، وهو أجلها، ومنه أسوان وغرب قمولة، وأسوان حدّ المملكة من الجنوب، وعمل أخميم، وعمل سيوط، وعمل منفلوط، وعمل الأشمونين وبها الطحاوية، وعمل البهنسا، وعمل الفيوم، وعمل اطفيح، وعمل الجيزة. والوجه البحريّ ستة أعمال: عمل البحيرة، وهو متصل البرّ بالإسكندرية وبرقة، وعمل الغربية وهي جزيرة واحدة يشتمل عليها ما بين البحرين: بحر دمياط، وبحر رشيد، والمنوفية ومنها: أبيار التي تسمى: جزيرة بني نصر، وعمل قليوب، وعمل الشرقية، وعمل أشموم طناح، ومنها الدقهلية، والمرتاحية، وهنا موضع ثغر البرلس وثغر رشيد والمنصورة، وفي هذا الوجه الإسكندرية ودمياط وهما مدينتان لا عمل لهما. وذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: أن الكوكة وهي: أمّة من أهل أيلة ملكو الأرض وقسموا الصعيد على ثمانين كورة، وجعلوه أربعة أقسام، وكان عدد مدن مصر الداخلة في كورها ثلاثين مدينة فيها جميع العجائب، والكور مثل: أخميم وقفط وقوص والفيوم ويقال: إنّ مصر بن بيصر، قسم الأرض بين أولاده فأعطى ولده أشمون من

ذكر مدينة أمسوس وعجائبها وملوكها

حدّ بلده إلى رأس البحر إلى دمياط، وأعطى ولده أنصنا من حدّ أنصنا إلى الجنادل، وأعطى لولده صا: من صا أسفل الأرض إلى الإسكندرية، وأعطى لولده منوف وسط الأرض السفلي منف وما حولها، وأعطى لولده قفط غربيّ الصعيد إلى الجنادل، وأعطى لولده أتريب شرقيّ الأرض إلى البريّة بريّة فاران، وأعطى لبناته الثلاثة وهن: الفرما، وسريام، وبدورة، بقاعا من أرض مصر محدّدة فيما بين إخوتهن. ذكر مدينة أمسوس وعجائبها وملوكها قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب في كتاب أخبار مصر وعجائبها: وكانت مصر القديمة اسمها: أمسوس. وأوّل من ملك أرض مصر نقراوش الجبار بن مصرايم. ومعنى نقراوش: ملك قومه الأوّل ابن مركاييل بن دواييل بن عرياب بن آدم عليه السلام، ركب في نيف وسبعين راكبا من بني عرياب جبابرة كلهم يطلبون موضعا يقطنون فيه فرارا من بني أبيهم، عندما بغى بعضهم على بعض، وتحاسدوا وبغى عليهم بنو قابيل بن آدم، فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل، فلما رأوا سعة البلد فيه، وحسنه أعجبهم، فأقاموا فيه وبنوا الأبنية المحكمة، وبنى نقراوش: مصر، وسماها باسم أبيه: مصرايم، ثم تركها، وأمر ببناء مدينة سماها: أمسوس. وقال ابن وصيف شاه: وكان قد وقع إليه علم ذلك من العلوم التي تعلمها دواييل من آدم عليه السلام، فبنى الأعلام، وأقام الأساطين وعمل المصانع واستخرج المعادن، ووضع الطلسمات وشق الأنهار وبنى المدائن، فكل علم جليل كان في أيدي المصريين إنما هو من فضل علم نقراوش، وأصحابه. كان ذلك مرموزا على الحجارة ففسره قليمون الكاهن الذي ركب مع نوح عليه السلام في السفينة ونقراوش هو الذي بنى مدينة أمسوس، وعمل بها عجائب كثيرة منها: طائر يصفر كل يوم عند طلوع الشمس مرّتين، وعند غروبها مرّتين، فيستدلون بصفيره على ما يكون من الحوادث حتى يتهيأون له. ومنها صنم من حجر أسود في وسط المدينة تجاهه صنم مثله إذا دخل إلى المدينة سارق لا يقدر أن يزول حتى يسلك بينهما، فإذا دخل بينهما أطبقا عليه، فيؤخذ وعمل صورة من نحاس على منار عال لا يزال عليها سحاب يطلع، فكل من استمطرها أمطرت عليه ما شاء، وعمل عمل حدّ البلاد أصناما من نحاس مجوّفة وملأها كبريت، أو وكل بها روحانية النار، فكانت إذا قصدهم قاصد أرسلت تلك الأصنام من أفواهها نارا أحرقته، وعمل فوق جبل بطرس، منارا يفور بالماء، ويسقي ما حوله من المزارع، ولم تزل هذه الآثار حتى أزالها الطوفان، ويقال: إنه هو الذي أصلح مجرى النيل، وكان قبله يتفرّق بين الجبلين، وإنه وجه إلى بلاد النوبة جماعة هندسوه، وشقوا نهرا عظيما منه بنوا عليه المدن، وغرسوا الغروس، وأحب أن يعرف مخرج

النيل، فسار حتى بلغ خلف خط الاستواء، ووقف على البحر الأسود الزفتي، ورأى النيل يجري على البحر مثل الخيوط حتى يدخل تحت جبل القمر، ويخرج منه إلى بطائح. ويقال: إنه هو الذي عمل التماثيل التي هناك، وعاد إلى أمسوس وقسم البلاد بين أولاده، فجعل لابنه الأكبر واسمه: نقاوش الجانب الغربيّ، ولابنه شورب الجانب الشرقيّ، وبنى لابنه الأصغر واسمه: مصرايم مدينة برسان، وأسكنه فيها، وأقام ملكا على مصر مائة وثمانين سنة، ولما مات لطخ جسده بأدوية ماسكة، وجعل في تابوت من ذهب، وعمل له ناوس مصفح بالذهب، ووضع فيه ومعه كنوز وإكسير وأوان من ذهب لا يحصى ذلك لكثرته، وزبروا على الناوس تاريخ موته، وأقاموا عليه طلسما يمنعه من الحشرات المفسدة. وملك بعده ابنه نقاوش بن نقراوش وكان كأبيه في علم الكهانة والطلسمات، وهو أوّل من عمر بمصر هيكلا، وجعل فيه صور الكواكب السبعة، وكتب على هيكل كلّ كوكب منافعه ومضاره، وألبسها كلها الثياب الفاخرة، وأقام لها خدمة وسدنة، وخرج من أمسوس مغرّبا، حتى بلغ البحر المحيط، وأقام عليه أساطين على رؤوسها أصنام تسرج عيونها في الليل، ومضى على بلاد السودان إلى النيل، وأمر ببناء حائط على جنب النيل، وعمل له أبوابا يخرج منها الماء وبنى في صحراء الغرب، خلف الواحات ثلاث مدن على أساطين مشرفات من حجارة ملوّنة شفافة، وفي كل مدينة عدّة خزائن من الحكمة، وفي إحداها صنم للشمس على صورة إنسان، وجسد طائر من ذهب وعيناه من جوهر أصفر، وهو جالس على سرير من مغناطيس، وفي يده مصحف العلوم، وفي إحداها صنم رأسه رأس إنسان بجسد طائر، ومعه صورة امرأة جالسة قد عملت من زئبق معقود لها ذؤابتان في يدها مرآة، وعلى رأسها صورة كوكب، وقد رفعت المرآة بيديها إلى وجهها، وفي إحداها مطهرة فيها سبعة ألوان من سائل يرد إليها ولا يغير بعضها لون بعض، وفي بعضها: صورة شيخ جالس قد عمل من الفيروزج وبين يديه صبية جلوس كلهم من عقيق، وفي بعضها صورة هرمس، يعني عطارد، وهو ينظر إلى مائدة بين يديه من نوشادر على قوائم من كبريت أحمر، وفي وسطها صحفة من جوهر، وجعل فيها صورة عقاب من زبرجد أخضر، وعيناه من ياقوت أصفر، وبين يديه حية زرقاء من فضة قد لوت ذنبها على رجليه، ورفعت رأسها كأنها تنفخ عليه، وجعل فيها صفة المرّيخ وهو راكب على فرس وفي يده سيف مسلول من حديد أخضر، وجعل فيها عمودا من جوهر أحمر، وعليه قبة من ذهب فيها صورة المشتري، وجعل فيها قبلة من آنك على أربعة أعمدة من جزع أزرق، وفي سقفها صورة الشمس والقمر متحاذيين في صورة رجل وامرأة يتحادثان، وجعل فيها قبة من كبريت أحمر فيها صورة الزهرة على هيئة امرأة ممسكة بضفائرها، وتحتها رجل من زبرجد أخضر في يده كتاب فيه علم من علومهم كأنه يقرأ فيه عليها.

وجعل في بقية الخزائن من كنوز الأموال والجواهر والحلي وإكسير الصنعة، وصنوف الأدوية والسموم القاتلة ما لا يحصى كثرة، وجعل على باب كل مدينة طلسما يمنع من دخولها، وأنفذ لها مسارب تحت الأرض ينفذ بعضها إلى بعض طول كل سرب ثلاثة أميال، وبنى أيضا مدينة بأرض مصر اسمها: حلجمة، وعمل فيها جنّة صفح حيطانها بالجواهر الملوّنة بالذهب، وغرس فيها أصناف الأشجار، وأجرى تحتها الأنهار، وغرس فيها شجرة مولدة تطعم سائر الفواكه، وعمل فيها قبة من رخام أحمر على رأسها صنم يدور مع الشمس، ووكل بها شياطين إذا خرج أحد من بيته في الليل هلك. وأقام بها أساطين زبر عليها جميع العلوم، وصور العقاقير ومنافعها ومضارها، وجعل لهذه المدينة مسارب تتصل بمسارب تلك المدن الثلاث بين كل سرب منها، وبين هذه المدينة عشرون ميلا، فلم تزل هذه المدائن حتى أفسدها الطوفان، ولمّا مات بعد مائة وتسع سنين من ملكه على مصر جعل في ناوس مطلسم، ودفن فيه. وملك بعده أخوه مصرام بن نقراوش الجبار بن مصرايم ويقال: به سميت مصر، وكان حكيما فعمل هيكلا للشمس من مرمر مموّه بذهب أحمر، وفي وسطه فرس من جوهر أزرق عليه صورة الشمس من ذهب أحمر، وعلى رأسه قنديل من الزجاج فيه حجر مدبر يضيء أكثر من السراج، ثم إنه ذلل الأسد وركبها وسار إلى البحر المحيط، وجعل في وسطه قلعة بيضاء عليها صنم للشمس، وزبر عليه اسمه وصفته، وعمل صنما من نحاس زبر عليه: أنا مصرايم الجبار كاشف الأسرار الغالب القهار، وضعت الطلسمات الصادقة، وأقمت الصور الناطقة، ونصبت الأعلام الهائلة على البحار السائلة ليعلم من بعدي، إنه لا يملك أحد أشدّ من أيدي، وعاد إلى أمسوس، واحتجب عن الناس ثلاثين سنة، واستخلف رجلا يقال له: عيقام من ولد عرياب بن آدم، وكان كاهنا ساحرا. فلمّا مضت المدّة أحب أهل مصر أن يروه، فجمعهم عيقام بعدما أعلم مصرايم، فظهر لهم، في أعلى مجلس مزين بأصناف الزينة في صورة هائلة ملأت قلوبهم رعبا، فخرّوا له ساجدين، ودعوا له، ثم أحضر إليهم الطعام فأكلوا وشربوا، وأمرهم بالرجوع إلى مواضعهم ولم يروه بعدها. فملك بعده خليفته عيقام، وقد حكي عنه أهل مصر حكايات لا تصدّقها العقول. ويقال: إنّ إدريس عليه السلام، رفع في أيامه وإنه رأى في علمه كون الطوفان، فبنى خلف خط الاستواء في سفح جبل القمر، قصرا من نحاس، وجعل فيه خمسة وثمانين تمثالا من نحاس يخرج ماء النيل من حلوقها، ويصب في بطحاء تنتهي إلى مصر، وسار إليه من أمسوس، فشاهد حكمة بنيانه وزخرفة حيطانه، وما فيها من النقوش من صور الأفلاك، وغيرها، وكان قصرا تسرج فيه المصابيح، وتنصب به الموائد وعليها من كل الأطعمة

الفاخرة في الأواني النفيسة ما لو أكل منها عسكر لما نقصت ذرة، ولا يعرف من عملها، ولا من وضعها، وفي وسط القصر بركة من ماء جامد الظاهر، وترى حركته من وراء ما جمد منه، فأعجب بما رأى، وعاد إلى أمسوس، واستخلف ابنه عرياق، وقلده الملك، وأوصاه، وعاد إلى ذلك القصر، وأقام به حتى هلك. وإلى عيقام هذا يعزى مصحف القبط الذي فيه تواريخهم، وجميع ما يجري في آخر الزمان. فقام من بعده ابنه عرياق، ويقال: أرياق بن عيقام، ويقال له: الأثيم، فعمل أعمالا عجيبة منها شجرة صفراء لها أغصان من حديد بخطاطيف إذا قرب الظالم منها أخذته تلك الخطاطيف، ولا تفارقه حتى يقرّ بظلمه، ويخرج منه لخصمه، ومنها: صنم من كدان أسود سمّاه: عبد زحل، كانوا يتحاكمون إليه، فمن زاغ عن الحق ثبت في مكانه، ولم يقدر على الخروج منه حتى ينصف خصمه من نفسه، ولو أقام سنة ومن كانت له حاجة قام ليلا ونظر إلى الكوكب، وتضرّع وذكر اسم عرياق، فإذا أصبح وجد حاجته على بابه. وعمل شجرة من حديد ذات أغصان، ولطخها بدواء مدبر، فكانت تجلب كل صنف من الدواب والسباع والوحوش إليها، حتى يتمكن من صيدها، وكان إذا غضب على أهل إقليم سلط عليهم الوحوش والسباع، وتارة يجعل ماءهم من الإيداق، ويقال: إن هاروت وماروت كانا في زمانه! وإنه بنى جنة عظيمة، واغتصب النساء الحسان وأسكنهنّ فيها، فعملت عليه امرأة منهنّ وسمّته فهلك. وملك بعده لوجيم بن نقاوش، ويقال: بل هو من بني نقراوش الجبار، ويعرف: بلوجيم الفتى، وهو الذي أخذ الملك من عرياق بن عيقام الكاهن، وردّه لبني نقراوش بعد ما خرج منهم بلا حرب، ولا قتل وكان عالما بالكهانة، والطلسمات فعمل أعمالا عجيبة منها: أنّ الغداف «1» والغراب كثر في أيامه، وأتلف الزرع، فعمل أربع منارات في جوانب مدينة أمسوس الأربعة، وعلى كل منارة، صورة غراب في فمه حية قد التوت عليه، فنفرت عنهم الطيور المضرّة من حينئذ، ولم تقر بهم حتى زالت المنارات بالطوفان، وكان حسن السيرة منصفا للرعية عادلا مقرّبا للكهنة، ولما مات دفن في ناوس، ومعه كنوزه، وعمل عليه طلسم يمنعه. وملك بعده ابنه فحصليم، وكان فاضلا عالما كاهنا، فعمل أعمالا عجيبة، وهو أوّل من عمل مقياسا لزيادة ماء النيل بأن جمع أرباب العلوم والهندسة، فقدّروا بيتا من رخام على حافة النيل، وفي وسطه بركة صغيرة من نحاس فيها ماء موزون، وعليها من جانبيها

عقابان من نحاس أحدهما ذكر، والآخر أنثى، فإذا كان أوّل الشهر الذي يزيد فيه النيل فتح هذا البيت وجمع الكهان فيه بين يديه، وزمزم الكهان بكلامهم حتى يصفر أحد العقابين، فإن صفر الذكر، كان الماء تاما، وإن صفرت الأنثى، كان الماء ناقصا، فيستعدّون عند ذلك لغلاء الأسعار بما يصلحون به شأنهم، وهو الذي بنى القنطرة ببلاد النوبة على النيل، ولما مات جعل في ناوس، ومعه كنوزه وعمل عليه طلسم. وملك بعده ابنه، هو صال، ويقال: يوصال، ومعناه: خادم الزهرة، ويقال: سومال بن لوجيم الملك النقراوشي من بني نقراوش الجبار، ويقال: إن نوحا عليه السلام ولد في أيامه، وكان فاضلا كاهنا عالما بالسحر، والطلسمات، فعمل عجائب، منها أنه بنى مدينة عمل في وسطها صنما للشمس يدور بدورانها، ويبيت مغربا ويصبح مشرقا، وعمل سربا تحت النيل، فشق الأرض وخرج منه متنكرا، حتى بلغ مدينة بابل، وكشف أعمال الملوك، وكان نوح عليه السلام في زمانه وولد له عشرون ولدا، فجعل مع كل ولد منهم: قطرا، وهو رأس الكهنة، وأقام في الملك مائة وسبع عشرة سنة، ثم لزم الهياكل وأقام أولاده على حالهم كل منهم في قسمه الذي أعطاه إياه أبوه مدّة سبع سنين. ثم اجتمعوا على واحد منهم وملكوه عليهم وكان اسمه تدرشان، وقيل: تدرسان، فلما ملك نفى جميع إخوته إلى المدائن الداخلة في الغرب، واقتصر على امرأة من بنات عمه، وكانت ساحرة، وعمل له قصرا من خشب منقوشا فيه صورة الكواكب، وبسطه بأحسن الفرش وحمله على الماء، وصار يجلس فيه، فبينما هو فيه ذات يوم إذ هبت ريح شديدة اضطرب منها الماء، فانقلب القصر وتكسر فغرق، هو ومن كان معه في القصر. وملك بعده أخوه، نمرود الجبار، ويقال: شمرود بن هوصال، فأحسن السيرة وأنصف الرعية وبسط العدل، وجمع إخوته وفرّق عليهم كنوز أخيهم، فسرّ الناس به وطلب امرأة أخيه الساحرة، ففرّت منه بابنها إلى مدينة ببلاد الصعيد، وامتنعت عليه بسحرها، وأقامت مدّة واجتمع السحرة إلى ابنها، وكان اسمه توميدون، وحملوه على طلب الملك، فسار وخرج إليه شمرود وأخوته، فاقتتلوا قتالا عظيما كان فيه الظفر لتوميدون فقتله. وملك من بعده، فقام توميدون بن تدرسان بالملك في مدينة أمسوس، وكان عالما فاضلا، فتقوّى بسحر أمه، وعملت له أعمالا عجيبة، منها قبة من زجاج على هيئة الكرة تدور بدوران الفلك، وصوّرت فيها صور الكواكب، فكانوا يعرفون بها أسرار الطبائع وعلوم العالم، فلما ماتت أمّه الساحرة بعد ستين سنة من ملكه طلى جسدها بما يدفع عنه النتن والحشرات، ودفنت تحت صنم القمر، ويقال: إنها كانت بعد موتها يسمع من عندها صوت بعض الأرواح، وتخبرهم بعجائب، وتجيب عما تسأل عنه، ولما مات توميدون بعد مائة سنة من ملكه عمل له صورة من زجاج مقسومة نصفين، وأدخل فيها بعد ما طلي بالأدوية المانعة من

النتن، وأطبقت الصورة عليه حتى التحمت وأقيم في هيكل الأصنام، ودفنت كنوزه عنده، وصار يعمل له في كل سنة عيد. وملك بعده ابنه شرياق، ويقال له: سرياق بن توميدون بن تدرسان بن هوصال، وكان كأبيه في علم الكهانة والسحر والطلسمات، فعمل أعمالا عجيبة منها: على باب مدينة أمسوس هيئة بطة من نحاس قائمة على أسطوانة إذا دخل غريب من ناحية من النواحي صفقت بجناحيها، وصرخت فيؤخذ ذلك الغريب، ويكشف أمره حتى يعرف فيما قدم، وشق من النيل نهرا يمرّ إلى مدائن الغرب وبنى عليه أعلاما ومدنا، ومنتزهات، وسار ملك من بني فراشي بن آدم ويقال: من بني صوانيتي بن آدم خرج من ناحية العراق في أيامه، وغلب على بلاد الشام، وقصد مصر ليأخذ ملكها، فقيل له: إنك لا تقدر عليها لسحر أهلها، فتنكر ودخل في جماعة من خواصه ليكشف حال أهل مصر، فلما وصل إلى أوّل حدّ مصر حبسه الموكلون بذلك الحدّ هو ومن معه، حتى يأمر الملك فيهم بأمره وبعثوا إليه بصفتهم، وكان قد رأى في منامه كأنه على منار عال وكأن طائرا عظيما انقض عليه ليخطفه، فحاد عنه حتى كاد يسقط من المنار، فجاوزه الطائر وسلم منه فانتبه مذعورا. وقص رؤياه على كبير الكهنة، فقال: يطلبك ملك، ولا يقدر عليك، ونظر في نجومه، فرأى الملك الذي يطلب ملكه قد دخل إلى مصر، وكان ذلك هو الوقت الذي قدم عليه فيه الرسل بصفات الذين وصلوا إلى حدّ مصر، فأمر بإحضارهم إليه بعد ما يطاف بهم على عجائب مصر كلها ليروها، فأوثقوهم وساروا بهم وأوقفوهم على عجائب أرض مصر، وما فيها من الطلسمات حتى بلغوا إلى الإسكندرية، ثم إلى أمسوس، ثم إلى الجنة التي عملها مصرام، كان الملك شرياق مقيما بها، فعند ما وصلوا إليها أظهرت السحرة التماثيل العجيبة، فدخلوا عليه وحوله الكهنة، وبين يديه نار لا يصل إليه أحد حتى يخوضها، فمن كان بريئا لم تضرّه، ومن كان يريد بالملك سوءا أو أضمر له مكروها أخذته النار، فشق القوم في وسط النار واحدا بعد واحد من غير أن تضرّهم حتى انتهى الأمر إلى ملك العراق، فعندما دنا من النار أخذته بحرّها، فولى هاربا فاتبعوه حتى أخذوه وأوقفوه بين يدي شرياق، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر بصلب فصلب على الحصن الذي أخذ منه، ونودي عليه هذا جزاء من طلب ما لا يصل إليه، وعفا عن الباقين فساروا من مصر وتحدّثوا بما رأوه من العجائب، فانقطع طمع ملوك الأرض عن طلب ملك مصر، ومات شرياق بعد ما ملك مصر مائة وثلاثين سنة، فجعل في ناوس ومعه أمواله وطلسم يحفظه ممن يقصده. وملك بعده ابنه: شهلوق، وكان عالما بالكهانة والطلسمات، فقسم ماء النيل موزونا يصرف إلى كل ناحية قسطها، ورتب الدولة وعمل بيت نار، وهو أوّل من عبد النار، وعمل بأمسوس عجائب منها: شجرة على أعلى الجبال تقسم بها الرياح التي تمنع من أراد مصر

بأذى أو فساد من جنيّ أو إنسيّ أو سبع أو طائر، وعمل بالمدينة قبة مركبة على سبعة أركان ولها سبعة أبواب على كل ركن باب، وفي وسط القبة قبة من صفر، وفي أعلاها صور الكواكب السبعة، وتحت القبة قبة أخرى معلقة على سبع أساطين، وعلى الباب الأوّل من القبة: أسد ولبوة من صفر، وهما رابضان، كان يذبح لهما جروا أسود ويبخرهما بشعره، وعلى الباب الثاني: ثور وبقرة يذبح لهما عجلا ويبخرهما بشعره، وعلى الباب الثالث: خنزير وخنزيرة يذبح لهما خنوصا ويبخرهما بشعره، وعلى الباب الرابع: كبش وشاة يذبح لهما سخلة ويبخرهما بشعرها، وعلى الباس الخامس: ثعلب وثعلبة يذبح لهما فرخ ثعلب ويبخرهما بشعره، وعلى الباب السادس: عقاب وأنثاه يذبح لهما فرخ عقاب ويبخرهما بريشه، وعلى الباب السابع: نسر وأنثاه يذبح لهما فرخ نسر ويبخرهما بريشه، ويلطخ كلا منهما بدم ما ذبح له، وتحرق سائر القرابين، ويوضع رمادها تحت عتبات أبواب القبة، وجعل لهذه القبة سدنة يشعلون المصابيح ليلا ونهارا، وقسم الناس بمصر سبع مراتب، لكل مرتبة منهم: باب من أبواب تلك القبة، فكان الخصم إذا تقدّم إلى شيء من تلك الصور، وكان ظالما فإنه يلتصق بها ولا يتخلص منها حتى يخرج من الحق الذي عليه، الذكر للذكر، والأنثى للأنثى، فيعرفون بذلك الظالم من المظلوم. ولم تزل هذه القبة بأمسوس حتى أزالها الطوفان، ويقال: إنه رأى أباه في النوم وهو يأمره أن ينطلق إلى جبل وصفه له من جبال مصر، فإنّ فيه كوّة صفتها كذا على بابها أفعى لها رأسان إذا أقبل إليها كشرت في وجهه فخذ معك طائرين صغيرين ذكرا وأنثى، فاذبحهما لها وألقمها إياهما، فإنها تأخذ برأسيهما، وتتنحي بهما إلى سرب فإذا غابت، أدخل الكوّة تجد فيها امرأة عظيمة من نور حار يابس، فإنها تسطع لك وتحس بحرارتها فلا تدن منها تحترق ولكن اقعد حذاءها وسلم عليها، فإنها تخاطبك فافهم ما تقول لك واعمل به، فإنك تشرف بذلك، وتدلك على كنوز جدّك مصرام، فإنها حافظة لها، فلما انتبه عمل ما أمره أبوه فلما قعد بجانب المرأة وسلم، قالت له: أتعرفني؟ قال: لا، قالت: أنا صورة النار المعبودة في الأمم الخالية، وقد أردت أن تحيي ذكري وتجدّد لي بيتا تقد لي فيه نارا دائمة بقدر واحد وتتخذ لها عيدا في كل سنة تحضره أنت وقومك فإنك تتخذ بذلك عندي يدا أنيلك بها شرفا إلى شرفك، وملكا إلى ملكك، وأمنع عنك من يطلبك بسوء، وأدلك على كنوز جدّك مصرام، فضمن لها أن يفعل كلّ ما أمرته به فدلته على الكنوز التي تحت المدائن المعلقة، وعلمته كيف يصير إليها وكيف يحترس من الأرواح الموكلة بها، وما ينجيه منها، ثم قال لها: كيف لي بأن أراك في وقت آخر؟ قالت: لا تعد، فإنّ الأفعى لا تمكنك، ولكن بخر في بيتك بكذا فإني آتيك، فسرّ بذلك، وغابت عنه وخرج، ففعل ما أمرته به من عمل بيت النار، وأخذ كنوز مصرام، ولما مات جعل في ناوس ومعه سائر أمواله وكنوزه، وجعل عليه طلسم يحفظه ممن يقصده. وملك بعده ابنه سوريد، وكان حكيما فاضلا، وهو أوّل من

جبى الخراج بمصر، وأوّل من أمر بالإنفاق على المرضى، والزمنى من خزائنه، وأوّل من سنّ رقعة الصباح، وعمل أعمالا عجيبة، منها مرآة من أخلاط كان ينظر فيها إلى الأقاليم فيعرف فيها ما حدث من الحوادث، وما يخصب منها وما يجدب، وأقام هذه المرأة في وسط مدينة أمسوس، وكانت من نحاس. وعمل في أمسوس صورة امرأة جالسة في حجرها صبيّ ترضعه، وكانت المرأة من نساء مصر إذا أصابتها علة في موضع من جسمها أتت هذه الصورة، ومسحت ذلك الموضع من جسدها بمثل ذلك الموضع من الصورة، فتزول عنها العلة، وإن قلّ لبنها مسحت ثديها بثدي الصورة فيغزر لبنها، وإن قلّ حيضها مسحت فرجها بفرج الصورة فيكثر حيضها، وإن كثر دمها مسحت أسفل ركبها بمثل ذلك من الصورة، وإن عسرت ولادة امرأة مسحت رأس الصبيّ الذي في حجر الصورة، فتضع حملها، وإن أرادت التحبب إلى زوجها مسحت وجهها وتقول: افعلي كذا وكذا، فإذا وضعت الزانية يدها عليها ارتعدت حتى تتوب، ولم تزل هذه الصورة إلى أن أزالها الطوفان، وفي كتب القبط: أنها وجدت بعد الطوفان، وأن أكثر الناس عبدوها. وعمل سوريد، صنما من أخلاط كثيرة، فكان من أصابته علة في موضع من جسده غسل ذلك الموضع من الصنم بماء وشرب الماء، فإنه يبرأ وسوريد هذا هو الذي بنى الهرمين العظيمين بمصر المنسوبين إلى شدّاد بن عاد، والقبط تنكر أن تكون العادية دخلت بلادهم لقوّة سحرهم، ولما مات سوريد دفن في الهرم ومعه كنوزه، ويقال: إنه كان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة وأنه ملك مائة سنة وتسعين سنة. فملك بعده ابنه هرجيب، وكان كأبيه حكيما فاضلا في علم السحر والطلسمات، فعمل أعمالا عجيبة، واستخرج معادن كثيرة وأظهر علم الكيمياء، وبنى أهرام دهشور وحمل إليها أموالا عظيمة وجواهر نفيسة، وعقاقير وسمومات، وجعل عليها روحانيات تحفظها وشج رجل رجلا، فأمر بقطع أصابعه وسرق رجل مالا، فملك المسروق له رق السارق، ولما مات دفن في الهرم، ومعه جميع أمواله وذخائره. وملك بعده ابنه مناوس، ويقال: منقاوس، وكان كأبيه في الحكمة إلا أنه كان جبارا فاسقا سفاكا للدماء، ينتزع النساء من أزواجهنّ ويبيح ذلك لخواصه، وعمل أعمالا عجيبة واستخرج كنوزا وبنى قصورا من ذهب وفضة، وأجرى فيها الأنهار وجعل حصباءها من أصناف الجواهر النفيسة، وسلط رجلا جبارا اسمه: قرناس، على الناس ووجّهه لمحاربة الأمم الغريبة، فقتل منهم خلائق، ولما مات دفن في بعض قصوره ومعه أمواله، وعمل عليه طلسم يحفظه ويمنعه من كل طالب. وملك بعده ابنه أفروس، وكان كأبيه في العلم والحكمة، ولما ملك أظهر العدل

وأحسن السيرة وردّ النساء اللاتي غصبن في أيام أبيه على أزواجهنّ، وعمل قبة طولها خمسون ذراعا في عرض مائة ذراع، وركب في جوانبها طيورا من صفر تصفر بأصوات مختلفة مطربة لا تفتر ساعة، وعمل في وسط مدينة أمسوس، منارا عليه رأس إنسان من صفر كلما مضى من النهار أو الليل ساعة صاح صيحة يعلم من سمعها بمضيّ ساعة، وعمل منارا عليه قبة من صفر مذهب، ولطخها بلطوخات، فإذا غربت الشمس في كل ليلة اشتعلت القبة نورا تضيء له مدينة أمسوس طول الليل، حتى يصير مثل النهار لا تطفئها الرياح ولا الأمطار فإذا طلع النهار خمد ضوءها وأهدى لبعض ملوك بابل مدهنا من زبرجد قطره خمسة أشبار. ويقال: إنه وجد بعد الطوفان، وعمل في الجبل الشرقيّ صنما عظيما قائما على قاعدة وهو مصبوغ مصفر بالذهب ووجهه إلى الشمس يدور معها حتى تغرب، ثم يدور ليلا حتى يحاذي المشرق مع الفجر، فإذا أشرقت الشمس استقبلها بوجهه، وبنى بصحراء الغرب مدنا كثيرة، وأودعها كنوزا عظيمة، ونكح ثلثمائة امرأة ولم يولد له ولد، فإنّ الله تعالى، كان قد أعقم الأرحام لما يريد من إهلاك العالم بالطوفان، ووقع الموت في الناس والبهائم، ولما مات وضع في ناوس بالجبل الشرقيّ، ومعه أمواله وطلسم عليه. وملك بعده أرمالينوس، فعمل أعمالا عجيبة وبنى مدنا ومصانع جدّد الطلسمات، وكان له ابن عم يسمى: فرعان، وكان جبارا، فأبعده وجعله على جيش ساربه عنه، فقهر ملوكا وقتل أمما عظيمة، وغنم أموالا كثيرة، وعاد فشغفت به امرأة من نساء الملك، وما زالت به حتى اجتمع بها تآلفا، وأقاما على ذلك مدّة، فخافا الملك أن يفطن بهما، فعملت المرأة لأرمالينوس سمّا في شرابه هلك منه. وملك بعده ابن عمه فرعان بن مشور، فلم ينازعه أحد لشجاعته وسياسته، ولم تطل أعوامه حتى رأى قليمون الكاهن، كأنّ طيورا بيضاء قد نزلت من السماء، وهي تقول: من أراد النجاة فليلحق بصاحب السفينة، وكان عندهم علم بحدوث الطوفان من أيام سوريد وبنائه الأهرام، لأجل ذلك، واتخذ الناس سراديب تحت الأرض مصفحة بالزجاج قد حبست الرياح فيها بتدبير، وعمل منها فرعان لنفسه ولأهله عدّة، فما كذب أن جمع أهله وولده وتلميذه ولحق بنوح عليه السلام، وآمن به وأقام معه حتى ركب في السفينة وجاء الطوفان في أيام فرعان، فأغرق أرض مصر كلها، وخرب عمائرها، وأزال تلك المعالم كلها، وأقام الماء عليها ستة أشهر، ووصل إلى أنصاف الهرمين العظيمين، وسيأتي خبر ذلك إن شاء الله تعالى عند ذكر محن مصر من هذا الكتاب. ويقال: إنّ فرعان كان عاتيا متجبرا يغصب الأموال والنساء، وأنه كتب إلى الدر مثيل ابن لحويل ببابل يشير عليه بقتل نوح عليه السلام، وأنه استخف بالكهنة والهياكل، ففسدت

ذكر مدينة منف وملوكها

في أيامه أرض مصر، ونقص الزرع وأجدبت النواحي لانهماكه في ضلاله وظلمه وإقباله على لهوه ولعبه، وإنّ الناس اقتدوا به ففشا ظلم بعضهم لبعض، وإنه لما أقبل الطوفان، وسحت الأمطار، قام سكران يريد الهرب إلى الهرم، فتخلخلت الأرض به، وطلب الأبواب فخانته رجلاه وسقط يخور، حتى هلك، وهلك من دخل الأسراب بالغم، والله تعالى أعلم. ذكر مدينة منف وملوكها هذه المدينة كانت في غربيّ النيل على مسافة اثني عشر ميلا من مدينة فسطاط مصر، وهي أوّل مدينة عمرت بأرض مصر بعد الطوفان، وصارت دار المملكة بعد مدينة أمسوس التي تقدّم ذكرها، إلى أن أخربها بخت نصر، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [القصص/ 15] . قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ في كتاب جامع البيان في تفسير القرآن، عن السديّ: أنّه قال: كان موسى عليه السلام حين كبر يركب، كمراكب فرعون، ويلبس مثل ما يلبس، وكان إنما يدعى: ابن فرعون، ثم إنّ فرعون ركب مركبا، وليس عنده موسى، فلما جاء موسى عليه السلام قيل له: إنّ فرعون قد ركب، فركب في إثره فأدركه المقيل في أرض يقال لها: منف، فدخلها نصف النهار، وقد تغلقت أسواقها وليس في طرقها أحد، وهي التي يقول الله جلّ ذكره: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [القصص/ 15] . قال ابن عبد الحكم، عن عبد الله بن لهيعة: أوّل من سكن بمصر بعد أن أغرق الله قوم نوح عليه السلام، بيصر بن حام بن نوح، فسكن منف، وهي أوّل مدينة عمرت بعد الطوفان هو وولده، وهم ثلاثون نفسا منهم أربعة أولاد قد بلغوا وتزوّجوا، وهم: مصر وفارق وماج وياج وبنو بيصر، وكان مصر أكبرهم، فبذلك سميت: مافه، ومافه بلسان القبط ثلاثون، وكانت إقامتهم قبل ذلك بسفح المقطم، ونقروا هناك منازل كثيرة. وقال ابن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك: ومدينة منف هي (مدينة فرعون) التي كان ينزلها، واتخذ لها سبعين بابا من حديد، وجعل حيطان المدينة من الحديد والصفر، وفيها كانت الأنهار تجري من تحت سريره، وهي أربعة، ويروى أنّ مدينة منف كانت قناطر وجسورا بتدبير، وتقدير حتى أنّ الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها، فيحبسونه كيف شاءوا، ويرسلونه كيف شاءوا، فذلك قوله تعالى حكاية عن فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف/ 51] ، وكان بها كثير من الأصنام لم تزل قائمة إلى أن سقطت فيما سقط من الأصنام في الساعة التي أشار فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الأصنام، يوم فتح مكة بقضيب في يده، وهو يطوف حولها، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء/ 81] فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع، وفي تلك الساعة سقطت أصنام الأرض من الشرق

إلى الغرب، وبقي أصحابها متعجبين لا يعلمون لها سببا أوجب سقوطها، وبقيت أصنام مدينة منف ساقطة من ساعته، وفيها الصنمان الكبيران المجاوران للبيت الأخضر الذي كان به صنم العزيز، وكان من ذهب وعيناه ياقوتتان لا يقدر على مثلهما، ثم قطعت الأصنام والبيت الأخضر من بعد سنة ستمائة. ويقال: كانت منف ثلاثين ميلا طولا في عشرين ميلا عرضا، وإنّ بعض بني يافث بن نوح عمل في أيام مصرايم آلة تحمل الماء حتى تلقيه على أعلى سور مدينة منف، وذلك أنه جعلها درجا مجوّفة، كلما وصل الماء إلى درجة امتلأت الأخرى، حتى يصعد الماء إلى أعلى السور، ثم ينحط فيدخل جميع بيوت المدينة، ثم يخرج من موضع إلى خارج المدينة. وكان بمنف بيت من الصوّان الأخضر الماتع «1» الذي لا يعمل فيه الحديد قطعة واحدة، وفيه صور منقوشة وكتابة، وعلى وجه بابه صور حيات ناشرة صدورها، لو اجتمع ألوف من الناس على تحريكه ما قدروا لعظمه وثقله، والصابئة تقول: إنه بيت القمر، وكان هذا البيت من جملة سبعة بيوت كانت بمنف للكواكب السبعة، وهذا البيت الأخضر هدمه، الأمير سيف الدين شيخون العمريّ، بعد سنة خمسين وسبعمائة، ومنه شيء في خانقاهه، وجامعه الذي بخط الصليبة خارج القاهرة. وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن القيسي في كتابه تحفة الألباب: ورأيت في قصر فرعون موسى بيتا كبيرا من صخرة واحدة أخضر كالآس فيه صورة الأفلاك والنجوم لم نر عجبا أحسن منه. وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسيّ «2» : وكانت دار الملك بمصر في قديم الدهر مدينة منف، وهي في غربيّ النيل على مسافة اثني عشر ميلا من الفسطاط، فلما بنى الإسكندر مدينة الإسكندرية رغب الناس في عمارتها، فكانت دار العلم، ومقرّ الحكمة، إلى أن فتحها المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واختط عمرو بن العاص مدينته المعروفة، بالفسطاط، فانتشر أهل مصر، وغيرهم من العرب والعجم إلى سكناها، فصارت قاعدة ديار مصر، ومركزها إلى وقتنا هذا. وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب: وقد ذكر أخبار مدينة أمسوس، وخراب عمائر أرض مصر بطوفان نوح عليه السلام، ولما نزل الماء كان أوّل من ملك مصر بعد

الطوفان بيصر بن حام بن نوح، وكان معه ثلاثون من الجبابرة من أهله وولده، فاجتمعوا وبنوا مدينة منف، ونزلوا بها، وكان قليمون الكاهن الذي تقدّم ذكره في خبر مدينة أمسوس من جملتهم، وكان قد زوج ابنته ببيصر المذكور، وجاءت معه إلى مصر، وولدت منه ولدا سماه: مصرايم، فلما مات بيصر، دفن في موضع دير أبي هرميس، ويقال: دير أبي هرميس غربيّ الأهرام، ويقال: إنها أوّل مقبرة دفن فيها بأرض مصر، وكان موته بعد ألف وثمانمائة وست سنين مضت من وقت الطوفان، وقال غيره: ثم بنى مصرايم مدينة سماها باسمه، فجاءه رجل من بني يافث، فعمل له سورا قائما، وصنع له درجا وأجرى الماء إلى أن بقي يصعد إلى أعلى السور بحكمة أتقنها، ثم ينزل ذلك الماء من أعلى السور إلى المدينة فينتفع به فيها بغير مشقة ولا كلفة، ثم يخرج من ناحية أخرى، وكتب على السور هذه صنعة من يموت لا صنعة من يدوم. وملك بعد بيصر، ابنه مصرايم. (ويقال له: مصر) بن بيصر، فأظهره قليمون الكاهن على كنوز مصر وعلمه قراءة خطهم، وأطلعه على حكمهم وبنى مصرايم، المدن وشق الأنهار وغرس الأشجار، وبنى مدينة عظيمة سماها درسان، وهي العريش، ونكح امرأة من أولاد الكهنة، فولدت له ابنا سماه: قفطيم، وبنى مدينة رقودة مكان الإسكندرية. ولما مات مصرايم، جعل له سرب طوله مائة وخمسون ذراعا، وبسط بالمرمر الأبيض وعمل في وسطه مجلس مصفح بصفائح الذهب، وله أربعة أبواب، على كل باب: تمثال من ذهب على رأسه تاج من ذهب، وهو جالس على كرسيّ من ذهب قوائمه من زبرجد، ونقش في صدر كل تمثال آيات مانعة وحبسوا جسده في جسد من زبرجد أخضر شبه تابوت طوله أربعون ذراعا دفن فيه، ومعه جميع ما كان في خزائنه من ذهب، وفضة وجوهر منها ألف قطعة من زبرجد مخروط وألف تمثال من جوهر نفيس، وألف برنية من ذهب مملوءة درا نفيسا، وألف آنية من ذهب، وعدّة سبائك من فضة، وعمل عليه طلسم مانع من الوصول إليه وزبروا عليه: مات مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح بعد ألفين وستمائة عام، وقيل: بعد سبعمائة سنة مضت من الطوفان، ولم يعبد الأصنام فصار إلى جنة لا هرم فيها ولا سقم، ولا همّ ولا حزن، وكتب اسم الله الأعظم عليه حتى لا يصل إليه أحد إلا ملك، يأتي في آخر الزمان يدين بدين الملك الديان، ويؤمن بالبعث والفرقان، والنبيّ الداعي إلى الإيمان في آخر الزمان، وسقفوا فوق السرب بالصخور العظام، وهالوا عليه الرمال حتى سدّوا بين جبلين متقابلين. ويقال: كان مصر بن بيصر، مع جدّ أبيه نوح عليه السلام في السفينة، فدعا له أن يسكنه الله الأرض الطيبة المباركة التي هي أم البلاد وغوث العباد، ونهرها أفضل الأنهار، ويجعل له فيها أفضل البركات ويسخر له الأرض ولولده، ويذللها ويقوّيهم عليها، فسأله

عنها، فوصفها له، وأخبره بها، وكان بيصر بن حام قد كبر وضعف فساقه ولده مصرايم، وجميع إخوته إلى مصر، فنزلوها وبذلك سميت: مصر. وملك بعده: ابنه قبطيم (ويقال له: قفط) بن مصرايم، وهو أوّل من عمل العجائب بعد الطوفان، فاستخرج المعادن وشق الأنهار، ونصب الأعلام والمنارات وعمل الطلسمات. ويقال: إنّ مصرايم لما مات، اختلف أولاده من بعده، وكان قفط أصغرهم، فاجتمعوا عند الأهرام ورضوا بأنّ من غلب منهم أخاه أخذ الملك، فتحارب أشموم وأتريب، فغلب أتريب، ثم تحارب صا، هو وأشموم، فغلب أشموم، ثم تحارب قفط وصا، فغلب قفط فأخذ قفط الملك بعد أبيه، وأطاعه أخوته وسكن مدينة منف دار مملكة أبيه، وتزوّج امرأة ولدت له، أربعة أولادهم: قفطريم، وأشمون، وأتريب، وصا، فتناسلوا وكثروا وعمروا البلاد، ثم إنه قسم الأرض بين أولاده الأربعة عند وفاته، فجعل لولده قفطريم من أسوان إلى قفط، وجعل لولده أشمون من مدينة قفط إلى مدينة منف، وجعل لولده أتريب الجرف كله، وجعل لولده صا من ناحية البحيرة إلى الغرب، وجعل أمرهم إلى قفطريم وأمر كل واحد منهم أن يبني لنفسه مدينة في حيزه، وجعل لنفسه سربا تحت الجبل الكبير، وصفحه بالمرمر، وعمل فيه منافذ للريح فصارت تنخرق فيه بدويّ عظيم، وأقام في السرب رؤوسا من نحاس مطلية تضيء كالسرج ليلا ونهارا. ولما مات وضع جسده بهذا السرب في جرن من ذهب بعد ما ألبس ثيابا منسوجة بالدر والمرجان، وأقيم عند رأسه عمود من مرمر عليه جوهرة تضيء، وعمل حول الجرن توابيت من حجارة ملوّنة حولها مصاحف الحكمة، ووضعت عنده أمواله وكنوزه وذخائره وزبروا عليه كما زبروا على أبيه، وانتقل كل من أولاده إلى حيزه، فانتقل صا بأهله وأولاده وسكن مدينة صا الآتي ذكرها. ويقال: كانت البلبلة في أيام قفط، وأنه ألهمه الله تعالى اللغة القبطية، وأنه أقام ملكا أربعمائة وثمانين سنة، ومات، فدفن بأرض الواحات وملك بعده أخو أشمن بن مصر، وقيل: بل أسكن في حياته ابنه قفطريم في حيزه، فشرع في العمارة وكان جبارا عظيم الخلقة، فأثار من المعادن ما لم يثره أحد قبله وبنى مدينة دندرة، وعمل في جبل قفط منارا عاليا يرى منه البحر الشرقيّ، ووجد هناك معادن من الزئبق، وعمل البركة التي سماها صيادة الطير، وهلك عاد بالريح في آخر أيامه، وفي أيامه أثارت الشياطين الأصنام التي أغرقها الطوفان، فعبدت، وأقام ملكا أربعمائة وثمانين سنة ومات. وذكر ابن عبد الحكيم: بعد مصر بن بيصر قفط بن مصر، وأنّ الذي ملك بعد قفط أخوه اشمن، ثم أتريب بن مصر، ثم صا بن مصر، ثم ابنه تدارس بن صا، ثم ابنه ماليق بن تدارس، ثم ابنه حزابا بن ماليق، ثم ابنه كلكلي بن حزابا، ويقال: إنّ أشمن، لما ملك بعد

أخيه، سار إليه شدّاد بن هدّاد بن شدّاد بن عاد، وملك أرض مصر، وهدم مبانيها، وبنى أهراما ومضى إلى موضع الإسكندرية، فبناها وأقام دهرا، ثم خرجت العادية من أرض مصر، فعاد أشمن إلى ملكه، وأنه ملك بعده أخوه صا، ثم ملك بعد صا ابنه تدارس، وفي أيامه بعث الله صالحا إلى ثمود ومات. فملك ابنه ماليق البودسير، وكان من الجبابرة العظام عمل أعمالا عظيمة، منها منار فوقه قبة لها أربعة أركان في كل ركن كوّة يخرج منها في يوم معلوم عندهم من كل سنة، دخان ملتف في ألوان شتى يستدلون بكل لون على شيء، فإن خرج الدخان أخضر، دل على العمارة والخصب في تلك السنة، وإن خرج أبيض، دل على الجدب وقلة الخير، وإن خرج أحمر، دل على الحروب وقصد الأعداء، وإن خرج أصفر، دل على النيران وآفات تحدث من الملك، وإن خرج أسود، دل على الأمطار والسيول، وفساد بعض الأرض، وإن خرج مختلطا، دل على كثرة الظلم وبغي الناس بعضهم على بعض. وعمل شجرة من نحاس تجذب سائر الوحوش حتى تصل إليها، فلا تستطيع الحركة إلى أن تؤخذ، فشبع أهل مصر من لحوم الوحوش، واتفق أنّ غرابا نقر عين صبي من أولاد الكهنة فقلعها، فعمل شجرة من نحاس عليها غراب منشور الجناحين وفي منقاره حية، وعلى ظهره أسطر، فكانت الغربان تقع على هذه الشجرة، ولا تبرح حتى تموت، وكانت الرمال قد كثرت في أيامه على أرض مصر من ناحية الغرب، فعمل صنما من صوّان أسود على قاعدة منه، وفوق كتبه قفة فيها مسحاة ونقش على وجهه وصدره وذراعيه كتابة، وجعل وجهه إلى الغرب، فانكشفت الرمال ورجعت بها الرياح إلى ورائها، وصارت تلالا عالية. وبعث بهرمس الحكيم، إلى جبل القمر الذي يخرج منه النيل، فعمل تماثيل النحاس، وعدّل جانبي النيل، وكان قبله يفيض في مواضع وينقطع في مواضع وسار مغرّبا لينظر ما وراء ذلك، فوقع على أرض واسعة ينخرق فيها الماء والأشجار فبنى فيها منتزهات، وأقام بها وحوّل إليها عدّة من أهله فعمروا تلك النواحي حتى صارت أرض الغرب كلها معمورة، ثم خالطتهم البربر، وجرت بينهم حروب كثيرة أفنتهم، فخربت تلك البلاد، ولم يبق منها إلا الواحات، ثم إنّ البودسير احتجب عن الناس، وصار يبرز وجهه من مقعده في النادر، وربما خاطبهم من حيث لا يرونه. وذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: إنّ أوّل من تحقق بالكهانة وغير الدين وعبد الكواكب البودسير، وتزعم القبط أنّ الكواكب كانت تخاطبه، وأنّ له عجائب كثيرة منها: أنه استتر عن الناس عدّة سنين من ملكه، وكان يظهر لهم وقتا بعد وقت مرّة في كل سنة، وهو حلول الشمس في برج الحمل، ويدخل الناس إليه، فيخاطبهم، وهم يرونه فيأمرهم وينهاهم ويحذرهم مخالفة أمره، ثم بنيت له قبة من فضة مطلية بذهب، فصار

يجلس في أعلاها، وله وجه عظيم فيخاطبهم. (فلما مات ملك بعده ابنه أرقليمون) : وكان كاهنا ساحرا، فعمل أعمالا عظيمة منها: أنه كان يجلس في السحاب، فيرونه في صورة إنسان عظيم، وأقام مدّة على ذلك، ثم إنه غاب عن أهل مصر، وصاروا بغير ملك، ثم رأوا صورة بحذاء جرم الشمس عند حلولها أوّل برج الحمل، فأمرهم أن يقلدوا الملك عديم بن قفطيم وأعلمهم أنه ما بقي يعود إليهم. فولوا عليهم عديم بن قفطيم: وكان جبارا عظيما وهو أوّل من صلب بمصر، وذلك أنّ امرأة ورجلا زنيا، فصلبهما، وجعل ظهر كل منهما لظهر الآخر، وبنى أربع مدائن أودعها كنوزا عظيمة، وجعل عليها طلسمات، وعدّة عجائب وعمل منارا على البحر الشرقيّ، وعليه صنم إلى الشرق حتى لا يغلب البحر على أرض مصر، وعمل قنطرة على النيل في أرض النوبة، وأقام ملكا مائة وأربعين سنة، ومات وعمره سبعمائة وثلاثون سنة. (وملك بعده ابنه شدّات بن عديم) : وهو الذي تسميه العامة: شدّاد بن عاد، وكان عالما كاهنا ساحرا ويقال: إنه هو الذي بنى الأهرام الدهشورية، وعمل أعمالا عظيمة وطلسمات عجيبة وبنى في الجانب الشرقيّ مدائن، وفي أيامه بنيت قوص وغزا الحبشة، وسباهم وأقام ملكا تسعين سنة، وهو أوّل من اتخذ الجوارح وصاد بها وولّد الكلاب السلوقية، وعمل في بركة سيوط تماسيح منصوبة تنصب إليها التماسيح من النيل انصبابا، فيقتلها ويعلق جلودها في السفن، واتفق أنه طرد صيدا فكبابه فرسه في وهدة، فهلك. وكان قد غضب على بعض خدمه فرماه من جبل عال، فتقطع، فرأى أنه يصيبه مثل ذلك، ولما هلك وضع في ناوس ودفنت معه أمواله وعمل عليه طلسم يمنعه ممن يقصده، وكتب عليه: لا ينبغي لذي القدرة أن يخرج عن الواجب، ولا يفعل ما لا يجوز له فعله، فيجازي بعمله. هذا ناوس بن شدّات بن عديم، فعل ما لا يحلّ له فعله، فكوفىء عليه بمثله. وملك بعده ابنه منقاوش: وكان حكيما فاضلا كاهنا، عمل أعمالا عجيبة، وبنى أشياء معجبة منها: أنه عمل هيكلا لصور الكواكب على ثمانية فراسخ من منف، وكنز من الأموال ما لا يحصى، وفتح عليه من المعادن ما لم يفتح به على غيره، وسار في الجنوب يوما ثم سار مغرّبا يوما وبعض آخر، فانتهى في اليوم الثالث إلى جبل أسود، فعمل تحته أسرابا ومغاير، ودفن فيها أمواله وزبر عليها حتى أنه من كثرتها يقال: إنه دفن حمل اثني عشر ألف عجلة ذهبا وجواهر، وأقام أربع سنين يرسل في كل سنة عجلا كثيرة يدفنها، وبقيت آثار العجل ترى فيما بين منف والمغرب زمانا طويلا، وبنى هيكلا للقمر، ويقال: إنه هو الذي بنى مدينة منف لبناته، وكنّ ثلاثين بنتا، وأنه ألزم الناس بعمل الكيمياء، فكانوا لا

يفترون عن عملها ليلا ولا نهارا، حتى اجتمع عنده مال عظيم وجوهر كثير، وهو الذي بنى مدينة عين شمس، وقسم خراج مصر أرباعا، جعل الربع للملك، والربع للجند، والربع ينفق في مصالح الأرض، والربع الرابع يدفن لحادثة تحدث، وهو الذي قسم أرض مصر على مائة وثلاثين كورة، وأقام ملكا إحدى وتسعين سنة ومات. فملك بعده ابنه عديم بن منقاوش: وكان جبارا لا يطاق، وفي أيامه كان نزول الملكين اللذين يعلمان الناس السحر، والقبط تزعم أنهما نزلا بأرض مصر، ثم نقلا إلى بابل. ثم ملك بعده أخوه مناوش بن منقاوش، وكان عالما كاهنا فاضلا، بنى مواضع كثيرة في الجبال والصحارى، وكنز فيها كنوزا عظيمة، وأقام عليها أعلاما، وبنى في صحراء الغرب مدينة، وأقام لها منارا وكنز حولها كنوزا عظيمة، وجعل فيها شجرة تطلع كل لون من الفاكهة، وهو أوّل من عبد البقر بمصر، وكان يطلب الحكمة، ويستخرج كتبها، وكذا كان كل من ملك منهم يجتهد في أن يعمل له غريبة من الأعمال لم تعمل لمن كان قبله، وتثبت في كتبهم وتزبر على الحجارة. ولما مات ملك بعده ابنه هرميس: وكان قليل الحكمة، فلم يعمل شيئا مما عمله آباؤه، ومات وقد أقام إحدى عشرة سنة. فملك بعده أشمون بن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح: وكان حيزه من أشمون إلى منف في الغرب، وحيزه في الشرق إلى حدّ البحر الملح مما يحاذي برقة، وهو آخر حدّ مصر، ومن بلاد الصعيد إلى حدود أخميم، وكانت منزله بمدينة الأشمونين وكان طولها اثني عشر ميلا في مثلها، وبنى في شرقيّ النيل مدينة أنصنا، وبنى بها قصرا عظيما، واتخذ بها أبنية وملاعب وعجائب كثيرة، وبنى مدينة طهراطيس، وهو أوّل من لعب بالكرة والصولجان. ويقال: إنه بنى مدنا كثيرة عمل فيها عجائب منها: مدينة في سفح الجبل لها أربعة أبواب من كل ناحية باب، فعلى الباب الشرقيّ: صورة عقاب، وعلى الباب الغربيّ: صورة ثور، وعلى الباب الشماليّ: صورة أسد، وعلى الباب الجنوبيّ: صورة كلب؛ وفي هذه الصور روحانيات تنطق فإذا قدم غريب لا يقدر على الدخول إليها إلا بإذن الموكلين بها، ودفن تحت كل شكل من هذه الأشكال الأربعة صنفا من الكنوز، وغرس في هذه المدينة شجرة مولدة تثمر كل لون من الفاكهة، ونصب منارا طوله ثمانون ذراعا فوقه قبة تتلوّن كل يوم لونا حتى تمضي سبعة أيام ثم تعود إلى اللون الأوّل، فكانت تلك المدينة تكسى من تلك الألوان شعاعا مثل لونها، وأجرى حول المنار ماء شقه من النيل، وجعل فيه سمكا من كل لون وأقام حول المدينة طلسمات في هيئة أناس رؤوسها كالقردة، وأسكن هذه المدينة السحرة، فعرفت بمدينة السحرة، وكانوا يعملون فيها أصناف السحر.

وبنى بالقرب منها مدينة عرفت بذات العجائب، وبنى مجالس مصفحة بزجاج ملوّن في وسط النيل، وبنى سربا تحت الأرض من الأشمونين إلى أنصنا. وقيل: إنه هو الذي بنى مدينة عين شمس، وأنه ملك ثمانمائة سنة، وأنّ قوم عاد انتزعوا منه الملك بعد ستمائة سنة، وأقاموا بمصر تسعين سنة، فأصابهم وباء خرجوا منه إلى المدينة بطريق الحجاز إلى وادي القرى، فعاد أشمون بعد خروج العادية إلى ملك مصر، وهو أوّل من عمل النوروز بمصر. وفي زمانه: بنيت مدينة البهنسا، ولما مات جعل له ناوس في آخر حدّ الأشمونين، ودفن فيه ومعه كنوزه العظيمة وعجائبه الكثيرة منها: ألف برنية من العقاقير المدبرة لفنون الأعمال وززبروا على ناوسه اسمه ونسبه، وجعل عليه طلسم يمنعه ممن يقصده. وملك بعده ابنه صا: ثم بعد صا ابنه تدراس. وقيل: ملك مناقيوش، وكان شجاعا فاضلا فاستأنف العمارة وبنى القرى ونصب الأعلام وعمل العجائب الهائلة، وبنى مدائن منها مدينة أخميم وحوّل الكهنة إليها، وأقام ملكا نيفا وأربعين سنة، ومات فدفن في الهرم الشرقيّ ومعه كنوزه. وملك بعده ابنه، وقد اختلف في اسمه وكان فاضلا حازما معظما عند أهل مصر، وهو أوّل من عمل المارستان، وأول من عمل الميدان للرياضة، وفي أيامه بنيت مدينة سنترية في صحراء الواحات، ثم إنّ نساء تغايرن عليه فقتلته إحداهنّ بسكين، فدفن في ناوس ومعه أمواله، وعمل عليه طلسم يحفظه. وملك بعده ابنه مرقورة: وكان حكيما كاهنا، وهو أوّل من ذلل السباع وركبها، وبنى المدن، وعمر الهياكل، وأقام الأصنام، ولما مات جعل له ناوس في صحراء الغرب ودفن معه ماله. وملك بعده ابنه بلاطس: وكان صبيا، فدبرت أمّه أمر الملك، وكانت حازمة، فأجرت الأمور على أحسن ما يكون، وأظهرت العدل، ووضعت عن الناس الخراج فأحبّوها، ولما كبر ابنها أحب الصيد، فعملت له أمّه أعمالا عجيبة، وأقام ملكا ثلاث عشرة سنة وجدّر فمات، وانتقل الملك إلى أعمامه. فملك بعده أتريب بن قبطيم بن مصرايم، وهو الثالث عشر من ملوك مصر بعد الطوفان، وهو الذي بنى مدينة أتريب، وعاش خمسمائة سنة منها مدّة ملكه ثلثمائة وستون سنة، ويقال: إن النيل وقف في أيام أتريب مائة وأربعين سنة، حتى أكلت البهائم بأرض مصر، ولم يبق بها بهيمة، ورؤي أتريب ماشيا وهو يبسط يديه ويقبضهما من الجوع، ومات

عامّة أهل مصر جوعا، ثم أغيثوا بعد ذلك، وكثر الرخاء ودام مدّة مائتي سنة وبيع كل أردب بدانق وأقل، ولما مات اتهم أخوه صا بقتله وحاربه أهل مصر تسع سنين وقتلوه. فملكت بعده ابنته تدرورة: وكانت كاهنة ساحرة فساست الملك أحسن سياسة، ودبرت الملك أجود تدبير، وعملت طلسمات عجيبة، منها طلسم منع الوحش والطير أن يشرب من النيل، حتى مات أكثرها عطشا، ووقعت في زمانها صيحة ارتجت لها الأرض فهلكت. وملك بعدها أخوها قليمون بن أتريب: وكان حكيما فاضلا فبنى البنيان وعمل الطلسمات، وفي أيامه بنيت مدينة تنيس الأولى، وبنيت مدينة دمياط، وأقام ملكا تسعين سنة، ومات فدفن في ناوس. وملك بعده ابنه فرسون: وكان فاضلا كاهنا، بنى المدائن وجدّد الهياكل، وكان حدثا فقصده بعض ملوك حمير في جموع عظيمة، فخرج إليهم ولقيه مدينة إيليا، وقاتله قتالا شديدا حتى تفانى من الفريقين معظمهما، وأظهر المصريون أشياء من سحرهم، فانهزم الحميري في طائفة يسيرة، وقتل فرسون عامّة أصحابه وأخذ ما كان معهم، وعاد مظفرا إلى مدينة منف، وعمل منارا على بحر القلزم في رأسه مرآة تجذب المراكب إلى الساحل حتى يؤخذ منها ما هو مقرّر عليها من المال، وأقام ملكا مائتي سنة وستين سنة، ومات فدفن في ناوس خلف الجبل الأسود الشرقيّ، وعمل فيه قبة تحتوي على اثني عشر بيتا في كل بيت أعجوبة ودفن معه ماله وعمل عليه طلسم يحفظه. وملك بعده نحوه أربعة وصار الملك إلى صا بن قبطيم: وكان اصغر ولد أبيه وأحبهم إليه. ولما مات ملك بعده نونية الكاهنة: وكانت ساحرة فكانت تجلس على سرير من نار فإذا تحاكم إليها أحد، وكان صادقا شق تلك النار من غير أن تضرّه، وإن كان كاذبا أخذته تلك النار، وكانت تتصوّر كل يوم في صور كثيرة الأشكال، ثم بنت قصرا واحتجبت فيه، وجعلت في سوره أنابيب من نحاس مجوّفة، وكتبت على كل أنبوب فنا من الفنون التي يتحاكم الناس بها إليها، فكان من أتاها في محاكمة وقف عند الأنبوب الذي فيه محاكمته، وتكلم بما يريده، وسأل عنه بصوت خفيّ، فإذا فرغ جعل أذنه في الأنبوب فيأتيه منه جواب ما سأل، ولم يزل هذا القصر والأنابيب حتى أتلفه بخت نصر. وملك بعدها مرقونس: وكان فاضلا حكيما، وكانت أمه بنت ملك النوبة، فعملت عجائب وصنع في أيامه كل غريبة، وملك ثلاثا وسبعين سنة، ومات وعمره مائتان وأربعون سنة.

فملك بعده ابنه ايساد وهو ابن خمس وأربعين سنة: وكان جبارا طماح العين، فانتزى امرأة أبيه، وانكشف أمره معها، وكان أكبر همه اللهو واللعب، فجمع كل ملة في مملكته، ورفض العلوم، وأهمل أمر الهياكل والكهنة، وترك النظر في أحوال الناس، وبنى قصورا على النيل ليتنزه فيها، وأتلف أكثر الأموال في اللعب، فكرهه الناس، وكرههم إلى أن سمّوه، فمات عن مائة وعشرين سنة. وملك بعده ابنه صا: ويقال: إنّ صا هو ابن مرقونس، وهو أخود أيساد، ولما ملك سكن منف، ووعد الناس بخير وملك الأحياز كلها، وعمل بها عجائب وطلسمات، وردّ الكهنة إلى مراتبهم ونفى الملهين وأهل الشرّ، ونصب العقاب الذي عمله أبوه وشرّف هيكله ودعا إليه وبنى بداخل الواحات مدينة ونصب قرب البحر أعلاما كثيرة، وجعل على الأطراف أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجري في حدودهم، وعمل على حافتي النيل مناير يوقد عليها إذا حزبهم أمر أو قصدهم أحد، وجعل بحافة بحر الملح منارا يعلم به أمر البحر، ويقال: إنه بنى أكثر مدينة منف، وكل بنيان عظيم بالإسكندرية، وكان لما ملك البلد بأسره جمع الحكماء، ونظر في النجوم وكان بها حاذقا، فرأى أن مصر، لا بدّ أن تغرق من نيلها، وإنها تخرب على يد رجل يأتي من ناحية الشام، فجمع كل فاعل بمصر، وبنى مدينة في الواح الأقصى، وقصده ملك الإفرنجة، وملك منه مدينة منف، وقدم معه ألف مركب، وهدم أكثر الإسكندرية ودخل إلى النيل من رشيد حتى أخذ منف وفرّ منه صا إلى المدائن الداخلة، وتحصن بها من عدوّه، فامتنعت بالطلسمات أياما كثيرة، ثم كانت العاقبة له وعاد عدوّه منهزما، ورجع إلى منف فتتبع الكهنة وقتل منهم كثيرا، وأقام ملكا سبعا وستين سنة، وعاش مائة وسبعين سنة. وملك ابنه تدراس: واستولى على الأحياز كلها وصفا له الوقت وملك مصر، وكان محتكما مجرّبا ذا أيد وقوّة ومعرفة بالأمور، فأظهر العدل وأقام الهياكل وأهلها قياما حسنا وبنى بيتا للزهرة، وحفر خليج سخا وحارب بعض عمالقة الشام، ودخل إلى فلسطين وقتل بها خلقا وسبى بعض أهلها إلى مصر، وغزا السودان من الزنج والحبشة ووجه في النيل بثلاثمائة سفينة فلقي السودان، وكانوا زهاء ألف ألف فهزمهم، وقتل أكثرهم وأسر منهم خلقا كثيرا، وساق الفيلة والنمور إلى مصر، وعمل على حدود بلده منارات زبر عليها اسمه ومسيره وظفره، وفي أيامه بعث الله نبيه صالحا إلى ثمود، ويقال: إنه هو الذي أنزل النوبة حيث هي، وذلك أنه لما أوغل في أرض الحبشة، وقتل أمم السودان وجد فيهم أمة تقرأ صحف آدم وشيث وإدريس فمنّ عليها، وأنزلها على نحو من شهر من أرض مصر، فسموا النوبة، ومات بمنف. فملك بعده ابنه ماليق: وكان عاقلا كريما، حسن الصورة مجرّبا مخالفا لأبيه وأهل

مصر في عبادة الكواكب والبقر، ويقال: إنه كان موحدا على دين أجداده، قبطيم ومصرايم، وكانت القبط تذمه لذلك، وأمر الناس باتخاذ كل قارة من الخيل، واقتنى السلاح وأكثر الأسفار، وأنشأ في بحر المغرب مائتي سفينة وخرج في جيش عظيم في البرّ والبحر، وأتى البربر، فهزمهم واستأصل أكثرهم، وبلغ إفريقية، وسار إلى الأندلس يريد الإفرنجة، فلم يمرّ بأمّة إلا أبادها، فحشد له ملك الإفرنجة وحاربه شهرا، ثم طلب صلحه، وأهدى إليه فسار عنه، ودوّخ الأمم المتصلة بالبحر الأخضر والقبط تذكر أنه رأى سبعين أعجوبة، وعمل أعمالا على البحر، وزبر عليها اسمه ومسيره وخرّب مدن البربر، ورجع فتلقاه أهل مصر بأصناف الرياحين وأنواع اللهو، وفرشت له الطرقات، فهابه الملوك، وحملوا إليه الهدايا وما زال موحدا حتى مات. فملك بعده ابنه حزابا: وكان لينا سهل الخلق قد عرّفه أبوه التوحيد، ونهاه عن عبادة الأصنام فرجع عن ذلك بعده إلى دين قومه، وغزا الهند والسودان بعد ما عمل مائة سفينة على شكل سفن الهند، وتجهز وحمل معه امرأته ووجوه أصحابه واستخلف ابنه كلكلي على مصر، وكان صبيا وجعل معه وزيرا كاهنا، فمرّ على ساحل اليمن وعاث في مدائنه، وبلغ سرنديب وأوقع بأهلها، وبلغ جزيرة بين الهند والصين، فأذعن له أهلها وتنقل في تلك الجزائر سنين، فيقال: إنه أقام في سفره سبع عشرة سنة، ورجع غانما، فهابه الملوك، وبنى عدّة هياكل، وأقام بها الأصنام للكواكب، ثم غزا نواحي الشام فأطاعه أهله ورجع فغزا النوبة والسودان، وضرب عليهم خراجا يحملونه إليه، ورفع أقدار الكهنة ومصاحفهم، وكان يرى أن هذا الظفر بمعونة الكواكب له، ومات وقد ملك خمسا وسبعين سنة. فقام ابنه كلكلي وعقد له بالإسكندرية، فأقام بها شهرا، ثم قدم إلى منف، وكان أصناميا، فسرّ به أهل مصر، وكان يحب الحكمة، وإظهارالعجائب ويقرّب أهلها ويجيزهم وعمل الكيمياء وخزن أموالا عظيمة بصحارى الغرب، وهو أوّل من أظهر علم الكيمياء بمصر، وكان علمها مكتوما، وكان من تقدّمه من الملوك أمر بترك صنعتها، فعملها كلكلي، وملأ دور الحكمة منها حتى لم يكن الذهب في زمن بمصر أكثر منه في وقته، ولا الخراج لأنه كان مائة ألف ألف، وبضعة عشر ألف ألف مثقال، فاستغنوا عن إثارة المعادن، وعمل أيضا من الحجارة الملوّنة التي تشف شيئا كثيرا، وعمل من الفيروزج وغيره أشياء. واخترع أمورا تخرج عن حدّ العقل حتى سمي حكيم الملوك، وغلب جميع الكهنة في علومهم، وكان يخبرهم بما يغيب عنهم، وكان نمرود إبراهيم عليه السلام في وقته، فاتصل بنمرود خبر حكمته وسحره، فاستزاره، وكان النمرود جبارا مشوّه الخلق يسكن السواد من العراق، وأتاه الله قوّة وقدرة وبطشا، فغلب على كثير من الأمم، فتقول القبط: إنّ النمرود لما استزار كلكلي وجه إليه أن يلقاه بموضع كذا، فسار إلى الموضع على أربعة أفراس تحمله ذوات أجنحة، وقد أحاط به نور كالنار، وحوله صور هائلة، وقد خيل بها وهو

متوشح بثعبان متحزم ببعضه، وقد فغر فاه وهو يضربه بقضيب آس، فلما رآه النمرود هاله، وأقرّ له بجليل الحكمة، وسأله: أن يكون ظهيرا له، ويقال: إنه كان يرتفع ويجلس على الهرم الغربيّ في قبة تلوح على رأسه، فإذا دهم أهل البلد أمر اجتمعوا حول الهرم فيقيم أياما لا يأكل ولا يشرب، ثم استتر مدّة حتى توهموا أنه هلك فطمع فيه الملوك، وقصده ملك من الغرب في جيش عظيم، حتى قدم وادي هبيب، فأقبل حتى جللهم من سحره بشيء كالغمام شديد الحرّ، فأقاموا تحته أياما متحيرين، ثم طار إلى مصر، وأمرهم بالخروج إلى الجيش، فوجدوهم قد ماتوا هم ودوابهم، فهابه الكهنة مهابة لم يهابوها أحدا قبله، وعمر طويلا وغاب فلم يعلم خبره. وقال ابن عبد الحكم: إنّ كلكلي ابن حزابا ملكهم نحو مائة سنة ثم مات ولا ولد له. فملك أخوه ماليا بن حزابا. قال ابن وصيف شاه: وقام أخوه ماليا: وكان شرها كثير الأكل والشرب منفردا بالرفاهية غير ناظر في شيء من الحكمة، وجعل أمر البلد إلى وزيره، واشتغل بالنساء، وكان له من النساء ثمانون امرأة فهجم عليه ابنه طوطيس، وهو سكران فقتله، وقتل امرأة كانت عنده. وملك بعده ابنه طوطيس: ويقال: إنه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويقال: الوليد بن الريان، وأنه أحد فراعنة مصر، من ولد دان بن فهلوج بن أمراز بن أشود بن سام بن نوح. وقيل: فراعنة مصر من ولد عملاق الأوّل بن لاود بن سام بن نوح، وكان جبارا جريئا شديد البأس مهابا، والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم عليه السلام، ويقال: إن الفراعنة سبعة، هو أوّلهم، وحفر نهرا في شرقيّ مصر بسفح الجبل حتى ينتهي إلى مرفأ السفن في البحر الملح، وكان يحمل إلى هاجر أمّ إسماعيل التي أعطاها إبراهيم عليه السلام الحنطة وأصناف الغلات فتصل إلى جدّة فأحيى بلد الحجاز مدّة، ويقال: إن كل ما حليت به الكعبة في ذلك العصر مما أهداه ملك مصر، ولكثرة ما حمل إلى الحجاز سمته العرب من جرهم الصادوق. وفي كتاب هروشيش: أن سلطان المصريين في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام، كان بأيدي قوم يدعون ببني فاليق بن دارش، ودام ملكهم بمصر مائة وعشرين سنة، وقال ابن إسحاق عن بعضهم: إن فراعنة مصر من ولد دان بن فهلوج بن امراز بن أشود بن سام بن نوح، قال: والمشهور أنهم من العماليق، منهم الريان بن الوليد، ويقال: الوليد بن الريان فرعون يوسف، والوليد بن مصعب فرعون موسى، ومنهم سنان بن علوان. قال ابن وصيف شاه: وإنما قيل له: فرعون، لأنه أكثر القتل ولم يرزق غير ابنة،

وكانت عاقلة فخافت لكثرة قتله الناس، فقتلته بسمّ، وله في الملك مائة وسبعون سنة. وملكت بعده جورياق: فوعدت الناس بالإحسان، وجمعت الأموال وقدّمت الكهنة وأهل الحكمة ورؤساء السحرة، ورفعت أقدارهم وجدّدت الهياكل، وصار من لم يرضها إلى مدينة أتريب، وملّكوا رجلا من ولد أتريب، وقد تقدّم خبره في الإسكندرية، وجورياق أوّل امرأة ملكت مصر من ولد نوح عليه السلام، وماتت. فملكت بعدها ابنة عمها زلفى بنت مأمون: وكانت عذراء عاقلة، فوعدت الناس بالجميل، وقام عليها أيمن الإتريبيّ، واستنصر بملك العمالقة، فسير معه قائدا، فأخرجت إليه جيشا فالتقوا بالعريش، واقتتلوا حتى فني منهم كثير من الناس، ثم انهزم أصحاب زلفى إلى منف، وهم في أقفيتهم، فخرجت زلفى إلى الصعيد، ونزلت الأشمونين، فكان بينها وبين عساكر العمالقة حروب انهزموا فيها، وخرجوا عن منف بعد ما عاثوا فيها وعدّوا إلى الجرف، فامتنعوا به، وصارت مصر بينهم نصفين، ثم إنّ زلفى عاودت الحرب، فاستمرّت ثلاثة أشهر حتى انهزمت إلى قوص وأيمن خلفها، فلما أيقنت أنها تؤخذ، سمّت نفسها، فهلكت. وقال ابن عبد الحكم: ثم توفي طوطيس بن ماليا، فاستخلفت ابنته جورياق ابنة طوطيس، ولم يكن له ولد غيرها، ثم توفيت جورياق فاستخلفت ابنة عمها زلفى ابنة مأمون بن ماليا، فعمرت دهرا طويلا، وكثروا ونموا وملأوا أرض مصر كلها، فطمعت فيهم العمالقة، فغزاهم الوليد بن دومع، فقاتلهم قتالا عظيما، ثم رضوا أن يملكوه عليهم فملكهم نحوا من مائة سنة، فطغى وتكبر، وأظهر الفاحشة، فسلط الله عليه سبعا فافترسه وأكل لحمه. والذي ملك مصر من الفراعنة خمسة: وملك أيمن وتجبر، وقتل خلقا ممن حاربه، وكان الوليد بن دومع العمليقي قد خرج في جيش كثيف، فبعث غلاما يقال له: فرعون، إلى مصر، ففتحها. ثم قدم بعده واستباح أهل مصر، وأخذ أموالهم ثم خرج ليقف على مصب النيل فرأى جبل القمر، وأقام في غيبته أربعين سنة، ورجع إلى مصر، وقد خالفه فرعون، وفرّ منه فاستعبد أهل مصر وملكهم مائة وعشرين سنة حتى هلك. وملك ابنه الريان بن الوليد بن دومع: أحد العمالقة، وكان أقوى أهل الأرض في زمانه وأعظمهم ملكا. والعمالقة: ولد عمليق بن لاود بن سام بن نوح، وهو فرعون يوسف عليه السلام، والقبط تسميه: نهراوش، وقيل: فرعون يوسف، اسمه: الريان بن الوليد بن ليث بن قاران بن عمرو بن عمليق بن بلقع بن عابر بن اشليخا بن لود بن سام بن نوح، وقيل: فرعون

يوسف، هو: جدّ فرعون موسى أبو أبيه، واسمه: برخو، وكان عظيم الخليق جميل الوجه عاقلا، فوعد الناس الجميل، وأسقط عنهم الخراج لثلاث سنين وفرّق المال فيهم. وملك رجلا من أهل بيته يقال له: أطفين، وهو الذي يقال له: العزيز، وكان عاقلا أديبا مستعملا للعدل والعمارة، فأمر أن ينصب له سرير من فضة في قصر الملك يجلس عليه، ويخرج وجميع الكتاب والوزراء بين يديه، فكفى نهراوش ما خلف ستره، وقام بجميع أموره وخلاه للذاته، فأقام على قصفه مدّة والبلد عامر، فقصده رجل من العمالقة، وسار إلى مصر في جيوشه، فخرج إليه وقاتله وهزمه، وسار خلفه، ودخل الشام وعاث هنالك، فهابته الملوك ولاطفته. وقيل: إنه بلغ الموصل، وضرب على أهل الشام خراجا وخرج لغزو بلاد المغرب في تسعمائة ألف، ومرّ بأرض البربر، وجلا كثيرا منهم، ومرّ إلى البحر الأخضر، وسار إلى الجنوب، فقدم النوبة وعاد إلى مدينة منف، وكان من خبر يوسف معه ما ذكر عند ذكر الفيوم. وملك بعده ابنه دريموش «1» : ويقال: له دارم بن الريان، وهو الفرعون الرابع، فخالف سنة أبيه، وكان يوسف خليفته، فيقبل منه تارة، ويخالفه تارة، وظهر في أيامه معدن فضة فأثار منه شيئا عظيما. وفي أيامه مات يوسف عليه السلام، فاستوزر بعده رجلا حمله على أذى الناس، وأخذ أموالهم، فبلغ ذلك منهم مبلغا عظيما، ثم زاد في التجرّي حتى اقتلع كل امرأة جميلة بمدينة منف من أهلها، فكان لا يسمع بامرأة حسناء في موضع إلا وجّه إليها، فحملت إليه فاضطرب الناس وشنعوا عليه وعطلوا الصنائع والأعمال والأسواق، فعدا عليهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وزاد الأمر حتى اجتمعوا على خلعه، فبرز لهم وأسقط عنهم خراج ثلاث سنين، وأنفق فيهم مالا فسكتوا، وفي أيامه ثار القبط على بني إسرائيل وطلبوا من الوزير، أن يخرجهم من مصر، فما زال بهم حتى أمسكوا، وبلغ الملك ذلك، وكان قد خرج إلى الصعيد فتوعد أهل مصر، فشغبوا عليه وحشدوا له، فحاربوه فقتل منهم خلقا كثيرا، وظفر بمن بقي، فقتلهم وصلبهم على حافتي النيل، وعاد إلى أعظم ما كان عليه من أخذ الأموال والنساء، واستخدام أشراف القبط وبني إسرائيل، فأجمع الكل على ذمّه، فركب النيل للنزهة، وثار به ريح عاصف، فغرق، فلم يوجد إلا بناحية شطنوف، وقيل: فيما بين طرا وحلوان. فقدّم الوزير ابنه معاديوس: وكان صبيا، ويقال له: معدان، فأسقط عن الناس

ما أسقطه أبوه من الخراج، ووعد بالإحسان فاستقام له الأمر، وردّ نساء الناس، وهو خامس الفراعنة، وحدث في زمانه طوفان مصر، وكثر بنوا إسرائيل وعابوا الأصنام، فأفردوا ناحية عن البلد بحيث لا يختلط بهم غيرهم، وأقطعوا موضعا في قبليّ منف، فاجتمعوا فيه، وبنوا فيه معبدا، وغلب بعض الكنعانيين على الشام، ومنع من الضريبة التي كانت على أهل الشام لملك مصر، فاجتمع الناس إلى معدان، وحثوه على المسير لحربه، فامتنع من المسير ولزم الهيكل، فزعموا أنه قام في هيكل زحل للعبادة، فتجلى له زحل، وخاطبه. وقال له: قد جعلتك ربا على أهل بلدك، وحبوتك بالقدرة عليهم، وعلى غيرهم، وسأرفعك إليّ، فلا تخل من ذكري فعظم عند نفسه وتجبر، وأمر الناس، أن يسموه ربا، وترفع عن أن ينظر في شيء من أمر الملك، وجعل عليه ابنه اكسامس. فقام ابنه اكسامس في الملك، ويقال: كلسم بن معدان، فرتب الناس مراتب، وقسم الكور والأعمال، وأمر باستنباط العمارات، وإظهار الصناعات، ووسع على الناس في أرزاقهم، وأمر بتنظيف الهياكل، وتجديد لباسها وأوانيها وزاد في القرابين، وهو الذي يقال له: كاشم بن معدان بن دارم بن الريان بن الوليد بن دومع العمليقي، وهو سادس الفراعنة، وسموا فراعنة، بفرعان، الأوّل فصار اسما لكل من تجبر وعلا أمره، فطال ملكه، وأقام أعلاما كثيرة حول منف، وعمل مدنا كثيرة، ومناير للوقودات وطلسمات، وأقام سبع سنين بأجمل أمر، فلما مات وزير أبيه استخلف رجلا من أهل بيت المملكة يقال له ظلما بن قومس، وكان شجاعا ساحرا كاهنا كاتبا حكيما متصرّفا في كل فنّ، وكانت نفسه تنازعه الملك، فأصلح أمر الملك وبنى مدنا من الجانبين، ورأى في نجومه أنه سيكون حدث، فبنى بناحية رقودة والصعيد ملاعب ومصانع وشكا إليه القبط من الإسرائيليين، فقال: هم عبيدكم، فأذلوهم من حينئذ، وخرج إلى ناحية البربر، فعاث وقتل وسبى، وفي أيامه: بنيت منارة الإسكندرية، وهاج البحر الملح فغرّق كثيرا من القرى والجنان والمصانع، ومات اكسامس، وكان ملكه إحدى وثلاثين سنة، منها إحدى عشرة سنة يدبر أمره ظلما، فلما مات اضطرب الناس، واتهموا ظلما أنه سمه فقام. وولي لاطيس بن اكسامس: وكان جريئا معجبا صلفا، فأمر ونهى، وألزم الناس أعمالهم، وقال: أنا مستقيم ما استقمتم، وإن ملتم عن الواجب ملت عنكم، وحط جماعة عن مراتبهم، وصرف ظلما عن خلافته، واستخلف غيره، وأنفذ ظلما إلى الصعيد في جماعة من الإسرائيليين، وجدّد بناء الهياكل وبنى القرى وأثار معادن كثيرة وكنز في صحراء الشرق عدّة كنوز، وكان يحب الحكمة، ثم تجبر وعلا أمره، وأمر أن لا يجلس أحد في مجلسه، ولا في قصر الملك، لا كاهن ولا غيره، بل يقومون على أرجلهم حتى يمضوا، وزاد في أذى الناس والعنف بهم، وممنع فضول ما بأيديهم وقصرهم على القوت، وجمع أموالهم وطلب النساء، وانتزع كثيرا منهنّ وفعل أكثر مما فعله من تقدّم قبله، واستعبد بني

إسرائيل، وقتل جماعة من الكهنة، فأبغضه الخاص والعام، وثار ظلما بالصعيد، وكاتب وجوه الناس فكتب لاطيس بصرفه عن العمل، فامتنع وحارب عساكره، وزحف حتى دخل منف. ظلما بن قومس: فرعون موسى، يقال: إن اسمه الوليد بن مصعب بن اراهون بن الهلوت بن قاران بن عمرو بن عمليق بن بلقع بن عابر بن اشليخا بن لود بن سام بن نوح، وإنه من العمالقة، وكان قصيرا طويل اللحية أشهل العين اليمنى صغير العين اليسرى، أعرج، وزعم قوم: أنه من القبط وأن نسبه ونسب أهل بيته مشهور عندهم، وقيل غير ذلك، وكان من خبره ما ذكرنا في كنيسة دموة. وقال ابن عبد الحكم: ولما أغرق الله فرعون بقيت مصر بعد غرقه، ليس فيها من أشراف أهلها أحد، ولم يبق إلا العبيد والأجراء والنساء، فأعظم أشراف من بمصر من النساء أن يولين منهم أحدا، وأجمع رأيهنّ أن يولين امرأة يقال لها: دلوكة. فملكت دلوكة ابنة زبا: ويقال: دلوكة بنت قاران، وكان لها عقل وتجارب ومعرفة، وكانت في شرف منهنّ، وهي يومئذ بنت مائة وستين سنة، فبنت جدارا حصنت به مصر من الأعداء، وكان من حدّ زنج إلى إفريقية إلى الواحات إلى بلد النوبة على كل موضع منه حرس قيام ليلهم، ونهارهم يقدون النار وقودا لا يطفأ أبدا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها في ستة أشهر، وهو حائط العجوز، وفي أيامها، بنت تدورة الساحرة البرابي في وسط منف، فملكتهم دلوكة عشرين سنة حتى بلغ صبيّ من أبناء أكابرهم يقال له: دركون بن بلاطس، ثم مات واستخلف ابنه تودست، ثم توفي تودست بن دركون، فاستخلف أدقاش، فلم يملك إلا ثلاث سنين، حتى مات فاستخلف أخوه مرينا بن مرينوس، ثم توفي فاستخلف أستادس بن مرينا، فطغى وتكبر وسفك الدم وأظهر الفاحشة، فخلعوه وقتلوه وبايعوا رجلا من أشرافهم يقال له: بلطوس بن مينا كيل، فملكهم أربعين سنة، ثم توفي فقام ابنه مالوس، ثم توفي مالوس، فاستخلف أخوه ميناكيل بن بلطوس بن ميناكيل، فملكهم زمانا، ثم توفي واستخلف ابنه نوله بن ميناكيل، فملكهم مائة وعشرين سنة، وهو الأعرج الذي سبى ملك بيت المقدس، وقدم به إلى مصر، وكان قد تمكن وطغى وبلغ مبلغا لم يبلغه أحد ممن قبله بعد فرعون، فصرعته دابته، فمات. وقيل له: الأعرج، لأنه لما غزا أهل بيت المقدس ونهبهم، وسبى ملكهم يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا، همّ أن يصعد على كرسيّ نبيّ الله سليمان بن داود، وكان بلولب لا يمكن أحدا أن يصعد عليه إلا برجليه جميعا، فصعد برجل واحدة، وهي اليمنى، فدار اللولب على ساقه الأخرى فاندقت، فلم يزل يجمع بها إلى أن مات، فلذلك سمي الأعرج. فاستخلف مرينوس بن نولة، فملكهم زمانا، ثم توفي واستخلف ابنه قرقورة، فملكهم

ستين سنة، ثم توفي واستخلف أخوه نقاس بن مرنيوس، وانهدم البربا في زمنه، فلم يقدر أحد على إصلاحه، ثم توفي نقاس واستخلف ابنه قوميس بن نقاس، فملكهم دهرا وحاربه بخت نصر وقتله، وخرّب مدينة منف، وغيرها من المدائن وسبى أهل مصر، ولم يترك بها أحدا حتى بقيت أرض مصر أربعين سنة خرابا ليس فيها ساكن. وذكر في ترجمة كتاب هروشيش الأندلسيّ في وصف الدول والحروب، أنّ فيما بين غرق فرعون موسى إلى مائة وسبع سنين، كان بمصر ملك يسمى نوشردس كان يقتل الغرباء، والأضياف ويذبحهم لأوثانه، ويجعل دماءهم قربانا لها، وأن بعد غرق فرعون إلى ثلثمائة وثمان وعشرين سنة، كان بمصر ملك يسمى: بروبة، وكان عظيم المملكة قويّ السلطان أخذ بالحرب أكثر نواحي الجنوب برّا وبحرا، وهو أوّل من حارب الروم الذين قيل لهم بعد ذلك الغوط، وكان قد أرسل إليهم يدعوهم إلى طاعته، ويخوّفهم حربه، فأجابوه ليس من الرأي المحمود للملك الغنيّ محاربة قوم فقراء لكثرة نوازل الحروب، واختلاف حوادثها بالظفر والهلاك، وإنا لا ننتظر مجيئك، بل نسرع لغارتك، وأتبعوا قولهم عملا، وخرج فرعون إليهم، فخرجوا مسرعين إليه وهزموا جيوشه، ونهبوا عساكره وأمواله وعدده، وجميع ذخائره ومضوا فنهبوا أرض مصر حتى كادوا يغلبون عليها لولا وحول عرضت لهم منعتهم مما خلفها، ثم انصرفوا إلى بلاد الشام بحروب متصلة، حتى أذلوا أهلها، وجعلوهم يؤدّون إليهم المغارم، وأقاموا محاربين لمن خالفهم في غزوتهم خمس عشرة سنة، ولم ينصرفوا إلى بلادهم حتى أتتهم من نسائهم من يقلن لهم: إما أن تنصرفوا، وإما أن تتخذ الأزواج ونطلب النسل من عند المجاورين لنا، فعند ذلك انصرفوا إلى بلادهم، وقد امتلأت أيديهم أموالا وأوقارا جمة، وقد خلفوا وراءهم ذكرا مفزعا. ويقال: إنّ ملوك مدين ملكوا مصر، خمسمائة عام بعد غرق فرعون، وهلاك دلوكة حتى أخرجهم منها نبيّ الله سليمان بن داود، فعاد الملك بعدهم إلى القبط، وإنّ جالوت بن بالوت، لما قتله داود، سار ابنه جالوت بن جالوت إلى مصر، وبها ملوك مدين، فأنزله ملك مصر، بالجانب الغربيّ، فأقام بها مدّة ثم سار إلى بلاد الغرب. ويقال: إنّ القبط ملكوا مصر بعد دلوكة، وابنها مدّة ستمائة سنة وعشرين سنة، وعدّتهم سبعة وعشرون ملكا، هم: ديوسقوليطا، ومدّته ثمان وسبعون سنة، وقيل: ثمان وثمانون سنة. ثم ملك بعده سمانادوس، ستا وعشرين سنة، وقام بعده سوماناس مدّة مائة سنة، ثم ملك مفخراس أربع سنين، ثم ملك أماناقوناس تسع سنين، ثم اسحوريس ست سنين، ثم فسيناخس تسع سنين، ثم فسوسانس خمسا وثلاثين سنة، ثم ملك سسوناخوسيس إحدى وعشرين سنة، ثم ملك اساليون خمس عشرة سنة، ثم طافالونيس ثلاث عشرة سنة، ثم

ذكر مدينة الإسكندرية

نطافاناسطلس خمسا وعشرين سنة، ثم أساراثون تسع سنين، ثم ملك فسامرس عشر سنين، ثم أوفاينواس أربعا وأربعين سنة، ثم ساياقور اثنتي عشرة سنة، ثم سخس الحبشي اثنتي عشرة سنة ثم طراحوش الحبشي عشرين سنة، ثم أمراس الحبشي اثنتي عشرة سنة، ثم استطافينياس سبع سنين، ثم باخفاسوس ست سنين، ثم ياخو ثمان سنين، ثم فساماملطيقوش أربعا وأربعين سنة، ثم بحنوقا ست سنين، ثم فسامرتاس سبع عشرة سنة، ثم وافرس خمسا وعشرين سنة، ثم أماسلس اثنتين وأربعين سنة. وملك بعد هؤلاء: مصر خمسة ملوك من ملوك بابل، وهم: أمرطيوش ست سنين، ثم ما فرطاس سبع سنين، ثم أوخرس اثنتي عشرة سنة، ثم فساموت مدّة سنتين، ثم ملك موتاطوس سبع سنين. ثم ملك ثلاثة ملوك من أثور، وهم: الجرامقة الذين ملكوا الموصل والجزيرة، وهم: نافاطانبوش ثلاث عشرة سنة، ثم طوس سبع سنين، ثم نافاطانيناس ثمان عشرة سنة. ثم انتقل ملك مصر منهم: إلى الإسكندر بن فيليبس اليوناني، وهذه أسماء رومية، ولعلها أو بعضها متداخل فيما تقدّم ذكره ممن ملك بعد دلوكة. وبين بخت نصر، وبين الطوفان ألفا سنة وثلثمائة وست وخمسون سنة وأشهر، ويجتمع من حساب ما وقع في التوراة، أنّ بين الطوفان، وبين خراب بيت المقدس على يد بخت نصر من السنين، ألفا وستمائة وأربعا وثمانين سنة، وهذا خلاف ما نقله المسعوديّ، والله تعالى أعلم بالصواب. ذكر مدينة الإسكندرية هذه المدينة من أعظم مدائن الدنيا وأقدمها وضعا، وقد بنيت غير مرّة، فأوّل ما بنيت بعد كون الطوفان في زمان مصرايم بن بيصر بن نوح، وكان يقال لها: إذ ذاك مدينة رقودة، ثم بنيت بعد ذلك مرّتين. فلما كان في أيام اليونانيين، جدّدها الإسكندر بن فيليبس المقدونيّ الذي قهر دارا، وملك ممالك الفرس بعد تخريب بخت نصر مدينة منف، بمائة وعشرين سنة شمسية، فعرفت به، ومنذ جدّدها الإسكندر المذكور انتقل تخت المملكة من مدينة منف إلى الإسكندرية، فصارت دار المملكة بديار مصر، ولم تزل على ذلك حتى ظهر دين الإسلام، وقدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين، وفتح الحصن والإسكندرية، وصارت ديار مصر أرض إسلام، فانتقل تخت الملك حينئذ من الإسكندرية إلى فسطاط مصر، وصار الفسطاط من بعد الإسكندرية دار مملكة ديار مصر. وسأقص عليك من أخبار الإسكندرية ما وصل إليه علمي، إن شاء الله تعالى.

ذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: أنّ الكوكة، وهي أمّة في غابر الدهر من أهل أيلة ملكوا الأرض وقسموها على ثلاثين كورة، وأربعة أقسام، كل قسم عمل، وبنوا في كل عمل، مدينة بها ملك يجلس على منبر من ذهب، وله بربا، وهي بيت الحكمة، وله هيكل على اسم كوكب فيه أصنام من ذهب، وجعلوا الإسكندرية واسمها رقودة، خمس عشرة كورة، وجعلوا فيها كبار الكهنة، ونصبوا في هياكلها من أصنام الذهب أكثر مما نصبوا في غيرها، فكان ما بها مائتا صنم من ذهب، وقسموا الصعيد ثمانين كورة على أربعة أقسام وثلاثين مدينة فيها جميع العجائب. وذكر بطليموس في كتاب الأقاليم ووصف الجزائر والبحار والمدن: أنّ مدينة الإسكندرية لبرج الأسد ودليلها المرّيخ، وساعاتها أربع عشرة ساعة، وطولها ستون درجة ونصف درجة يكون ذلك أربع ساعات مستوية وثلث عشر ساعة. وقال ابن وصيف شاه في ذكر أخبار مصرايم بن بيصر بن نوح، وعلمهم أيضا عمل الطلسمات، وكانت تخرج من البحر دواب تفسد زرعهم وجنانهم وبنيانهم، فعملوا لها الطلسمات، فغابت، ولم تعد وبنوا على غير البحر مدنا منها مدينة رقودة مكان الإسكندرية، وجعلوا في وسطها قبة على أساطين من نحاس مذهب، والقبة مذهبة ونصبوا فوقها، مرآة من أخلاط شتى، قطرها خمسة أشبار وارتفاع القبة مائة ذراع، فكانوا إذا قصدهم قاصد من الأمم التي حولهم، فإن كان مما يهمهم، وكان من البحر عملوا لتلك المرآة عملا، فألقت شعاعها على ذلك الشيء فأحرقته، فلم تزل إلى أن غلب البحر عليها. ويقال: إنّ الإسكندر إنما عمل المنارة تشبيها بها، وكان عليها أيضا مرآة يرى فيها من يقصدهم من بلاد الروم، فاحتال عليهم بعض ملوكهم، ووجه إليها من أزالها، وكانت من زجاج مدبر. قال: وذكر بعض القبط أنّ رجلا من بني الكهنة الذين قتلهم، ايساد ملك مصر سار إلى ملك كان في بلاد الإفرنجة، فذكر له كثرة كنوز مصر وعجائبها، وضمن له أن يوصله إلى ملكها وأموالها ويرفع عنه أذى طلسماتها حتى يبلغ جميع ما يريد، فلما اتصل صا بن مرقونس أخي ايساد، وهو ملك مصر يومئذ، أنّ صاحب بلاد الإفرنجة يتجهز إليه عمد إلى جبل بين البحر الملح وشرقيّ النيل، فأصعد إليه أكثر كنوزه، وبنى عليها قبابا مصفحة بالرصاص، وظهر صاحب بلاد الإفرنجة في ألف مركب، فكان لا يمرّ بشيء من أعلام مصر ومنازلها إلا هدمه، وكسر الأصنام بمعونة ذلك الكاهن، حتى أتى الإسكندرية الأولى فعاث فيها، وفيما حولها وهدم أكثر معالمها إلى أن دخل النيل من ناحية رشيد، وصعد إلى منف، وأهل النواحي يحاربونه، وهو ينهب ما مرّ به، ويقتل ما قدر عليه إلى أن طلب المدائن الداخلة لأخذ كنوزها، فوجدها ممتنعة بالطلسمات الشداد، والمياه العميقة والخنادق

والشداخات، فأقام عليها أياما كثيرة، فلم يمكنه الوصول إليها وغضب على الكاهن، فقتله من أجل أنّ جماعة من أصحابه هلكوا، فاجتمع أهل النواحي، وقتلوا من أصحابه الذين بالمراكب خلقا، وأحرقوا بعض المراكب، وقام أهل مصر بسحرهم وتهاويلهم فأتت رياح أغرقت أكثر مراكبه حتى نجا بنفسه، وقد خرج فعاد الناس إلى منازلهم وقراهم، ورجع الملك صا إلى مدينة منف، وأقام بها، وتجهز لغزو بلدان الروم، وبعث إليها وخرّب الجزائر فهابته الملوك، وتتبع الكهنة فقتل منهم خلقا كثيرا، وأقام ملكا سبعا وستين سنة، ومات وعمره مائة وسبعون سنة، ودفن بمنف في وسطها تحت الأرض، ومعه الأموال والجواهر والتماثيل والطلسمات، كما فعل آباؤه منها: أربعة آلاف مثقال ذهبا على صور حيوانات برّية وبحرية، وتمثال عقاب من حجر أخضر، وتمثال تنين من ذهب، وزبروا عليها اسمه، وغلبته الملوك وسيرته، وعهد إلى ابنه تدراس. قال: ولما جلست جورياق ابنة طوطيس، أوّل فراعنة مصر، وهو فرعون إبراهيم الخليل عليه السلام على سرير الملك بعد قتلها لأبيها، وعدت الناس بالإحسان، وأخذت في جمع الأموال، فاجتمع لها ما لم يجتمع لملك، وقدّمت الكهنة وأهل الحكمة، ورؤساء السحرة، ورفعت أقدارهم، وأمرت بتجديد الهياكل وصار من لم يرضها إلى مدينة أتريب، وملكوا عليها رجلا من ولد أتريب يقال له: إيداخس، فعقد على رأسه تاجا، واجتمع إليه جماعة، فأنفذت إليه جيشا فهزموه، وقتلوا أكثر أصحابه فهرب إلى الشام، وبها الكنعانيون فاستغاث بملكهم، فجهزه بجيش عظيم ففتحت جورياق الخزائن وفرّقت الأموال وقوّت السحر، فعملوا أعمالهم وتقدّم إيداخس بجيوش الكنعانيين، وعليها قائد منهم يقال له: جيرون. فلما نزلوا أرض مصر بعثت ظئرا لها من عقلاء النساء، إلى القائد سرّا عن إيداخس تعرّفه رغبتها في تزوّجه، وأنها لا تختار أحدا من أهل بيتها، وأنه إن قتل إيداخس تزوّجت به وسلمته ملك مصر، ففرح بذلك، وسمّ إيداخس بسمّ أنفذته إليه فقتله، وبعثت إليه بعد قتل إيداخس أنه لا يجوز أن أتزوّجك حتى يظهر قومك في بلدي، وتبني لي مدينة عجيبة، وكان افتخارهم حينئذ بالبنيان وإقامة الأعلام، وعمل العجائب، وقالت: انتقل من موضعك إلى غربيّ بلدي فثم آثار لنا كثيرة، فاقتف تلك الأعمال وابن عليها، ففعل، وبنى مدينة في صحراء الغرب، يقال لها: قيدومة، وأجرى إليها من النيل نهرا وغرس حولها غروسا كثيرة، وأقام بها منارا عاليا فوقه منظر مصفح بالذهب والفضة والزجاج والرخام، وهي تمدّه بالأموال وتكاتب صاحبه عنه وتهاديه، وهو لا يعلم. فلما فرغ منها قالت له: إنّ لنا مدينة أخرى حصينة كانت لأوائلنا، وقد خرّبت منها أمكنة، وتشعث حصنها، فامض إليها واعمل في إصلاحها حتى أنتقل أنا إلى هذه المدينة

التي بنيتها، فإذا فرغت من إصلاح تلك المدينة، فانفذ إليّ جيشك حتى أصير إليك وأبعد عن مدينتي وأهل بيتي فإني أكره أن تدخل عليّ بالقرب منهم، فمضى، وجدّ في عمل الإسكندرية الثانية. وأهل التاريخ يذكرون أنّ الذي قصدها الوليد بن دومع العمليقي ثاني الفراعنة، وكان سبب قصدها أنه كان به علة فوجه إلى الأقطار ليحمل إليه من مائها حتى يرى ما يلائمه، فوجه إلى مملكة مصر غلاما، فوقف على كثرة خيراتها، وحمل إليه من مائها وألطافها، وعاد إليه فعرّفه حال مصر، فسار إليها في جيش كثيف، وكاتب الملكة يخطبها لنفسه، فأجابته وشرطت عليه أن يبني لها مدينة يظهر فيها أيده وقوّته، ويجعلها لها مهرا، فأجابها وشق مصر إلى ناحية الغرب، فبعثت إليه أصناف الرياحين والفواكه وخلقت وجوه الدواب، فمضى إلى الإسكندرية، وقد خربت بعد خروج العادية منها فنقل ما كان من حجارتها ومعالمها وعمدها، ووضع أساس مدينة عظيمة، وبعث إليها مائة ألف فاعل، وأقام في بنائها مدّة، وأنفق جميع ما كان معه من المال وكلما بنى شيئا خرج من البحر دواب فتقلعه، فإذا أصبح لم يجد من البناء شيئا، فاهتم لذلك، وكانت جورياق قد أنفذت إليه ألف رأس من المعز اللبون يستعمل ألبانها في مطبخه، وكانت مع راع تثق به يرعاها هنالك، فكان إذا أراد أن ينصرف عند المساء خرجت إليه من البحر جارية حسناء، فتتوق نفسه إليها، فإذا كلمها شرطت عليه أن تصارعه، فإن صرعها، كانت له، وإن صرعته، أخذت من المعز رأسين، فكانت طول الأيام تصرعه، وتأخذ الغنم، حتى أخذت أكثر من نصفها وتغير باقيها لشغله بحبّ الجارية عن رعيها ونحل جسمه، فمرّ به صاحبه وسأله عن حاله، فأخبره الخبر خوفا من سطوته، فلبس ثياب الراعي، وتولى رعي الغنم يومه إلى المساء، فخرجت إليه الجارية وشرطت عليه الشرط، فأجابها وصارعها فصرعها وشدّها فقالت: إن كان ولا بدّ من أخذي، فسلمني لصاحبي الأول، فإنه ألطف بي وقد عذبته مدّة، فردّها إليه، وقال له: سلها عن هذا البنيان الذي نبنيه، ويزال من ليلته من يفعل ذلك؟ وهل في ثباته من حيلة؟ فسألها الراعي عن ذلك، فقالت: إنّ دواب البحر التي تنزع بنيانكم، فقال: فهل من حيلة؟ قالت: نعم، تعملون توابيت من زجاج كثيف بأغطية، وتجعلون فيها أقواما يحسنون التصوير، ويكون معهم صحف وأنقاش، وزاد يكفيهم أياما وتحمل التوابيت في المراكب بعد ما تشدّ بالحبال فإذا توسطوا الماء أمروا المصوّرين أن يصوّروا جميع ما يمرّ بهم، ثم ترفع تلك التوابيت فإذا وقفتم على تلك الصور فاعملوا لها أشباها من صفر أو حجارة أو رصاص وانصبوها قدّام البنيان الذي تبنونه من جانب البحر، فإنّ تلك الدواب إذا خرجت، ورأت صورها هربت، ولم تعد، فعرّف الراعي صاحبه ذلك ففعله، وتمّ البنيان وبنى المدينة. وقال قوم: إنّ صاحب البناء والغنم هو جيرون، كان قصدهم قبل الوليد، وإنما أتاهم الوليد بعد جورياق وقهرهم وملك مصر.

وذكروا: أنّ الأموال التي كانت مع جيرون نفدت كلها في تلك المدينة، ولم تتم، فأمر الراعي أن يخبر الجارية فقالت: إنّ في المدينة التي خربت ملعبا مستديرا حوله سبعة عمد على رؤوسها تماثيل من صفر قيام، فقرّب لكل تمثال منها ثورا سمينا، ولطخ العمود الذي تحته من دم الثور، وبخره بشعر من ذنبه، وشيء من نحاتة قرونه وأظلافه، وقل له: هذا قربانك، فأطلق لي ما عندك، ثم قس من كل عمود إلى الجهة التي يتوجه إليها وجه التمثال، مائة ذراع، واحفر عند امتلاء القمر، واستقامة زحل، فإنك تنتهي بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة، فلطخها بمرارة الثور، وأقلها فإنك تنزل إلى سرب طوله، خمسون ذراعا في آخره خزانة مقفلة، ومفتاح القفل تحت عتبة الباب، فخذه ولطخ الباب ببقية المرارة ودم الثور وبخره بنحاتة قرونه وأظلافه وشعر ذنبه، وأدخل فإنه يستقبلك صنم في عنقه لوح من صفر مكتوب فيه جميع ما في الخزانة فخذ ما شئت ولا تعترض ميتا تجده ولا ما عليه، وكذلك كل عمود وتمثاله فإنك تجد مثل تلك الخزانة، وهذه نواويس سبعة من الملوك وكنوزهم، فلما سمع ذلك سرّ به، وامتثله فوجد ما لا يدرك وصفه، ووجد من العجائب شيئا كثيرا، فتمّ بناء المدينة وبلغ ذلك جورياق، فساءها وكانت قد أرادت إتعابه وهلاكه بالحيلة. ويقال: إنه وجد فيما وجد درجا من ذهب مختوما فيه مكحلة زبرجد فيها ذرور أخضر، ومعها عرق أحمر من اكتحل من ذلك الذرور بالعرق، وكان أشيب عاد شابا واسودّ شعره، وأضاء بصره حتى يدرك الروحانيين، ووجد تمثالا من ذهب إذ ظهر غيمت السماء وأمطرت، وتمثال غراب من حجر إذا سئل عن شيء صوّت وأجاب عنه، ووجد في كل خزانة عشر أعجوبات. فلما فرغ من بناء المدينة وجه إلى جورياق يحثها على القدوم إليه، فحملت إليه فرشا فاخرا ليبسطه في المجلس الذي يجلس فيه، وقالت له: اقسم جيشك أثلاثا، فانفذ إليّ ثلثه حتى إذا بلغت ثلث الطريق، فانفذ الثلث الآخر، فإذا جزت نصف الطريق، فانفذ الثلث الباقي ليكونوا من ورائي لئلا يراني أحد إذا دخلت عليك، ولا يكون عندك إلا صبية تثق بهم يخدمونك، فإني أوافيك في جوار تكفيك الخدمة، ولا أحتشمهنّ، ففعل. وأقامت تحمل الجهاز إليه والأموال حتى علم بمسيرها فوجه إليها ثلث جيشه، فعملت لهم الأطعمة والأشربة المسمومة، وأنزلهم جواريها وحشمها، وقدّموا إليهم الأطعمة والأشربة، والطيب وأنواع اللهو، فلم يصبح منهم أحد حيا، وسارت فلقيها الثلث الآخر، ففعلت به مثل ذلك وهي توجه إليه أنها أنفذت جيشه إلى قصرها ومملكتها يحفظونهما، وسارت حتى دخلت عليه هي وظئرها وجواريها، فنفخت ظئرها في وجهه نفخة بهت إليها، ورشت عليه ما كان معها، فارتعدت أعضاؤه وقال: من ظنّ أنه يغلب النساء، فقد كذبته

نفسه وغلبته النساء، ثم إنها فصدت عروقه وقالت: دماء الملوك شفاء، وأخذت رأسه ووجهت به إلى قصرها، ونصبته عليه وحوّلت تلك الأموال إلى مدينة منف، وبنت منارا بالإسكندرية، وزبرت عليه اسمها واسمه، وما فعلت به وتاريخ الوقت. فلما بلغ خبرها الملوك هابوها وأطاعوها وهادوها، وعملت بمصر عجائب كثيرة، وبنت على حدّ مصر من ناحية النوبة حصنا، وقنطرة يجري ماء النيل من تحتها، واعتلت فقلدت ابنة عمها زلفى بنت مأمون وماتت. وقال ابن خرداذبه: إنّ الإسكندرية بنيت في ثلثمائة سنة، وأنّ أهلها مكثوا سبعين سنة لا يمشون فيها بالنهار إلا بخرق سود مخافة على أبصارهم من شدّة بياض حيطانها ومنارتها العجيبة على سرطان زجاج في البحر، وإنه كان فيها سوى أهلها ستمائة ألف من اليهود خول لأهلها. وقال ابن وصيف شاه: وكانت العمارة ممتدّة في رمال رشيد والإسكندرية إلى برقة فكان الرجل يسير في أرض مصر، فلا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات، ولا يسير إلا في ظلال تستره من حرّ الشمس، وعمل الملك صا بن قبطيم في تلك الصحاري قصورا، وغرس فيها غروسا وساق إليها من النيل أنهارا فكان يسلك من الجانب الغربيّ إلى حد الغرب في عمارة متصلة، فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم في تلك الصحارى، وخربت تلك المنازل وباد أهلها، ولا يزال من دخل تلك الصحارى يحكي ما رآه فيها من الآثار والعجائب. وقال ابن عبد الحكم: وكان الذي بنى الإسكندرية، وأسس بناءها: ذو القرنين الروميّ، واسمه: الإسكندر، وبه سميت: الإسكندرية، وهو أوّل من عمل لوشى، وكان أبوه أوّل القياصرة، وقيل: إنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبا بن مرزبه اليونانيّ من ولد يونان بن يافث بن نوح صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان من أهل لوبية كورة من كور مصر الغربية، وقال ابن لهيعة: وأهلها روم ويقال: هو رجل من حمير. قال تبع: قد كان ذو القرنين جدّي مسلما ... ملكا تدين له الملوك بمحشد بلغ المغارب والمشارق يبتغي ... أسباب علم من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد ويروى: قد كان ذو القرنين قبلي مسلما، وحدّثني عثمان بن صالح، حدّثني عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن سعد بن مسعود التجيبيّ، عن شيخين من قومه قالا: كنا بالإسكندرية فاستطلنا يومنا، فقلنا: لو انطلقنا إلى عقبة بن عامر نتحدّث عنده، فانطلقنا إليه فوجدناه جالسا في داره، فأخبرنا: إنا استطلنا يومنا، فقال: وأنا مثل ذلك! إنما خرجت حين استطلته، ثم أقبل علينا فقال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أخدمه، فإذا

أنا برجال من أهل الكتاب معهم مصاحف أو كتب فقالوا: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرفت إليه، فأخبرته بمكانهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لي ولهم يسألوني عما لا أدري إنما أنا عبد لا أعلم إلا ما علمني ربي» . ثم قال: «أبلغني وضوءا» فتوضأ، ثم قام إلى مسجد بيته، فركع ركعتين، فلم ينصرف حتى عرفت السرور في وجهه والبشر، ثم انصرف فقال: أدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي، فأدخله قال: فأدخلتهم فلما وقفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «إن شئتم أخبرتكم عما أردتم أن تسألوني قبل أن تتكلموا وإن أحببتم تكلمتم، وأخبرتكم» ، قالوا: بلى، أخبرنا قبل أن نتكلم، قال: «أحببتم أن تسألوني عن ذي القرنين، وسأخبركم عما تجدونه مكتوبا عندكم إن أول أمره إنه غلام من الروم أعطي ملكا، فسار حتى أتى ساحل البحر من أرض مصر، فابتنى عنده مدينة يقال لها: الإسكندرية، فلما فرغ من بنائها أتاه ملك، فعرج به حتى استقله فرفعه فقال: انظر ما تحتك، فقال: أرى مدينتي، وأرى مدائن معها، ثم عرج به، فقال: انظر! فقال: قد اختلطت مدينتي مع المدائن، فلا أعرفها، ثم زاد، فقال: انظر! فقال: أرى مدينتي وحدها ولا أرى غيرها، قال له الملك: إنما تلك الأرض كلها والذي ترى يحيط بها هو البحر، وإنما أراد بك أن يريك الأرض، وقد جعلك لك سلطانا فيها سوف يعلم الجاهل، ويثبت العالم، فسار حتى بلغ مغرب الشمس، ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس، ثم أتى السدّين وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء فبنى السدّ، ثم جاز يأجوج ومأجوج فوجد قوما وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم قطعهم فوجد أمّه قصارا يقاتلون القوم الذين وجوههم وجوه الكلاب، ووجد أمّة من الغرانيق يقاتلون القوم القصار، ثم مضى فوجد أمّة من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة، ثم أفضى إلى البحر المدير بالأرض فقالوا: نشهد أن أمره هكذا كما ذكرت وإنا نجده هكذا في كتابنا» «1» . وعن خالد بن معدان الكلاعيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب» . قال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول: يا ذا القرنين، فقال: اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة. وقال قتادة، عن الحسن: كان ذو القرنين ملكا وكان رجلا صالحا، قال: وإنما سمي ذا القرنين لأنّ عليا رضي الله عنه سئل عن ذي القرنين، فقال: لم يكن ملكا ولا نبيا ولكن كان عبدا صالحا أحب الله فأحبه ونصح لله فنصحه الله بعثه الله عز وجل إلى قومه فضربوه على قرنيه فمات، فسمي ذا القرنين، ويقال: إنما سمي ذا القرنين لأنه

جاوز قرني الشمس من المغرب والمشرق. ويقال: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان له غديرتان من شعر رأسه يطأ فيهما، وقيل: بل كان له قرنان صغيران تواريهما العمامة. وعن ابن شهاب: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مشرقها. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كان أوّل شأن الإسكندرية أنّ فرعون اتخذ بها مصانع ومجالس، وكان أوّل من عمرها وبنى فيها، فلم تزل على بنائه ومصانعه، ثم تداولها ملوك مصر بعده فبنت دلوكة بنت زبا منارة الإسكندرية ومنارة بوقير بعد فرعون، فلما ظهر سليمان بن داود عليهما السلام على الأرض اتخذ بها مجلسا، وبنى فيها مسجدا، ثم إن ذا القرنين ملكها، فهدم ما كان من بناء الملوك والفراعنة، وغيرهم إلا بناء سليمان لم يهدمه، ولم يغيره، وأصلح ما كان رث منه، وأقرّ المنارة على حالها، ثم بنى الإسكندرية من أوّلها بناء يشبه بعضه بعضا ثم تداولها الملوك بعده من الروم وغيرهم، ليس من ملك إلا يكون له بناء يضعه بالإسكندرية يعرف به، وينسب إليه. قال ابن لهيعة: وبلغني أنه وجد بالإسكندرية حجر مكتوب فيه: أنا شدّاد بن عاد، وأنا الذي نصب العماد، وحيّد الأحياد، وشدّ بذراعه الواد بنيتهنّ إذ لا شيب ولا موت، وإذ الحجارة في اللين مثل الطين، وفي رواية: وكنزت في البحر كنزا على اثني عشر ذراعا لن يخرجه أحد حتى تخرجه أمّة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن لهيعة: والأحياد كالمغار، وقال أبو علي القاليّ في كتاب الأمالي، وأنشد ابن الأعرابيّ وغيره: تسألني عن السنين كم لي ... فقلت عمر الحسل أو عمر نوح زمن الفطحل ... لو أنني أوتيت علم الحكل وعشت دهرا زمن الفطحل ... لكنت رهن هرم أو قتل وفي رواية: علم سليمان كلام النمل ... أيام كان الصخر مثل الوحل وقال آخر: زمن الفحطل إذ السلام رطاب، وعندهم أنّ زمن الفحطل: زمان كان بعد الطوفان عظم فيه الخصب، وحسنت أحوال أهله، وقال بعضهم: زمن الفحطل زمن لم يخلف بعده، وقوله: علم الحكل، الحكل ما لا يسمع صوته من الحيوان، وهذا الرجز لرؤبة بن العجاج بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كثيف بن حيي بن بكر بن ربيعة بن سعد بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وذلك أنه ورد ماء لعكل، فرأى فتاة فأعجبته، فخطبها، فقالت:

أرى سنا، فهل من مال؟ قال: نعم قطعة من إبل، قالت: فهل من ورق؟ قال: لا، قالت: يا آل عكل أكبروا أمعارا. فقال رؤبة: لما ازدرت قدري وقلت إبلي ... تألفت واتصلت بعكل حظي وهزت رأسها تستبلي ... تسألني عن السنين كم لي فقلت لو عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل والصخر مبتلّ كطين الوحل وفي رواية: لو أنني أوتيت علم الحكل ... علم سليمان كلام النمل وسألت أبا بكر بن دريد عن زمن الفطحل، فقال: تزعم العرب أنه زمان كانت فيه الحجارة رطبة. قال ابن عبد الحكم، ويقال: إنّ الذي بنى الإسكندرية شدّاد بن عاد، والله أعلم. وكانت الإسكندرية ثلاث مدن بعضها إلى جنب بعض منيعة، وهي موضع المنارة وما والاها، والإسكندرية وهي موضع قصبة الإسكندرية اليوم ونفيطة، وكان على كل واحدة منهنّ سور وسور من خلف ذلك على الثلاث مدن يحيط بهنّ جميعا، وقيل: كان على الإسكندرية سبعة حصون منيعة وسبعة خنادق، قال: وإنّ ذا القرنين لما بنى الإسكندرية رخمها بالرخام الأبيض جدرها وأرضها، فكان لباسهم فيها السواد والحمرة، فمن قبل ذلك لبس الرهبان السواد من نصوع بياض الرخام، ولم يكونوا يسرجون فيها بالليل من بياض الرخام، وإذا كان القمر أدخل الرجل الذي يخيط بالليل في ضوء القمر مع بياض الرخام الخيط في ثقب الإبرة. ويقال: بنيت الإسكندرية في ثلثمائة سنة، وسكنت ثلثمائة سنة، وخربت ثلثمائة سنة، ولقد مكثت سبعين سنة ما يدخلها أحد إلا وعلى بصره خرقة سوداء من بياض جصها وبلاطها، ولقد مكثت سبعين سنة ما يستسرج فيها، قال: وكانت الإسكندرية بيضاء تضيء بالليل والنهار، وكانوا إذا غربت الشمس لم يخرج أحد من بيته، ومن خرج اختطف وكان منهم راع يرعى على شاطىء البحر، فكان يخرج من البحر شيء فيأخذ من غنمه، فكمن له الراعي في موضع حتى خرج، فإذا جارية قد نفشت شعرها ومانعته عن نفسها فقوي عليها فذهب بها إلى منزله، فآنست به، فرأتهم لا يخرجون بعد غروب الشمس، فسألتهم فقالوا: من خرج منا اختطف، فهيأت لهم الطلسمات، فكانت أوّل من وضع الطلسمات بمصر في الإسكندرية، وقيل: كان الرخام قد سخر لهم حتى يكون من بكرة النهار كالعجين فإذا انتصف النهار اشتدّ.

وقال المسعوديّ: ذكر جماعة من أهل العلم أنّ الإسكندر المقدونيّ، لما استقام ملكه في بلاده وسار حتى يختار أرضا صحيحة الهواء والتربة والماء، حتى انتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب فيها أثر بنيان وعمدا كثيرة من الرخام وفي وسطها عمود عظيم عليه مكتوب بالقلم المسند، وهو القلم الأوّل من أقلام حمير وملوك عاد، أنا شدّاد بن عاد شدّدت بساعدي الواد، وقطعت عظيم العماد وشوامخ الجبال، والأطواد، وبنيت إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأردت أن أبني هنا مدينة كإرم وأنقل إليها كل ذي قدم وكرم من جميع العشائر والأمم، وذلك إذ لا خوف ولا هرم ولا اهتمام ولا سقم، فأصابني ما أعجلني، وعما أردت قطعني، ومع وقوعه طال همي وشجني، وقلّ نومي وسكني، فارتحلت بالأمس عن داري، لا لقهر ملك جبار ولا لخوف جيش جرّار، ولا عن رغبة ولا عن صغار، ولكن لتمام المقدار، وانقطاع الآثار، وسلطان العزيز الجبار، فمن رأى أثري، وعرف خبري وطول عمري ونفاد صبري وشدّة حذري، فلا يغترّ بالدنيا بعدي، فإنها غرّارة غدّارة، تأخذ منه ما تعطي، وتسترجع منه ما تؤتي، وكلام كثير يرى فناء الدنيا ويمنع من الاغترار بها والسكون إليها. فنزل الإسكندر مفكرا يتدبر هذا الكلام، ويعتبره ثم بعث يحشر الصناع من البلاد، وخط الأساس، وجعل طولها وعرضها أميالا وجمع إليها العمد والرخام، وأتته المراكب، فيها أنواع الرخام، وأنواع المرمر والأحجار من جزيرة صقلية، وبلاد إفريقية وأقريطش، وأقاصي بحر الروم مما يلي مصبه بحر أقيانوس، وحمل إليه أيضا من جزيرة رودس، وأمر الفعلة والصناع أن يدوروا بما رسم لهم من أساس سور المدينة، وجعل على كل قطعة من الأرض خشبة قائمة، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالا منوطة بعضها ببعض، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرخام، وكان أمام مضربه وعلق على العمود جرسا عظيما مصوّتا، وأمر الناس والقوّام على البنائين والفعلة والصناع أنهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس، وتحرّكت الجبال، وقد علق على كل قطعة منها جرسا صغيرا حرصوا على أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطاره، وأحب الإسكندر أن يجعل ذلك في وقت يختاره وطالع سعد، فحرّك الإسكندر رأسه، وأخذته نعسة في حال ارتقابه بالوقت المحمود، فجاء غراب، فجلس على حبل الجرس الكبير الذي فوق العمود فحرّكه، وخرج صوت الجرس وتحرّكت الجبال، وخفق ما عليها من الأجراس الصغار، وكان ذلك معمولا بحركات هندسية وحيل حكمية، فلما رأى الصناع تلك الجبال قد تحرّكت، وسمعوا الأصوات وضعوا الأساس دفعة واحدة وارتفع الضجيج بالتحميد والتقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته، وسأل عن الخبر فأخبر بذلك فأعجب! وقال: أردت أمرا وأراد الله غيره، ويأبى الله إلا ما يريد، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها، وتداول الملوك إياها وإنّ الإسكندر لما أحكم بناءها، وثبت أساسها وجنّ الليل عليهم خرجت دواب البحر، فأتت

على جميع البنيان، فقال الإسكندر حين أصبح: هذا بدّ والخراب في عمارتها، وتحقق مراد الباري سبحانه من زوالها، فتطير من فعل الدواب فلم تزل البناة في كل يوم تبني وتحكم، ويوكل من يمنع الدواب إذا خرجت من البحر، فيصبحون وقد خرجت وخرّبت البنيان، فقلق الإسكندر لذلك وراعه ما رأى من البحر! فأقبل يفكر ما الذي يصنع وأيّ حيلة تنفع في ذلك حتى تدفع الأذية عن المدينة، فسنحت له الحيلة عند خلوّه بنفسه وإيراده الأمور وإصدارها، فلما أصبح دعا الصناع فاتخذوا له تابوتا من الخشب طوله عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع، وجعلت فيه جامات من الزجاج قد أحاط بها خشب التابوت باستدارتها، وقد أمسك ذلك بالقار والزفت وغيره من الأطلية الدافعة للماء حذرا من دخول الماء إلى التابوت، وقد جعل فيها مواضع للحبال، ودخل الإسكندر في التابوت ورجلان من كتابه ممن له علم بإتقان التصوير، وأمر أن تسدّ عليه الأبواب وأن تطلى بما ذكرنا من الأطلية، وأمر بمركبين عظيمين فأخرجا إلى لجة البحر، وعلق في التابوت من أسفله مثقلات الرصاص والحديد والحجارة لتهوي بالتابوت سفلا، وجعل التابوت بين المركبين وألصقهما بخشب بينهما لئلا يفترقا، وشدّ حبال التابوت إلى المركبين وطوّل حباله، فغاص التابوت حتى انتهى إلى قرار البحر، فنظروا إلى دواب البحر وحيوانه من ذلك الزجاج الشفاف في صفاء ماء البحر فإذا بصور الشياطين على مثال الناس، وفيهم من له مثل رؤوس السباع، وفي أيديهم الفوس مع بعضهم، وفي أيدي بعضهم المناشير والمقامع يحكون بذلك صناع المدينة والفعلة، وما في أيديهم من آلات البناء، فأثبت الإسكندر ومن معه تلك الصور، وحكوها بالتصوير في القراطيس على اختلاف أنواعها وتشوّه خلقها، وقدودها ثم حرّك الحبال، فلما أحس بذلك من في المركبين جذبوا الحبال، وأخرجوا التابوت، فخرج الإسكندر، وأمر صناع الحديد والنحاس والحجارة، فعملوا تماثيل تلك الدواب على ما صوّر، فلما فرغوا منها وضعت على العمد بشاطئ البحر، ثم أمرهم فبنوا، فلما جنّ الليل ظهرت الدواب والآفات من البحر، فنظرت إلى صورها على العمد مقابلة إلى البحر، فرجعت ولم تعد بعد ذلك، فبنيت الإسكندرية وشيدت، وأمر الإسكندر أن يكتب على أبوابها: هذه الإسكندرية أردت أن أبنيها على الفلاح والنجاح واليمن والسعادة والسرور والثبات في الدهور، ولم يرد الباري عز وجلّ ملك السماوات والأرض، ومفني الأمم أن يثبتها كذلك، فبنيتها، وأحكمت بنيانها وشيدت سورها، وآتاني الله عز وجل من كل شيء علما وحكمة، وسهل لي وجوه الأسباب، فلم يتعذر عليّ في العالم شيء مما أردته، ولا امتنع عني شيء مما طلبته لطفا من الله عز وجل، وصنعا لي وصلاحا لعباده من أهل عصري، والحمد لله رب العالمين لا إله إلا هو رب كل شيء، ورسم بعد هذه الكتابة كلّ ما يحدث ببلده من الأحداث بعده في مستقبل الزمان من الآفات والعمران والخراب، وما يؤول أمرها إليه إلى وقت دثور العالم.

ذكر الإسكندر

وكان بناء الإسكندرية طبقات، وتحتها قناطر مقنطرة عليها دور المدينة يسر تحتها الفارس، وبيده رمح لا تضيق به حتى يدور جميع تلك الآزاج والقناطر التي تحت المدينة، وقد عمل لتلك العقود والآزاج مخاريق ومتنفسات للضياء ومنافذ للهواء، وقد كانت الإسكندرية تضيء بالليل بغير مصباح لشدّة بياض الرخام والمرمر، وكانت أسواقها وشوارعها وأزقتها مقنطرة كلها لا يصيب أهلها شيء من المطر، وكان عليها سبعة أسوار من أنواع الحجارة المختلفة الألوان بينها خنادق، وبين كل خندق وسور فصول، وربما تعلق في المدينة شقاق الحرير الأخضر لاختطاف بياض الرخام أبصار الناس لشدّة بياضه. فلما أحكم بناءها، وسكنها أهلها كانت آفات البحر، وسكانه على ما زعم الإخباريون من المصريين والإسكندريين تختطف بالليل أهل المدينة، فيصبحون، وقد فقد منهم العديد الكثير، فلما علم بذلك الإسكندر اتخذ الطلسمات على أعمدة هنالك تدعى: المسال، وهي باقية إلى هذه الغاية كل واحد من هذه الأعمدة على هيئة السروة وطول كل واحد منها ثمانون ذراعا على عمد من نحاس، وجعل تحتها صورا وأشكالا وكتابة. قال مؤلفه رحمه الله فيما تقدّم من حكاية ابن وصيف شاه: ما يتبين به وهم ما نقله المسعوديّ، من أن الإسكندر هو الذي عمل التابوت حتى صوّر أشكال حيوانات البحر، فإنّ ابن وصيف شاه أعرف بأخبار أهل مصر، وكذلك ما ذكره المسعوديّ من أنّ المسال، من عمل الإسكندر وهم أيضا، بل هذه المسال هي المناير التي كان ينوّر عليها والأعلام التي كانت ملوك مصر القدماء تنصبها، وهي من أعمال ملوك القبط الأول، ومن أعمال الفراعنة الذين ملكوا مصر من قديم الزمان. ذكر الإسكندر هو الإسكندر بن فيليبس بن آمنته (ويقال: آمنتاس) بن هركلش (ويقال: هرقول) الجبار، الذي هو ابن الإسكندر الأعظم، ولي أبوه فيليبس الملك في بلد مجدونية (ويقال: مقدونية) خمسا وعشرين سنة، استنبط فيها ضروبا من المكر وابتدع أنواعا من الشرّ تقدّم فيها كل من ولي الملك بها قبله. وكان في أوّل أمره قد جعله أخوه الإسكندر رهينة عند أمير من الروم، فأقام عنده ثلاث سنين، وكان فيلسوفا فتعلم عنده ضروب الفلسفة، فلما قتل أخوه الإسكندر، اجتمع الناس على تولية فيليبس فولوه أميرا، فقام في السلطان مقاما عظيما، فحارب الروم وغلب عليهم ومضى إلى البرية، فقتل بها من الناس آلافا، وغلب على مدائن فاجتمع له جمع لا يقاد، وجيش لا يرام، فأذل جميع الروم وذهبت عينه في بعض الحروب، وغمر البلدان والمدائن عمارة وهدما وسبيا وانتهابا، ثم حشد جميع أهل بلد الروم وعبأ عسكرا فيه: مائتا

ألف راجل، وخمسون ألف فارس، سوى من كان فيه من أصحابه المقدونيين، ومن غيرهم من أجناس اليونانيين يريد غزو الفرس. فبينما هو يجمع هذا الجمع نظر في تزويج ابنة له يقال لها: قلوبطرة من ختنه أخي امرأته، وخال ولده الإسكندر، وجلس قبل العرس بيومين يحدّث قوّاده، إذ سئل عن أيّ الموتات أحق أن يتمناها الإنسان؟ فقال: الواجب على الرجل القويّ الظافر المجرّب يريد نفسه أن لا يتمنى الموت إلا بالسيف فجأة لئلا يعذبه المرض، وتحل قوّته الأوجاع، فعجل له ما تمنى في ذلك العرس، وذلك أنه حضر لعبا كان على الخيل بين ولده الإسكندر، وختنه الإسكندر، فبينما هو في ذلك غافله أحد أحداث الروم بطعنة، فقتله بها ثائرا بأبيه عندما تمكن منه منفردا، فولي الإسكندر، الملك بعد أبيه فيليبس، وكان أوّل شيء أظهر فيه قوّته وعزمه في بلد الروم، وكانوا قد خرجوا عن طاعة المقدونيين إلى طاعة الفرس، فدرسهم واستأصلهم، وخرّب مدنهم وجعلهم سبيا مبيعا، وجعل سائر بلادهم وكورهم تؤدّي إليه الخراج، ثم قتل جميع أختانه، وأكثر أقاربه في وقت تعبيته لمحاربة الفرس، وكان جميع عسكره اثنين وعشرين ألف فارس، وستين ألف راجل، وكانت مراكبه خمسمائة مركب وثمانين مركبا، فحرّك بهذه العدّة كبار ملوك الدنيا، وسار إلى الإسكندرية ودخل بيت المقدس، وقرّب فيه لله تعالى قربانا وخرج يريد محاربة دارا، وكان في عسكر دارا ملك الفرس في أوّل ملاقاته إياه، ستمائة ألف مقاتل، فغلبه الإسكندر، وكانت إذ ذاك على الفرس وقعة شنعاء ونكبة دهياء قتل فيها منهم عدد لا يحصى، ولم يقتل من عسكر الإسكندر إلا مائة وعشرون فارسا وتسعون راجلا. ومضى الإسكندر ففتح مدائن وانتهب ما فيها فبلغه أنّ دارا قد عبّأ وأقبل نحوه بجمع عظيم، فخاف أن يلحقه في ضيق الجبال التي كان فيها، فقطع نحوا من مائة ميل في سرعة عجيبة، حتى بلغ مدينة طرسوس، وكاد يهلك لفرط البرد حتى انقبض عصبه، فلاقاه دارا في ثلثمائة ألف راجل، ومائة ألف فارس، فلما التقى الجمعان كاد الإسكندر يفرّ لكثرة ما كان فيه دارا، وقلة ما كان فيه، ووقع القتال بينهما وباشر القوّاد الحرب بأنفسهم، وتنازل الأبطال واختلف الطعن والضرب، وضاق الفضاء بأهله، فباشر كلا الملكين الحرب بأنفسهما، دارا والإسكندر، وكان الإسكندر أكمل أهل زمانه فروسية وأشجعهم وأقواهم جسما فباشرا حتى جرحا جميعا، وتمادى الحرب بينهما حتى انهزم دارا، ونزلت الوقيعة بالفرس، فقتل من راجلهم نحو من ثمانين ألفا، ومن فرسانهم نحو من عشرة آلاف، وأسر منهم نحو من أربعين ألفا، ولم يسقط من عسكر الإسكندر إلا مائتان وثلاثون راجلا، ومائة وخمسون فارسا، فانتهب الإسكندر جميع عسكر الفرس، وأصاب فيه من الذهب والفضة والأمتعة الشريفة ما لا يحصى كثرة، وأصيب من جملة الأسارى: أم دارا وزوجته وأخته وابنتاه، فطلب دارا من الإسكندر فديتهنّ بنصف ملكه فلم يجبه إلى ذلك، فعبى دارا مرّة ثالثة،

وحشد الفرس عن آخرهم، واستجاش بكل من قدر عليه من الأمم فبعث الإسكندر قائدا في أسطول للغارة على بلد الفرس، ومضى الإسكندر إلى الشام، فتلقاه هنالك ملوك الدنيا خاضعين له، فعفا عن بعض، ونفى بعضا، وقتل بعضا، ومضى إلى إحراز طرسوس، وكانت مدينة زاهرة قديمة عظيمة الشأن، وأهلها قد وثقوا بعون أهل إفريقية لهم لصهر كان بينهم، فحاصرهم فيها حتى افتتحها، ومضى منها إلى رودس وإلى مصر، فانتهب الجميع، وبنى مدينة الإسكندرية بأرض مصر، وقال هروشيوش: وله في بنيانها أخبار طويلة وسياسات كرهنا تطويل كتابنا بها. ثم إنّ دارا لمّا يئس من مصالحته أقبل في أربعمائة ألف راجل ومائة ألف فارس، فتلقى الإسكندر مقبلا من ناحية مصر في أعمال مدينة طرسوس، فكانت بينهما معركة عجيبة شنيعة اجتهادا من الروم على ما كانوا خبروه، واعتادوا من الغلبة والظفر، واجتهادا من الفرس بالتوطين على الهلاك وتفضيل الموت على الرق والعبودية، فقلما يحكى عن معركة كان القتل فيها أكثر منه في تلك المعركة، فلما نظر دارا إلى أصحابه يتغلب عليهم ويهزمون عزم على استعجال الموت في تلك الحرب بالمباشرة لها بنفسه، والصبر حتى يقتل معترضا للقتل، فلطف به بعض قوّاده حتى سلوه، فانهزم وذهبت قوّة الفرس وعزهم، وذل بعدها سلطانهم، وصار بلد المشرق كله في طاعة الروم، وانقطع ملك الفرس مدّة أربعمائة عام وخمسين عاما، واشتغل الإسكندر بتحصيل ما أصاب في عسكر الفرس والنظر فيه وقسمته على عسكره ثلاثين يوما، ثم مضى إلى مدينة الفرس التي كانت رأس مملكتهم، والتي اجتمعت فيها أموال الدنيا ونعمها، فهدمها ونهب ما فيها، فبلغه عن دارا أنه صار عند قوم مكبلا في كبول من فضة، فتهيأ وخرج في ستة آلاف، فوجده بالطريق مجروحا جراحات كثيرة، فلم يلبث أن هلك منها، فأظهر الإسكندر الحزن عليه والمرثية له، وأمر بدفنه في مقابر الملوك من أهل مملكته، وكان في أمر هذه الثلاث معارك عبرة لمن اعتبر، ووعظ لمن اتعظ، إذ قتل فيها من أهل مملكة واحدة نحو من خمسة عشر ألف ألف بين راكب وراجل من أهل بلد آسيا، وهي العراق، وقد كان قتل من أهل تلك المملكة قبل ذلك بنحو من ستين سنة نحو تسعة عشر ألف ألف إلى ألف ألف ما بين راكب وراجل من أهل بلد العراق والشام وطرسوس ومصر وجزيرة رودس، وجميع البلدان الذين درسهم الإسكندر أجمعين، وكان سلطان الدنيا مقسوما بين قوّاده بعد ما زلزل بدواهيه العظيمة العالم كله، وعمّ أهله بعضا بالمنايا الفظيعة، وبعضا بالتوطين عليها، والمباشرة لأهوالها، وأوصى عند وفاته أن يلقب كل قائم في اليونانيين بعده: ببطليموس تهويلا للأعداء لأنّ معناه الحربيّ، فهذا هو الصحيح من خبر الإسكندر فلا يلتفت إلى ما خالفه. ويقال: إنه كان أشقر أزرق، وهو أوّل من سمر بالليل، وكان له قوم يضحكونه ويحكون له الخرافات يريد بذلك حفظ ملكه، وحراسة نفسه لا اللذة، وبه اقتدى الملوك في

ذكر تاريخ الإسكندر

السمر، واتخاذ المضحكين والمخرّفين. ذكر تاريخ الإسكندر قال أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني: تاريخ الإسكندر اليونانيّ، الذي يلقبه بعضهم بذي القرنين على سني الروم، وعليه عمل أكثر الأمم لما خرج من بلاد يونان، وهو ابن ست وعشرين سنة لقتال دارا ملك الفرس. ولما ورد بيت المقدس أمر اليهود، بترك تاريخ داود وموسى عليهما السلام، والتحوّل إلى تاريخه، فأجابوه وانتقلوا إلى تاريخه، واستعملوه فيما يحتاجون إليه بعد أن عملوه من السنة السادسة والعشرين لميلاده، وهو أوّل وقت تحرّكه، ليتموا ألف سنة من لدن، موسى عليه السلام، وبقوا معتصمين بهذا التاريخ، ومستعملين له وعليه عمل اليونانيين، وكانوا قبله يؤخرون بخروج يونان بن نورس عن بابل إلى المغرب. وأوّل تاريخ الإسكندر يوم الاثنين أوّل تشرين الأوّل، وموافقه اليوم الرابع من بابه، ومبادي الأيام عندهم من وقت طلوع الشمس إلى وقت غروبها، وإلى أن يصبح الصباح وتطلع الشمس، فقد كمل يوم بليلته، ومبادي الشهور ترجع إلى عدد واحد له نظام يجري عليه دائما. وعدد شهور سنتهم: اثنا عشر شهرا يخالف بعضها بعضا في العدد، وهذه أسماؤها، وعدد أيام كل شهر منها: (تشرين الأوّل) أحد وثلاثون يوما، (تشرين الثاني) ثلاثون يوما، (كانون الأول) أحد وثلاثون يوما، (كانون الثاني) أحد وثلاثون يوما، (شباط) ثمانية وعشرون يوما وربع، (آذار) أحد وثلاثون يوما، (نيسان) ثلاثون يوما، (أيار) أحد وثلاثون يوما، (حزيران) ثلاثون يوما، (تموز) أحد وثلاثون يوما، (آب) أحد وثلاثون يوما، (أيلول) ثلاثون يوما. فسبعة أشهر كل شهر منها أحد وثلاثون يوما، وأربعة أشهر كل شهر ثلاثون يوما، وشهر واحد ثمانية وعشرون يوما وربع يوم، وذلك أنهم جعلوا شباط كل ثلاث سنين متواليات ثمانية وعشرين يوما، وجعلوه في السنة الرابعة تسعة وعشرين يوما. فيكون عدد أيام سنتهم، ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم، ويجعلون السنة الرابعة ثلثمائة وستة وستين يوما، ويسمونها السنة الكبيسة، وإنما زادوا الربع في كل سنة ليقرب عدد أيام سنتهم من عدد أيام السنة الشمسية، حتى تبقى أمورهم على نظام واحد، فتكون شهور البرد، وشهور الحرّ، وأوان الزرع ولقاح الشجر وجني الثمر في وقت معلوم من السنة لا يتغير وقت شيء من ذلك البتة، وكان ابتداء الكبيس في السنة الثالثة من ملك الإسكندر. وبين يوم الاثنين أوّل يوم من تاريخ الإسكندر هذا، وبين يوم الخميس أوّل شهر

المحرّم من السنة التي هاجر نبينا، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة تسعمائة سنة وثلاث وثلاثون سنة، ومائة وخمسة وخمسون يوما. وبينه وبين يوم الجمعة أوّل يوم من الطوفان: ألفا سنة وسبعمائة سنة، واثنتان وتسعون سنة، ومائة وثلاثة وتسعون يوما. وبين ابتداء ملك بخت نصر، وبين أوّل تاريخ الإسكندر، أربعمائة وخمس وثلاثون سنة شمسية ومائتا يوم وثمانية وثلاثون يوما. وقال أبو بكر أحمد بن عليّ بن قيس بن وحشية «1» في كتاب الفلاحة النبطية الشهر المسمى تموز، فيما ذكر القبط بحسب ما وجدت في كتبهم اسم رجل كانت له قصة عجيبة طويلة، وهو أنه دعا ملكا إلى عبادة الكواكب السبعة، والبروج الاثني عشر، وأن الملك قتله وعاش بعد القتلة، ثم قتله قتلات بعد ذلك قبيحة، وفي كلها يعيش، ثم مات في آخرها. وإنّ شهورهم هذه، كل واحد منها، اسم رجل فاضل عالم كان في القديم من النبط الذين كانوا، مكان إقليم بابل قبل الكسدانيين، وذلك أن تموز هذا ليس من الكسدانيين ولا الكنعانيين ولا العبرانيين ولا الجرامقة، وإنما هو من الحزناسيين الأوّلين ولذلك يقولون في كل شهورهم: إنها أسماء رجال مضوا، وإنّ تشرين الأوّل، وتشرين الثاني، اسما أخوين كانا فاضلين في العلوم، وكذلك كان كانون الأوّل وكانون الثاني، وإنّ شباط اسم رجل نكح ألف امرأة أبكارا كلهنّ، ولم ينسل نسلا، ولا ولد ولدا، فجعلوه في آخر الشهور لنقصانه عن النسل، فصار النقصان من العدد فيه، والصابئون من البابليين والحزناسيين جميعا إلى وقتنا هذا ينوحون ويبكون على تموز في الشهر المسمى تموز في عيد لهم فيه منسوب إلى تموز، ويعدّدون تعديدا عظيما، وخاصة النساء، فإنهنّ يقمن ههنا جميعا، وينحن ويبكين على تموز، ويهذين في أمره هذيانا طويلا، وليس عندهم علم من أمره أكثر من أن يقولوا، هكذا وجدنا أسلافنا ينوّحون ويبكون على تموز في هذا العيد المنسوب إلى تموز، والنصارى تذكر أنهم يعملونه لرجل يسمى جورجيس أحد حواريّ عيسى عليه السلام، دعا ملكا من الملوك إلى دين النصرانية، فعذبه الملك بتلك الفتلات، فلا أدري وقع إلى النصارى قصة تموز، فأبدلوا مكانها اسم جورجيس، وخالفوا الصابئين في الوقت، لأن الصابئين يعملون ذكران تموز، أوّل يوم من شهر تموز، والنصارى يعملون لجورجيس في آخر نيسان. ويقال: إنّ بعض ملوك رومية زاد في شهور الروم، كانون الثاني وشباط، فإنّ شهورهم كانت إلى زمانه عشرة أشهر، كل شهر ستة وثلاثون يوما.

ذكر الفرق بين الإسكندر وذي القرنين وأنهما رجلان

ويقال: إنّ فيوفيوس، أوّل من ملك مدينة رومية، وأنه أقام ملكا ثلاثا وأربعين سنة، وزاد كانون الثاني وشباط في شهور الروم بحكم أنها كانت إلى ذلك الزمان عشرة أشهر، كل شهر ستة وثلاثون يوما، وكان سبب نقص شباط يومين، وقوع غارة في أيام فيطن رئيس جيش الروم خلف، وحروب بينه وبين فريوريوس آلت إلى نصرة فيطن، وأخذه مملكة الروم، وأمر بفريوريوس، فنودي عليه (اعيا مرديا) وتفسيره: اخرج يا شباط، ثم غرق في البحر وسموا شهر شباط فريوريوس ليكون تذكار سوء له، فإنّ هذا الفعل كان في يومي التاسع والعشرين والثلاثين من شباط فنقصوهما من شباط، وزادوهما في تموز وكانون الثاني، فجعلوا كل شهر منهما أحدا وثلاثين يوما، ثم بعد زمان جاء ملك آخر فقال: لا يحسن أن يكون شباط في وسط السنة، فنقله إلى آخرها، ولم يزل الروم من ذلك الوقت يتطيرون من شباط. ذكر الفرق بين الإسكندر وذي القرنين وأنهما رجلان اعلم أن التحقيق عند علماء الأخبار، أنّ ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز، فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً [الكهف/ 83] الآيات، عربيّ، قد كثر ذكره في أشعار العرب، وأنّ اسمه: الصعب بن ذي مراثد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عامر الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. وأنه ملك من ملوك حمير، وهم العرب العاربة، ويقال لهم أيضا: العرب العرباء، وكان ذو القرنين تبعا متوّجا، ولما ولي الملك تجبر، ثم تواضع لله، واجتمع بالخضر. وقد غلط من ظن أنّ الإسكندر بن فيليبس هو ذو القرنين الذي بنى السدّ، فإنّ لفظة ذو عربية، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن وذاك روميّ يونانيّ. قال أبو جعفر الطبريّ: وكان الخضر في أيام أفريدون الملك بن الضحاك في قول عامة علماء أهل الكتاب الأول، وقبل موسى بن عمران عليه السلام، وقيل: إنه كان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر الذي كان على أيام إبراهيم الخليل عليه السلام. وأنّ الخضر بلغ مع ذي القرنين أيام مسيره في البلاد نهر الحياة، فشرب من مائه، وهو لا يعلم به ذو القرنين ولا من معه، فخلد، وهو حيّ عندهم إلى الآن، وقال آخرون: إنّ ذا القرنين الذي كان على عهد إبراهيم الخليل عليه السلام هو: أفريدون بن الضحاك، وعلى مقدّمته كان الخضر. وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان في معرفة ملوك الزمان، بعد ما

ذكر نسب ذي القرنين الذي ذكرناه، وكان تبعا متوّجا لما ولي الملك تجبر، ثم تواضع، واجتمع بالخضر ببيت المقدس، وسار معه مشارق الأرض ومغاربها، وأوتي من كل شيء سببا، كما أخبر الله تعالى وبنى السدّ على يأجوج ومأجوج ومات بالعراق. وأما الإسكندر فإنه يونانيّ، ويعرف بالإسكندر المجدوني (ويقال: المقدوني) . سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذي القرنين ممن كان؟ فقال: من حمير، وهو الصعب بن ذي مراثد الذي مكنه الله تعالى في الأرض وأتاه من كل شيء سببا، فبلغ قرني الشمس، ورأس الأرض وبنى السدّ على يأجوج ومأجوج؛ قيل له: فالإسكندر؟ قال: كان رجلا صالحا روميا حكيما بنى على البحر في إفريقية منارا وأخذ أرض رومة وأتى بحر الغرب، وأكثر عمل الآثار في الغرب من المصانع والمدن. وسئل كعب الأحبار عن ذي القرنين؟ فقال: الصحيح عندنا من أحبارنا وأسلافنا أنه من حمير، وأنه الصعب بن ذي مراثد، والإسكندر كان رجلا من يونان من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليهما، ورجال الإسكندر أدركوا المسيح ابن مريم منهم: جالينوس، وأرسطاطاليس. وقال الهمداني في كتاب الأنساب: وولد كهلان بن سبأ زيدا، فولد زيد عربيا ومالكا وغالبا وعميكرب. وقال الهيثم: عميكرب بن سبأ أخو حمير وكهلان، فولد عميكرب أبا مالك فدرحا ومهيليل ابني عميكرب، وولد غالب جنادة بن غالب، وقد ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبأ، وولد عريب عمرا، فولد عمر وزيدا، والهميسع ويكنى أبا الصعب، وهو ذو القرنين الأوّل، وهو المساح والبناء، وفيه يقول النعمان بن بشير: فمن ذا يعاددنا من الناس معشرا ... كراما فذو القرنين منا وحاتم وفيه يقول الحارثي: سمّوا لنا واحدا منكم فنعرفه ... في الجاهلية لاسم الملك محتملا كالتبعين وذي القرنين يقبله ... أهل الحجى فأحق القول ما قبلا وفيه يقول ابن أبي ذئب الخزاعي: ومنا الذي بالخافقين تغرّبا ... وأصعد في كل البلاد وصوّبا فقد نال قرن الشمس شرقا ومغربا ... وفي ردم يأجوج بنى ثم نصبا وذلك ذو القرنين تفخر حمير ... بعسكر قيل ليس يحصى فيحسبا قال الهمداني: وعلماء همدان تقول: ذو القرنين: الصعب بن مالك بن الحارث

ذكر من ولي الملك بالإسكندرية بعد الإسكندر

الأعلى بن ربيعة بن الجبار بن مالك. وفي ذي القرنين أقاويل كثيرة، وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب تفسير القرآن الكريم، ومما يعترض به على من قال: إنّ الإسكندر هو ذو القرنين، أن معلم الإسكندر كان أرسطاطاليس بأمره يأتمر، وبنهيه ينتهي، واعتقاد أرسطاطاليس مشهور، وذو القرنين نبيّ، فكيف يقتدى نبيّ بأمر كافر في هذا إشكال؟. وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: إنّ ذا القرنين كانت أمه آدمية، وأبوه من الملائكة، ولذلك لما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا ينادي رجلا يا ذا القرنين، قال: أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟! وروى المختار ابن أبي عبيد: أنّ عليا رضي الله عنه كان إذا ذكر ذا القرنين قال: ذلك الملك الأمرط، والله أعلم. ذكر من ولي الملك بالإسكندرية بعد الإسكندر قال في كتاب هروشيوش: إنّ الإسكندر ملك الدنيا اثنتي عشرة سنة، فكانت الدنيا مأسورة بين يديه، طول ولايته، فلما مات، تركها بين يدي قوّاده المستخلفين تحته، فكان مثله معهم كمثل الأسد الذي ألقى صيده بين يدي أشباله، فتقاتلت عليه تلك الأشبال بعده، وذلك أنهم اقتسموا البلاد، فصارت مصر وإفريقية كلها وبلاد الغرب إلى قائده، وصاحب خيله الذي ولي مكانه، وهو بطليموس بن لاوي، ويقال: بطليموس بن ارنبا المنطقي، وذكر بقية ممالك القوّاد من أقصى بلاد الهند إلى آخر بلاد المغرب، ثم قال: فثارت بينهم حروب وسببها رسالة كانت خرجت من عند الإسكندر بأن يرجع جميع الغرباء المنفيين إلى بلادهم، ويسقط عنهم الرق والعبودية، فاستثقل ذلك ملك بلاد الروم إذ خاف أن يكون الغرباء والمنفيون إذا رجعوا إلى بلدانهم ومواطنهم يطلبون النقمة لأنفسهم، فكان هذا الأمر، سبب خروجهم عن طاعة سلطان المجدونيين. وقال غيره: وبطليموس هذا سبى بني معدّ بعد ما غزا فلسطين، ثم أطلقهم وحباهم بآنية جوهر وضعت في بيت المقدس، وملك عشرين سنة، وقال غيره: ولي أربعين سنة، وقيل: ثمانيا وثلاثين سنة، وقيل: إن اسمه فيلدلفوس، وهو محب الأب وكان مجدونيا، وهو الذي غنم اليهود، ونقل كثيرا منهم إلى مصر، وفي زمانه كان زينون الفيلسوف، وكان هذا الملك فيلسوفا، وأقبل برديقا أحد قوّاد الإسكندر إلى مصر، بعسكر عظيم وجيش عرمرم، فتفرّق سلطان مجدونية على قسمين، ثم إنّ بطليموس جمع عساكر مصر وإفريقية، ولاقى برديقا، فهزمه وأصاب عسكره، ثم قتله وأصاب ما كان معه، وحارب عدّة من قوّاد الإسكندر. وقال غيره: وكان بطليموس هذا حكيما عالما شابا مدبرا، وهو أوّل من اقتنى البزاة،

ولعب بها وضراها، وكان من قبله من الملوك لا يلعب بها. ولمّا مات، ملك الإسكندرية بعده بطليموس الثاني، واسمه: فيلوذوفوس، ويقال له: محب الأخ، وكانت مدّة ملكه ثمانيا وثلاثين سنة، وهو الذي أطلق اليهود الذين كانوا مأسورين بأرض مصر، وردّ الأواني المقدّسه على عزيز النبيّ، وهو الذي تخير السبعين مترجما من علماء اليهود الذين ترجموا كتب التوراة والأنبياء من اللسان العبرانيّ إلى اللسان الروميّ اليونانيّ واللاطينيّ، وكان فيلسوفا منجما، ومات فولي بعده ابنه بطليموس أوراخيطس المعروف بمحب الأب ستا وعشرين سنة. ثم ولي بعده أخوه بطليموس فيلوبطور سبع عشرة سنة، وهو الذي قتل من اليهود نحوا من ستين ألفا، وتغلب عليهم، ويقال: إنه صاحب علم الفلك والنجوم وكتاب المجسطي. ثم ملك بعده ابنه بطليموس أسفاميش، محب الأم أربعا وعشرين سنة. ثم ولي بعده ابنه بطليموس فلوناطرة، وهو الصانع، خمسا وثلاثين سنة، وهو الذي غلب ملك الشام، وحمل اليهود أنواع البلاء والعذاب. ثم ملك الإسكندرية بعده ابنه بطليموس أبرياطيش، وهو الإسكندرانيّ، تسعا وعشرين سنة، وفي زمانه غلب الرومانيون على الأندلس واحترقت مدينة قرطاجنة بالنار، وأقامت النار فيها سبعة عشر يوما فهدمت، وحوّلت أساساتها حتى صار رخام أسوارها غبارا، وذلك إلى تسعمائة سنة من وقت بنيانها، وبيع جميع أهلها رقيقا إلا قليلا من خيارهم وأشرافهم، وكان المتولي لتخريبها قوّاد رومة. ثم ولي بعده ابنه بطليموس شوطار الذي يقال له: الحديد، سبع عشرة سنة، وكان قبيح السيرة، تزوّج بأخته، ثم فارقها على أقبح حال مما تزوّجها عليه في خبر له، ثم تزوّج ربيبته التي كانت بنت أخته، ثم زوّجها من ابنه المولود من أخته، وكثرت فواحشه حتى نفاه أهل الإسكندرية فمات منفيا. وولي أخوه بطليموس الإسكندر، وهو الجوّال، عشر سنين. ثم ولي بعده ابنه بطليموس ديوشيش، ثمانيا وثلاثين سنة، وفي زمانه غلب قائد الرومانيين على بيت المقدس، وجعل اليهود يؤدّون إليه الجزية. وظهرت في ذلك الزمان علامات في السماء مهولة، منها: أنه ظهر في السماء بناحية مطلع الشمس من مدينة رومة مما يلي ناحية الجنوب، نار ملتهبة عظيمة، وكسر قوم خبزا في صنع لهم، فانفجر من الخبز دم سائل، ونزل بمدينة رومة مدّة سبعة أيام متوالية برد كان

يوجد في داخله حجارة وشقاف، وانفتحت الأرض، فصار فيها غور عظيم، وخرج منه لهب اشتعل حتى ظنوه بلغ السماء، ونظر أهل رومة يومئذ إلى عمود من الأرض إلى السماء لونه لون الذهب، وكان من عظمه تكاد الشمس أن تغيب منه. ثم ولي الإسكندرية بعده كلوباطرة، سنتين، فدامت مملكة الإسكندرية، وهي الدولة المجدونية إلى أوّل ملوك قيصر الذي هو أوّل ملوك الرومانيين، مائتين وإحدى وثمانين سنة، فبعث قيصر قائدين بعساكر كثيرة لفتح مصر، فتزوّج أحدهما كلوباطرة ابنة ديوشيش الملقب بطليموس، وقتل القائد الآخر، وخالف قيصر، فسار إليه قيصر بنفسه، وجرت أمور آلت إلى فتح الإسكندرية بعد حروب، واستولى قيصر على مملكة مصر، وقتل كلوباطرة وولديها، وقتل القائد الذي تزوّجها، ويقال: بل سمت نفسها عندما تيقنت غلبة قيصر لها، ويقال: إنها كانت ذات حزم ومعرفة وتدبير، وإنها حفرت خليج الإسكندرية وأجرت فيه الماء من مصر، وبنت بالإسكندرية أبنية عجيبة منها هيكل زحل، وعملت فيه صنما من نحاس أسود، وكان أهل مصر والإسكندرية يعملون له عيدا في اليوم الثاني والعشرين من هتور، ويحتج إليه اليونانيون من سائر الأقطار، ويذبحون له ذبائح لا تحصى كثرة، فلما ظهرت ملة النصارى في الإسكندرية جعلوا هيكل زحل كنيسة ولم تزل إلى أن هدمها جيوش المعز لدين الله عند قدومهم من المغرب إلى أرض مصر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة من سني الهجرة النبوية. ويقال: إن كلوباطرة هي التي بنت حائط العجوز بمصر، ويشبه أن يكون هذا غير صحيح، ويقال: إنها بنت مقياسا بمدينة إخميم، ومقياسا آخر بأنصنا، ويقال: كانت مدّة ملكها ثلاثين سنة، وليس بصحيح، وبموت كلوباطرة انقطعت مملكة مصر. وصارت تحت يد ملوك الروم من أهل مدينة رومة، ثم تحت يد ملوك الروم من أهل قسطنطينة، فلم تزل تحت أيديهم يولون فيها من قبلهم من شاءوا، فيصير إلى الإسكندرية، ويقيم بها إلى أن قدم عمرو بن العاص بالمسلمين، وفتح الله على يده الحصن والإسكندرية، وجميع أرض مصر. ويقال: معنى كلوباطرة: الباكية، فكان جميع المدّة التي ما بين ذهاب دولة البطالسة من الإسكندرية، وقدوم عمرو بن العاص إلى مصر، وفتحها ستمائة سنة وبعضا وسبعين سنة، وفي خلال هذه المدّة قوي جانب ملوك الفرس على القياصرة، وملكوا منهم بلاد الشام، واستولوا على أرض مصر والإسكندرية في أيام كسرى أبرويز بن هرمز، فبعث قائدا إلى مصر، وملك الإسكندرية، وقتل الروم وأقاموا بالإسكندرية مدّة عشر سنين، فلما استبدّ هرقل بمملكة الروم، وخرج من القسطنطينية لجمع الأموال من سائر مملكته أخذ حماه ودمشق وسار إلى بيت المقدس، وقد خرّبها الفرس، فأمر ببنائها وسار منها إلى أرض مصر

ذكر منارة الإسكندرية

ودخل الإسكندرية، وقتل من بها من الفرس، وأقام بها بطريقا، ثم عاد إلى قسطنطينية فاستمرّت مصر بعده تحت إبالة الروم حتى ملكها المسلمون. ويقال: إن كل بناء بمصر من آجر فهو للفرس، وما فيها من بناء حجر فهو للروم، والله أعلم. ذكر منارة الإسكندرية قال المسعوديّ: فأما منارة الإسكندرية، فذهب الأكثرون من المصريين والإسكندرانيين ممن عنى بأخبار بلدهم أن الإسكندر بن فيليبس المقدوني هو الذي بناها ومنهم من رأى أن دلوكة الملكة ابنتها وجعلتها مرقبا لمن يرد من العدوّ إلى بلدهم، ومن الناس من رأى، أن العاشر من فراعنة مصر، هو الذي بناها، ومنهم من رأى أن الذي بنى مدينة رومة هو الذي بنى مدينة الإسكندرية ومنارتها، والأهرام بمصر، وإنما أضيفت الإسكندرية إلى الإسكندر لشهرته باستيلائه على الأكثر من ممالك العالم فشهرت به، وذكروا في ذلك أخبارا كثيرة يستدلون بها على ما قالوا، والإسكندر لم يطرقه في هذا البحر عدوّ ولا هاب ملكا يرد إليه في بلده، ويغزوه في داره فيكون هو الذي جعلها مرقبا وإنّ الذي بناها جعلها على كرسيّ من الزجاج على هيئة السرطان في جوف البحر، وعلى طرف اللسان الذي هو داخل في البحر من البرّ، وجعل على أعلاها تماثيل من النحاس وغيره، منها: تمثال قد أشار بسبابته من يده اليمنى نحو الشمس، أينما كانت من الفلك، وإذا علت في الفلك فأصبعه يشير بها نحوها، فإذا انخفضت صارت يده سفلا، تدور معها حيث دارت، ومنها: تمثال يشير بيده إلى البحر، إذا صار العدوّ منه على نحو من ليلة فإذا دنا وجاوز أن يرى بالبصر لقرب المسافة، سمع لذلك التمثال صوت هائل يسمع من مسيرة ميلين أو ثلاثة، فيعلم أهل المدينة أن العدوّ قد دنا منهم فيرمقونه بأبصارهم، ومنها تمثال كلما مضى من الليل أو النهار ساعة سمعوا له صوتا بخلاف ما صوّت في الساعة التي قبلها وصوته مطرب. وقد كان ملك الروم، في ملك الوليد بن عبد الملك بن مروان، أنفذ خادما من خواص خدمه، ذا رأي ودهاء، فجاء مستأمنا إلى بعض الثغور، فورد بآلة حسنة ومعه جماعة، فجاء إلى الوليد، فأخبره: أنه من خواص الملك، وأنه أراد قتله لموجدة وحال بلغته عنه لم يكن لها أصل، وأنه استوحش، ورغب في الإسلام، فأسلم على يد الوليد وتقرّب من قلبه، وتنصح إليه في دفائن استخرجها له من بلاد دمشق وغيرها من الشام بكتب كانت معه، فيها صفات تلك الدفائن، فلما صارت إلى الوليد تلك الأموال والجواهر، شرهت نفسه واستحكم طمعه. فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين! إنّ ها هنا أموالا وجواهر ودفائن للملوك، فسأله

الوليد عن الخبر؟ فقال: تحت منارة الإسكندرية أموال ملوك الأرض، وذلك أن الإسكندر احتوى على الأموال والجواهر التي كانت لشدّاد بن عاد وملوك مصر، فبنى لها أزجا تحت الأرض، وقنطر لها الأقباء والقناطر والسراديب، وأودعها تلك الذخائر من العين والورق والجوهر، وبنى فوق ذلك هذه المنارة، وكان طولها في الهواء ألف ذراع، والمرآة في علوه، والدبادبة جلوس حوله، فإذا نظروا إلى العدوّ في البحر في ضوء تلك المرآة صوّتوا لمن قرب منهم، ونشروا أعلاما فيراها من بعد منهم، فتحذر الناس وتنذر البلد، فلا يكون للعدوّ عليهم سبيل. فبعث الوليد مع الخادم، بجيش وأناس من ثقاته وخواصه، فهدم نصف المنارة من أعلاها، وأزيلت المرآة فضج الناس من هذا! وعلموا أنها مكيدة وحيلة في أمرها، فلما علم الخادم استفاضة ذلك وأنه سينم إلى الوليد وأنه قد بلغ ما يحتاج إليه هرب في الليل في مركب كان قد أعدّه، وواطأ على ذلك، فتمت حيلته وبقيت المنارة على ما ذكرنا إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة. وكان حوالي منارة الإسكندرية في البحر مغاص يخرج منه قطع من الجوهر يتخذ منه فصوص للخواتم أنواعا من الجواهر، يقال: إنّ ذلك من آلات اتخذها الإسكندر للشراب، فلما مات كسرتها أمه، ورمت بها في تلك المواضع من البحر، ومنهم من رأى أن الإسكندر اتخذ ذلك النوع من الجواهر، وغرّقه حول المنارة لكيلا تخلو من الناس حولها، لأنّ من شأن الجوهر أن يكون مطلوبا أبدا في كل عصر، ويقال: إنّ هذه المنارة إنما جعلت المرآة في أعلاها، لأنّ ملوك الروم بعد الإسكندر كانت تحارب ملوك مصر والإسكندرية، فجعل من كان بالإسكندرية من الملوك تلك المرآة تري من يرد في البحر من عدوّهم، وكان من يدخلها يتيه فيها إلا أن يكون عارفا بالدخول والخروج فيها لكثرة بيوتها وطبقاتها وممرّاتها. وقد ذكر: أن المغاربة حين وافوا في خلافة المقتدر في جيش صاحب المغرب دخل جماعة منهم على خيولهم إلى المنارة، فتاهوا فيها، وفي طرق تؤول إلى مهاو تهوي إلى السرطان الزجاج، وفيه مخارق إلى البحر، فتهوّرت دوابهم، وفقد منهم عدد كثير وعلم بهم بعد ذلك، وقيل: إن تهوّرهم كان على كرسيّ لها قدّامها، وفي المنارة مسجد في هذا الوقت يرابط فيه مطوّعة المصريين وغيرهم. وفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة، سقط رأس المنارة من زلزلة، ويقال: إنّ منارة الإسكندرية، كانت مبنية بحجارة مهندمة مضببة برصاص على قناطر من الزجاج، وتلك القناطر على ظهر سرطان، وكان في المنارة، ثلثمائة بيت بعضها فوق بعض، وكانت الدابة تصعد بحملها إلى سائر البيوت من داخل المنارة، ولهذه البيوتات طاقات تشرف على البحر، وكانت على الجانب الشرقيّ من المنارة كتابة عرّبت، فإذا هي: بنت هذه المنظرة قريبا بنت مرينوس اليونانية لرصد الكواكب.

وقال ابن وصيف شاه: وقد ذكر أخبار مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح وبنوا على البحر مدنا منها رقودة مكان الإسكندرية، وجعلوا في وسطها قبة على أساطين من نحاس مذهب والقبة مذهبة، ونصبوا فوقها منارة عليها مرآة من أخلاط شتى، قطرها خمسة أشبار، وكان ارتفاع القبة مائة ذراع، فكانوا إذا قصدهم قاصد من الأمم التي حولهم، فإن كان مما يهمهم أو من البحر عملوا لتلك المرآة عملا، فألقت شعاعها على ذلك الشيء فأحرقته، فلم تزل على حالها إلى أن غلب عليها البحر فنسفها. ويقال: إنّ الإسكندر إنما عمل المنار الذي كان شبيها بها وقد كان أيضا عليه مرآة يرى فيها من يقصدهم من بلاد الروم، فاحتال بعض ملوك الروم، فوجه من أزالها، وكانت من زجاج مدبر. وقال المسعوديّ في كتاب التنبيه والأشراف: وقد كان وزير المتوكل، عبيد الله بن يحيى بن خاقان لمّا أمر المستعين بنفيه إلى برقة في سنة ثمان وأربعين ومائتين، صار إلى الإسكندرية من بلاد مصر، فرأى حمرة الشمس على علو المنارة التي بها وقت المغيب، فقدّر أنه يلزمه أن لا يفطر إذا كان صائما أو تغرب الشمس من جميع أقطار الأرض، فأمر إنسانا أن يصعد إلى أعلى منارة الإسكندرية ومعه حجر، وأن يتأمّل موضع سقوط الشمس، فإذا أسقطت رمي بالحجر، ففعل الرجل ذلك، فوصل الحجر إلى قرار الأرض بعد صلاة العشاء الآخرة، فجعل إفطاره بعد صلاة العشاء الآخرة، فيما بعد إذا صام في مثل ذلك الوقت، وكان عند رجوعه إلى سرّ من رأى لا يفطر إلا بعد عشاء الآخرة، وعنده أنّ هذا فرضه، وأنّ الوقتين متساويان، وهذا غاية ما يكون من قلة العلم بالفرض ومجاري الشرق والغرب. وقد ذكر أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية: أن بناحية المشرق الصيفيّ جبلا شامخا جدّا، وأنّ من علامة ارتفاعه أن الشمس لا تغيب عنه إلى ثلاث ساعات من الليل، وتشرق عليه قبل الصبح بثلاث ساعات. ومنارة الإسكندرية أحد بنيان العالم العجيب، بناها بعض البطالسة ملوك اليونانيين بعد وفاة الإسكندر بن فيليبس الملك، لما كان بينهم وبين ملوك رومة من الحروب في البرّ والبحر، فجعلوا هذه المنارة مرقبا في أعاليها مرآة عظيمة من نوع الأحجار المشفة ليشاهد منها مراكب البحر إذا أقبلت من رومة على مسافة تعجز الأبصار عن إدراكها، فكانوا يراعون ذلك في تلك المرآة فيستعدّون لهم قبل ورودهم، وطول المنارة في هذا الوقت على التقريب، مائتان وثلاثون ذراعا، وكان طولها قديما نحوا من أربعمائة ذراع، فهدمت على طول الأزمان وترادف الزلازل والأمطار، لأنّ بلد الإسكندرية تمطر وليس سبيلها سبيل فسطاط مصر إذ كان الأغلب عليها أن لا تمطر إلا اليسير، وبناؤها ثلاثة أشكال، فقريب من

النصف، وأكثر من الثلث مربع الشكل، بناؤه بأحجار بيض يكون نحوا من مائة ذراع وعشرة أذرع على التقريب، ثم من بعد ذلك مثمن الشكل، مبني بالحجر والجص نحو من نيف وستين ذراعا وحواليه فضاء يدور فيه الإنسان وأعلاها مدوّر. وكان أحمد بن طولون رمّ شيئا منها، وجعل في أعلاه قبة من الخشب ليصعد إليها من داخلها وهي مبسوطة موربة بغير درج، وفي الجهة الشمالية من المنارة، كتابة برصاص مدفون بقلم يونانيّ طول كلّ حرف ذراع في عرض شبر، ومقدارها على جهة الأرض نحو من مائة ذراع، وماء البحر قد بلغ أصلها، وقد كان تهدّم أحد أركانها الغربية مما يلي البحر. فبناها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وبينها وبين مدينة الإسكندرية في هذا الوقت نحو من ميل، وهي على طرف لسان من الأرض قد ركب البحر جنبتيه، وهي مبنية على فم ميناء الإسكندرية وليس بالميناء القديم، لأنّ القديم في المدينة العتيقة لا ترسي فيه المراكب لبعده عن العمران، والميناء هو الموضع الذي ترسي فيه مراكب البحر. وأهل الإسكندرية يخبرون عن أسلافهم أنهم شاهدوا بين المنارة وبين البحر نحوا مما بين المدينة والمنارة في هذا الوقت، فغلب عليه ماء البحر في المدّة اليسيرة وأنّ ذلك في زيادة، قال: وتهدّم في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلثمائة، نحو من ثلاثين ذراعا من أعاليها بالزلزلة التي كانت ببلاد مصر، وكثير من بلاد الشام والمغرب في ساعة واحدة على ما وردت به علينا الأخبار المتواترة، ونحن بفسطاط مصر، وكانت عظيمة جدّا مهولة فظيعة أقامت نحو نصف ساعة زمانية، وذلك لنصف يوم السبت لثمان عشرة خلت من هذا الشهر وهو الخامس من كانون الآخر، والتاسع من طوبة، وكان لهذه المنارة مجمع في يوم خميس العدس يخرج سائر أهل الإسكندرية إلى المنارة من مساكنهم بمآكلهم ولا بد أن يكون فيها عدس، فيفتح باب المنار، ويدخله الناس، فمنهم من يذكر الله، ومنهم من يصلي، ومنهم من يلهو ولا يزالون إلى نصف النهار، ثم ينصرفون ومن ذلك اليوم يحترس على البحر من هجوم العدوّ. وكان في المنارة قوم مرتبون لوقود النار طول الليل، فيقصد ركاب السفن تلك النار على بعد، فإذا رأى أهل المنار ما يريبهم أشعلوا النار من جهة المدينة، فإذا رآها الحرس ضربوا الأبواق والأجراس، فيتحرّك عند ذلك الناس لمحاربة العدوّ. ويقال: إنّ المنار كان بعيدا عن البحر، فلما كان في أيام قسطنطين بن قسطنطين هاج البحر وغرّق مواضع كثيرة وكنائس عديدة بمدينة الإسكندرية، ولم يزل يغلب عليها بعد ذلك ويأخذ منها شيئا بعد شيء. وذكر بعضهم: أنه قاسه فكان مائتي ذراع وثلاثة وثلاثين ذراعا وهي ثلاث طبقات،

الطبقة الأولى: مربعة وهي مائة وإحدى وعشرون ذراعا ونصف ذراع، والطبقة الثانية: مثمنة وهي: إحدى وثمانون ذراعا ونصف ذراع، والطبقة الثالثة: مدوّرة وهي إحدى وثلاثون ذراعا ونصف ذراع. وذكر ابن جبير في رحلته: أن منار الإسكندرية يظهر على أزيد من سبعين ميلا، وأنه ذرع أحد جوانبه الأربعة في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، فأناف على خمسين ذراعا، وأنّ طول المنار أزيد من مائة وخمسين قامة، وفي أعلاه مسجد يتبرّك الناس بالصلاة فيه. وقال ابن عبد الحكم: ويقال: إنّ الذي بنى منار الإسكندرية كلوباطرة الملكة وهي التي ساقت خليجها حتى أدخلته الإسكندرية، ولم يكن يبلغها إنما كان يعدل من قرية يقال لها: كسا قبالة الكريون، فحفرته حتى أدخلته الإسكندرية وهي التي بلطت قاعه. ولما استولى أحمد بن طولون على الإسكندرية بنى في أعلى المنار قبة من خشب فأخذتها الرياح، وفي أيام الظاهر بيبرس تداعى بعض أركان المنار، وسقط فأمر ببناء ما انهدم منه، في سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وبنى مكان هذه القبة مسجد أو هدم في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة عند حدوث الزلزلة، ثم بنى في شهور سنة ثلاث وسبعمائة على يد الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وهو باق إلى يومنا هذا، ولله در الوجيه الدرويّ، حيث يقول في منار الإسكندرية: وسامية الأرجاء تهدي أخا السرى ... ضياء إذا ما حندس الليل أظلما لبست بها بردا من الإنس صافيا ... فكان بتذكار الأحبة معلما وقد ظللتني من ذراها بقبة ... ألاحظ فيها من صحابي أنجما فخيّل أنّ البحر تحتي غمامة ... وأني قد خيمت في كبد السما وقال ابن قلاقس من أبيات: ومنزل جاوز الجوزاء مرتقيا ... كأنما فيه للنسرين أوكار راسي القرارة سامي الفرع في يده ... للنون والنور أخبار وأخبار أطلقت فيه عنان النظم فاطردت ... خيل لها في بديع الشعر مضمار وقال الوزير أبو عبد الله محمد بن الحسن بن عبد ربه: لله در منار إسكندرية كم ... يسمو إليه على بعد من الحدق من شامخ الأنف في عرنينه شمم ... كأنه باهت في دارة الأفق للمنشآت الجواري عند رؤيته ... كموقع النوم في أجفان ذي أرق وقال عمر بن أبي عمر الكندي في فضائل مصر: ذكر أهل العلم أن المنارة كانت في وسط الإسكندرية، حتى غلب عليها البحر، فصارت في جوفه، ألا ترى

ذكر الملعب الذي كان بالإسكندرية وغيره من العجائب

الأبنية والأساسات في البحر إلى الآن عيانا. وقال عبد الله بن عمر: وعجائب الدنيا أربعة: مرآة كانت معلقة بمنارة الإسكندرية، فكان يجلس الجالس تحتها، فيرى من بالقسطنطينية وبينهما عرض البحر، وذكر الثلاثة؟!. ذكر الملعب الذي كان بالإسكندرية وغيره من العجائب قال القضاعيّ: ومن عجائب مصر: الإسكندرية وما بها من العجائب، فمن عجائبها: المنارة، والسواري، والملعب الذي كانوا يجتمعون فيه في يوم من السنة، ثم يرمون بأكرة، فلا تقع في حجر أحد إلا ملك مصر، وحضر عيدا من أعيادهم، عمرو بن العاص، فوقعت الأكرة في حجره، فملك البلد بعد ذلك في الإسلام، ثم حضر هذا الملعب ألف ألف من الناس، فلا يكون فيهم أحد إلا وهو ينظر في وجه صاحبه، ثم إن قرىء كتاب سمعوه جميعا، أو لعب لون من اللعب رأوه عن آخرهم لا يتظالمون فيه بأكثر من مراتب العلية والسفلية. وقال ابن عبد الحكم: فلما كانت سنة ثمان عشرة من الهجرة، وقدم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الجابية، خلا به عمرو بن العاص، واستأذنه في المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخل في الجاهلية مصر، وعرف طرقها، ورأى كثرة ما فيها، وكان سبب دخوله إياها أنه قدم إلى بيت المقدس لتجارة في نفر من قريش، فإذا هم بشماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية، قدم للصلاة في بيت المقدس، فخرج في بعض جبالها يسيح، وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكانت رعية الإبل نوبا بينهم، فبينا عمرو يرعى إبله، إذ مرّ به ذلك الشماس، وقد أصابه عطش شديد في يوم شديد الحرّ، فوقف على عمرو، فاستسقاه، فسقاه عمرو من قربة له، فشرب حتى روي، ونام الشماس مكانه، وكانت إلى جنب الشماس حيث نام حفرة، فخرجت منها حية عظيمة، فبصر بها عمرو، فنزع لها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس نظر إلى حية عظيمة قد أنجاه الله منها، فقال لعمرو: ما هذه؟ فأخبره عمرو أنه رماها، فقتلها، فأقبل إلى عمرو، فقبّل رأسه، وقال: قد أحياني الله بك مرّتين: مرّة من شدّة العطش، ومرّة من هذه الحية، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: قدمت مع أصحاب لي نطلب الفضل في تجارتنا، فقال له الشماس: وكم تراك ترجو أن تصيب في تجارتك؟ قال: رجائي أن أصيب ما أشتري به بعيرا، فإني لا أملك إلا بعيرين، فآمل أن أصيب بعيرا آخر فتكون ثلاثة أبعرة، فقال له الشماس: أرأيت دية أحدكم بينكم كم هي؟ قال: مائة من الإبل، فقال له الشماس: لسنا أصحاب إبل إنما نحن أصحاب دنانير، قال: تكون ألف دينار، فقال له الشماس: إني رجل غريب في هذه البلاد، وإنما قدمت أصلي في كنيسة بيت المقدس، وأسيح في هذه الجبال شهرا جعلت ذلك نذرا على نفسي، وقد قضيت ذلك، وأنا أريد الرجوع إلى بلادي، فهل لك أن تتبعني إلى بلادي،

ذكر عمود السواري

ولك عليّ عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين، لأنّ الله عز وجل أحياني بك مرّتين، فقال له عمرو: أين بلادك؟ قال: مصر في مدينة يقال لها: الإسكندرية، فقال له عمرو: لا أعرفها، ولم أدخلها قط، فقال له الشماس: لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها! فقال له عمرو: تفي لي بما تقول، ولي عليك بذلك العهد والميثاق، فقال له الشماس: نعم لك والله عليّ العهد والميثاق أن أفي لك، وأن أردّك إلى أصحابك، فقال له عمرو: كم يكون مكثي في ذلك؟ قال: شهرا تنطلق معي ذاهبا عشرا، وتقيم عندنا عشرا، وترجع في عشر، ولك عليّ أن أحفظك ذاهبا وأن أبعث معك من يحفظك راجعا، فقال له عمرو: انظرني حتى أشاور أصحابي في ذلك، فانطلق عمرو إلى أصحابه، فأخبرهم بما عاهد عليه الشماس، وقال لهم: تقيمون عليّ حتى أرجع إليكم ولكم عليّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به، فقالوا: نعم، وبعثوا معه رجلا منهم، فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس، حتى انتهوا إلى مصر فرأى عمرو من عمارتها، وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه! فقال عمرو للشماس: ما رأيت مثل ذلك، ومضى إلى الإسكندرية، فنظر عمرو إلى كثرة ما فيها من الأموال والعمارة، وجودة بنائها، وكثرة أهلها، فازداد عجبا، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم كرة من ذهب مكالة يترامى بها ملوكهم، وهم يتلقونها بأكمامهم، وفيما اختبروا من تلك الكرة على ما وصفها من مضى منهم، أنها من وقعت الكرة في كمه واستقرّت فيه لم يمت حتى يملكهم. فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس، حيث يترامون بالكرة وهم يتلقونها بأكمامهم، فرمى بها رجل منهم، فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرّة! أترى هذا الأعرابيّ يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا، وإنّ ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية، وأعلمهم أنّ عمرا أحياه مرّتين، وأنه قد ضمن له ألفي دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم، ففعلوا، ودفعوها إلى عمرو، فانطلق عمرو وصاحبه، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا، وزوّدهما وأكرمهما، حتى رجع هو وصاحبه إلى أصحابهما، فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد، وأكثرها أموالا، فلما رجع عمرو إلى أصحابه، دفع إليهم بيما بينهم ألف دينار، وأمسك لنفسه ألفا، قال عمرو: وكان أوّل مال اعتقدته وتأثلته. ذكر عمود السواري هذا العمود حجر أحمر منقط، وهو من الصوّان الماتع كان حوله، نحو أربعمائة عمود كسرها قراجا والي الإسكندرية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب،

ورماها بشاطئ البحر ليوعر على العدوّ سلوكه إذا قدموا، ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يدرس به الحكمة، وأنه كان دار علم، وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويقال: إنّ ارتفاع هذا العمود سبعون ذراعا وقطره خمسة أذرع، وذكر بعضهم: أنّ طوله بقاعدتيه: اثنان وستون ذراعا وسدس ذراع، وهو على نشز طوله ثلاثة وعشرون ذراعا ونصف ذراع، فجملة ذلك خمسة وثمانون ذراعا وثلثا ذراع، وطول قاعدته السفلي اثنا عشر ذراعا، وطول القاعدة العليا سبعة أذرع ونصف. قال المسعوديّ: وفي الجانب الغربيّ من صعيد مصر، جبل رخام عظيم، كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها، وكانوا يحملون ما عملوا بعد النقر، فأما العمد والقواعد والرءوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية، ومنها حجارة الطواحين، فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين، ومنها العمد التي بالإسكندرية، والعمود بها الضخم الكبير لا يعلم بالعالم عمود مثله، وقد رأيت في جبل أسوان، أخا هذا العمود، وقد هندس ونقر ولم يصل من الجبل، ولم يحمل ما ظهر منه، وإنما كانوا ينتظرون به أن يفصل من الجبل، ثم يحمل إلى حيث يريد القوم، انتهى. وكان بالإسكندرية من العمد العظام، وأنواع الحجارة والرخام الذي لا تقلّ القطعة منه، إلا بألوف من الناس، وقد علقت بين السماء والأرض على فوق المائة ذراع، وفوق رؤوس أساطين دائر الأسطوانة ما بين الخمسة عشر ذراعا إلى العشرين ذراعا، والحجر فوقه عشرة أذرع في عشرة أذرع، في سمك عشرة أذرع بغرائب الألوان. وكان بالإسكندرية قصر عظيم لا نظير له في معمور الأرض على ربوة عظيمة، بإزاء باب البلد طوله خمسمائة ذراع، وعرضه على النصف من ذلك، وبابه من أعظم بناء وأتقنه، كل عضادة منه حجر واحد، وعتبته حجر واحد، وكان فيه نحو مائة أسطوانة وبإزائه أسطوانة عظيمة لم يسمع بمثلها، غلظها ستة وثلاثون شبرا، وعلوها بحيث لا يدرك أعلاها قاذف حجر، وعليها رأس محكم الصناعة يدل على أنه كان فوق ذلك بناء، وتحتها قاعدة حجر أحمر محكم الصناعة، عرض كل ضلع منه عشرون شبرا في ارتفاع ثمانية أشبار، والأسطوانة منزلة في عمود من حديد قد خرقت به الأرض، فإذا اشتدّت الرياح رأيتها تتحرّك، وربما وضع تحتها الحجارة، فطحنتها لشدّة حركتها، وكانت هذه الأسطوانة إحدى عجائب الدنيا، وقد زعم قوم أنها مما عمله الجنّ لسليمان بن داود عليهما السلام، كما هي عادتهم في نسبة كل ما يستعظمون عمله إلى أنه من صنيع الجنّ، وليس كذلك، بل كانت مما عمله القدماء من أهل مصر. وكان في وسطه، قبة ومن حولها أساطين، وعلى الجميع قبة من حجر واحد رخام

أبيض كأحسن ما أنت راء من الصنائع. ويقال: إن بعض ملوك مصر دخل الإسكندرية، فأعجبه هذا القصر، وأراد أن يبني مثله، فجمع الصناع والمهندسين ليقيموا له قصرا عظيما على هيئته، فما منهم إلا من اعترف بعجزه عن مثله، إلّا شيخا منهم، فإنه التزم أن يصنع مثله، فسرّ الملك ذلك، وأذن له في طلب ما يحتاج إليه من المؤن والآلات والرجال، فقال: ائتوني بثورين مطيقين وعجلة كبيرة، فللحال أتي بذلك فمضى إلى المقابر القديمة، وحفر منها قبرا أخرج منه: جمجمة عظيمة، رفعها عدّة من الرجال على العجلة، فما جرّها الثوران مع قوّتهما إلّا بعد جهد وعناء، فلما وقف بها بين يدي الملك، قال: أصلح الله سيدنا! إن أتيتني بقوم رؤوسهم مثل هذا الرأس عملت لك مثل هذا القصر؟ فتيقن الملك عند ذلك عجز أهل زمانه عن إقامة مثل ذلك القصر. وقد ذكر: أنه كان بالإسكندرية ضرس إنسان عند قصاب، يزن به اللحم، زنته ثمانية أرطال. ويقال: إنّ عمود السواري الموجود الآن خارج مدينة الإسكندرية، أحد سبعة أعمدة، أتي بأحدها، البتون بن مرّة العادي، وهو يحمله تحت إبطه من جبل بريم الأحمر قبليّ أسوان إلى الإسكندرية، فانكسر ضلعه، لأنه كان ضعيف القوى في قومه، فشق ذلك على يعمر بن شدّاد بن عاد، وقال: ليتني فديته بنصف ملكي، وجاء بعمود آخر، جحدر بن سنان الثموديّ، وكان قويا، فحمله من أسوان تحت إبطه، وجاء بقية رجالهم كل رجل بعمود، فأقام العمد السبعة، الجارود بن قطن المؤتفكي، وكان بناءها بعد أن اختاروا لها طالعا سعيدا، كما هي عادتهم في عامّة أعمالهم، وقد ذكر غير واحد، أن الصخور في القديم من الدهر كانت تلين، فعمل منها أعمدة، ناعط ومارب وبينون وماثر اليمن، وأعمدة دمشق ومصر ومدين وتدمر، وإنّ كل شيء كان يتكلم، قال أمية بن أبي الصلت: وإذ هم لا لبوس لهم عراة ... وإذ صخر السلام لهم رطاب وقال قوم: عمود السواري من جملة أعمدة كانت تحمل رواقا، يقال له: بيت الحكمة، وذلك حيث انتهت علوم أهل الغرب إلى خمس فرق، وهم: أصحاب الرواق هذا، وأصحاب الأسطوانة وكانوا ببعلبك، وأصحاب المظال وهم بأنطاكية، وأصحاب البرابي وكانوا بصعيد مصر، والمشاؤون وكانوا بمقدونية، وكأني بمن قلّ علمه ينكر عليّ إيراد هذا الفصل، ويراه من قبيل المحال، ومما وضعه القصاص، ويجزم بكذبه، فلا يوحشنك حكايتي له، واسمع قول الله تعالى عن عاد قوم هود: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الأعراف/ 69] أي طولا وعظم جسم. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين

ذراعا، وهذه الزيادة كانت على خلق آبائهم، وقيل: على خلق قوم نوح، وقال وهب بن منبه: كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة، وكانت عين الرجل منهم تفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم. وروى شهر بن حوشب «1» عن أبي هريرة رضي الله عنه: إنه قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليحمل المصراعين لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يطيقوه، وإن كان أحدهم ليغمز بقدمه الأرض فيدخل فيها. وروى عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافريّ، عن ابن بجرة، قال: استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه السلام، في قحف رجل من العماليق. وعن زيد بن أسلم: بلغني أنّ الضبعة وأولادها ربين في حجاج عين رجل من العماليق، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الفجر/ 8] . قال المبرّد: وقولها يعني الخنساء: رفيع العماد إنما تريد الطول، يقال: رجل معمد: يريد طولا ومنه قوله تعالى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ أي: الطوال. وقال البغويّ: سموا ذات العماد لأنهم كانوا أهل عمدة سيارة، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبيّ، ورواية عطاء عن ابن عباس، وقال بعضهم: سموا ذات العماد لطول قاماتهم، قال ابن عباس: يعني طولهم مثل العماد، قال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا. وفي كشاف الزمخشريّ: لم يخلق مثلها، مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها، فيلقيها على الحيّ فيهلكهم، وقد ذكر غير واحد أنه وجد في خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد، كنز بمصر فيه ضلم إنسان طوله أربعة عشر شبرا في عرض ثلاثة أشبار. واعلم أن أعين بني آدم ضيقة وقد نشأت نفوسهم في محل صغير، فإذا حدّث القوم بما يتجاوز مقدار عقولهم أو مبلغ أجسامهم مما ليس له عندهم أصل يقيسونه على إلا ما يشاهدونه، أو يألفونه عجلوا إلى الارتياب فيه، وسارعوا إلى الشك في الخبر عنه، إلّا من كان معه علم وفهم، فإنه يفحص عما يبلغه من ذلك حتى يجد دليلا على قبوله، أو ردّه، وكيف يردّ مثل هذه الأخبار. وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حلق الله آدم طوله ستون ذراعا في السماء» ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن. وذكر محمد بن عبد الرحيم بن سليمان بن ربيع القيسيّ الغرناطيّ في كتاب تحفة

الألباب قال: نقل الشعبيّ في كتاب سير الملوك: أن الضحاك بن علوان، لما هرب منه لام بن عاد إلى ناحية الشمال أرسل في طلبه أميرين مع كل أمير طائفة من الجبارين خرج أحدهما قاصدا إلى بلغار، والآخر إلى باشقرد، فأقام أولئك الجبارون في أرض بلغار، وفي باشقرد. قال الإقليشيّ: وقد رأيت صورهم في باشقرد، ورأيت قبورهم بها، فكان مما رأيته، ثنية أحدهم طولها: أربعة أشبار، وعرضها شبران، وقد كان عندي في باشقرد نصف أصل الثنية أخرجت لي من فكه الأسفل، فكان عرضها شبرا، ووزنها ألف مثقال، ومائتا مثقال، أنا وزنتها بيدي، وهي الآن في داري في باشقرد، وكان دور فلك ذلك العاديّ سبعة عشر ذراعا، وفي بيت بعض أصحابي في باشقرد، عضد أحدهم طوله ثمانية وعشرون ذراعا، وأضلاعه كل ضلع عرضه ثلاثة أشبار، وأكثر كاللوح الرخام، وأخرج إليّ نصف رسغ يد أحدهم، فكنت لا أقدر أن أرفعه بيد واحدة حتى أرفعه بيديّ جميعا، قال: ولقد رأيت في بلد بلغار سنة ثلاثين وخمسمائة من نسل العاديين رجلا طوالا كان طوله أكثر من سبعة أذرع، وكان يسمى: دنقي وكان يأخذ الفرس تحت إبطه كما يأخذ الإنسان الطفل الصغير، وكان إذا وقع القتال بتلك الناحية، يقاتل بشجرة من شجر البلوط، يمسكها كالعصا في يده لو ضرب بها الفيل قتله، وكان خيّرا متواضعا، كلما التقاني سلم عليّ، ورحب بي وأكرمني، وكان رأسي لا يصل إلى حقوه، وكان له أخت على طوله رأيتها في بلغار مرارا عدّة. قال لي القاضي يعقوب بن النعمان، يعني قاضي بلغار: إن هذه المرأة الطويلة العادية قتلت زوجها، وكان اسمه آدم، وكان من أقوى أهل بلغار ضمته إلى صدرها، فكسرت أضلاعه، فمات من ساعته. قال: ولم يكن في بلغار حمّام تسعهم، إلا حمّام واحدة واسعة الأبواب، انتهى. وقد حدّثني الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الفريابي عن أبيه: أنه شاهد قبرا احتفر بمدينة قرطاجنة من إفريقية، فإذا جثة رجل قدر عظيم رأسه كثورين عظيمين، ووجد معه لوح مكتوب بالقلم المسند، وهو قلم عاد، وحروفه مقطعة، ما نصه: أنا كوش بن كنعان ابن الملوك من آل عاد، ملكت بهذه الأرض ألف مدينة، وبنيت بها على ألف بكر، وركبت من الخيل العتاق سبعة آلاف، حمر وصفر وشهب وبيض ودهم، ثم لم يغن عني ذلك شيئا، أو جاءني صائح، فصاح بي صيحة أخرجتني من الدنيا، فمن كان عاقلا ممن جاء بعده فليعتبر بي وأنشد: يا واقفا يرعى السهى ... برسم ربع قد وهى قف واستمع ثم اعتبر ... إن كنت من أهل النهي بالأمس كنا فوقها ... واليوم صرنا تحتها لكل حدّ غاية ... لكل أمر منتهى

ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية

قال: فأمر السلطان أبو بكر بن يحيى الحفصيّ «1» ، صاحب تونس بطمه، فطم القبر. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: وأنا أدركت شيئا من ذلك، وهو أنه ترافع في بعض الأيام طائفة من الحجارين إلى السلطان الملك الظاهر برقوق أعوام، بضع وتسعين وسبعمائة، وقد اختلفوا على مال وجدوه بجبل المقطم، وهو أنهم كانوا يقطعون الحجارة من مغار فيما يلي قلعة الجبل من بحريها، فانكشف لهم حجر أسود عليه كتابة، فاجتمعوا على قطع ما بين يدي هذا الحجر طمعا في وجود مال، فانتهى بهم القطع إلى عمود عظيم قائم في قلب الجبل، فلعجلتهم أقبلوا بمعاولهم عليه حتى تكسر قطعا، فإذا هو مجوّف، وإنسان قائم على قدميه بطوله وتناثر لهم من جهة رأسه دنانير كثيرة، فاقتسموها وتنافسوا في قسمتها، واختلفوا حتى اشتهر أمرهم، وترافعوا إلى السلطان، فبعث من كشف المغار فوجد الحجر والعمود، وقد تكسر فأخذ منهم ما وجد بأيديهم من الدنانير، ولم يجد من يعرف ما قد كتب على الحجر، وتسامع الناس بالخبر، فأقبلوا إلى المغار وعبثوا برمّة الميت، فأخبرني من شاهد سنا من أسنان هذا الميت، أنها سوداء بقدر الباذنجانة وإن عظم ساقه فيما بين قدمه إلى ركبته خمسة أذرع فيجيء هذا من حساب طوله عشرين ذراعا وأزيد، ودماغ سنّ واحدة من أسنانه في قدر الباذنجانة، ما هو إلا كالقبة الكبيرة، وأخبرني السيد الشريف قاضي القضاة بدمشق شهاب الدين أحمد بن عليّ بن إبراهيم الحسينيّ المعروف: بابن عدنان وبابن أبي الجن: أنه وقف في سنة أربع عشرة وثمانمائة بمقبرة باب الصغير من دمشق على قبر ليدفن فيه ميت لهم، فلما تهيأ القبر، ولم يبق إلا أن يدلى فيه الميت، انخسف وخرج من الخسف ذباب كثير كبار زرق الألوان حتى كادت تظلهم، فنزل الحفار في الخسف، فإذا قبر طوله اثنان وعشرون ذراعا وفيه بطوله ميت قد صار كالرماد. وأخبرني أيضا: أنه شاهد بهذه المقبرة ضرس إنسان وله ثلاث شعب، وقد سقطت منه قطعة وهو في قدر البطيخة، وأنه وزن بحضرته فبلغ رطلين وتسع أواقي بالرطل الشامي، وإنّ القطعة التي انكسرت منه نحو أوقيتين بالشامي، فيكون على هذا زنة هذا الضرس نحو اثني عشر رطلا بالمصريّ، والله تعالى أعلم. ذكر طرف مما قيل في الإسكندرية قال أبو عمرو الكنديّ: أجمع الناس أنه ليس في الدنيا مدينة على ثلاث طبقات، غير الإسكندرية، ولما دخل عبد العزيز بن مروان الإسكندرية، سأل رجلا من علماء الروم عنها وعن عدد أهلها؟ فقال: والله أيها الأمير، ما أدرك علم هذا أحد من الملوك، والذي أخبرك

كم كان فيها من اليهود، فإنّ ملك الروم أمر بإحصائهم، فكانوا ستمائة ألف. قال: فما هذا الخراب الذي في أطرافها، قال: بلغني عن بعض ملوك فارس حين ملكوا مصر أنه أمر بفرض دينار على كل محتلم لعمران الإسكندرية، فأتاه كبراء أهلها وعلماؤهم، وقالوا: أيها الملك لا تتعب فإنّ الإسكندرية أقام الإسكندر على بنائها، ثلثمائة سنة، وعمرت ثلثمائة سنة، وإنها لخراب منذ ثلثمائة سنة، ولقد أقام أهلها سبعين سنة لا يمشون فيها نهارا إلا بخرق سود في أيديهم خوفا على أبصارهم من شدّة بياضها. ومن فضائلها ما قاله بعض المفسرين من أهل العلم: أنها المدينة التي وصفها الله عز وجلّ في كتابه العزيز فقال: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الفجر/ 8] . قال أحمد بن صالح: قال لي سفيان بن عيينة: يا مصريّ أين تسكن؟ قلت: أسكن الفسطاط، فقال: أتاني الإسكندرية؟ قلت: نعم، قال: تلك كنانة الله يجعل فيها خيار سهامه. وقال وقال عبد الله بن مرزوق الصدفيّ، لما نعى لي ابن عمي خالد بن يزيد، وكان قد توفي بالإسكندرية، لقيني موسى بن عليّ بن رباح وعبد الله بن لهيعة والليث بن سعد متفرّقين كلهم يقول: أليس مات بالإسكندرية؟ فأقول: نعم، فيقولون: هو حيّ عند الله يرزق ويجري عليه أجر رباطه ما أقامت الدنيا، وله أجر شهيد حتى يحشر على ذلك، وقال الذين ينظرون في الأهوية والبلدان وترتب الأقاليم والأمصار: أنه لم تطل أعمار الناس في بلد من البلدان طولها بمربوط من كورة الإسكندرية، ووادي فرغانة. وقال الحسن بن صفوان: وأما الإسكندرية وتنيس، وأمثالهما، فقربها من البحر وسكون الحرارة والبرد عندهم، وظهور ريح الصبا فيهم مما يصلح أمرهم، ويرق طباعهم، ويرفع همتهم وليس يعرض لهم ما يعرض لأهل اليشمون من غلظ الطبع والحمارية، وقد وصف أهل الإسكندرية بالبخل، قال جلال الدين بن مكرم بن أبي الحسن بن أحمد الخزرجي ملك الحفاظ: نزيل اسكندرية ليس يقري ... بغير الماء أو نعت السواري ويتحف حين يكرم بالهواء ال ... ملاتن والإشارة للمنار وذكر البحر والأمواج فيه ... ووصف مراكب الروم الكبار فلا يطمع نزيلهم بخبز ... فما فيها لذاك الحرف قاري وقال أحمد بن جردادية من الفسطاط إلى ذوات الساحل، أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مربوط ثلاثون ميلا، ثم إلى كوم شريك ثلاثون ميلا، ثم إلى كريون أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى الإسكندرية أربعة وعشرون ميلا، وقال آخر: وطريق الإسكندرية إذا نضّب ماء النيل يأخذ بين المدائن والضياع، وذلك إذا أخذت من شطنوف إلى سبك العبيد، فهو منزل فيه منية لطيفة، وبينهما اثنا عشر سقسا، ومن سبك إلى مدينة منوف، وهي كبيرة فيها

ذكر فتح الإسكندرية

حمامات وأسواق، وبها قوم فيهم يسار ووجوه من النار، وبينهما ستة عشر سقسا، ومن منوف إلى محلة صرد وفيها منبر وحمام وفنادق، وسوق صالح ستة عشر سقسا، ومن محلة صرد إلى سخا وهي مدينة كبيرة ذات حمامات وأسواق، وعمل واسع وإقليم جليل له عامل بعسكر وجند، وبه الكتان الكثير وزيت الفجل، وقموح عظيمة ستة عشر سقسا، ومن سخا إلى شبر كمية وهي مدينة كبيرة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسا، ومن شبر كمية إلى مسير وهي مدينة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسا، ومن مسير إلى سنهور وهي مدينة ذات إقليم كبير وبها حمامات وأسواق، وعمل كبير ستة عشر سقسا، ومن سنهور إلى التخوم وهي إقليم وبها حمامات وفنادق وأسواق ستة عشر سقسا، ومن التخوم إلى نسترو، وكانت مدينة عظيمة حسنة على بحيرة اليشمون عشرون سقسا، ومن نسترو إلى البرلس وهي مدينة كثيرة الصيد في البحيرة وبها حمامات عشر سقسات، ومن نسترو إلى البرلس إلى اخنا وهي حصن على شط بحر الملح عشر سقسات، ومن اخنا إلى رشيد وهي مدينة على النيل ومنها يصب النيل في البحر من فوهة تعرف بالأشتوم وهي المدخل ثلاثون سقسا، وكان بها أسواق صالحة وحمام، وبها نخيل وضريبة على ما يحمل من الإسكندرية. وهذا الطريق الآخذ من شطنوف إلى رشيد ربما امتنع سلوكه عند زيادة النيل، والثياب المنسوجة بالإسكندرية لا نظير لها، وتحمل إلى أقطار الأرض، وفي ثياب الإسكندرية ما يباع الكتان منه إذا عمل ثيابا يقال لها الشرب كل زنة درهم بدرهم فضة، وما يدخل في الطرز، فيباع بنظير وزنه مرّات عديدة. ذكر فتح الإسكندرية قال أبو عمرو الكندي: لما حاز المسلمون الحصن بما فيه، أجمع عمرو على المسير إلى الإسكندرية، فسار إليها في ربيع الأوّل سنة عشرين، وقال غيره: بل سار في جمادى الآخرة منها. وذكر سيف بن عمر: أنّ عمرو بن العاص بعث إلى الإسكندرية، وهو على عين شمس، عوف بن مالك، فنزل عليها، وبعث يقول لأهلها: إن شئتم أن نزلوا فلكم الأمان، فقالوا: نعم، فراسلهم وتربصوا أهل عين شمس، وسار المسلمون من بين ذلك. وقال ابن عبد الحكم: ويقال: إنّ المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص، لما فتح الإسكندرية حاصر أهلها ثلاثة أشهر، وألحّ عليهم فخافوه، وسأله المقوقس الصلح عنهم كما صالحه على القبط على أن يستنظر رأي الملك، فحدّثنا يزيد بن أبي حبيب: أنّ المقوقس الرومي الذي كان ملكا على مصر صالح عمرو بن العاص، على أن يسير من أراد من الروم المسير، ويقرّ من أراد من الروم على أمر قد سماه، فبلغ ذلك هرقل ملك الروم، فسخط أشد السخط، وأنكر أشدّ الإنكار، وبعث الجيوش، فأغلقوا أبواب الإسكندرية،

وآذنوا عمرا بالحرب، فخرج إليه المقوقس، فقال: أسألك ثلاثا، قال: ما هنّ؟ قال: لا تبذل للروم ما بذلت لي، فإني قد نصحت لهم، فاستغشوني. ولا تنقض القبط، فإنّ النقض لم يأت من قبلهم، وأن تأمر بي إذا متّ فادفني في بخنس، فقال عمرو: هذه أهونهنّ علينا، قال: فخرج عمرو بالمسلمين حين أمكنهم الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط، وقد أصلحوا لهم الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم، وسمعت بذلك الروم فاستعدّت واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب من أرض الروم فيها جمع عظيم من الروم بالعدّة والسلاح، فخرج إليهم عمرو من الفسطاط، متوجها إلى الإسكندرية، فلم ير منهم أحدا حتى بلغ مربوط، فلقي فيها طائفة من الروم، فقاتلهم قتالا خفيفا، فهزمهم الله، ومضى عمرو بمن معه حتى لقي جمع الروم بكوم شريك، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم فتح الله على المسلمين وولي الروم أكتافهم. ويقال: بل أرسل عمرو بن العاص، شريك بن سميّ في آثارهم، فأدركهم عند الكوم الذي يقال له: كوم شريك، فهزمهم، وكان على مقدّمة عمرو، وعمرو بمربوط، فألجأوه إلى الكوم، فاعتصم به، وأحاطت به الروم، فلما رأى ذلك شريك بن سميّ، أمر أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصدفيّ، وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له: أشقر صدف، وكان لا يجاري سرعة، فانحط عليهم من الكوم، وطلبته الروم، فلم تدركه حتى أتى عمرا، فأخبره، فأقبل عمرو متوجها، وسمعت به الروم، فانصرفت، ثم التقوا بسلطيس، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم هزمهم الله تعالى، ثم التقوا بالكريون، فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما، وكان عبد الله بن عمرو، على المقدّمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة، فقال: يا وردان لو تقهقرت قليلا نصيب الروم، فقال وردان: الروم تريد الروح أمامك وليس خلفك، فتقدّم عبد الله، فجاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه فقال: أقول لها إذا جشأت وجاشت ... رويدك تحمدي أو تستريحي وهذا البيت لعمرو بن الإطنابة، وهو أنّ رجلا من بني النجار كان مجاورا لمعاذ بن النعمان، فقتل، فقال معاذ: لا أقتل به إلا عمرو بن الإطنابة، وهو يومئذ أشرف الخزرج، فقال عمرو: ألا من مبلغ الأكفاء عني ... وقد تهدي النصيحة للنصيح بأنكم وما تزجون شطري ... من القول المرغي والصريح سيقدم بعضكم عجلا عليه ... وما أثر اللسان إلى الجروح أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإعطائي على المكروه مالي ... وإقدامي على البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح بذي شطب كلون الملح صاف ... ونفس لم تقرّ على القبيح الشطب: سعف النخل الأخضر، الواحدة شطبة، وجشأت: ارتفعت من حزن أو فزع، وجاشت: دارت للغثيان، وقيل: هما بمعنى ارتفع، والمشيح: البارد المنكمش. فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال، فقال عمرو: هو ابني حقا، وصلى عمرو يومئذ صلاة الخوف، ثم فتح الله للمسلمين، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية، فتحصن بها الروم، وكان عليها حصون متينة لا ترام، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ومعهم رؤساء القبط يمدّونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة، فأقاموا شهرين ثم تحوّل، فخرجت عليه خيل من ناحية البحيرة مستترة بالحصن، فواقعوه، فقتل يومئذ من المسلمين، اثنا عشر رجلا، ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية في المراكب بمادة الروم. وكان ملك الروم يقول: لئن ظهرت العرب على الإسكندرية ففي ذلك انقطاع الروم وهلاكهم لأنه ليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية، وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية، فقال الملك: لئن غلبونا على الإسكندرية، هلكت الروم، وانقطع ملكها، فأمر بجهازه ومصلحته لخروجه إلى الإسكندرية حتى يباشر قتالها بنفسه، فلما فرغ من جهازه صرعه الله عز وجل، فأماته وكفى المسلمين مؤنته، وكان موته في سنة تسع عشرة، فكسر الله بموته شوكة الروم، فرجع جمع كثير ممن كان قد توجه. وقال الليث: مات هرقل في سنة عشرين، وفيها فتحت قيسارية الشام. قال: واستأسدت العرب عند ذلك، وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية، فقاتلوهم قتالا شديدا، وخرج طرف من الروم من باب حصن الإسكندرية، فحملوا على الناس، فقتلوا رجلا من مهرة واحتزوا رأسه، ومضوا به، فجعل المهريون يتغضبون، ويقولون: لا ندفنه إلا برأسه، فقال عمرو: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا، فاقتلوا منهم رجلا ثم ارموا برأسه، يرمونكم برأس صاحبكم، فخرجت الروم إليهم فاقتتلوا، فقتل من الروم رجل من بطارقتهم، فاحتزوا رأسه، ورموا به الروم، فرمت الروم برأس المهري إليهم، فقال: دونكم الآن فادفنوا صاحبكم. وكان عمرو يقول: ثلاث قبائل من مصر، أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما عافق فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما بلى فأكثرها رجلا صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأفضلها فارسا. وقال رجل لعمرو: لو جعلت المنجنيق ورميتهم به لهدم حائطهم، فقال عمرو: تستطيع أن يفنى مقامك من الصف، وقيل له: إنّ العدوّ قد غشوك ونحن نخاف على

رايطة يريدون امرأته، فقال: إذا يتخذوا أرياطا كثيرة. ولما استجرّ القتال، بارز رجل من الروم، مسلمة بن مخلد، فصرعه الروميّ، وألقاه عن فرسه، وهوى إليه ليقتله، حتى حماه رجل من أصحابه، وكان مسلمة لا يقاوم، ولكنها مقادير، ففرحت بذلك الروم وشق على المسلمين، وغضب عمرو بن العاص لذلك، وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن، فقال عمرو عند ذلك: ما بال الرجل السته الذي يشبه النساء يتعرّض مداخل الرجال، ويتشبه بهم، فغضب من ذلك مسلمة، ولم يراجعه، ثم اشتدّ القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية، فقاتلهم العرب في الحصن، ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر تفرّقوا في الحصن، وأغلقوا عليهم باب الحصن، أحدهم: عمرو بن العاص، والآخر مسلمة، ولم نحفظ الآخرين، وحالوا بينهم وبين أصحابهم، ولا يدري الروم من هم، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص وأصحابه التجأوا إلى ديماس من حماماتهم، فدخلوا فيه، فاحترزوا به، فأمروا روميا أن يكلمهم بالعربية، فقال لهم: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى، فاستأسروا، ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا عليه، ثم قال لهم: إنّ في أيدي أصحابكم منا رجالا أسروهم، ونحن نعطيكم العهود نفادي بكم أصحابنا، ولا نقتلكم، فأبوا عليه، فلما رأى ذلك الروميّ منهم قال لهم: هل لكم إلى خصلة، وهي نصف فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم، فرضوا بذلك، وتعاهدوا عليه، وعمرو ومسلمة وصاحباهما في الحصن في الديماس، فتداعوا إلى البراز فبرز رجل من الروم، وقد وثقت الروم بنجدته وشدّته، وقالوا: يبرز رجل منكم لصاحبنا، فأراد عمرو أن يبرز، فمنعه مسلمة، وقال: ما هذا تخطىء مرّتين تشذ من أصحابك، وأنت أمير، وإنما قوامهم بك، وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك، ولا ترضى حتى تبارز وتتعرّض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك مكانك، وأنا أكفيك إن شاء الله تعالى، فقال عمرو: دونك فربما فرّجها الله بك، فبرز مسلمة للروميّ، فتجاولا ساعة، ثم أعانه الله عليه، فقتله. فكرّ مسلمة وأصحابه ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن، فخرجوا ولا يدري الروم أن أمير القوم فيهم حتى بلغهم بعد ذلك، فأسفوا على ذلك، وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم، فلما خرجوا استحيى عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب، فقال عمرو عند ذلك: استغفر لي ما كنت قلت لك، فاستغفر له، وقال عمرو: ما أفحشت قط إلا ثلاث مرار: مرّتين في الجاهلية، وهذه الثالثة، وما منهنّ مرّة إلا وقد ندمت، وما استحييت من واحدة منهنّ أشدّ مما استحييت مما قلت لك، وو الله إني لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت، قال: وأقام عمرو محاصر الإسكندرية أشهرا، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ما أبطأوا بالفتح إلا لما أحدثوا، وكتب إلى عمرو بن العاص: أمّا بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم

وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوّكم، فإنّ الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة «1» نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقاوم ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس، وحضهم على قتال عدوّهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدّم أولئك الأربعة في صدور الناس ومر الناس جميعا أن يكونوا لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة، ووقت الإجابة وليعجّ الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوّهم، فلما أتى عمرو بن العاص رضي الله عنه الكتاب، جمع الناس وقرأ عليهم كتاب عمر رضي الله عنه، ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا، ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله تعالى ويسألوه النصر، ففعلوا، ففتح الله عليهم. ويقال: إنّ عمرو بن العاص استشار مسلمة، فقال: أشر عليّ في قتال هؤلاء، فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه، فقال عمرو: من ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت، فدعاه عمرو فأتاه وهو راكب على فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت ناولني سنان رمحك، فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه، وعقد له، وولاه قتال الروم، فتقدّم عبادة مكانه، فصادف الروم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك. وكان حصار الإسكندرية بعد موت هرقل، تسعة أشهر وخمسة أشهر قبل ذلك، وفتحت يوم الجمعة لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين، وقال أبو عمرو الكندي: وحاصر عمرو الإسكندرية ثلاثة أشهر، ثم فتحها عنوة وهو الفتح الأوّل، ويقال: بل فتحها عمرو لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين. قال القضاعيّ عن الليث: أقام عمرو بالإسكندرية في حصارها، وفتحها ستة أشهر، ثم انتقل إلى الفسطاط، فاتخذها دارا في ذي القعدة. وقال ابن عبد الحكم: فلما هزم الله تعالى الروم، وفتح الإسكندرية، هرب الروم في البرّ والبحر، فخلف عمرو بالإسكندرية ألف رجل من أصحابه ومضى ومن معه في طلب من هرب من الروم في البرّ، فرجع من كان هرب من الروم في البحر إلى الإسكندرية، فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلّا من هرب منهم، وبلغ ذلك عمرا، فكرّ راجعا، ففتحها، وأقام بها وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد فتح علينا الإسكندرية بغير عقد ولا عهد، فكتب إليه عمرو رضي الله عنه يقبح رأيه، ويأمره أن لا يجاوزها. قال ابن لهيعة: وهو فتح

الإسكندرية الثاني، وكان سبب فتحها هذا: أنّ رجلا يقال له: ابن بسامة كان بوّابا، فسأل عمرا أن يؤمّنه على نفسه وأرضه وأهل بيته، ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى ذلك، ففتح له ابن بسامة الباب، فدخل عمرو وقتل من المسلمين من حين كان من آمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا، وبعث عمرو بن العاص، معاوية بن خديج وافدا إلى عمر بن الخطاب بشيرا له بالفتح، فقال له معاوية: ألا تكتب معي، فقال له عمرو: وما أصنع بالكتاب ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة، وما رأيت وحضرت. فلما قدم على عمر، أخبره بفتح الإسكندرية فخرّ عمر ساجدا، وقال: الحمد لله، وقال معاوية بن خديج: بعثني عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنه بفتح الإسكندرية، فقدمت المدينة في الظهيرة، فأنخت راحلتي بباب المسجد ثم دخلت المسجد، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرأتني شاحبا عليّ ثياب السفر، فأتتني، وقالت: من أنت؟ فقلت: أنا معاوية بن خديج، رسول عمرو بن العاص، فانصرفت عني، ثم أقبلت تشدّ أسمع حفيف إزارها على ساقها، حتى دنت مني، ثم قالت: قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك، فتبعتها، فلما دخلت فإذا بعمر يتناول رداءه بإحدى يديه، ويشدّ إزاره بالأخرى، فقال: ما عندك؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد، فقال للمؤذن: أذن في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك، فقمت فأخبرتهم ثم صلى ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس، فقال: يا جارية! هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت، فقال: كل، فأكلت حياء، ثم قال: كل، فإنّ المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلا لأكلت معك، فأصبت على حياء، ثم قال: يا جارية! هل من تمر؟ فأتت بتمر في طبق، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت: أمير المؤمنين قائل، قال: بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت لئن نمت النهار لأضيعنّ الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعنّ نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية. ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب: أمّا بعد! فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية، بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهوديّ، عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك. وعن أبي قبيل: أنّ عمرا لما فتح الإسكندرية وجد فيها: اثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر، وترحل من الإسكندرية في الليلة التي دخلها عمرو، وفي الليلة التي خافوا فيها دخول عمرو، سبعون ألف يهوديّ. وكان بالإسكندرية فيما أحصي من الحمامات: اثنا عشر ألف ديماس، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كل مجلس يسع جماعة نفر، وكان عدّة من بالإسكندرية من الروم،

مائتي ألف رجل، فلحق بأرض الروم أهل القوّة وركبوا السفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار، فحمل فيها ثلاثون ألفا مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقي من بقي من الأسارى من بلغ الخراج، فأحصي يومئذ ستمائة ألف، سوى النساء والصبيان، فاختلف الناس على عمرو في قسمها، فكان أكثر الناس يريدون قسمها، فقال عمرو: لا أقدر على قسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها، ويعلمه أن المسلمين طلبوا قسمها، فكتب إليه عمر: لا تقسمها وذرها يكون خراجها فيئا للمسلمين، وقوّة لهم على جهاد عدوّهم، فأقرّها عمرو، وأحصى أهلها، وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر صلحا كلها بفريضة دينارين على كل رجل، لا يزاد على أحد منهم في جزية رأسه أكثر من دينارين، إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلا الإسكندرية، فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة. وقد كانت قرى من قرى مصر قاتلت، فسبوا منها قرية يقال لها: بلهيب، وقرية يقال لها: الخيس، وقرية يقال لها: سلطيس، فوقع سباياهم بالمدينة وغيرها، فردّهم عمر بن الخطاب إلى قراهم، وصيرهم وجماعة القبط أهل ذمّة. وعن يزيد بن أبي حبيب: أنّ عمرا سبى أهل بلهيب، وسلطيس، وقرطيا وسخا، فتفرّقوا، وبلغ أوّلهم المدينة حين نقضوا، ثم كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بردّهم، فردّ من وج منهم، وفي رواية: إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب في أهل سلطيس خاصة من كان منهم في أيديكم، فخيروه بين الإسلام، فإن أسلم فهو من المسلمين له مالهم، وعليه ما عليهم، وإن اختار دينه، فخلوا بينه وبين قريته، فكان البلهيبي، خير يومئذ، فاختار الإسلام. وفي رواية: إنّ أهل سلطيس، وصا، وبلهيب، ظاهروا الروم على المسلمين في جمع كان لهم، فلما ظهر عليهم المسلمون استحلوهم، وقالوا: هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: أن تجعل الإسكندرية وهؤلاء الثلاث قريات، ذمّة للمسلمين، وتضرب عليهم الخراج، ويكون خراجهم، وما صالح عليه القبط، قوّة للمسلمين على عدوّهم، ولا يجعلون فيئا ولا عبيدا، ففعل ذلك. ويقال: إنما ردّهم عمر رضي الله عنه، لعهد كان تقدّم لهم. وقال ابن لهيعة: جبى عمرو جزية الإسكندرية ستمائة ألف دينار، لأنه وجد ثلثمائة ألف من أهل الذمّة، فقدّر عليهم دينارين دينارين، فبلغت ذلك، وقيل: كانت جزية الإسكندرية ثمانية عشر ألف دينار، فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك، بلغت ستة وثلاثين ألف دينار، ويقال: إنّ عمرو بن

ذكر ما كان من فعل المسلمين بالإسكندرية وانتقاض الروم

العاص، استبقى أهل الإسكندرية، فلم يقتل ولم يسب، بل جعلهم ذمّة كأهل النوبة. ذكر ما كان من فعل المسلمين بالإسكندرية وانتقاض الروم قال ابن عبد الحكم: فأمّا الإسكندرية فلم يكن بها خطط، وإنما كانت أخائذ، من أخذ منزلا نزل فيه هو وبنو أبيه، وإنّ عمرو بن العاص، لما فتح الإسكندرية، أقبل هو وعبادة بن الصامت، حتى علوا الكوم الذي فيه مسجد عمرو بن العاص، فقال معاوية بن خديج: ننزل، فنزل عمرو القصر، ونزل أبو ذر منزلا كان غربيّ المصلى الذي عند مسجد عمرو، مما يلي البحر، وقد انهدم، ونزل معاوية بن خديج فوق التل، وضرب عبادة بن الصامت خباءه فلم يزل فيه حتى خرج من الإسكندرية. ويقال: إنّ أبا الدرداء كان معه، والله أعلم. قال: فلما استقامت لهم البلاد قطع عمرو بن العاص من أصحابه لرباط الإسكندرية ربع الناس، وربعا في السواحل، والنصف مقيمون معه، وكان يصير بالإسكندرية خاصة الربع في الصيف، بقدر ستة أشهر، ويعقب بعدهم شاتية ستة أشهر، وكان لكل عريف قصر ينزل فيه بمن معه من أصحابه، واتخذوا فيه أخائذ. وعن يزيد بن أبي حبيب: أن المسلمين لما سكنوا الإسكندرية في رباطهم، ثم قفلوا، ثم غزوا ابتدروا، فكان الرجل منهم يأتي المنزل الذي كان فيه صاحبه قبل ذلك، فيبتدره فيسكنه، فلما غزوا قال عمرو: إني أخاف أن تخرّبوا المنازل إذا كنتم تتعاورونها، فلما كان عند الكريون قال لهم: سيروا على بركة الله، فمن ركز منكم رمحه في دار فهي له، ولبني بنيه، فكان الرجل يدخل الدار، فيركز رمحه في منزل منها، ثم يأتي الآخر فيركز رمحه في بعض بيوت الدار، فكانت الدار تكون لقبيلتين وثلاث، وكانوا يسكنونها حتى إذا قفلوا سكنها الروم، وعليهم مرمّتها، وكان يزيد بن أبي حبيب يقول: لا يحلّ من كرائها شيء، ولا بيعها ولا يورث منها شيء، إنما كانت لهم يسنونها في رباطهم. وعن يزيد بن أبي حبيب: أنّ عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية، ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها، همّ أن يسكنها، وقال: مساكن قد كفيناها، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يستأذنه في ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل، فكتب عمر إلى عمرو: إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم شتاء ولا صيفا، فتحوّل عمرو بن العاص إلى الفسطاط، وقال: وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص، وهو نازل بمدائن كسرى، وإلى عامله بالبصرة، وإلى عمرو بن العاص، وهو نازل بالإسكندرية أن لا تجعلوا بيني وبينكم ماء، متى ما أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم، قدمت، فتحوّل سعد بن أبي وقاص من مدائن كسرى إلى الكوفة، وتحوّل صاحب البصرة من

المكان الذي كان فيه، فنزل البصرة، وتحوّل عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط، وكان عمر بن الخطاب يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية، وكان على الولاء لا يغفلها، ويكنف مرابطها، ولا يأمن الروم عليها. وكتب عثمان رضي الله عنه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح: قد علمت كيف كان همّ أمير المؤمنين بالإسكندرية، وقد نقضت الروم مرّتين، فألزم الإسكندرية مرابطيها، ثم أجر عليهم أرزاقهم، وأعقب بينهم في كل ستة أشهر، قال: وكانت الإسكندرية انتقضت، وجاءت الروم عليهم، منويل الخصيّ في المراكب، حتى أرسوا بالإسكندرية، فأجابهم من بها من الروم، ولم يكن المقوقس تحرّك ونكث، وقد كان عثمان رضي الله عنه، عزل عمرو بن العاص، وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلما نزلت الروم، سأل أهل مصر، عثمان أن يقرّ عمرا حتى يفرغ من قتال الروم، فإنّ له معرفة بالحرب وهيبة في العدوّ، ففعل. وكان على الإسكندرية سورها، فحلف عمرو بن العاص: لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى يكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان، فخرج إليهم عمرو في البرّ والبحر، فضموا إلى المقوقس من أطاعه من القبط، وأمّا الروم فلم يطعه منهم أحد، فقال خارجة بن حذافة لعمرو: ناهضهم قبل أن يكثر مددهم، فلا آمن أن تنتقض مصر كلها، فقال عمرو: لا، ولكن أدعهم حتى يسيروا إليّ فإنهم يصيبون من مرّوا به، فيخزي الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها، ويأكلون أطعمتها، وينتهبون ما مرّوا به، فلم يتعرّض لهم عمرو، حتى بلغوا نفيوس، فلقوهم في البرّ والبحر، فبدأت الروم القبط، فرموا بالنشاب في الماء رميا شديدا، حتى أصابت النشاب يومئذ فرس عمرو في لبته، وهو في البرّ، فعقر فنزل عنه عمرو، ثم خرجوا من البحر، فاجتمعوا هم والذين في البرّ، فنفحوا المسلمين بالنشاب، فاستأخر المسلمون عنهم شيئا، وحملوا على المسلمين حملة ولى المسلمون منها، وانهزم شريك بن سميّ في خيله، وكانت الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف، وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز، فبرز إليه رجل من زبيد يقال له: حومل، يكنى: أبا مذحج، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى البطريق الرمح، وأخذ السيف، فألقى حومل رمحه، وأخذ سيفه، وكان يعرف بالنجدة، فجعل عمرو يصيح: أبا مذحج، فيجيبه: لبيك، والناس على شاطىء النيل في البرّ على تعبيتهم وصفوفهم، فتجاولا ساعة بالسيف، ثم حمل عليه البطريق، فاحتمله، وكان نحيفا فاخترط حومل خنجرا، كان في منطقته أو في ذراعه، فضرب به نحر العلج أو ترقوته، فأثبته ووقع عليه، فأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام رحمه الله، فرؤي عمرو يحمل سريره بين عمودي نعشه حتى دفنه بالمقطم، ثم شدّ المسلمون عليهم، فكانت هزيمتهم، فطلبهم

المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتح الله عليهم، وقتل منويل الخصي، وقتلهم عمرو حتى أمعن في مدينتهم، فكلم في ذلك، فأمر برفع السيف عنهم، وبنى في ذلك الموضع الذي رفع فيه السيف مسجدا، وهو المسجد الذي بالإسكندرية الذي يقال له: مسجد الرحمة، سمي بذلك لرفع عمرو السيف هناك، وهدم سورها كله، وجمع ما أصاب منهم، فجاءه أهل تلك القرى ممن لم يكن نقض، فقالوا: قد كنا على صلحنا، وقد مرّ علينا هؤلاء اللصوص، فأخذوا متاعنا ودوابنا، وهو قائم في يديك، فردّ عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه، وأقاموا عليه البينة، وقال بعضهم لعمرو: ما حلّ لك ما صنعت بنا، كان لنا أن تقاتل عنا لأنا في ذمّتك، ولم ننقض، فأما من نقض، فأبعده الله، فندم عمرو وقال: يا ليتني كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية. وكان سبب نقض الإسكندرية هذا أن ظلما صاحب إخنا قدم على عمرو، فقال: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية، فيصير لها، فقال عمرو، وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك؟ إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب إخنا، وخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله تعالى، وأسر فأتي به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، بل انطلق، فجئنا بجيش آخر وسوّره وتوجه وكساه برنس أرجوان، فرضي بأداء الجزية، فقيل له: لو أتيت ملك الروم، فقال: لو أتيته لقتلني، وقال: قتلت أصحابي، وعن أبي قبيل: أن عتبة بن أبي سفيان عقد لعلقمة القطيفيّ على الإسكندرية، وبعث معه اثني عشر ألفا فكتب علقمة إلى معاوية بن أبي سفيان، يشكو عتبة حين غرّر به، وبمن معه، فكتب إليه معاوية: إني قد أمددتك بعشرة آلاف من أهل الشام، وبخمسة آلاف من أهل المدينة، فكان في الإسكندرية سبعة وعشرون ألفا، وفي رواية: أن علقمة بن يزيد كان على الإسكندرية، ومعه اثنا عشر ألفا، فكتب إلى معاوية: إنك خلفتني بالإسكندرية، وليس معي إلا اثنا عشر ألفا ما يكاد بعضنا يرى بعضا من القلة، فكتب إليه معاوية: إني قد أمددتك بعبد الله بن مطيع في أربعة آلاف من أهل المدينة، وأمرت معن بن يزيد السلميّ أن يكون بالرملة في أربعة آلاف مسكين بأعنة خيولهم متى بلغهم عنك فزع، يعبروا إليك. قال ابن لهيعة: وقد كان عمرو بن العاص يقول: ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة. وكان عمرو حين توجه إلى الإسكندرية، خرّب القرية التي تعرف اليوم بخربة وردان. واختلف علينا السبب الذي خربت له، فحدثّنا سعيد بن عفير: أنّ عمرا لما توجه إلى نفيوس، لقتال الروم، عدل وردان لقضاء حاجته عند الصبح، فاختطفه أهل الخربة، فغيبوه، ففقده عمرو، وسأل عنه وقفا أثره، فوجدوه في بعض دورهم، فأمر بإخرابها وإخراجهم منها، وقيل: كان أهل الخربة رهبانا كلهم، فغدروا بقوم من ساقة عمرو، فقتلوهم بعد أن

بلغ عمرو الكريون، فأقام عمرو ووجه إليهم وردان، فقتلهم وخرّبها فهي خراب إلى اليوم، وقيل: كان أهل الخربة، أهل تويت، وخبت، فأرسل عمرو إلى أرضهم، فأخذ له منها جراب فيه تراب من ترابها، فكلمهم فلم يجيبوه إلى شيء، فأمر بإخراجهم، ثم أمر بالتراب ففرش تحت مصلاه، ثم قعد عليه، ثم دعاهم، فكلمهم، فأجابوه إلى ما أحبّ، ثم أمر بالتراب فرفع، ثم دعاهم فلم يجيبوه إلى شيء، فعل ذلك مرارا، فلما رأى عمرو ذلك، قال: هذه بلدة لا يصلح أن توطأ، فأمر بإخرابها، فلما هزم الله الروم، أراد عثمان رضي الله عنه، أن يكون عمرو بن العاص على الحرب، وعبد الله بن سعد على الخراج، فقال عمرو: إنا إذا كماسك البقرة بقرنيها، وآخر يحلبها؛ فأبى عمرو، وكان فتح عمرو هذا عنوة قسرا في خلافة عثمان سنة خمس وعشرين، وبينه وبين الفتح الأوّل أربع سنين. وقال الليث: كان فتح الإسكندرية الأوّل سنة اثنتين وعشرين، وكان فتحها الآخر خمسة وعشرين. وأقامت الجيش من السماء يقاتلون الناس سبع سنين بعد أن فتحت مصر مما يفتحون عليهم من تلك المياه والغياض، قال: ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ذا الصواري، في سنة أربع وثلاثين. وكان من حديث هذه الغزوة: أنّ عبد الله بن سعد لما نزل ذو الصواري أنزل نصف الناس، مع بسر بن أرطاة في البرّ، فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله بن سعد فقال: ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل في ألف مركب فافعله الساعة، وكانت مراكب المسلمين مائتي مركب ونيفا، فقام عبد الله بن سعد بين ظهراني الناس، فقال: بلغني أن ابن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب فأشيروا عليّ، فما كلمه رجل من المسلمين، فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم، ثم قام الثانية، فكلمهم فما كلمه أحد، فجلس. ثم قام الثالثة، فقال: إنه لم يبق شيء فأشيروا عليّ، فقام رجل من أهل المدينة، كان متطوّعا مع عبد الله بن سعد، فقال: أيها الأمير، إنّ الله جلّ ثناؤه يقول: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة/ 249] ، فقال عبد الله: اركبوا، فركبوا، وإنما في كل مركب نصف شحنته، لأنه قد خرج النصف الآخر إلى البرّ مع بسر، فلقوهم، فاقتتلوا بالنبل والنشاب، وتأخر ابن هرقل، لئلاتصيبه الهزيمة، وجعلت القوارب تختلف إليه بالأخبار، فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد اقتتلوا بالنبل والنشاب، فقال: غلبت الروم، ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفد النبل والنشاب فهم يرمون بالحجارة، فقال: غلبت الروم، ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفدت الحجارة، وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف، قال: غلبت الروم، وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال، قال: فقرن مركب عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدوّ، فكان مركب العدوّ يجترّ مركب عبد الله إليهم، فقام علقمة بن يزيد القطيفيّ، وكان مع عبد الله بن سعد في المركب، فضرب السلسلة بسيفه، فقطعها فسأل عبد الله امرأته بعد ذلك، بسيسة ابنة حمزة بن يشرح، وكانت

ذكر بحيرة الإسكندرية

مع عبد الله يومئذ، وكان الناس يغزون بنسائهم في المراكب: من رأيت أشدّ قتالا؟ قالت علقمة: صاحب السلسلة، وكان عبد الله قد خطب بسيسة إلى أبيها، فقال له: إن علقمة قد خطبها، وله عليّ فيها رأي، فإن تركها أفعل، فكلم عبد الله علقمة، فتركها، فتزوّجها عبد الله بن سعد، ثم هلك عنها عبد الله، فتزوّجها بعده علقمة بن زيد، ثم هلك عنها علقمة، فتزوّجها بعده كريب بن أبرهة، وماتت تحته. وقيل: مشت الروم إلى قسطنطين ابن هرقل في سنة خمس وثلاثين، فقالوا: أنترك الإسكندرية في أيدي العرب وهي مدينتنا الكبرى؟ فقال: ما أصنع بكم ما تقدرون أن تمالكوا ساعة إذا لقيتم العرب، قالوا: اخرج على أنا نموت، فتبايعوا على ذلك، فخرج في ألف مركب يريد الإسكندرية، فسار في أيام غالبة الرياح، فبعث الله عليهم ريحا فغرّقهم إلا قسطنطين فإنه نجا بمركبه، فألقته الريح بصقلية، فسألوه عن أمره فأخبرهم، فقالوا: شتّت النصرانية، وأفنيت رجالها لو دخلت العرب علينا لم نجد من يردّهم، فقال: خرجنا مقتدرين فأصابنا هذا، فصنعوا له الحمام، ودخلوا عليه فقال: ويلكم يذهب رجالكم، وتقتلون ملككم؟ قالوا: كأنه غرق معهم، ثم قتلوه وخلوا من كان معه في المركب. قال أبو عمرو الكنديّ: وإنما سميت غزوة ذي الصواري لكثرة صواري المراكب واجتماعها. ذكر بحيرة الإسكندرية قال ابن عبد الحكم: كانت بحيرة الإسكندرية كروما كلها لامرأة المقوقس، فكانت تأخذ خراجها منهم الخمر بفريضة عليهم، فكثر الخمر عليها، حتى ضاقت به ذرعا، فقالت: لا حاجة لي في الخمر، أعطوني دنانير، فقالوا: ليس عندنا، فأرسلت إليهم الماء، فغرّقتها فصارت بحيرة يصاد فيها الحيتان حتى استخرجها الخلفاء من بني العباس، فسدّوا جسورها وزرعوها، ثم صارت بحيرة طولها إقلاع يوم في عرض يوم، ويصير إليها الماء من أشتوم في البحر الروميّ، ويخرج منها إلى بحيرة دونها في خليج عليه مدينتان: إحداهما الحدبة، والأخرى اتكو، وهي كثيرة المقاثي والنخل، وكلها في الرمل ويصب في هذه البحيرة خليج من النيل يسمى: الحافر، طوله نصف يوم أقلاعا، وهو كثير الطير والسمك والعشب، وكان السمك بوجود هذه البحيرة في الإسكندرية غاية في الكثرة، يباع بأقلّ القيم، وأبخس الأثمان، ثم انقطع الماء عن هذه البحيرة منذ. ذكر خليج الإسكندرية يقال: إن كلوباطرة الملكة، هي التي ساقت خليج الإسكندرية حتى أدخلته إليها، ولم يكن يبلغها الماء، فحفرته حتى أدخلته الإسكندرية، وبلطت قاعه بالرخام من أوّله إلى آخره، ولم يزل يوجد ذلك فيه.

وقال أبو الحسن المخزومي في كتاب المنهاج: أمّا خليج الإسكندرية فإنه من فوهة الخليج إلى ترعة بودرة ليس على شيء منها سدّ بمخرج محلة تبوك اسينة أورين محلة، فرنو محلة، حسن منية طراد، وتعرف بالقاعة محلتا نصر ومسروق، فأمّا ترعة لقانة فإنها تفتح بعد سبعة أيام من توت، والترعة الجديدة تفتح في السادس عشر من توت، وترعة بودرة تفتح بعد سبعة أيام من توت، وترعة بو يحيى، وترعة بو السحما، وترعة القهوقية ليس على شيء من ذلك سدّ، وترعة الشراك تفتح بعد سبعة أيام من توت، وترعة بو خراشة، وترعة البربيط يشرب منها ديسو وسمخراط، وشيرنوبة، ومنية حماد، وسنادة، وبعض محلة مارية، وترعة فيشة بلخا تفتح في ثاني عشر توت، وجرت العادة أن تفتح في النوروز، ترعة بويط، ومقطع سمديسة يفتح في الثاني والعشرين من توت، ومقطع ياطس يفتح في تاسع عشر توت، ولما سدّ المقطع المذكور عملت بعد ذلك ترعة تروي الصفقة القبلية منها، فتفتح في يوم النوروز، ولما استحدثت ترعة أفلاقة، وخرجت في أرض ياطس جرت العادة إذا رويت الصفقة القبلية من أفلاقة، تطلق الترعة المذكورة على القسم البحريّ من ياطس إلى أن يروي، وترعة القارورة محدثة، وترعة بفوها تفتح في ثاني عشر توت، وترعة افلاقة تفتح في عاشر توت، وترعة اسكنيدة تفتح في سادس توت. تراع بحر دمنهور تفتح في العشرين من مسري إلى سادس توت، ويروى منها بعض طاموس، وبعض كنيسة الغيط، وبعض قرطسا ودمنهور، ترعة القواديس منها تشرب شبرا النخلة، وكوم التلول، وتراع شبرا النخلة تفتح على أعاليها من أوّل توت، وترعة بسطري تفتح في خامس عشر مسري، وترعة مسيد تفتح في ثامن توت، وترعة سنتوية تفتح في ثامن عشر توت، وبحر دمشوية يفتح في العشرين من مسري، ومنه تشرب منية رزقون وسفط كرداسة ودمشوية ومحلة الشيخ ومصيل، وترعة دمشوية تفتح في تاسع توت ويقيم الماء عليها سبعة عشر يوما، وتفتح إلى محلة الشيخ ومصيل يقيم الماء عليها ثلاثين يوما، ويسدّ بعد ذلك على دمشوية سبعة أيام، وعلى سفط ومنية رزقون، ترعة برسيق كانت تفتح في أوّل توت. محلة برسيق: ليس عليها سدّ. محلة الكروم تفتح في ثامن توت ومنها تشرب عدّة أماكن وهي محلة الكروم وكفورها، وهي دنيسة، وكوم الولائد وكوم الصخرة وديرامس والصفاصف، وما يخرج عن كفورها، وهي تلمسان والجلمون من حقوق محلة كيل، ومنها تشرب الجهة الغربية. شبرابار ليس عليها سدّ وترعة قافلة كانت تفتح في ثامن توت، وليس عليها الآن سدّ، وترعة بلقطر وكفورها كانت تفتح في تاسع توت، وليس عليها الآن سدّ.

ترعة الراهب ليس عليها سدّ، وترعة دسونس المقاريضي تسقي الحلفاية وتفتح في ثامن توت، وكذلك ترعة مرحنا والملعقية، وترعة نيلامة، وبيشاي، وآخر تراع الحجيجة، وترعة الكريون تفتح في ثامن توت، وترعة السلقون كانت تفتح في سادس توت، وليس عليها الآن سدّ، وترعة أرمياخ تفتح في ثاني عشر توت، وترعة ابلوق تفتح في سادس توت، وأمّا جون رمسيس، فإنّ بحر رمسيس كان يضرب السدّ فيه على تراع رمسيس من أوّل النيل إلى سابع عشر توت، والذي يشرب من السدّ المذكور من النواحي والكفور رمسيس ومحلة جعفر وفليشان، وبعض أبنية البعيديّ، وبعض خربتا وبعض البلكوس، وبعض بولين وبعض محلة وافد والبيضاء، وبعض طيلاس، ثم يفتح سدّ دكدولة، وهو محدث يقيم الماء عليه عشرة أيام، وتشرب منه دكدولة، ومحلة معن ومنية أسامي وبعض صيفية، ثم يقطع سدّ الفطامي وهو محدث، ومنه يشرب بعض جنبوية وبليانة البحرية والسرّة وأبو حمار والبهوط، ثم يقطع سدّ رسونس، وأبو دينار وترعة طبرينة، فيشرب منه دنسال وطلموس يقيم الماء عليها ستة أيام، ومنه تشرب منية عطية وسلطيس. وأما بحر دمنهور فإنه يسدّ على سلطيس إلى سابع عشر توت، ومنه تشرب سلطيس وزهرا وبعض طابوس وبعض قرطسا وبعض كنيسة الغيط ودمنهور، ثم يقطع سدّ نديبة وهو محدث فيقيم ثمانية أيام ومنه تشرب نديبة ودقرس والعميرية والنسرين، ثم يفتح ويسدّ على محلة خفض، ومحلة كيل ومحلة نمير، ثم يقطع سدّ سلطيس، وهو محدث فيقيم عشرة أيام بعد اختلاط الماءين ببحر دمنهور، ورمسيس، ثم يقطع جسر ملولة ومنه تشرب تروجة وأرسيس والمراسي وغابة الأعساس وبعض سمرو، ومحلة نمير، ويبقى هناك إلى انقضاء النيل. وأمّا ترعة طبرينة فهي محدثة وإذا رويت طبرينة تطلق على دسونس أمّ دينار، ثم تقطع على طاموس بمقدار ريّها ثم تطلق في النيل العالي على أرض قراقس ويطلق الماء على قرطسا وكنيسة الغيط وخليج الطبرينة إذا خرج الماء منه يسقى منه في أوّل النيل إلى أن يضرب جسر شبراوسيم، فيسقي منه شبراوسيم، وبعض البلكوس، وحفيرة الزعفراني، وبعض بولين، ومسجد غانم والصوّاف وكوم شريك ومنية مغيين، وتل الفطامي ومحلة وافد، ثم يقطع جسر دليجة، ومنه يشرب بعض خربتا، وبعض فليشان وبعض بولين والبيضاء، ودنست وتلبانة الأبراج، وتل بقا والحدّين واليهودية، والنسوم، وأبو صمادة والحصن وقلاوة بني عبيد وطوخ دخاية ودرشا وسقرا ودليجة ولمحة وطيبة، ثم يقطع على منية وزراقة الحجر والمحزون وبعض حيارس وافزيم وأبو سمار وأمّ الضروع. خليج ابن زلوم ويعرف بخليج ابن ظلوم، وسدّ مخرج التعيدي لا يفتح إلى عشرة أيام من توت، ومنه يشرب شابور وكنيسة مبارك وبعض سرسيقة وبعض دموشة ومنية يزيد

وحوض الماصلي وحصة سلمون وبعض سنيت وبعض التعيدي وبعض فليشان، ثم يفتح فيشرب منه أمليط وبعض انباي وبعض كنيسة عبد الملك وبعض أرمنية وميسنا وبعض محلة عبيد وسفط خالد وبرنامة وشبرانوبة وكيمان شراس، وبعض دمشوه وتقام الحرّاس على جسر سفط، ويشرب من خليج الإسكندرية وما يفيض منه أهل الباطن، وأهل البحيرة في فجاج وأودية، فيكون ذلك الماء صلة وهم قبيل من دنانة والرمحانة وبني يزان، وقبائل البربر، ويزرعون عليه فيستوفي منهم الخراج وبين مشارق الفرما من ناحية جوجير وقاقوس وبين آخر ما يشرب من خليج الإسكندرية مسيرة شهر كان عامرا كله في محلول ومعقود إلى ما بعد الخمسين وثلثمائة من سني الهجرة، وقد خرب معظم ذلك. وقال أبو بكر الطرطوسي عمن حدّثه من مشايخ البحر أنه قال: شاهدت الإسكندرية والصيد في الخليج: مطلق للرعية والسمك فيه يطفو الماء به كثرة، حتى تصيده الأطفال بالخرق، ثم حجره الوالي ومنع الناس من صيده فذهب حتى كاد لا يرى فيه إلا الواحدة بعد الواحدة إلى يومنا هذا. وقال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الموالي عن الحارث بن مسكين: أنه تقلد قضاء مصر من قبل أمير المؤمنين الواثق بالله في سنة تسع وثلاثين ومائتين، فذكر سيرته وقال: وحفر خليج الإسكندرية، وورد الكتاب بصرفه في شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين. وقال جامع السيرة الطولونية: وفي ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين ومائتين أمر أحمد بن طولون بحفر خليج الإسكندرية. وقال المسعوديّ: وقد كان النيل انقطع عن بلاد الإسكندرية قبل سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وقد كان الإسكندر، بنى الإسكندرية على هذا الخليج من النيل وكان عليها معظم ماء النيل، فكان يسقي الإسكندرية، وبلاط مربوط، وكانت بلاد مربوط، في نهاية العمارة والجنان المتصلة بأرض برقة، وكانت السفن تجري في النيل وتتصل بأسواق الإسكندرية، وقد بلط أرض خليجها في المدينة بالأحجار والمرمر وانقطع الماء عنها لعوارض سدّت خليجها، ومنعت الناس دخوله، فصار شربهم من الآبار، وصار النيل على يوم منهم. وذكر المسبحيّ: أن الحاكم بأمر الله، أبا منصور بن العزيز، أطلق لحفر خليج الإسكندرية في سنة أربع وأربعمائة، خمسة عشر ألف دينار، فحفر كله، وفي سنة اثنتين وستين وستمائة، بعث الملك الظاهر بيبرس، الأمير عليا أمير جاندار لحفر خليج الإسكندرية، وقد امتلأت فوهته بالطين، وقلّ الماء في الإسكندرية فابتدأ بالحفر من التعيدي، وأنشأ هناك مسجدا وتولى مباشرة هذا الحفر، المعلم تعاسيف، ناظر الدواوين، ثم بعث السلطان في سنة أربع وستين وستمائة لحفر هذا الخليج، الأمير علم الدين سنجر

المسروري، ثم سار بعامّة الأمراء والأجناد وباشر الحفر بنفسه، وعمل فيه الأمراء، وجميع الناس إلى أن زالت الرمال التي كانت على الساحل بين التعيدي وفم الخليج، ثم عدّى إلى بار نبار، وغرّق مراكب هناك، وبنى عليها بالحجارة، فلما تم الغرض عاد إلى قلعة الجبل، ثم تعطل استمرار جريان الماء فيه بطول السنة، وصار يحفر سريعا بعد شهرين أو نحوهما من دخول الماء إليه، واحتاج أهل الإسكندرية في طول السنة إلى الشرب من الصهاريج التي يخزن فيها الماء إلى أن كانت سنة عشر وسبعمائة، فقدم الأمير بدر الدين بكتوت الخزنداري المعروف بأمير شكار، متولي الإسكندرية إلى قلعة الجبل، وحسّن للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاون حفره، وذكر له ما في ذلك من المنافع أوّلها حمل الغلال وأصناف المتجر إلى الإسكندرية في المركب، وفي ذلك توفير للكلف وزيادة في مال الديوان، وثانيها عمارة ما على حافتي الخليج من الأراضي بإنشاء الضياع والسواقي، فينمو الخراج بهذا نموّا كثيرا، وثالثها انتفاع الناس به في عمارة بساتينهم، وشرب مائه دائما، فأعجب السلطان ذلك، وندب الأمير بدر الدين محمد بن كندعدي بن الوزيري مع بكتوت لعمله، وتقدّم إلى جميع أمراء الدولة بإخراج مباشريهم لإحضار رجال النواحي الجارية في إقطاعاتهم العمل للحفير، وكتب لولاة الأعمال بالوقوف في العمل، فاجتمع من النواحي نحو الأربعين ألف رجل، جمعت في نحو العشرين يوما، ووقع العمل في شهر رجب من السنة المذكورة وأفرد لكل أهل ناحية قطعة يحفرونها حتى كمل، فجاء قياس الحفر، من فم بحر النيل إلى ناحية شنبار، ثمانية آلاف قصبة حاكمية، ومن شنبار إلى الإسكندرية مثلها، وكان الخليج الأصليّ يدخل الماء إليه، من حدّ شنبار، فجعل فم هذا البحر يرمي عليه، وعمل عمقه، ست قصبات في عرض، ثماني قصبات، فلما انتهوا إلى حدّ الخليج الأوّل حفر أيضا على نظير الخليج المستجدّ، فصارا بحرا واحدا، وركبت عليه السدود، والقناطر، ووجد في الخليج الأوّل عند حفره من الرصاص المبنيّ تحت الصهاريج شيء كثير جدّا، فلم يتعرّض السلطان لشيء منه، وأنعم به على الأمير بكتوت، وعظمت المشقة في حفر هذا الخليج، فإنّ الذي تجاوز البحر منه غلب عليه الماء، فصارت الرجال تغطس فيه وترفع الطين من أسفله، ثم كثر الماء فركبت السواقي حتى نزحته، إلا أنّ عظيم النفع به سهل جميع ذلك، فإنّ السفن جرت فيه طول السنة، واستغنى أهل الإسكندرية عن شرب ماء الصهاريج، وبادر الناس للعمارة على جانبي الخليج، فلم يمض غير قليل حتى استجدّ عليه ما يزيد على مائة ألف فدّان زرعت بعد ما كانت سباخا، وما ينيف على ستمائة ساقية برسم القلقاس والنيلة والسمسم، وفوق الأربعين ضيعة، وأزيد من ألف غيط بالإسكندرية، وعمرت منه عدّة بلاد كثيرة، وتحوّل عالم عظيم إلى سكنى ما استجدّ عليه. وفيه: ولما فرغ العمل في الخليج شرع الأمير بكتوت في عمل جسر من ماله، فإنّ الناس كانوا في وقت هيجان البحر يجدون مشقة عظيمة لغلبة الماء على أراضي السباخ،

ذكر جمل حوادث الإسكندرية

فأقام ثلاثة أشهر حتى بنى رصيفا دك أساسه بالحجر والرصاص، وأعلاه بالحجر والكلس، وعمل فيه ثلاثين قنطرة، وأنشأ خانا ينزله الناس، ورتب فيه الخفراء ووقف على مصالحه رزقة، فبلغ مصروفه نحو الستين ألف دينار مصرية سوى ما أخذ من الحجارة التي بعضها من قصر قديم كان خارج الإسكندرية، وسوى ما وجده من الرصاص في سرب بأسفل هذا القصر ينتهي بمن يمشي فيه إلى قريب البحر، وسوى ما أنعم به عليه من الرصاص الموجود بالخليج، ولم يزل الخليج فيه الماء طول السنة إلى ما بعد سنة سبعين وسبعمائة، فانقطع الماء منه وصار الماء لا يدخل إليه إلا في أيام زيادة ماء النيل فقط ثم يجف عند نقصه فتلف من أجل هذا أكثر بساتين الإسكندرية وخربت وتلاشى كثير من القرى التي كانت على هذا الخليج. وسبب انقطاع الماء عنه غلبة الروم على الأشتوم الذي كان يعبر منه ماء بحر الملح إلى بحيرة الإسكندرية حتى جفت، وصار الرمل تلقيه الرياح في الخليج فانطمّ منه وعلا قاعه، وقصد من أدركناه من ملوك مصر حفر هذا الخليج غير مرّة، فلم يتهيأ ذلك إلى أن كانت سلطنة الملك الأشرف، برسباي، فندب لحفره الأمير جرباش الكريمي المعروف بعاشق، فتوجه إليه وجمع له من قدر عليه من رجال النواحي فبلغت عدّتهم ثمانمائة وخمسة وسبعين رجلا ابتدؤوا في حفره من حادي عشر جمادى الأولى سنة ست وعشرين وثمانمائة إلى حادي عشر شعبان لتمام تسعين يوما، فانتهى عملهم، ومشى الماء في الخليج، حتى انتهى إلى حدّه من مدينة الإسكندرية، وجرت فيه السفن، فسرّ الناس به سرورا كبيرا وجبى ما أنفق على العمال في الحفر من أرباب النواحي التي على الخليج، ومن أرباب البساتين بالإسكندرية، ولم يكن في حفره كبير شناعة مما جرت به عادة الولاة في مثل ذلك، ولله الحمد، وعند ما انتهى قدم الأمير جرباش إلى قلعة الجبل، فخلع السلطان عليه وشكره، ثم عمله حاجب الحجاب، فلم يستمرّ ذلك إلا قليلا حتى انطمّ بالرمل وتعذر سلوك الخليج بالمراكب إلا في أيام النيل فقط. ذكر جمل حوادث الإسكندريّة وفي سنة تسع وتسعين ومائة، عظمت الحروب بديار مصر بين المطلب بن عبد الله الخزاعيّ «1» أمير مصر، وبين عبد العزيز بن الوزير الجرويّ، الثائر بتنيس، فعقد المطلب على الإسكندرية، لمحمد بن هبيرة بن هاشم بن خديج، فاستخلف محمد خاله، عمر بن عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج، الذي يقال له: عمر بن ملاك،

ثم عزله المطلب بعد ثلاثة أشهر، بأخيه الفضل بن عبد الله بن مالك، وكانت بالإسكندرية مراكب الأندلسيين قد قفلوا من غزوهم، وكان سبب قدوم هذه المراكب ما جرى لأهل قرطبة بوقعة الربض مع الحكم بن هشام في سنة اثنتين وثمانين ومائة، فأخرج جماعة منهم، فوصلوا إلى صغر الإسكندرية، زيادة على عشرة آلاف، وكان سبب ثورتهم أنّ قصابا من الإسكندرية، رمى وجه رجل منهم بكرش، فأنفوا من ذلك وصاروا إلى ما صاروا إليه، وذلك لما نزلوا رمل الإسكندرية ليبتاعوا ما يصلحهم، وكذلك كانوا على الزمان، وكانت الأمراء لا تبيحهم دخول الإسكندرية إنما كان الناس يخرجون إليهم، فيبايعونهم، فلما عزل عمر بن ملاك كتب إليه عبد العزيز الجرويّ يأمره بالوثوب على الإسكندرية، والدعاء له بها، فبعث عمر بن ملاك إلى الأندلسيين، فدعاهم إلى القيام معه في إخراج الفضل عنها، فساروا معه، وأخرج الفضل، ودعا للجروي، فوثب أهل الإسكندرية على الأندلسيين وأخرجوهم وردّوا الفضل، وقتل من الأندلسيين نفر، وانهزم الباقون إلى مراكبهم، فعزل المطلب أخاه، وولى عليها إسحاق بن أبرهة بن الصباح، في شهر رمضان سنة تسع وتسعين، ثم عزله بأبي ذكر بن جنادة المعافري. فلما اقتتل السري بن الحكم هو والمطلب بن عبد الله، وغلب السري على مصر، وثب عمر بن ملاك، على أبي بكر، وأخرجه من الإسكندرية، ودعا للجرويّ، وأقبل الأندلسيون إليه فأفسدوا، فأمرهم بالخروج إلى مراكبهم، فشق ذلك عليهم، وظهرت بالإسكندرية طائفة يسمون بالصوفية، يأمرون بالمعروف، ويعارضون السلطان في أموره، فترأس عليهم رجل منهم يقال له: أبو عبد الرحمن الصوفيّ، فصاروا مع الأندلسيين يدا واحدة، واعتضدوا بلخم، وكانت لخم أعز من في ناحية الإسكندرية، فخوصم أبو عبد الرحمن الصوفيّ إلى عمر بن ملاك في امرأة، فقضى على أبي عبد الرحمن، فوجد في نفسه من ذلك، وخرج إلى الأندلسيين فألّف بينهم وبين لخم، ورجا أهل الأندلس أن يدركوا ثارا من عمر بن ملاك، فساروا إلى عمر بن ملاك، وهم زهاء عشرة آلاف، فحصروه في قصره، وخشي أنّ القصر لا يمنعه منهم، وخاف أن يدخلوا عليه عنوة، فيفضح في حرمه، فاغتسل، وتحنط، وتكفن، وأمر أهله أن يدلوه إليهم، فدلي فأخذته السيوف، فقتل. ثم ولي أخوه محمد بن عبد الله الذي يلقب: جيوس، فقتل، ثم ولي عليهم عبد الله البطال بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج، فقتل، ثم ولي عليهم أخوه أبو هبيرة الحارث، فقتل، ثم ولي عليهم خديج بن عبد الواحد، فقتل، وانصرف القوم، وذلك في ذي القعدة، ثم فسد ما بين لخم والأندلسيين عند مقتل ابن ملاك واقتتلوا، فانهزمت لخم. فظفر الأندلسيون بالإسكندرية في ذي الحجة، فولوها أبا عبد الرحمن الصوفيّ، فبلغ

من الفساد والنهب والقتل ما لم يسمع بمثله، فعزله الأندلسيون، وولوا رجلا منهم يعرف بالكنانيّ، ثم حاربت بنو مدلج الأندلسيين فظفر بهم الأندلسيون ونفروهم عن البلاد، فلم يقدر بنو مدلج على الرجوع إلى أرض الإسكندرية حتى طلب السريّ من الأندلسيين أن يردّوهم، فأذنوا لهم حينئذ ورجعوا، وكان أبو قبيل يقول: أنا على الإسكندرية من أربعين مركبا مسلمين وليسوا بمسلمين، تأتي في آخر الصيف أخوف مني عليها من الروم، فيقال له: ما هذه الأربعون مركبا في هذا الخلق، لو كانت نيرانا تضطرم، فيقول: اسكت ويلك منها، وممن فيها يكون خراب الإسكندرية وما حولها، وبلغ عبد العزيز الجرويّ قتل ابن ملاك، فسار في خمسين ألفا، حتى نزل على حصن الإسكندرية، وحصرها حتى أجهد من فيها، فبلغه: أن السري بن الحكم بعث إلى تنيس بعثا، فكرّ راجعا في المحرّم سنة إحدى ومائتين، فدعا الأندلسيون للسري، ثم لما خلع أهل مصر المأمون، ودعوا لإبراهيم بن المهديّ، وقام الجرويّ بذلك سار إلى الإسكندرية وحصر الأندلسيين حتى دخلها صلحا، ودعي له بها ثم سار عنها إلى الفسطاط، فحارب السري وقتل ابنه، ثم انصرف، فسار الأندلسيون بعامل الجرويّ، وأخرجوه من الإسكندرية وخلعوا الجرويّ، ودعوا للسريّ فسار إليهم الجرويّ في شهر رمضان سنة ثلاث ومائتين، فعارضته القبط بسخا وأمدّتهم بنو مدلج، وهم في نحو من مائتي ألف فهزمهم، وبعث بجيوشه إلى الإسكندرية فحاصروها، وكانت بين السريّ وبين أهل الصعيد حروب، ثم إنّ الجرويّ سار إلى الإسكندرية سيره الرابع، وحاصرها ونصب عليها المجانيق سبعة أشهر، من أوّل شعبان سنة أربع ومائتين إلى سلخ صفر سنة خمس، فأصاب الجرويّ فلقة من حجر منجنيقة، فمات سلخ صفر سنة خمس ومائتين، وقام من بعده ابنه عليّ. فلم تزل الفتن بالأندلسيين في الإسكندرية متصلة إلى أن قدم عبد الله بن طاهر إلى مصر من قبل أمير المؤمنين المأمون، وأخرج عبيد الله بن السريّ من مصر، وسار إلى الإسكندرية في قوّاد العجم من أهل خراسان مستهلّ صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين، فحاصرها بضع عشرة ليلة، حتى خرج إليه أهلها بأمان وصالحه الأندلسيون على أن يسيرهم من الإسكندرية حيث أحبوا، على أن لا يخرجوا في مراكبهم أحدا من أهل مصر، ولا عبدا ولا آبقا، فإن فعلوا فقد حلت له دماؤهم، ونكث عهدهم وتوجهوا، فبعث ابن طاهر، من يفتش عليهم مراكبهم، فوجدوا فيها جمعا من الذين اشترط عليهم أن لا يخرجوهم، فأمر بإحراق مراكبهم، فسألوه أن يردّهم إلى شرطهم، ففعل وساروا إلى جزيرة أقريطش، وملكوها، وكان الأمير معهم أبو حفص عمر بن عيسى، ثم ملكها ولده من بعده، وعمرها الأندلسيون إلى أن غزاها الروم سنة خمس وأربعين وثلثمائة، وملكها بعد حصار طويل، وولى على الإسكندرية إلياس بن أسد بن سامان، ورجع إلى الفسطاط في جمادى الآخرة، ثم سار إلى العراق، ولما انتقض أسفل الأرض في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين،

وحاربهم الأفشين ومعه عيسى بن منصور الرافقيّ أمير مصر، وبعث عبد الله بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ إلى الغربية، فانهزم إلى الإسكندرية، واستجاشت عليه بنو مدلج وحصروه في شوّال، فسار الأفشين وأوقع بمن في طريقه حتى قدم الإسكندرية في جنوده، فلقيته طائفة من بني مدلج، فهزمهم مرّتين وأسر منهم وقتل ودخل الإسكندرية لعشر بقين من ذي الحجة، ففرّ منه رؤساؤها. وكان عليها معاوية بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج، فأصلح أمرها، ثم خرج إلى أهل البشرود، فامتنعوا عليه حتى قدم المأمون إلى مصر، فصار إلى البشرود والأفشين قد أوقع بالقبط بها كما تقدّم ذكره. ولما ولي إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب إفريقية في سنة إحدى وستين ومائتين حسنت سيرته، فكانت القوافل والتجار تسير في الطرق وهي آمنة وبنى الحصون، والمحارس على ساحل البحر حتى كانت توقد النار من مدينة سبتة إلى الإسكندرية، فيصل الخبر منها إلى الإسكندرية في ليلة واحدة، وبينهما مسيرة أشهر. وفي سنة اثنتين وثلثمائة دخل حباسة «1» في جيوش إفريقية إلى الإسكندرية في المحرّم، ومعه مائة ألف أو زيادة عليها، وقدمت الجيوش من المشرق، مددا لتكين أمير مصر، وسار حباسة من الإسكندرية ونودي بالنضير في الفسطاط لعشر بقين من جمادى الآخرة، فلم يتخلّف عن الخروج إلى الجيزة أحد من الخاصة والعامّة، إلا من عجز عن الحركة لمرض، أو عذر، وأتاهم حباسة فلقوه وهزموه، ثم دار عليهم، فقتل من أهل مصر نحوا من عشرة آلاف، ونهض حباسة إلى إفريقية، وأقاموا بمصر مضطربين. فأقبل مؤنس الخادم من العراق في رمضان بجيوش كثيرة، فصرف تكين في ذي القعدة، وولى ذكاء الأعور «2» في صفر سنة ثلاث وثلثمائة، فخرج في جيوشه إلى الإسكندرية، وتتبع كل من يومأ إليه بمكاتبة صاحب إفريقية، فسجن منهم، وقتل كثيرا وجلا أهل لوبية ومراقية إلى الإسكندرية في شوّال سنة أربع وثلثمائة، خوفا من صاحب برقة. وفي سنة سبع وثلثمائة، سارت مقدّمة المهديّ، عبيد الله من إفريقية مع ابنه أبي القاسم إلى لوبية، فهرب أهل الإسكندرية وجلوا عنها، وخرج منها مظفر بن ذكاء الأعور في جيشه، ودخلت إليها العساكر يوم الجمعة لثمان خلون من صفر، وفرّ أهل القوّة من الفسطاط إلى الشأم، فخرج ذكاء أمير مصر إلى الجيزة، وعسكر بها، ثم مرض ومات على مصافه بالجيزة في ربيع الأوّل.

فولي تكين بعده ولايته الثانية من قبل المقتدر، ونزل الجيزة وأقبلت مراكب صاحب إفريقية إلى الإسكندرية عليها سليمان الخادم، فقدم ثمل الخادم صاحب مراكب طرسوس، فالتقيا برشيد في شوّال، فاقتتلا فبعث الله ريحا على مراكب سليمان ألقتها إلى البر فتكسر أكثرها، وأخذ من فيها أخذا باليد، وقتل أكثرهم، وأسر من بقي وسيقوا إلى الفسطاط فقتل منهم نحو سبعمائة رجل، وسار أبو القاسم بن المهدي من الإسكندرية إلى الفيوم، وملك جزيرة الأشمونين والفيوم، وأزال عنها جند مصر، فمضى ثمل الخادم في مراكبه إلى الإسكندرية، فقاتل من بها من أهل إفريقية، فظفر بهم، ونقل أهل الإسكندرية إلى رشيد وعاد إلى الفسطاط، ومضى في مراكبه إلى اللاهون، ولحقته العساكر، فدخلوا إلى الفيوم في صفر سنة سبع وثلثمائة، فخرج أبو القاسم بن المهدي إلى برقة، ولم يكن بينهما قتال، ورجعت العساكر إلى الفسطاط، وما زالت الإسكندرية وأعمالها في اضطراب إلى أن قدمت جيوش المعز لدين الله، مع القائد جوهر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، فملكتها وما برحت إلى أن قام بها نزار بن المستنصر، وكان من أمره ما قد ذكر عند ذكر خزائن القصر. وفي سنة اثنتي عشرة وستمائة، اجتمع بالإسكندرية ثلاثة آلاف من تجار الفرنج، وقدمت بطسة إلى المينا فيها من ملوك الفرنج، ملكان، فهموا أن يثوروا ويقتلوا أهل البلد، ويملكوها، فتوجه الملك العادل، أبو بكر بن أيوب، إليها وقبض على التجار المذكورين، وعلى من بالبطسة واستصفى أموالهم، وسجنهم وسجن الملكين، وجرت خطوب حتى أطلق السلطان نساءهم، وعاد إلى القاهرة. وفي سنة أربع وخمسين وخمسمائة، بنى الملك الصالح طلائع بن رزيك على بلبيس حصنا من لبن. وفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة، كانت وقعة البابين بين الوزير شاور، وأسد الدين شيركوه، فانهزم عسكر شيركوه، ومضى منهم طائفة إلى الإسكندرية، ثم كانت لشيركوه على شاور، فانهزم منه إلى القاهرة، ومضى شيركوه إلى الإسكندرية، فخرج إليه أهل الثغر، وفيهم: نجم الدين محمد بن مصال والي الثغر وقاضيه الأشرف بن الخباب، وناظره القاضي الرشيد بن الزبير، وسرّوا بقدومه وسلّموه المدينة؛ ثم سار منها يريد بلاد الصعيد. واستخلف ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على الثغر في ألف فارس، فنزل عليه شاور، ومعه: مري ملك الفرنج، فقام معه أهل الثغر، واستعدّوا لقتال شاور، فكان ما أخرجوه أربعة وعشرين ألف فرس، فوعدهم شاور أن يضع عنهم المكوس والواجبات، ويعطيهم الخمس إذا سلموه صلاح الدين، فأبوا ذلك، وألحوا في قتاله، فحصرهم حتى قلّ الطعام عندهم، فتوجه إليهم شيركوه وقد حشد من العربان جموعا كثيرة، فبعث إليه شاور

وبذل له خمسة آلاف دينار على أن يرجع إلى الشأم، فأجابه إلى ذلك، وفتحت المدينة، وخرج صلاح الدين إلى مري ملك الفرنج، وجلس معه، فما زال به شاور أن يسلمه صلاح الدين، فلم يوافقه، بل سيره إلى عمه شيركوه من البحر على عكا بمن معه إلى دمشق، ودخل شاور إلى الإسكندرية في سابع عشر شوّال، فاستتر ابن مصال، وفرّ إلى الشأم، وقبض على ابن الخباب، وعوقب حتى فداه أهله بمال جزيل، ولم يقدر على ابن الزبير، وخرج إلى رشيد. هذا وقد امتنع الفقيه أبو الطاهر بن عوف، وجماعة كثيرة بالمنار فوقف عليهم شاور، فقال له ابن عوف: اعذرنا يا أمير الجيوش، وسامحنا بما فعلناه، فعفا عنهم، وولي القاضي الأشرف أبا القاسم عبد الرحمن بن منصور بن نجا، ناظرا على الأموال، وخرج ومعه مري ملك الفرنج إلى القاهرة، ثم توجه مري إلى بلاده. وفي سنة إحدى وسبعين وستمائة، ورد الخبر بحركة الفرنج إلى ثغور مصر، فاهتم الملك الظاهر بيبرس بأمر الشواني، ونصب على أسوار الإسكندرية نحو مائة منجنيق. وفي يوم الخميس شهر رجب سنة سبع وعشرين، خرج بعض تجار الفرنج إلى ظاهر باب البحر حيث تجتمع العامّة للفرجة، وتعرّض إلى صبيّ أمرد يراوده عن نفسه، فأنكر ذلك بعض من هناك من المسلمين، وقال: هذا ما يحل، فأخذ الفرنجي خفا كان بيده، وضربه على وجهه، فصاح بالناس، فأتوه، فقام الفرنج مع صاحبهم، واتسع الخرق إلى أن ركب متولي الثغر، وأغلق أبواب المدينة، وطلب من أثار الفتنة ففرّوا، وعاد إلى داره، وترك الأبواب مغلقة، وكان بظاهر المدينة خلق كثيرة قد توجهوا على عادتهم في حوائجهم فحيل بينهم وبين بيوتهم، وجاء الليل وهم قيام على الأبواب يضجون ويصيحون، فمضى أعيان البلد إلى المتولي، وما زالوا به، حتى فتح لهم، فدخلوا مبادرين وهم يزدحمون، فمات منهم زيادة على عشرة أنفس، وتلفت أعضاء جماعة، وذهب من عمائم الناس ومناديلهم، وغير ذلك شيء كثير؛ وعظم البكاء والصراخ طول الليل، فلما كان من الغد، ركب الوالي لكشف أحوال الناس، فتكاثروا عليه ورجموه، فانهزم منهم إلى داره فتبعوه وقاتلوه، فقاتلهم من أعلى الدار حتى سفكت بينهما دماء كثيرة، وأحرقوا بابه، ونهبوا دورا بجانبه. فكتب يستنجد والي دمنهور ومن حوله من العربان، فأتوه واحتاطوا بالمدينة، وسرّح الطائر إلى السلطان بخروج أهل الإسكندرية عن الطاعة، فاشتدّ غضبه وخشي من إطلاقهم الأمراء المسجونين، وبعث إلى القضاة فجمعهم واستفتاهم في قتالهم، فكتبوا بما يجب، وخرج إليهم الوزير مغلطاي الجماليّ، وطوغان شادّ الدواوين، وأيدمر أمير جندار، وعدّة من المماليك السلطانية، وناظر الخاص، ومع الوزير تذكرة بإراقة دماء أهل الفساد،

ذكر مدينة أتريب

ومصادرة جماعة وأخذ أموال أهل البلد، والقبض على الأسلحة المعدّة بها للغزاة وإمساك القاضي والشهود وحمل الأمراء المسجونين إلى القاهرة، فساروا في عاشره، وقدموا الثغر بعد ثلاثة أيام، ونزل الوزير بالخيس، وفرض على الناس خمسمائة ألف دينار مصرية، وأحضر قاضي القضاة، عماد الدين ونائبه في الحديد، وأنكر عليهما كونهما شهرا النداء في البلد بالغزاة في سبيل الله، فأنكرا وقوع هذا منهما، وأنهما لم يكن في قدرتهما ردّ السواد الأعظم، فضرب نائبه ابن الشيبي ضربا مبرّحا، وألزمه بحمل ستمائة ألف درهم، وألزم القاضي بخمسمائة ألف درهم، وكان قد رسم بشنقه، فتلطف في مكاتبة السلطان، واعتذر عنه وبرّأه حتى عفا عنه، وتتبع العامّة فوسط منهم ثلاثين رجلا في يوم الجمعة، ثالث عشره، فتسارع الناس إلى دورهم من الخوف، فذهبت عدّة عمائم واشتدّ الخوف مدّة عشرين يوما، وكتب السلطان تتوالى بالإيقاع بأهل الثغر، وأخذ أموالهم والوزير يحسن في الجواب إلى أن جهز الأمراء المسجونين، وسار من الثغر، وقد استعرض ما به من السلاح، فوجد ستة آلاف عدّة كاملة جعلها جميعها في قاعة وختم عليها، وبلغت الجباية من الناس ما ينيف على مائتين وستين ألف دينار، فكانت هذه من المحن العظيمة، والحوادث الشنيعة، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ذكر مدينة أتريب هذه المدينة بناها أتريب بن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. قال ابن وصيف شاه: وكان أتريب قد انتقل إلى حيزه بعد موت أبيه قبطيم، وهي المدينة التي كان أبوه بناها له، وكان طولها اثني عشر ميلا، ولها اثنا عشر بابا، وجعل في شارعها الأعظم ثلاث قباب عالية على أعمدة بعضها فوق بعض منها قبة في وسط المدينة، وقبتان في طرفيها، وجعل على كل قبة مرقبا كبيرا وفي كل ناحية منها ملعبا، ومجالس ومنتزهات تشرق، وشق في غربيها نهرا وعقد عليه قناطر، وجعل من فوقها مجالس متصلة، وحولها المنازل تدور بالخليج متصلة بالقناطر على رياض مزروعة من خلفها الجنان والبساتين، وعلى كل باب من الأبواب، أعجوبة من تماثيل وأصنام متحرّكة، وأصنام تمنع من يؤذي، وجعل في داخل كل باب صورة شيطانين من صفر، فإذا قصدها أحد من أهل الخير قهقه الشيطان الذي عن يمنة الباب، وإن كان من أهل الشرّ بكى الشيطان الذي عن يسرة الباب، وجعل في كل منتزه منها من الوحش الآلف والطيور المغرّدة كل مستحسن، وفوق قباب المدينة صورا تصفر إذا هبت الرياح، ونصب مرآة ترى البلاد البعيدة، وبنى حذاءها في الشرق مدينة، وجعل فيها ملاعب وأصناما بارزة في صور مختلفة، وفي وسطها بركة إذا مرّ بها الطير سقط عليها، فلا يبرح حتى يؤخذ وجعل لها حصنا، باثني عشر بابا، على كل باب تمثال يعمل بأعجوبة، وعمل حواليها جنانا، وجعل بالقرب منها في ناحية الشرق مجلسا منقوشا على ثماني أساطين، وفوقه قبة عليها طائر منشور الجناحين يصفر في كل يوم ثلاث

ذكر مدينة تنيس

تصفيرات، بكرة ونصف النهار وعند غروب الشمس، وأقام فيها أصناما وعجائب كثيرة، وبنى مدنا كثيرة، وأقام فيها رجلا يقال له: برسان، يعمل الكيمياء، وضرب منها دنانير في كل دينار، سبعة مثاقيل عليها صورته، وعاش أتريب ملكا ثلثمائة وستين سنة، وبلغ من العمر خمسمائة سنة، وعمل له ناوس في جبل بالشرق، حفر له تحته سرب بطن بالزجاج والمرمر، وجعل على سرير من ذهب مرصع، وحملت إليه ذخائره وجعلوا على بابه صورة تنين لا يدنو منه أحد إلا أهلكه، وسوّروا عليه الرمال، وزبروا عليه اسمه وتاريخ وقته. وقال ابن الكنديّ: أربع كور بمصر ليس على وجه الأرض أفضل منها، ولا تحت السماء لهنّ نظير: كورة الفيوم، وكورة أتريب، وكورة سمنود، وكورة أنصنا؛ وكورة أتريب من جملة كور أسفل الأرض، وهي مائة وثماني قرى. وكان يقال: مدائن السحرة من ديار مصر سبع وهي: أرمنت، وبيا، وبوصير، وأنصنا، وصان، وأتريب، وصا. ذكر مدينة تنيس «1» تنيس: بكسر التاء المنقوطة باثنتين من فوقها وكسر النون المشدّدة وياء آخر الحروف وسين مهملة: بلدة من بلاد مصر في وسط الماء، وهي من كورة الخليج سميت بتنيس بن حام بن نوح، ويقال: بناها قليمون من ولد أتريب بن قبطيم، أحد ملوك القبط في القديم. قال ابن وصيف شاه: وملكت بعد أتريب، ابنته، فدبرت الملك وساسته بأيد وقوّة خمسا وثلاثين سنة، وماتت، فقام بالملك من بعدها، ابن أختها، قليمون الملك، فردّ الوزراء إلى مراتبهم، وأقام الكهان على مواضعهم ولم يخرج الأمر عن رأيهم، وجدّ في العمارات وطلب الحكم. وفي أيامه بنيت تنيس الأولى التي غرّقها البحر، وكان بينه وبينها شيء كثير وحولها الزرع والشجر والكروم وقرى ومعاصر للخمر وعمارة لم يكن أحسن منها، فأمر الملك أن يبنى له في وسطها مجالس، وينصب له عليها قباب وتزين بأحسن الزينة والنقوش، وأمر بفرشها وإصلاحها، وكان إذا بدا النيل يجري، انتقل الملك إليها، فأقام بها إلى النوروز، ورجع وكان للملك بها أمناء يقسمون المياه، ويعطون كل قرية قسطها، وكان على تلك القرى، حصن يدور بقناطر، وكان كل ملك يأتي يأمر بعمارتها والزيادة فيها ويجعلها له منتزها.

ويقال: إنّ الجنتين اللتين ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز إذ يقول: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ [الكهف/ 32] الآيات، كانتا لأخوين من بيت الملك أقطعهما ذلك الموضع، فأحسنا عمارته وهندسته وبنيانه، وكان الملك يتنزه فيهما، ويؤتي منهما بغرائب الفواكه والبقول، ويعمل له من الأطعمة والأشربة ما يستطيبه، فعجب بذلك المكان أحد الأخوين، وكان كثير الضيافة والصدقة، ففرّق ماله في وجوه البرّ، وكان الآخر ممسكا يسخر من أخيه إذا فرّق ماله، وكلما باع من قسمه شيئا اشتراه منه حتى بقي لا يملك شيئا، وصارت تلك الجنة لأخيه واحتاج إلى سؤاله، فانتهره وطرده، وعيره بالتبذير، وقال: قد كنت أنصحك بصيانة مالك، فلم تفعل، ونفعني إمساكي فصرت أكثر منك مالا وولدا، وولى عنه مسرورا بماله وجنته، فأمر الله تعالى البحر، فركب تلك القرى، وغرّقها جميعها، فأقبل صاحبها يولول ويدعو بالثبور ويقول: يا ليتني لم أشرك بي أحدا، قال الله جلّ جلاله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الكهف/ 43] . وفي زمان قليمون الملك، بنيت دمياط، وملك قليمون تسعين سنة، وعمل لنفسه ناوسا في الجبل الشرقيّ، وحوّل إليه الأموال والجواهر وسائر الذخائر، وجعل من داخله تماثيل تدور بلواليب في أيديها سيوف من دخل قطعته، وجعل عن يمينه ويساره، أسدين من نحاس مذهب بلوالب، من أتاه حطماه، وزبر عليه: هذا قبر قليمون بن أتريب بن قبطيم بن مصر عمّر دهرا، وأتاه الموت فما استطاع له دفعا، فمن وصل إليه فلا يسلبه ما عليه وليأخذ من بين يديه. ويقال: إنّ تنيس أخ لدمياط. وقال المسعوديّ في كتاب مروج الذهب وغيره: تنيس كانت أرضا لم يكن بمصر مثلها استواء وطيب تربة، وكانت جنانا ونخلا وكرما وشجرا ومزارع، وكانت فيها مجار على ارتفاع من الأرض، ولم ير الناس بلدا أحسن من هذه الأرض، ولا أحسن اتصالا من جنانها وكرومها، ولم يكن بمصر كورة يقال إنها تشبهها إلا الفيوم، وكان الماء منحدرا إليها لا ينقطع عنها صيفا ولا شتاء يسقون جنانهم إذا شاءوا، وكذلك زروعهم وسائره يصب إلى البحر من جميع خلجانه، ومن الموضع المعروف بالأشتوم، وقد كان بين البحر وبين هذه الأرض مسيرة يوم، وكان فيما بين العريش وجزيرة قبرس، طريق مسلوك إلى قبرس، تسلكه الدواب يبسا ولم يكن بين العريش وجزيرة قبرس في البحر سير طويل، حتى علا الماء الطريق الذي كان بين العريش وقبرس، فلما مضت لدقلطيانوس من ملكه مائتا وإحدى وخمسون سنة، هجم الماء من البحر على بعض المواضع التي تسمى اليوم: بحيرة تنيس، فأغرقه وصار يزيد في كل عام، حتى أغرقها بأجمعها، فما كان من القرى التي في قرارها غرق، وأما الذي كان منها على ارتفاع من الأرض فبقي منه تونة وبورا وغير ذلك مما هو

باق إلى هذا الوقت، والماء محيط بها، وكان أهل القرى التي في هذه البحيرة ينقلون موتاهم إلى تنيس، فنبشوهم واحدا بعد واحد، وكان استحكام غرق هذه الأرض بأجمعها قبل أن تفتح مصر بمائة سنة. قال: وقد كان لملك من الملوك التي كانت دارها، الفرما مع أركون من أراكنة: البلينا، وما اتصل بها من الأرض، حروب عملت فيها خنادق وخلجان فتحت من النيل إلى البحر يمتنع بها كل واحد من الآخر، وكان ذلك داعيا لتشعب الماء من النيل واستيلائه على هذه الأرض. وقال في كتاب أخبار الزمان: وكانت تنيس عظيمة لها مائة باب، وقال ابن بطلان: تنيس بلد صغير على جزيرة في وسط البحر، ميله إلى الجنوب عن وسط الإقليم الرابع، خمس درج، وأرضه سبخة، وهواؤه مختلف، وشرب أهله من مياه مخزونة في صهاريج تملأ في كل سنة عند عذوبة مياه البحر بدخول ماء النيل إليها، وجميع حاجاتها مجلوبة إليها في المراكب، وأكثر أغذية أهلها السمك والجبن وألبان البقر، فإنّ ضمان الجبن السلطانيّ سبعمائة دينار حسابا عن كل ألف قالب دينار ونصف، وضمان السمك عشرة آلاف دينار، وأخلاق أهلها سهلة منقادة، وطبائعهم مائلة إلى الرطوبة والأنوثة. قال أبو السريّ الطبيب: إنه كان يولد بها في كل سنة مائتا مخنث، وهم يحبون النظافة والدماثة والغناء واللذة، وأكثرهم يبيتون سكارى، وهم قليلو الرياضة لضيق البلد، وأبدانهم ممتلئة الأخلاط وحصل بها مرض يقال له: الفواق التنيسيّ، فلما فتحت دمياط، سار إليها المسلمون، فبرز إليهم نحو عشرين ألفا من العرب المتنصرة والقبط والروم، فكانت بينهم حروب آلت إلى وقوع أبي ثور في أيدي المسلمين، وانهزام أصحابه، فدخل المسلمون البلد وبنوا كنيستها جامعا، وقسموا الغنائم وساروا إلى الفرما، فلم تزل تنيس بيد المسلمين، إلى أن كانت إمرة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك في شهر رمضان سنة إحدى ومائة، فنزل الروم تنيس، فقتل مزاحم بن مسلمة المراديّ أميرها في جمع من الموالي، وفيهم يقول الشاعر: ألم تربع فيخبرك الرجال ... بما لاقى بتنيس الموالي وكانت تنيس مدينة كبيرة، وفيها آثار كثيرة للأوائل، وكان أهلها مياسير أصحاب ثراء، وأكثرهم حاجة، وبها يحاك ثياب الشروب التي لا يصنع مثلها في الدنيا، وكان يصنع فيها للخليفة ثوب يقال له: البدنة لا يدخل فيه من الغزل سداء ولحمة غير أوقيتين، وينسج باقيه بالذهب بصناعة محكمة لا تحوج إلى تفصيل ولا خياطة تبلغ قيمته ألف دينار، وليس في الدنيا طراز ثوب كتان يبلغ الثوب منه، وهو سادج بغير ذهب مائة دينار عينا، غير طراز تنيس ودمياط، وكان النيل إذا أطلق يشرب منه من بمشارق الفرما من ناحية جرجير، وفاقوس من خليج تنيس، فكانت من أجلّ مدن مصر، وإن كانت شطا، وديفو، ودميرة،

وتونة، وما قاربها من تلك الجزائر يعمل بها الرفيع فليس ذلك يقارب التنيسيّ والدمياطيّ، وكان الحمل منها إلى ما بعد سنة ستين وثلثمائة، يبلغ من عشرين ألف دينار إلى ثلاثين ألف دينار لجهاز العراق، فلما تولى الوزير يعقوب بن كلس تدبير المال استأصل ذلك بالنوائب، وكان يسكن بمدينة تنيس ودمياط نصارى تحت الذمّة، وكان أهل تنيس يصيدون السماني وغير ذلك من الطير على أبواب دورهم، والسماني طائر يخرج من البحر، فيقع في تلك الشباك، وكانت السفن تركب من تنيس إلى الفرما وهي على ساحل البحر. ولما مات هارون الرشيد، وقام من بعده ابنه محمد الأمين، وأراد الغدر والنكث بالمأمون، كان على مصر، حاتم بن هرثمة بن أعين من قبل الأمين، فلما ثار عليه أهل تنو، ونمي بعث إليهم السريّ بن الحكم، وعبد العزيز بن الوزير الجرويّ، فغلبا بعد الثمانية من شوّال سنة أربع وتسعين ومائة، ثم ولي الأمير جابر بن الأشعث الطائيّ مصر، وصرف حاتم بن هرثمة، وكان جابر لينا، فلما تباعد ما بين محمد الأمين وبين أخيه عبد الله المأمون، وخلع محمد أخاه من ولاية العهد، وترك الدعاء له على المنابر، وعهد إلى ابنه موسى، ولقبه بالشديد ودعى له، تكلم الجند بمصر بينهم في خلع محمد غضبا للمأمون، فبعث إليهم جابر ينهاهم عن ذلك، ويخوّفهم عواقب الفتن، وأقبل السريّ بن الحكم يدعو الناس، إلى خلع محمد، وكان ممن دخل إلى مصر في أيام الرشيد من جند، الليث بن الفضل، وكان خاملا فارتفع ذكره بقيامه في خلع محمد الأمين. وكتب المأمون إلى أشراف مصر يدعوهم إلى القيام بدعوته، فأجابوه وبايعوا المأمون في رجب سنة ست وتسعين ومائة، ووثبوا بجابر، فأخرجوه وولوا عباد بن محمد، فبلغ ذلك محمد الأمين، فكتب إلى رؤساء الحوف بولاية ربيعة بن قيس الجرشيّ، وكان رئيس قيس الحوف، فانقاد أهل الحوف كلهم معه، يمنها وقيسها، وأظهروا دعوة الأمين، وخلع المأمون، وساروا إلى الفسطاط لمحاربة أهلها واقتتلوا، فكانت بينهما قتلى، ثم انصرفوا وعادوا مرارا إلى الحرب، فعقد عباد بن محمد لعبد العزيز الجرويّ، وسيره في جيش ليحارب القوم في دارهم، فخرج في ذي القعدة سنة سبع وتسعين ومائة، وحاربهم بعمريط، فانهزم الجرويّ، ومضى في قومه من لخم وجذام إلى فاقوس، فقال له قومه: لم لا تدعو لنفسك فما أنت بدون هؤلاء الذين غلبوا على الأرض؟ فمضى فيهم إلى تنيس، فنزلها ثم بعث بعماله يجبون الخراج من أسفل الأرض، فبعث ربيعة بن قيس يمنعه من الجباية، وسار أهل الحوف في المحرّم سنة ثمان وتسعين إلى الفسطاط، فاقتتلوا، وقتل جمع من الفريقين، وبلغ أهل الحوف قتل الأمين، فتفرّقوا. وولي إمرة مصر، مطلب بن عبد الله الخزاعيّ من قبل المأمون، فدخلها في ربيع الأوّل، وولى عبد العزيز الجرويّ شرطته، ثم عزله وعقد له على حرب أسفل الأرض، ثم

صرف المطلب، وولى العباس بن موسى بن عيسى في شوّال، فولي عبد العزيز الشرطة، فلما ثار الجند وأعادوا المطلب في المحرّم سنة تسع وتسعين، هرب الجرويّ إلى تنيس، وأقبل العباس بن موسى بن عيسى من مكة إلى الحوف، فنزل ببلبيس، ودعا قيسا إلى نصرته، ثم مضى إلى الجرويّ بتنيس، فأشار عليه أن ينزل دار قيس، فرجع إلى بلبيس في جمادى الآخرة، وبها مات مسموما في طعام دسه إليه المطلب على يد قيس، فدان أهل الأحواف للمطلب، وبايعوه، وسارعوا إلى جب عميرة وسالموه عند ما لقوه، وبعث إلى الجرويّ يأمره بالشخوص إلى الفسطاط فامتنع من ذلك، وسار في مراكبه حتى نزل شطنوف، فبعث إليه المطلب السريّ بن الحكم في جمع من الجند يسألونه الصلح، فأجابهم إليه، ثم اجتهد في الغدر بهم، فتيقظوا له، فمضى راجعا إلى بنا، فاتبعوه وحاربوه. ثم عاد، فدعاهم إلى الصلح ولاطف السريّ، فخرج إليه في زلاج وخرج الجرويّ في مثله، فالتقيا في وسط النيل مقابل سندفا، وقد أعدّ الجرويّ في باطن زلاجة الحبال، وأمر أصحابه بسندفا إذا لصق بزلاج السريّ، أن يجرّوا الحبال إليهم، فلصق الجرويّ بزلاج السريّ، فربطه في زلاجه، وجرّ الحبال، وأسر السريّ، ومضى به إلى تنيس، فسجنه بها، وذلك في جمادى الأولى، ثم كرّ الجرويّ وقاتل، فلقيه جموع المطلب بسفط سليط في رجب، فظفر، ولما عزل عمر بن ملاك عن الإسكندرية، ثار بالأندلسيين، ودعا للجرويّ، فأقبل عبد الله بن موسى بن عيسى إلى مصر طالبا بدم أخيه العباس في المحرّم سنة مائتين، فنزل على عبد العزيز الجرويّ، فسار معه في جيوش كثيرة العدد في البرّ والبحر حتى نزل الجيزة، فخرج إليه المطلب في أهل مصر، فحاربوه في صفر، فرجع الجرويّ إلى شرقيون، ومضى عبد الله بن موسى إلى الحجاز، وظهر المطلب على أنّ أبا حرملة فرجا الأسود، هو الذي كاتب عبد الله بن موسى، وحرّضه على المسير، فطلبه ففرّ إلى الجرويّ، وجدّ المطلب في أمر الجرويّ، فأخرج الجرويّ السريّ بن الحكم من السجن، وعاهده وعاقده على أن يثور بالمطلب ويخلعه، فعاهده السريّ على ذلك فأطلقه، وألقى إلى أهل مصر أنّ كتاب ورد بولايته فاستقبله الجند من أهل خراسان، وعقدوا له عليهم وامتنع المصريون من ولايته، فنزل داره بالحمراء، وأمدّه قيس بجمع منهم وحارب المصريين فهزمهم، وقتل منهم، فطلب المطلب منه الأمان، فأمنه، وخرج من مصر. واستبدّ السريّ بن الحكم، بأمر مصر في مستهل شهر رمضان «1» ، فلما قتل الأندلسيون، عمر بن ملاك بالإسكندرية، سار إليها الجرويّ في خمسين ألفا، فبعث السريّ إلى تنيس بعثا، فكرّ الجرويّ راجعا إلى تنيس في محرّم سنة إحدى ومائتين، فلما ثار الجند بالسريّ في شهر ربيع الأوّل، وبايعوا سليمان بن غالب، قام عباد بن محمد عليه وخلعه،

وقام بالأمر عليّ بن حمزة بن جعفر بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس، في مستهل شعبان، فامتنع عباد أن يبايعه، ولحق بالجرويّ، ثم لحق به أيضا سليمان بن غالب، فكان معه وعاد السريّ إلى ولايته مصر، في شعبان وقوي سلطانه. فلما كان في المحرّم سنة اثنتين مائتين، ورد كتاب المأمون إليه يأمره، بالبيعة لوليّ عهده عليّ بن موسى» الرضى، فبويع له بمصر، وقام في فساد ذلك إبراهيم بن المهديّ ببغداد، وكتب إلى وجوه الجند بمصر، يأمرهم بخلع المأمون، ووليّ عهده وبالوثوب على السريّ، فقام بذلك الحارث بن زرعة بن محرّم بالفسطاط، وعبد العزيز بن الوزير الجرويّ بأسفل الأرض، ومسلمة بن عبد الملك الطحاويّ الأزديّ بالصعيد، وخالفوا السريّ، ودعوا إلى إبراهيم بن المهديّ، وعقدوا على ذلك الأمر لعبد العزيز بن عبد الرحمن الأزديّ، فحاربه السريّ، وظفر به في صفر ولحق كل من كره بيعة عليّ الرضى بالجرويّ، لمنعته بتنيس وشدّة سلطانه، فسار إلى الإسكندرية، وملكها ودعى له بها وببلاد الصعيد، ثم سار في جمع كبير لمحاربة السريّ، واستعدّ كل منهما لصاحبه بأعظم ما قدر عليه، فبعث إليه السريّ ابنه ميمونا، فالتقيا بشطنوف، فقتل ميمون في جمادى الأولى سنة ثلاث ومائتين، وأقبل الجرويّ على مراكبه إلى الفسطاط ليحرقها، فخرج إليه أهل المسجد، وسألوه الكف، فانصرف عنها وحارب الإسكندرية غير مرّة، وقتل بها من حجر أصابه من منجنيقه في آخر صفر سنة خمس ومائتين. ومات السريّ بعده بثلاثة أشهر في آخر جمادى الأولى، وقام بعده الجرويّ ابنه عليّ بن عبد العزيز الجرويّ، فحارب أبا نصر محمد بن السريّ أمير مصر بعد أبيه بشطنوف، ثم التقيا بدمنهور، فيقال: إنّ القتلى بينهما يومئذ كانوا سبعة آلاف، وانهزم ابن السريّ إلى الفسطاط، فتبعته مراكب ابن الجوريّ، ثم عادت فدخل أبو حرملة فرج بينهما حتى اصطلحا، ومات ابن السريّ في شعبان سنة ست ومائتين، فولي بعده أخوه عبيد الله بن السريّ، فكف عن ابن الجرويّ. وبعث المأمون، مخلد بن يزيد بن مزيد الشيبانيّ إلى مصر في جيش من ربيعة، فامتنع عبيد الله بن السريّ من التسليم له، ومانعه فاقتتلوا، وانضم عليّ بن الجرويّ إلى خالد بن يزيد، وأقام له الأنزال وأغاثه، وسار حتى نزل على خندق عبيد الله بن السريّ، فاقتتلا في شهر ربيع الأوّل سنة سبع ومائتين، وجرت بينهما حروب بعد ذلك آلت إلى ترفع خالد إلى أرض الحوف، فكره ذلك ابن الجرويّ، ومكر به حتى أخرجه من عمله إلى غربيّ النيل فنزل نهيا، وانصرف ابن الجرويّ إلى تنيس، فصار خالد في ضرّ وجهد، وعسكر له

ابن السريّ في شهر رمضان وأسره وأخرجه من مصر إلى مكة في البحر. وبعث المأمون، بولاية عبيد الله بن السريّ، على ما في يده وهو فسطاط مصر، وصعيدها وغربيها، وبولاية عليّ بن عبد العزيز الجرويّ تنيس مع الحوف الشرقيّ، وضمنه خراجه، وأقبل ابن الجرويّ على استخراج خراجه من أهل الحوف فمانعوه، وكتبوا إلى ابن السريّ يستمدّونه عليه، فأمدّهم بأخيه، فالتقيا بكورة بنا في بلقينة، فاقتتلوا في صفر سنة تسع ومائتين، وامتدّت الحروب بينهما إلى أثناء ربيع الأوّل وهم منتصفون، فانصرف ابن الجرويّ فيمن معه إلى دمياط، فسار ابن السريّ إلى محلة شريقون، ونهبها وبعث إلى تنيس ودمياط فملكها، ولحق ابن الجرويّ بالفرما، وسار منها إلى العريش، فنزل فيما بينها وبين غزة، ثم عاد وأغار على الفرما في جمادى الآخرة، ففرّ أصحاب ابن السريّ من تنيس، وسار ابن الجرويّ إلى شطنوف، فخرج إليه ابن السريّ، واقتتلا، فكانت لابن الجرويّ في أوّل النهار، ثم أتاه كمين ابن السريّ فانهزم، وذلك في رجب، فمضى إلى العريش، وسار ابن السريّ إلى تنيس ودمياط، ثم أقبل ابن الجرويّ في المحرّم سنة عشر ومائتين، وملك تنيس ودمياط بغير قتال، فبعث إليه ابن السريّ البعوث فحاربهم. فبينما هم في ذلك إذ قدم عبد الله بن طاهر، فتلقاه ابن الجرويّ بالأموال والأنزال، وانضم إليه ونزل معه ببلبيس، فامتنع ابن السريّ، ودافع ابن طاهر، فتراخى له وبعث، فجبى المال، ونزل زفتا، وبعث إلى شطنوف عيسى الجلوديّ على جسر عقده من زفتا، وجعل ابن الجرويّ على سفنه التي جاءته من الشام لمعرفته بالحرب، فهزم مراكب ابن السريّ في المحرّم سنة إحدى عشرة، وصالح ابن طاهر عبيد الله بن السريّ في صفر، وخلع عليه، وأجازه بعشرة آلاف دينار، وأقرّه بالخروج إلى المأمون، فسكنت فتن مصر بعبد الله بن طاهر. وفي سنة سبع وسبعين وثلثمائة، ولدت بتنيس، معزى جديا له قرون عدّة، ورأسه مع صدره وبدنه، ومقدّمه بصوف أبيض، ومؤخره بشعر أسود، وذنبه ذنب شاة. وولدت امرأة سخلة لها رأس مدوّر، ولها يدان ورجلان وذنب. ولثلاث بقين من ذي الحجة من هذه السنة، حدث بتنيس رعد وبرق وريح شديدة وسواد عظيم في الجوّ، ثم ظهر وقت السحر في السماء عمود نار احمرّت منه السماء والأرض أشدّ حمرة وخرج غبار ودخان يأخذ بالأنفس، فلم يزل إلى الرابعة من النهار حتى ظهرت الشمس، ولم يزل كذلك خمسة أيام. وفي سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، حضر عند قاضي تنيس أبي محمد عبد الله بن أبي الريس رجل وامرأة فطالبت المرأة الرجل بفرض واجب عليه، فقال الرجل: تزوّجت

بها منذ خمسة أيام، فوجدت لها ما للرجال وما للنساء! فبعث إليها القاضي امرأة لتشرف عليها، فأخبرت أن لها فوق القبل: ذكرا بخصيتين، والفرج تحتها، والذكر أقلف، وإنها رائعة الحسن، فطلقها الزوج. قال أبو عمرو الكنديّ: حدّثني أبو نصر أحمد بن عليّ، قال: حدّثني يس بن عبد الأحد قال: سمعت أبي يقول: لما دخل عبد الله بن طاهر مصر كنت فيمن دخل عليه، فقال: حدّثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي قبيل عن سبيع، قال: يا أهل مصر كيف بكم إذا كان في بلدكم فتن، فوليكم فيها الأعرج، ثم الأصفر، ثم الأمرد، ثم يأتي رجل من ولد الحسين لا يدفع، ولا يمنع تبلغ راياته البحر الأخضر، يملأها عدلا، فقلت: كان ذلك، كانت الفتنة، فوليها السريّ وهو الأعرج، والأصفر ابنه أبو النصر، والأمرد عبيد الله بن السريّ، وأنت عبد الله بن طاهر بن الحسين، ثم إن عبد الله بن طاهر سار إلى الإسكندرية، وأصلح أمرها، وأخرج ابن الجرويّ إلى العراق، ثم قدم بالأفشين إلى مصر في ذي الحجة سنة خمس عشرة، وقد أمر الأفشين أن يطالبه بالأموال التي عنده، فإن دفعها إليه وإلا قتله، فطالبه، فلم يدفع إليه شيئا، فقدّمه بعد الأضحى بثلاث فقتله. وفي جمادى الآخرة سنة تسع عشرة ومائتين، ثار يحيى بن الوزير في تنيس، فخرج إليه المظفر بن كندر أمير مصر، فقاتله في بحيرة تنيس، وأسره وتفرّق عنه أصحابه. وفي سنة تسع وثلاثين ومائتين، أمر المتوكل ببناء حصن على البحر بتنيس، فتولى عمارته، عنبسة بن إسحاق أمير مصر، وأنفق فيه وفي حصن دمياط والفرما مالا عظيما. وفي سنة تسع وأربعين ومائتين عذبت بحيرة تنيس صيفا وشتاء، ثم عادت ملحا صيفا وشتاء، وكانت قبل ذلك تقيم ستة أشهر عذبة وستة أشهر مالحة. وفي سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، وصلت مراكب من صقلية، فنهبوا مدينة تنيس. وفي سنة ثمان وسبعين وثلثمائة، صيد بأشتوم تنيس حوت طوله ثمانية وعشرون ذراعا ونصف من ذلك، طول رأسه، تسعة أذرع، ودائر بطنه مع ظهره، خمسة عشر ذراعا، وفتحة فمه، تسعة وعشرون شبرا، وعرض ذنبه، خمسة أذرع ونصف، وله يدان يجذف بهما طول كل يد، ثلاثة أذرع، وهو أملس أغبر غليظ الجلد مخطط البطن ببياض وسواد ولسانه أحمر، وفيه خمل كالريش طوله نحو الذراع يعمل منه أمساط شبه الذبل، وله عينان كعيني البقر. فأمر أمير تنيس أبو إسحاق بن لوبة به فشق بطنه، وملح بمائة أردب ملح ورفع فكه الأعلى بعود خشب طويل، وكان الرجل يدخل إلى جوفه بقفاف الملح، وهو قائم غير منحن وحمل إلى القصر حتى رآه العزيز بالله. وفي ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وثلثمائة، شاهد أهل تنيس، تسعة أعمدة من نار تلتهب في آفاق السماء من ناحية الشمال، فخرج الناس إلى ظاهر البلد يدعون الله تعالى، حتى أصبحوا فخبت تلك النيران، وفيها صيد

ببحيرة تنيس، حوت طوله ذراع ونصفه الأعلى فيه، رأس وعينان وعنق وصدره على صورة أسد ويداه في صدره بمخالبه ونصفه الأدنى صورة حوت بغير قشر فحمل إلى القاهرة. وفي سنة سبع وتسعين وثلثمائة ولدت جارية بنتا برأسين، أحدهما بوجه أبيض مستدير، والآخر بوجه أسمر فيه سهولة في كل وجه عينان، فكانت ترضعهما، وكلاهما مركب على عنق واحد في جسد واحد بيدين ورجلين وفرج ودبر، فحملت إلى العزيز حتى رآها ووهب لأمها جملة من المال، ثم عادت إلى تنيس وماتت بعد شهور. وفي سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وصل إلى تنيس من شواني صقلية نحو أربعين مركبا، فحصروها يومين، وأقلعوا ثم وصل إليها من صقلية أيضا في سنة ثلاث وسبعين نحو أربعين مركبا فقاتلوا أهل تنيس حتى ملكوها. وكان محمد بن إسحاق صاحب الأسطول قد حيل بينه وبين مراكبه، فتحيز في طائفة من المسلمين إلى مصلى تنيس، فلما اجنهم الليل، هجم بمن معه البلد على الفرنج، وهم في غفلة، فأخذ منهم مائة وعشرين، فقطع رؤوسهم، فأصبح الفرنج إلى المصلى وقاتلوا من بها من المسلمين، فقتل من المسلمين نحو السبعين، وسار من بقي منهم إلى دمياط، فمال الفرنج على تنيس وألقوا فيها النار، فأحرقوها، وساروا وقد امتلأت أيديهم بالغنائم والأسرى إلى جهة الإسكندرية بعد ما أقاموا بتنيس، أربعة أيام. ثم لما كانت سنة ست وسبعين وخمسمائة نزل فرنج عسقلان في عشر حراريق «1» على أعمال تنيس، وعليها رجل منهم، يقال له: المعز، فأسر جماعة، وكان على مصر، الملك العادل من قبل أخيه الملك الناصر، صلاح الدين يوسف، عند ما سار إلى بلاد الشام، ثم مضى المعز، وعاد فأسر ونهب، فثار به المسلمون، وقاتلوه فظفرهم الله به وقبضوا عليه، وقطعوا يديه ورجليه وصلبوه. وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة، انتدب السلطان لعمارة قلعة تنيس، وتجديد الآلات بها عندما اشتدّ خوف أهل تنيس من الإقامة بها، فقدّر لعمارة سورها القديم على أساساته الباقية مبلغ ثلاثة آلاف دينار عن ثمن أصناف وآجر. وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، كتب بإخلاء تنيس، ونقل أهلها إلى دمياط، فأخليت في صفر من الذراري والأثقال، ولم يبق بها سوى المقاتلة في قلعتها. وفي شوّال من سنة أربع وعشرين وستمائة، أمر الملك الكامل، محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، بهدم مدينة تنيس، وكان من المدن الجليلة تعمل بها الثياب السرية، وتصنع بها كسوة الكعبة.

قال الفاكهيّ في كتاب أخبار مكة: ورأيت كسوة مما يلي الركن الغربيّ، يعني من الكعبة، مكتوبا عليها، مما أمر به السريّ بن الحكم وعبد العزيز بن الوزير الجرويّ، بأمر الفضل بن سهل ذي الرياستين «1» ، وطاهر بن الحسين سنة سبع وتسعين ومائة، ورأيت شقة من قباطي مصر في وسطها إلا أنهم كتبوا في أركان البيت بخط دقيق أسود، مما أمر به أمير المؤمنين، المأمون سنة ست ومائتين، ورأيت كسوة من كسا المهديّ مكتوبا عليها: بسم الله بركة من الله لعبد الله المهديّ محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مما أمر به إسماعيل بن إبراهيم أن يصنع في طراز تنيس على يد الحكم بن عبيدة سنة اثنتين وستين ومائة، ورأيت كسوة من قباطي مصر مكتوبا عليها: بسم الله، بركة من الله مما أمر به عبد الله المهديّ محمد أمير المؤمنين أصلحه الله محمد بن سليمان أن يصنع في طراز تنيس كسوة الكعبة على يد الخطاب بن مسلمة عامله سنة تسع وخمسين ومائة. قال المسبحيّ في حوادث سنة أربع وثمانين وثلثمائة: وفي ذي القعدة ورد يحيى بن اليمان من تنيس ودمياط والفرما بهديته، وهي أسفاط وتخوت وصناديق مال، وخيل وبغال وحمير وثلاث مظال، وكسوتان للكعبة. وفي ذي الحجة سنة اثنتين وأربعمائة وردت هدية تنيس الواردة في كل سنة منها خمس نوق مزينة ومائة رأس من الخيل بسروجها ولجمها وتجافيف وصناعات عدّة، وثلاث قباب دبيقية بمراتبها، ومتحرقات وبنود، وما جرى الرسم بحمله من المتاع والمال والبز. ولما قدم الحاكم استدعت أخته، السيدة سيدة الملك إلى عامل تنيس عن الحاكم بأن يحمل مالا كان اجتمع قبله، ويعجل توجيهه، وقيل: إنه كان ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم اجتمعت من ارتفاع البلد لثلاث سنين، وأمره الحاكم بتركها عنده، فحمل ذلك إليها وبه استعانت على ما دبرت. وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة ورد الخبر على الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، أبي هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله: أن السودان وغيرهم ثاروا بتنيس، وطلبوا أرزاقهم وضيقوا على العامل، حتى هرب، وأنهم عاثوا في البلد وأفسدوا، ومدّوا أيديهم إلى الناس، وقطعوا الطرقات وأخذوا من المودع ألفا وخمسمائة دينار، فقام الجرجراي وقعد، وقال: كيف يفعل هذا بخزانة السلطان؟ وساءنا فعل هذا بتنيس، أو بيت المال وسير خمسين فارسا للقبض على الجناة، وما زالت تنيس مدينة عامرة ليس بأرض مصر مدينة أحسن منها، ولا أحصن من عمارتها إلى أن خرّبها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في سنة أربع وعشرين وستمائة، فاستمرّت خرابا، ولم يبق منها إلا رسومها في وسط البحيرة، وكان

ذكر مدينة صا

من جملة كورة تنيس: بورا، ومنها، وإيوان، وشطا، وبحيرتها الآن يصاد منها السمك، وهي قليلة العمق يسار فيها بالعاديّ وتلتقي السفينتان هذه صاعدة، وهذه نازلة بريح واحدة، وقلع كل واحدة منها مملوء بالريح سيرهما في السرعة مستو توسط البحيرة عدّة جزائر تعرف اليوم بالعزب، جمع عزبة، بضم العين المهملة وزاء ثم باء موحدة، سكنها طائفة من الصيادين، وفي بعضها ملاحات يؤخذ منها ملح عذب لذيذ ملوحته، وماؤها ملح، وقد يحلو أيام النيل. تونة: وكان من جملة عمل مدينة تنيس قرية يقال لها: تونة يعمل بها طراز تنيس، ويصنع بها من جملة الطراز كسوة الكعبة أحيانا. قال الفاكهي: ورأيت أيضا كسوة لهارون الرشيد من قباطي مصر مكتوبا عليها: بسم الله، بركة من الله للخليفة الرشيد عبد الله هارون أمير المؤمنين أكرمه الله مما أمر به الفضل بن الربيع أن يعمل في طراز تونة سنة تسعين ومائة. سمناي: قرية من قرى تنيس غلبت عليها بحيرة تنيس، فصارت جزيرة، فلما كان في شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، كشف عن حجارة وآجرّ بها، فإذا عضادات زجاج كثيرة مكتوب على بعضها اسم الإمام المعز لدين الله، وعلى بعضها اسم الإمام العزيز بالله نزار، ومنها ما عليه اسم الإمام الحاكم بأمر الله، ومنها ما عليه اسم الإمام الظاهر لإعزاز دين الله، ومنها ما عليه اسم المستنصر، وهو أكثرها؛ أخبرني بذلك من شاهده ورآه. بورا: كانت فيما بين تنيس ودمياط، وإليها ينسب السمك الذي يقال له: البوريّ، وإليها ينسب أيضا بنو البوريّ، الذين كانوا بالقاهرة والإسكندرية. وفي سنة عشر وستمائة، وصل العدوّ إليها بشوانية، وسباها فقدمت إليها القطائع التي كانت على رشيد، فسار عنها العدوّ. القيس: بفتح القاف وبعدها سين مهملة، بلد ينسب إليها الثياب القيسية آثارها إلى اليوم باقية على البحر الملح فيما بين السوادة والواردة، وبعدها من مدينة الفرما قريب من ستة برد في البرّ، وهناك تل عظيم من رمل خارج في البحر الشاميّ يقطع الفرنج عنده الطريق على المارة، وبالقرب من التل سباخ ينبت فيه ملح يحمله العربان إلى غزة والرملة، وبقرب هذا السباخ آبار يزرع عندها مقاثي لعربان تلك البوادي. ذكر مدينة صا قال ابن وصيف شاه: ولما قسم قبطيم بن مصرايم الأرض بين أشمون وأتريب وقفط وصا، انتقل كل واحد إلى قسمه وحيزه، فخرج صا بأهله وولده وحشمه إلى حيزه، وهو بلد البحيرة والإسكندرية حتى انتهى إلى برقة، ونزل مدينة صا قبل أن تبنى الإسكندرية، وكان

رمل الغرابي

صا أصغر ولد أبيه وأحبهم إليه، فلما ملك حيزه أمر بالنظر في العمارات وبناء المدائن والبلدان والهياكل، وإظهار العجائب كما صنع إخوته وطلب الزيادة في ذلك. وقال مرهون الهنديّ: صاحب بانة فبنى من حدّ صا إلى حدّ لوبية، ومراقيه على البحر أعلاما، وجعل على رؤوس تلك الأعلام مرائي من أخلاط شتى، فكان منها ما يمنع من دواب البحر وأذاها، ومنها ما إذا قصدتم عدوّ من الجزائر وأصابها الشمس، ألقت شعاعا على مراكبهم، فأحرقتها، ومنها ما يرى المدائن التي تحاذيهم من عدوة البحر، وما يعمله أهلها، ومنها ما ينظر فيها إلى إقليم مصر فيعلم منه ما يخصب، وما يجدب في كل سنة، وجعل فيها حمامات تقدمن نفسها، وجعل مستشرفات ومنتزهات، وكان ينزل كل يوم منها في موضع بمن يخصه من خدمه وحشمه، وجعل حواليها بساتين وسرح فيها الطيور المغرّدة، والوحش المستأمن، والأنهار المطردة والرياض المونقة، وجعل شرفات قصوره من حجارة ملوّنة تلمع إذا أصابتها الشمس، فينشر شعاعها على ما حولها، ولم يدع شيئا من آلة النعمة والرفاهية إلا استعمله، فكانت العمارة ممتدّة في رمال رشيد ورمال الإسكندرية إلى برقة، وكان الرجل يسافر في أرض مصر لا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات، ولا يسير إلا في ظلال تستره من الشمس، وعمل في تلك الصحاري قصورا، وغرس فيها غروسا، وساق إليها من النيل أنهارا، فكان يسلك من الجانب الغربيّ إلى حدّ الغرب في عمارة متصلة، فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم في تلك الصحاري، وخربت تلك المنازل وباد أهلها، ولا يزال من دخل تلك الصحاري يحكي ما رآه فيها من الآثار والعجائب. قال مؤلفه رحمه الله: حدّثني الثقة، عمن دخل مدينة صا، ومشى في خرابها فإذا هو بلبنة طولها أربعة أشبار، فتناولها وأخذ يتأملها، ثم كسرها فإذا فيها سنبلة قدر شبر وافر، كأنها كما حصدت، وفركها بيده فخرج منها قمح أبيض، كبار حبه جدّا في قدر حب اللوبيا، فأكله كله فلم يجد فيه تغيرا، ودخل آخر إليها قبيل سنة تسعين وسبعمائة، وأخذ منها لبنة طولها ذراع ونصف في عرض ذراع، فكسرها فإذا فيها سنبلة قمح ثخن كل قمحة منها في مقدار ما يكون أكبر من الحمص، فلم يطق كسره إلا بعد ما رضه بالحجارة رضا، ووجد بصا: صنم لطيف طول أصبع فاتفق أنه ألقي في خابية ماء فصار خمرا، وكان ذلك عند رجل من تنيس، فصلحت حاله من بيعه ذلك الخمر، فطلبه الأمير الأوحد مستولي تنيس، وما زال به حتى أخذ الصنم منه. رمل الغرابي اعلم أنّ هذا الرمل ممتدّ في الأرض ويسميه بعضهم: الرمل الهبير، وطوله من وراء جبل طي إلى أن يتصل مشرقا بالبحر، ويمضي من وراء جبل طي إلى أرض مصر، ثم إلى

بلد النوبة، ويمتدّ إلى البحر المحيط مسيرة خمسة أشهر، ومنه عرق يضرب من القادسية إلى البحرين، فيعبر البحرين فيمرّ على مشارق خورستان وفارس إلى أن يرد سجستان ويمرّ مشرقا إلى مرو آخذا على جيحون في برّية خوارزم، ويأخذ في بلاد الحدلحية إلى الصين والبحر المحيط في جهة الشرق، وهو على ما وصفته وسقته من المحيط بالمشرق إلى المحيط بالمغرب، وفيه جبال عظام لا ترتقى، وبعضه في أرض سهلة ينتقل من مكان إلى مكان، ومنه أصفر لين اللمس وأحمر وأزرق سماويّ وأسود حالك وأكحل مشبع كالنيل وأبيض كالثلج، ومنه ما يحكي الغبار نعومة، ومنه خشن جريش اللمس، وزعم بعضهم أن رمل الغرابيّ، وما يتصل به من حدّ العريش إلى أرض العباسة حادث. وذكر في سبب كونه، خبر فيه معتبر، وهو أنّ شدّاد بن هدّاد بن شدّاد بن عاد، أحد الملوك العادية، قدم إلى مصر، وغلب بكثرة جيوشه أشمون بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح ملك مصر، وهدم ما بناه هو وآباؤه، وبنى لنفسه أهراما ونصب أعلاما زبر عليها الطلسمات، واختط موضع الإسكندرية، وأقام هناك دهرا إلى أن نزل به وبقومه وباء، فخرجوا من أرض مصر إلى جهة وادي القرى فيما بين المدينة النبوية، وأرض الشام، وعمروا الملاعب والمصانع لحبس المياه التي تجتمع من الأمطار والسيول، فكان سعة كل مصنع ميلا في ميل، وغرسوا النخل وغيره، وزرعوا أصناف الزراعات، فيما بين راية وأيلة إلى البحر الغربيّ، وامتدّت منازلهم من الدثنة إلى العريش والجفار في أرض سهلة ذات عيون تجري وأشجار مثمرة، وزروع كثيرة، فأقاموا بهذه الأرض دهرا طويلا، حتى عثوا وبغوا وتجبروا وطغوا، وقالوا: نحن الأكثرون قوّة الأشدّون الأغلبون، فسلط الله عليهم الريح فأهلكتهم ونسفت مصانعهم وديارهم، حتى سحلتها رملا فما تراه من هذه الرمال التي بأرض الجفار، ما بين العباسة حيث المنزلة التي تعرف اليوم بالصالحية إلى العريش من رمل مصانع العادية، وسالة صخورهم لما أهلكهم الله بالريح ودمّرهم تدميرا، وإياك وإنكار ذلك لغرابته، ففي القرآن الكريم ما يشهد لصحته، قال تعالى: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات/ 41] أي كالشيء الهالك البالي، وقيل: الرميم: نبات الأرض إذا يبس، وديس، وقيل: الورق الجاف المتحطم مثل الهشيم، والرميم: الخلق البالي من كل شيء. مراقية: مدينة مراقية، كورة من كور مصر الغربية، وهي آخر حدّ أرض مصر، وفي آخر أرض مراقية تلقي أرض انطابلس، وهي برقة وبعدها من مدينة سنترية نحو من بريدين، وكان قطرا كبيرا به نخل كثير ومزارع، وبه عيون جارية، وبها إلى اليوم بقية، وثمرها جيد إلى الغاية وزرعها إذا بذر ينبت من الحبة الواحدة من القمح، مائة سنبلة، وأقل ما تنبت تسعون سنبلة، وكذلك الأرز بها فإنه جيد زاك وبها إلى اليوم بساتين متعدّدة، وكانت مراقية في القديم من الزمان سكنها البربر الذين نفاهم داود عليه السلام من أرض فلسطين، فنزلها

ذكر مدينة بلبيس

منهم خلائق، ومنها تفرّقت البربر، فنزلت زناتة ومغيلة وضريسة الجبال، ونزلت لواتة أرض برقة، ونزلت هوّارة طرابلس المغرب، ثم انتشرت البربر إلى السويس، فلما كان في شوّال سنة أربع وثلثمائة من سني الهجرة المحمدية جلى أهل لوبية ومراقية إلى الإسكندرية خوفا من صاحب برقة، ولم تزل في اختلال إلى أن تلاشت في زمننا، وبها بعد ذلك بقية جيدة. كوم شريك: هذا المكان بالقرب من الإسكندرية، له ذكر في الأخبار عرف بشريك بن سميّ بن عبد يغوث بن جزء المراديّ القطيفيّ، من الصحابة رضي الله عنهم، وكان على مقدّمة عمرو بن العاص في فتح الإسكندرية الثاني، فعند ما كثرت جمائع الروم انحاز شريك إلى هذا الكوم بأصحابه، ودافع الروم حتى أدركه عمرو، وكوم شريك هذا من جملة حوف رمسيس. غيفة: قرية تقارب مدينة بلبيس، من الفسطاط إليها مرحلتان، كانت منزلة قافلة الحاج، ويقال: إنّ صواع الملك الذي فقد من مدينة مصر وجد في رحال إخوة يوسف عليه السلام، بغيفة هذه. سمنود: كان بها بربا عليه هيئة درقة، فيها كتابة حكى ابن زولاق عن أبي القاسم مأمون العدل: أنه نسخ الكتابة في قرطاس وصوّره على درقة، قال: فما كنت أستقبل به أحدا، إلا ولى هاربا، وكان بها أيضا تماثيل وصور من يملك مصر، فيهم قوم عليهم شاسيات، وبأيديهم الحراب، وعليهم مكتوب هؤلاء يملكون مدينة مصر. ذكر مدينة بلبيس وسميت في التوراة: أرض حاشان، وفيها نزل يعقوب لما قدم على ولده يوسف عليهما السلام، فأنزله بأرض حاشان، وهي: بلبيس إلى العلاقمة من أجل مواشيهم. قال ابن سعيد: بلبيس واليها يصل حكمه إلى الواردة وهي آخر حدّ مصر، وإليها تنتهي المعادلة بفضة السواد، ويصير الناس يتعاملون بالفلوس بعدها إلى العريش، وهي أوّل الشام، وقيل: هي آخر مصر. وقال أبو عبيد البكريّ: بلبيس، فتح أوّله وإسكان ثانيه بعده باء مثل الأولى مفتوحة أيضا وياء ساكنة وسين مهملة، وهو موضع قريب مصر معروف، وذكر ابن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك: أن بين بلبيس، ومدينة فسطاط مصر، أربعة وعشرين ميلا. وذكر الواقديّ: أنّ المقوقس زوّج ابنته أرمانوسة من قسطنطين بن هرقل، وجهزها بأموالها وجواريها وغلمانها وحشمها لتسير إليه حتى يبني عليها في مدينة فيسارية، وهم محاصرون لها، فخرجت إلى بلبيس، وأقامت بها، وبعثت حاجبها الكبير في ألفي فارس إلى الفرما ليحفظ الطريق، ولا يدع أحدا من الروم ولا غيرهم يعبر إلى مصر، وبعث

ذكر بلد الورادة

المقوقس رسله إلى أطراف بلاده مما يلي الشام، أن لا يتركوا أحدا يدخل أرض مصر مخافة أن يتحدّثوا بغلبة المسلمين على الشام، فيدخل الرعب في قلوب عساكره، فلما قدم عمر بن الخطاب الجابية، وسار عمرو بن العاص إلى مصر، نزل على بلبيس، وبها أرمانوسة ابنة المقوقس، فقاتل من بها وقتل منهم زهاء ألف فارس، وأسر ثلاثة آلاف، وانهزم من بقي إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع مالها وسائر ما كان للقبط في بلبيس، فأحب عمرو ملاطفة المقوقس، فسيّر إليه ابنته أرمانوسة مكرمة في جميع مالها مع قيس بن أبي العاص السهميّ، فسرّ بقدومها، ثم سار عمرو إلى القصر، ولم تزل من مدائن مصر الكبار، حتى نزل عليها مري ملك الفرنج، وأخذها عنوة بعد حصار طويل، وقتل منها آلافا، ولها أخبار كثيرة وقد خربت منذ عهد الحوادث بديار مصر، بعد سنة ست وثمانمائة بعد ما أدركناه، وبها عمارة كثيرة، وفيها عدّة بساتين وأهلها أصحاب يسار ونعم سنية. ذكر بلد الورادة الورادة من جملة الجفار. قال عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك: وصفة الطريق والأرض من الرملة إلى أردود، اثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا في رمل، ثم الورادة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى الغريب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا. قال الخليفة المأمون: لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما غريب في قرى مصر ... يقاسي الهم والسدما ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلا، ثم إلى فسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا. وقال جامع تاريخ دمياط: ولما افتتح المسلمون الفرما، بعد ما افتتحوا دمياط وتنيس، ساروا إلى البقارة فأسلم من بها، وساروا منها إلى الورادة، فدخل أهلها في الإسلام وما حولها إلى عسقلان. وقال القاضي الفاضل في متجدّدات شهر المحرّم سبع وستين وخمسمائة: وصابحنا الورادة فبتنا على مينا الورادة، ودخلنا الورادة فرأيت تاريخ منارة جامعها سنة ثمان وأربعمائة، واسم الحاكم بأمر الله عليها، والورادة من جملة الجفار، ويقال: أخذ اسمها من الورود، ولم يزل جامعها عامرا تقام به الجمعة إلى ما بعد السبعمائة، وبلد الورّادة القديمة في شرقيّ المنزلة التي يقال لها اليوم: الصالحية، وبها آثار عمائر ونخل قليل.

ذكر مدينة أيلة

الصالحية: هذه البلدة اختطها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، بأرض المسانح والعلاقمة في أوّل الرمل الذي بين مصر والشام، وأنشأ بها قصورا وجامعا وسوقا لتكون منزلة العساكر إذا خرجوا من الرمل، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة. ذكر مدينة أيلة ذكر ابن حبيب: أنّ أثال، بضم أوّله ثم ثاء مثلثة، وادي أيلة، وأيلة، بفتح أوّله على وزن فعلة، مدينة على شاطىء البحر فيما بين مصر ومكة سميت: بأيلة بنت مدين بن إبراهيم عليه السلام، وأيلة، أوّل حدّ الحجاز، وقد كانت مدينة جليلة القدر على ساحل البحر الملح، بها التجارة الكثيرة وأهلها أخلاط من الناس، وكانت حدّ مملكة الروم في الزمن الغابر، وعلى ميل منها باب معقود لقيصر، قد كان فيه مسلحته، يأخذون المكس، وبين أيلة والقدس، ست مراحل. والطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، على يوم وليلة من أيلة، وكانت في الإسلام منزلا لبني أمية، وأكثرهم موالي عثمان بن عفان، وكانوا سقاة الحاج، وكان بها علم كثير، وآداب ومتاجر وأسواق عامرة، وكانت كثيرة النخل والزروع، وعقبة أيلة لا يصعد إليها من هو راكب، وأصلحها فائق مولى خمارويه بن أحمد بن طولون، وسوّى طريقها، ورمّ ما استرم منها، وكان بأيلة مساجد عديدة، وبها كثير من اليهود، ويزعمون أن عندهم برد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه بعثه إليهم أمانا وكانوا يخرجونه رداء عدنيا ملفوفا في الثياب قد أبرز منه قدر شبر فقط، ويقال: إنّ أيلة هي القرية التي ذكرها الله تعالى في كتابه حيث قال: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف/ 163] . وقد اختلف في تعيين هذه القرية، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: وعكرمة والسديّ، هي أيلة؛ وعن ابن عباس أيضا: أنها مدينة بين أيلة والطور؛ وعن الزهريّ: إنها طبرية؛ وقال قتادة وزيد بن أسلم: هي ساحل من سواحل الشام بين مدين وعينونة، يقال لها: معناة، وسئل الحسين بن الفضل، هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا والحرام يأتيك جزافا؟ قال: نعم في قصة أيلة: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف/ 163] . وكان من خبر أهل القرية أنهم كانوا من بني إسرائيل، وقد حرّم الله عليهم العمل في يوم السبت، فزين لهم إبليس الحيلة، وقال: إنما نهيتم عن أخذ الحيتان يوم السبت، فاتخذوا الحياض، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة، فتبقى فيها، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء، فيأخذونها يوم الأحد.

وقيل: كان الرجل يأخذ خيطا، ويضع فيه وهقه، ويلقيه في ذنب الحوت، وهو بتحريك الهاء وإسكانها، حبل كالطول، ويجعل في الطرف الآخر من الخيط وتدا، ويتركه كذلك إلى يوم الأحد، ثم تطرّق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلي حتى كثر الصيد للحيتان، ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فقامت طائفة من بني إسرائيل، وجاهرت بالنهي، واعتزلت وقالت: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار، فأصبح الناهون، ذات يوم في مجالسهم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إنّ للناس لشأنا، فعلوا على الجدار فإذا هم قردة، فدخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، فجعلت تأتيهم فتشم ثيابهم، وتبكي، فيقول الناهون للقردة: ألم ننهكم، فتقول برأسها: نعم. قال قتادة: فصارت الشباب قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم. وقيل: إنّ ذلك كان في زمن نبيّ الله داود عليه السلام، وقيل: إنّ أيلة أصلها أيليالية، وقد وقع ذكرها في التوراة كذلك، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ: دكالة من البربر، بطن من المصامدة، وقالت طائفة: إنّ دكالة ولد أيلة، ويقال: أيل الذي سميت به عقبة أيلة، وأخر، أنهم من دغفل بن أيلة، وأنهم يعزون إلى البربر، ويقولون: نحن من ربيعة الفرس، وفي ذلك خلاف عظيم. وذكر المسعوديّ: أن يوشع بن نون عليه السلام حارب السميدع بن هزبر بن مالك العمليقيّ، ملك الشام، ببلد أيلة نحو مدين وقتله، واحتوى على ملكه، وفي ذلك يقول عون بن سعيد الجرهميّ: ألم تر أن العملقيّ بن هرمز ... بأيلة أمسى لحمه قد تمزعا تداعت عليه من يهود جحافل ... ثمانون ألفا حاسرين ودرّعا وهي أبيات كثيرة. وقال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، أتاه تحية بن روبة صاحب أيلة فصالحه، وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، وكتب لهم كتابا فهو عندهم، وكتب لتحية بن روبة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبيّ رسوله لتحية بن روبة وأهل أيلة أساقفهم وسائرهم في البرّ والبحر لهم ذمّة الله وذمّة النبيّ، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ما يريدونه ولا طريقا يريدونه من برّ أو بحر» . هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة، بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة، ولم تزل مدينة أيلة عامرة آهلة. وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة، طرق عبد الله بن إدريس الجعفري أيلة ومعه بعض بني الجرّاح ونهبها وأخذ منها ثلاثة آلاف دينار، وعدّة غلال، وسبى النساء والأطفال، ثم

إنه صرف عن ولاية وادي القرى، فسارت إليه سرية من القاهرة لمحاربته. قال القاضي الفاضل: وفي سنة ست وستين وخمسمائة، أنشأ الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، مراكب مفصلة وحملها على الجمال، وسار بها من القاهرة في عسكر كبير لمحاربة قلعة أيلة، وكانت قد ملكها الفرنج، وامتنعوا بها، فنازلها في ربيع الأوّل، وأقام المراكب وأصلحها وطرحها في البحر، وشحنها بالمقاتلة والأسلحة، وقاتل قلعة أيلة في البرّ والبحر حتى فتحها في العشرين من شهر ربيع الآخر، وقتل من بها من الفرنج وأسرهم، وأسكن بها جماعة من ثقاته، وقوّاهم بما يحتاجون إليه من سلاح وغيره، وعاد إلى القاهرة في آخر جمادى الأولى. وفي سنة سبع وسبعين، وصل كتاب النائب بقلعة أيلة: أنّ المراكب على تحفظ وخوف شديد من الفرنج، ثم وصل الإيريس، لعنه الله، إلى أيلة، وربط العقبة وسير عسكره إلى ناحية تبوك وربط جانب الشام لخوفه من عسكر يطلبه من الشام أو مصر، فلما كان في شعبان من السنة المذكورة كثر المطر بالجبل المقابل للقلعة بأيلة، حتى صارت به مياه استغنى بها أهل القلعة عن ورود العين مدّة شهرين، وتأثرت بيوت القلعة لتتابع المطر، ووهت لضعف أساسها فتداركها أصحابها وأصلحوها. وذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: ومن أباده الحدثان: الكوكة، وهم أمّة لهم أربعة ملوك، ملكوا أرض أيلة والحجاز وبنى كل واحد منهم مدينة سماها باسمه، وجعلوا سائر الأرض خيمات، وقسموها على ثلاثين كورة وجعلوها أربعة أعمال لكل عمل، ملك يجلس على منبر ذهب في مدينته، وعمل بربا وهي بيت الحكمة وعمل هيكلا لأخذ الكواكب، وجعل فيه أصناما من ذهب كل صنم له مرتبة، وكانت الإسكندرية واسمها رقودة، فجعلوا لها خمس عشرة كورة، وجعلوا فيها كبار الكهنة، ونصبوا في هياكلها من أصنام الذهب أكثر مما في غيرها، وكان فيها مائتا صنم من ذهب وقسموا الصعيد على ثمانين كورة، وجعلوا أربعة أقسام، وكان عدد مدن أهل مصر الداخلة في كورها، ثلاثين مدينة فيها العجائب. وقيل: إنّ حمير الأكبر واسمه العرنجح بن سبأ الأكبر واسمه عامر ويعرف بعبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لما ملك بعد أبيه جمع جيوشه، وسار يطأ الأمم ويدوس الممالك، كما فعل أبوه فأمعن في المشرق حتى أبعد يأجوج ومأجوج إلى مطلع الشمس، ثم قفل نحو المغرب، فجاءه قبائل من أهل اليمن من بني هود بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، يشكون من ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، وما نزل بهم من ظلمهم، فأمر برفعهم من أرض اليمن، وأنزلهم أيلة فعمروها من أيلة إلى ذات الآصال إلى أطراف جبل نجد، فقطعت ثمود هناك الصخور، ونحتوا من الجبال

البيوت، وتكبروا وطغوا، فبعث الله فيهم صالحا نبيا ورسولا، فكذبوه وسألوه، أن يخرج لهم ناقة من صخرة، فأخرجها لهم، فعقروها، فأهلكهم الله بالصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وقد ذكر أنّ موسى عليه السلام، سار ببني إسرائيل بعد موت أخيه هارون إلى أرض أولاد العيص وهي التي تعرف بجبال السراة جنب بلد الشوبك، ثم مرّ فيها إلى أيلة، وتوجه بعد أيام إلى برّية باب حيث بلاد الكرك، حتى حارب تلك الأمم، وكان إلى جانب أيلة مدينة يقال لها: عصبون جليلة عظيمة. مربوط: كورة من كور الإسكندرية، كانت لشدّة بياضها لا يكاد يبين فيها دخول الليل إلا بعد وقت، وكان الناس يمشون فيها، وفي أيديهم خرق سود خوفا على أبصارهم، ومن شدّة بياضها لبس الرهبان السواد، وكانت بلاد مربوط في نهاية العمارة والجنان المتصلة بأرض برقة، وهي اليوم من قرى الإسكندرية يزرع بها الفواكه وغيرها، وقد وقفها الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، على جهات برّ بالجامع الحاكمي من القاهرة وبها جامع عمر في سنة ست وستين وستمائة، ثم استأجرها الملك المؤيد شيخ المحمودي في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وجدّد عمارة بستانها، وقد خرب لترداد عرب لبدة وبرقة إليه، فاستمرّت في ديوان السلطان. وادي هبيب: هذا الوادي بالجانب الغربيّ من أرض مصر، فيما بين مربوط والفيوم، يجلب منه الملح والنطرون عرف بهبيب بن محمد بن معقل بن الواقعة بن حزام بن عفان الغفاريّ، أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد فتح مكة، وروى عنه أبو تميم الجيشانيّ، وأسلم مولى تجيب وسعيد بن عبد الرحمن الغفاريّ، وكان قد اعتزل عند فتنة عثمان رضي الله عنه بهذا الوادي، فعرف به، وكان يقول: لا يفرق بين قضاء دين رمضان، ويجمع بين الصلاتين في السفر، ويقال لهذا الوادي أيضا: وادي الملوك، ووادي النطرون، وبرّية شهاب، وبرّية الإسقيط، وميزان القلوب، وكان به مائة دير للنصارى، وبقي به سبعة ديورة، وقد ذكرت عند ذكر الأديار من هذا الكتاب، وهو واد كثير الفوائد فيه النطرون، ويتحصل منه مال كثير وفيه الملح الأندرانيّ والملح السلطانيّ، وهو على هيئة ألواح الرخام، وفيه: الوكت والكحل الأسود، ومعمل الزجاج وفيه الماسكة، وهو طين أصفر في داخل حجر أسود يحك في الماء، ويشرب لوجع المعدة، وفيه البرديّ لعمل الحصر، وفيه عين الغراب وهو ماء في هيئة البركة وطولها نحو خمسة عشر ذراعا في عرض خمسة أذرع في مغار بالجبل لا يعلم من أين يأتي، ولا إلى أين يذهب وهو حلو رائق. ويذكر أنه خرج منه سبعون ألف راهب، بيد كل واحد عكاز، فتلقوا عمرو بن العاص بالطرّانة مرجعه من الإسكندرية يطلبون، أمانة لهم على أنفسهم وأديارهم، فكتب لهم بذلك

ذكر مدينة مدين

أمانا بقي عندهم، وكتب لهم أيضا بجراية الوجه البحري، فاستمرّت بأيديهم، وإنّ جرايتهم جاءت في سنة زيادة على خمسة آلاف أردب وهي الآن لا تبلغ مائة أردب. ذكر مدينة مدين اعلم أن مدين أمّة شعيب هم: بنو مديان «1» بن إبراهيم عليه السلام، وأمهم قنطوراء «2» ابنة يقطان الكنعانية، ولدت له «3» ثمانية من الولد، تناسلت منهم أمم، ومدين على بحر القلزم تحاذي تبوك على نحو ست مراحل وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى لسائمة شعيب، وعمل عليها بيت. قال الفرّاء: مدين اسم بلد وقطر، وقيل: اسم قبيلة سميت باسم أبيها مدين. ويقال له: مديان بن إبراهيم، قاله مقاتل وغيره، والجمهور على أنّ مدين أعجميّ، وقيل: عربيّ، فإن كان عربيا فإنه يحتمل أن يكون فعيلا من مدّن بالمكان، أقام به، وهو بناء نادر، وقيل: مهمل أو مفعلا من دان فتصحيحه شاذ، وهو ممنوع الصرف على كل حال، سواء كان اسم الأرض أو اسم القبيلة عجميا أو عربيا. وقال المسعوديّ: قد تنازع أهل الشرائع في قوم شعيب بن نوفل بن رعويل بن مرّ بن عيقا بن مدين بن إبراهيم عليه السلام، وكان لسانه العربية، فمنهم من رأى أنهم من العرب الدائرة والأمم البائدة، وبعض من ذكرنا من الأجيال الخالية، ومنهم من رأى أنهم من ولد المحصن بن جندل بن يعصب بن مدين بن إبراهيم الخليل، وأنّ شعيبا آخرهم في النسب، وقد كانوا عدّة ملوك تفرّقوا في ممالك متصلة، فمنهم المسمى: بأبجد، وهوّز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، وهم على ما ذكرنا بنو المحصن بن جندل. وأحرف الجمل هي: أسماء هؤلاء الملوك وهي الاثنان والعشرون حرفا التي عليها حساب الجمل، وقد قيل في هذه الحروف غير ما ذكرنا من الوجوه، فكان أبجد، ملك مكة، وما يليها من الحجاز، وكان هوّز وحطي، ملكين ببلادوج، وهي الطائف وما اتصل بذلك من أرض نجد، وكلمن وسعفص وقرشت، ملوك بمدين، وقيل: ببلاد مصر، وكان كلمن على ملك مدين، ومن الناس من رأى أنه كان ملك جميع من سمينا مشاعا متصلا على ما ذكرنا، وإنّ عذاب يوم الظلة كان في ملك، كلمن منهم، وإنّ شعيبا دعاهم، فكذبوه وعدهم بعذاب يوم الظلة، ففتح عليهم باب من السماء من نار، ونجا شعيب بمن آمن معه إلى الموضع المعروف بأيلة، وهي غيضة نحو مدين، فلما أحس القوم بالبلاء واشتدّ عليهم الحرّ، وأيقنوا بالهلاك طلبوا شعيبا، ومن آمن معه، وقد أظلتهم سحابة بيضاء طيبة النسيم

والهواء لا يجدون فيها ألم العذاب، فأخرجوا شعيبا ومن آمن معه من مواضعهم، وأزالوهم عن أماكنهم، وتوهموا أن ذلك ينجيهم مما نزل بهم، فجعلها الله عليهم نارا، فأتت عليهم فرثت جارية بنت كلمن أباها، وكانت بالحجاز فقالت: كلمن هدّم ركني ... هلكه وسط المحله سيد القوم أتاه ال ... حتف نارا وسط ظله كوّنت نارا فأضحت ... دار قومي مضمحله وقال المتنصر بن المنذر المدينيّ: ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... أبدت بها عمرا وتحيي بني عمرو هم ملكوا أرض الحجاز بأوجه ... كمثل شعاع الشمس في صورة البدر وهم قطنوا البيت الحرام وزينوا ... قطورا وفازوا بالمكارم والفخر ملوك بني حطي وسعفص ذي الندى ... وهوّز أرباب الثنية والحجر قال المسعوديّ: ولهؤلاء الملوك أخبار عجيبة من حروب وسير، وكيفية تغلبهم على هذه الممالك، وتملكهم عليها وإبادتهم من كان فيها قبلهم من الأمم، وقيل: إنّ الأيكة المذكورة في قوله عز وجل: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء/ 176] ، وفي قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الحجر/ 78] هي مدين، وقيل: من ساحل البحر إلى مدين، وقيل: هي غيضة نحو مدين، وقيل: بل أصحاب الأيكة، الذين بعث إليهم شعيب كانوا بتبوك بين الحجر، وأوّل الشام، ولم يكن شعيب منهم، وإنما كان من مدين. وقال أبو عبيد البكريّ: الأيكة المذكورة في كتاب الله تعالى التي كانت منازل قوم شعيب، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيها روايتان، إحداهما: إنّ الأيكة من مدين إلى شعيب، والرواية الثانية: إنها من ساحل البحر إلى مدين، وكان شجرهم المقل والأيكة عند أهل اللغة الشجر الملتف، وكانوا أصحاب شجر ملتف، وقال قوم: الأيكة: الغيضة، وليكة: اسم البلد وما حولها كما قيل: مكة، وبكة. وقال أبو جعفر النحاس: ولا يعلم ليكة اسم البلد، وقال ابن قتيبة: وكان بعضهم يزعم أن بكة، هو موضع المسجد وما حولها مكة كما فرق بين الأيكة وليكة، فقيل: الأيكة: الغيضة، وليكة البلد: حولها. وقال البكريّ: مدين بلد بالشام معلوم تلقاء غزة، وهو المذكور في كتاب الله تعالى، وهذا وهم، بل مدين من أرض مصر، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، سرية إلى مدينة مدين، أميرهم: زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأصاب سبيا من أهل ميتا. قال ابن إسحاق: وميتا هي السواحل، فبيعوا وفرّق بين الأمهات والأولاد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون فقال:

بقية خبر مدينة مدين

«ما لهم» ؟ فأخبر خبرهم، فقال: «لا تبيعوهم إلّا جميعا» . ومدين من منازل جذام بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عزيب بن زيد بن كهلان. وشعيب «1» النبيّ المبعوث إلى أهل مدينة أحد بني وائل «2» بن جذام. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد جذام: «مرحبا بقوم شعيب وأصهار موسى ولا تقوم الساعة حتى يتزوّج فيكم المسيح ويولد له» . وقال محمد بن سهل الأحول: مدين من أعراض المدينة مثل فدك والفرع ورهاط. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: وكان بأرض مدين، عدّة مدائن كثيرة قد باد أهلها، وخربت، وبقي منها إلى يومنا هذا، وهو سنة خمس وعشرين وثمانمائة نحو الأربعين مدينة قائمة منها ما يعرف اسمه، ومنها ما قد جهل اسمه، فمما يعرف اسمه فيما بين أرض الحجاز، وبلاد فلسطين، وديار مصر، ست عشرة مدينة منها: في ناحية فلسطين، عشر مدائن، وهي الخلصة، والسنيطة، والمدرة، والمنية، والأعوج، والخويرق، والبئرين، والماءين، والسبع، والمعلق، وأعظم هذه المدائن العشر: الخلصة والسنيطة، وكثيرا ما تنقل حجارتها إلى غزة ويبنى بها هناك، ومن مدائن مدين بناحية بحر القلزم والطور مدينة فاران، ومدينة الرقة، ومدينة القلزم، ومدينة أيلة، ومدينة مدين، وبمدينة مدين إلى الآن آثار عجيبة وعمد عظيمة. ووجد في مدينة الأعوج، أعوام بضع وستين وسبعمائة جب بقلعتها بعيد المهوى يبلغ عمقه نحو مائة ذراع، وبقاعه عدة أسفار على رفوف حمل منها سفر طوله، ذراعان وأزيد، قد غلف بلوحين من خشب، وكتابته بالقلم المسند، طول الألف واللام، نحو شبر، فوجد ببلاد الكرك من قرأه، فإذا هو سفر من عشرة أسفار قد ابتدأه، بحمد الله، ثم قال: خروج موسى من أرض مصر إلى بلاد مدين، وملوك بني مدين فيما بعد شعيب، فذكر لموسى عليه السلام، عدّة أسماء منها، اسمه بالعربية: موسى بن عمران، وبالعبرانية: موشي، وبالفارسية: داران، وبالقبطية: هروسيس، وذكر أنه تزوّج ابنة شعيب، وأنه أقام بمدينة ثماني حجج، ثم قال لابن شعيب: قد أتممت لك شرطك، وسأزيدك سنتين فضلا مني. بقية خبر مدينة مدين «3» قال: وخرج موسى متوجها إلى مصر، والملك يومئذ على مدين أبجد. قال: وقوي

ذكر مدينة فاران

أمر أبجد، فطغى حتى ملك الحجاز واليمن، وكان له خمسة أولاد هم: هوّز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، فأقام أبجد ملكا باليمن، مائة سنة. ومات وقد استخلف من بعده ابنه: كلمن باليمن، وجعل ابنه هوّز على الحجاز، وابنه حطي على أرض مصر، وابنه سعفص على الجزيرة، وبلادها حيث الموصل وحرّان إلى أرض العراق، وابنه قرشت على العراق ومشارفها من خراسان، وكان قرشت هو الجبار فيهم، وكان سعفص وهوّز وكلمن أهل عدل وحلم، وكان حطي صاحب بطش وجرأة. وكان بنو إسرائيل إذ ذاك بالشام، فلم يملك أولاد أبجد أرض الشام، ولا احتووا عليها، وكانت مدّة ملكهم نحوا من مائة وخمسين سنة، فتم لهم بدولة أبيهم أبجد ثلثمائة سنة وأزيد. ثم ملك بعدهم على بني إسرائيل، روزيت بن هوّز، وعرزيت بن حطي بن أبجد نحو سبع سنين، ثم خرجت الدولة عن أولاد أبجد، وأقام هذا الكتاب عندهم زمانا، ثم أعادوه إلى الجبّ من قلعة الأعوج. حدّثني بهذا الخبر، الحافظ المتقن الضابط أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الغريانيّ التونسيّ المالكيّ، قال: حدثني به شتر بن غنيم العامريّ شيخ لقيه بأرض فلسطين، أنه شاهد الكتاب المذكور، وهو شاب، وحفظ منه ما تقدّم ذكره. وقيل: إنّ مالك بن دعر بن حجر بن جديلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدا ذكرا، فكثرت أولادهم، حتى بنوا المدائن والقرى والحصون، وعمروا بلاد مدين كلها، وغلبوا على بلاد الشام ومصر والحجاز، وغيرها خمسمائة سنة، وقيل: إنما كان استيلاء ملوك مدين على مصر، خمسمائة سنة بعد غرق فرعون موسى، وهلاكه دلوكة بنت زفان، حتى أخرجهم منها نبيّ الله سليمان بن داود، فعاد الملك إلى القبط بعدهم. ذكر مدينة فاران «1» هذه المدينة بساحل بحر القلزم، وهي من مدن العماليق على تل بين جبلين، وفي الجبلين ثقوب كثيرة لا تحصى مملوءة أمواتا، ومن هناك إلى بحر القلزم، مرحلة واحدة، ويقال له هناك ساحل بحر فاران، وهو البحر الذي أغرق الله فيه فرعون، وبين مدينة فاران، والتيه مرحلتان، ويذكر أنّ فاران اسم لجبال مكة، وقيل: اسم لجبال الحجاز، وهي التي ذكرت في التوراة، والتحقيق أنّ فاران والطور كورتان من كور مصر القبلية، وهي غير فاران المذكورة في التوراة، وقيل: إنّ فاران بن عمرو بن عمليق هو الذي نسب إليه جبال الحرم،

ذكر أرض الجفار

فقيل: جبال فاران، وبعضهم يقول: جبال فران وكانت مدينة فاران من جملة مدائن، مدين إلى اليوم، وبها نخل كثير مثمر، أكلت من ثمره، وبها نهر عظيم، وهي خراب يمرّ بها العربان. ذكر أرض الجفار «1» اعلم أنّ الجفار اسم لخمس مدائن، وهي: الفرما، والبقارة، والورادة، والعريش، ورفج، والجفار كله رمل وسمي بالجفار لشدّة المشي فيه على الناس، والدواب من كثرة رمله، وبعد مراحله، والجفار تجفر فيه الإبل، فاتخذ له هذا الاسم كما قيل للحبل الذي يهجر به البعير، هجار، وللذي يحجر به حجار، وللذي يعقل به عقال، وللذي يبطن به بطان، وللذي يخطم به خطام، وللذي يزم به زمام، واشتقت البقارة من البقر، والواردة من الوريد، والعريش أخذ من العريش، وقيل: إن رفج اسم جبل. وكان يسكن الجفار في القديم خذام بن العريان. ويقال: إنّ أرض الجفار كانت في الدهر الأوّل والزمن الغابر متصلة العمارة، كثيرة البركات مشهورة بالخيرات لكثرة زراعة أهلها الزعفران والعصفر وقصب السكر، وكان ماؤها غزيرا عذبا، ثم صار بها نخل يحدق بها من كل النواحي إلى أن دمرها الله تدميرا، فصارت إلى اليوم ذات رمل عظيم يسلك فيه إلى العريش، وإلى رفج كله قفر تعرف بقعته برمل الغرابيّ قليل الماء عديم المرعى، لا أنيس به، فسبحان محيل الأحوال. ذكر صعيد مصر الصعيد: المرتفع من الأرض، وقيل: الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة، وقيل: ما لم يخالطه رمل ولا سبخة، وقيل: هو وجه الأرض، وقيل: الأرض الطيبة، وقيل: هو كل تراب طيب، وتسمية هذه الجهة من أرض مصر بهذا الاسم إنما حدث في الإسلام، سماها العرب بذلك لأنها جهة مرتفعة عما دونها من أرض مصر، ولذلك يقال فيها: أعلى الأرض، ولأنها أرض ليس فيها رمل ولا سباخ، بل كلها أرض طيبة مباركة، ويقال للصعيد أيضا: الوجه القبليّ. قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: ولما حضرت مصرايم الوفاة، عهد إلى ابنه قبطيم، وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه.

فجعل لقبطيم من بلد إلى أسوان، ولأشمون، من بلد أشمون إلى منف، ولأتريب، الحوف كله، ولصا من ناحية صا البحيرة إلى قرب برقة، وقال لأخيه فارق لك من برقة إلى الغرب، فهو صاحب إفريقية وولده الأفارق، وأمر كلّ واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في موضعه. وقال ابن عبد الحكم: فلما كثر ولد مصر وأولاد أولادهم، قطع مصر لكل واحد منهم قطعة يحوزها لنفسه ولولده، وقسم لهم هذا النيل، فقطع لابنه قفط، موضع قفط فسكنها، وبه سميت: قفط قفطا، وما فوقها إلى أسوان، وما دونها إلى أشمون في الشرق والغرب، وقطع لأشمون من أشمون فما دونها في الشرق والغرب إلى منف، فسكن أشمون أشمون، فسميت به، وقطع لأتريب ما بين منف إلى صا فسكن أتريب فسميت به، وقطع لصا ما بين صا إلى البحر، فسكن صا فسميت به، فكانت مصر كلها على أربعة أجزاء: جزأين بالصعيد، وجزأين بأسفل الأرض. وقال أبو الفضل جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي «1» في كتاب الطالع السعيد في تاريخ الصعيد: مسافة إقليم الصعيد الأعلى مسيرة اثني عشر يوما بسير الجمال، وعرضه ثلاث ساعات، وأكثر بحسب الأماكن العامرة، ويتصل عرضه في الكورة الشرقية بالبحر الملح وأراضي البجة، وفي الغربية، بألواح وهي كورتان: شرقية، وغربية، والنيل بينهما فاصل، وأوّل الشرقية من مرج بني هميم المتصلة أرضها بأراضي جرجا من عمل أخميم، وآخرها من قبليّ الهو ويليها أوّل أراضي النوبة، وفي هذه الكورة تيج، وقفط وقوص، وأوّل الكورة الغربية، برديس تتصل أرضها بأرض جرجا، وفي هذه الكورة الغربية سمهود، وآخر الكورة الغربية أسوان وبحافته أكثر النخل من الجانبين، تكون مساحة الأراضي التي فيها النخل والبساتين تقارب عشرين ألف فدّان، والمستولي على إقليم الصعيد المشتري. ويقال: كان بصعيد مصر، نخلة تحمل عشرة أرادب تمرا، فغصبها بعض الولاة فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة، وكانت هذه النخلة في الجانب الغربيّ، وبيع منها في الغلاء كل ويبة بدينار. ويقال: لما صوّرت الدنيا لأمير المؤمنين هارون بن محمد الرشيد لم يستحسن إلا كورة سيوط من صعيد مصر، فإنها ثلاثون ألف فدّان في استواء من الأرض لو وقعت فيها قطرة ماء لانتشرت في جميعها.

وبالصعيد بقايا سحر قديم، حكى الأمير طقطبا والي قوص في أيام الناصر محمد بن قلاون قال: أمسكت امرأة ساحرة، فقلت لها: أريد أن أبصر شيئا من سحرك؟ فقالت: أجود عملي أن أسحر العقرب على اسم شخص بعينه، فلا بدّ أن تقع عليه ويصيبه سمها، فتقتله. فقلت: أريني هذا واقصديني بسحرك؟ فأخذت عقربا وعملت ما أحبت، ثم أرسلت العقرب فتبعني! وأنا أتنحى عنه، وهو يقصدني فجلست على تخت وضعته على بركة ماء، فأقبل العقرب إلى ذلك الماء، وأخذ في التوصل إليّ، فلم يطق ذلك، فمرّ إلى الحائط وصعد فيه، وأنا أشاهده، حتى وصل إلى السقف ومرّ فيه إلى أن صار فوقي وألقى نفسه صوبي، وسعى نحوي حتى قرب مني، فضربته فقتلته، ثم قتلت الساحرة أيضا. وأرض الصعيد كثيرة المواشي من الضأن وغير ذلك لكثرة نتاجه، حتى أن الرأس الواحد من نعاج الضأن، يتولد عنه في عشر سنين، ألف وأربع وعشرون رأسا! وذلك بتقدير السلامة، وأن تلد كلها أناثا، وتلدّ مرّة واحدة في كل سنة، ولا تلد في كل بطن غير رأس واحد، وإلا فإن ولدت في السنة مرّتين، وكان في كل بطن رأسان تضاعف العدد، وتأمل حساب ما قلناه تجده صحيحا، وقد شوهد كثيرا أنّ من أغنام الصعيد، ما يلد في السنة ثلاث مرّات ويلد في البطن الواحد، ثلاثة أرؤس. وكانت الكثرة والغلبة ببلاد الصعيد لست قبائل، وهم: بنو هلال، وبلى، وجهينة، وقريش، ولواته، وبنو كلاب، وكان ينزل مع هؤلاء عدّة قبائل سواهم من الأنصار، ومن مزينة، وبني دراج وبني كلاب وثعلبة وجذام. وبلغ من عمارة الصعيد، أن الرجل في أيام الناصر، محمد بن قلاون، وما بعدها كان يمرّ من القاهرة إلى أسوان، فلا يحتاج إلى نفقة، بل يجد بكل بلد وناحية، عدّة دور للضيافة، إذا دخل دارا منها، أحضر لدابته علفها، وجيء له بما يليق به من الأكل ونحوه، وآل أمره الآن إلى أن لا يجد الرجل أحدا فيما بين القاهرة وأسوان يضيفه لضيق الحال، ثم تلاشى أمر بلاد الصعيد منذ سنة الشراقي في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون سنة ست وسبعين وسبعمائة، وتزايد تلاشيه في أيام الظاهر برقوق لجور الولاة، ولم يزل في إدبار، إلى أن كانت سنة ست وثمانمائة، وشرقت مصر بقصور مدّ النيل، فدهي أهل الصعيد من ذلك بما لا يوصف، حتى أنه مات من مدينة قوص سبعة عشر ألف إنسان، وذلك كله سوى الطرحى على الطرقات، ومن لا يعرف من الغرباء ونحوهم، ثم دمّر في أيام المؤيد شيخ، فلم يبق منه إلا رسوم تبذل الولاة الجهد في محوها، نسأل الله حسن الخاتمة.

ذكر الجنادل ولمع من أخبار أرض النوبة

ذكر الجنادل «1» ولمع من أخبار أرض النّوبة الجندل: ما يقلّ الرجل من الحجارة، وقيل: هو الحجر كله، الواحدة، جندلة، والجندل: الجنادل. قال سيبويه: وقالوا جندل يعنون: الجنادل، وصرفوه لنقصان البناء عما لا ينصرف، وأرض جندلة، ذات جندل وقيل: الجندل، المكان الغليظ فيه حجارة، ومكان جندل، كثير الجندل. قال عبد الله بن أحمد بن سليم الأسوانيّ في كتاب أخبار النوبة: والمقرة وعلوة والبجة والنيل، وأوّل بلد النوبة، قرية تعرف بالقصر من أسوان إليها خمسة أميال، وآخر حصن للمسلمين، جزيرة تعرف ببلاق، بينها وبين قرية النوبة ميل، وهو ساحل بلد النوبة، ومن أسوان إلى هذا الموضع، جنادل كثيرة الحجر لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة، ودلالة من يخبر بذلك من الصيادين الذين يصيدون هناك، لأنّ هذه الجنادل متقطعة وشعاب معترضة في النيل، ولانصبابه فيها خرير عظيم ودويّ يسمع من بعد، وبهذه القرية مسلحة، وباب إلى بلد النوبة، ومنها إلى الجنادل الأولى من بلد النوبة، عشر مراحل، وهي الناحية التي يتصرّف فيها المسلمون، ولهم فيما قرب أملاك ويتجرون في أعلاها، وفيها جماعة من المسلمين قاطنون، لا يفصح أحدهم بالعربية، وشجرها كثير، وهي ناحية ضيقة شظفة كثيرة الجبال، وما تخرج عن النيل، وقراها متسطرة على شاطئه وشجرها النخل والمقل، وأعلاها أوسع من أدناها، وفي أعلاها الكروم، والنيل لا يروي مزارعها لارتفاع أرضها، وزرعها، الفدّان والفدّانان والثلاثة على أعناق البقر بالدواليب، والقمح عندهم قليل والشعير أكثر والسلت، ويعتقبون الأرض لضيقها، فيزرعونها في الصيف بعد تطريتها بالزبل والتراب. الدخن والذرة والجاورس والسمسم واللوبيا. وهذه الناحية نجراش مدينة المريس، وقلعة ابريم، وقلعة أخرى دونها، وبها مينا تعرف بأدواء ينسب إليها، لقمان الحكيم، وذو النون، وبها بربا عجيب، ولهذه الناحية وال من قبل عظيم النوبة يعرف بصاحب الجبل من أجلّ ولاتهم لقربه من أرض الإسلام، ومن يخرج إلى بلد النوبة من المسلمين فمعاملته معه في تجارة أو هدية إليه، أو إلى مولاه يقبل الجميع، ويكافىء عليه بالرقيق، ولا يطلق لأحد الصعود إلى مولاه لمسلم ولا لغيره.

وأوّل الجنادل من بلد النوبة قرية تعرف بتقوى، هي ساحل، وإليها تنتهي مراكب النوبة المصعدة من القصر أوّل بلدهم، ولا تتجاوزها المراكب، ولا يطلق لأحد من المسلمين، ولا من غيرهم الصعود منها إلا بإذن من صاحب جبلهم، ومنها إلى المقس الأعلى، ست مراحل، وهي جنادل كلها، وشرّ ناحية رأيتها لهم لصعوبتها، وضيقها ومشقة مسالكها، أما بحرها، فجنادل وجبال معترضة فيه، حتى إن النيل ينصب من شعاب ويضيق في مواضع، حتى يكون سعة ما بين الجانبين، خمسين ذراعا، وبرّها مجاوب ضيقة، وجبال شاهقة، وطرقات ضيقة، حتى لا يمكن الراكب أن يصعد منها، والراجل الضعيف يعجز عن سلوكها، ورمال في غربها وشرقها، وهذه الجبال حصنهم، وإليها يفزع أهل الناحية التي قبلها المتصلة بأرض الإسلام، وفي جزائرها نخل يسير وزرع حقير، وأكثر أكلهم السمك ويدّهنون بشحمه، وهي من أرض مريس، وصاحب الجبل واليهم، والمسلحة بالمقس الأعلى صاحبها من قبل كبيرهم شديد الضبط لها، حتى أنّ عظيمهم إذا صار بها وقف به المسلحي، وأوهم أنه يفتش عليه، حتى يجد الطريق إلى ولده ووزيره، فمن دونهما ولا يجوزها دينار ولا درهم إذ كانوا لا يتبايعون بذلك إلا دون الجنادل مع المسلمين، وما فوق ذلك لا بيع بينهم ولا شراء، وإنما هي معاوضة بالرقيق والمواشي والحبال والحديد والحبوب، ولا يطلق لأحد أن يجوزها إلا بإذن الملك، ومن خالف كان جزاؤه القتل كائنا من كان، وبهذا الاحتياط تنكتم أخبارهم حتى إنّ العسكر منهم يهجم على البلد إلى البادية وغيرهم، فلا يعلمون به، والسنباد الذي يخرط به الجوهر، يخرج من النيل في هذه المواضع، يغطس عليه فيوجد جسمه باردا مخالفا للحجارة فإذا أشكل عليه نفخ فيه بالفم فيعرق، ومن هذه المسلحة إلى قرية تعرف: بساي، جنادل أيضا، وهي آخر كرسيهم، ولهم فيها أسقف وفيها بربا. ثم ناحية سقلودا وتفسيرها السبع ولاة، وهي أشبه الأرض بالأرض المتاخمة لأرض الإسلام في السعة والضيق في مواضع، والنخل والكرم والزرع وشجر المقل، وفيها شيء من شجر القطن، ويعمل منه ثياب وخشة، وبها شجر الزيتون، وواليها من قبل كبيرهم وتحت يده ولاة يتصرّفون، وفيها قلعة تعرف: بأصطنون، وهي أوّل الجنادل الثلاثة، وهي أشدّ الجنادل صعوبة لأنّ فيها جبلا معترضا من الشرق إلى الغرب في النيل، والماء ينصب من ثلاثة أبواب، وربما رجع إلى ما بين عند انحساره شديد الخرير عجيب المنظر يتحدّر الماء عليه من علو الجبل وقبليّة فرش حجارة في النيل نحو ثلاثة برد إلى قرية تعرف: بيستو، وهي آخر قرى مريس، وأوّل بلد مقرة، ومن هذا الموضع إلى حدّ المسلمين لسانهم مريسي، وهي آخر عمل متملكهم، ثم ناحية بقون، وتفسيرها بالعجب، وهي عند اسمها لحسنها، وما رأيت على النيل أوسع منها، وقدّرت أن سعة النيل فيها من الشرق إلى الغرب مسيرة خمس مراحل، الجزائر تقطعه والأنهار منه تجري بينها على أرض منخفضة، وقرى

ذكر تشعب النيل من بلاد علوة ومن يسكن عليه من الأمم

متصلة، وعمارة حسنة بأبرجة حمام، ومواش وأنعام وأكثر ميرة مدينتهم منها، وطيورها النقيط والنوبي والببغاء، وغير ذلك من الطيور الحسان، وأكثر نزهة كيبرهم في هذه الناحية. قال: وكنت معه في بعض الأوقات، فكان سيرنا في ظل شجر من الحافتين في الخلجان الضيقة، وقيل: إنّ التمساح لا يضرّ هناك، ورأيتهم يعبرون أكثر هذه الأنهار سباحة، ثم سفد بقل، وهي ناحية ضيقة شبيهة بأوّل بلادهم إلا أنّ فيها جزائر حسانا، وفيها دون المرحلتين نحو، ثلاثين قرية بالأبنية الحسان، والكنائس والأديار والنخل الكثير والكروم والبساتين والزرع، ومروج كبار فيها إبل وجمال صهب مؤبلة للنتاج، وكبيرهم يكثر الدخول إليها لأنّ طرفها القبليّ يحاذي دنقلة مدينتهم، ومن مدينة دنقلة دار المملكة إلى أسوان، خمسون مرحلة، وذكر صفتها، ثم قال: إنهم يسقفون مجالسهم بخشب السنط، وبخشب الساج الذي يأتي به النيل في وقت الزيادة سقالات منحوتة لا يدري من أين تأتي. ولقد رأيت على بعضها علامة غريبة، ومسافة ما بين دنقلة إلى أوّل بلد علوة أكثر مما بينها وبين أسوان، وفي ذلك من القرى والضياع والجزائر والمواشي والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم، أضعاف ما في الجانب الذي يلي أرض الإسلام، وفي هذه الأماكن جزائر عظام مسيرة أيام، فيها الجبال والوحش والسباع، ومفاوز يخاف فيها العطش، والنيل يعطف من هذه النواحي إلى مطلع الشمس، وإلى مغربها مسيرة أيام، حتى يصير المصعد كالمنحدر، وهي الناحية التي تبلغ العطوف من النيل إلى المعدن المعروف: بالشلة، وهو بلد يعرف بشنقير، ومنه خرج العمري، وتغلب على هذه الناحية إلى أن كان من أمره ما كان، وفرس البحر، يكثر في هذه المواضع، ومن هذه الموضع طرق إلى سواكن وباصع ودهلك وجزائر البحر، ومنها عبر من نجا من بني أمية عند هربهم إلى النوبة، وفيها خلق من البجة يعرفون بالرنافج انتقلوا إلى النوبة قديما وقطنوا هناك وهم على حدتهم في الرعي واللغة، لا يخالطون النوبة، ولا يسكنون قراهم، وعليهم وال من قبل النوبة. ذكر تشعب النيل من بلاد علوة ومن يسكن عليه من الأمم اعلم أنّ النوبة والمقرة جنسان بلسانين، كلاهما على النيل، فالنوبة هم: المريس المجاورون لأرض الإسلام، وبين أوّل بلدهم، وبين أسوان خمسة أميال، ويقال: إنّ سلها جدّ النوبة، ومقري جدّ المقرة من اليمن. وقيل: النوبة ومقري من حمير، وأكثر أهل الأنساب على أنهم جميعا من ولد حام بن نوح، وكان بين النوبة والمقرة حروب قبل النصرانية، وأوّل أرض المقرة قرية تعرف بنافة على مرحلة من أسوان، ومدينة ملكهم، يقال لها: نجراش، على أقل من عشر مراحل من أسوان، ويقال: إن موسى صلوات الله عليه، غزاهم قبل مبعثه في أيام فرعون، فأخرب نافة، وكانوا صابئة يعبدون الكواكب، وينصبون التماثيل لهم، ثم تنصروا جميعا النوبة

والمقرة، ومدينة دنقلة، وهي دار مملكتهم، وأوّل بلاد علوة، قرى في الشرق على شاطىء النيل تعرف بالأبواب، ولهذه الناحية وال من قبل صاحب علوة يعرف بالرحراح. والنيل يتشعب من هذه الناحية على سبعة أنهار، فمنها نهر يأتي من ناحية المشرق كدر الماء يجف في الصيف حتى يسكن بطنه، فإذا كان وقت زيادة النيل نبع فيه الماء، وزادت البرك التي فيه، وأقبل المطر والسيول في سائر البلد، فوقعت الزيادة في النيل، وقيل: إنّ آخر هذا النهر، عين عظيمة تأتي من جبل. قال مؤرخ النوبة: وحدّثني سيمون صاحب عهد بلد علوة، أنه يوجد في بطن هذا النهر، حوت لا قشر له ليس هو من جنس ما في النيل، يحفر عليه قامة وأكثر، حتى يخرج، وهو كبير وعليه جنس مولد بين العلوة والبجة، يقال لهم: الديجيون، وجنس يقال لهم: بازة يأتي من عندهم طير يعرف بحمام بازين، وبعد هؤلاء أوّل بلاد الحبشة، ثم النيل الأبيض، وهو نهر يأتي من ناحية الغرب شديد البياض مثل اللبن. قال: وقد سألت من طرق بلاد السودان من المغاربة عن النيل الذي عندهم، وعن لونه، فذكر أنه يخرج من جبال الرمل، أو جبل الرمل وأنه يجتمع في بلد السودان في برك عظام، ثم ينصب إلى ما لا يعرف، وإنه ليس بأبيض، فإمّا أن يكون اكتسب ذلك اللون، مما يمرّ عليه أو من نهر آخر ينصب إليه، وعليه أجناس من جانبيه، ثم النيل الأخضر، وهو نهر يأتي من القبلة مما يلي الشرق شديد الخضرة، صافي اللون جدّا، يرى ما في قعره من السمك، وطعمه مخالف لطعم النيل، يعطش الشارب منه بسرعة، وحيتان الجميع واحدة، غير أنّ الطعم مختلف، ويأتي فيه وقت الزيادة خشب الساج والبقم والغثاء، وخشب له رائحة كرائحة اللبان، وخشب غليظ ينحت ويعمل منه مقدام، وعلى شاطئه ينبت هذا الخشب أيضا، وقيل: إنه وجد فيه عود البخور. قال: وقد رأيت على بعض سقالات الساج المنحوتة التي تأتي فيه وقت الزيادة، علامة غريبة، ويجتمع هذان النهران الأبيض والأخضر عند مدينة متملك بلد علوة، ويبقيان على ألوانهما قريبا من مرحلة، ثم يختلطان بعد ذلك، وبينهما أمواج كبار عظيمة بتلاطمهما. قال: وأخبرني من نقل النيل الأبيض، وصبه في النيل الأخضر فبقي فيه مثل اللبن ساعة قبل أن يختلطا، وبين هذين النهرين، جزيرة لا يعرف لها غاية، وكذلك لا يعرف لهذين النهرين نهاية، فأوّلهما يعرف عرضه، ثم يتسع فيصير مسافة شهر، ثم لا تدرك سعتهما لخوف من يسكنهما بعضهم من بعض، لأنّ فيهما أجناسا كثيرة وخلقا عظيما، قال: وبلغني أنّ بعض متملكي بلد علوة سار فيها يريد أقصاها، فلم يأت عليه بعد سنين، وإنّ في طرفها القبليّ جنسا يسكنون ودوابهم في بيوت تحت الأرض مثل السراديب بالنهار من شدّة

حرّ الشمس، ويسرحون في الليل، وفيهم قوم عراة، والأنهار الأربعة الباقية، تأتي أيضا من القبلة مما يلي الشرق أيضا في وقت واحد، ولا يعرف لها نهاية أيضا، وهي دون النهرين الأبيض والأخضر في العرض، وكثرة الخلجان والجزائر، وجميع الأنهار الأربعة تنصب في الأخضر، وكذلك الأوّل الذي قدّمت ذكره، ثم يجتمع مع الأبيض، وكلها مسكونة عامرة مسلوك فيها بالسفن وغيرها، وأحد هذه الأربعة يأتي مرّة من بلاد الحبشة. قال: ولقد أكثرت السؤال عنها، واستكشفتها من قوم عن قوم، فما وجدت مخبرا يقول إنه وقف على نهاية جميع هذه الأنهار، والذي انتهى إليه علم من عرّفني عن آخرين إلى خراب، وأنه يأتي في وقت الزيادة في هذه الأنهار، آلة مراكب وأبواب وغير ذلك، فيدل على عمارة بعد الخراب، فأمّا الزيادة فيجمعون أنها من الأمطار مع مادة تأتي من ذاتها، والدليل على ذلك النهر الذي يجف ويسكن بطنه، ثم ينبع وقت الزيادة. ومن عجائبه: أنّ زيادته في أنهار مجتمعة، وسائر النواحي والبلدان في مصر وما يليها والصعيد وأسوان وبلد النوبة وعلوة، وما وراء ذلك في زمان واحد، وأكثر ما وقف عليه من هذه الزيادة أنه ربما وجدت مثلا بأسوان، ولا توجد بقوص، ثم تأتي بعد فإذا كثرت الأمطار عندهم واتصلت السيول، علم أنها سنة ريّ، وإذا قصرت الأمطار علم أنها سنة ظمأ، قال: وأما من طرق بلاد الزنج فإنهم أخبروني عن مسيرهم في بحر الصين إلى بلاد الزنج بالريح الشماليّ، مساحلين للجانب الشرقيّ من جزيرة مصر، حتى ينتهوا إلى موضع يعرف برأس حفري، وهو عندهم آخر جزيرة مصر، فينظرون كوكبا يهتدون به، فيقصدون الغرب، ثم يعودون إلى البحري، ويصير الشمال في وجوههم، حتى يأتوا إلى قبيلة من بلاد الزنج وهي مدينة متملكهم، وتصير قبلتهم للصلاة إلى جدّة. قال: وبعض الأنهار الأربعة يأتي، من بلاد الزنج لأنه يأتي فيه الخشب الزنجيّ، وسوبة مدينة العلوي شرقيّ الجزيرة الكبرى التي بين البحرين الأبيض والأخضر في الطرف الشماليّ منها عند مجتمعهما، وشرقيها، النهر الذي يجف، ويسكن بطنه، وفيها أبنية حسان ودور واسعة، وكنائس كثيرة الذهب، وبساتين ولها رباط فيه جماعة من المسلمين، ومتملك علوة أكثر مالا من متملك المقرة، وأعظم جيشا، وعنده من الخيل ما ليس عند المقري، وبلده أخصب وأوسع، والنخل والكرم عندهم يسير وأكثر حبوبهم الذرة البيضاء التي مثل الأرز منها، خبزهم ومزرهم واللحم عندهم كثير لكثرة المواشي، والمروج الواسعة العظيمة السعة، حتى أنه لا يوصل إلى الجبل إلا في أيام، وعندهم خيل عتاق، وجمال صهب عراب، ودينهم النصرانية يعاقبة، وأساقفتهم من قبل صاحب الإسكندرية كالنوبة، وكتبهم بالرومية يفسرونها بلسانهم، وهم أقل فهما من النوبة، وملكهم يسترق من شاء من رعيته بجرم، وبغير جرم، ولا ينكرون ذلك عليه، بل يسجدون له ولا يعصون أمره على

المكروه الواقع بهم، وينادون الملك يعيش فليكن أمره، وهو يتتوّج بالذهب، والذهب كثير في بلده. ومما في بلده من العجائب: أنّ في الجزيرة الكبرى التي بين البحرين جنسا يعرف: بالكرنينا، لهم أرض واسعة مزروعة من النيل والمطر، فإذا كان وقت الزرع خرج كل واحد منهم بما عنده من البذر، واختط على مقدار ما معه وزرع في أربعة أركان الخطة يسيرا، وجعل البذر في وسطه الخطة وشيئا من المزر، وانصرف عنه فإذا أصبح وجد ما اختط، قد زرع وشرب المزر، فإذا كان وقت الحصاد، حصد يسيرا منه ووضعه في موضع أراده ومعه مزر، وينصرف، فيجد الزرع قد حصد بأسره، وجرّن فإذا أراد دراسه وتذريته فعل به كذلك، وربما أراد أحدهم أن ينقي زرعه من الحشيش، فيلفظ بقلع شيء من الزرع فيصبح، وقد قلع جميع الزرع، وهذه الناحية التي فيها ما ذكرته بلدان واسعة مسيرة شهرين في شهرين يزرع جميعها في وقت واحد، وميرة بلد، علوة ومتملكهم من هذه الناحية، فيوجهون المراكب، فتوسق، وربما وقع بينهم حرب. قال: وهذه الحكاية صحيحة معروفة مشهورة عند جميع النوبة والعلوة، وكل من يطرق ذلك البلد من تجار المسلمين لا يشكون فيه ولا يرتابون به، ولولا أنّ اشتهاره وانتشاره مما لا يجوز التواطؤ على مثله، لما ذكرت شيئا منه لشناعته، فأما أهل الناحية، فيزعمون أن الجنّ تفعل ذلك، وأنها تظهر لبعضهم، وتخدمهم بحجارة ينطاعون لهم بها، وتعمل لهم عجائب، وأنّ السحاب يطيعهم؟!. قال: ومن عجائب ما حدّثني به متملك المقرة للنوبة، أنهم يمطرون في الجبال، ويلتقطون منه للوقت سمكا على وجه الأرض، وسألتهم عن جنسه، فذكروا أنه صغير القدر بأذناب حمر، قال: وقد رأيت جماعة وأجناسا ممن تقدّم ذكر أكثرهم يعترفون بالباري سبحانه وتعالى، ويتقرّبون إليه بالشمس والقمر والكواكب، ومنهم من لا يعرف الباري ويعبد الشمس والنار، ومنهم من يعبد كل ما استحسنه من شجرة أو بهيمة، وذكر أنه رأى رجلا في مجلس عظيم المقرة سأله عن بلده؟ فقال: مسافته إلى النيل ثلاثة أهلة، وسأله عن دينه؟ فقال: ربي وربك الله، وربّ الملك، وربّ الناس كلهم واحد، وإنه قال له: فأين يكون؟ قال: في السماء وحده، وقال: إنه إذا أبطأ عنهم المطر أو أصابهم الوباء، أو وقع بدوابهم آفة صعدوا الجبل، ودعوا الله، فيجابون للوقت وتقضى حاجتهم قبل أن ينزلوه، وسأله هل أرسل فيكم رسول؟ قال: لا، فذكر له بعثة موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وما أبدوا به من المعجزات، فقال: إذا كانوا فعلوا هذا، فقد صدقوا، ثم قال: قد صدّقتهم إن كانوا فعلوا. قال مؤلفه رحمه الله: وقد غلب أولاد، كنز الدولة على النوبة وملكوها (من

ذكر البجة ويقال إنهم من البربر

سنة) «1» وبنى بدنقلة جامع يأوي إليه الغرباء، واعلم أنّ على ضفة النيل أيضا، الكانم، وملكها مسلم، وبينه وبين بلاد مالي مسافة بعيدة جدّا، وقاعدة ملكه بلدة اسمها حميمي، وأوّل مملكته من جهة مصر بلدة اسمها زرلا، وآخرها طولا بلدة يقال لها: كاكا، وبينهما نحو ثلاثة أشهر، وهم يتلثمون، وملكهم متحجب لا يرى إلا يومي العيدين بكرة، وعند العصر، وطول السنة لا يكلمه أحد إلا من وراء حجاب، وغالب عيشهم الأرز، وهو ينبت من غير بذر، وعندهم القمح والذرة والتين والليمون والباذنجان واللفت والرطب، ويتعاملون بقماش ينسج عندهم اسمه: دندي طول كل ثوب، عشرة أذرع، يشترون به من ربع ذراع فأكثر، ويتعاملون أيضا بالودع والخرز والنحاس المكسر والورق، وجميع ذلك بسعر ذلك القماش، وفي جنوبها شعارى وصحارى، فيها أشخاص متوحشة كالفيول قريبة من شكل الآدميّ لا يلحقها الفارس تؤذي الناس، ويظهر في الليل أيضا شبه نار تضيء، فإذا مشى أحد ليلحقها بعدت عنه، ولو جرى إليها لا يصل إليها بل لا تزال أمامه فإذا رماها بحجر، فأصابها تشظى منها شرر، وتعظم عندهم اليقطينة حتى تصنع منها مراكب يعبر فيها في النيل. وهذه البلاد بين إفريقية وبرقة ممتدّة في الجنوب إلى سمت الغرب الأوسط، وهي بلاد قحطان وشطن «2» وسوء مزاج، وأوّل من بث بها الإسلام، الهادي العثمانيّ، ادّعى أنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصارت بعده، لليزنيين من بني سيف بن ذي يزن، وهم على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله، والعدل قائم بينهم، وهم يابسون في الدين لا يلينون، وبنوا بمدينة مصر مدرسة للمالكية عرفت بمدرسة ابن رشيق في سني أربعين وستمائة، وصارت وفودهم تنزل بها، وسيرد ذكرها في المدارس إن شاء الله تعالى. ذكر البجة ويقال إنهم من البربر اعلم أنّ أول بلد البجة من قرية تعرف بالحزبة معدن الزمرّذ في صحراء قوص، وبين هذا الموضع، وبين قوص نحو من ثلاث مراحل، وذكر الجاحظ أنه ليس في الدنيا معدن للزمرّذ غير هذا الموضع، وهو يوجد في مغاير بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح، وبحبال يستدل بها على الرجوع خوف الضلال، ويحفر عليه بالمعاول، فيوجد في وسط الحجارة، وحوله غشيم دونه في الصبغ والجوهر، وآخر بلاد البجة، أوّل بلاد الحبشة، وهم في بطن هذه الجزيرة أعني جزيرة مصر إلى سيف البحر الملح مما يلي جزائر سواكن، وباضع، ودهلك، وهم بادية يتبعون الكلأ، حيثما كان الرعي بأخبية من جلود.

وأنسابهم من جهة النساء، ولكل بطن منهم رئيس، وليس عليهم متملك ولا لهم دين، وهم يورثون، ابن البنت وابن الأخت دون ولد الصلب، ويقولون: إنّ ولادة ابن الأخت وابن البنت، أصح فإنه إن كان من زوجها، أو من غيره، فهو ولدها على كل حال، وكان لهم قديما رئيس يرجع جميع رؤسائهم إلى حكمه يسكن قرية تعرف: بهجر، هي أقصى جزيرة البجة، ويركبون النجب الصهب، وتنتج عندهم، وكذلك الجمال العراب كثيرة عندهم أيضا، والمواشي من البقر والغنم والضأن غاية في الكثرة عندهم، وبقرهم، وحسان ملعمة بقرون عظام، ومنها جمّ وكباشهم كذلك منمرة ولها ألبان، وغذاؤهم اللحم وشرب اللبن، وأكلهم للجبن قليل، وفيهم من يأكله، وأبدانهم صحاح وبطونهم خماص، وألوانهم مشرقة الصفرة، ولهم سرعة في الجري يباينون بها الناس، وكذلك جمالهم شديدة العدو صبورة عليه، وعلى العطش، يسابقون عليها الخيل، ويقاتلون عليها، وتدور بهم كما يشتهون، ويقطعون عليها من البلاد ما يتفاوت ذكره، ويتطاردون عليها في الحرب، فيرمي الواحد منهم الحربة فإن وقعت في الرمية طار إليها الجمل، فأخذها صاحبها، وإن وقعت في الأرض ضرب الجمل بجرانه الأرض فأخذها صاحبها. ونبغ منهم في بعض الأوقات رجل يعرف بكلاز شديد مقدام، وله جمل ما سمع بمثله في السرعة، وكان أعور، وصاحبه كذلك التزم لقومه أنه يشرف على مصلى مصر يوم العيد، وقد قرب العيد قربا لا يكون للبلوغ إليها في مثله حقيقة، فوفى بذلك، وأشرف على المقطم وضربت الخيل خلفه فلم يلحق، وهذا هو الذي أوجب أن يكون في السفح طليعة يوم العيد، وكان الطولونية وغيرهم: من أمراء مصر يوقفون في سفح الجبل المقطم، مما يلي الموضع المعروف: بالحبش، جيشا كثيفا مراعيا للناس حتى ينصرفوا من عيدهم في كل عيد، وهم أصحاب ذمّة فإذا غدر أحدهم رفع المغدور به ثوبا على حربة، وقال: هذا عرش فلان يعني أبا الغادر، فتصير سيئة عليه إلى أن يترضاه، وهم يبالغون في الضيافة، فإذا طرق أحدهما الضيف ذبح له، فإذا تجاوز ثلاثة نفر نحر لهم من أقرب الأنعام إليه سواء كانت له أو لغيره، وإن لم يكن شيء نحر راحلة الضيف، وعوّضه ما هو خير منها، وسلاحهم الحراب السباعية مقدار طول الحديدة ثلاثة أذرع، والعود أربعة أذرع، وبذلك سميت سباعية والحديدة في عرض السيف لا يخرجونها من أيديهم إلا في بعض الأوقات، لأنّ في آخر العود شيئا شبيها بالفلكة يمنع خروجها عن أيديهم، وصناع هذه الحراب نساء في موضع لا يختلط بهنّ رجل إلا المشتري منهنّ. فإذا ولدت إحداهنّ من الطارقين لهنّ جارية استحيتها، وإن ولدت غلاما قتلته، ويقلن: إنّ الرجال بلاء وحرب، ودرقهم من جلود البقر مشعرة، ودرق مقلوبة تعرف بالأكسومة من جلود الجواميس، وكذلك الدهلكية ومن دابة في البحر، وقسيّهم عربية كبار

غلاظ من السدر والشوحط يرمون عليها بنبل مسموم، وهذا السم يعمل من عروق شجر الغلف يطبخ على النار حتى يصير مثل الغرا فإذا أرادوا تجربته شرط أحدهم جسده، وسيل الدم ثم شممه هذا السم، فإذا تراجع الدم علم أنه جيد، ومسح الدم لئلا يرجع إلى جسمه فيقتله، فإذا أصاب الإنسان قتل لوقته، ولو مثل شرطة الحجام، وليس له عمل في غير الجرح والدم وإن شرب منه لم يضرّ، وبلدانهم كلها معادن، وكلما تصاعدت كانت أجود ذهبا وأكثر، وفيها معادن الفضة والنحاس والحديد والرصاص وحجر المغناطيس والمرقشيتا والحمست والزمرّذ وحجارة شطبا، فإذا بلّت الشطبة منها بزيت وقدت مثل الفتيلة وغير ذلك مما شغلهم طلب معادن الذهب عما سواه. والبجة لا تتعرّض لعمل شيء من هذه المعادن، وفي أوديتهم شجر المقل «1» والإهليلج والإذخر، والشيح والسنا والحنظل، وشجر البان وغير ذلك، وبأقصى بلدهم: النخل وشجر الكرم والرياحين، وغير ذلك مما لم يزرعه أحد، وبها سائر الوحش من السباع والفيلة والنمور والفهود والقردة وعناق الأرض والزباد، ودابة تشبه الغزال حسنة المنظر لها قرنان على لون الذهب قليلة البقاء إذا صيدت، ومن الطيور: الببغاء، والنقيط، والنوبيّ، والقماريّ، ودجاج الحبش، وحمام بازين، وغير ذلك. وليس منهم رجل إلا منزوع البيضة اليمنى، وأما النساء فمقطوع أشفار فروجهنّ وإنه يلتحم حتى يشق عنه للمتزوّج بمقدار ذكر الرجل، ثم قلّ هذا الفعل عندهم، وقيل: إنّ السبب في ذلك أنّ ملكا من الملوك حاربهم قديما، ثم صالحهم وشرط عليهم قطع ثديّ من يولد لهم من النساء، وقطع ذكور من يولد من الرجال، أراد بذلك قطع النسل منهم، فوفوا بالشرط، وقلبوا المعنى في أن جعلوا قطع الثديّ للرجال، والفروج للنساء، وفيهم جنس يقلعون ثناياهم ويقولون: لا نتشبه بالحمير، وفيهم جنس آخر في آخر بلاد البجة يقال لهم: البازة، نساء جميعهم يتسمون باسم واحد، وكذلك الرجال، فطرقهم في وقت رجل مسلم له جمال، فدعا بعضهم بعضا، وقالوا: هذا الله قد نزل من السماء، وهو جالس تحت الشجرة، فجعلوا ينظرون إليه من بعد. وتعظم الحيات ببلدهم وتكثر أصنافها، ورئيت حية في غدير ماء، قد أخرجت ذنبها والتفت على امرأة وردت فقتلتها، فرؤي شحمها قد خرج من دبرها من شدّة الضغطة، وبها حية ليس لها رأس، وطرفاها سواء منقشة ليست بالكبيرة إذا مشى الإنسان على أثرها مات، وإذا قتلت وأمسك القاتل ما قتلها به من عود أو حربة في يده، ولم يلقه من ساعته مات، وقتلت حية منها بخشبة، فانشقت الخشبة، وإذا تأمّل هذه الحية أحد، وهي ميتة أو حية أصابه ضررها، وفي البجة شرّ وتسرع إليه، ولهم في الإسلام وقبله أذية على شرق صعيد

مصر خرّبوا هناك قرى عديدة، وكانت فراعنة مصر تغزوهم وتوادعهم أحيانا لحاجتهم إلى المعادن، وكذلك الروم لما أن ملكوا مصر، ولهم في المعادن آثار مشهورة، وكان أصحابهم بها وقد فتحت مصر. قال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم: وتجمع لعبد الله بن سعد بن أبي سرح، في انصرافه من النوبة على شاطىء النيل البجة، فسأل عن شأنهم؟ فأخبر: أن ليس لهم ملك يرجعون إليه، فهان عليه أمرهم، وتركهم، فلم يكن لهم عقد ولا صلح، وكان أوّل من هادنهم عبيد الله بن الحبحاب السلوليّ، ويذكر أنه وجد في كتاب ابن الحبحاب، لهم ثلثمائة بكر في كل عام حين ينزلون الريف مجتازين تجارا غير مقيمين على أن لا يقتلوا مسلما، ولا ذميّا، فإن قتلاه فلا عهد لهم، ولا يؤوا عبيد المسلمين، وأن يردّوا آبقيهم إذا وقعوا إليهم. ويقال: إنهم كانوا يؤاخذون بهذا وبكل شاة أخذها البجاوي فعليه أربعة دنانير، وللبقرة عشرة، وكان وكيلهم مقيما بالريف رهينة بيد المسلمين، ثم كثر المسلمون في المعدن فخالطوهم وتزوّجوا فيهم، وأسلم كثير من الجنس المعروف بالحدارب إسلاما ضعيفا، وهم شوكة القوم، ووجوههم، وهم مما يلي مصر من أوّل حدّهم إلى العلاقي، وعيذاب المعبر منه إلى جدّة وما وراء ذلك، ومنهم جنس آخر يعرفون بالرنافج هم أكثر عددا من الحدارب غير أنهم تبع لهم وخفراؤهم يحمونهم ويحبونهم المواشي ولكل رئيس من الحدارب، قوم من الرنافج في حملته، فهم كالعبيد يتوارثونهم بعد أن كانت الرنافج قديما أظهر عليهم، ثم كثرت أذيتهم على المسلمين، وكان ولاة أسوان من العراق، فرفع إلى أمير المؤمنين المأمون خبرهم، فأخرج إليهم عبد الله بن الجهم، فكانت له معهم وقائع، ثم وادعهم، وكتب بينه وبين ركنون رئيسهم الكبير الذي يكون بقريتهم، هجر المقدّم ذكرها كتابا نسخته: هذا كتاب، كتبه عبد الله بن الجهم مولى أمير المؤمنين صاحب جيش الغزاة عامل الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد أبقاه الله في شهر ربيع الأوّل سنة ست عشرة ومائتين، لكنون بن عبد العزيز عظيم البجة بأسوان، إنك سألتني وطلبت إليّ أن أؤمنك وأهل بلدك من البجة، وأعقد لك ولهم أمانا عليّ، وعلى جميع المسلمين، فأجبتك إلى أن عقدت لك، وعلى جميع المسلمين أمانا ما استقمت، واستقاموا على ما أعطيتني، وشرطت لي في كتابي هذا، وذلك أن يكون سهل بلدك وجبلها من منتهى حدّ أسوان من أرض مصر إلى حدّ ما بين دهلك «1» وباضع «2» ملكا للمأمون عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أعزه الله تعالى، وأنت وجميع أهل بلدك عبيد لأمير المؤمنين إلا أنك تكون في

بلدك ملكا على ما أنت عليه في البجة، وعلى أن تؤدّي إليه الخراج في كل عام على ما كان عليه سلف البجة، وذلك مائة من الإبل، أو ثلثمائة دينار وازنة داخلة في بيت المال، والخيار في ذلك لأمير المؤمنين ولولاته، وليس لك أن تخرم شيئا عليك من الخراج، وعلى أنّ كل أحد منكم إن ذكر محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به، أو قتل أحدا من المسلمين حرّا أو عبدا، فقد برئت منه الذمّة، ذمّة الله وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمّة أمير المؤمنين، أعزه الله، وذمة جماعة المسلمين، وحلّ دمه كما يحلّ دم أهل الحرب وذراريهم، وعلى أنّ أحدا منكم إن أعان المحاربين على أهل الإسلام بمال أو دلّه على عورة من عورات المسلمين، أو أثر لعزتهم فقد نقض ذمّة عهده وحلّ دمه، وعلى أنّ أحدا منكم إن قتل أحدا من المسلمين عمدا أو سهوا أو خطأ حرّا أو عبدا أو أحدا من أهل ذمة المسلمين أو أصاب لأحد من المسلمين أو أهل ذمّتهم ما لا ببلد البجة، أو ببلاد الإسلام أو ببلاد النوبة أو في شيء من البلدان برّا أو بحرا، فعليه في قتل المسلم عشر ديات، وفي قتل العبد المسلم عشر قيم، وفي قتل الذميّ عشر ديات من دياتهم، وفي كل مال أصبتموه للمسلمين، وأهل الذمّة عشرة أضعافه، وإن دخل أحد من المسلمين بلاد البجة تاجرا أو مقيما أو مجتازا أو حاجا فهو آمن فيكم كأحدكم حتى يخرج من بلادكم، ولا تؤوا أحدا من آبقي المسلمين، فإن أتاكم آت فعليكم أن تردّوه إلى المسلمين، وعلى أن تردوا أموال المسلمين إذا صارت في بلادكم بلا مؤنة تلزمهم في ذلك، وعلى أنكم إن نزلتم ريف صعيد مصر لتجارة أو مجتازين لا تظهرون سلاحا، ولا تدخلون المدائن والقرى بحال، ولا تمنعوا أحدا من المسلمين الدخول في بلادكم والتجارة فيها برّا ولا بحرا، ولا تخيفوا السبيل، ولا تقطعوا الطريق على أحد من المسلمين، ولا أهل الذمّة، ولا تسرقوا لمسلم ولا ذميّ مالا وعلى أن لا تهدموا شيئا من المساجد التي ابتناها المسلمون، بصيحة وهجر، وسائر بلادكم طولا وعرضا فإن فعلتم ذلك، فلا عهد لكم ولا ذمّة. وعلى أن كنون بن عبد العزيز، يقيم بريف صعيد مصر وكيلا يفي للمسلمين بما شرط لهم من دفع الخراج، وردّ ما أصابه البجة للمسلمين من دم ومال، وعلى أن أحدا من البجة لا يعترض حدّ القصر إلى قرية يقال لها قبان، من بلد النوبة حدّا لا عمدة عقد، عبد الله بن الجهم، مولى أمير المؤمنين لكنون بن عبد العزيز، كبير البجة الأمان على ما سمينا وشرطنا في كتابنا هذا، وعلى أن يوافي به أمير المؤمنين فإن زاغ كنون أو عاث فلا عهد له، ولا ذمّة، وعلى كنون أن يدخل عمال أمير المؤمنين بلاد البجة، لقبض صدقات من أسلم من البجة، وعلى كنون الوفاء بما شرط، لعبد الله بن الجهم، وأخذ بذلك عهد الله عليه بأعظم ما أخذ على خلقه من الوفاء والميثاق. ولكنون بن عبد العزيز، ولجميع البجة: عهد الله وميثاقه وذمّة أمير المؤمنين، وذمّة الأمير، أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد، وذمّة عبد الله بن الجهم، وذمّة المسلمين

بالوفاء، بما أعطاه عبد الله بن الجهم، ما وفى كنون بن عبد العزيز بجميع ما شرط عليه، فإن غيّر كنون، أو بدّل أحد من البجة، فذمّة الله جل اسمه، وذمّة أمير المؤمنين، وذمّة الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد، وذمّة عبد الله بن الجهم، وذمّة المسلمين بريئة منهم، وترجم جميع ما في هذا الكتاب حرفا حرفا، زكريا بن صالح المخزوميّ من سكان جدّة وعبد الله بن إسماعيل القرشيّ، ثم نسق جماعة من شهود أسوان، فأقام البجة على ذلك برهة، ثم عادوا إلى غزو الريف من صعيد مصر، وكثر الضجيج منهم إلى أمير المؤمنين، جعفر المتوكل على الله، فندب لحربهم، محمد بن عبد الله القميّ، فسأل أن يختار من الرجال، من أحبّ، ولم يرغب إلى الكثرة لصعوبة المسالك. فخرج إليهم من مصر في عدّة قليلة، ورجال منتخبة، وسارت المراكب في البحر، فاجتمع البجة لهم في عدد كثير عظيم قد ركبوا الإبل، فهاب المسلمون ذلك، فشغلهم بكتاب طويل كتبه في طومار، ولفه بثوب فاجتمعوا لقراءته، فحمل عليهم، وفي أعناق الخيل الأجراس، فنفرت الجمال بالبجة، ولم تثبت لصلصلة الأجراس، فركب المسلمون أقفيتهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقتل كبيرهم، فقام من بعده، ابن أخيه، وبعث يطلب الهدنة، فصالحهم، على أن يطأ بساط أمير المؤمنين، فسار إلى بغداد، وقدم على المتوكل، بسرّمن رأى في سنة إحدى وأربعين ومائتين، فصولح على أداء الإداوة والبقط، واشترط عليهم أن لا يمنعوا المسلمين من العمل في المعدن. وأقام القميّ بأسوان مدّة، وترك في خزائنها ما كان معه من السلاح وآلة الغزو، فلم تزل الولاة تأخذ منه حتى لم يبقوا منه شيئا، فلما كثر المسلمون في المعادن، واختلطوا بالبجة، قلّ شرهم، وظهر التبر لكثرة طلابه، وتسامع الناس به فوفدوا من البلدان، وقدم عليهم أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمريّ، بعد محاربته النوبة في سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه ربيعة وجهينة وغيرهم من العرب، فكثرت بهم العمارة في البجة حتى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان، ستين ألف راحلة، غير الجلاب التي تحمل من القلزم إلى عيذاب، ومالت البجة إلى ربيعة وتروّحوا إليهم. وقيل: إنّ كهان البجة قبل إسلام من أسلم منهم ذكرت، عن معبودهم الطاعة لربيعة، ولكنون معا، فهم على ذلك، فلما قتل العمريّ، واستولت ربيعة على الجزائر، والاهم على ذلك البجة، فأخرجت من خالفها من العرب، وتصاهروا إلى رؤساء البجة، وبذلك كف ضررهم عن المسلمين. والبجة الداخلة في صحراء بلد علوة مما يلي البحر الملح إلى أوّل الحبشة، ورجالهم في الظعن والمواشي واتباع الرعي والمعيشة، والمراكب والسلاح، كحال الحدارب، إلا أن الحدارب أشجع وأهدى من الداخلة على كفرهم من عبادة الشيطان، والاقتداء بكهانهم،

ولكل بطن كاهن يضرب له قبة من أدم معبدهم فيها، فإذا رأوا استخباره عما يحتاجون إليه تعرّى، ودخل إلى القبة مستدبرا، ويخرج إليهم وبه أثر جنون وصرع، يقول: الشيطان يقرئكم السلام، ويقول لكم: ارحلوا عن هذه الحلة، فإنّ الرهط الفلانيّ يقع بكم، وسألتم عن الغزو إلى بلد كذا، فسيروا فإنكم تظفرون وتغنمون كذا وكذا، والجمال التي تأخذونها من موضع كذا هي لي، والجارية الفلانية التي تجدونها في الخباء الفلانيّ، والغنم التي من صفتها كذا، ونحو هذا القول، فيزعمون أنه يصدقهم في أكثر من ذلك، فإذا غنموا أخرجوا من الغنيمة ما ذكر، ودفعوه إلى الكاهن يتموّله ويحرّمون ألبان نوقها على من لم يقبل، فإذا أرادوا الرحيل حمل الكاهن هذه القبة على جمل مفرد، فيزعمون أن ذلك الجمل لا يثور إلا بجهد، وكذلك سيره ويتصبب عرقا، والخيمة فارغة لا شيء فيها، وقد بقي في الحدارب جماعة على هذا المذهب، ومنهم من يتمسك بذلك مع إسلامه. قال مؤرخ النوبة: ومنه لخصت ما تقدّم ذكره، وقد قرأت في خطبة الأجناس لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ذكر البجة والكجة ويقول عنهم: شديد كلبهم، قليل سلبهم، فالبجة كذلك، وأما الكجة، فلا أعرفهم انتهى ما ذكره عبد الله بن أحمد مؤرخ النوبة. وقال أبو الحسن المسعودي: فأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر، وتشعبوا فرقا وملّكوا عليهم ملكا، وفي أرضهم معادن الذهب، وهو التبر ومعادن الزمرّذ، وتتصل سراياهم ومناسرهم على النجب إلى بلاد النوبة، فيغزون ويسبون، وقد كانت النوبة قبل ذلك أشدّ من البجة إلى أن قوي الإسلام، وظهر وسكن جماعة من المسلمين معدن الذهب، وبلاد العلاقي وعيذاب، وسكن في تلك الديار خلق من من العرب من ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، فاشتدّت شوكتهم، وتزوّجوا من البجة، فقويت البجة، ثم صاهرها قوم من ربيعة، فقويت ربيعة بالبجة على من ناواها، وجاورها من قحطان وغيرهم، ممن سكن تلك الديار. وصاحب المعدن في وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، بشر بن مروان بن إسحاق بن ربيعة يركب في ثلاثة آلاف ألف من ربيعة وأحلافها من مصر، واليمن وثلاثين ألف حراب على النجب من البجة في الجحف التحاوية، وهم الحدارب، وهم مسلمون ممن بين سائر البجة، والداخلة من البجة، كفار يعبدون صنما لهم، والبجة المالكة لمعدن الزمرّذ يتصل ديارها بالعلاقي، وهو معدن الذهب، وبين العلاقي والنيل خمس عشرة مرحلة وأقرب العمارة إليه مدينة أسوان، وجزيرة سواكن أقل من ميل في ميل، وبينها وبين البحر الحبشي بحر قصير يخاض، وأهلها طائفة من البجة تسمى: الخاسة، وهم مسلمون ولهم بها ملك.

ذكر مدينة أسوان

وقال الهمدانيّ: نكح كنعان بن حام أرتيب بنت شاويل بن ترس بن يافث، فولدت له حقا، والأساود، ونوبة، وقران، والزنج، والزغاوة، وأجناس السودان، وقيل: البجة من ولد حام بن نوح، وقيل: من ولد كوش بن كنعان بن حام، وقيل: البجة قبيلة من الحبش أصحاب أخبية من شعر، وألوانهم أشدّ سوادا من الحبشة يتزيون بزيّ العرب، وليس لهم مدن ولا قرى ولا مزارع، ومعيشتهم مما ينقل إليهم من أرض الحبشة، وأرض مصر والنوبة. وكانت البجة تعبد الأصنام، ثم أسلموا في إمارة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وفيهم كرم وسماحة، وهم قبائل وأفخاذ لكل فخذ رئيس، وهم أهل نجعة وطعامهم اللحم واللبن فقط. ذكر مدينة أسوان «1» أسوان من قولهم: أسى الرجل، يأسى أسى: إذا حزن، ورجل أسيان وأسوان: أي حزين، وأسوان في آخر بلاد الصعيد، وهي ثغر من ثغور الإقليم يفصل بين النوبة وأرض مصر، وكانت كثيرة الحنطة، وغيرها من الحبوب والفواكه والخضراوات والبقول، وكانت كثيرة الحيوان من الإبل والبقر والغنم، ولحمانها هناك غاية في الطيب والسمن، وكانت أسعارها أبدا رخيصة، وبها تجارات وبضائع تحمل منها إلى بلاد النوبة، ولا يتصل بأسوان من شرقها بلد إسلاميّ، وفي جنوبها جبل به معدن الزمرّذ، وهو في برّية منقطعة عن العمارة، وعلى خمسة عشر يوما من أسوان، معدن الذهب، ويتصل بأسوان من غربيها: الواحات، ويسلك من أسوان إلى عيذاب، ويتوصل من عيذاب إلى الحجاز وإلى اليمن والهند. قال المسعوديّ: ومدينة أسوان يسكنها خلق من العرب من قحطان، ونزار بن ربيعة ومضر، وخلق كثير من قريش، وأكثرهم من الحجاز والبلد كثير النخل خصيب، كثير الخير تودع النواة في الأرض فتنبت نخلة، ويؤكل من ثمرها بعد سنتين، ولمن بأسوان ضياع كثيرة داخلة بأرض النوبة يؤدّون خراجها إلى ملك النوبة، وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدر الإسلام في دولة بني أمية وبني العباس. وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخل مصر على هؤلاء القوم، يوفد وفدهم إلى الفسطاط، ذكروا عنه أنّ أناسا من أهل مملكته وعبيده، باعوا ضياعا من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان وأنها ضياعه والقوم عبيد لا أملاك لهم، وإنما تملكهم على هذه

الضياع تملك العبيد العامرين فيها، فجعل المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة أسوان، ومن بها من أهل العلم والشيوخ، وعلم من ابتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم، فاحتالوا على ملك النوبة بأن يقدّموا إلى من ابتيع منهم من النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم أن لا يقرّوا لملكهم بالعبودية، وأن يقولوا سبيلنا معاشر النوبة، سبيلكم مع ملككم، يجب علينا طاعته، وترك مخالفته فإن كنتم أنتم عبيدا لملككم وأموالكم له، فنحن كذلك، فلما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك، أتوا بهذا الكلام للحاكم ونحوه، مما أوقفوهم عليه من هذا المعنى، فمضى البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم إلى هذا الوقت. وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد مريس، وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين من وصفنا، أحرار غير عبيد، والنوع الآخر من أهل مملكته عبيد وهم من سكن النوبة في غير هذه البلاد المجاورة لأسوان وهي بلاد مريس. قال: وأما النوبة، فافترقت فرقتين، فرقة في شرق النيل وغربه، فأناخت على شاطئه، واتصلت ديارها بديار القبط من أرض صعيد مصر، واتسعت مساكن النوبة على شاطىء النيل مصعدة، ولحقوا بقريب من أعاليه، وبنوا دار مملكة، وهي مدينة عظيمة تدعى: دنقلة، والفرقة الأخرى من النوبة، يقال لها: علوة وبنوا مدينة عظيمة سموها: سرقته، والبلد المتصل مملكته بأرض أسوان يعرف بمريس، وإليه تضاف الريح المريسية، وعمل هذا الملك متصل بأعمال مصر من أرض الصعيد، ومدينة أسوان. قال: وفي الجانب الشرقيّ من صعيد مصر جبل رخام عظيم كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها. فأما العمد والقواعد والرءوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية، ومنها حجارة الطواحين، فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين، ومنها العمد التي بالإسكندرية. وفي ذي الحجة سنة أربع وأربعين وثلثمائة، أغار ملك النوبة على أسوان، وقتل جمعا من المسلمين، فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن على عسكر مصر من قبل، أو نوجور بن الإخشيد في محرّم سنة خمس وأربعين، فساروا في البرّ والبحر، وبعثوا بعدّة من النوبة أسروهم، فضربت أعناقهم، بعد ما أوقع بملك النوبة، وسار الخازن، حتى فتح مدينة أبريم وسبى أهلها، وقدم إلى مصر في نصف جمادى الأولى سنة خمس وأربعين بمائة وخمسين أسيرا، وعدّة رؤوس. وقال القاضي الفاضل: إنّ متحصل ثغر أسوان في سنة خمس وثمانين وخمسمائة بلغ، خمسة وعشرين ألف دينار. وقال الكمال جعفر الأدفوي: وكان بأسوان ثمانون رسولا من رسل الشرع، وتحصل من أسوان في سنة واحدة، ثلاثون ألف أردب تمرا، وأخبرنا من وقف على مكتوب كان فيه أربعون شريفا خاصة، وأنّ مكتوبا آخر رأى فيه ستين شريفا دون من عداهم. قال: ووقفت أنا، على مكتوب فيه نحو من أربعين مؤرخ بما بعد العشرين وستمائة من الهجرة.

وكان بثغر أسوان، بنو الكنز من ربيعة أمراء ممدوحون مقصودون، صنع لهم الفاضل الشديد، أبو الحسن بن عرام سيرة، ذكر فيها مناقبهم، وأسماء من مدحهم ومن ورد عليهم، ولما أرسل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب جيشا إلى كنز الدولة وأصحابه ترحلوا عن البلاد، فدخلوا بيوتهم، فوجدوا بها قصائد من مدحهم منها، قصيدة أبي محمد الحسن بن الزبير قال فيها: وينجده إن خانه الدهر أوسطا ... أناس إذا ما أنجد الذل اتهموا أجاروا فما تحت الكواكب خائف ... وجادوا فما فوق البسيطة معدم وأنه أجازه عليها بألف دينار، ووقف عليه ساقية تساوي ألف دينار، وكان بأسوان رجال من العسكر مستعدون بالأسلحة لحفظ الثغر من هجوم النوبة والسودان عليه، فلما زالت الدولة الفاطمية أهمل ذلك، فسار ملك النوبة في عشرة آلاف، ونزله تجاه أسوان في جزيرة وأسر من كان فيها من المسلمين، ثم تلاشى بعد ذلك أمر الثغر، واستولى عليه أولاد الكنز من بعد سنة تسعين وسبعمائة، فأفسدوا فسادا كبيرا، وكانت لهم مع ولاة أسوان عدّة حروب إلى أن كانت المحن منذ سنة ست وثمانمائة، وخرب إقليم الصعيد، فارتفعت يد السنة عن ثغر أسوان، ولم يبق للسلطان في مدينة أسوان وال، واتضع حاله عدّة سنين، ثم زحفتّ هوّارة في محرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة إلى أسوان، وحاربت أولاد الكنز وهزموهم، وقتلوا كثيرا من الناس، وسبوا ما هناك من النساء والأولاد، واسترقوا الجميع وهدموا سور مدينة أسوان، ومضوا بالسبي، وقد تركوها خرابا يبابا لا سكن بها، فاستمرت على ذلك بعد ما كانت بحيث يقول عنها عبد الله بن أحمد بن سليم الأسوانيّ في كتاب أخبار النوبة: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن عبد الحميد العمريّ، لما غلب على المعدن كتب إلى أسوان يسأل التجار الخروج إليه بالجهاز من طريق المعدن، فخرج إليه رجل يعرف بعثمان بن حيخلة التميميّ في ألف راحلة فيها الجهاز والبرّ. وذكر أنّ العمريّ لما عاد إلى بلاد البجة بعد حروبه للنوبة، كثرت العمارة حتى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان، ستين ألف راحلة، غير الجلاب التي تحمل من القلزم إلى عيذاب، قال: ومما شاهده جماعة من شيوخنا الثقات بأسوان بقرية تدعى أساشي، هي من أسوان على مرحلتين ونصف، أنهم رأوا شرقها من جانب النيل قرية بسور، وخارج بابها جميزة وناس يدخلون ويخرجون، فإذا عبروا إلى الموضع لم يجدوا شيئا، وهذا يكون في الشتاء دون الصيف قبل طلوع الشمس، والناس مجمعون على رؤيتها، وصحة هذا الخبر، وكان بها أنواع من التمر وأنواع من الرطب منها نوع من الرطب، أشدّ ما يكون من خضرة السلق. وأمر هارون الرشيد، أن يجمع له من ألوان تمر أسوان من كل صنف، تمرة واحدة،

ذكر بلاق

فجمع له ويبة، ولا يعرف في الدنيا بسر يتتمر قبل أن يصير رطبا إلا بأسوان. ذكر بلاق «1» بلاق: أجلّ حصن للمسلمين، وهي جزيرة تقرب من الجنادل، محيط بها النيل فيها بلد كبير يسكنه خلق كثير من الناس وبها نخل عظيم، ومنبر في جامع وإليها تنتهي سفن النوبة، وسفن المسلمين من أسوان، وبينها وبين القرية التي تعرف بالقصر، وهي أوّل بلد النوبة ميل واحد، وبينها وبين أسوان أربعة أميال، ومن أسوان إلى هذا الموضع، جنادل في البحر، لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة، ودلالة من يخبر ذلك من الصيادين الذين يصيدون هناك، وبالقصر مسلحة وباب إلى بلد النوبة. ذكر حائط العجوز «2» هذا الحائط، كان حصنا لأرض مصر، يحدق بجميعها، وكان فيه محارس ومسالح، ومن ورائه خليج يجري فيه الماء، معقود عليه القناطر، عملته دلوكة بنت زبا، وقد وهي وتلاشى، ولم يبق منه إلا يسير في شط النيل الشرقيّ ينتهي إلى أسوان. قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر: فبقيت مصر بعد غرقهم، يعني فرعون وجنوده، وليس فيها من أشراف أهلها أحد، ولم يبق بها إلا العبيد، والأجراء، والنساء، فأعظم أشراف من بمصر من النساء، أن يولين منهم أحدا، وأجمع رأيهنّ، أن يولين امرأة منهن يقال لها: دلوكة بنت زبا، وكان لها عقل ومعرفة وتجارب، وكانت في شرف منهنّ وموضع، وهي يومئذ بنت مائة سنة وستين سنة، فملكوها، فخافت أن يتناولها ملوك الأرض، فجمعت نساء الأشراف فقالت لهنّ: إنّ بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد، ولا يمدّ عينه إليها، وقد هلك أكابرنا وأشرافنا، وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم، وقد رأيت أن أبني حصنا أحدق به جميع بلادنا، فأضع عليه المحارس من كل ناحية، فإنا لا نأمن من أن يطمع فينا الناس، فبنت جدارا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها، المزارع والمدائن والقرى، وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء، وأقامت القناطر والترع، وجعلت فيه محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال، محرس ومسلحة، وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل، وجعلت في كل محرس رجالا، وأجرت عليهم الأرزاق، وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس، فإذا أتاهم أحد يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض بالأجراس، فأتاهم الخبر من أيّ جهة كانت في ساعة واحدة، فنظروا في ذلك، فمنعت

ذكر البقط

بذلك مصر، ممن أرادها، وفرغت من بنائه في ستة أشهر، وهو الجدار الذي يقال له: جدار العجوز بمصر، وقد بقيت بالصعيد منه بقايا كبيرة، والله أعلم. ذكر البقط البقط: ما يقبض من سبي النوبة في كل عام، ويحمل إلى مصر، ضريبة عليهم، فإن كانت هذه الكلمة عربية، فهي إمّا من قولهم في الأرض بقط من بقل وعشب، أي نبذ من مرعى، فيكون معناه على هذا، نبذة من المال أو يكون من قولهم، إنّ في بني تميم، بقطا من ربيعة أي فرقة أو قطعة، فيكون معناه على هذا، فرقة من المال، أو قطعة منه، ومنه بقط الأرض، فرقة منها، وبقط الشيء: فرّقه. والبقط: أن تعطي الحبة على الثلث أو الربع، والبقط أيضا: ما سقط من التمر إذا قطع، فأخطأ المخرف، فيكون معناه على هذا بعض ما في أيدي النوبة، وكان يؤخذ منهم في قرية يقال لها: القصر، مسافتها من أسوان خمسة أميال فيما بين بلد بلاق وبلد النوبة، وكان القصر فرضة لقوص، وأوّل ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين في عشرين ألفا، فمكث بها زمانا، فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمرو رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد، وكثرت سراياهم إلى الصعيد، فأخربوا، وأفسدوا، فغزاهم مرّة ثانية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي الله عنه، سنة إحدى وثلاثين، وحصرهم بمدينة دنقلة حصارا شديدا، ورماهم بالمنجنيق، ولم تكن النوبة تعرفه وخسف بهم كنيستهم بحجر، فبهرهم ذلك، وطلب ملكهم واسمه: قليدوروث الصلح، وخرج إلى عبد الله وأبدى ضعفا ومسكنة وتواضعا، فتلقاه عبد الله ورفعه وقرّبه، ثم قرر الصلح معه على ثلثمائة وستين رأسا في كل سنة، ووعده عبد الله بحبوب يهديها إليه لما شكا له قلة الطعام ببلده، وكتب لهم كتابا نسخته بعد البسملة. عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته، عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة من حدّ أرض أسوان إلى حدّ أرض علوة أنّ عبد الله ابن سعد، جعل لهم أمانا وهدنة جارية بينهم، وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر، وغيرهم من المسلمين، وأهل الذمّة، إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن لا نحاربكم، ولا ننصب لكم حربا ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه، وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه، وعليكم حفظ من نزل بلدكم، أو يطرقه من مسلم أو معاهد، حتى يخرج عنكم، وإنّ عليكم ردّ كل آبق خرج إليكم من عبيد المسلمين، حتى تردّوه إلى أرض

الإسلام، ولا تستولوا عليه، ولا تمنعوا منه ولا تتعرّضوا لمسلم قصده وحاوره إلى أن ينصرف عنه، وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه مصليا، وعليكم كنسه وإسراجه وتكرمته، وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأسا، تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم، ولا عجوز، ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان، وليس على مسلم دفع عدوّ عرض لكم ولا منعه عنكم، من حدّ أرض علوة إلى أرض أسوان، فإن أنتم آويتم عبد المسلم أو قتلتم مسلما أو معاهدا، أو تعرّضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئا من الثلاثمائة رأس والستين رأسا، فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان وعدنا نحن وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من ذمّة المسيح، وذمّة الحواريين، وذمّة من تعظمونه من أهل دينكم، وملتكم الله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك. كتبه عمرو بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين. وكانت النوبة دفعت إلى عمرو بن العاص ما صولحوا عليه من البقط قبل نكثهم، وأهدوا إلى عمرو أربعين رأسا من الرقيق، فلم يقبلها، وردّ الهدية إلى كبير البقط ويقال له: سمقوس، فاشترى له بذلك جهازا وخمرا، ووجهه إليه، وبعث إليهم عبد الله بن سعد، ما وعدهم به من الحبوب، قمحا وشعيرا وعدسا وثيابا وخيلا، ثم تطاول الرسم على ذلك، فصار رسما يأخذونه عند دفع البقط في كل سنة، وصارت الأربعون رأسا التي أهديت إلى عمرو يأخذها والي مصر. وعن أبي خليفة حميد بن هشام البحتريّ، أن الذي صولح عليه النوبة، ثلثمائة وستون رأسا لفيء المسلمين، ولصاحب مصر أربعون رأسا ويدفع إليهم ألف أردب قمحا، ولرسله ثلثمائة أردب، ومن الشعير كذلك، ومن الخمر ألف اقتيز للمتملك، ولرسله ثلثمائة اقتيز، وفرسين من نتاج خيل الإمارة، ومن أصناف الثياب مائة ثوب، ومن القباطيّ أربعة أثواب للمتملك ولرسله ثلاثة، ومن البقطرية، ثمانية أثواب، ومن المعلمة خمسة أثواب وجبة مجملة للملك، ومن قمص أبي بقطر عشرة أثواب، ومن أحاص عشرة أثواب، وهي ثياب غلاظ. قال أبو خليفة: ليس في كتاب عبد الله بن وهب ولا في كتاب الواقديّ تسمية ينتهي إليها، وإنما أخذت التسمية من أبي زكريا، قال أبو زكريا: سمعت والدي عمرو بن صالح يقول هذا الخبر، فحفظت منه، ما وقفت عليه، وقال: حضرت مجلس الأمير، عبد الله بن طاهر، وهو على مصر، فقال: أنت عثمان بن صالح، الذي وجهنا إليك في كتاب بقط النوبة، قلت: نعم، فأقبل عليّ محفوظ بن سليمان، فقال: ما أعجب أمر هذه البلدة وجهنا

إليهم نطلب علما من علومهم، وإلى هذا الشيخ، فما شقانا أحد منهم، فقلت: أصلح الله الأمير، إنّ الذي طلبت من خبر النوبة عندي، قد حفظه شيوخ عن الشيوخ الذين حضروا هناك، والهدنة والصلح الذي جرى بين عبد الله بن سعد، وبين النوبة، ثم حدّثته عن أخبارهم، كما سمعت فأنكر عطية الخمر، فقلت: قد أنكرها عبد العزيز بن مروان، وكان هذا المجلس بفسطاط مصر سنة إحدى عشرة ومائتين، بعد أن تم الصلح بينه وبين عبد الله بن السريّ بن الحكم التميميّ الأمير كان قبله، قال عثمان بن صالح، فوجه الأمير إلى الديوان بظهر المسجد الجامع بمصر، فاستخرج منه خبر النوبة، فوجده كما ذكرت، فسرّه ذلك. وعن مالك بن أنس: أنه كان يرى أنّ أرض النوبة إلى حدّ علوة صلح، وكان لا يجيز شراء رقيقهم، وكان أصحابه مثل عبد الله بن عبد الحكم، وعبد الله بن وهب، والليث بن سعد، ويزيد بن أبي حبيب وغيرهم من فقهاء مصر، يرون خلاف ذلك. قال الليث بن سعد: نحن أعرف بأرض النوبة من الإمام مالك بن أنس، إنما صولحوا على أن لا تغزوهم، ولا تمنع منهم عدوّا فما استرقه متملكهم، أو غزا بعضهم بعضا، فشراؤه جائز، وما استرقه بغاة المسلمين وسرّاقهم، فغير جائز، وكان عند جماعة منهم جوار نوبيات لفرشهم، ولم يزل النوبة يؤدّون البقط في كل سنة، ويدفع إليهم ما تقدّم ذكره إلى أيام أمير المؤمنين المعتصم بالله، أبي إسحاق بن الرشيد، وكبير النوبة، يومئذ زكرياء بن بجنس، وكانت النوبة، ربما عجزت عن دفع البقط، فشنت الغارة عليهم ولاة المسلمين القريبون من بلادهم، ويمنع من إخراج الجهاز إليهم، فأنكر فيرقي ولد كبيرهم زكرياء على أبيه، بذله الطاعة لغيره، واستعجزه فيما يدفع، فقال له أبوه فما تشاء، قال: عصيانهم ومحاربتهم، قال أبوه: هذا شيء رآه السلف من آبائنا صوابا وأخشى أن يفضي هذا الأمر إليك فتقدم على محاربة المسلمين، غير أني أوجهك إلى ملكهم رسولا، فأنت ترى حالنا وحالهم فإن رأيت لنا بهم طاقة حاربناهم على خبرة وإلا سألته الإحسان إلينا، فشخص فيرقى إلى بغداد، وكانت البلدان تزين له ويسير على المدن، وانحدر بانحداره رئيس البجة بأسبابه، ولقيا المعتصم، فنظروا إلى ما بهرهما من حال العراق في كثرة الجيوش، وعظم العمارة مع ما شاهداه في طريقهما، فقرّب المعتصم فيرقي وأدناه وأحسن إليه إحسانا تامّا، وقبل هديته، وكافأه بأضعافها، وقال له: تمنّ ما شئت، فسأله في إطلاق المحبوسين فأجابه إلى ذلك، وكبر في عين المعتصم ووهب له الدار التي نزلها بالعراق وأمر أن يشتري له في كل منزل من طريقه دار تكون لرسلهم، فإنه امتنع من دخول دار لأحد في طريقه فأخذ له بمصر: دار بالجيزة، وأخرى ببني وائل، وأجرى لهم في ديوان مصر سبعمائة دينار وفرسا وسرجا ولجاما وسيفا محلّى وثوبا مثقلا وعمامة من الخز وقميص شرب ورداء شرب وثيابا لرسله غير محدودة عند وصول البقط إلى مصر، ولهم حملان وخلع على المتولي لقبض

البقط، وعليهم رسوم معلومة لقابض البقط والمتصرّفين معه، وما يهدي إليهم بعد ذلك فغير محدود، وهو عندهم هدية يجازون عليها، ونظر المعتصم إلى ما كان يدفعه المسلمون، فوجده أكثر من البقط، وأنكر عطية الخمر، وأجرى الحبوب والثياب التي تقدّم ذكرها، وقرّر دفع البقط بعد انقضاء كل ثلاث سنين، وكتب لهم كتابا بذلك بقي في يد النوبة، وادّعى النوبيّ على قوم من أهل أسوان أنهم اشتروا أملاكا من عبيده، فأمر المعتصم بالنظر في ذلك، فأحضر والي البلد، والمختار للحكم فيه، التابعين من النوبة وسألاهم: عما ادّعاه صاحبهم من بيعهم، فأنكروا ذلك، وقالوا: نحن رعية، فزال ما ادّعاه، وطلب أشياء غير ذلك من إزالة المسلحة المعروفة بالقصر عن موضعها إلى الحدّ الذي بينهم وبين المسلمين لأنّ المسلحة على أرضهم، فلم يجبه إلى ذلك، ولم يزل الرسم جاريا بدفع البقط على هذا التقرير، ويدفع إليهم ما أجراه المعتصم إلى أن قدمت الدولة الفاطمية إلى مصر، ذكر ذلك مؤرخ النوبة. وقال أبو الحسن المسعوديّ: والبقط هو ما يقبض من السبي في كل سنة، ويحمل إلى مصر ضريبة عليهم، وهو ثلثمائة رأس وخمسة وستون رأسا لبيت المال بشرط الهدنة بين النوبة والمسلمين، وللأمير بمصر غير ما ذكرنا أربعون رأسا، ولخليفته المقيم بأسوان وهو المتولي لقبض البقط عشرون رأسا وللحاكم المقيم بأسوان الذي يحضر مع أمير أسوان قبض البقط، خمسة أرؤس ولاثني عشر شاهدا عدول من أهل أسوان يحضرون مع الحاكم لقبض البقط اثنا عشر رأسا من السبي على حسب ما جرى به الرسم في صدر الإسلام في بدء إيقاع الهدنة بين المسلمين والنوبة. وقال البلاذري «1» في كتاب الفتوحات: إنّ المقرّر على النوبة أربعمائة رأس يأخذون بها طعاما، أي غلة وألزمهم أمير المؤمنين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور، ثلثمائة وستين رأسا وزراقة. وفي سنة أربع وسبعين وستمائة، كثر خبث داود، متملك النوبة، وأقبل إلى أن قرب من مدينة أسوان، وحرّق عدّة سواق، بعد ما أفسد بعيذاب، فمضى إليه والي قوص، فلم يدركه، وقبض على صاحب الخيل في عدّة من النوبة، وحملهم إلى السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري بقلعة الجبل فوسطهم وقدم سكندة ابن أخت متملك النوبة متظلما من خاله داود، فجرّد السلطان معه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني الإستادار، والأمير عز الدين إيبك الأفرم، وأمير جاندار في جماعة كثيرة من العسكر، ومن أجناد الولايات وعربان

ذكر صحراء عيذاب

الوجه القبليّ والزراقين والرماة ورجال الحراريق، فساروا في أوّل شعبان من القاهرة حتى وصلوا إلى أرض النوبة، فخرجوا إلى لقائهم على النجب بأيديهم الحراب، وعليهم دكادك سود، فاقتتل الفريقان قتالا كبيرا، انهزم فيه النوبة وأغاز الأفرم على قلعة الدار، وقتل وسبى وأوغل الفارقاني في أرض النوبة برّا وبحرا، يقتل ويأسر، فحاز من المواشي ما لا يعدّ، ونزل بجزيرة ميكائيل برأس الجنادل، ونفر المراكب من الجنادل، ففرّ النوبة إلى الجزائر، وكتب لقمر الدولة نائب داود متملك النوبة أمانا، فحلف لسكندة على الطاعة، وأحضر رجال المريس ومن فرّ، وخاض الأفرم إلى برج في الماء وحصره، حتى أخذه وقتل به مائتين وأسر أخا لداود، فهرب داود والعسكر في أثره، مدّة ثلاثة أيام وهم يقتلون ويأسرون، حتى أذعن القوم، وأسرت أم داود وأخته، ولم يقدر على داود، فتقرّر سكندة عوضه، وقرّر على نفسه القطيعة في كل سنة ثلاث فيلة، وثلاث زرافات، وخمس فهود من أناثها، ومائة نجيب أصهب، وأربعمائة رأس من البقر المنتجة، على أن تكون بلاد النوبة نصفين، نصفها للسلطان، ونصفها لعمارة البلاد، وحفظها ما خلا بلاد الجنادل، فإنها كلها للسلطان لقربها من أسوان، وهي نحو الربع من بلاد النوبة، وأن يحمل ما بها من التمر والقطن، والحقوق الجارية بها العادة من قديم الزمان، وأن يقوموا بالجزية ما بقوا على النصرانية، فيدفع كل بالغ منهم في السنة دينارا عينا، وكتب نسخة يمين بذلك، حلف عليها الملك سكندة. ونسخة يمين أخرى، حلفت عليها الرعية، وخرّب الأميران كنائس النوبة، وأخذ ما فيها، وقبض على نحو عشرين أميرا من أمراء النوبة، وأفرج عمن كان بأيدي النوبة من أهل أسوان وعيذاب من المسلمين في أسرهم، وألبس سكندة تاج الملك، وأقعد على سرير المملكة، بعد ما حلف والتزم أن يحمل جميع ما لداود، ولكل من قتل وأسر من مال ودواب إلى السلطان مع البقط القديم، وهو أربعمائة رأس من الرقيق، في كل سنة وزرافة من ذلك ما كان للخليفة ثلثمائة وستون رأسا، ولنائبه بمصر أربعون رأسا، على أن يطلق لهم إذا وصلوا بالبقط تاما من القمح ألف أردب لمتملكهم، وثلثمائة أردب لرسله. ذكر صحراء عيذاب «1» اعلم أنّ حجاج مصر والمغرب، أقاموا زيادة على مائتي سنة لا يتوجهون إلى مكة شرّفها الله تعالى، إلا من صحراء عيذاب يركبون النيل من ساحل مدينة مصر الفسطاط إلى قوص «2» ، ثم يركبون الإبل من قوص، ويعبرون هذه الصحراء إلى عيذاب، ثم يركبون البحر

في الجلاب إلى جدّة ساحل مكة، وكذلك تجار الهند واليمن والحبشة، يردون في البحر إلى عيذاب، ثم يسلكون هذه الصحراء إلى قوص، ومنها يردون مدينة مصر، فكانت هذه الصحراء لا تزال عامرة آهلة بما يصدر، أو يرد من قوافل التجار والحجاج، حتى إن كانت أحمال البهار كالقرفة والفلفل، ونحو ذلك لتوجد ملقاة بها والقفول صاعدة وهابطة لا يعترض لها أحد، إلى أن يأخذها صاحبها. فلم تزل مسلكا للحجاج في ذهابهم وإيابهم، زيادة على مائتي سنة من أعوام بضع وخمسين وأربعمائة، إلى أعوام بضع وستين وستمائة، وذلك منذ كانت الشدّة العظمى في أيام الخليفة المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر، وانقطاع الحج في البرّ إلى أن كسا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، الكعبة وعمل لها مفتاحا، ثم أخرج قافلة الحاج من البرّ في سنة ست وستين وستمائة، فقلّ سلوك الحجاج لهذه الصحراء، واستمرّت بضائع التجار تحمل من عيذاب إلى قوص، حتى بطل ذلك بعد سنة ستين وسبعمائة، وتلاشى أمر قوص من حينئذ، وهذه الصحراء مسافتها من قوص إلى عيذاب سبعة عشر يوما، ويفقد فيها الماء ثلاثة أيام متوالية، وتارة يفقد أربعة أيام، وعيذاب مدينة على ساحل بحر جدّة، وهي غير مسوّرة، وأكثر بيوتها أخصاص، وكانت من أعظم مراسي الدنيا بسبب أنّ مراكب الهند واليمن تحط فيها البضائع، وتقلع منها مع مراكب الحجاج الصادرة والواردة، فلما انقطع ورود مراكب الهند واليمن إليها صارت المرسى العظيمة عدن من بلاد اليمن إلى أن كانت أعوام بضع وعشرين وثمانمائة، فصارت جدّة أعظم مراسي الدنيا، وكذلك هرمز، فإنها مرسى جليل، وعيذاب في صحراء لا نبات فيها، وكل ما يؤكل بها مجلوب إليها حتى الماء، وكان لأهلها من الحجاج والتجار فوائد لا تحصى، وكان لهم على كل حمل يحملونه للحجاج ضريبة مقرّرة، وكانوا يكارون الحجاج الجلاب التي تحملهم في البحر إلى جدّة، ومن جدّة إلى عيذاب، فيجتمع لهم من ذلك مال عظيم، ولم يكن في أهل عيذاب إلا من له جلبة فأكثر على قدر يساره. وفي بحر عيذاب، مغاص اللؤلؤ في جزائر قريبة منها تخرج إليها الغوّاصون في وقت معين من كل سنة، في الزوارق حتى يوافوه بتلك الجزائر، فيقيمون هنالك أياما، ثم يعودون بما قسم لهم من الحظ والمغاص فيها قريب القعر، وعيش أهل عيذاب، عيش البهائم، وهم أقرب إلى الوحش في أخلاقهم من الإنس، وكان الحجاج: يجدون في ركوبهم الجلاب على البحر أهوالا عظيمة لأنّ الرياح تلقيهم في الغالب بمراس في صحارى بعيدة مما يلي الجنوب، فينزل إليهم التجار من جبالهم، فيكارونهم الجمال، ويسلكون بهم على غير ماء، فربما هلك أكثرهم عطشا، وأخذ التجار ما كان معهم، ومنهم من يضلّ ويهلك عطشا،

ذكر مدينة الأقصر

والذي يسلم منهم يدخل إلى عيذاب، كأنه نشر من كفن، قد استحالت هيئاتهم وتغيرت صفاتهم، وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي، ومنهم من يساعده الريح فتحطه بمرسى عيذاب، وهو الأقل وجلباتهم التي تحمل الحجاج في البحر لا يستعمل فيها مسمار البتة، إنما يخيط خشبها بالقنبار، وهو متخذ من شجر النارجيل، ويخللونها بدسر من عيدان النخل، ثم يسقونها بسمن أو دهن الخروع أو دهن القرش، وهو حوت عظيم في البحر، يبتلع الغرقى وقلاع هذه الجلاب من خوص شجر المقل. ولأهل عيذاب في الحجاج أحكام الطواغيت فإنهم يبالغون في شحن الجلبة بالناس حتى يبقى بعضهم فوق بعض حرصا على الأجرة، ولا يبالون بما يصيب الناس في البحر، بل يقولون دائما علينا بالألواح، وعلى الحجاج بالأرواح، وأهل عيذاب من البجاة. ولهم ملك منهم، وبها وال من قبل سلطان مصر، وأدركت قاضيها عندنا بالقاهرة، أسود اللون، والبجاة قوم لا دين لهم، ولا عقل، ورجالهم ونساؤهم أبدا عراة، وعلى عوراتهم خرق، وكثير منهم لا يسترون عوراتهم، وعيذاب حرّها شديد بسموم محرق. ذكر مدينة الأقصر هذه المدينة من مدائن الصعيد العظيمة، يقال: إنّ أهلها المريس، ومنها: الحمير المريسية. ذكر البلينا «1» هذه «2» وذكر الكمال الأدفويّ: أنه وقع بين أهل البلاد، ووالي قوص، فتوجهوا إلى القاهرة وصرفوه، وولي غيره وطلع الخطيب بالبلينا صحبته، وكان إقطاعه أرمنت، فلما وصل إليها أضافه أهلها، بستين منسفا من طعام اللبن، فقال للخطيب: في بلادكم مثل هذا؟ فقال الخطيب: وحلوى، فلما وصل إلى أخميم، تقدّم الخطيب إلى البلينا، فعند ما وصل الوالي إليها، أخرجوا له ستين منسفا حلوى، وستين منسفا شواء، قال: وبعض الحكام بها في عيد من الأعياد، امتدحه من أهلها خمسة وعشرون شاعرا، وفيها من لا يرضى بمدح القاضي، وفيها من تقصر رتبته عن ذلك، قال: وكان عدّة مسابك للسكر، ويوصف أهلها بالمكارم.

ذكر سمهود

ذكر سمهود «1» هذه المدينة بالجانب الغربيّ من النيل، قال الأدفوي: كان بسمهود سبعة عشر حجرا لاعتصار قصب السكر. ويقال: إنّ الفار لا يدخل قصبها. ذكر إرجنّوس «2» هذه المدينة من جملة عمل البهنسا، بها كنيسة بظاهرها، فيها بئر يقال لها بئر سيرس صغيرة، لها عيد يعمل في اليوم الخامس والعشرين من بشنس أحد شهور القبط، فيفور بها الماء، عند مضي ست ساعات من النهار حتى يطفو، ثم يعود إلى ما كان عليه، ويستدل النصارى على زيادة النيل في كل سنة، بقدر ما علا الماء من الأرض، فيزعمون أنّ الأمر في النيل وزيادته يكون موافقا لذلك. ذكر أبويط «3» هذه المدينة أيضا من جملة البهنساوية، كان بها منارة محكمة البناء، إذا هزها الرجل تحرّكت يمينا وشمالا، فيرى ميلها رؤية ظاهرة بانتقال ظلها عن موضعه. ذكر ملوى هذه المدينة بالجانب الغربيّ من النيل، وأرضها معروفة بزراعة قصب السكر، وكان بها عدّة أحجار لاعتصاره، وآخر من كان بها أولاد فضيل، بلغت زراعتهم في أيام الناصر محمد بن قلاون ألفا وخمسمائة فدّان من القصب، في كل سنة، فأوقع النشو، ناظر الخاص الحوطة على موجودهم في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، فوجد من جملة مالهم، أربعة عشر ألف قنطار من القند، حملها إلى دار القند بمصر، سوى العسل، وألزمهم بحمل ثمانية آلاف قنطار بعد ذلك، وأفرج عنهم فوجدوا لهم حاصلا لم يهتد له النشو فيه عشرة آلاف قنطار قند، سوى مالهم من عبيد وغلال وغير ذلك. ذكر مدينة أنصنا «4» اعلم أن مدينة أنصنا إحدى مدائن صعيد مصر القديمة، وفيها عدّة عجائب، منها الملعب، ويقال: إنه كان مقياس النيل، وإنه من بناء دلوكة أحد من ملك مصر، وكان

ذكر القيس

كالطيلسان، وفي دائرة عمد على عدّة أيام السنة الشمسية، كلها من الصوّان الأحمر الماتع، ومسافة ما بين كل عمودين، مقدار خطوة إنسان، وكان ماء النيل يدخل إلى هذا الملعب من فوهة عند زيادة الماء، فإذا بلغ ماء النيل الحدّ الذي كان إذ ذاك يحصل منه ريّ أرض مصر وكفايتها، جلس الملك عند ذلك في مشرف له، وصعد القوم من خواصه إلى رؤوس الأعمدة المذكورة، فيتعادون عليها ما بين ذاهب وآت، ويتساقطون من الأعمدة إلى الملعب، وهو ممتلئ بالماء. قال أبو عبيد البكريّ: أنصنا، بفتح أوّله وإسكان ثانيه بعده صاد مهملة مكسورة ونون وألف، كورة من كور مصر معروفة منها: كانت سريّة النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ ابنه إبراهيم من قرية يقال لها حفن من قرى هذه الكورة، ويقال: إن سحرة فرعون كانوا منها، وإنه جلبهم منها يوم الموعد للقاء موسى عليه السلام. ويقال: إنّ التمساح لا يضرّ بساحل أنصنا لطلاسم وضعت بها، وإنه إذا حاذى برّها انقلب على ظهره، حتى يجاوزها، ويقال: إنّ الذي بنى مدينة أنصنا أشمون بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح، وهي واقعة في شرقيّ النيل، وكانت حسنة البساتين والمنتزهات كثيرة الثمار والفواكه، وهي الآن خراب. وقال أبو حنيفة الدينوريّ: ولا ينبت البنج إلا بأنصنا، وهو عود ينشر منه ألواح للسفن، وربما أرعفت ناشرها ويباع اللوح منها بخمسين دينارا ونحوها، وإذا شدّ لوح منها بلوح، وطرح في الماء ستة أيام صارا لوحا واحدا، وكان لأنصنا سور عتيق هدمه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعل على كل مركب منحدر في النيل، جزأ من حمل صخره إلى القاهرة، فنقل بأسره إليها. ذكر القيس اعلم أن القيس من البلاد التي تجاور مدينة البهنسا، وكان يقال: القيس والبهنسا. قال ابن عبد الحكم: بعث عمرو بن العاص قيس بن الحارث إلى الصعيد، فسار حتى أتى القيس، فنزل بها فسميت به. وقال ابن يونس: قيس بن الحارث المراديّ، ثم الكعبيّ، شهد فتح مصر، يروي عن عمر بن الخطاب، وكان يفتي الناس في زمانه، روى عنه سويد بن قيس، وقيل: شديد بن قيس بن ثعلبة، وروى عنه عسكر بن سوادة، وهو الذي فتح القرية بصعيد مصر المعروفة بالقيس، فنسبت إليه. وقال ابن الكنديّ: ولهم ثياب الصوف وأكسية المرعز، وليس هي بالدنيا إلا بمصر، وذكر بعض أهل مصر: أنّ معاوية بن أبي سفيان، لما كبر كان لا يدفأ، فاجتمعوا أنه لا يدفّيه

ذكر دروط بلهاسة

إلا الأكسية نعمل بمصر من صوفها المرعز العسليّ العين المصبوغ، فعمل له منها عدد، فما احتاج منها إلا إلى واحد، ولهم طراز القيس، والبهنسا في الستور والمضارب يعرفون به، ومنه طراز أهل الدنيا. وظهر بها بالقرب من البهنسا، سرب في أيام السلطان، الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، فأمر متولي البهنساوية بكشفه، فجمع له أهل المعرفة بالعوم والغطس، فكانوا ما ينيف على مائتي رجل ما فيهم إلا من نزل السرب، فلم يجد له قرارا، ولا جوانب، فأمر بعمل مركب طويل رقيق بحيث يمكن إدخاله من رأس السرب، وشحنه بالأزراد والرجال، وركب فيه حبالا مربوطة في خوازيق عند رأس السرب، وحمل مع الرجال آلات يعرفون بها أوقات الليل والنهار، وعدّة شموع وغيرها، مما تستخرج به النار وتشعل به، وأمرهم أن يسلكوا بالمركب في السرب حتى ينفد نصف ما معهم من الزاد، فساروا بالمركب في ظلمة، وهم يرخون الحبال، ولا يجدون لما هم سائرون فيه من الماء جوانب، فما زالوا حتى قلت أزوادهم، فأبطلوا حركة المركب بالمجاذيف إلى داخل السرب، وجرّوا الحبال ليرجعوا إلى حيث دخلوا، حتى انتهوا إلى رأس السرب، فكانت مدّة غيبتهم في السرب، ستة أيام أربعة منها دخولا إلى جوفه وتطواف جوانبه، ويومان رجوعا إلى رأس السرب، ولم يقفوا في هذه المدّة على نهاية السرب، فكتب بذلك الأمير علاء الدين الطنبغا والي البهنسا إلى الملك الكامل، فتعجب عجبا كثيرا، واشتغل عن ذلك بمحاربة الفرنج على دمياط، فلما رحلوا عن دمياط، وعادوا إلى القاهرة، خرج بعد ذلك حتى شاهد السرب المذكور. ذكر دروط بلهاسة اعلم أن: دروط وهي: بفتح الدال المهملة وضم الراء وسكون الواو وطاء، اسم لثلاث قرى: دروط أشموم من الأشمونين، ودروط سريان، من الأشمونين أيضا، ودروط بلهاسة من ناحية البهنسا بالصعيد، وبها جامع أنشأه زياد بن المغيرة بن زياد بن عمرو العتكيّ، ومات في المحرّم سنة إحدى وتسعين ومائة، فدفن به، وقال فيه الشاعر: حلف الجود حلفه برّ فيها ... ما برا الله واحدا كزياد كان غيثا لمصر إذ كان حيا ... وأمانا من السنين الشداد ومات أخوه إبراهيم بن المغيرة سنة سبع وتسعين ومائة فقال الشاعر فيه: ابن المغيرة إبراهيم من ذهب ... يزداد حسنا على طول الدهارير «1» لو كان يملك ما في الأرض عجله ... إلى العفاة ولم يهمم بتأخير

ذكر سكر

ومات أحمد بن زياد بن المغيرة في المحرّم سنة ست وثلاثين ومائتين فقال الشاعر فيه: أحمد مات ماجدا مفقودا ... ولقد كان أحمد محمودا ورث المجد عن أب ثم عمّ ... مثله ليس بعده موجودا ذكر سكر «1» هي من الأطفيحية تجاهها، واد به إلى وقتنا هذا، شكل جمل من الحجر كأكبر ما يرى من الجمال، وأحسنها هيئة، وهو قائم على أربعة، وقد استقبل بوجهه المشرق، وعلى فخذه الأيمن كتابة بقلمهم وهي أحرف مقطعة في ثلاثة أسطر، ثم على نحو مائة وخمسين خطوة منه جمل آخر مثله سواء، ووجهه إلى وجه الجمل الأوّل، وليس عليه كتابة، وفيما بين الجملين المذكورين، هيئة أعدال قد ملئت قماشا عدّتها أربعون زكيبة موضوعة بالأرض، عشرين تجاه عشرين، وجميعها من حجارة، ولا يشك من رآها أنها أحمال قماش، وبعد مائة وخمسين خطوة منها، جمل ثالث على هيئة الجملين المذكورين، وهو أيضا قائم وظهره إلى ظهر الجمل الثاني، ووجهه إلى الجبل وهناك آخر الوادي، وليس على هذا الجمل أيضا كتابة أخبرني بذلك من لا اتهم روايته. ذكر منية الخصيب «2» هذه المدينة تنسب إلى الخصيب بن عبد الحميد صاحب خراج مصر، من قبل أمير المؤمنين هارون الرشيد. ذكر منية الناسك هي بلدة من جملة الأطفيحية عرفت بالناسك أخي الوزير بهرام الأرمنيّ في أيام الخليفة، الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن محمد، ولي من قبل أخيه مدينة قوص سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وولاية قوص يومئذ، أجل ولايات مصر، فجار على المسلمين، واشتدّ عسفه، وأذاه لهم فعند ما وصل الخبر بقيام رضوان بن ولخشي على بهرام وهزيمته منه، وتقلده الوزارة بعده، ثار أهل قوص بالناسك في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وقتلوه وربطوا كلبا ميتا في رجله وسحبوه، حتى ألقوه على مزبلة، وكان نصرانيا.

ذكر الجيزة

ذكر الجيزة قال ابن سيده: الجيزة الناحية والجانب، وجمعها جيز وجيز والجيز: جانب الوادي، وقد يقال فيه: الجيزة، واعلم أنّ الجيزة اسم لقرية كبيرة جميلة البنيان على النيل من جانبه الغربيّ، تجاه مدينة فسطاط مصر، لها في كل يوم أحد سوق عظيم يجيء إليه من النواحي أصناف كثيرة جدّا، ويجتمع فيه عالم عظيم، وبها عدّة مساجد جامعة. وقد روى الحافظ أبو بكر بن ثابت الخطيب من حديث نبيط بن شريط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الجيزة روضة من رياض الجنة ومصر خزائن الله في أرضه» . ويقال: إنّ مسجد التوبة الذي بالجيزة، كان فيه تابوت موسى عليه السّلام الذي قذفته أمّه فيه بالنيل، وبها النخلة التي أرضعت مريم تحتها عيسى فلم يثمر غيرها. وقال ابن عبد الحكم عن يزيد بن أبي حبيب: فاستحبت همدان ومن والاها الجيزة، فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بما صنع الله للمسلمين، وما فتح عليهم، وما فعلوا في خططهم، وما استحبت همدان من النزول بالجيزة، فكتب إليه عمر يحمد الله على ما كان من ذلك، ويقول له: كيف رضيت أن تفرّق أصحابك لم يكن ينبغي لك أن ترضى لأحد من أصحابك أن يكون بينك وبينهم بحر، ولا تدري ما يفجأهم فلعلك لا تقدر على غياثهم حين ينزل بهم ما تكره؟ فاجمعهم إليك فإن أبوا عليك، وأعجبهم موضعهم بالجيزة، وأحبوا ما هنالك، فابن عليهم من فيء المسلمين حصنا، فعرض عليهم عمرو ذلك، فأبوا وأعجبهم موضعهم بالجيزة، ومن والاهم على ذلك من رهطهم يافع وغيرها، وأحبوا ما هنالك، فبنى لهم عمرو بن العاص الحصن في الجيزة في سنة إحدى وعشرين، وفرغ من بنائه في سنة اثنتين وعشرين. ويقال: إن عمرو بن العاص، لما سأل أهل الجيزة أن ينضموا إلى الفسطاط قالوا: مقدم قدمناه في سبيل الله ما كنا لنرحل منه إلى غيره، فنزلت يافع الجيزة فيها مبرح بن شهاب، وهمدان، وذو أصبح، فيهم أبو شمر بن أبرهة وطائفة من الحجر. وقال القضاعيّ: ولما رجع عمرو بن العاص من الإسكندرية، ونزل الفسطاط جعل طائفة من جيشه بالجيزة خوفا من عدوّ يغشاهم من تلك الناحية، فجعل فيها آل ذي أصبح من حمير، وهم كثير، ويافع بن زيد من رعين، وجعل فيها همدان، وجعل فيها طائفة من الأزديين بني الحجر بن الهبو بن الأزد، وطائفة من الحبشة، وديوانهم في الأزد، فلما استقرّ عمرو في الفسطاط، أمر الذين خلفهم بالجيزة أن ينضموا إليه فكرهوا ذلك، وقالوا: هذا مقدم قدمناه في سبيل الله، وأقمنا به ما كنا بالذين نرغب عنه، ونحن به منذ أشهر، فكتب

عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بذلك يخبره، أنّ همدان وآل ذي أصبح ويافعا ومن كان معهم أحبوا المقام بالجيزة، فكتب إليه كيف رضيت أن تفرّق عنك أصحابك، وتجعل بينك وبينهم بحرا لا تدري ما يفجأهم، فلعلك لا تقدر على غياثهم، فاجمعهم إليك، ولا تفرّقهم فإن أبوا وأعجبهم مكانهم، فابن عليهم حصنا من فيء المسلمين، فجمعهم عمرو وأخبرهم بكتاب عمر فامتنعوا من الخروج من الجيزة، فأمر عمرو ببناء الحصن عليهم، فكرهوا ذلك، وقالوا: لا حصن أحصن لنا من سيوفنا، وكرهت ذلك همدان ويافع، فأقرع عمرو بينهم، فوقعت القرعة على يافع، فبنى فيهم الحصن في سنة إحدى وعشرين، وفرغ من بنائه في سنة اثنتين عشرين، وأمرهم عمرو بالخطط بها، فاختط ذو أصبح من حمير من الشرق، ومضوا إلى الغرب، حتى بلغوا أرض الحرث والزرع، وكرهوا أن يبني الحصن فيهم، واختط يافع بن الحرث من رعين، بوسط الجيزة وبنى الحصن في خططهم وخرجت طائفة منهم عن الحصن أنفه منه، واختطت بكيل بن جشم من نوف من همدان في مهب الجنوب من الجيزة في شرقيها، واختطت حاشد بن جشم من نوف في مهب الشمال من الجيزة في غربيها، واختطت الجباوية بنو عامر بن بكيل في قبليّ الجيزة، واختطت بنو حجر بن أرحب بن بكيل في قبليّ الجيزة، واختط بنو كعب بن مالك بن الحجر بن الهبو بن الأزد، فيما بين بكيل ويافع، والحبشة اختطوا على الشارع الأعظم. والمسجد الجامع بالجيزة بناه محمد بن عبد الله الخازن في المحرّم سنة خمسين وثلثمائة بأمر الأمير عليّ بن الإخشيد، فتقدّم كافور، إلى الخازن ببنائه، وعمل له مستغلا، وكان الناس قبل ذلك بالجيزة يصلون الجمعة في مسجد همدان، وهو مسجد مراحق بن عامر بن بكيل، كان يجمع فيه الجمعة في الجيزة، وشارف بناء هذا الجامع الخازن، أبو الحسن بن أبي جعفر الطحاويّ، واحتاجوا إلى عمد للجامع، فمضى الخازن في الليل إلى كنيسة بأعمال الجيزة فقلع عمدها، ونصب بدلها أركانا، وحمل العمد إلى الجامع، فترك أبو الحسن بن الطحاويّ الصلاة فيه مذ ذاك تورّعا. قال اليمنيّ: وقد كان ابن الطحاويّ، يصلي في جامع الفسطاط العتيق، وبعض عمده أو أكثرها ورخامه من كنائس الإسكندرية، وأرياف مصر، وبعضه بناه قرّة بن شريك، عامل الوليد بن عبد الملك، ويقال: إنّ بالجيزة قبر كعب الأحبار، وإنه كان بها أحجار ورخام قد صوّرت فيها التماسيح، فكانت لا تظهر فيما يلي البلد من النيل، مقدار ثلاثة أميال علوا وسفلا. وفي سنة أربع وعشرين وسبعمائة منع الملك الناصر، محمد بن قلاون، الوزير أن يتعرّض إلى شيء مما يتحصل من مال الجيزة، فصار جميعه يحمل إليه.

قال القضاعيّ: سجن يوسف عليه السلام ببوصير من عمل الجيزة، أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان، وفيه أثر نبيين، أحدهما يوسف، سجن به المدّة التي ذكر أن مبلغها سبع سنين، وكان الوحي ينزل عليه فيه، وسطح السجن موضع معروف، بإجابة الدعاء، يذكر أن كافور الإخشيديّ، سأل أبا بكر بن الحدّاد عن موضع معروف بإجابة الدعاء ليدعو فيه؟ فأشار عليه بالدعاء على سطح السجن، والنيّ الآخر موسى عليه السلام، وقد بنى على أثره مسجد هناك يعرف بمسجد موسى. أخبرنا أبو الحسن عليّ بن إبراهيم الشرفيّ بالشرف قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن الورد، وكان قد هلكت أخته، وورث منها مورثا وكنا نسمع عليه دائما، وكان لسجن يوسف وقت يمضي الناس إليه يتفرّجون، فقال لنا يوما: يا أصحابنا هذا أوان السجن، ونريد أن نذهب إليه، وأخرج عشرة دنانير، فناولها لأصحابه وقال لهم: ما اشتهيتموه، فاشتروه، فمضى أصحاب الحديث، واشتروا ما أرادوا وعدّينا يوم أحد الجيزة كلنا، وبتنا في مسجد همدان، فلما كان الصباح مشينا حتى جئنا إلى مسجد موسى، وهو الذي في السهل، ومنه يطلع إلى السجن، وبينه وبين السجن تل عظيم من الرمل، فقال الشيخ: من يحملني ويطلع بي إلى هذا السجن حتى أحدّثه بحديث لا أحدّثه لأحد بعده، حتى تفارق روحي الدنيا. قال الشرفيّ: فأخذت الشيخ، وحملته حتى صرت في أعلاه، فنزل وقال: معك ورقة؟ قلت: لا، قال: أبصر لي بلاطة، فأخذ فحمة وكتب: حدّثني يحيى بن أيوب، عن يحيى بن بكير، عن زيد بن أسلم بن يسار، عن ابن عباس قال: إنّ جبريل أتى إلى يوسف في هذا السجن في هذا البيت المظلم، فقال له يوسف: من أنت الذي مذ دخلت السجن ما رأيت أحسن وجها منك؟ فقال له: أنا جبريل، فبكى يوسف، فقال: ما يبكيك يا نبيّ الله، فقال: إيش يعمل جبريل في مقام المذنبين؟ فقال: أما علمت أنّ الله تعالى يطهر البقاع بالأنبياء، والله لقد طهر الله بك السجن وما حوله، فما أقام إلى آخر النهار، حتى أخرج من السجن. قال القضاعيّ: سقط بين يحيى وزيد رجل، وقال الفقيه أبو محمد أحمد بن محمد بن سلامة الطحاويّ، وذكر سجن يوسف لو سافر الرجل من العراق ليصلي فيه، وينظر إليه لما عنفته في سفره. وذكر المسبحيّ: في حوادث شهر ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وأربعمائة، أنّ العامّة والسوقة طافت بمصر بالطبول والبوقات يجمعون من التجار، وأرباب الأسواق ما ينفقونه في مضيهم إلى سجن يوسف، فقال لهم التجار: شغلنا بعدم الأقوات يمنعنا من هذا، وكان قد اشتدّ الغلاء، وأنهوا حالهم إلى الحضرة المطهرة، يعني أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله أبا الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله، فرسم لنائب الدولة أبي طاهر بن كافي متولي الشرطة

ذكر قرية ترسا

السفلي: الترسيم على التجار، حتى يدفعوا إليهم ما جرت به رسومهم، ورسم لهم بالخروج إلى سجن يوسف، ووعدوا أن يطلق لهم من الحضرة ضعف ما أطلق لهم في السنة الماضية من الهبة، فخرجوا، وفي يوم السبت لتسع خلون من جمادى الأولى ركب القائد الأجل عز الدولة، وسناها معضاد الخادم الأسود، في سائر الأتراك ووجوه القوّاد، وشق البلد، ونزل إلى الصناعة التي بالجسر بمن معه، ثم خرج من هناك، وعدّى في سائر عساكره إلى الجيزة، حتى رتب لأمير المؤمنين عساكر تكون معه مقيمة هناك لحفظه، لأنه عدّى يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت منه في أربع عشاريات، وأربع عشرة بغلة من بغال النقل، وفي جميع من معه من خاصته وحرمه إلى سجن يوسف عليه السلام، وأقام هناك يومين وليلتين، إلى أن عاد الرمادية الخارجون إلى السجن بالتماثيل، والمضاحك والحكايات والسماجات، فضحك منهم واستظرفهم، وعاد إلى قصره بكرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت منه، وأقام أهل الأسواق نحو الأسبوعين يطرقون الشوارع بالخيال والسماجات والتماثيل، ويطلعون إلى القاهرة بذلك ليشاهدهم أمير المؤمنين، ويعودون ومعهم سجل قد كتب لهم أن لا يعارض أحد منهم في ذهابه وعوده، وأن يعتمد إكرامهم وصيانتهم، ولم يزالوا على ذلك إلى أن تكامل جميعهم، وكان دخولهم من سجن يوسف يوم السبت لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى، وشقوا الشوارع بالحكايات والسماجات والتماثيل فتعطل الناس في ذلك اليوم عن أشغالهم ومعايشهم، واجتمع في الأسواق خلق كثير لنظرهم، وظل الناس أكثر هذا اليوم على ذلك، وأطلق لجميعهم ثمانية آلاف درهم، وكانوا اثني عشر سوقا ونزلوا مسرورين، وبخارج مدينة الجيزة موضع يعرف بأبي هريرة، فيظنّ من لا علم له أنه أبو هريرة الصحابيّ، وليس كذلك، بل هو منسوب إلى ابن ابنته. ذكر قرية ترسا قال القضاعيّ: وذكر أنّ القاسم بن عبيد الله بن الحبحاب، عامل هشام بن عبد الملك على خراج مصر، بنى في الجيزة قرية تعرف بترسا. والقاسم هذا خرج إلى مصر، وولي خلافة عن أبيه، عبيد الله بن الحبحاب السلوليّ على الخراج، في خلافة هشام بن عبد الملك، ثم أمّره هشام على خراج مصر، حين خرج أبوه إلى إمارة إفريقية في سنة ست عشرة ومائة، فلم يزل إلى سنة أربع وعشرين ومائة، فنزع عن مصر، وجمع لحفص بن الوليد، عربها وعجمها، فصار يلي الخراج والصلاة معا، وبترسا هذه كانت وقعة هارون بن محمد الجعديّ. ذكر منية أندونة هي إحدى قرى الجيزة، عرفت بأندونة، كاتب أحمد المدائني الذي كان يتقلد ضياع

ذكر وسيم

موسى بن بغا، التي بمصر، فقبض أحمد بن طولون على أندونة هذا، وكان نصرانيا، فأخذ منه خمسين ألف دينار. ذكر وسيم قال ابن عبد الحكم: وخرج عبد الله بن عبد الملك بن مروان، أمير مصر إلى وسيم، وكانت لرجل من القبط، فسأل عبد الله أن يأتيه إلى منزله، ويجعل له مائة ألف دينار، فخرج إليه عبد الله بن عبد الملك، وقيل: إنما خرج عبد الله إلى قرية أبي النمرس، مع رجل من الكتاب، يقال له: ابن حنظلة، فأتى عبد الله العزل، وولاية قرّة بن شريك، وهو هناك، فلما بلغه ذلك، قام ليلبس سراويله، فلبسه منكوسا، وقيل: إنّ عبد الله لمّا بلغه العزل، ردّ المال على صاحبه، وقال: قد عزلنا، وكان عبد الله قد ركب معه إلى المعديّة، وعدّى أصحابه قبله تأخر، فورد الكتاب بعزله، فقال صاحب المال: والله لا بدّ أن تشرّف منزلي، وتكون ضيفي، وتأكل طعامي، وو الله لا عاد لي شيء من ذلك، ولا أدعك منصرفا فعدّى معه. ذكر منية عقبة هذه القرية بالجيزة عرفت بعقبة بن عامر الجهنيّ «1» رضي الله عنه. قال ابن عبد الحكم: كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، يسأله أرضا يسترقق فيها عند قرية عقبة، فكتب له معاوية بألف ذراع في ألف ذراع، فقال له مولى له: كان عنده، انظر أصلحك الله أرضا صالحة، فقال عقبة: ليس لنا ذلك، إنّ في عهدهم شروطا ستة منها، أن لا يؤخذ من أرضهم شيء، ولا من نسائهم، ولا من أولادهم، ولا يزاد عليهم ويدفع عنهم موضع الخوف من عدوّهم، وأنا شاهد لهم بذلك. وفي رواية: كتب عقبة إلى معاوية يسأله نقيعا في قرية يبني فيه منازل ومساكن، فأمر له معاوية بألف ذراع في ألف ذراع، فقال له مواليه ومن كان عنده: انظر إلى أرض تعجبك، فاختط فيها وابتن، فقال: إنه ليس لنا ذلك، لهم في عهدهم ستة شروط منها، أن لا يؤخذ من أرضهم شيء، ولا يزاد عليهم، ولا يكلفوا غير طاقتهم، ولا تؤخذ ذراريهم، وأن يقاتل عنهم عدوّهم من ورائهم. قال أبو سعيد بن يونس: وهذه الأرض التي اقتطعها عقبة هي: المنية المعروفة،

ذكر حلوان

بمنية عقبة في جيزة فسطاط مصر. عقبة بن عامر بن عيسى بن عمرو بن عديّ بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عديّ بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة، كذا نسبه أبو عمرو الكنديّ. وقال الحافظ: أبو عمر بن عبد البر، عقبة بن عامر بن حسن الجهنيّ من جهينة بن زيد بن مسود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وقد اختلف في هذا النسب، يكنى: أبا حماد، وقيل: أبا أسد، وقيل: أبا عمرو، وقيل: أبا سعاد، وقيل: أبا الأسود. وقال خليفة بن خياط: وقتل أبو عامر عقبة بن عامر الجهنيّ يوم النهروان، شهيدا وذلك سنة ثمان وثلثين، وهذا غلط منه، وفي كتابه بعد، وفي سنة ثمان وخمسين توفي عقبة بن عامر الجهنيّ، قال: سكن عقبة بن عامر مصر، وكان واليا عليها، وابتنى بها دارا، وتوفي في آخر خلافة معاوية، روى عنه من الصحابة جابر، وابن عباس، وأبو أمامة، ومسلمة بن مخلد، وأما رواته من التابعين فكثير. وقال الكنديّ: ثم وليها عقبة بن عامر من قبل معاوية، وجمع له صلاتها وخراجها، فجعل على شرطته حمادا، وكان عقبة قارئا فقيها فرضيا شاعرا له الهجرة والصحبة السابقة، وكان صاحب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الشهباء الذي يقودها في الأسفار، وكان صرف عقبة من مصر، بمسلمة بن مخلد لعشر بقين من ربيع الأوّل سنة أربعين، فكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر. وقال ابن يونس: توفي بمصر سنة ثمان وخمسين، ودفن في مقبرتها بالمقطم، وكان يخضب بالسواد رحمه الله تعالى. ذكر حلوان يقال: إنها تنسب إلى حلوان بن بابليون بن عمرو بن امرئ القيس، ملك مصر بن سائب بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكان حلوان هذا بالشام على مقدّمة أبرهة ذي المنار أحد التبابعة. قال ابن عبد الحكم: وكان الطاعون قد وقع بالفسطاط، فخرج عبد العزيز بن مروان من الفسطاط، فنزل بحلوان داخلا في الصحراء في موضع منها يقال له: أبو قرقورة، وهو رأس العين التي احتفرها عبد العزيز بن مروان، وساقها إلى نخيلة التي غرسها بحلوان، فكان ابن خديج يرسل إلى عبد العزيز في كل يوم بخبر ما يحدث في البلد من موت وغيره، فأرسل إليه ذات يوم رسولا، فأتاه فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ فقال: أبو طالب، فثقل ذلك على عبد العزيز، وغاظه، فقال له عبد العزيز: أسألك عن اسمك؟! فتقول أبو طالب! ما اسمك؟ فقال: مدرك، فتفاءل بذلك، ومرض في مخرجه ذلك، ومات هنالك، فحمل

في البحر يراد به الفسطاط حتى تغير، فأنزل في بعض خصوص ساحل مريس، فغسل فيه، وأخرجت من هنالك جنازته، وخرج معه بالمجامر فيها العود لما كان قد تغير من ريحه، وأوصى عبد العزيز أن يمرّ بجنازته إذا مات على منزل، جناب بن مرثد بن زيد بن هانىء الرعينيّ، صاحب حرسه، وكان صديقا له وقد توفي قبل عبد العزيز فمرّ بجنازته على باب جناب، وقد خرج عيال جناب، ولبسن السواد ووقفن على الباب صائحات، ثم اتبعنه إلى المقبرة، وكان لنصيب من عبد العزيز ناحية، فقدم عليه في مرضه، فأذن له، فلما رأى شدّة مرضه أنشأ يقول: ونزور سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعوّاد لو كان يقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفي وتلادي فلما سمع صوته، فتح عينيه، وأمر له بألف دينار، واستبشر بذلك آل عبد العزيز، وفرحوا به، ثم مات. وقال الكندي: ووقع الطاعون بمصر في سنة سبعين، فخرج عبد العزيز بن مروان منها إلى الشرقية منتديا، فنزل حلوان، فأعجبته فاتخذها وسكنها، وجعل بها الحرس والأعوان والشرط، فكان عليهم جناب بن مرثد بحلوان، وبنى عبد العزيز بحلوان الدور والمساجد، وعمّرها أحسن عمارة وأحكمها وغرس نخلها وكرمها، فقال ابن قيس الرقيات: سقيا لحلوان ذي الكروم وما ... صنف من تينه ومن عنبه نخل مواقير بالفناء من ال ... برنيّ يهتز ثم في سربه أسود سكانه الحمام فما ... ينفك غربانه على رطبه ولما غرس عبد العزيز، نخل حلوان وأطعم دخله، والجند معه، فجعل يطوف فيه ويقف على غروسه ومساقيه، فقال يزيد بن عروة الجمليّ: ألا قلت أيها الأمير، كما قال العبد الصالح: ما شاء الله لا قوّة إلا بالله، فقال: أذكرتني شكرا يا غلام، قل لأنيتاس: يزيد في عطائه عشرة دنانير. عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ الأمويّ، أبو الأصبغ، أمّه ليلى ابنة زبان بن الأصبغ الكنديّ، روى عن أبي هريرة، وعقبة بن عامر الجهنيّ، وروى عنه عليّ بن رباح، وبحير بن داخرة، وعبيد الله بن مالك الخولانيّ، وكعب بن علقمة، ووثقه النسائي وابن سعد. ولما سار أبوه مروان إلى مصر، بعثه في جيش إلى أيلة، ليدخل مصر من تلك الناحية، فبعث إليه ابن جحدم أمير مصر بجيش عليهم: زهير بن قيس البلويّ، فلقي عبد العزيز ببصاق، وهي سطح عقبة أيلة، فقاتله فانهزم زهير ومن معه، فلما غلب مروان

على مصر في جمادى الآخرة سنة خمس وستين، جعل صلاتها وخراجها إلى ابنه عبد العزيز بعد ما أقام بمصر شهرين، فقال عبد العزيز: يا أمير المؤمنين! كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال له مروان: يا بني عمّهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقا تصف لك مودّتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم إنه خاصتك دون غيره، يكن لك عينا على غيره، وينقاد قومه إليك، وقد جعلت معك أخاك بشرا مؤنسا، وجعلت لك موسى بن نصير وزيرا أو مشيرا، وما عليك يا بنيّ أن تكون أميرا بأقصى الأرض، أليس ذلك أحسن من إغلاق بابك وخمولك في منزلك، وأوصاه عند مخرجه من مصر إلى الشام، فقال: أوصيك بتقوى الله في سرّ أمرك وعلانيته، فإنّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأوصيك أن لا تجعل لداعي الله عليك سبيلا، فإن المؤذن يدعو إلى فريضة افترضها الله، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، وأوصيك أن لا تعد الناس موعدا إلا أنفذته لهم، وإن حملته على الأسنة، وأوصيك أن لا تعجل في شيء من الحكم حتى تستشير، فإنّ الله لو أغنى أحدا عن ذلك لأغنى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم عن ذلك، بالوحي الذي يأتيه، قال الله عز وجل: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [159/آل عمران] . وخرج مروان من مصر، لهلال رجب سنة خمس وستين، فوليها عبد العزيز على صلاتها وخراجها، وتوفي مروان لهلال رمضان، وبويع ابنه عبد الملك بن مروان، فأقرّ أخاه عبد العزيز ووفد على عبد الملك في سنة سبع وستين، وجعل له الحرس والخيل والأعوان جناب بن مرثد الرعينيّ، فاشتدّ سلطانه، وكان الرجل إذا غلظ لعبد العزيز وخرج تناوله جناب ومن معه فضربوه، وحبسوه، وعبد العزيز أوّل من عرّف بمصر في سنة إحدى وسبعين. قال يزيد بن أبي حبيب: أوّل من أحدث القعود يوم عرفة في المسجد بعد العصر عبد العزيز بن مروان. وفي سنة اثنتين وسبعين، صرف بعث البحر إلى مكة، لقتال عبد الله بن الزبير، وجعل عليهم مالك بن شرحبيل الخولانيّ، وهم: ثلاثة آلاف رجل فيهم: عبد الرحمن بن بحنس، مولى ابن أبزى، وهو الذي قتل ابن الزبير «1» وخرج إلى الإسكندرية في سنة أربع وسبعين، ووفد على أخيه عبد الملك في سنة خمس وسبعين، وهدم جامع الفسطاط كله، وزاد فيه من جوانبه كلها في سنة سبع وسبعين، وأمر بضرب الدنانير المنقوشة. وقال ابن عفير: كان لعبد العزيز ألف جفنة، كل يوم تنصب حول داره، وكانت له

مائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل، وكتب عبد الملك إليه، أن ينزل له عن ولاية العهد، ليعهد إلى الوليد وسليمان، فأبى ذلك، وكتب إليه إن يكن لك ولد فلنا أولاد، ويقضي الله ما يشاء، فغضب عبد الملك، وقال: فرّق الله بيني وبينه، فلم يزل به عليّ حتى رضي، فقدم على عبد العزيز، فأخبره عن عبد الملك وعن حاله، ثم أخبره بدعوته فقال: أفعل أنا، والله مفارقه، والله ما دعا دعوة قط إلا أجيبت، وكان عبد العزيز يقول: قدمت مصر في إمرة مسلمة بن مخلد، فتمنيت بها ثلاث أمانيّ، فأدركتها تمنيت ولاية مصر، وأن أجمع بين امرأتي مسلمة ويحجبني قيس بن كليب حاجبه، فتوفي مسلمة، وقدم مصر، فوليها وحجبه قيس، وتزوّج امرأتي مسلمة، وتوفي ابنه الأصبغ بن عبد العزيز لتسع بقين من ربيع الآخر، سنة ست وثمانين، فمرض عبد العزيز وتوفي ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين، فحمل في النيل من حلوان إلى الفسطاط، فدفن بها. وقال ابن أبي مليكة: رأيت عبد العزيز بن مروان حين حضره الموت يقول: ألا ليتني لم أك شيئا مذكورا، ألا ليتني كنابتة من الأرض أو كراعي إبل في طرف الحجاز، ولما مات لم يوجد له مال ناض! إلا سبعة آلاف دينار، وحلوان، والقيسارية، وثياب بعضها مرقوع، وخيل ورقيق، وكانت ولايته على مصر، عشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما، ولم يلها في الإسلام قبله أطول ولاية منه. وكان بحلوان في النيل، معدّية من صوّان تعدّي بالخيل تحمل فيها الناس وغيرهم من البرّ الشرقيّ بحلوان إلى البرّ الغربيّ فلما كان «1» وهذا من الأسرار التي في الخليقة، فإنّ جميع الأجسام المعدنية كالحديد والنحاس والفضة والرصاص والذهب والقصدير، إذ عمل من شيء منها إناء يسع من الماء أكثر من وزنه، فإنه يعوم على وجه الماء، ويحمل ما يمكنه، ولا يغرق، وما برح المسافرون في بحر الهند إذا أظلم عليهم الليل ولم يروا ما يهديهم من الكواكب إلى معرفة الجهات، يحملون حديدة مجوّفة على شكل سمكة، ويبالغون في ترقيقها جهد المقدرة، ثم يعمل في فم السمكة شيء من مغناطيس جيدا، ويحك فيها بالمغناطيس، فإنّ السمكة إذا وضعت في الماء دارت، واستقبلت القطب الجنوبيّ بفمها، واستدبرت القطب الشماليّ وهذا أيضا من أسرار الخليفة فإذا عرفوا جهتي الجنوب والشمال تبين منهما المشرق والمغرب، فإنّ من استقبل الجنوب فقد استدبر الشمال وصار المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره، فإذا تحدّدت الجهات الأربع عرفوا مواقع البلاد بها، فيقصدون حينئذ جهة الناحية التي يريدونها.

ذكر مدينة العريش

ذكر مدينة العريش العريش مدينة فيما بين أرض فلسطين وإقليم مصر، وهي مدينة قديمة من جملة المدائن التي اختطت بعد الطوفان. قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: عن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، وكان غلاما مرفها فلما قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر، وستره بحشيش الأرض، ثم بنى له بعد ذلك في هذا الموضع مدينة وسمّاها: درسان، أي: باب الجنة، فزرعوا وغرسوا الأشجار والجنان من درسان إلى البحر، فكانت كلها زروعا وجنانا وعمارة. وقال آخر: إنما سميت بذلك، لأنّ بيصر بن حام بن نوح، تحمّل في ولده وهم أربعة، ومعهم أولادهم، فكانوا ثلاثين ما بين ذكر وأنثى، وقدم ابنه مصر بن بيصر أمامه نحو أرض مصر، حتى خرج من حدّ الشام، فتاهوا، وسقط مصر في موضع العريش، وقد اشتدّ تعبه ونام، فرأى قائلا يبشره بحصوله في أرض ذات خير ودر، وملك وفخر، فانتبه فزعا فإذا عليه، عريش من أطراف الشجر، وحوله عيون ماء، فحمد الله وسأله أن يجمعه بأبيه وإخوته، وأن يبارك له في أرضه، فاستجيب له، وقادهم الله إليه، فنزلوا في العريش، وأقاموا به، فأخرج الله لهم من البحر دوابّ ما بين خيل وحمر وبقر وغنم وإبل، فساقوها حتى أتوا موضع مدينة منف، فنزلوه، وبنوا فيه قرية سميت بالقبطية: مافة يعني قرية ثلاثين، فنمت ذرية بيصر حتى عمروا الأرض، وزرعوا وكثرت مواشيهم، وظهرت لهم المعادن، فكان الرجل منهم يستخرج القطعة من الزبرجد، يعمل منها مائة كبيرة، ويخرج من الذهب ما تكون القطعة منه مثل الأسطوانة وكالبعير الرابض. وقال ابن سعيد عن البيهقيّ: كان دخول إخوة يوسف وأبويه، عليهم السلام، عليه بمدينة العريش، وهي أوّل أرض مصر، لأنه خرج إلى تلقيهم، حتى نزل المدينة بطرف سلطانه، وكان له هناك عرش، وهو سرير السلطنة، فأجلس أبويه عليه، وكانت تلك المدينة تسمى في القديم بمدينة العرش لذلك، ثم سمتها العامّة مدينة العريش، فغلب ذلك عليها. ويقال: إنه كان ليوسف عليه السلام حرس في أطراف أرض مصر من جميع جوانبها، فلما أصاب الشام القحط، وسارت إخوة يوسف لتمتار من مصر أقاموا بالعريش، وكتب صاحب الحرس إلى يوسف، إنّ أولاد يعقوب الكنعانيّ، يريدون البلد لقحط نزل بهم، فعمل إخوة يوسف عند ذلك عرشا يستظلون به من الشمس، حتى يعود الجواب، فسمى الموضع العريش، وكتب يوسف بالإذن لهم، فكان من شأنهم ما قد ذكر في موضعه، ويقال للعرش: الج فهذا كما ترى، وابن وصيف شاه أعرف بأخبار مصر.

ذكر مدينة الفرماء

وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة، طرق عبد الله بن إدريس الجعفريّ العريش بمعاونة بني الجرّاح وأحرقها، وأخذ جميع ما فيها. وقال القاضي الفاضل: وفي جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وخمسمائة، ورد الخبر، بأنّ نخل العريش قطع الفرنج أكثره، وحملوا جذوعه إلى بلادهم، وملئت منه، ولم يجدوا مخاطبا على ذلك، ونقل عن ابن عبد الحكم: أنّ الجفار بأجمعه كان أيام فرعون موسى في غاية العمارة بالمياه والقرى والسكان، وأنّ قول الله تعالى: وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [137/الأعراف] عن هذه المواضع وأنّ العمارة متصلة منه إلى اليمن، ولذلك سميت العريش: عريشا، وقيل: إنها نهاية التخوم من الشام، وإنّ إليه كان ينتهي رعاة إبراهيم الخليل عليه السلام بمواشيه، وإنه عليه السلام اتخذ به عريشا كان يجلس فيه، حتى تحلب مواشيه بين يديه، فسمي العريش من أجل ذلك، وقيل: إنّ مالك بن دعر بن حجر بن جذيلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدا منهم: العريش بن مالك، وبه سميت العريش لأنه نزل بها وبناها مدينة، وعن كعب الأحبار: أنّ بالعريش قبور عشرة أنبياء. ذكر مدينة الفرماء «1» قال البكريّ: الفرماء بفتح أوّله، وثانيه ممدود على وزن فعلاء، وقد يقصر مدينة تلقاء مصر. وقال ابن خالويه في كتاب ليس الفرما: هذه سميت بأخي الإسكندر كان يسمى: الفرما، وكان كافرا، وهي قرية أم إسماعيل بن إبراهيم، انتهى. ويقال: اسمه الفرما بن فيلقوس، ويقال فيه: ابن فليس، ويقال: بليس؛ وكانت الفرما على شط بحيرة تنيس، وكانت مدينة خصباء، وبها قبر جالينوس الحكيم، وبنى بها المتوكل على الله حصنا على البحر تولى بناءه عنبسة بن إسحاق، أمير مصر في سنة تسع وثلاثين ومائتين، عند ما بنى حصن دمياط، وحصن تنيس، وأنفق فيها مالا عظيما، ولما فتح عمرو بن العاص، عين شمس، أنفذ إلى الفرماء، أبرهة بن الصباح، فصالحه أهلها على خمسمائة دينار هرقلية، وأربعمائة ناقة، وألف رأس من الغنم، فرحل عنهم إلى البقارة. وفي سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة، نزل الروم عليها، فنفر الناس إليهم، وقتلوا منهم رجلين، ثم نزلوا في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وثلثمائة، فخرج إليهم المسلمون،

وأخذوا منهم مركبا، وقتلوا من فيه وأسروا عشرة. وقال اليعقوبيّ «1» : الفرما، أوّل مدن مصر من جهة الشمال، وبها أخلاط من الناس، وبينها وبين البحر الأخضر، ثلاثة أميال. وقال ابن الكنديّ: ومنها الفرما، وهي أكثر عجائب، وأقدم آثارا، ويذكر أهل مصر: أنه كان منها طريق إلى جزيرة قبرس في البرّ، فغلب عليها البحر، ويقولون: إنه كان فيما غلب عليه البحر مقطع الرخام الأبلق، وإنّ مقطع الأبيض بلوبية. وقال يحيى بن عثمان: كنت أرابط في الفرما، وكان بينها وبين البحر قريب من يوم يخرج الناس والمرابطون في أخصاص على الساحل، ثم علا البحر على ذلك كله. وقال ابن قديد: وجّه ابن المدبر، وكان بتنيس، إلى الفرما في هدم أبواب من حجارة شرقيّ الحصن، احتاج أن يعمل منها جيرا، فلما قلع منها حجر، أو حجران، خرج أهل الفرما بالسلاح، فمنعوا من قلعها، وقالوا: هذه الأبواب التي قال الله فيها على لسان يعقوب عليه السلام: يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف/ 67] والفرما بها النخل العجيب الذي يثمر حين ينقطع البسر والرطب من سائر الدنيا، فيبتدىء هذا الرطب من حين يلد النخل في الكوانين، فلا ينقطع أربعة أشهر، حتى يجيء البلح في الربيع، وهذا لا يوجد في بلد من البلدان لا بالبصرة ولا بالحجاز ولا باليمن، ولا بغيرها من البلدان، ويكون في هذا البسر، ما وزن البسرة الواحدة فوق العشرين درهما، وفيه ما طول البسرة نحو الشبر والفتر. وقال ابن المأمون البطائحي في حوادث سنة تسع وخمسمائة: ووصلت النجابون من والي الشرقية تخبر بأنّ بغدوين ملك الفرنج، وصل إلى أعمال الفرما، فسيّر الأفضل بن أمير الجيوش للوقت إلى والي الشرقية بأن يسير المركزية والمقطعين بها، وسيّر الراجل من العطوفية، وأن يسير الوالي بنفسه بعد أن يتقدّم إلى العربان بأسرهم بأن يكونوا في الطوالع، ويطاردوا الفرنج، ويشارفوهم بالليل قبل وصول العساكر إليه، فاعتمد ذلك، ثم أمر بإخراج الخيام، وتجهيز الأصحاب والحواشي، فلما تواصلت العساكر وتقدّمها العربان، وطاردوا الفرنج، وعلم بغدوين ملك الفرنج أنّ العساكر متواصلة إليه، وتحقق أن الإقامة لا تمكنه أمر أصحابه بالنهب والتخريب والإحراق وهدم المساجد، فأحرق جامعها ومساجدها وجميع البلد، وعزم على الرحيل، فأخذه الله سبحانه وتعالى، وعجل بنفسه إلى النار، فكتم أصحابه موته، وساروا بعد أن شقوا بطن بغدوين، وملأوه ملحا حتى بقي إلى بلاده، فدفنوه بها.

وأما العساكر الإسلامية فإنهم شنوا الغارات على بلاد العدوّ، وعادوا بعد أن خيموا على ظاهر عسقلان، وكتب إلى الأمير ظهير الدين طفدكين صاحب دمشق بأن يتوجه إلى بلاد الفرنج، فسار إلى عسقلان، وحملت إليه الضيافات وطولع بخبر وصوله، فأمر بحمل الخيام، وعدّة وافرة من الخيل والكسوات والبنود والأعلام، وسيف ذهب، ومنطقة ذهب، وطوق ذهب، وبدلة طقم، وخيمة كبيرة مكملة ومرتبة ملوكية وفرشها وجميع آلاتها، وما تحتاج إليه من آلات الفضة، وسير برسم شمس الخواص، وهو مقدم كبير خلعة مذهبة ومنطقة ذهب وسيف، وسير برسم المميزين من الواصلين، خلع وسيوف، وسلم ذلك بثبت لأحد الحجاب، وسير معه فرّاشان برسم الخيام، وأمر بضرب الخيمة الكبيرة وفرشها، وأن يركب والي عسقلان وظهير الدين وشمس الخواص وجميع الأمراء الواصلين والمقيمين بعسقلان إلى باب الخيمة ويقبلوه، ثم إلى بساطها والمرتبة المنصوبة، ثم يجلس الوالي وظهير الدين وشمس الخواص والمقدّمون، ويقف الناس بأجمعهم إجلالا وتعظيما، ويخلع على الأمير ظهير الدين، وشمس الخواص، وتشدّ المناطق في أوساطهما، ويقلدا بالسيوف ويخلع بعدهما على المميزين، ثم يسير ظهير الدين والمقدّمون بالتشريف والأعلام، والرايات المسيرة إليهم إلى أن يصلوا إلى الخيام التي ضربت لهم، فإذا كان كل يوم يركب الوالي، والأميران والمقدّمون والعساكر إلى الخيمة الملوكية، ويتفاوضون فيما يجب من تدبير العساكر، فامتثل ذلك، وتواصلت الغارات على بلاد العدوّ وأسروا وقتلوا، فسير إليهم الخلع ثانيا، وجعل الشمس الخواص خاصة في هذه السفرة عشرة آلاف دينار، وتسلم ظهير الدين الخيمة الكبيرة بما فيها، وكان تقدير ما حصل له ولأصحابه ثلاثين ألف دينار وبلغ المنفق في هذه النوبة وعلى ذهاب بغدوين وهلاكه مائة ألف دينار. وفي شهر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة، نزل الفرنج على الفرما في جمع كبير، وأحرقوها ونهبوا أهلها، وآخر أمرها أنّ الوزير شاور خرّبها لما خرج منها متوليها، ملهم أخو الضرغام في سنة «1» ، فاستمرّت خرابا لم تعمر بعد ذلك، وكان بالفرما والبقارة والورادة عرب من جذام يقال لهم: القاطع، وهو جري بن عوف بن مالك بن شنوءة بن بديل بن جشم بن جذام منهم: عبد العزيز بن الوزير بن صابي بن مالك بن عامر بن عديّ بن حرش بن بقر بن نصر بن القاطع، مات في صفر سنة خمس ومائتين، وللسرويّ والجرويّ هنا أخبار كثيرة، نبهنا عليها في كتاب عقد جواهر الأسفاط في أخبار مدينة الفسطاط. وقال ابن الكنديّ: وبها مجمع البحرين، وهو البرزخ الذي ذكره الله عزّ وجل، فقال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ [الرحمن/ 19] وقال: وجعل بين البحرين

ذكر مدينة القلزم

حاجزا وهما بحر الروم وبحر الصين، والحاجز بينهما مسيرة ليلة، ما بين القلزم والفرما، وليس يتقاربان في بلد من البلدان أقرب منهما بهذا الموضع، وبينهما في السفر مسيرة شهور. ذكر مدينة القلزم «1» القلزم: بضم القاف وسكون اللام وضم الزاي وميم، بلدة كانت على ساحل بحر اليمن في أقصاه من جهة مصر، وهي كورة من كور مصر، وإليها ينسب بحر القلزم، وبالقرب منها غرق فرعون، وبينها وبين مدينة مصر ثلاثة أيام، وقد خربت ويعرف اليوم موضعها بالسويس تجاه عجرود، ولم يكن بالقلزم ماء ولا شجر ولا زرع، وإنما يحمل الماء إليها من آبار بعيدة، وكان بها فرضة مصر والشام، ومنها تحمل الحمولات إلى الحجاز واليمن، ولم يكن بين القلزم وفاران قرية ولا مدينة، وهي نخل يسير فيه صيادو السمك، وكذلك من فاران وجيلان إلى أيلة. قال ابن الطوير «2» : والبلد المعروف بالقلزم، أكثرها باق إلى اليوم، ويراها الراكب السائر من مصر إلى الحجاز، وكانت في القديم ساحلا من سواحل الديار المصرية، ورأيت شيئا من حسابه من جهة مستخدميه في حواصل القصر، وما ينفق على واليه وقاضيه وداعيه وخطيبه، والأجناد المركزين به لحفظه وقربه وجامعه ومساجده، وكان مسكونا مأهولا. قال المسبحي في حوادث سنة سبع وثمانين وثلثمائة وفي شهر رمضان: سامح أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أهل مدينة القلزم، مما كان يؤخذ من مكوس المراكب. وقال ابن خرداذبة عن التجار، فيركبون في البحر الغربيّ، ويخرجون بالفرماء، ويحملون تجاراتهم على الظهر إلى القلزم، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا، ثم يركبون البحر الشرقيّ، من القلزم إلى تجار جدّة، ثم يمضون إلى السند والهند والصين، ومن القلزم ينزل الناس في بريّة وصحراء، ست مراحل إلى أيلة، ويتزوّدون من الماء لهذه المراحل الست، ويقال: إنّ بين القلزم وبحر الروم ثلاث مراحل، وإنّ ما بينهما هو البرزخ الذي ذكره تعالى بقوله: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ [الرحمن/ 19] . ذكر التيه هو أرض بالقرب من أيلة بينهما عقبة، لا يكاد الراكب يصعدها لصعوبتها، إلا أنها

ذكر مدينة دمياط

مهدت في زمان خمارويه بن أحمد بن طولون، ويسير الراكب مرحلتين في محض التيه هذا، حتى يوافي ساحل بحر فاران، حيث كانت مدينة قاران، وهناك غرق فرعون، والتيه مقدار أربعين فرسخا في مثلها، وفيه تاه بنو إسرائيل أربعين سنة لم يدخلوا مدينة ولا أووا إلى بيت ولا بدّلوا ثوبا، وفيه مات موسى عليه السلام. ويقال: إنّ طول التيه نحو من ستة أيام، واتفق أنّ المماليك البحرية لما خرجوا من القاهرة هاربين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة مرّ طائفة منهم بالتيه، فتاهوا فيه خمسة أيام، ثم تراءى لهم في اليوم السادس سواد على بعد، فقصدوه، فإذا مدينة عظيمة لها سور وأبواب كلها من رخام أخضر، فدخلوا بها، وطافوا بها، فإذا هي قد غلب عليها الرمل، حتى طمّ أسواقها ودورها، ووجدوا بها أواني وملابس، وكانوا إذا تناولوا منها شيئا، تناثر من طول البلى، ووجدوا في صينية بعض البزازين، تسعة دنانير ذهبا، عليها صورة غزال، وكتابة عبرانية، وحفروا موضعا فإذا حجر على صهريج ماء، فشربوا منه ماء أبرد من الثلج، ثم خرجوا ومشوا ليلة فإذا بطائفة من العربان، فحملوهم إلى مدينة الكرك، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارفة فإذا عليها، أنها ضربت في أيام موسى عليه السلام، ودفع لهم في كل دينار مائة درهم، وقيل لهم: إنّ هذه المدينة الخضراء من مدن بني إسرائيل، ولها طوفان رمل يزيد تارة، وينقص أخرى لا يراها إلا تائه، والله أعلم. ذكر مدينة دمياط إعلم أنّ دمياط: كورة من كور أرض مصر، بينها وبين تنيس اثنا عشر فرسخا، ويقال: سميت بدمياط من ولد أشمن بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. ويقال: إنّ إدريس عليه السلام، كان أوّل ما أنزل عليه ذو القوّة والجبروت، أنا الله مدين المدائن الفلك بأمري وصنعي أجمع بين العذب والملح والنار والثلج، وذلك بقدرتي ومكنون علمي، الدال والميم والألف والطاء، قيل هم: بالسريان، دمياط، فتكون دمياط كلمة سريانية، أصلها دمط أي: القدرة إشارة إلى مجمع العذب والملح. وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: دمياط بلد قديم بني في زمن قليمون بن اتريب بن قبطيم بن مصرايم على اسم غلام كانت أمّه ساحرة لقليمون. ولما قدم المسلمون إلى أرض مصر كان على دمياط رجل، من أخوال المقوقس، يقال له: الهاموك، فلما افتتح عمرو بن العاص مصر امتنع الهاموك بدمياط، واستعدّ للحرب، فأنفذ إليه عمرو بن العاص المقداد بن الأسود، في طائفة من المسلمين، فحاربهم الهاموك وقتل ابنه في الحرب، فعاد إلى دمياط، وجمع إليه أصحابه، فاستشارهم في أمره، وكان عنده حكيم قد حضر الشورى، فقال: أيها الملك إنّ جوهر العقل لا قيمة له،

وما استغنى به أحد إلّا هداه إلى سبيل الفوز والنجاة من الهلاك، وهؤلاء العرب من بدء أمرهم، لم تردّ لهم راية، وقد فتحوا البلاد، وأذلوا العباد، وما لأحد عليهم قدرة، ولسنا بأشدّ من جيوش الشام، ولا أعز ولا أمنع، وإنّ القوم قد أيدوا بالنصر والظفر والرأي، أن تعقد مع القلوم صلحا ننال به الأمن وحقن الدماء وصيانة الحرم، فما أنت بأكثر رجالا من المقوقس. فلم يعبأ الهاموك بقوله، وغضب منه، فقتله، وكان له ابن عارف عاقل، وله دار ملاصقة للسور، فخرج إلى المسلمين في الليل، ودلهم على عورات البلد، فاستولى المسلمون عليها، وتمكنوا منها، وبرز الهاموك للحرب، فلم يشعر بالمسلمين إلا وهم يكبرون على سور البلد، وقد ملكوه، فعند ما رأى شطا بن الهاموك المسلمين فوق السور، لحق بالمسلمين، ومعه عدّة من أصحابه، ففت ذلك في عضد أبيه، واستأمن للمقداد، فتسلم المسلمون دمياط، واستخلف المقداد عليها، وسير بخبر الفتح، إلى عمرو بن العاص، وخرج شطا، وقد أسلم إلى البرلس والدميرة وأشموم طناح، فحشد أهل تلك النواحي، وقدم بهم مدد للمسلمين، وعونا لهم على عدوّهم، وسار بهم مع المسلمين لفتح تنيس، فبرز لأهلها، وقاتلهم قتالا شديدا، حتى قتل رحمه الله في المعركة شهيدا بعد ما أنكى فيهم، وقتل منهم، فحمل من المعركة، ودفن في مكانه المعروف به، خارج دمياط، وكان قتله في ليلة الجمعة النصف من شعبان، فلذلك صارت هذه الليلة من كل سنة، موسما يجتمع الناس فيها من النواحي، عند شطا، ويحيونها، وهم على ذلك إلى اليوم، وما زالت دمياط بيد المسلمين إلى أن نزل عليها الروم في سنة تسعين من الهجرة، فأسروا خالد بن كيسان، وكان على البحر هناك وسيروه إلى ملك الروم، فأنفذه إلى أمير المؤمنين، الوليد بن عبد الملك من أجل الهدنة التي كانت بينه وبين الروم. فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك، نازل الروم دمياط في ثلثمائة وستين مركبا، فقتلوا وسبوا، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائة، ولما كانت الفتنة بين الأخوين: محمد الأمين، وعبد الله المأمون، وكانت الفتن بأرض مصر، طمع الروم في البلاد، ونازلوا دمياط في أعوام بضع ومائتين. ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين، المتوكل على الله وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق «1» ، نزل الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملكوها، وما فيها وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال، وأهل الذمّة، فنفر إليهم عنبسة بن إسحاق يوم النحر في جيشه، ونفر كثير من الناس إليهم، فلم يدركوهم، ومضى

الروم إلى تنيس، فأقاموا بأشتومها، فلم يتبعهم عنبسة، فقال يحيى بن الفضيل للمتوكل: أترضى بأن يوطأ حريمك عنوة ... وأن يستباح المسلمون ويحربوا حمار أتى دمياط والروم وثب ... بتنيس رأي العين منه وأقرب مقيمون بالأشتوم يبغون مثل ما ... أصابوه من دمياط والحرب ترتب فما رام من دمياط شبرا ولا درى ... من العجز ما يأتي وما يتجنب فلا تنسنا إنا بدار مضيعة ... بمصر وإنّ الدين قد كاد يذهب فأمر المتوكل ببناء حصن دمياط، فابتدىء في بنائه، يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين، وأنشأ من حينئذ الأسطول بمصر، فلما كان في سنة سبع طرق الروم دمياط في نحو مائتي مركب، فأقاموا يعبثون في السواحل شهرا، وهم يقتلون ويأسرون وكانت للمسلمين معهم معارك. ثم لما كانت الفتن بعد موت كافور الإخشيديّ، طرق الروم دمياط لعشر خلون من رجب سنة سبع وخمسين وثلثمائة في بعض وعشرين مركبا، فقتلوا وأسروا مائة وخمسين من المسلمين. وفي سنة ثمان وأربعمائة، ظهر بدمياط سمكة عظيمة طولها مائتان وستون ذراعا، وعرضها مائة ذراع، وكانت حمير الملح تدخل في جوفها موسوقة، فتفرّغ وتخرج، ووقف خمسة رجال في قحفها، ومعهم المجاريف يجرفون الشحم، ويناولونه الناس، وأقام أهل تلك النواحي مدّة طويلة يأكلون من لحمها. وفي أيام الخليفة الفائز بنصر الله عيسى، والوزير حينئذ الصالح طلائع بن رزيك، نزل على دمياط نحو ستين مركبا في جمادى الآخرة سنة خمسين وخمسمائة، بعث بها لوجيز بن رجاو، صاحب صقلية، فعاثوا وقتلوا، ونزلوا تنيس ورشيد والإسكندرية، فأكثروا فيها الفساد. ثم كانت خلافة العاضد لدين الله في وزارة شاور بن مجير السعديّ، الوزارة الثانية عند ما حضر ملك الفرنج مري إلى القاهرة، وحصرها وقرّر على أهلها المال، واحترقت مدينة الفسطاط، فنزل على تنيس وأشموم ومنية عمر، وصاحب أسطول الفرنج في عشرين شونة، فتل وأسر وسبى. وفي وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب للعاضد، وصل الفرنج إلى دمياط في شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وخمسمائة، وهم فيما يزيد على ألف ومائتي مركب، فخرجت العساكر من القاهرة، وقد بلغت النفقة عليهم زيادة على خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار، فأقامت الحرب مدّة خمسة وخمسين يوما، وكانت صعبة شديدة،

واتهم في هذه النوبة عدّة من أعيان المصريين بممالأة الفرنج ومكاتبتهم، وقبض عليهم الملك الناصر، وقتلهم. وكان سبب هذه النوبة أنّ الغزو لما قدموا إلى مصر من الشام صحبة أسد الدين شيركوه، تحرّك الفرنج لغزو ديار مصر، خشية من تمكن الغزو بها، فاستمدّوا إخوانهم أهل صقلية، فأمدّوهم بالأموال والسلاح، وبعثوا إليهم بعدّة وافرة، فساروا بالدبابات والمجانيق، ونزلوا على دمياط في صفر، وهم في العدّة التي ذكرنا من المراكب، وأحاطوا بها بحرا وبرّا، فبعث السلطان بابن أخيه تقيّ الدين عمرو، وأتبعه بالأمير شهاب الدين الحازميّ في العساكر إلى دمياط، وأمدّهما بالأموال والميرة والسلاح، واشتدّ الأمر على أهل دمياط، وهم ثابتون على محاربة الفرنج. فسيّر صلاح الدين إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستنجده، ويعلمه بأنه لا يمكنه الخروج من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفا من قيام المصريين عليه، فجهز إليه العساكر شيئا بعد شيء، وخرج نور الدين من دمشق بنفسه إلى بلاد الفرنج التي بالساحل، وأغار عليها واستباحها، فبلغ ذلك الفرنج، وهم على دمياط، فخافوا على بلادهم من نور الدين، أن يتمكن منها، فرحلوا عن دمياط في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل بعد ما غرق لهم نحو الثلاثمائة مركب، وقلّت رجالهم بفناء وقع فيهم، وأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، وكان صلاح الدين يقول: ما رأيت أكرم من العاضد! أرسل إليّ مدّة مقام الفرنج عل دمياط: ألف ألف دينار سوى ما أرسله إليّ من الثياب وغيرها. وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة رتبت المقاتلة على البرجين، وشدّت مراكب إلى السلسلة ليقاتل عليها، ويدافع عن الدخول من بين البرجين، ورمّ شعث سور المدينة، وسدّت ثلمة، وأتقنت السلسلة التي بين البرجين، فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار، واعتبر السور، فكان قياسه: أربعة آلاف وستمائة وثلاثين ذراعا. وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة أمر السلطان، بقطع أشجار بساتين دمياط، وحفر خندقها، وعمل جسر عند سلسلة البرج. وفي سنة خمس عشرة وستمائة، كانت واقعة دمياط العظمى، وكان سبب هذه الواقعة أنّ الفرنج في سنة أربع عشرة وستمائة، تتابعت إمدادهم من رومية الكبرى «1» : مقرّ البابا، ومن غيرها من بلاد الفرنج، وساروا إلى مدينة عكا، فاجتمع بها عدّة من ملوك الفرنج، وتعاقدوا على قصد القدس، وأخذه من أيدي المسلمين، فصاروا بعكا في جمع عظيم.

وبلغ ذلك الملك أبا بكر بن أيوب، فخرج من مصر في العساكر إلى الرملة، فبرز الفرنج من عكا في جموع عظيمة، فسار العادل إلى بيسان، فقصده الفرنج، فخافهم لكثرتهم، وقلة عسكره، فأخذ على عقبة رفيق يريد دمشق، وكان أهل بيسان وما حولها، قد اطمأنوا لنزول السلطان هناك، فأقاموا في أماكنهم، وما هو إلا أن سار السلطان، وإذا بالفرنج قد وضعوا السيف في الناس، ونهبوا البلاد، فحازوا من أموال المسلمين ما لا يحصى كثرة، وأخذوا بيسان وبانياس وسائر القرى التي هناك، وأقاموا ثلاثة أيام ثم عادوا إلى مرج عكا بالغنائم والسبي، وهلك من المسلمين خلق كثير، فاستراح الفرنج بالمرج أياما، ثم عادوا ثانيا ونهبوا صيدا والشقيف، وعادوا إلى مرج عكا، فأقاموا به، وكان ذلك كله فيما بين النصف من شهر رمضان وعيد الفطر، والملك العادل مقيم بمرج الصفر، وقد سير ابنه المعظم عيسى بعسكر إلى نابلس لمنع الفرنج من طروقها، والوصول إلى بيت المقدس، فنازل الفرنج قلعة الطور سبعة عشر يوما، ثم عادوا إلى عكا، وعزموا على قصد الديار المصرية، فركبوا بجموعهم البحر، وساروا إلى دمياط في صفر، فنزلوا عليها يوم الثلاثاء رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة الموافق لثامن حزيران، وهم نحو السبعين ألف فارس وأربعمائة ألف راجل، فخيموا تجاه دمياط في البرّ الغربيّ، وحفروا على عسكرهم خندقا، وأقاموا عليه سورا وشرعوا في قتال برج دمياط، فإنه كان برجا منيعا فيه سلاسل من حديد غلاظ، تمدّ على النيل، لتمنع المراكب الواصلة في البحر الملح من الدخول إلى ديار مصر في النيل، وذلك أنّ النيل إذا انتهى إلى فسطاط مصر، مرّ عليه في ناحية الشمال إلى شطنوف، فإذا صار إلى شطنوف انقسم قسمين أحدهما يمرّ في الشمال إلى رشيد، فيصب في البحر الملح، والشطر الآخر يمرّ من شطنوف إلى جوجر، ثم يتفرّق من عند جوجر فرقتين، فرقة تمرّ إلى أشموم فتصب في بحيرة تنيس، وفرقة تمرّ من جوجر إلى دمياط، فتصب في البحر الملح هناك، وتصير هذه الفرقة من النيل فاصلة بين مدينة دمياط والبرّ الغربيّ، وهذا البرّ الغربيّ من دمياط يعرف بجزيرة دمياط، يحيط بها ماء النيل والبحر الملح. وفي مدّة إقامة الفرنج بهذا البرّ الغربيّ، عملوا الآلات والمراسي، وأقاموا أبراجا يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، فإنهم إذا ملكوه تمكنوا من العبور في النيل إلى القاهرة ومصر، وكان هذا البرج مشحونا بالمقاتلة، فتحيل الفرنج عليه، وعملوا برجا من الصواري على بسطة كبيرة، وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه، وقاتلوا من به حتى أخذوه. فبلغ نزول الفرنج على دمياط الملك الكامل، وكان يحلف أباه الملك العادل على ديار مصر، فخرج بمن معه من العساكر في ثالث يوم من وقوع الطائر، بخبر نزول الفرنج

لخمس خلون منه، وأمر والي الغربية بجمع العربان، وسار في جمع كبير، وخرج الأسطول، فأقام تحت دمياط، ونزل السلطان بمن معه من العساكر بمنزلة العادلية، قرب دمياط، وامتدّت عساكره إلى دمياط لتمنع الفرنج من السور والقتال مستمرّ والبرج ممتنع مدّة أربعة أشهر، والعادل يسير العساكر من البلاد الشامية شيئا بعد شيء حتى تكاملت عند الملك الكامل، واهتمّ الملك لنزول الفرنج على دمياط، واشتدّ خوفه، فرحل من مرج الصفر إلى عالقين فنزل به المرض، ومات في سابع جمادى الآخرة، فكتم الملك المعظم عيسى موته وحمله في محفة، وجعل عنده خادما وطبيبا راكبا إلى جانب المحفة، والشر بدار يصلح الشراب، ويحمله إلى الخادم فيشربه، ويوهم الناس، أنّ السلطان شربه، إلى أن دخلوا به إلى قلعة دمشق، وصارت إليها الخزائن والبيوتات، فأعلن بموته. وتسلم ابنه الملك المعظم، جميع ما كان معه، ودفنه بالقلعة، ثم نقله إلى مدرسة العادلية بدمشق، وبلغ الملك الكامل موت أبيه، وهو بمنزلة العادلية قرب دمياط، فاستقلّ بمملكة ديار مصر، واشتدّ الفرنج، وألحوا في القتال، حتى استولوا على برج السلسلة، وقطعوا السلاسل المتصلة به لتجوز مراكبهم في بحر النيل، ويتمكنوا من البلاد فنصب الملك الكامل بدل السلاسل جسرا عظيما، لمنع الفرنج من عبور النيل، فقاتلت الفرنج عليه قتالا شديدا إلى أن قطعوه وكان قد أنفق على البرج والجسر، ما ينيف على سبعين ألف دينار، وكان الكامل يركب في كل يوم عدّة مرار من العادلية إلى دمياط لتدبير الأمور، وإعمال الحيلة في مكايدة الفرنج، فأمر الملك الكامل، أن يفرّق عدّة من المراكب في النيل حتى تمنع الفرنج من سلوك النيل، فعمد الفرنج إلى خليج هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديما، فحفروه وعمقوا حفره، وأجروا فيه المال إلى البحر الملح، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى بورة على أرض جيزة دمياط، مقابل المنزلة التي بها السلطان ليقاتلوه من هناك، فلما صاروا في بورة جاؤوه، وقاتلوه في الماء، وزحفوا إليه عدّة مرار، فلم يظفروا منه بطائل ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأنّ الميرة والإمداد متصلة إليهم، والنيل يحجز بينهم بين الفرنج، وأبواب المدينة مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر، والعربان تتخطف الفرنج في كل ليلة، بحيث امتنعوا من الرقاد خوفا من غاراتهم، فلما قوي طمع العرب في الفرنج حتى صاروا يخطفونهم نهارا، ويأخذون الخيم بمن فيها، أكمن الفرنج لهم عدّة كمناء، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأدرك الناس الشتاء، وهاج البحر على مخيم المسلمين وغرّقهم، فعظم البلاء وتزايد الغم وألح الفرنج في القتال، وكادوا أن يملكوا، فبعث الله ريحا قطعت مراسي مرمة الفرنج. وكانت من عجائب الدنيا، فمرّت إلى برّ المسلمين فأخذوها فإذا هي مصفحة بالحديد، لا تعمل فيها النار ومساحتها خمسمائة ذراع، فكسروها، فإذا فيها مسا ميرزنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا، وبعث الكامل إلى الآفاق سبعين رسولا يستنجد أهل

الإسلام لنصرة المسلمين، ويخوّفهم من غلبة الفرنج على مصر. فساروا في شوّال وأتته النجدات، من حماه وحلب، وبينا الناس في ذلك إذ طمع الأمير عماد الدين أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ: المعروف بابن المشطوب «1» في الملك الكامل عند ما بلغه موت الملك العادل، وكان له لفيف ينقادون إليه ويطيعونه، وكان أميرا كبيرا مقدّما عظيما في الأكراد الهكارية وافر الحرمة عند الملوك، معدودا بينهم، مثل واحد منهم، وكان مع ذلك عالي الهمة غزير الجود واسع الكرم شجاعا أبيّ النفس تهابه الملوك، وله الوقائع المشهورة، وهو من أمراء دولة صلاح الدين يوسف، فاتفق مع جماعة من الجند والأكراد على خلع الملك الكامل، وإقامة أخيه الملك الفائز إبراهيم ليصير له الحكم، ووافقه الأمير عز الدين الحميدي، والأمير أسد الدين الهكاريّ، والأمير مجاهد الدين، وجماعة من الأمراء، فلما بلغ ذلك الملك الكامل دخل عليهم، وهم مجتمعون والمصحف بين أيديهم ليحلفوا للفائز، فلما رأوه انفضوا، فخشي على نفسه فخرج، فاتفق وصول الصاحب، صفيّ الدين بن سكر من آمد إلى الملك الكامل، فإنه كان استدعاه بعد موت أبيه، فتلقاه وأكرمه، وذكر له ما هو فيه، فضمن له تحصيل المال، فلما كان في الليل ركب، الملك الكامل وتوجه من العادلية في جريدة إلى أشموم طناح، فنزلها وأصبح العسكر بغير سلطان، فركب كل منهم هواه، ولم يعطف الأخ على أخيه، وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم، ولحقوا بالسلطان. فبادر الفرنج في الصباح إلى مدينة دمياط، ونزلوا البرّ الشرقيّ، يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة بغير منازع ولا مدافع، وأخذوا سائر ما كان في عسكر المسلمين، وكان شيئا لا يحيط به الوصف، وداخل السلطان وهم عظيم، وكاد أن يفارق البلاد، فإنه تخيل من جميع من معه، واشتدّ طمع الفرنج في أرض مصر كلها، وظنوا أنهم قد ملكوها إلا أنّ الله سبحانه وتعالى: أغاث المسلمين، وثبت السلطان، وواقاه أخوه الملك المعظم، بأشموم طناح، فاشتدّ به أزره، وقوي جأشه، وأطلعه على ما كان من ابن المشطوب، فوعده بإزاحة ما يكره، ثم إنّ المعظم ركب إلى خيمة ابن المشطوب، واستدعاه للركوب معه ومسايرته، فاستمهله حتى يلبس خفيه وثياب الركوب، فلم يمهله، وأعجله فركب معه وسايره حتى خرج به من العسكر الكامليّ. ثم قال له: يا عماد الدين، هذه البلاد لك وأشتهي أن تهبها لنا، وأعطاه نفقة، وسلمه إلى جماعة من أصحابه، يثق بهم، وقال لهم: أخرجوه من الرمل، ولا تفارقوه حتى يخرج

من الشام، فلم يسع ابن المشطوب إلا امتثال ما قال المعظم لأنه معه بمفرده، ولا قدرة له على الممانعة، فساروا به إلى حماه، ثم مضى منها إلى المشرق، ولما شيّع الملك المعظم ابن المشطوب رجع إلى الملك الكامل، وأمر أخاه الفائز إبراهيم أن يسير إلى ملوك الشام في رسالة عن أخيه الملك الكامل لاستدعائهم إلى قتال الفرنج، فمضى إلى دمشق وخرج منها إلى حماه، فمات بها مسموما على ما قيل، فثبت للملك الكامل، أمر الملك وسكن روعه، هذا والفرنج قد أحاطوا بدمياط برّا وبحرا، وأحدقوا وضيقوا على أهلها، ومنعوا القوت من الوصول إليهم، وحفروا على عسكرهم المحيط بدمياط خندقا، وبنوا عليه سورا، وأهل دمياط يقاتلونهم أشدّ القتال، ويمانعونهم، وقد غلت عندهم الأسعار لقلّة الأقوات، ثم إنّ المعظم فارق الملك الكامل، وسار إلى بلاد الشام. وأقام الكامل لمحاربة الفرنج، وانتدب شمائل أحد الجاندارية «1» في الركاب للدخول إلى دمياط، فكان يسبح في الماء، ويصل إلى أهل دمياط، فيعدهم بوصول النجدات، فحظي بذلك عند الكامل، وتقرّب منه، حتى عمله والي القاهرة، وإليه تنسب خزانة شمائل بالقاهرة، فلم يزل الحال على ذلك إلى أن دخلت سنة ست عشرة، فجهز الملك المنصور محمد بن عمرو بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماه ابنه المظفر تقيّ الدين محمودا إلى مصر نجدة لخاله الملك الكامل على الفرنج في جيش كثيف، فوصل إلى العسكر، وتلقاه الملك الكامل، وأنزله في ميمنة العسكر منزلة أبيه وجدّه عند السلطان صلاح الدين يوسف، فألح الفرنج في القتال، وكان بدمياط نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراض وغلت عندهم الأسعار حتى بلغت بيضة الدجاجة عندهم عدّة دنانير. قال الحافظ عبد العظيم المنذري «2» : سمعت الشيخ أبا الحسن عليّ بن فضل يقول: كان لبعض بني خيار، بقرة فذبحوها، وباعوها في الحصار، فجاءت ثمانمائة دينار. وقال في المعجم المترجم: سمعت الأمير أبا بكر بن حسن بن خسويام يقول: كنت بدمياط في حصار العدوّ بها، فبيع السكز بها بمائة وأربعين دينارا الرطل، والدجاجة بثلاثين دينارا، قال: واشتريت ثلاث دجاجات بتسعين دينارا، والرواية بأربعين درهما، والقبر يحفر بأربعين مثقالا، وأخذت أختي جملا، فشقت جوفه وملأته دجاجا وفاكهة وبقلا، وغير ذلك، وخاطته ورمته في البحر، وكتبت إليّ تقول: قد فعلت كذا، فإذا رأيتم جملا ميتا، فخذوه فوقع لنا ليلا، فأخذناه وكان فيه ما يساوي جملة، ففرّقته على الناس، ثم عمل بعد

ذلك، ثلاثة جمال على هيئته، ففطن لها الفرنج، فأخذوها وامتلأت مساكنهم، وطرقات البلد من الموتى وعدمت الأقوات، وصار السكر، كعزة الياقوت، وفقدت اللحوم، فلم يقدر عليها بوجه وآلت بهم الحال، إلى أن لم يبق بها سوى قليل من القمح والشعير فقط. فتسوّر الفرنج وأخذوا منه البلد في يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان، وكانت مدّة الحصار ستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما، ولما أخذوا البلد وضعوا السيف في الناس، فتجاوزوا الحدّ في القتل وأسرفوا في مقدار القتلى، وبلغ ذلك السلطان، فرحل بعد أخذ دمياط بيومين، ونزل قبالة طلخا على رأس بحر أشموم، ورأس بحر دمياط وحيز في المنزلة التي صار يقال لها المنصورة، وحصّن الفرنج أسوار دمياط، وجعلوا الجامع كنيسة وبثوا سراياهم في القرى، فقتلوا ونهبوا، وسيّر السلطان الكتب إلى الآفاق ليستحث الناس على الحضور، لدفع الفرنج عن ملك مصر، وشرع العسكر في بناء الدور والفنادق والحمامات، والأسواق بمنزلة المنصورة، وجهز الفرنج من أسروه من المسلمين في البحر إلى عكا، وخرجوا من دمياط، ونازلوا السلطان تجاه المنصورة، وصار بينهم وبينه بحر أشموم، وبحر دمياط، وكان الفرنج في مائتي ألف راجل، وعشرة آلاف فارس، فقدّم المسلمون شوانيهم أمام المنصورة، وعدّتها مائة قطعة، واجتمع الناس من القاهرة ومصر، وسائر النواحي من أسوان إلى القاهرة، ووصل الأمير حسام الدين يونس، والفقيه تقيّ الدين، أبو الطاهر محمد بن الحسن بن عبد الرحمن المحلي، فأخرجا الناس من القاهرة ومصر، ونودي بالنفير العام وخرج الأمير علاء الدين جلدك، وجمال الدين بن صيرم، لجمع الناس فيما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقيّ، فاجتمع عالم لا يقع عليه حصر، وأنزل السلطان على ناحية شار مساح ألف فارس في آلاف من العربان ليحولوا بين الفرنج ودمياط، وسارت الشواني، ومعها حراقة كبيرة على رأس بحر المحلة، وعليها الأمير بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرة عن الفرنج من البر والبحر. وسارت عساكر المسلمين من الشرق والشام إلى الديار المصرية، وكان قد خرج الفرنج من داخل البحر لمدد الفرنج على دمياط، فقدم منهم أمم لا تحصى، يريدون التوغل في أرض مصر، فلما تكاملوا بدمياط، خرجوا منها في حدّهم وحديدهم، ونزلوا تجاه الملك الكامل، كما تقدّم، فقدمت النجدات يقدمها الملك الأشرف موسى بن العادل، وعلى ساقتها الملك المعظم عيسى، فتلقاهم الملك الكامل وأنزلهم عنده بالمنصورة في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة، وتتابع مجيء الملوك، حتى بلغت عدّة فرسان المسلمين نحو أربعين ألف فارس، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة وأسروا من الفرنج ألفين ومائتين، ثم ظفر المسلمون، بثلاث قطائع أخر، فتضعضع الفرنج لذلك، وضاق بهم المقام. فبعثوا يطلبون الصلح، فقدم عند مجيء رسلهم أهل الإسكندرية في ثمانية آلاف

مقاتل، وكان الذي طلب الفرنج القدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف من الساحل ليرحلوا عن ديار مصر، فبذل المسلمون لهم سائر ما ذكر من البلاد، خلا مدينة الكرك والشويك، فامتنع الفرنج من الصلح، وقالوا لا بدّ من أخذهم الكرك والشوبك، ومبلغ ثلثمائة ألف دينار، عوضا عما خرّبه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق من أسوار القدس، وكان المعظم لما مات أبوه العادل، واستولى الفرنج على دمياط، ونازلوا الملك الكامل قبالة المنصورة، خاف أن يصل منهم في البحر، من يأخذ القدس، ويتحصنوا به فأمر بتخريب أسواره، وكانت أسواره وأبراجه في غاية العظمة والمنعة، فأتى الهدم على جميعها ما خلا برج داود، وانتقل أكثر الناس من القدس، ولم يبق به إلا القليل، ونقل المعظم ما كان بالقدس من الأسلحة والآلات، فامتنع المسلمون من إجابة الفرنج إلى ذلك، وقاتلوهم وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها الفرنج، وحفروا مكانا عظيما في النيل، وكان في قوّة الزيادة، فركب الماء أكثر تلك الأرض، وصار حائلا بين الفرنج ومدينة دمياط، وانحصروا فلم يبق لهم سوى طريق ضيقة، فأمر السلطان للوقت، بنصب الجسور عند أشموم طناح، فعبرت العساكر عليها، وملكت الطريق التي يسلكها الفرنج إلى دمياط إذا أرادوا الوصول إليها، فاضطربوا وضاقت عليهم الأرض. واتفق مع ذلك وصول مرمّة عظيمة للفرنج في البحر حولها عدّة حراقات تحميها، وقد ملئت كلها بالميرة والأسلحة، فقاتلهم شواني المسلمين وظفرها الله بهم، فأخذها المسلمون، وعند ما علم الفرنج ذلك أيقنوا بالهلاك، وصار المسلمون يرمونهم بالنشاب، ويحملون على أطرافهم، فهدموا حينئذ خيامهم ومجانيقهم، وألقوا فيها النار، وهموا بالزحف على المسلمين ومقاتلتهم ليخلصوا إلى دمياط، فحال بينهم وبين ذلك كثرة الوحل والمياه الراكبة على الأرض، وخشوا من الإقامة لقلة أقواتهم، فذلوا وسألوا الأمان على أن يتركوا دمياط للمسلمين، فاستشار السلطان في ذلك، فاختلف الناس عليه، فمنهم من امتنع من تأمين الفرنج ورأى أن يؤخذوا عنوة، ومنهم من جنح إلى إعطائهم الأمان خوفا ممن وراءهم من الفرنج في الجزائر وغيرها، ثم اتفقوا على الأمان وأن يعطي كل من الفريقين رهائن، فتقرّر ذلك في تاسع شهر رجب سنة ثمان عشرة، وسير الفرنج عشرين ملكا رهنا عند الملك الكامل. وبعث الملك الكامل بابنه الملك الصالح، نجم الدين أيوب، وجماعة من الأمراء إلى الفرنج، وجلس السلطان مجلسا عظيما لقدوم ملك الفرنج، وقد وقف إخوته وأهل بيته بين يديه، وصار في أبهة وناموس مهاب، وخرج قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، فسلموها للمسلمين في تاسع عشرة، وكان يوم تسليمها يوما عظيما وعند ما تسلم المسلمون دمياط، وصارت بأيديهم، قدمت نجدة في البحر للفرنج، فكان من جميل صنع الله، تأخرها حتى

ملكت دمياط بأيدي المسلمين، فإنها لو قدمت قبل ذلك لقوى بها الفرنج، فإنّ المسلمين وجدوا مدينة دمياط، قد حصنها الفرنج، وصارت بحيث لا ترام، ولما تمّ الأمر بعث الفرنج بولد السلطان، وأمرائه إليه، وسيّر إليهم السلطان من كان عنده من الملوك في الرهن، وتقرّرت الهدنة بين الفرنج والمسلمين، مدّة ثماني سنين، وكان مما وقع الصلح عليه أن كلا من المسلمين والفرنج يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته، وحلفت ملوك الفرنج، وتفرّق الناس إلى بلادهم. ودخل الملك الكامل إلى دمياط بإخوته وعساكره، وكان يوم دخوله إليها من الأيام المذكورة ورحل الفرنج إلى بلادهم، وعاد السلطان إلى مقرّ ملكه، وأطلقت الأسرى من ديار مصر، وكان فيهم من له من أيام السلطان صلاح الدين يوسف، وسارت ملوك الشام بعساكرها إلى بلادها، وعمت بشارة أخذ المسلمين مدينة دمياط من الفرنج، سائر الآفاق، فإنّ التتر كانوا قد استولوا على ممالك المشرق، فأشرف الفرنج على أخذ ديار مصر من أيدي المسلمين، وكانت مدّة نزول الفرنج على دمياط إلى أن أقلعوا عنها سائرين إلى بلادهم، ثلاث سنين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما منها مدّة استيلائهم على مدينة دمياط سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرون يوما. فلما كان في سنة ست وأربعين وستمائة حدث بالسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، محمد ورم في مأبضه تكوّن منه، ناصور فتح وعسر برؤه، فمرض من ذلك، وانضاف إليه قرحة في الصدر، فلزم الفراش إلا أنّ علوّ همته اقتضى مسيره من ديار مصر إلى الشام فسار في محفة، ونزل بقلعة دمشق، فورد عليه رسول الإمبراطور ملك الفرنج الألمانية بجزيرة صقلية في هيئة تاجر، وأخبره سرّا بأن بواش الذي يقال له: رواد فرنس، عازم على المسير إلى أرض مصر، وأخذها فسار السلطان من دمشق، وهو مريض في محفة، ونزل بأشموم طناح في المحرّم سنة سبع وأربعين، وجمع في مدينة دمياط من الأقوات والأزواد والأسلحة وآلات القتال شيئا كثيرا خوفا أن يجري على دمياط ما جرى في أيام أبيه، فأخذت بغير ذلك. ولما نزل السلطان، بأشموم كتب إلى الأمير حسام الدين أبي عليّ بن عليّ الهديانيّ، نائبه بديار مصر، أن يجهز الأسطول من صناعة مصر، فشرع في الاهتمام بذلك وشحن الأسطول بالرجال والسلاح، وسائر ما يحتاج إليه وسيره شيئا بعد شيء، وجهز السلطان الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، ومعه الأمراء والعساكر، فنزل بحيرة دمياط من برّها الغربيّ، وصار النيل بينه وبينها، فلما كان في الساعة الثانية من نهار الجمعة لتسع بقين من صفر وردت مراكب الفرنج البحريين فيها جموعهم العظيمة وقد انضم إليهم فرنج الساحل وأرسوا بإزاء المسلمين.

وبعث ملكهم إلى السلطان كتابا نصه: أما بعد: فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمّة العيسوية، كما أنه لا يخفى عليّ أنك أمين الأمّة المحمدية، وغير خاف عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس، وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر ونقتل منهم الرجال، ونرمّل النساء، ونستأسر البنات والصبيان ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الإيمان، وأدخلت عليّ الأقساء والرهبان، وحملت قدّامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلا إليك، وقاتلك في أعز البقاع إليك، فإما إن تكون البلاد لي فيا هدية حصلت في يديّ، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة عليّ، فيدك العليا ممتدّة إليّ، وقد عرّفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء. فلما قرىء الكتاب على السلطان، وقد اشتدّ به المرض بكى، واسترجع. فكتب القاضي بهاء الدين «1» زهير بن محمد، الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإنه وصل كتابك، وأنت تهدّد فيه بكثرة جيوشك، وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا فرد إلا جدّدناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمّرناه، ولو رأت عينك أيها المغرور، حدّ سيوفنا، وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل، لكان لك أن تعض على أنا ملك بالندم، ولا بدّ أن تزل بك القدم في يوم أوّله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، فإذا قرأت كتابي هذا، فتكون فيه على أوّل سورة النحل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل/ 1] وتكون على آخر سورة ص: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص/ 88] ، ونعود إلى قول الله تعالى، وهو أصدق القائلين: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة/ 249] ، وقول الحكماء: إنّ الباغي له مصرع وبغيك يصرعك، وإلى البلاد يقلبك والسلام. وفي يوم السبت ورد الفرنج وضربوا خيامهم في أكثر البلاد التي فيها عساكر المسلمين، وكانت خيمة الملك رواد فرنس حمراء، فناوشهم المسلمون القتال، واستشهد يومئذ الأمير نجم الدين يوسف بن شيخ الإسلام، والأمير صارم الدين أزبك الوزيريّ، فلما أمسى الليل رحل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعساكر المسلمين جبنا وصلفا، وسار بهم في برّ دمياط، وسار إلى جهة أشموم طناح، فخاف من كان في مدينة دمياط، وخرجوا منها على وجوههم في الليل لا يلتفتون إلى شيء، وتركوا المدينة خالية من الناس، ولحقوا بالعسكر في أشموم، وهم حفاة عرايا جياع حيارى بمن معهم من النساء والأولاد،

ومرّوا هاربين إلى القاهرة، فأخذ منهم قطاع الطريق، ما عليهم من الثياب، وتركوهم عرايا، فشنعت القالة على الأمير فخر الدين من كل أحد، وعدّ جميع ما نزل بالمسلمين من البلاء بسبب هزيمته، فإن دمياط كانت مشحونة بالمقاتلة والأزواد العظيمة والأسلحة وغيرها، خوفا أن يصيبها في هذه المدّة ما أصابها في أيام الكامل، فإنه ما أتى عليها ذاك إلا من قلّة الأقوات بها، ومع ذلك امتنعت من الفرنج أكثر من سنة، حتى فني أهلها كما تقدّم، ولكن الله يفعل ما يريد. ولما أصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر قصدوا دمياط فإذا أبواب المدينة مفتحة، ولا أحد يدفع عنها، فظنوا أنّ ذلك مكيدة، وتمهلوا حتى ظهر لهم خلوّها فدخلوا إليها من غير مانع ولا مدافع، واستولوا على ما بها من الأسلحة العظيمة، وآلات الحرب، والأقوات الخارجة عن الحدّ في الكثرة والأموال والأمتعة صفوا بغير كلفة، فأصيب الإسلام والمسلمون ببلاء، لولا لطف الله لمحي اسم الإسلام ورسمه بالكلية، وانزعج الناس في القاهرة ومصر انزعاجا عظيما، لما نزل بالمسلمين مع شدّة مرض السلطان، وعدم حركته، وأما السلطان فإنه اشتدّ حنقه على الأمير فخر الدين، وقال: أما قدرت أنت والعساكر أن تقفوا ساعة بين يدي الفرنج؟ وأقام عليه القيامة، لكن الوقت لم يكن يسع غير الصبر والإغضاء، وغضب على الكنانيين الذين كانوا بدمياط ووبخهم، فقالوا: ما نعمل إذا كانت عساكر السلطان بأجمعهم وأمراؤه هربوا وأخربوا الزردخاناه، كيف لا نهرب نحن؟ فأمر بشنقهم لكونهم خرجوا من دمياط بغير إذن، وكانت عدّة من شنق من الأمراء الكنانية زيادة على خمسين أميرا في ساعة واحدة، ومن جملتهم أمير جسيم، له ابن جميل يسأل أن يشنق قبل ابنه، فأمر السلطان أن يشنق ابنه قبله، فشنق الابن ثم الأب، ويقال: إنّ شنق هؤلاء كان بفتوى الفقهاء، فخاف جماعة من الأمراء، وهموا بالقيام على السلطان. فأشار عليهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بأنّ السلطان على خطة، فإن مات فقد كفيتم أمره، وإلا فهو بين أيديكم وأخذ السلطان في إصلاح سور المنصورة، وانتقل إليها لخمس بقين من صفر، وجعل الستائر على السور، وقدمت الشواني إلى تجاه المنصورة، وفيها العدد الكاملة وشرع العسكر في تجديد الأبنية هناك، وقدم من العربان، وأهل النواحي ومن المطوّعة خلق لا يحصى عددهم، وأخذوا في الإغارة على الفرنج، فملأ الفرنج أسوار مدينة دمياط بالمقاتلة والآلات، فلما كان أوّل ربيع الأوّل قدم إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العربان، ستة وثلاثون منهم: فارسان، وفي خامس ربيع الآخر، ورد منهم تسعة وثلاثون، وفي سابعه ورد اثنان وعشرون أسيرا، وفي سادس عشره ورد خمسة وأربعون أسيرا منهم: ثلاثة خيالة، وفي ثامن عشر جمادى الأولى ورد خمسون أسيرا. هذا ومرض السلطان يتزايد، وقواه تتناقص حتى آيس الأطباء منه، وفي ثالث عشر

رجب قدم إلى القاهرة سبعة وأربعون أسيرا، وأحد عشر فارسا، وظفر المسلمون بمسطح للفرنج في البحر فيه مقاتلة من نستراوة. فلما كانت ليلة الأحد لأربع عشرة مضت من شعبان، مات الملك الصالح بالمنصورة، فلم يظهر موته، وحمل في تابوت إلى قلعة الروضة، وقام بأمر العسكر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ. فإنّ شجرة «1» الدر زوجة السلطان، لما مات أحضرت الأمير فخر الدين، والطواشي جمال الدين محسنا، وإليه أمر المماليك البحرية والحاشية وأعلمتهما بموته، فكتما ذلك خوفا من الفرنج، لأنهم كانوا قد أشرفوا على تملك ديار مصر، فقام الأمير فخر الدين بالتدبير. وسيروا إلى الملك المعظم توران شاه «2» ، وهو بحصن كيفا «3» ، الفارس أقطاي لإحضاره، وأخذ الأمير فخر الدين في تحليف العسكر للملك الصالح، وابنه الملك المعظم بولاية العهد من بعده، وللأمير فخر الدين بأتابكية العسكر، والقيام بأمر الملك حتى حلفهم كلهم بالمنصورة وبالقاهرة في دار الوزارة عند الأمير حسام الدين بن أبي عليّ في يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من شعبان، وكانت العلامات تخرج من الدهاليز السلطانية بالمنصورة إلى القاهرة بخط خادم يقال له: سهيل لا يشك من رآها، إنها خط السلطان، ومشى ذلك على الأمير حسام الدين بالقاهرة، ولم يتفوّه أحد بموت السلطان إلى أن كان يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان، ورد الأمر إلى القاهرة بدعاء الخطباء في الجمعة الثانية للملك المعظم بعد الدعاء للسلطان، وأن ينقش اسمه على السكة، فلما علم الفرنج بموت السلطان، خرجوا من دمياط بفارسهم وراجلهم، وشوانيهم تحاذيهم في البحر حتى نزلوا، فارسكور يوم الخميس لخمس بقين من شعبان. فورد في يوم الجمعة من الغد كتاب إلى القاهرة من العسكر، أوّله: انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، وفيه مواعظ بليغة بالحث على الجهاد، فقرىء على منبر جامع القاهرة، وقد جمع الناس

لسماعه، فارتجت القاهرة ومصر، وظواهرهما بالبكاء والعويل، وأيقن الناس باستيلاء الفرنج على البلاد لخلوّ الوقت من ملك يقوم بالأمر لكنهم لم يهنوا، وخرجوا من القاهرة ومصر، وسائر الأعمال، فاجتمع عالم عظيم. فلما كان يوم الثلاثاء أوّل شهر رمضان، اقتتل المسلمون والفرنج، فاستشهد العلائيّ أمير مجلس وجماعة، ونزل الفرنج، شارمساح «1» ، وفي يوم الاثنين سابعه نزلوا البرمون، فاضطرب الناس وزلزلوا زلزالا شديدا لقربهم من العسكر، وفي يوم الأحد ثالث عشره، وصلوا تجاه المنصور، وصار بينهم وبين المسلمين، بحر أشموم، وخندقوا عليهم وأداروا على خندقهم سورا ستروه بكثير من الستائر، ونصبوا المجانيق، ليرموا بها على المسلمين، وصارت شوانيهم بإزائهم في بحر النيل، وشواني المسلمين بإزاء المنصورة، والتحم القتال برّا وبحرا. وفي سادس عشره نفر إلى المسلمين، ستة خيالة، أخبروا بمضايقة الفرنج، وفي يوم عيد الفطر، أسروا من الفرنج، كند من أقارب الملك، وأبلى عوامّ المسلمين في قتال الفرنج بلاء كبيرا، وأنكوهم نكاية عظيمة، وصاروا يقتلون منهم في كل وقت، ويأسرون ويلقون أنفسهم في الماء، ويمرّون فيه إلى الجانب الذي فيه الفرنج، ويتحيلون في اختطاف الفرنج بكل حيلة، ولا يهابون الموت، حتى إن إنسانا قوّر بطيخة، وحملها على رأسه، وغطس في الماء حتى حاذى الفرنج، فظنه بعضهم بطيخة، ونزل حتى يأخذها، فخطفه وأتى به إلى المسلمين، وفي يوم الأربعاء سابع شوّال، أخذ المسلمون شونة للفرنج فيها: كندا، ومائتا رجل، وفي يوم الخميس النصف منه ركب الفرنج إلى برّ المسلمين واقتتلوا فقتل منهم أربعون فارسا، وسير في عدّة إلى القاهرة بسبعة وستين أسيرا منهم: ثلاثة من أكابر الدوادارية، وفي يوم الخميس، ثاني عشرية أحرقت للفرنج مرمّة عظيمة في البحر، واستظهر المسلمون عليهم، وكان بحر أشموم فيه مخايض، فدل بعض من لا دين له ممن يظهر الإسلام الفرنج عليها، فركبوا سحر يوم الثلاثاء خامس ذي القعدة أو رابعه، ولم يشعر المسلمون بهم إلا وقد هجموا على العسكر، وكان الأمير فخر الدين قد عبر إلى الحمام، فأتاه الصريخ بأنّ الفرنج قد هجموا على العسكر، فركب دهشا غير معتدّ، ولا متحفظ وساق ليأمر الأمراء والأجناد بالركوب في طائفة من مماليكه، فلقيه عدّة من الفرنج الدوادارية «2» ، وحملوا عليه ففرّ أصحابه، وأتته طعنة في جنبه، وأخذته السيوف من كل جانب حتى لحق بالله عز وجل، وفي الحال غدت مماليكه في طائفة إلى داره، وكسروا صناديقه وخزائنه،

ونهبوا أمواله وخيوله، وساق الفرنج عند مقتل الأمير فخر الدين إلى المنصورة، ففرّ المسلمون خوفا منهم، وتفرّقوا يمنة ويسرة، وكادت الكسرة أن تكون، وتمحوا الفرنج كلمة الإسلام من أرض مصر، ووصل الملك، رواد فرنس إلى باب قصر السلطان، ولم يبق إلا أن يملكه فأذن الله تعالى أنّ طائفة المماليك من البحرية والجمدارية «1» ، الذين استجدّهم الملك الصالح، ومن جملتهم: بيبرس البندقداري حملوا على الفرنج حملة صدقوا فيها اللقاء، حتى أزاحوهم عن مواقفهم، وأبلوا في مكافحتهم بالسيوف والدبابيس، فانهزموا وبلغت عدّة من قتل من فرسان الفرنج الخيالة في هذه النوبة، ألفا وخمسمائة فارس، وأما الرجالة فإنها كانت وصلت إلى الجسر لتعدّي، فلو تراخى الأمر حتى صاروا مع المسلمين لأعضل الداء، على أن هذه الواقعة كانت بين الأزقة والدروب، ولولا ضيق المجال، لما أفلت من الفرنج أحد فنجا من بقي منهم، وضربوا عليهم سورا وحفروا خندقا، وصارت طائفة منهم في البرّ الشرقيّ، ومعظمهم في الجزيرة المتصلة بدمياط، وكانت البطاقة عند الكبسة سرّحت على جناح الطائر إلى القاهرة، فانزعج الناس انزعاجا عظيما، ووردت السوقة وبعض العسكر، ولم تغلق أبواب القاهرة ليلة الأربعاء، وفي يوم الأربعاء: سقط الطائر بالبشارة بهزيمة الفرنج، وعدّة من قتل منهم، فزينت القاهرة وضربت البشائر بقلعة الجبل. وسار المعظم، توران شاه إلى دمشق، فدخلها يوم السبت آخر شهر رمضان، واستولى على من بها، ولأربع مضين من شوّال، سقط الطائر بوصوله إلى دمشق، فضربت البشائر في العسكر بالمنصورة، وفي قلعة الجبل، وسار من دمشق لثلاث بقين منه، فتواترت الأخبار بقدومه، وخرج الأمير حسام الدين بن أبي عليّ إلى لقائه، فوافاه بالصالحية لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، ومن يومئذ أعلن بموت الملك الصالح، بعد ما كان قبل ذلك لا ينطق أحد بموته البتة، بل الأمور على حالها، والدهليز السلطانيّ بحاله والسماط على العادة، وشجرة الدر، أم خليل زوجة السلطان تدبر الأمور، وتقول: السلطان مريض ما إليه وصول، ثم سار من الصالحية، فتلقاه الأمراء والمماليك، واستقرّ بقصر السلطنة من المنصورة يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي القعدة، وفي أثناء هذه المدّة، عمل المسلمون مراكب وحملوها على الجمال إلى بحلة المحلة، وألقوها فيه وشحنوها بالمقاتلة، فعند ما حاذت مراكب الفرنج بحر المحلة، وتلك المراكب فيه مكمنة، خرجت عليهم ووقع الحرب بينهما، وقدم الأسطول الإسلاميّ من جهة المنصورة، وأحاط بالفرنج، فظفر باثنين وخمسين مركبا للفرنج، وقتل وأسر منهم نحو ألف رجل، فانقطعت الميرة عن الفرنج، واشتدّ عندهم الغلاء، وصاروا محصورين.

فلما كان أوّل يوم من ذي الحجة، أخذ الفرنج من المراكب في بحر المحلة سبع حراريق، وفرّ من كان فيها من المسلمين، وفي يوم عرفة برزت الشواني الإسلامية إلى مراكب قدمت للفرنج فيها ميرة، فأخذت منها اثنين وثلاثين مركبا منها تسع شواني، فوهنت قوّة الفرنج، وتزايد الغلاء عندهم، وشرعوا في طلب الهدنة من المسلمين، على أن يسلموا دمياط، ويأخذوا بدلا منها القدس، وبعض بلاد الساحل، فلم يجابوا إلى ذلك، فلما كان اليوم السابع والعشرون من ذي الحجة، أحرق الفرنج أخشابهم كلها، وأتلفوا مراكبهم، يريدون التحصن بدمياط، ورحلوا في ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرّم سنة ثمان وأربعين وستمائة إلى دمياط، وأخذت مراكبهم في الانحدار قبالتهم، فركب المسلمون أقفيتهم بعدما عدّوا إلى برّهم وطلع الفجر من يوم الأربعاء، وقد أحاط المسلمون بالفرنج، وقتلوا وأسروا منهم كثيرا، حتى قيل: إن عدد من قتل من الفرسان على فارسكور «1» ، يزيد على عشرة آلاف، وأسر من الخيالة والرجال والصناع والسوقة، ما يناهز مائة ألف، ونهب من المال والذخائر والخيول والبغال، ما لا يحصى، وانحاز الملك رواد فرنس، وأكابر الفرنج إلى تلّ، ووقفوا مستسلمين، وسألوا الأمان، فأمنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحيّ، ونزلوا على أمانة. وأحيط بهم وسيقوا إلى المنصورة، فقيد رواد فرنس، واعتقل في الدار التي كان ينزل فيها القاضي، فخر الدين إبراهيم بن لقمان، كاتب الإنشاء، ووكل به الطواشي صبيح المعظميّ، واعتقل معه أخوه ورتب له راتب يحمل إليه في كل يوم، ورسم الملك المعظم لسيف الدين يوسف بن الطوري أحد من وصل صحبته من الشرق أن يتولى قتل الأسرى، فكان يخرج منهم كل ليلة، ثلثمائة رجل ويقتلهم، ويلقيهم في البحر حتى فنوا. ولما قبض على الملك رواد فرنس، رحل الملك المعظم من المنصورة، ونزل بالدهليز السلطانيّ على فارسكور وعمل له برجا من خشب وتراخى في قصد دمياط، وكتب بخطه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور، نائبه بدمشق وولده توران شاه. الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وما النصر إلا من عند الله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وأما بنعمة ربك فحدّث، وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، نبشر المجلس السامي الجماليّ، بل نبشر المسلمين كافة بما منّ الله به على المسلمين، من الظفر بعدوّ الدين فإنه كان قد استكمل أمره، واستحكم شرّه، ويئس العباد من البلاد، والأهل والأولاد فنودوا ألا تيأسوا من روح الله. ولما كان يوم الاثنين مستهلّ السنة المباركة، وهي سنة ثمان وأربعين وستمائة، تمم

الله على الإسلام بركتها، فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال، وفرّقنا السلاح، وجمعنا العربان والمطوّعة، وخلقا لا يعلمهم إلا الله جاءوا من كل فج عميق، ومكان سحيق، فلما رأى العدوّ ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع الاتفاق بينهم، وبين الملك الكامل فأبينا، ولما كانت ليلة الأربعاء تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم، وقصدوا دمياط هاربين، فسرنا في آثارهم طالبين، وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامّة الليل، وقد حلّ بهم الخزي والويل، فلما أصبحنا يوم الأربعاء، قتلنا منهم ثلاثين ألفا غير من ألقى نفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدّث عن الحر، ولا حرج، والتجأ الفرنسيس إلى المينة، وطلب الأمان، فأمّناه، وأخذناه وأكرمناه، وسلمناه دمياط بعون الله تعالى، وقوّته وجلاله وعظمته، وبعث مع الكتاب غفارة الملك فرنسيس، فلبسها الأمير جمال الدين بن يغمور، وهي: اشكر لاطا أحمر بفرو سنجاب، فقال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل: إنّ غفارة الفرنسيس جاءت ... فهي حقا لسيد الأمراء كبياض القرطاس لونا ولكن ... صبغتها سيوفنا بالدماء وقال آخر: أسيّد أملاك الزمان بأسرهم ... تنجزت من نصر الإله وعوده فلا زال مولانا يبيح حمى العدى ... ويلبس أثواب الملوك عبيده وأخذ الملك المعظم، يهدّد زوجة أبيه، شجرة الدر، ويطالبها بمال أبيه، فخافته وكاتبت مماليك الملك الصالح، تحرّضهم عليه، وكان المعظم لما وصل إليه الفارس، أقطاي إلى حصن كيفا، وعده أن يعطيه إمرة، فلم يف له بها، وأعرض مع ذلك عن مماليك أبيه، واطّرح أمراءه، وصرف الأمير حسام الدين بن أبي عليّ، عن نيابة السلطنة، وأحضره إلى العسكر، ولم يعبأ به وأبعد غلمان أبيه، واختص بمن وصل معه من المشرق، وجعلهم في الوظائف السلطانية، فجعل الطواشي مسرورا خادمه إستادارا، وعمل صبيحا، وكان عبدا حبشيا فحلا خازنداره، وأمر أن تكون له عصا من ذهب، وأعطاه مالا جزيلا، وإقطاعات جليلة، وكان إذا سكر جمع الشمع، وضرب رؤوسها بالسيف، حتى تنقطع، ويقول هكذا أفعل بالبحرية، فإنه كان فيه هرج وخفة، واحتجب على العكوف بملاذه، فنفرت منه النفوس، وبقي كذلك إلى يوم الاثنين، تاسع عشري المحرّم، وقد جلس على السماط، فتقدّم إليه أحد المماليك البحرية، وضربه بسيف قطع أصابع يديه، ففرّ إلى البرج، فاقتحموا عليه، وسيوفهم مصلتة، فصعد أعلى البرج الخشب، فرموه بالنشاب، وأطلقوا الناس في البرج، فألقى نفسه ومرّ إلى البحر، وهو يقول: ما أريد ملككهم دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين؟ ما فيكم من يصطنعني ويجيرني؟ وسائر العساكر بالسيوف واقفة، فلم يجبه أحد والنشاب يأخذه من كل ناحية، وأدركوه، فقطع بالسيوف ومات حريقا غريقا قتيلا

في يوم الاثنين المذكور، وترك على الشط ثلاثة أيام، ثم دفن. ولما قتل الملك المعظم، اتفق أهل الدولة، على إقامة شجرة الدر، والدة خليل في مملكة مصر، وأن يكون مقدّم العسكر الأمير عز الدين «1» أيبك التركمانيّ الصالحيّ، وحلف الكل على ذلك، وسيروا إليها عز الدين الروميّ، فقدم عليها في قلعة الجبل، وأعلمها بما اتفق فرضيت به، وكتبت على التواقيع علامتها، وهي والدة خليل، وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة، وجرى الحديث مع الملك روادفرنس في تسليم دمياط، وتولى مفاوضته في ذلك الأمير حسام الدين بن أبي عليّ الهديانيّ، فأجاب إلى تسليمها، وأن يخلى عنه بعد محاورات، وسير إلى الفرنج بدمياط يأمرهم بتسليمها إلى المسلمين، فسلموها بعد جهد جهيد من كثرة المراجعات في يوم الجمعة ثالث صفر، ورفع العلم السلطانيّ على سورها، وأعلن فيها بكلمة الإسلام، وشهادة الحق بعد ما أقامت بيد الفرنج، أحد عشر شهرا وسبعة أيام، وأفرج عن الملك روادفرنس، وعن أخيه، وزوجته، ومن بقي من أصحابه إلى البرّ الغربيّ، وركبوا البحر من الغد، وهو يوم السبت رابع صفر، وأقلعوا إلى عكا. وفي هذه النوبة يقول الوزير جمال الدين يحيى بن مطروح: قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال نصح عن قؤول نصيح آجرك الله على ما جرى ... من قبل عباد يسوع المسيح أتيت مصر تبتغي ملكها ... تحسب أنّ الزمر يا طبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفا لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لأمثالها ... لعلّ عيسى منكم يستريح إن كان بابا كم بذار راضيا ... فرب غشّ قد أتى من نصيح قل لهم أن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لنقد صحيح دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح وقدّر الله أن الفرنسيس هذا بعد خلاصه من هذه الوقعة جمع عدّة جموع، وقصد يونس، فقال شاب من أهلها يقال له أحمد بن إسماعيل الزيات: يا فرنسيس هذه أخت مصر ... فتأهب لما إليه تصير لك فيها دار ابن لقمان قبر ... وطواشيك منكر ونكير

فكان هذا فألا حسنا، فإنه مات وهو على محاصرة تونس، ولما تسلم الأمراء دمياط وردت البشرى إلى القاهرة، فضربت البشائر، وزينت القاهرة ومصر، فقدمت العساكر من دمياط يوم الخميس تاسع صفر، فلما كان في سلطنة الأشرف موسى بن الملك المسعود، أقسيس بن الملك الكامل، والملك المعزّ عز الدين التركمانيّ، وكثر الاختلاف بمصر، واستولى الملك الناصر يوسف بن العزيز على دمشق، اتفق أرباب الدولة بمصر، وهم المماليك البحرية على تخريب مدينة دمياط خوفا من مسير الفرنج إليها مرّة أخرى، فسيروا إليها الحجارين والفعلة، فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين الثامن عشر من شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة، حتى خربت كلها، ومحيت آثارها، ولم يبق منها سوى الجامع، وصار في قبليها أخصاص على النيل سكنها الناس الضعفاء، وسمّوها المنشية، وهذا السور هو الذي بناه أمير المؤمنين المتوكل على الله، كما تقدّم ذكره. فلما استبدّ الملك الظاهر بيبرس البندقداري: الصالحيّ بمملكة مصر بعد قتل الملك المظفر «1» ، قطز أخرج من مصر عدّة من الحجارين في سنة تسع وخمسين وستمائة، لردم فم بحر دمياط، فمضوا وقطعوا كثيرا من القرابيص، وألقوها في بحر النيل الذي ينصب من شمال دمياط في البحر الملح، حتى ضاق، وتعذر دخول المراكب منه إلى دمياط، وهو إلى اليوم على ذلك لا تقدر مراكب البحر الكبار أن تدخل منه، وإنما ينقل ما فيها من البضائع في مراكب نيلية تعرف عند أهل دمياط، بالجروم واحدها: جرم، وتصير مراكب البحر، جبل في فم البحر، أو رمل يتربى هناك، وهذا قول باطل، حملهم عليه ما يجدونه من تلاف المراكب إذا هجمت على هذا المكان، وجهلهم بأحوال الوجود، وما مرّ من الوقائع، وإلى يومنا هذا يخاف على المراكب عند ورودها فم البحر، وكثيرا ما تتلف فيه. وقد سرت إليه حتى شاهدته، ورأيته من أعجب ما يراه الإنسان. وأما دمياط الآن فإنها حدثت بعد تخريب مدينة دمياط، وعمل هناك أخصاص، وما برحت تزداد إلى أن صارت بلدة كبيرة ذات أسواق وحمامات وجوامع ومدارس ومساجد، ودورها تشرف على النيل الأعظم، ومن ورائها البساتين، وهي أحسن بلاد الله منظرا. وقد أخبرني الأمير الوزير المشير الإستادار يلبغا السالميّ رحمه الله أنه لم ير في البلاد التي سلكها من سمرقند إلى مصر أحسن من دمياط هذه، فظننت أنه يغلو في مدحها إلى أن شاهدتها، فإذا هي أحسن بلد وأنزهه، وفيها أقول:

سقى عهد دمياط وحياه من عهد ... فقد زادني ذكراه وجدا على وجد ولا زالت الأنواء تسقي سحابها ... ديارا حكت من حسنها جنة الخلد فيا حسن هاتيك الديار وطيبها ... فكم قد حوت حسنا يجلّ عن العدّ فلله أنهار تحف بروضها ... لكالمرهف المصقول أو صفحة الخد وبشنينها الريان يحكي متيما ... تبدّل من وصل الأحبة بالصدّ فقام على رجليه في الدمع غارقا ... يراعي نجوم الليل من وحشة الفقد وظلّ على الأقدام تحسب أنه ... لطول انتظار من حبيب على وعد ولا سيما تلك النواعير إنها ... تجدّد حزن الواله المدنف الفرد أطارحها شجوي وصارت كأنما ... تطارح شكواها بمثل الذي أبدي فقد خلتها الأفلاك فيها نجومها ... تدور بمحض النفع منها وبالسعد وفي البرك الغرّاء يا حسن نوفر ... حلا وغدا بالزهو يسطو على الورد سماء من البلور فيها كواكب ... عجيبة صبغ اللون محكمة النضد وفي شاطىء النيل المقدّس نزهة ... تعيد شباب الشيب في عيشه الرغد وتنشي رياحا تطرد الهمّ والأسى ... وتنشي ليالي الوصل من طيبها عندي وفي مرج البحرين جمّ عجائب ... تلوح وتبدو من قريب ومن بعد كأنّ التقاء النيل بالبحر إذ غدا ... مليكان سارا في الجحافل من جند وقد نزلا للحرب واحتدم اللقا ... ولا طعن إلا بالمثقفة الملد فظلا كما باتا وما برحا كما ... هما من جليل الخطب في أعظم الجهد فكم قد مضى لي من أفانين لذة ... بشاطئها العذب الشهيّ لذي الورد وكم قد نعمنا في البساتين برهة ... بعيش هنيء في أمان وفي سعد وفي البرزخ المأنوس كم لي خلوة ... وعند شطا عن أيمن العلم الفرد هناك ترى عين البصيرة ما ترى ... من الفضل والأفضال والخير والمجد فيا رب هيئ لي بفضلك عودة ... ومنّ بها في غير بلوى ولا جهد وبدمياط حيث كانت المدينة التي هدمت جامع من أجلّ مساجد المسلمين تسمية العامّة، مسجد فتح، وهو المسجد الذي أسسه المسلمون عند فتح دمياط. أوّل ما فتح الله أرض مصر على يد عمرو بن العاص، وعلى بابه مكتوب بالقلم الكوفيّ، أنه عمر بعد سنة خمسمائة من الهجرة، وفيه عدّة من عمد الرخام منها، ما يعز وجود مثله، وإنما عرف بجامع فتح لنزول شخص يقال له: فاتح به، فقالت العامّة: جامع فتح. وإنما هو: فاتح بن عثمان الأسمر التكروريّ، قدم من مراكش إلى دمياط على قدم

التجريد، وسقى بها الماء في الأسواق احتسابا من غير أن يتناول من أحد شيئا، ونزل في ظاهر الثغر ولزم الصلاة مع الجماعة، وترك الناس جميعا، ثم أقام بناحية تونة من بحيرة تنيس، وهي خراب نحو سبع سنين، ورمّ مسجدها، ثم انتقل من تونة إلى جامع دمياط، وأقام في وكر بأسفل المنارة من غير أن يخالط أحدا إلا إذا أقيمت الصلاة، خرج وصلى فإذا سلّم الإمام، عاد إلى وكره، فإن عارضه أحد بحديث كلّمه، وهو قائم بعد انصرافه من الصلاة، وكانت حاله أبدا اتصالا في انفصال، وقربا في ابتعاد، وأنسا في نفار، وحج فكان يفارق أصحابه عند الرحيل، فلا يرونه إلا وقت النزول، ويكون سيره منفردا عنهم لا يكلم أحدا إلى أن عاد إلى دمياط، فأخذ في ترميم الجامع، وتنظيفه بنفسه، حتى نقي ما كان فيه من الوطواط بسقوفه، وساق الماء إلى صهاريجه، وبلط صحنه وسبك سطحه بالجبس، وأقام فيه. وكان قبل ذلك من حين خربت دمياط، لا يفتح إلا في يوم الجمعة فقط، فرتب فيه إماما راتبا يصلي الخمس، وسكن في بيت الخطابة، وواظب على إقامة الأوراد به، وجعل فيه قرّاء يتلون القرآن بكرة وأصيلا وقرّر فيه رجلا يقرأ ميعادا يذكر الناس ويعلمهم، وكان يقول: لو علمت بدمياط مكانا أفضل من الجامع لأقمت به، ولو علمت في الأرض بلدا يكون فيه الفقير، أخمل من دمياط لرحلت إليه، وأقمت به، وكان إذا ورد عليه أحد من الفقراء، ولا يجد ما يطعمه باع، من لباسه ما يضيفه به، وكان يبيت ويصبح، وليس له معلوم، ولا ما يقع عليه العين، أو تسمعه الأذن، وكان يؤثر في السرّ الفقراء والأرامل، ولا يسأل أحدا شيئا، ولا يقبل غالبا، وإذا قبل ما يفتح الله عليه آثر به، وكان يبذل جهده في كتم حاله، والله تعالى يظهر خيره وبركته من غير قصد منه لذلك، وعرفت له عدّة كرامات، وكان سلوكه على طريق السلف من التمسك بالكتاب والسنة والنفور عن الفتنة، وترك الدعاوي واطراحها وستر حاله والتحفظ في أقواله، وأفعاله، وكان لا يرافق أحدا في الليل، ولا يعلم أحد يوم صومه من يوم فطره، ويجعل دائما قول إن شاء الله تعالى، مكان قول غيره، والله. ثم إنّ الشيخ عبد العزيز الدميريّ، أشار عليه بالنكاح وقال له: النكاح من السنة، فتزوّج في آخر عمره بامرأتين ولم يدخل على واحدة منهما نهارا البتة، ولا أكل عندهما، ولا شرب قط، وكان ليله ظرفا للعبادة، لكنه يأتي إليهما أحيانا، وينقطع أحيانا لاستغراق زمنه كله في القيام بوظائف العبادات وإيثار الخلوة، وكان خواص خدمه لا يعلمون بصومه من فطره، وإنما يحمل إليه ما يأكل، ويوضع عنه بالخلوة، فلا يرى قط آكلا، وكان يحب الفقر، ويؤثر حال المسكنة، ويتطارح على الخمول والجفا ويتواضع مع الفقراء، ويتعاظم على العظماء والأغنياء، وكان يقرأ في المصحف، ويطالع الكتب، ولم يره أحد يخط بيده شيئا، وكانت تلاوته للقرآن بخشوع وتدبر، ولم يعمل له سجادة قط، ولا أخذ على أحد عهدا، ولا لبس طاقية، ولا قال أنا شيخ، ولا أنا فقير، ومتى قال في كلامه: إنا تفطّن لما

ذكر شطا

وقع فيه، واستعاذ بالله من قول أنا، ولا حضر قط سماعا، ولا أنكر على من يحضره، وكان سلوكه صلاحا من غير إصلاح، ويبالغ في الترفع على أبناء الدنيا، ويترامى على الفقراء، ويقدّم لهم الأكل، ولم يقدّم لغنيّ أكلا البتة، وإذا اجتمع عنده الناس، قدّم الفقير على الغنيّ، وإذا مضى الفقير من عنده سار معه، وشيعه عدّة خطوات، وهو حاف بغير نعل ووقف على قدميه ينظره حتى يتوارى عنه، ومن كان من الفقراء يشار إليه بمشيخة، جلس بين يديه بأدب مع إمامته وتقدّمه في الطريق، ويقول: ما أقول لأحد افعل أو لا تفعل، من أراد السلوك يكفيه أن ينظر إلى أفعاله، فإنّ من لم يتسلك بنظره لا يتسلك بسمعه. وقال له شخص من خواصه: يا سيدي ادع الله لنا أن يفتح علينا، فنحن فقراء، فقال: إن أردتم فتح الله، فلا تبقوا في البيت شيئا، ثم اطلبوا فتح الله بعد ذلك، فقد جاء لا تسأل الله، ولك خاتم من حديد، ومن كلامه: الفقير بحال البكر، إذا سأل زالت بكارته، وسأله بعض خواصه: أن يدعو له بسعة، وشكا له الضيق، فقال: أنا ما أدعو لك بسعة بل أطلب لك الأفضل والأكمل. وكان مع اشتغاله بالعبادة واستغراق أوقاته فيها، لا يغفل عن صاحبه، ولا ينسى حاجته حتى يقضيها، ويلازم الوفاء لأصحابه ويحسن معاشرتهم، ويعرف أحوال الناس على طبقاتهم، ويعظم العلم ويكرم الأيتام ويشفق على الضعفاء والأرامل، ويبذل شفاعته في قضاء حوائج الخاص والعام من غير أن يملّ، ولا يتبرّم بكثرة ذلك، ويكثر من الإيثار في السرّ، ولا يمسك لنفسه شيئا، ويستقلّ ما منه مع كثرة إحسانه، ويستكثر ما يدفع إليه وإن كان يسيرا، ويكافىء عليه بأحسن منه، ولم يصحب قط، أميرا ولا وزيرا بل كان في سلوكه وطريقه يرفع في تواضع ويعزز مع مسكنة، وقرب في ابتعاد، واتصال في انفصال، وزهد في الدنيا، وأهلها، وكان أكبر من خبره، ومن دعائه لنفسه ولمن يسأل له الدعاء: اللهم بعّدنا عن الدنيا وأهلها، وبعّدها عنا، وما زال على ذلك إلى أن مات آخر ليلة أسفر صباحها عن الثامن من شهر ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وستمائة، وترك ولدين ليس لهما قوت ليلة، وعليه مبلغ ألفي درهم دينا، ودفن بجوار الجامع، وقبره يزار إلى يومنا هذا. ذكر شطا «1» شطا: مدينة عند تنيس ودمياط، وإليها تنسب الثياب الشطوية، ويقال: إنها عرفت بشطا بن الهاموك، وكان أبوه خال المقوقس، وكان على دمياط، فلما فتح الله الحصن على يد عمرو بن العاص، واستولى على أرض مصر، جهز بعثا لفتح دمياط، فنازلوها إلى أن

ملكوا سور المدينة، فخرج شطا في ألفين من أصحابه، ولحق بالمسلمين، وقد كان قبل ذلك يحب الخير، ويميل إلى ما يسمعه من سيرة أهل الإسلام. ولما ملك المسلمون دمياط، امتنع عليهم صاحب تنيس، فخرج شطا إلى البرلس والدميرة وأشموم طناح يستنجد، فجمع الناس لقتال أهل تنيس، وسار بهم من كان بدمياط من المسلمين، ومن قدم مددا من عند عمرو بن العاص إلى قتال أهل تنيس، فالتقى الفريقان، وأبلى شطا منهم بلاء حسنا، وقتل من أبطال تنيس اثني عشر رجلا، واستشهد في ليلة الجمعة النصف من شعبان سنة إحدى وعشرين من الهجرة، فقبر حيث هو الآن خارج دمياط، وبني على قبره، وصار الناس يجتمعون هناك في ليلة النصف من شعبان كل عام، ويغدون للحضور من القرى، وهم على ذلك إلى يومنا هذا، وكانت تعمل كسوة الكعبة بشطا. قال الفاكهيّ: ورأيت فيها كسوة من كسا أمير المؤمنين، هارون الرشيد من قباطيّ مصر مكتوبا عليها: بسم الله بركة من الله لعبد الله هارون أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، مما أمر الفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين بصنعته في طراز شطا، كسوة الكعبة سنة إحدى وتسعين ومائة. ومن المواضع المشهورة بدمياط: البرزخ: وهو مسجد بحيرة دمياط تسميه العامّة البرزخ، ولا أعرف مستندهم في ذلك، وشاهدت فيه عجبا، وهو أنّ به منارة كبيرة مبنية من الآجرّ إذا هزّها أحد، اهتزت، فلما صعدت أعلاها حيث يقف المؤذنون، وحرّكتها رأيت ظلها، قد تحرّك بتحريكي لها، ويوجد حول هذا المسجد، رمم أموات يشبه أن تكون ممن استشهد في وقائع الفرنج، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ديبق: قرية من قرى دمياط بنسب إليها الثياب المثقلة والعمائم الشرب الملوّنة، والديبقيّ العلم المذهب، وكانت العمائم الشرب المذهبة تعمل بها، ويكون طول كل عمامة منها مائة ذراع، وفيها رقمات منسوجة بالذهب، فتبلغ العمامة من الذهب، خمسمائة دينار، سوى الحرير والغزل. وحدثت هذه العمائم وغيرها في أيام العزيز بالله بن المعز سنة خمس وستين وثلثمائة، إلى أن مات في شعبان سنة ست وثمانين وثلثمائة. النحريرية: قرية من الأعمال الغربية أسس حكرها الأمير شمس الدين سنقر السعدي، نقيب الجيش في أيام الناصر محمد بن قلاون، وبالغ في عمارتها، فبلغت في أيامه عشرة آلاف درهم فضة، ثم خرج عنها، فعمرت للسلطان، واتسع أمرها حتى أنشئ فيها زيادة على ثلاثين بستانا، ووصل حكرها لكثرة سكانها إلى ألف درهم فضة لكل فدّان، وصارت

ذكر الطريق فيما بين مدينة مصر ودمشق

بلدا كبيرا لعمل يبلغ في السنة ما بين خراجيّ وهلاليّ ثلثمائة ألف درهم فضة عنها خمسة عشر ألف دينار ذهبا. ومات سنقر هذا في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وإليه تنسب المدرسة السعدية بخط حدرة البقر خارج باب زويلة. جزيرة بني نصر: منسوبة إلى بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، وذلك أن بني حماس بن ظالم بن جعيل بن عمرو بن درهمان بن نصير بن معاوية بن بكر بن هوازن، كانت لهم شوكة شديدة بأرض مصر، وكثروا حتى ملؤوا أسفل الأرض، وغلبوا عليها حتى قويت عليهم، قبيلة من البربر تعرف: بلواتة، ولواتة تزعم أنها من قيس، فأجلت بني نصر، وأسكنها الجدار، فصاروا أهل قرى في مكان عرف بهم وسط النيل، وهي جزيرة بني نصر هذه. ذكر الطريق فيما بين مدينة مصر ودمشق اعلم: أن البريد، أوّل من رتب دوابه الملك دارا بن بهمن بن كيبشتاسف بن كيهراسف، أحد ملوك الفرس. وأما في الإسلام، فأوّل من أقام البريد أمير المؤمنين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور، أقامه فيما بين مكة والمدينة واليمن، وجعله بغالا وإبلا، وذلك في سنة ست وستين ومائة. وأصل هذه الكلمة، بريد ذنب، فإنّ دارا: أقام في سكك البريد، دوابّ محذوفة الأذناب سميت بريد ذنب، وحذف منها نصفها الأخير فقيل: بريد، وهذا الدرب الذي يسلكه العساكر والتجار وغيرهم، من القاهرة على الرمل إلى مدينة غزة، ليس هو الدرب الذي يسلك في القديم من مصر إلى الشام، ولم يحدث هذا الدرب الذي يسلك فيه من الرمل الآن إلا بعد الخمسمائة من سني الهجرة، عند ما انقرضت الدولة الفاطمية. وكان الدرب أوّلا قبل استيلاء الفرنج على سواحل البلاد الشامية غير هذا، قال أبو عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك وصفة الأرض والطريق من دمشق إلى الكسوة «1» : اثنا عشر ميلا، ثم إلى جاسم أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى فيق أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال، ومن طبرية إلى اللجون «2» عشرون

ميلا، ثم إلى القلنسوة عشرون ميلا، ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلا، والطريق من الرملة إلى أزدود اثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا في رمل، ثم إلى الورادة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى أم العرب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلا، ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا، فهذا كما ترى. إنما كان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق، على غير ما هو الآن، فيسلك من بلبيس إلى الفرما في البلاد التي تعرف اليوم ببلاد السباخ من الحوف، ويسلك من الفرما وهي بالقرب من قطية إلى أم العرب، وهي بلاد خراب على البحر، فيما بين قطية والورادة، ويقصدها قوم من الناس، ويحفرون في كيمانها، فيجدون دراهم من فضة خالصة ثقيلة الوزن، كبيرة المقدار، ويسلك من أم العرب، إلى الورادة وكانت بلدة في غير موضعها الآن، قد ذكرت في هذا الكتاب. فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية في سنة تسعين وأربعمائة لأخذ البلاد من أيدي المسلمين، وأخذ بغدوين الشوبك وعمّره في سنة تسع وخمسمائة، وكان قد خرب من تقادم السنين، وأغار على العريش، وهو يومئذ عامر، بطل السفر حينئذ من مصر إلى الشام، وصار يسلك على طريق البرّ مع العرب مخافة الفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، بيت المقدس من أيدي الفرنج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وأكثر من الإيقاع بالفرنج، وافتتح منهم عدّة بلاد بالساحل، وصار يسلك هذا الدرب على الرمل، فسلكه المسافرون من حينئذ إلى أن ولي ملك مصر، الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، فأنشأ بأرض السباخ على طرف الرمل بلدة عرفت إلى اليوم بالصالحية، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة، وصار ينزل بها ويقيم فيها، ونزل بها من بعده الملوك. فلما ملك مصر الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، رتب البريد في سائر الطرقات، حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام، ويعود في مثلها، فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرّتين، ويتحكم في سائر ممالكه بالعزل والولاية، وهو مقيم بالقلعة، وأنفق في ذلك مالا عظيما حتى تم ترتيبه، وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة، وما زال أمر البريد مستمرّا فيما بين القاهرة ودمشق، يوجد بكل مركز من مراكزه عدّة من الخيول المعدّة للركوب، وتعرف بخيل البريد، وعندها عدّة سوّاس، وللخيل رجال يعرفون بالسوّاقين، وأحدهم سوّاق يركب مع رسم بركوبه، خيل البريد ليسوق له فرسه، ويخدمه مدّة مسيره، ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطانيّ، فتارة يمنع الناس من ركوبه إلا من انتدبه السلطان لمهماته،

ذكر مدينة حطين

وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطانيّ، وكانت طرق الشام عامرة يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد وعلف وغيره ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة، أو ماشية، لا تحمل زادا ولا ماء. فلما أخذ تيمور لنك دمشق، وسبى أهلها، وحرّقها في سنة ثلاث وثمانمائة، خربت مراكز البريد، واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد من المحن، وما دهوا به من كثرة الفتن عن إقامة البريد، فاختلّ بانقطاعه طريق الشام خللا فاحشا، والأمر على ذلك إلى وقتنا هذا، وهو سنة ثمان عشرة وثمانمائة. ذكر مدينة حطين «1» هذه المدينة: آثارها إلى اليوم باقية، فيما بين حبوة، والعاقولة بأرض العاقولة، فيما بين قطية، والعريش، تجاهها بميل ماء عذب تسميه العرب: أبا العروق، وهو شرقيها، وهذه المدينة تنسب إلى حطين، ويقال: حطي بن الملك أبي جاد المديني، وأهل قطية اليوم يسمون تلك الأرض، ببلاد حطين والجفر، وملك حطين هذا، أرض مصر بعد موت أبيه، وكان صاحب حرب وبطش، وكان ينزل بقلعة في جبال الأردن قريبا من طبرية وإليه تنسب قرية حطين التي بها الآن قبر شعيب بالقرب من صفد. ذكر مدينة الرقة هذه المدينة: من جملة مدائن: مدين، فيما بين بحر القلزم وجبل الطور، كان بها عند ما خرج موسى عليه السلام، ببني إسرائيل من مصر، قوم من لخم آل فرعون، يعبدون البقر، وإياهم عني الله بقوله تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف/ 138] الآية. قال قتادة: أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالرقة، وقيل: كانت أصنامهم تماثيل البقر، ولهذا أخرج لهم السامريّ عجلا، وآثار هذه المدينة باقية إلى اليوم، فيما بقي من مدينة فاران، والقلزم، ومدين، وأيلة «2» ، تمرّ بها الأعراب.

ذكر عين شمس

ذكر عين شمس «1» وكان يقال لها في القديم: رعمساس، وكانت عين شمس، هيكلا يحج الناس إليه، ويقصدونه من أقطار الأرض في جملة ما كان يحج إليه من الهياكل التي كانت في قديم الدهر، ويقال: إنّ الصابئة أخذت هذه الهياكل عن عاد وثمود، ويزعمون أنه عن شيث بن آدم، وعن هرمس الأوّل، وهو إدريس، وإن إدريس هو أوّل من تكلم في الجواهر العلوية والحركات النجومية، وبنى الهياكل ومجد الله فيها. ويقال: إنّ الهياكل كانت عدّتها في الزمن الغابر: اثني عشر هيكلا، وهي هيكل: العلة الأولى، وهيكل: العقل، وهيكل: السياسة، وهيكل: الصورة، وهيكل: النفس؛ وكانت هذه الهياكل الخمسة مستديرات، والهيكل السادس هيكل: زحل، وهو مسدّس، وبعده هيكل: المشتري وهو مثلث، ثم هيكل: المرّيخ، وهو مربع، وهيكل: الشمس، وهو أيضا مربع، وهيكل: الزهرة، وهو مثلث مستطيل، وهيكل: عطارد مثلث في جوف مربع مستطيل، وهيكل: القمر مثمن. وعللوا عبادتهم للهياكل بأن قالوا: لما كان صانع العالم مقدّسا عن صفات الحدوث، وجب العجز عن إدراك جلاله، وتعين أن يتقرّب إليه عباده بالمقرّبين لديه، وهم: الروحانيون ليشفعوا لهم، ويكونوا وسائط لهم عنده، وعنوا بالروحانيين: الملائكة، وزعموا أنها المدبرات للكواكب السبعة السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها وأنه لا بدّ لكل روحانيّ من هيكل، ولا بدّ لكل هيكل من فلك، وأن نسبة الروحانيّ، إلى الهيكل نسبة الروح إلى الجسد، وزعموا: أنه لا بدّ من رؤية المتوسط بين العباد، وبين بارئهم حتى يتوجه إليه العبد بنفسه، ويستفيد منه، ففزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات، فعرفوا بيوتها من الفلك، وعرفوا مطالعها ومغاربها واتصالاتها، وما لها من الأيام والليالي، والساعات والأشخاص والصور والأقاليم، وغير ذلك مما هو معروف في موضعه من العلم الرياضي. وسموا هذه السبعة السيارة: أربابا وآلهة، وسموا: الشمس إله الآلهة ورب الأرباب، وزعموا أنها المفيضة على ألسنة أنوارها، والمظهرة فيها آثارها، فكانوا يتقرّبون إلى الهياكل تقرّبا إلى الرّوحانيين لتقرّبهم إلى الباري، لزعمهم أن الهياكل أبدان الروحانيين، وكلّ من تقرّب إلى شخص، فقد تقرّب إلى روحه. وكانوا: يصلون لكل كوكب يوما، يزعمون أنه رب ذلك اليوم، وكانت صلاتهم في ثلاثة أوقات: الأولى عند طلوع الشمس، والثانية عند استوائها في الفلك، والثالثة عند

غروبها، فيصلون لزحل يوم السبت، وللمشتري يوم الأحد، وللمريخ يوم الاثنين، وللشمس يوم الثلاثاء، وللزهرة يوم الأربعاء، ولعطارد يوم الخميس، وللقمر يوم الجمعة. ويقال: إنه كان ببلخ «1» هيكل بناه: بنو حمير على اسم القمر لتعارض به الكعبة، فكانت الفرس تحجه وتكسوه الحرير، وكان اسمه: نوبهر، فلما تمجست الفرس، عملته بيت نار، وقيل للموكل بسدانته: برمك، يعني والي مكة، وانتهت البرمكة إلى جد خالد جدّ جعفر بن يحيى بن خالد، فأسلم على يد هشام بن عبد الملك، وسماه عبد الله، وخرّب هذا الهيكل، قيس بن الهيثم في أوّل خلافة معاوية سنة إحدى وأربعين، وكان بناء عظيما حوله أروقة وثلثمائة وستون مقصورة لسكن خدّامه. وكان بصنعاء، قصر غمدان من بناء الضحاك، وكان هيكل الزهرة، وهدم في خلافة عثمان بن عفان. وكان بالأندلس: في الجبل الفارق بين جزيرة الأندلس، والأرض الكبيرة، هيكل المشتري من بناء كلوبطرة بنت بطليموس. وكان بفرعانة «2» بيت يقال له: كلوسان هيكل للشمس، بناه بعض ملوك الفرس، الأول خرّبه المعتصم، وقد اختلف فيمن بنى هيكل عين شمس، وسأقص من أخباره ما لم أره مجموعا في كتاب. قال ابن وصيف شاه: وقد كان الملك، منقاوس إذا ركب، عملوا بين يديه التخاييل العجيبة، فيجتمع الناس، ويعجبون من أعمالهم، وأمر أن يبنى له هيكل للعبادة يكون له خصوصا، ويجعل فيه قبة فيها صورة الشمس والكواكب، وجعل حولها أصناما، وعجائب، فكان الملك يركب إليه ويقيم فيه سبعة أيام، وجعل فيه عمودين زبر عليهما تاريخ الوقت الذي عمله فيه، وهما باقيان إلى اليوم، وهو الموضع الذي يقال له عين شمس، ونقل إلى عين شمس كنوزا وجواهر وطلسمات وعقاقير وعجائب، ودفنها بها وبنواحيها، وأقام ملكا بإحدى وتسعين سنة، ومات من الطاعون، وقيل: من سمّ، وعمل له ناوس في صحراء الغرب، وقيل: في غربيّ قوص، ودفن معه مصاحف الحكمة والصنعة، وتماثيل الذهب والجوهر، ومن الذهب المضروب شيء كثير، ودفن معه تمثال روحانيّ الشمس من ذهب يلمع، وله جناحان من زبرجد، وصنم على صورة امرأته، وكان يحبها. فلما ماتت، أمر أن تعمل صورتها في الهياكل كلها، وعمل صورتها من ذهب بذؤابتين

سوداوين، وعليها حلة من جواهر منظومة، وهي جالسة على كرسيّ، وكان يجعلها بين يديه في كل موضع يجلس فيه يتسلى بذلك عنها، فدفنت هذه الصورة معه تحت رجليه كأنها تخاطبه. وقال الحكيم الفاضل أحمد بن خليفة في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء: واشتاق فيثاغورس إلى الاجتماع بالكهنة الذين كانوا بمصر، فورد على أهل مدينة الشمس المعروفة في زماننا بعين شمس، فقبلوه قبولا كريما، وامتحنوه زمانا، فلم يجدوا عليه نقصا ولا تقصيرا، فوجهوا به إلى كهنة منف كي يبالغوا في امتحانه، فقبلوه على كراهة واستقصوا امتحانه، فلم يجدوا عليه معيبا، ولا أصابوا له عثرة، فبعثوا به إلى أهل ديوسوس ليمتحنوه، فلم يجدوا عليه طريقا، ولا إلى إدحاضه سبيلا، ففرضوا عليه فرائض صعبة، كيما يمتنع من قبولها، فيدحضوه ويحرموه طلبته، مخالفة لفرائض اليونانين، فقبل ذلك، وقام به، فاشتدّ إعجابهم به، وفشا بمصر ورعه حتى بلغ ذكره إلى أماسيس ملك مصر، فأعطاه سلطانا على ضحايا الرب، وعلى سائر قرابينهم، ولم يعط ذلك لغريب قط. ويقال: إنه كان للكواكب السبعة السيارة، هياكل تحج الناس إليها من سائر أقطار الدنيا، وضعها القدماء، فجعلوا على اسم كل كوكب هيكلا في ناحية من نواحي الأرض، وزعموا أن البيت الأوّل هو الكعبة، وأنه مما أوصى إدريس الذي يسمونه هرمس الأوّل المثلث، أن يحج إليه، وزعموا أنه منسوب لزحل، والبيت الثاني بيت المرّيخ، وكان بمدينة صور من الساحل الشاميّ، والبيت الثالث للمشتري، وكان بدمشق، بناه جيرون بن سعد بن عاد، وموضعه الآن جامع بني أمية، والبيت الرابع بيت الشمس بمصر، ويقال: إنه من بناء هرشيك أحد ملوك الطبقة الأولى من ملوك الفرس، وهو المسمى بعين شمس، والبيت الخامس بيت الزهرة، وكان بمنتيح، والبيت السادس بيت عطارد، وهو بصيدا من ساحل البحر الشاميّ، والبيت السابع بيت القمر، وكان بحرّان «1» ويقال: إنه قلعتها، ويسمى المدوّر، ولم يزل عامرا إلى أن خرّبه التتر، ويقال: إنه كان هو هيكل الصابئة الأعظم. وقال شافع بن عليّ «2» في كتاب عجائب البلدان: وعين شمس مدينة صغيرة تشاهد سورها محدقا بها مهدوما، ويظهر من أمرها أنها كانت بيت عبادة، وفيها من الأصنام الهائلة العظيمة الشكل من نحيت الحجارة ما يكون طول الصنم، بقدر ثلاثين ذراعا، وأعضاؤه في تلك النسبة من العظم، وكل هذه الأصنام قائمة على قواعد، وبعضها قاعد على نصبات عجيبة وإتقانات محكمة، وباب المدينة موجود إلى الآن، وعلى معظم تلك الحجارة تصاوير على

شكل الإنسان وغيره من الحيوان، وكتابة كثيرة بالقلم المجهول، وقلما ترى حجرا خلا عن كتابة أو نقش أو صورة. وفي هذه المدينة، المسلتان المشهورتان، وتسميان مسلتي فرعون وصفة المسلة قاعدة مربعة طولها عشرة أذرع في مثلها عرضا في نحوها سمكا، قد وضعت على أساس ثابت في الأرض، ثم أقيم عليها، عمود مثلث مخروط ينيف طوله على مائة ذراع، يبتدئ من القاعدة ببسطة، قطرها خمسة أذرع، وينتهي إلى نقطة، وقد لبّس رأسها بقلنسوة نحاس إلى نحو ثلاثة أذرع منها كالقمع، وقد تزنجر بالمطر، وطول المدّة، واخضرّ، وسال من خضرته على بسيط المسلة، وكلها عليها كتابات بذلك القلم، وكانت المسلتان قائمتين، ثم خربت إحداهما، وانصدعت من نصفها العظم الثقل، وأخذ النحاس من رأسها، ثم إنّ حولها من الأصنام شيئا كثيرا لا يحصى عدده على نصف تلك العظمى، أو يليها، وقلما يوجد في هذه المسال الصغار ما هو قطعة واحدة، بل فصوصها بعضها على بعض، وقد تهدّم أكثرها، وإنما بقيت قواعدها. وقال محمد بن إبراهيم الجزريّ في تاريخه: وفي رابع شهر رمضان، يعني من سنة ست وخمسين وستمائة: وقعت إحدى مسلتي فرعون التي بأراضي المطرية من ضواحي القاهرة، فوجدوا داخلها مائتي قنطار من نحاس، وأخذ من رأسها عشرة آلاف دينار. ويقال: إنّ عين شمس، بناها الوليد بن دومع من الملوك العماليق، وقيل: بناها الريان بن الوليد، وكانت سرير ملكه. والفرس تزعم: أنّ هرشيك بناها. ويقال: طول العمودين مائة ذراع، وقيل: أربعة وثمانون ذراعا، وقيل: خمسون ذراعا. ويقال: إنّ بخت نصر هو الذي خرّب عين شمس لما دخل إلى مصر. وقال القضاعيّ: وعين شمس، وهي هيكل الشمس بها العمودان اللذان لم ير أعجب منهما، ولا من شأنهما، طولهما في السماء نحو من خمسين ذراعا، وهما محمولان على وجه الأرض، وبينهما صورة إنسان على دابة، وعلى رأسهما شبه الصومعتين من نحاس، فإذا جاء النيل، قطر من رأسيهما ما تستبينه وتراه منهما واضحا ينبع حتى يجري من أسافلهما، فينبت في أصلهما العوسج وغيره، وإذا دخلت الشمس دقيقة من الجدي، وهو أقصر يوم في السنة، انتهت إلى الجنوبيّ منهما، فطلعت عليه على قمة رأسه، وهما منتهى الميلين وخط الاستواء في الواسطة منهما، ثم خطرت بينهما ذاهبة، وجائية سائر السنة، كذا يقول أهل العلم بذلك.

وقال ابن سعيد «1» في كتاب المغرب: وكانت عين شمس في قديم الزمان عظيمة الطول والعرض، متصلة البناء بمصر القديمة، حيث مدينة الفسطاط الآن، ولما قدم عمرو بن العاص، نازل عين شمس، وكان جمع القوم حتى فتحها. وقال جامع السيرة الطولونية: كان بعين شمس صنم بمقدار الرجل المعتدل الخلق، من كدّان أبيض محكم الصنعة يتخيل من استعرضه أنه ناطق، فوصف لأحمد بن طولون، فاشتاق إلى تأمّله، فنهاه ندوسة عنه، وقال: ما رآه وال قط إلا عزل، فركب إليه، وكان هذا في سنة ثمان وخمسين ومائتين، وتأمّله، ثم دعا بالقطاعين، وأمرهم باجتثاثه من الأرض، ولم يترك منه شيئا، ثم قال لندوسة خازنه: يا ندوسة من صرف منا صاحبه؟ فقال: أنت أيها الأمير، وعاش بعدها أحمد اثنتي عشرة سنة أميرا. وبنى العزيز بالله نزار بن المعز قصورا بعين شمس. وقال أبو عبيد البكريّ: عين شمس، بفتح الشين وإسكان ثانيه بعده سين مهملة، عين ماء معروفة. قال محمد بن حبيب: عين شمس حيث بنى فرعون الصرح، وزعم قوم: أنّ عين شمس إلى هذا الماء أضيف، وأوّل من سمى هذا الاسم، سبا بن يشجب. وذكر الكلبيّ: أن شمسا الذي تسموا به صنم قديم. وقال ابن خرداذبه: وأسطوانتين بعين شمس من أرض مصر، ومن بقايا أساطين كانت هناك في رأس كل أسطوانة: طوق من نحاس يقطر من إحداهما ماء من تحت الطوق إلى نصف الأسطوانة لا يجاوزه، ولا ينقطع قطره ليلا ولا نهارا، فموضعه من الأسطوانة أخضب رطب، ولا يصل الماء إلى الأرض، وهو من بناء أوسهنك. وذكر محمد بن عبد الرحيم «2» في كتاب تحفة الألباب: أنّ هذا المنار مربع علوه: مائة ذراع قطعة واحدة محدّد الرأس على قاعدة من حجر، وعلى رأس المنار، غشاء من صفر كالذهب فيه صورة إنسان على كرسيّ، قد استقبل المشرق، ويخرج من تحت ذلك الغشاء الصفر، ماء يسيل، مقدار عشرة أذرع، وقد نبت منه شيء كالطحلب، فلا يبرح لمعان الماء على تلك الخضرة أبدا صيفا وشتاء، لا ينقطع ولا يصل إلى الأرض منه شيء،

وبعين شمس نبت يزرع كالقضبان يسمى البلسم، يتخذ منه دهن البلسان لا يعرف بمكان من الأرض إلا هناك، وتؤكل لحمى هذه القضبان، فيكون له طعم، وفيه حرارة، وحرافة لذيذة. وبناحية المطرية من حاضرة عين شمس، البلسان، وهو شجر قصار يسقى من ماء بئر هناك، وهذه البئر، تعظمها النصارى وتقصدها، وتغتسل بمائها، وتستشفي به، ويخرج لاعتصار البلسان أوان إدراكه من قبل السلطان، من يتولى ذلك، ويحفظه ويحمل إلى الخزانة السلطانية، ثم ينقل منه إلى قلاع الشام، والمارستانات لمعالجة المبرودين، ولا يؤخذ منه شيء إلا من خزانة السلطان بعد أخذ مرسوم بذلك، ولملوك النصارى من الحبشة والروم والفرنج فيه غلوّ عظيم، وهم يتهادونه من صاحب مصر، ويرون أنهم لا يصح عندهم لأحد أن يتنصر إلا أن ينغمس في ماء المعمودية، ويعتقدون أنه لا بدّ أن يكون في ماء المعمودية شيء من دهن البلسان، ويسمونه: الميرون. وكان في القديم، إذا وصل من الشام خبر انتهى إلى صاحب عين شمس، ثم يرد من عين شمس إلى الحصن الذي عرف بقصر الشمع حيث الآن مدينة مصر، ثم يرد من الحصر إلى مدينة منف، حيث كانت منف تحت الملك. وسبب تعظيم النصارى لدهن البلسان، ما ذكره في كتاب السنكسار، وهو يشتمل على أخبار النصارى: أنّ المسيح لما خرجت به أمّه، ومعهما يوسف النجار من بيت المقدس فرارا من هيرودس ملك اليهود، نزلت به أول موضع من أرض مصر، مدينة بسطة في رابع عشري بشنس، فلم يقبلهم أهلها، فنزلوا بظاهرها، وأقاموا أياما، ثم ساروا إلى مدينة سمنود، وعدّوا النيل إلى الغربية، ومشوا إلى مدينة الأشمونين، وكان بأعلاها إذ ذاك، شكل فرس من نحاس قائم على أربعة أعمدة، فإذا قدم إليها غريب صهل، فجاءوا ونظروا في أمر القادم، فعندما وصلت مريم بالمسيح عليه السلام، إلى المدينة سقط الفرس المذكور، وتكسر فدخلت به أمّه، وظهرت له عليه السلام في الأشمونين آية، وهو أنّ: خمسة جمال محملة زاحمتهم في مرورهم، فصرخ فيها المسيح في الأشمونين، فصارت حجارة، ثم إنهم ساروا من الأشمونين، وأقاموا بقرية تسمى: فيلس مدّة أيام، ثم مضوا إلى مدينة تسمى: قس وقام، وهي التي يقال لها اليوم: القوصية، فنطق الشيطان من أجواف الأصنام التي بها، وقال: إنّ امرأة أتت، ومعها ولدها يريدون أن يخربوا بيوت معابدكم، فخرج إليهم مائة رجل بسلاحهم، وطردوهم عن المدينة، فمضوا إلى ناحية ميرة في غربيّ القوصية، ونزلوا في الموضع الذي يعرف اليوم بدير المحرق، وأقاموا به ستة أشهر وأياما، فرأى يوسف النجار في منامه قائلا يخبره بموت هيرودس، ويأمره أن يرجع بالمسيح إلى القدس، فعادوا من ميرة حتى نزلوا حيث الموضع الذي يعرف اليوم في مدينة مصر بقصر الشمع، وأقاموا بمغارة تعرف اليوم بكنيسة بوسرجة، ثم خرجوا منها إلى عين شمس، فاستراحوا هناك

المنصورة

بجوار ماء، فغسلت مريم من ذلك الماء ثياب المسيح، وقد اتسخت، وصبت غسالتها بتلك الأراضي، فأنبت الله هنالك البلسان، وكان إذ ذاك بالأردن، فانقطع من هناك، وبقي بهذه الأرض، وغمرت هذه البئر التي هي الآن موجودة هناك على ذلك الماء الذي غسلت منه مريم، وبلغني أنها إلى الآن إذا اعتبرت يوجد ماؤها عينا جارية في أسفلها، فهذا سبب تعظيم النصارى لهذه البئر وللبلسان، فإنه إنما سقي منها، والله أعلم. المنصورة «1» هذه البلدة على رأس بحر أشموم تجاه ناحية طلخا «2» بناها: السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، في سنة ست عشرة وستمائة عند ما ملك الفرنج، مدينة دمياط، فنزل في موضع هذه البلدة، وخيم به، وبنى قصرا لسكناه، وأمر من معه من الأمراء والعساكر بالبناء، فبنى هناك عدّة دور ونصبت الأسواق وأدار عليها سورا مما يلي البحر، وستره بالآلات الحربية والستائر، وتسمى هذه المنزلة المنصورة، ولم يزل بها حتى استرجع مدينة دمياط، كما تقدّم ذكره عند ذكر مدينة دمياط من كتابنا هذا، فصارت مدينة كبيرة بها الحمامات والفنادق والأسواق، ولما استنقذ الملك الكامل دمياط من الفرنج، ورحل الفرنج إلى بلادهم جلس بقصره في المنصورة وبين يديه إخوته الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى صاحب بلاد الشرق وغيرهما من أهله، وخواصه، فأمر الملك الأشرف جاريته، فغنت على عودها: ولما طغى فرعون عكا وقومه ... وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض أتى نحوهم موسى وفي يده العصا ... فأغرقهم في اليم بعضا على بعض فطرب الأشرف، وقال لها: بالله كرّري، فشق ذلك على الملك الكامل، وأسكتها، وقال لجاريته: غني أنت فأخذت العود، وغنت: أيا أهل دين الكفرة قوموا لتنظروا ... لما قد جرى في وقتنا وتجدّدا أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعا ينصران محمدا وهذا البيت من قصيدة لشرف الدين بن حبارة أوّلها: (أبى الوجد إلا أن أبيت مسهدا) فأعجب ذلك الملك الكامل، وأمر لكل من الجاريتين، بخمسمائة دينار، فنهض القاضي الصدر الأجل الرئيس هبة الله بن محاسن قاضي غزة وكان من جملة الجلساء على قدميه وأنشد يقول:

العباسة

هنيئا فإنّ السعد جاء مخلدا ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا حبانا إله الخلق فتحا لنا بدا ... مبينا وإنعاما وعزا مؤبدا تهلل وجه الأرض بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا ولما طغى البحر الخضمّ بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا أقام لهذا الدين من سلّ عزمه ... صقيلا كما سلّ الحسام المهندا فلم ينج إلا كل شلو مجدّل ... ثوى منهم أو من تراه مقيدا ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ... عقيرته في الخافقين ومنشدا أعباد عيسى إنّ عيسى وحزبه ... وموسى جميعا ينصران محمدا فكانت هذه الليلة بالمنصورة، من أحسن ليلة مرّت لملك من الملوك، وكان عند إنشاده يشير إذا قال عيسى إلى عيسى المعظم، وإذا قال موسى إلى موسى الأشرف، وإذا قال محمدا إلى السلطان الملك الكامل، وقد قيل: إنّ الذي أنشد هذه الأبيات إنما هو راجح المحلي الشاعر. العباسة «1» هذه القرية فيما بين بلبيس والصالحية، من أرض السدير لم يزل منتزها لملوك مصر، وبها ولد العباس بن أحمد بن طولون، فسماه لذلك أبوه العباس، وولد بها أيضا الملك الأمجد تقيّ الدين عباس بن العادل أبي بكر بن أيوب، وكان الملك الكامل محمد بن العادل يقيم بها كثيرا، ويقول: هذه تعلو مصر إذا أقمت بها أصطاد الطير من السماء، والسمك من الماء، والوحش من الفضاء، ويصل الخبز من قلعة الجبل إليّ بها في قلعتي، وهو سخن، وبنى بها آدرا ومناظر وبساتين، وبنى أمراؤه بها أيضا عدّة مساكن في البساتين، ولم تزل العباسة على ذلك حتى أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، المنزلة الصالحية، فتلاشى حينئذ أمر العباسة، وخربت المناظر في سلطنة الملك المعز أيبك. فلما كانت سلطنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، مرّ على السدير، وهو فم الوادي، فأعجب به وبنى في موضع اختاره منه قرية سماها الظاهرية، وأنشأ بها جامعا، وذلك في سنة ست وستين وستمائة. وسميت: بالعباسة بنت أحمد بن طولون، فإنها خرجت إلى هذا الموضع مودّعة لبنت أخيها، قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، لما حملت إلى المعتضد، وضربت

ذكر مدينة قفط بصعيد مصر

هناك فساطيطها، ثم بنت قرية، فسميت باسمها. ذكر مدينة قفط «1» بصعيد مصر هذه المدينة عرفت: بقفطريم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، وكانت في الدهر الأوّل، مدينة الإقليم، وإنما بدا خرابها بعد الأربعمائة من تاريخ الهجرة النبوية، وآخر ما كان فيها بعد السبعمائة من سني الهجرة، أربعون مسبكا للسكر، وست معاصر للقصب، ويقال: كان فيها قباب بأعالي دورها، وكانت إشارة من ملك من أهلها عشرة آلاف دينار أن يجعل في داره قبة، وبالقرب منها معدن الزمرّذ، ولم يبطل إلا من قريب، فإنّ قفطريم ولي الملك بعد أبيه قبطيم. قال ابن وصيف شاه: كان أكبر ولد أبيه، وكان جبارا عظيم الخلق، وهو الذي وضع أساسات الأهرام الدهشورية وغيرها، وهو الذي بنى مدينة دندرة «2» ، ومدينة الأصنام، وهلكت عاد بالريح في آخر أيامه، وأثار من المعادن ما لم يثره غيره، وكان يتخذ من الذهب مثل حجر الرحى، ومن الزبرجد مثل الأسطوانة، ومن الإسبادشم في صحراء الغرب كالقلة، وعمل من العجائب شيئا كثيرا. وبنى منارا عاليا على جبل قفط، يرى منه البحر الشرقيّ، ووجد هناك معدن زئبق، فعمل منه تمثالا كالعمود لا ينحلّ، ولا يذوب. وعمل البركة التي سماها صيادة الطير إذا مرّ عليها طائر سقط فيها، ولم يقدر على الحركة، حتى يؤخذ، وهذه البركة يقال: إنها هناك إلى الآن، وأما المنار فسقط، وعمل عجائب كثيرة، وفي أيامه أثار عبادة الأصنام التي كان الطوفان غرّقها وزين الشيطان أمرها وعبادتها، ويقال: إنه بنى المدائن الداخلة، وعمل فيها عجائب، وبنى غربيّ النيل، وخلف الواحات الداخلة مدنا عمل فيها عجائب كثيرة، ووكل بها الروحانيين الذين يمنعون منها، فما يستطيع أحد أن يدنو إليها ولا يدخلها، إلا أن يعمل قرابين لأولئك الروحانيين، وأقام قفطريم ملكا أربعمائة وثمانين سنة، وأكثر العجائب عملت في وقته، ووقت ابنه، البودسير، ولذلك كان الصعيد أكثر عجائب من أسفل، لأنّ حيز قفطريم فيه. ولما حضر قفطريم الوفاة عمل ناوسا في الجبل الغربيّ قرب مدينة الكهان في سرب تحت الأرض معقود على آزاج إلى الأرض، ونقر تحت الجبل، دارا واسعة، وجعل دورها

خزائن منقورة، وفي سقفها مسارب للرياح، وبلط السرب، وجميع الدار بالمرمر، وجعل في وسط الدار مجلسا على ثمانية أركان مصفحا بالزجاج الملوّن المسبوك، وجعل في سقفه جواهر تسرج، وجعل في كل ركن من أركان المجلس، تمثالا من الذهب بيده كالبوق الذي يبوق به، وتحت القبة دكة مصفحة بذهب، ولها حواف من زبرجد، وفوق الدكة فرش من حرير، وجعل عليها جسد بعد أن لطخ بالأدوية المجففة، ووضع في جانبه آلات كافور، وسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب، ووجهه مكشوف وعلى رأسه تاج مكلل، وعن جوانب الدكة أربعة تماثيل مجوّفات من زجاج مسبوك في صور النساء بأيديهنّ مراوح من ذهب، وعلى صدره من فوق الثياب، سيف فاخر قائمته من زبرجد، وجعل في تلك الخزائن من الذخائر وسبائك الذهب، والتيجان والجوهر، وبرابي الحكم، وأصناف العقاقير والطلسمات ومصاحف العلوم، ما لا يحصى كثرة، وجعل على باب المجلس: ديكا من ذهب على قاعدة من زجاج أخضر منشور الجناحين، مزبورا عليه آيات مانعة، وجعل على كل مدخل أزج، صورتين من نحاس بأيديهما سيفان، وقدّامهما بلاطة، تحتها لوالب من وطئها، ضرباه بأسيافهما، فقتلاه، وفي سقف كل أزج، كرة وعليها الطوخ مدبر يسرج، فيقد طول الزمان، وسدّ باب الأزج بالأساطين المرصصة، ورصوا على سقفه البلاط العظام، وردموا فوقها الرمال، وزبروا على باب الأزج، هذا المدخل إلى جسد الملك المعظم المهيب الكريم الشديد قفطريم ذي الأيد والفخر والغلبة والقهر، وأفل نجمه، وبقي ذكره وعلمه، فلا يصل أحد إليه ولا يقدر بحيلة عليه، وذلك بعد سبعمائة وسبعين ودورات مضت من السنين. وقال المسعوديّ: ومعدن الزمرّد في عمل الصعيد الأعلى، من مدينة قفط، ومنها يخرج إلى هذا المعدن، والموضع الذي هو فيه يعرف: بالخربة، وهي مفازة وجبال، والبجة تحمي هذا المكان المعروف بالخربة، وإليها يؤدّي الخفارات من يرد إلى حفر الزمرّذ، ووجدت جماعة من صعيد مصر من ذوي الدراية ممن اتصلت معرفته بهذا المعدن، وعرف هذا النوع من الجوهر يخبرون أنه يكثر، ويقلّ في فصول السنة، فيكثر في قوّة موادّ الهواء، وهبوب نوع من الرياح الأربع، وتقوى الخضرة فيه، والشعاع النوريّ في أوائل الشهر، والزيادة في نور القمر، وبين الموضع المعروف بالخربة الذي فيه معدن الزمرّذ، وبين ما اتصل من العمارة، وقرب منه من الديار مسيرة سبعة أيام، وهي قفط وقوص وغيرهما من صعيد مصر، وقوص راكبة النيل، وبين النيل وقفط نحو من ميلين. ولمدينتي قفط وقوص أخبار عجيبة في بدء عمارتهما، وما كان في أيام القبط من أخبارهما إلا أنّ مدينة قفط في هذا الوقت، متداعية للخراب، وقوص أعمر والناس فيها أكثر، وكان بقفط بربا موكل بها روحانيّ في صورة جارية سوداء تحمل صبيا أسود صغيرا، حكي أنها رئيت بها مرارا، ومعدن الزمرّذ في البرّ المتصل بأسوان، وكان له ديوان فيه شهود

ذكر مدينة دندرة

وكتاب، وينفق على العمال به، وتنال لهم المؤن لحفره، واستخراج الزمرّذ منه، وهو في جبال مرملة يحفر فيه، وربما سقط على الجماعة به فماتوا. وكان يجمع ما يخرج منه، ويحمل إلى الفسطاط، ومنه يحمل إلى البلاد، وقد كان الناس يسيرون من قوص إلى معدن الزمرّذ، في ثمانية أيام بالسير المعتدل. وكانت البجاه، تنزل حوله وقريبا منه لأجل القيام بحفره، وحفظه وهذا المعدن في الجبل الآخذ على شرقيّ النيل في بحريّ قطعة عظيمة من هذا الجبل تسمى: اقرشندة، وليس هناك من الجبال أعلى منها، وهو في منقطع من البرّ لا عمارة عنده، ولا حوله ولا قريبا منه، والماء عنه مسيرة نصف يوم أو أزيد، وهو ما يتحصل من المطر، ويعرف بغدير أعين يكثر بكثرة المطر، ويقلّ بقلته، وهذا المعدن في صدر مفازة طويلة في حجر أبيض يستخرج منه الزمرّذ، وهذا الحجر الأبيض، ثلاثة أنواع أحدها يقال له: طلق كافوريّ، والثاني يقال له: طلق فضيّ، والثالث يقال له: حجر جرويّ، ويضرب في هذه الحجارة، حتى يخرج الزمرّذ، وهو كالغريق فيه، وأنواعه الريانيّ، وهو أقلّ من القليل لا يخرج إلا في النادر، وإذا استخرج ألقي في الزيت الحار، ثم يحط في قطن، ويصرّ ذلك القطن في خرق خام أو نحوها، وكان الاحتراز على هذا المعدن كثير جدّا، ويفتش الفعلة عند الخروج منه كل يوم، حتى تفتش عوراتهم، ومع ذلك فيختلسون منه بصناعات لهم في ذلك، ولم يزل هذا المعدن يستخرج منه الزمرّذ إلى أن أبطل العمل منه الوزير الصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في سنة بضع وستين وسبعمائة. وفي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، كانت فتنة كبيرة بمدينة قفط، سببها أنّ داعيا من بني عبد القوي، ادّعى أنه داود بن العاضد، فاجتمع الناس عليه، فبعث السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، أخاه الملك العادل أبا بكر بن أيوب على جيش، فقتل من أهل قفط نحو ثلاثة آلاف، وصلبهم على شجرها ظاهر قفط بعمائمهم، وطيالستهم. ذكر مدينة دندرة هي إحدى مدن الصعيد الأعلى القديمة بناها قفطريم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، وكا فيها بربا عظيمة، فيها: مائة وثمانون كوّة تدخل الشمس في كل يوم من كوّة، حتى تأتي على آخرها، ثم تكرّ راجعة إلى حيث بدأت، وكانت روحانيتها الموكلة بها تظهر في هيئة إنسان له رأس أسد بقرنين، وكان بها أيضا شجرة تعرف بشجرة العباس متوسطة، وأوراقها خضر مستديرة، إذا قال الإنسان عندها: يا شجرة العباس، جاءك الفاس، تجتمع أوراقها، وتحزن لوقتها، ثم تعود كما كانت، وبين دندرة، وبين قوص بريد واحد، وكانت بربا دندرة أعظم من بربا إخميم.

ذكر الواحات الداخلة

ذكر الواحات الداخلة الواحات منقطعة وراء الوجه القبليّ في مغاربه، ولا تعدّ في الولايات، ولا في الأعمال، ولا يحكم عليها من قبل السلطان وال وإنما يحكم عليها من قبل مقطعها. وبلاد الواحات بين مصر، والإسكندرية، والصعيد، والنوبة، والحبشة بعضها داخل ببعض، وهو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره، ولا يفتقر إلى سواه، وأرضها شبية وزاجية، وعيون حامضة الطعم تستعمل كاستعمال الخل، وعيون مختلفة الطعوم من الحامض، والقابض، والمالح، ولكل نوع منها خاصية ومنفعة، وهي على قسمين، واحات داخلة، وواحات خارجة جملتها أربع واحات. ويقال: إنّ الواحات ولدوا حويلا بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وإنّ أخر سبا بن كوش، أبو الحبش، وأبو شنبا بن كوش، أبو زغاوة، وأبو شفحيا بن كوش: أبو الحبش الرمرم. قال ابن وصيف شاه ويقال: إنّ قفطريم بنى المدائن الداخلة، وعمل فيها عجائب منها الماء القائم كالعمود، لا ينحلّ، ولا يذوب والبركة التي تسمى فلسطين، أي صيادة الطير، إذا مرّ عليها الطير سقط فيها، ولم يمكنه الخروج منها، حتى يؤخذ، وعمل أيضا عمودا من نحاس عليه صورة طائر إذا قرب الأسد أو الحيات أو غيرها من الأشياء المضرّة من تلك المدينة صفر تصفيرا عاليا، فترجع تلك الدواب هاربة، وعمل على أربعة أبواب هذه المدينة، أربعة أصنام من نحاس لا يقرب منها غريب إلا ألقي عليه النوم، والسبات، فينام عندها، ولا يبرح حتى يأتيه أهل المدينة، وينفخون في وجهه ليقوم، وإن لم يفعلوا ذلك لا يزال نائما عند الأصنام، حتى يهلك. وعمل منارا لطيفا من زجاج ملوّن على قاعدة من نحاس، وعمل على رأس المنار صورة صنم من أخلاط كثيرة، وفي يده كالقوس كأنه يرمي عنها، فإن عاينه غريب وقف في موضعه، ولم يبرح حتى ينحيه أهل المدينة، وكان ذلك الصنم، يتوجه إلى مهب الرياح الأربع من نفسه، وقيل: إن هذا الصنم على حاله إلى الآن، وإنّ الناس تحاموا تلك المدينة على كثرة ما فيها من الكنوز والعجائب الظاهرة خوفا من ذلك الصنم أن تقع عين إنسان عليه، فلا يزال قائما حتى يتلف، وكان بعض الملوك، عمل على قلعه فما أمكنه، وهلك لذلك خلق كثير. ويقال: إنه عمل في بعض المدائن الداخلة مرآة، يرى فيها جميع ما يسأل الإنسان عنه، وبنى غربيّ النيل، وخلف الواحات الداخلة مدنا عمل فيها عجائب كثيرة، ووكل الروحانيين بها الذين يمنعون منها، فما يستطيع أحد أن يدنو إليها ولا يدخلها، أو يعمل

قرابين أولئك الروحانيين، فيصل إليها حينئذ، ويأخذ من كنوزها ما أب من غير مشقة، ولا ضرر، وبنى الملك صا بن الساد، وقيل: صا بن مرقونس بداخل الواحات مدينة، وغرس حولها نخلا كثيرا، وكان يسكن منف، وملك الأحياز كلها، وعمل عجائب وطلسمات، وردّ الكهنة إلى مراتبهم، ونفى الملهيين، وأهل الشرّ ممن كان يصحب الساد بن مرقونس، وجعل على أطراف مصر أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجري في حدودهم، وعمل على غربيّ النيل مناير يوقد عليها إذا حزبهم أمر، أو قصدهم قاصد. وكان لما ملك البلد بأسره، جمع الحكماء إليه، ونظر في نجومه، وكان بها حاذقا، فرأى أن بلده لا بدّ أن تغرق بالطوفان من نيلها، ورأى أنها تخرب على يد رجل يأتي من ناحية الشام، فجمع كل فاعل بمصر، وبنى في ألواح الأقصى مدينة، جعل طول حصنها في الارتفاع خمسين ذراعا، وأودعها جميع الحكم، والأموال، وهي المدينة التي وقع عليها، موسى بن نصير في زمن بني أمية، لما قدم من المغرب، فلما دخل مصر أخذ على ألواح الأقصى، وكان عنده علم منها، فأقام سبعة أيام يسير في رمال بين الغرب والجنوب، فظهرت له مدينة عليها حصن وأبواب من حديد، فلم يمكنه فتح الأبواب، وكان إذا صعد إليها الرجال، وعلوا الحصن، وأشرفوا على المدينة ألقوا أنفسهم فيها، فلما أعياه أمرها مضى وهلك من أصحابه عدّة. قال: وفي تلك الصحارى كانت منتزهات القوم، ومدنهم العجيبة، وكنوزهم إلا أنّ الرمال غلبت عليها، ولم يبق يملك ملك إلا وقد عمل للرمل طلسما لدفعه، ففسدت طلسماتها لقدم الزمان، قال: ولا ينبغي لأحد أن ينكر كثرة بنيانهم، ولا مدائنهم، ولا ما نصبوه من الأعلام العظام، فقد كان للقوم بطش لم يكن لغيرهم، وإنّ آثارهم لبينة مثل الأهرام والأعلام والإسكندرية، وما في صحارى الشرق والجبال المنحوتة التي جعلوا كنوزهم فيها، والأودية المنحوتة، ومثل ما بالصعيد من البرابي وما نقشوه عليها من حكمتهم، فلو تعاطى جميع ملوك الأرض أن يبنوا مثل الهرمين، ما تهيأ لهم، وكذلك أن ينقشوا بربا لطال بهم الأمد ولم يمكنهم. وحكي عن قوم من البنائين في ضياع الغرب، أنّ عاملا عندهم عنف بهم، ففرّوا في صحراء الغرب، ومعهم زاد إلى أن تنصلح أحوالهم، ويرجعوا، فلما كانوا على مسيرة يوم وبعض آخر قدموا إلى سفح جبل، فوجدوا عيرا أهليا قد خرج من بعض الشعاب، فتبعه بعضهم، فانتهى إلى مساكن وأشجار، ونخل ومياه تطرد وقوم هناك يرعون، ولهم مساكن، وكلمهم وأعجب بهم، فجاء إلى أصحابه، وقدم بهم على أولئك القوم، فسألوهم عن حالهم فأخبروهم، وأقاموا عندهم حتى صلحت أحوالهم وخرجوا ليأتوا بأهاليهم ومواشيهم، ويقيموا عندهم، فساروا مدّة، وهم لا يعرفون الطريق، ولا يتأتى لهم العود فأسفوا على ما فاتهم.

ذكر مدينة سنترية

وضلّ آخرون عن الطريق في الغرب فوقعوا على مدينة عامرة كثيرة الناس، والمواشي والنخل والشجر، فأضافوهم وأطعموهم وسقوهم وباتوا في طاحونة، فسكروا من الشراب، وناموا فلم ينتبهوا إلا من حرّ الشمس، فإذا هم في مدينة خراب ليس فيها أحد، فخافوا، وخرجوا، وظلوا يومهم سائرين إلى المساء، فظهرت لهم مدينة أكبر من الأولى، وأعمر وأكثر أهلا، وشجرا ومواشي، فأنسوا بهم، وأخبروهم بخبر المدينة الأولى، فجعلوا يعجبون منهم، ويضحكون وانطلقوا بهم إلى وليمة لبعض أهل المدينة، فأكلوا وشربوا وعنوا بهم، حتى سكروا، فلما كان من الغد انتبهوا فإذا هم في مدينة عظيمة ليس فيها أحد وحولها نخل قد تساقط ثمره، وتكدّس، فخرجوا وهم يجدون ريح الشراب، ومبادي الخمار، فساروا يوما إلى المساء وإذا راع يرعى غنما، فسألوه عن الطريق؟ فدلهم، فساروا بعض يوم من الغد، فوصلوا مدينة الأشمونين بالصعيد. قال: وهذه مدائن القوم الداخلة القديمة قد غلب عليها الجانّ، ومنها ما سترته عن العيون، فلا ينظر إليها أحد، وقال: إنّ البودسير بن قفطريم بن قبطيم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام في أيامه بنيت بصحراء الغرب مناير ومنتزهات، وحوّل إليها جماعة من أهل بيته، فعمروا تلك النواحي، وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب عامرة كلها، وأقامت على ذلك مدّة كثيرة، فخالطهم البربر، ونكحوا منهم، ثم تحاسدوا، فكانت بينهم حروب خربت فيها تلك الجهات، وبادت إلا بقية منازل تسمى: الواحات. ذكر مدينة سنتريّة «1» ومدينة سنتريّة: من جملة الواحات بناها: مناقيوش باني مدينة إخميم، كان أحد ملوك القبط القدماء، قال ابن وصيف شاه: وكان في حزم أبيه، وحنكته تعظم في أعين أهل مصر، وهو أوّل من عمل الميدان وأمر أصحابه برياضة أنفسهم فيه. وأوّل من عمل المارستان لعلاج المرضى، والزمنى، وأودعه العقاقير، ورتب فيه الأطباء، وأجرى عليهم ما يسعهم، وأقام الأمناء على ذلك، وصنع لنفسه عيدا، فكان الناس يجتمعون إليه فيه، وسماه عيد الملك في يوم من السنة، فيأكلون، ويشربون سبعة أيام، وهو مشرف عليهم من مجلس على عمد، قد طوّقت بالذهب، وألبست فاخر الثياب المنسوجة بالذهب، وعليه قبة مصفحة من داخل بالرخام والزجاج والذهب، وفي أيامه بنيت: سنترية في صحراء الواحات، عملها من حجر أبيض مربعة، وفي كل حائط باب في وسطه شارع

ذكر الواحات الخارجة

إلى حائط محاذ له، وجعل في كل شارع يمنة ويسرة أبوابا تنتهي طرقاتها إلى داخل المدينة. وفي وسط المدينة، ملعب يدور به من كل ناحية سبع درج، وعليه قبة من خشب مدهون على عمد عظيمة من رخام، وفي وسطه: منار من رخام عليه، صنم من صوّان أسود يدور مع الشمس بدورانها، وبسائر نواحي القبة، صورة معلقة تصفر، وتصيح بلغات مختلفة، فكان الملك يجلس على الدرجة العالية من الملعب، وحوله بنوه وأقاربه، وأبناء الملوك، وعلى الدرجة الثانية، رؤساء الكهنة والوزراء، والثالثة رؤساء الجيش، وعلى الرابعة الفلاسفة والمنجمون والأطباء وأرباب العلوم، وعلى الخامسة أصحاب العمارات، وعلى السادسة أصحاب المهن، وعلى السابعة العامّة. فيقال: لكل صنف منهم انظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم لا تلحقونهم، وهذا ضرب من التأديب، وقتلته امرأته بسكين، فمات، وكان ملكه ستين سنة. وسنترية الآن بلد صغير يسكنه نحو ستمائة رجل من البرّ يعرفون سيوة، ولغتهم تعرف بالسيوية تقرب من لغة زنانة، وبها حدائق نخل وأشجار من زيتون وتين وغير ذلك وكرم كثير، وبها الآن نحو العشرين عينا تسيح بماء عذب، ومسافتها من الإسكندرية أحد عشر يوما، ومن جيزة مصر أربعة عشر يوما وهي قرية يصيب أهلها الحمى كثيرا، وثمرها غاية في الجودة، وتعبث الجنّ بأهلها كثيرا، وتختطف من انفرد منهم، وتسمع الناس بها عزيف الجنّ!. ذكر الواحات الخارجة بناها أحد ملوك القبط الأول، ويقال له: البودسير بن قفطيم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، قال ابن وصيف شاه: وأراد البودسير أن يسير مغرّبا لينظر إلى ما هنالك، فوقع على أرض واسعة متخرّقة بالمياه والعيون، كثيرة العشب، فبنى فيها مناير ومنتزهات، وأقام فيها جماعة من أهل بيته، فعمروا تلك النواحي، وبنوا فيها حتى صارت أرض الغرب عمارة كلها، وأقامت كذلك مدّة كثيرة، وخالطهم البربر، فنكح بعضهم من بعض، ثم إنهم تحاسدوا، وبغى بعضهم على بعض، فكانت بينهم حروب، فخرب ذلك البلد، وباد أهله إلا بقية منازل تسمى الواحات. وقال المسعوديّ: وأما بلاد الواحات فهي بين بلاد مصر والإسكندرية وصعيد مصر والغرب وأرض الأحابش من النوبة وغيرهم، وبها أرض شبية وزاجية، وعيون حامضة، وغير ذلك من الطعوم. وصاحب الواحات في وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، عبد الملك بن

ذكر مدينة قوص

مروان، وهو رجل من لواتة إلا أنه مروانيّ الذهب، ويركب في آلاف من الناس خيلا ونجبا، وبينه وبين الأحابش نحو من ستة أيام، وكذلك بينه وبين سائر ما ذكرنا من العمائر هذا المقدار من المسافة، وفي أرضه خواص وعجائب، وهو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره، ولا يفتقر إليه، ويحمل من أرضه التمر والزبيب والعناب. وحدّثني وكيل أبي الشيخ المعز حسام الدين عمرو بن محمد بن زنكي الشهرزوري: أنه سمع ببلاد الواحات، أنّ فيها شجرة تاريخ يقطف منها في سنة واحدة أربعة عشر ألف حبة نارنج صفراء، سوى ما يتناثر، وسوى ما هو أخضر، فلم أصدّق ذلك لغرابته، وقمت حتى شاهدت الشجرة المذكورة، فإذا هي كأعظم ما يكون من شجر الجميز بمصر وأكبر، وسألت مستوفي البلد عنها، فأحضر إليّ جرائد حسباناته وتصفحها حتى أوقفني على أن منها في سنة كذا قطف من النارنجة اللانية، أربعة عشر ألف حبة نارنج مستوية صفراء، سوى ما بقي عليها من الأخضر، وسوى ما تناثر منها وهو صغير. وبالواحات الشبّ الأبيض بواد تجاه مدينة أدفو «1» كان في زمن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر، وفي زمن ابنه الصالح نجم الدين أيوب على مقطعي الواحات حمل ألف قنطار شب أبيض في كل سنة إلى القاهرة، ويطلق لهم في نظير ذلك جوالي الواحات، ثم أهمل هذا فبطل. وفي سنة تسع وثلاثين وثلثمائة، سار ملك النوبة في جيش عظيم إلى الواحات، فأوقع بأهلها، وقتل منها، وأسر كثيرا. ذكر مدينة قوص اعلم: أنّ قوص أعظم مدائن الصعيد، وهي على النيل بنيت بعد قفط في أيام ملك من ملوك القبط الأول يقال له: سدان بن عديم بن البودسير بن قفطريم. قيل: سميت باسم قوص بن قفط بن أخميم بن سيفاف بن أشمن بن مصر، قال ابن وصيف شاه: سدان بن عديم، هو الذي بنى الأهرام الدهشورية من الحجارة التي قطعت في زمان أبيه، وعمل مصاحف النيرنجات، وهيكل أرمنت، وعمل في المدائن الداخلة من أنصنا هيكلا، وأقام فيه في أتريب، وهيكلا في شرقيّ الإسكندرية، وبنى في الجانب الشرقيّ مدائن، وفي أيامه بنيت قوص العالية، وأسكن فيها قوما من أهل الحكمة، وأهل الصناعات، وكان الحبش والسودان، قد عاثوا في بلده، فأخرج لهم، ابنه منقاوش في جيش عظيم، فقتل منهم، وسبى، واستعبد الذين سباهم، وصار ذلك سبّة لهم، واقتطع معدن

ذكر مدينة أسنا

الذهب من أرضهم، وأقام ذلك السبي يعملون فيه، ويحملون الذهب إليه، وهو أوّل من أحب الصيد، واتخذ الجوارح، وولد الكلاب السلوقية من الذئاب والكلاب الأهلية، وعمل من العجائب والطلسمات لكل فنّ ما لا يحصى كثرة. وقال الأدفويّ في تاريخ الصعيد: وقوص بجانب قفط، حكى بعض المؤرخين: أنها شرعت في العمارة، وشرعت قفط في الخراب من سنة أربعمائة. قيل: إنه حضر مرّة قاضي قوص، فخرج من أسوان أربعمائة راكب بغلة إلى لقائه. وفي شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة، أحضر إلى الملك الظاهر بيبرس فلوس، وجدت مدفونة بقوص، فأخذ منها فلس، فإذا على أحد وجهيه، صورة ملك واقف، وفي يده اليمنى ميزان، وفي اليسرى سيف، وعلى الوجه الآخر رأس فيه أذن كبيرة، وعين مفتوحة، وبدائر الفلس، كتابة، فقرأها راهب يونانيّ، فكان تاريخه، إلى وقت قراءته، ألفين وثلثمائة سنة، وفيه أنا غلياث الملك ميزان العدل والكرم في يميني لمن أطاع، والسيف في يساري لمن عصى، وفي الوجه الآخر، أنا غلياث الملك، أذني مفتوحة لسماع المظلوم، وعيني مفتوحة أنظر بها مصالح ملكي. وقوص، كثيرة العقارب والسام أبرص، وبها صنف من العقارب القتالات، حتى إنه كان يقال بها أكلة العقرب لأنه كان لا يرجى لمن لسعته حياة، واجتمع بها مرّة في يوم صائف على حائط الجامع سبعون سام أبرص صفا واحدا، وكان الواحد من أهلها إذا مشى في الصيف ليلا خارج داره، يأخذ بإحدى يديه مسرجة تضيء له، وبالأخرى مشك من حديد يشك به العقارب، ثم إنها تلاشت بعد سنة ثمانمائة. فلما كانت الحوادث والمحن، مات بها سبعة عشر ألف إنسان في سنة ست وثمانمائة، وكانت من العمارة بحيث إنه تعطل منها في شراقي البلاد سنة ست وسبعين وسبعمائة، مائة وخمسون مغلقا، والمغلق عندهم بستان من عشرين فدّانا فصاعدا، وله ساقية بأربعة وجوه، وذلك سوى ما تعطل مما هو دون ذلك، وهو كثير جدّا. ذكر مدينة أسنا «1» قال الأدفويّ: وذكر أنّ أسنا في سنة حصل منها، أربعون ألف إردب تمر، واثنا عشر ألف إردب زبيب، وأسنا تشمل على ما يقارب ثلاثة عشر ألف منزل، وقيل: إنه كان بها في وقت سبعون شاعرا.

ذكر مدينة أدفو

ذكر مدينة أدفو ومدينة أدفو يقال بالدال المهملة، ويقال أيضا بالتاء المثناة من فوق. قال الأدفويّ: أخبرني الخطيب العدل أبو بكر خطيب أدفو: أن جمارة طرحت، ثلاثة شماريخ في كل شمروخ تمرة واحدة، وأنه قلع الجمارة بأصلها، ووزنها فجاءت خمسة وعشرين درهما، كلها بجريدها وخشبها، وذلك بأدفو. ولما كان بعد سنة سبعمائة، حفر صناع الطوب، فظهرت صورة شخص من حجر شكل امرأة متربعة على كرسيّ، وعليها مثال شبكة، وفي ظهرها لوح مكتوب بالقلم اليونانيّ، رأيتها على هذه الحالة في مدينة أدفو. إهناس «1» هي كورة من كور الصعيد يقال: إنّ عيسى ابن مريم عليه السلام، ولد بها، وإن نخلة مريم عليها السلام التي ذكرت في قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا [مريم/ 25] لم تزل بها إلى آخر أيام بني أمية، والذي عليه الجماهرة أنّ عيسى عليه السلام إنما ولد بقرية بيت لحم من مدينة بيت المقدس وبإهناس شجر البنج. ذكر مدينة البهنسا «2» هذه المدينة في جهة الغرب من النيل بها تعمل الستور البهنسية، وينسج المطرّز والمقاطع السلطانية، والمضارب الكبار، والثياب المحبرة، وكان يعمل بها من الستور، ما يبلغ طول الستر الواحد ثلاثين ذراعا، وقيمة الزوج مائتا مثقال ذهب، وإذا صنع بها شيء من الستور والأكسية، والثياب من الصوف أو القطن، فلا بدّ أن يكون فيها اسم المتخذ له مكتوبا على ذلك مضوا جيلا بعد جيل. وقبط مصر، مجمعون على أنّ المسيح وأمّه مريم كانا بالبهنسا، ثم انتقلا عنها إلى القدس. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى عن المسيح وأمّه: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون/ 50] ، الربوة، البهنسا، وهذه المدينة بناها ملك من القبط يقال له: مناوش بن منقاوش.

قال ابن وصيف شاه: واستخلف مناوش الملك فطلب الحكمة مثل أبيه، واستخرج كتبها، وأكرم أهلها، وبذل فيهم الجوائز، وطلب الأغراب في عمل العجائب، وكان كل من ملوكهم يجهد جهده في أن يعمل له غريبة من الأعمال لم تعمل لمن كان قبله، وثبت في كتبهم، وزبر على الحجارة في تواريخهم. وهو أوّل من عبد البقر من أهل مصر، وكان السبب في ذلك أنه اعتلّ، علة يئس منه فيها، فرأى في منامه صورة روحانيّ عظيم، يقول له: إنه لا يخرجك من علتك إلا عبادتك البقر، لأنّ الطالع كان وقت حلولها بك صورة ثور بقرنين، ففعل ذلك، وأمر بأخذ ثور أبلق حسن الصورة، وعمل له مجلسا في قصره، وسقفه بقبة مذهبة، فكان ينجره، ويطيب موضعه، وكل به سائسا يقوم به، ويكنس تحته، ويعبد سرا من أهل مملكته، فبرأ من علته. وهو أوّل من عمل العجل في علته، فكان يركب عليها البيوت من فوقها قباب الخشب، وعمل ذلك من أحب من نسائه، وخدمه إلى المواضع، والمنتزهات، وكان البقر يجرّه، فإذا مرّ بمكان نزهة أقام فيه وإذا مرّ بمكان خراب أمر بعمارته، فيقال: إنه نظر إلى ثور من البقر الذي يجرّ عجلته أبلق حسن الشية، فأمر بترفيهه، وسوقه بين يديه إعجابا به، وجعل عليه جلا من ديباج، فلما كان في يوم وقد خلا في موضع صار إليه، وقد انفرد عن عبيده وخدمه، والثور قائم إذ خاطبه الثور، وقال له: لو رفهني الملك عن السير معه، وجعلني في هيكل وعبدني، وأمر أهل مملكته بعبادتي، كفيته جميع ما يريد، وعاونته على أمره، وقوّيته في مملكته، وأزلت عنه جميع علله، فارتاع لذلك، وأمر بالثور، فغسل وطيب، وأدخل في هيكل، وأمر بعبادته، فأقام ذلك الثور يعبد مدّة، وصار فيه آية وهو أنه لا يبول ولا يروث ولا يأكل إلا أطراف ورق القصب الأخضر في كل شهر مرّة، فافتتن الناس به، وصار ذلك أصلا لعبادة البقر، وبنى مواضع كنز فيها كنوزا، وأقام عليها أعلاما، وبنى في صحراء الغرب مدينة يقال لها ديماس وأقام فيها منارا، ودفن حولها كنوزا. ويقال: إن هذه المدينة قائمة، وإنّ قوما، جازوا بها من نواحي الغرب، وقد ضلوا الطريق، فسمعوا بها، عزيف الجنّ، ورأوا ضوءا يتراءى بها، وفي بعض كتبهم أنّ ذلك الثور بعد مدّة من عبادتهم له، أمرهم أن يعملوا صورته من ذهب أجوف، ويؤخذ من رأسه شعرات، ومن ذنبه ومن نحاتة قرونه وأظلافه، ويجعل في التمثال المذكور، وعرّفهم أنه يلحق بعالمه، وأمرهم أن يجعلوا جسده في جرن من حجر أحمر، ويدفن في الهيكل، وينصب تمثاله عليه، وزحل في شرفه، والشمس تنظر إليه من تثليث القمر زائد النور، وينقش على التمثال علامات الكواكب السبعة، ففعلوا ذلك، وكلّلوه بجميع الأصناف من الجواهر، وجعلوا عينيه جزعتين، وغرسوا في الهيكل عليه شجرة بعد ما دفنوه في الجرن الأحمر، وبنوا منارا طوله ثمانون ذراعا على رأسه قبة تتلوّن كل يوم لونا، حتى تمضي سبعة

أيام، ثم تعود إلى اللون الأوّل، وكسوا الهيكل ألوان الثياب، وشقوا نهرا من النيل إلى الهيكل، وجعل حوله طلسمات رؤوسها رؤوس القرود على أبدان اناس، كل واحد منها لدفع مضرّة، وجلب منفعة، وأقام عند الهيكل، أربعة أصنام على أربعة أبواب، ودفن تحت كل صنم صنفا من الكنوز، وكتب عليها قربانها، وبخورها وأسكنها الشجرة، فكانت تعرف بمدينة الشجرة، ومنها كانت أصناف الشجر تخرج وهو أوّل من عمل النيروز بمصر، وفي زمانه بنيت البهنسا، وأقم بها أسطوانات وجعل فيما فوقها مجلسا من زجاج أصفر عليه قبة مذهبة إذا طلعت الشمس ألقت شعاعها على المدينة. ويقال: إنه ملكهم ثمانمائة وثلاثين سنة، ودفن في أحد الأهرام الصغار القبلية، وقيل: في غربيّ الأشمونين، ودفن معه من المال والجواهر والعجائب شيء كثير، وأصناف الكواكب السبعة التي يرى الدفين والحية، وألف سرج ذهبا وفضة، وعشرة آلاف جام وغضار من ذهب وفضة وزجاج، وألف عقاقير لفنون الأعمال، وزبروا عليه اسمه ومدّة ملكه، ووقت موته. وفي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، ظهر بالأشمونين في واد بين جبلين، فساقي «1» مربعة مملوءة ماء عذبا صافيا، فمشى شخص على حافتها طول يوم وليلة، فلم يبلغ آخرها. ويقال: إنها من عمل سوريد باني الأهرام لتكون عدّة لما كانوا قد توقعوه من حدوث طوفان ناريّ، فردم هذا الوادي بعد ذلك خوفا من تلاف الناس. يقول الشيخ الإمام محمد بن أحمد الغريانيّ: حدّثني عليّ بن حسن بن خالد الشعريّ، ثلاث مرّات لم يختلف قوله عليّ فيها، قال: حدّثني رجل من فزارة، الساكنين بكورة البهنسا قال: خرجت أنا ورجل رفيق لي نرتاد البلاد، ونطلب الرزق في الأرض، وذلك بعد سنة عشر وثمانمائة، فقطعنا الجبل الغربيّ من ناحية البهنسا، وسرنا متوكلين على الله تعالى، فأقمنا أياما، ونحن نمشي ما بين الغرب والجنوب، فوقعنا في واد كثير الشجر والنبات والماء والكلأ ليس فيه أنيس، وهو واد واسع في الطول والعرض، نحو يوم في الطول، ويوم في العرض، كله أعين وبساتين نخل وزيتون كثير الإبل والمعز، والذئب والضبع به كثير، والإبل به متوحشة، وكذلك المعز قد صارت به وحشية بعد أن كانت آنسة به، وليس بالوادي لا رائح، ولا غاد من الناس قال: فأخبرني أنهما أقاما بالوادي نحوا من شهرين أو ثلاثة، وإنهما رأيا في وسط الوادي، مدينة حصينة منيعة عالية السور شامخة القصور فإذا تقرّبا من سورها سمعا ضجيجا عظيما، وأصواتا مهولة مخوفة، ورأيا دخانا يرتفع إلى جوّ السماء، حتى يغطي سور المدينة، وجميع ما فيها، وإنّ تلك الإبل الوحشية

ذكر مدينة الأشمونين

عدت على رواحلهما الإنسية، فآذتها، وقتلتها فتحيل عند ذلك الرجلان الفزاريان بحيل، وفتلا حبالا وأشراكا شباكا من ليف النخل، وقيدا تلك الإبل الوحشية، وفتلا خوصا، وضفرا قفاصا من الخوص لزادهما، وملآها تمرا، وزللا من تلك الإبل الوحشية مكان رواحلهما عوضا عنها، وركباها متوجهين نحو الشرق، وحملا معهما من الجريد أعني جريد النخل ما يعرفان به الطريق التي بينهما وبينها، ويجعلان ذلك أمارات لمرورهما إليها، فكانا كلما مرّا على شرف جعلا عليه، جريدتين علما، حتى وصلا إلى الجبل الغربيّ من مصر، فنزلا إلى البهنسا، فعرّفا قومهما، وتحملا بأهاليهما، فلما علوا سطح الجبل الغربيّ، وجدا كلّ ما فرقاه من جريد النخل على رؤوس الآكام مجتمعا في مكان واحد في أعلى الجبل، فرجعا عند ذلك لأهاليهما، ومن معهم إلى أرض البهنسا، وهذا ما حدّثني به، والله أعلم. ذكر مدينة الأشمونين كانت من أعظم مدن الصعيد، يقال: إنها من بناء أشمون بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وقال ابن وصيف شاه: كان أشمون أعدل ولد أبيه، وأرغبهم في صنعة تبقى، ويبقى ذكرها، وهو الذي بنى المجالس المصفحة بالزجاج الملوّن وسط النيل، وتقول القبط: إنه بنى سربا تحت الأرض من الأشمونين إلى أنصنا تحت النيل، وقيل: إنه حفره، وعمله لبناته لأنهنّ كنّ يمضين إلى هيكل الشمس، وكان هذا السرب مبلط الأرض والحيطان والسقف بالزجاج الثخين الملوّن. وقيل: إنّ أشمون كان أطول إخوته ملكا. وقال أهل الأثر: إنه ملك ثمانمائة سنة، وإنّ قوم عاد انتزعوا منه الملك بعد ستمائة من ملكه، وأقاموا تسعين سنة واستولوا على البلد، فانتقلوا إلى الدثنية «1» من طريق الحجاز إلى وادي القرى، فعمروها، واتخذوا بها المنازل، والمصانع وسلط الله عليهم الذر، فأهلكهم، وعاد ملك مصر إلى أشموم. ويقال: إنه عمل على باب الأشمونين أوزة من نحاس، فكان الغريب إذا جاء ليدخل المدينة، صاحت الأوزة وصفقت بجناحيها، فيعلم به فإن أحبوا منعوه، وإن أحبوا تركوه، وكثرت الحيات في وقته، فكانوا يصيدونها، ويعملون من لحومها، أدوية وترياقات، ثم ساقوها بسحرهم إلى وادي الحيات في جبال لوبية ومراقية، فسجنوها هناك. وقال في كتاب هروشيش: إنّ أشمون بن قبط أوّل ملوك المصريين، وإنّه كان في

ذكر مدينة إخميم

زمان شاروح بن راغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وإن سنيّ الدنيا صارت إلى زمان شاروح، ألفين وتسعمائة وخمس سنين يكون ذلك بعد الطوفان بستمائة وثلاث وستين سنة، وبها كانت فرهة الخيل، والبغال والحمير، وكان يعمل بها فرش القرمز الذي يشبه الأرمني. وكان ينزل بأرض الأشمونين عدّة بطون من بني جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا بادية أصحاب شوكة، وكان معهم بنو مسلمة بن عبد الملك بن مروان خلفاء لهم، ومعهم بطن آخر يقال لهم: إنّ أباهم كان مولى لعبد الملك بن مروان، ويزعمون أنهم من بني أمية صلبية، وكان معهم أيضا حلفاء لهم بنو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ينزلون، أرض دلجة عند أشمون. ذكر مدينة إخميم ضبطها البكري «1» : بكسر الهمزة، وإسكان الخاء، ثم ميم وياء وميم على بناء إفعيل، وهي في الجانب الشرقيّ من النيل، والذي بناها مناقيوش أحد ملوك القبط الأول. قال ابن وصيف شاه: كان جلدا محتكما، فاستأنف العمارة وبنى القرى، ونصب الأعلام، وجمع الحكم، ومصاحف الملوك والحكماء، وعمل العجائب، وبنى لنفسه مدينة انفرد بها، وعمل عليها حصنا، ونصب عليه أربعة أعلام في كل ركن من أركانه علم، وبين تلك الأعلام ثمانون صنما من نحاس، وأخلاط في أيديهما السلاح، وزبر على صدرها آياتها. وكان بمنف رجل من أولاد الكهنة من أعلم الناس بالسحر، وأبصرهم بأخذ التماسيح والسباع، وكان يعلم الغلمان السحر، فإذا حذقوا علّم غيرهم، فأمر الملك أن يبني له مدينة، ويحوّل إليها وهي إخميم، فملكهم مناقيوش نيفا وأربعين سنة ومات، فدفن في الهرم المحاذي لأطفيح، ومعه شيء كثير من المال والجوهر والآنية والتماثيل، وزبر عليه اسمه، والوقت الذي هلك فيه، قال: وذكر أهل إخميم: أنّ رجلا أتى من الشرق وكان يلزم البربا، ويأتي إليه كل يوم ببخور، وخلوق فيبخر، ويطيب صورة في عضادة الباب، فيجد تحتها دينارا، فيأخذه، وينصرف ففعل ذلك مدّة حتى وشى به غلام له إلى عامل البلد، فقبض عليه، فبذل مالا وخرج عن البلد. وكانت بربا إخميم من أعجب البرابي، وأعظمها قد بنيت لخزن برّهم فإنهم قضوا على أهل مصر بالطوفان قبل وقته بقرائن، لكنهم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: تكون نار

فتحرق ماء على جميع وجه الأرض، وقال آخرون: بل يكون ماء، فعملوا هذه البرابي قبل الطوفان، وكان في هذه البربا صور الملوك الذين يملكون مصر، وكانت مبنية بحجر المرمر، وطول كل حجر منها، خمسة أذرع في سمك ذراعين، وهي سبعة دهاليز سقوفها حجارة طول الحجر منها ثمانية عشر ذراعا في عرض خمسة أذرع مدهونة باللازورد، وغيره من الأصباغ التي يحسبها الناظر، كأنما فرغ الدّهان منها الآن لجدتها، وكان كل دهليز منها على اسم كوكب من الكواكب السبعة السيارة، وجدران هذه الدهاليز منقوشة بصور مختلفة الهيئات والمقادير، فيها رموز علوم القبط من الكيمياء، والسيمياء، والطلسمات، والطب والنجوم، والهندسة وغير ذلك، أودعوها تلك الصور. وذكر ابن جبير في رحلته: أنّ طول هذه البربا مائتا وعشرون ذراعا، وسعتها مائة وسبعون ذراعا، وأنها قائمة على أربعين، سارية سوى الحيطان دور كل سارية خمسون شبرا، وبين كل ساريتين ثلاثون شبرا، ورؤوسها في نهاية العظم كلها منقشة من أسفلها إلى أعلاها، ومن رأس كل سارية إلى الأخرى لوح عظيم من الحجر المنحوت، فيها ما ذرعه ستة وخمسون شبرا طولا في عرض عشرة أشبار، وارتفاع ثمانية أشبار، وسطحها من ألواح الحجارة كأنها فرش واحد فيه التصاوير البديعة، والأصبغة الغربية كهيئة الطيور والآدميين، وغير ذلك في داخلها وخارجها، وعرض حائط البربا ثمانية عشر شبرا من حجارة مرصوصة، كذا قاسها ابن جبير في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. ويقال: إنّ ذا النون عرف منها، علم الكيمياء، وما زالت هذه البربا قائمة إلى سنة ثمانين وسبعمائة، فخرّبها رجل من أهل إخميم يعرف: بالخطيب كمال الدين بن بكر الخطيب علم الدين عليّ، ونال منها مالا، فلم تطل حياته، ومات، ومن حينئذ تلاشى أمر إخميم إلى أن خربت، وقد ذكر جماعة أنّ بربا إخميم كانت في هيئة غلام أمرد عريان، وإنّ قوما دخلوها مرّة فتبعهم، وأخذ يضربهم ضربا وجيعا، حتى خرجوا هاربين، وحكى مثل ذلك عمن دخل الأهرام أيضا. وقد حكي أنّ رجلا ألصق على صورة من بربا إخميم شمعة، فكان إذا تركها في موضع التجأت العقارب إليها، وإذا وضع الشمعة في تابوت اجتمعت العقارب حوله. ويقال: إنه كان في بربا إخميم شيطان قائم على رجل واحدة، وله يد واحدة، وقد رفعها إلى الهواء، وفي جبهته وحواليه كتابة، وله إحليل ظاهر ملتصق بالحائط، وكان يذكر أنّ من احتال، حتى ينقب على ذلك الإحليل حتى يخرجه، من غير أن ينكسر، ويعلقه على وسطه، فإنه لا يزال منغطا إلى أن ينزعه، ويجامع ما أحب، ولا يفتر ما دام معلقا عليه، وإنّ بعض من ولي إخميم اقتلعه، فوجد منه شيئا عجيبا من ذلك، وكانت الأنطاع تجلب من إخميم، وبها تعمل.

ذكر مدينة العقاب

ويقال: إنه كان بها اثنا عشر ألف عريف على السحرة، وكان بها شجر البنج، ويقال: إنّ الذي بنى بربا إخميم اسمه دومريا، وإنه جعل هذه البربا مثلا للأمم الآتية بعده، وكتب فيها تواريخ الأمم والأجيال ومفاخرهم التي يفتخرون بها، وصوّر فيها الأنبياء والحكماء، وكتب فيها من يأتي من الملوك إلى آخر الدهر، وكان بناؤه إياها والنسر برأس الحمل، والنسر يقيم عندهم في كل برج ثلاثة آلاف سنة. قلت: والنسر في زماننا بآخر باب برج الجدي، فيكون على ذلك لهذه البربا منذ بنيت نحو الثلاثين ألف سنة. وذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم القيسيّ «1» في كتاب تحفة الألباب: أن هذه البربا مربعة من حجارة منحوتة، ولها أربعة أبواب يفضي كل باب إلى بيت له أربعة أبواب كلها مظلمة، ويصعد منها إلى بيوت كالغرف على قدرها. ذكر مدينة العقاب قال المسعوديّ: مدينة العقاب غربيّ أهرام أبو صير بالجيزة على مسيرة خمسة أيام بلياليها للراكب المجدّ، وقد عوّر طريقها، وعمي المسلك إليها، والسمت الذي يؤدّي نحوها، وفيها عجائب البنيان والجواهر، والأموال. وقال ابن وصيف شاه: وكان الوليد بن دومع العمليقيّ، قد خرج في جيش كثيف يتنقل في البلدان، ويقهر ملوكها، فلما صار بالشام، وجه غلاما له يقال له: عون، فسار إلى مصر، وفتحها، ثم سار، فتلقاه عون ودخل مصر، فاستباح أهلها. ثم سنح له أن يقف على مصب النيل، فخرج في جيش كثيف، واستخلف عونا على مصر، وأقام في غيبته أربعين سنة، وإنّ عونا بعد سبع سنين من مسيرة تجبر، وادّعى أنه الملك، وأنكر أن يكون غلام الوليد وإنما هو أخوه، وغلب بالسحر، وسبى الحرائر فمال الناس إليه، ولم يدع امرأة من بنات ملوك مصر، إلا نكحها، ولا مالا إلا أخذه وقتل صاحبه، وهو مع ذلك يكرم الكهنة، ويعظم الهياكل، فاتفق أنه رأى الوليد في منامه، وهو يقول له: من أمرك أن تتسمى باسم الملك؟ وقد علمت أنه من فعل ذلك استحق القتل، ونكحت بنات الملوك، وأخذت الأموال بغير واجب، ثم أمر بقدر ملئت زيتا، وأحميت حتى غلت، ونزع ثيابه ليلقيه فيها، فأتاه عقاب، فاختطفه، وحلق به في الجوّ، وجعله في هوّة على رأس جبل، فسقط إلى واد فيه حمأة منتنة، فانتبه مرعوبا، وقص ذلك على كهنته، فقالوا: نحن نخلصك منه بأن تعمل عقابا وتعبده، فإنه الذي خلصك في نومك، فقال:

أشهد لقد قال لي: إعرف لي هذا المقام، ولا تنسه، فعمل عقابا من ذهب، وجعل عينيه جوهرتين، ووشحه بالجوهر، وعمل له هيكلا لطيفا، وأرخى عليه ستور الحرير، وأقبلوا على تبخيره وقربانه، حتى نطق لهم، فأقبل عون على عبادته، ودعا الناس إلى ذلك، فأجابوه، ثم أمر فجمع له كل صانع بمصر، وأخرج أصحابه إلى صحراء الغرب لطلب أرض سهلة حسنة الاستواء يدخل إليها من مواضع صعبة، وجبال وعرة بحيث تقرب من مغيض الماء التي هي اليوم: الفيوم، وكانت مغيضا لماء النيل، حتى أصلحها يوسف عليه السلام ليجري الماء منها إلى المدينة، فخرجوا، وأقاموا شهرا يطوفون حتى وجدوا بغيته، فلم يبق بمصر فاعل، ولا مهندس، ولا أحد له بصر بالبناء، وقطع الصخور، ونحتها، إلّا وجّه إليها، وأنفذ ألف رجل من الجيش، وسبعمائة ساحر لمعاونتهم، وأنفذ معهم الآلات والأزواد على العجل وطريق هذه العجل إلى الفيوم في صحراء الغرب واضحة من خلف الأهرام. فلما تكامل له ما أراد من نحت الحجارة، خطوا المدينة فرسخين في مثلهما، وحفروا في الوسط بئرا جعلوا فيها تمثال خنزير من نحاس بأخلاط، ونصبوه على قاعدة نحاس، ووجهه إلى الشرق، وذلك بطالع بيت زحل واستقامته وسلامته، وكان في شرفه، وذبحوا خنزيرا، ولطخوا التمثال بدمه في وجهه، وبخروه بشيء من شعره، وحشوا جوفه بدمه، وشعره وعظامه ولحمه ومرارته، وجعلوا في أذنيه من مرارته، وحرّقوا بقية الخنزير، وجعلوا رماده في قلة من نحاس بين يدي التمثال، ونقشوه بآيات زحل، ثم شقوا في البئر من الجهات الأربع في كل جهة، سربا إلى حيطان المدينة، وعملوا على أفواهها منافس تجذب الهواء، وسدّوا البئر من الجهات الأربع قبة على عمد مرتفعة على حيطان المدينة، وجعلوا فيها شوارع يتصل كل شارع بباب من أبواب المدينة، وفصلوها بالطرقات والمنازل، وجعلوا حول القبة تماثيل فرسان من نحاس بأيديهما حراب، ووجوهها تجاه الأبواب، وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود، فوقه حجر أحمر، عليه حجر أصفر، من فوقه حجر أخضر، وفوق الجميع حجر أبيض يشف، وكلها مبنية بالرصاص المصبوب بين الحجارة، وفي قلوبها أعمدة من حديد على بناء الأهرام، وجعلوا طول حصنها ستين ذراعا في عرض عشرين، وعلى رأس كل باب حصن بأعلاه، عقاب كبير من صفر وأخلاط، قد نشر جناحيه، وهو أجوف، وعلى كل ركن فارس بيده حربة، ووجهه إلى خارج المدينة، وساق الماء إلى الباب الشرقيّ ينحدر في صبه إلى الباب الغربيّ، ويخرج إلى صهاريج، وكذلك من الباب الجنوبيّ إلى الشماليّ، وقرّب للعقاب، عقبانا ذكورا، واجتلب الرياح إلى أفواه التماثيل، فصار يسمع لها أصوات هائلة، ووكل بها أرواحا تمنع الداخل إليها، إلا أن يكون من أهلها. ونصب العقاب الذي يتعبد له تحت القبة في وسط المدينة على قاعدة بأربعة أركان

ذكر مدينة الفيوم

على كل ركن، وجه شيطان، وجعلها على عمود يديرها، فكان العقاب يدور إلى الجهات، فيقيم في كل جهة ربع السنة، فلما تمّ ذلك نقل إلى المدينة الأموال والجواهر التي بمصر من عهد الملوك، والتماثيل والحكم، وتراب الفضة والعقاقير والسلاح، وحوّل إليها كبار السحرة والكهنة، وأصحاب الصنائع، والتجار وقسم المساكن بينهم، فلا يختلط أهل صناعة بسواهم وعمل بها ربضا «1» لأصحاب المهن والزراعة، وعقد على تلك الأنهار قناطر يمشي عليها الداخل إلى المدينة، وجعل الماء يدور حول الربض، ونصب عليها أعلاما وحرسا، ثم غرس وراء ذلك مما يتصل بالبرية النخل والكرم، وجميع أصناف الشجر على أقسام مقسومة، ومن وراء ذلك كله مزارع الغلات من كل جهة، كل ذلك خوفا من الوليد. قال: وبين هذه المدينة، وبين منف ثلاثة أيام، وكان يقيم فيها ويخرج إليها، ثم يعود إلى منف وكان لها أربعة أعياد في السنة، وهي: الأوقات التي يتحوّل العقاب فيها، فلما تمّ لعون ذلك، اطمأنّ قلبه، إلى أن وافى إليه كتاب الوليد من النوبة يأمره بحمل الأزواد، ونصب الأسواق، فوجه إليه في البرّ والبحر، بما أراد وحوّل أهله ومن اصطفاه من بنات الملوك والكبراء إلى المدينة. فلما قرب الوليد، خرج إليها وتحصن فيها، واستخلف على منف، فقدم الوليد، وقد سمع ما فعله عون، فغضب، وهمّ أن يبعث إليه جيشا، فعرّف بخبر المدينة ومنعتها، وخبر السحرة، فكتب إليه أن يقدم عليه، ويحذره عاقبة التخلف، فأجابه ما على الملك مني مؤنة ولا تعرّض، ولا عيب في بلده لأني عبده، وأنا له ردء في هذا المكان من كل عدوّ يأتيه من الغرب، ولا أقدر على المسير إليه لخوفي منه، فليقرّني الملك بحالي كأحد عماله، وأوجه إليه ما يلزمني من خراجه وهداياه، وبعث إليه بأموال جليلة، وجوهر نفيس، فكف عنه، وأقام الوليد بمصر حتى مات. ذكر مدينة الفيوم «2» اعلم: أن موضع الفيوم كان مغيض ماء النيل، فلما ولي السيد يوسف الصدّيق عليه السلام تدبير، أمور مصر عمّرها. قال ابن وصيف شاه: ثم ملك الريان بن الوليد، وهو فرعون وسف، والقبط تسميه: نهر أوش، فجلس على سرير الملك، وكان عظيم الخلق جميل الوجه عاقلا متمكنا، فوعد بالجميل، وأسقط عن الناس خراج ثلاث سنين، وفرّق المال في الخاص والعامّ.

وملك على البلد رجلا من أهل بيته يقال له: أطفين، وهو الذي يسميه أهل الأثر العزيز فأمر أن ينصب له في قصر الملك سرير من فضة يجلس عليه، ويغدو فيه، ويروح إلى باب الملك، ويخرج العمال والكتاب بين يديه، فكفى نهراوش، ما خلف ستره، وقام بجميع أموره، وخلاه للذته، فانغمس نهر أوش في لهوه، ولم ينظر في عمل، ولا ظهر للناس حينا، والبلد عامر، وهو لا يسأل عن شيء، وعمل له مجالس من زجاج ملوّن، وحولها ماء فيه أسماك مفرطة وبلور ملوّن، فكان إذا وقعت عليه الشمس، ظهر له شعاع عجيب، وعملت له عدّة منتزهات على عدد أيام السنة، فكان كل يوم في موضع منها، وعمل له في كل موضع من الآنية والفرش ما ليس لغيره، فاتصل بملوك النواحي تشاغله بلذاته، وتدبير أطفين. فسار ملك من العماليق يقال له: أبو قابوس عاكر بن ينحوم إلى مصر، ونزل على حدودها، فجهز إليه العزيز جيشا عليه قائد يقال له: بريانس، فأقام يحاربه ثلاث سنين، فظفر به العمليقيّ وقتله، وهدم الأعلام والمصانع، وقوي طعمه في البلد، فاجتمع الناس إلى قصر الملك، واستغاثوا، فخرج إليهم وعرض جيوشه، وخرج في ستمائة ألف مقاتل سوى الأتباع، فالتقوا من وراء الحوف، وكان بينهما قتال شديد، فانهزم العمليقيّ، وتبعه نهراوش إلى حدّ الشام، وقتل خلقا من أصحابه، وأفسد زروعهم، وأشجارهم، وحرّق وصلب، ونصب أعلاما على الأماكن التي وصلها وزبر عليها، أنى لمن تجاوز هذا المكان بالمرصاد. وقيل: إنه بلغ الموصل، وضرب على أهل الشام خراجا، وبنى عند العريش مدينة لطيفة، وشحنها بالرجال، ورجع إلى مصر، فحشد من جميع الأعمال جنودا، واستعدّ لغزو ملك الغرب، وخرج في سبعمائة ألف، فمرّ بأرض البربر، وأجلى كثيرا منها، وجهز قائدا في السفن من ناحية رقودة إلى جزائر بني يافث، فعاث فيها، وخرج من ناحية أرض البربر، فقتل وصالح بعضهم على مال حملوه إليه، ومضى إلى إفريقية وقرطاجنة، فصالحوه على مال، ومرّ حتى بلغ مصب البحر الأخضر إلى بحر الروم، وهو موضع أصنام النحاس، فأقام هناك صنما زبر عليه، اسمه، وتاريخ خروجه، وضرب على أهل تلك النواحي الخراج، وعدّى إلى الأرض الكبيرة. وسار إلى الأندلس، فحاربه ملكها أياما، ثم صالحه على مال وأن يمنع من يغزو مصر من ناحيته، وانصرف على غير البحر مشرّقا في بلاد البربر، فلم يمرّ بأمّه إلا ودخلت في طاعته، ومرّ في الجنوب، فقتل خلقا وبعث قائدا إلى مدينة على البحر الأسود، فخرج إليه ملكها، وذكر له حال الريان ومصالحة الملوك له، فقال: ما بلغنا أحد قط، وسأله القائد عن البحر هل ركبه أحد قط؟ فقال: ما يقدر أحد على ركوبه، وربما أظله غمام، فلا يرى أياما.

وقدم الريان، فحملوا الهدايا إليه وفاكهة أكثرها الموز، وحجارة سوداء إذا جعلت في الماء صارت بيضاء، ثم سار الملك على أمم السودان إلى مملكة الدمدام «1» الذين يأكلون الناس، فخرجوا إليه عراة، فهزمهم وظفر بهم، ومرّ على البحر المظلم، فغشيهم منه غمام، فترجع شمالا حتى انتهى إلى تمثال من حجر أحمر يومئ بيده ارجعوا، وعلى صدره مزبور ما ورائي أحد، فسار إلى مدينة النحاس، فلم يصل إليها ومضى إلى الوادي المظلم، فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة، ولا يرون أحدا لشدّة ظلمته، وسار إلى وادي الرمل، فرأى على معبره أصناما عليها أسماء الملوك، فأقام عليه صنما زبر عليه اسمه، فلما أثبت الرمل جاز عليه إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود، فرأى سباعا يزأر بعضها على بعض، فحكم أنه لا مذهب له من ورائها، فرجع وعدّى وادي الرمل، ومرّ بأرض العقارب فهلك بعض أصحابه، ودفعوا عن أنفسهم أذاها بالرقي وجازها إلى مدينة الحكماء، وتعرف بمدينة الكند، ففرّوا منه إلى جبل. فأقام عليه أياما حتى كاد يهلك جيشه عطشا، فنزل إليه من الجبل رجل من أفاضل الحكماء، وقد لبس شعره جسده، فقال للملك: أين تريد أيها المغرور الممدود له في الأجل المرزوق فوق الكفاية أتعبت نفسك، وجيشك ألا اجترأت بما تملكه، واتكلت على خالقك، وربحت الراحة، وتركت العناء والغرر بهذا الخلق؟ فعجب من قوله وسأله عن الماء، فدله عليه، وسأله عن موضعهم فقال: موضع لا يصل إليه أحد ولا بلغه قبلك أحد، فقال: ما عيشك؟ قال: من أصول النبات نقنع به، ويكفينا اليسير، قال: فمن أين تشربون؟ قال: من الأمطار والثلوج، قال: فلم هربتم منا؟ قال: زهادة في مخالطتكم وإلا فليس لنا ما نخافكم عليه، قال: فكيف بكم إذا حميت الشمس؟ قال: نأوي إلى غيران تحت هذا الجبل، قال: فهل لكم في مال أخلفه لكم؟ قال: إنما يريد المال أهل الترف، ونحن لا نستعمل منه شيئا استغنينا عنه بما قد اكتفينا به، وعندنا منه ما لو رأيته لاحتقرت ما عندك، قال: فأرنيه، فانطلق بنفر من أصحابه إلى أرض في سفح جبلهم فيها قضبان ذهب ناتئة، وأراهم واديا لهم في حافتيه حجارة زبرجد، وفيروز فأمر نهراوش أصحابه أن يحملوا من كبار تلك الحجارة، ففعلوا. ورأى الحكيم جماعة الملك يصلون إلى صنم يحملونه معهم، فسأل الملك: أن لا يقيم بأرضهم، وخوّفه من عبادة الأصنام، فودّعه وسار، فلم يمرّ بأمّه إلا أثر فيها حتى بلغ النوبة، فصالحهم على مال، وأقام على دنقلة «2» صنما، وزبر عليه اسمه ومسيره، وسار يريد مدينة منف، فكان أهل كل مدينة من مدائن مصر يتلقونه بالفرح والسرور والرياحين

والطيب إلى أن بلغ منف، فخرج أهلها إليه مع العزيز بأصناف الرياحين، والطيب، وكان العزيز قد بنى له مجلسا من زجاج ملوّن وفرشه بأحسن فرش، وغرس حوله الأشجار والرياحين، وجعل فيه بحرة من زجاج سماويّ، وفي أرضه شبه السمك من زجاج أبيض، فنزل الملك فيه، وأقام الناس يأكلون ويشربون أياما كثيرة، وتفقد جيشه، ففقد منهم سبعين ألفا، ووجد فيهم ممن أسره نيفا وخمسين ألفا، فكانت مدّة غيبته عن مصرفي مسيرة هذه، إحدى عشرة سنة. فلما بلغ الملوك قدومه هابوه، واشتدّ بأسه، وتجبر وبنى في الجانب الشرقيّ قصورا من رخام، ونصب عليها أعلاما، وأمر بالعمارة، وإصلاح الجسور، واستنباط الأراضي حتى زاد الخراج على مائة ألف ألف دينار. ودخل إلى البلد في أيامه غلام من أهل الشام احتال عليه إخوته، وباعوه، وكانت قوافل الشام تعرّس بناحية الموقف اليوم، فوقف الغلام، ونودي عليه، وهو: يوسف الصدّيق ابن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم وسلامه، فاشتراه إطفين ليهديه إلى الملك. فلما أتي به قصره، رأته امرأته زليخا، وهي ابنة عمه، فقالت: اتركه لنا نربيه لينفعنا، وكان من أمرها ما قصه الله تعالى في القرآن، فكانت تكتم حبه حتى غلبت، فخلت به وتزينت له، وعرّفته أنها تحبه، وأنه وإن واتاها على ما تريده منه حبته بمال عظيم، فامتنع من ذلك، ورأت أن تغلبه، فما زالت تعاركه، وهو ممتنع منها إلى أن وافى زوجها وراءه، وهو هارب منها، وكان العزيز عنينا لا يأتي النساء، فجعل يوسف يعتذر إليه وقالت: إني كنت نائمة، فأتاني يراودني عن نفسي، وتبين من شاهد أهلها أن الأمر من قبل امرأته، فقال ليوسف: أعرض عن هذا، أي عن اعتذارك، وقال لها: استغفر لذنبك، وقد كان خبر أطفين، والغلام بلغ الملك، وكان نهراوش عاود العكوف على اللهو والاحتجاب عن الناس، واتصل خبر زليخا ويوسف بنساء الخاصة، فعيرنها بذلك، فدعت جماعة منهنّ، وصنعت لهنّ طعاما وشرابا، وعملت مجلسين مذهبين وفرشتهما بديباج أصفر مذهب، وأرخت عليهما ستور الديباج، وأمرت المواشط بتزين يوسف وإخراجه من المجلس الذي يحاذي المجلس الذي كانت مع النسوة فيه، وكان المجلس محاذيا للشمس، فأخذته المواشط، ونظمن شعره بأصناف الجواهر، وألبسنه ثوب ديباج أصفر، قد نسج بدارات حمر مذهبة فيها أطيار صغار خضر مبطن ببطانة خضراء، ومن تحته غلالة حمراء، وعلى رأسه تاج قد نظم بالدرّ والجوهر، وأخرجن من تحت التاج أطراف شعره على جبهته، ورددن ذوائبه على صدره، وجعلن جبهته مكشوفة، والتاج محيط بها، وفي أذنيه قرطي جوهر، ومن خلف طوق القباء شعر مسبل بين كتفيه منظوم مشبك بالذهب والجوهر، وفي عنقه

طوق منظوم بذهب مشدّد بجوهر أحمر ودرّ فاخر، وفي وسطه منطقة ذهب فيها لوالب جوهر ملوّن، ولها معاليق منظومة، وألبسنه خفين أبيضين منقوشين بأخضر على نقوش ذهب، وجعلن للقباء الذي عليه وشاحين وإفراور يحيط بأسفله وكميه من جوهر أخضر، وعقرين صدغيه على خديه، وكحلن عينيه، ودفعن إليه مذبة شعرها أخضر. فلما فرغ النساء من طعامهنّ، وشربن أقداحا قدّمت إليهنّ سكاكين قبضهنّ من جوهر ليقطعن بها الفاكهة، فيقال: إنهنّ أخذن أترجا، وهنّ يقطعنه إذ قالت لهنّ: قد بلغني حديثكنّ في أمري مع عبدي، فقلن لها: الأمر كما بلغك لأنك أعلى قدرا من هذا، ومثلك يرتفع عن أولاد الملوك لحسنك وشرفك، فكيف ترضين بغلامك؟ فقالت: لم يبلغكنّ الصدق، ولا هو عندي بهذا، وأو مأت إلى المواشط أن يخرجن يوسف، فرفعن الستور عن المجلس الذي يحاذي مجلسها، وبرز منه يوسف محاذيا بوجهه الشمس، فأشرق المجلس، وما فيه من وجه يوسف، وأقبل بالمذبة، وهنّ يرمقنه. فوقف على رأس زليخا يذب عنها، فاشتغل النساء برؤيته، وجعلن يقطعن أيديهنّ موضع الفاكهة التي كانت معهنّ، ولا يعين الكلام ذهولا منهنّ بما رأين من حسن يوسف! فقالت لهنّ زليخا ما لكنّ قد اشتغلتن عن خطابي بالنظر إلى عبدي؟ فقلن: معاذ الله ما هذا عبدك؟ إن هذا إلّا ملك كريم، ولم يبق منهنّ امرأة إلا حاضت، وأنزلت شهوة من محبته «1» ، فقالت زليخا عند ذلك: فهذا الذي لمتني فيه، فقلن: ما ينبغي لأحد أن يلومك في هذا، ومن لامك فقد ظلمك فدونكه، قالت: قد فعلت، فأبى عليّ، فخاطبنه لي. فكانت كل واحدة منهنّ تخاطبه وتدعوه سرّا إلى نفسها، وتبتذل له، وهو يمتنع عليها فإذا يئست منه أن يجيبها لنفسها خاطبته من جهة زليخا، وقالت: مولاتك تحبك وأنت تكرهها، ما ينبغي أن تخالفها، فقال: ما لي بذلك حاجة، فلما رأين ذلك أجمعن على أخذه غصبا، فقالت زليخا: لا يجوز هذا لكنه إن لم يفعل لأمنعنه اللذات ولأسجننه وأنتزع جميع ما أعطيته، فقال يوسف: رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه، فأقسمت بإلهها وكان صنما من زبرجد أخضر باسم عطارد إنه إن لم يفعل لتعجلن له ذلك. ثم أمرت بنزع ثيابه، وألبسته الصوف، وسألت العزيز حبسه ليزول ما قذفها به، فأمر به فحبس، ورأى الملك في منامه كأن آتيا أتاه، فقال له: إن فلانا وفلانا قد عزما على قتلك يريد صاحبي طعامه وشرابه، فلما أصبح قرّرهما فاعترفا له، وقيل: اعترف أحدهما، وأنكر الآخر فأمر بحبسهما، وكان اسم صاحب الطعم راسان، واسم صاحب الشراب مرطس،

وكان يوسف عليه السلام وهو في السجن رؤوفا بمن فيه، ويعدهم الفرج، فأخبره صاحبا طعام الملك وشرابه برؤياهما التي قصها الله في كتابه، فوقع كما قصه يوسف، ورأى الملك البقرات والسنابل، فعرّفه الساقي خبر يوسف، فمضى إليه، وقصها عليه. فلما عاد إلى الملك قال: جيئوني به، فقال يوسف: ما أخرج أو يكشف أمر النسوة اللاتي من أجلهنّ حبست، فكشف عن ذلك، فاعترفت زليخا بالقصة، ووجه إليه، فأخرج وغسل من درن السجن، وألبس ما يليق بالدخول على الملوك، فلما رآه امتلأ قلبه من حبه وإكباره، وسأله عن الرؤيا ففسرها كما قال الله تعالى. فقال الملك: ومن يقوم لي بذلك؟ قال: أنا، فخلع عليه خلع الملوك، وألبسه تاجا وأمر أن يطاف به وركب الجيش معه، وتردد إلى قصر الملك، وجلس على سرير العزيز، واستخلفه الملك على ملكه مكانه. ويقال: إنّ العزيز إطفين، كان قد مات، فزوّجه امرأته، وقال لها يوسف: هذا أصلح مما أردت، فقالت: اعذرني إنّ زوجي كان عنينا، ولم ترك امرأة إلّا صبا قلبها إليك من حسنك، وجاءت سنّو خصب في مصر، فجمع يوسف الغلال، وخزنها وأكثر منها، فلما جاءت سنّو الجدب بدأ النيل في النقصان، وكان ينقص كل سنة أكثر من التي قبلها، فقحط البلد حتى بيع القمح بالمال والجوهر والدواب والثياب والآنية والعقار، وكاد أهل مصر يرحلون عنها لولا تدبير يوسف، وقحط الشام أيضا، وكان من مجيء إخوة يوسف ما قصه الله تعالى، ووجه إلى أبيه، فحمل إلى مصر وجميع أهله، وخرج في وجوه أهل مصر، فتلقاه وأدخله على الملك، وكان يعقوب مهابا، فأعظمه الملك، وسأله عن سنه وصناعته وعبادته فقال: سني عشرون ومائة سنة، وأما صناعتي فلنا غنم ترعى ننتفع بها، وأعبد رب العالمين الذي خلقك وخلقني، وهو إله آبائي وإلهك وإله كل شيء. وكان في مجلس الملك، كاهن جليل القدر، فقال للملك: إني أخاف أن يكون خراب مصر على يد ولد هذا، فقال له الملك: فأنّى لنا خبره، فقال الكاهن ليعقوب: أرني إلهك أيها الشيخ، قال: إلهي أعظم من أن يرى، قال: فإنا نرى آلهتنا، قال: إن آلهتكم من ذهب وفضة وحجارة وجوهر ونحاس وخشب، مما يعمله بنو آدم، وهم عبيد، إلهي لا إله إلّا هو العزيز الحكيم، قال الكاهن: إنّ كل شيء لا تراه العيون ليس بشيء، فغضب يعقوب وكذبه، وقال: إنّ الله شيء لا كالأشياء وهو خالق كل شيء لا إله إلا هو، قال: فصفه لنا، قال: إنما يوصف المخلوق لكنه خالق واحد قديم مدبر أزليّ يرى ولا يرى، وقام يعقوب مغضبا، فأجلسه الملك وأمر الكاهن، فكف عنه، فقال الكاهن: إنا نجد في كتبنا أنّ خراب مصر يجري على أيدي هؤلاء؟ فقال الملك: هذا يكون في أيامنا؟ قال: لا، ولا إلى مدّة كثيرة، والصواب: أن يقتله الملك ولا يبقى من ذريته أحدا، فقال الملك: إن كان الأمر كما تقول، فلا يمكننا أن ندفعه، ولا نقدر على قتل هؤلاء، وأنزل يعقوب ومن معه بوادي

السدير «1» إلى أن مات، فحمل إلى قرية إبراهيم عليه السلام ودفن عنده. ويقال: إنّ نهراوش الملك آمن، وكتم إيمانه خوفا من فساد أمره، وأقام ملكا مائة وعشرين سنة. وفي وقته عمل يوسف الفيوم، فإنّ أهل مصر كانوا وشوا به إلى الملك، وقالوا: قد كبر ونقص نفعه، فاختبره فقال له: إني وهبت هذه الناحية لابنتي، وكانت مغايض للماء، فدبرها لها، فعملها يوسف، واحتال للمياه حتى أخرجها، وقلع أو حالها وساق المنهي، وبنى اللاهون، وجعل الماء فيها مقسوما موزونا، وفرغ منها في شهور أربعة، فعجبوا من حكمته. ويقال: إنه أول من هندس بمصر، ومات نهراوش: فخلف ابنه در مجوش وسمته أهل الأثر: دارم بن الريان، وهو الفرعون الرابع عندهم، فحالف سنة أبيه، وكان يوسف خليفته، فقبل منه بعضا وخالفه في البعض، فمات يوسف في أيامه، وله مائة وعشرون سنة، فكفن وجعل في تابوت من رخام، ودفن في الجانب الغربيّ، فأخصب ونقص الشرقيّ، فحوّل إليه، فأخصب ونقص الغربيّ، فاتفقوا على أن يجعلوه في الشرقيّ عاما وفي الغربيّ عاما، ثم حدث لهم من الرأي أن يجعلوا له حلقا وثاقا، ويشدّوا التابوت في وسط النيل، فأخصب الجانبان كلاهما. وقال ابن عبد الحكم: فملكهم الريان بن الوليد بن دومع، وهو صاحب يوسف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رأى الملك رؤياه التي رأى، وعبره يوسف أرسل إليه الملك، فأخرجه من السجن. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فأتاه الرسول، فقال: ألق عنك ثياب السجن، والبس ثيابا جددا، وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رأى غلاما حدثا، فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا تعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدّامه، وقال له: لا تخف، قال: فلما استنطقه، وسأله عظم في عينيه، وجعل إليه أمره فدفع إليه خاتمه، وولاه ما خلف بابه وألبسه طوقا من ذهب وثياب حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك، وضرب بالطبل بمصر: إنّ يوسف خليفة الملك. وعن عكرمة: أن فرعون قال ليوسف: قد سلطنتك على مصر غير أني أريد أن أجعل كرسيّ أطول من كرسيك بأربع أصابع، قال يوسف: نعم وأجلسه على السرير، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوّض أمر مصر كلها إليه، فبسبب عبارة رؤيا الملك ملك يوسف مصر.

وعن الليث بن سعد قال: حدّثني مشيخة لنا قالوا: اشتدّ الجوع على أهل مصر، فاشتروا الطعام بالذهب حتى لم يجدوا ذهبا، فاشتروا بالفضة، حتى لم يجدوا فضة، فاشتروا بأغنامهم، حتى لم يجدوا غنما، فلم يزل يبيعهم الطعام حتى لم يبق لهم فضة ولا ذهب، ولا شاة ولا بقرة في تلك السنين، فأتوه في الثالثة فقالوا: لم يبق لنا إلا أنفسنا، وأهلونا وأرضونا، فاشترى يوسف أرضهم كلها لفرعون، ثم أعطاهم يوسف طعاما يزرعونه على أن لفرعون الخمس. ويقال في خبر بناء يوسف عليه السلام: مدينة الفيوم أنه لما وزر لفرعون ثلاثين سنة عزله، فقال: لم عزلتني؟ فقال: لم أعزلك لريبة، ولا أنسى بركتك، ولكن آبائي عهدوا إليّ أن لا يتولى لنا وزير أكثر من ثلاثن سنة، وإنا نخشى أن يتأصل الوزير حتى يدبر على الملك، فقال له يوسف: قد علمت نصحي لك، حتى صيرت ديار مصر كلها ملكا لك، فأقطعني أرضا تكون لقوتي وقوت أهلي وعشيرتي، فقال له فرعون: اختر حيث شئت، فمشى يوسف في قفار الأرض حتى رأى أرض الفيوم، وفيها جبل حائل بين النيل وبينها، فوزن ماء النيل حتى رأى أن قاعها يركبه النيل، فحرق خرقا في ذلك الجبل، وساق الماء فيه إلى الفيوم، فسقى الأرض، وعمل في جوانب الماء، ثلثمائة وستين قرية على عدد أيام السنة، وشحنها بالغلال، والأقوات التي ازدرعها، فكان إذا نقص النيل، ووقع الجوع بأرض مصر، باع كل يوم، ما جمعه في قرية من قرى الفيوم، حتى ملك مصر لنفسه، كما جمعها للملك، فعظم شأن يوسف، وكثر ماله، فردّه الملك بعد مدّة إلى وزارته، وتوفي وهو وزير، فأوصى بخروج جثته إلى الأرض المقدّسة، فخرج بها هارون بن إفراييم بن يوسف في مائة ألف من بني إسرائيل، فهزمته الجبابرة فيما بين مصر والشام، وهلك أكثر من معه، وعاد بمن بقي معه إلى مصر، فأقاموا بها، حتى بعث الله موسى بن عمران عليه السلام إلى فرعون رسولا، فخرج ببني إسرائيل من مصر، ومعه جثة يوسف عليه السلام. وفي ذلك الزمان استنبطت الفيوم، وقيل: كان سبب ذلك، أنّ يوسف عليه السلام لما ملك مصر، وعظمت منزلته من فرعون، وجاوز سنه مائة سنة، قال وزراء الملك له: إنّ يوسف قلّ عمله، وتغير عقله، ونفدت حكمته، فعنفهم فرعون، وردّ عليهم مقالتهم وأساء اللفظ لهم، فكفوا، ثم عاودوه بذلك القول بعد سنين، فقال لهم: هلموا ما شئتم من أيّ شيء أختبره به. وكان بلد الفيوم يومئذ يدعى الجوبة، وإنما كانت لمصالة ماء الصعيد، وفضوله فاجتمع رأيهم على أن تكون هي المحنة التي يمتحنون بها يوسف، فقالوا لفرعون: سل يوسف أن يصرف ماء الجوبة عنها، ويخرجه منها، فتزداد بلدا إلى بلدك وخراجا إلى خراجك، فدعا يوسف فقال: تعلم مكان ابنتي فلانة مني وقد رأيت إذا بلغت أن أطلب لها

بلدا، وإني لم أصب لها إلا الجوبة، وذلك إنه بلد بعيد قريب لا يرى بوجه من الوجوه إلا من غابة أو صحراء، وكذلك ليست هي تؤتى من ناحية من النواحي من مصر إلا من مفازة وصحراء، فالفيوم وسط مصر كمثل مصر في وسط البلاد، لأنّ مصر لا تؤتى من ناحية من النواحي إلّا من صحراء أو مفازة قال: وقد اقتطعتها إياها، فلا تتركن وجها، ولا نظرا إلا بلغته، فقال يوسف: نعم أيها الملك، متى أردت ذلك فابعث إليّ، فإني إن شاء الله فاعل ذلك، قال: إنّ أحبه إليّ وأرفعه، وأعجله، فأوحى إلى يوسف، أن تحفر ثلاثة خلج، خليجا من أعلى الصعيد من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا شرقيا من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا غريبا من موضع كذا إلى موضع كذا. فوضع يوسف العمال، فحفر خليج المنهى من أعلى أشمون «1» إلى اللاهون «2» ، وأمر البنائين أن يحفروا اللاهون، وحفر خليج الفيوم، وهو الخليج الشرقيّ، وحفر خليجا بقرية يقال لها: بنهمت، من قرى الفيوم، وهو الخليج الغربيّ، فخرج ماؤها من الخليج الشرقيّ، فصب في النيل وخرج من الخليج الغربيّ، فصب في صحراء بنهمت إلى الغرب، فلم يبق في الجوبة ماء، ثم أدخلها الفعلة، فقطع ما كان فيها من القصب والطرفاء، وأخرجه منها، وكان ذلك ابتداء جري النيل، وقد صارت أرض الجوبة نقية برية، وارتفع ماء النيل، فدخل في رأس المنهي، فجرى فيه حتى انتهى إلى اللاهون، فقطعه إلى الفيوم، فدخل خليجها فسقاها، فصارت لجة من النيل، وخرج إليها الملك ووزراؤه وكان هذا كله في سبعين يوما. فلما نظر إليها الملك قال لوزرائه: أولئك هذا عمل ألف يوم، فسميت: الفيوم، وأقامت تزرع كما تزرع غوائط مصر. قال: وقد سمعت في استخراج الفيوم غير هذا، أنّ يوسف عليه السلام ملك مصر، وهو ابن ثلاثين، فأقام يدبرها أربعين سنة، فقال أهل مصر: قد كبر يوسف واختلف رأيه، فعزلوه وقالوا: اختر لنفسك من الموات أرضا تقطعها لنفسك، وتصلحها وتعمل رأيك فيها، فإن رأينا من رأيك وحسن تدبيرك ما نعلم أنك في زيادة من عقلك رددناك إلى ملكك، فاعترض البريّة في نواحي مصر، فاختار موضع الفيوم، فأعطيها فشق إليها خليج المنهي من النيل، حتى أدخله الفيوم كلها، وفرغ من حفر ذلك كله في سنة. قال يزيد بن أبي حبيب: وبلغنا أنه إنما عمل ذلك بالوحي وقوي على ذلك بكثرة

الفعلة والأعوان، فنظروا، فإذا الذي أحياه يوسف من الفيوم لا يعلمون له بمصر كلها مثلا ولا نظيرا، فقالوا: ما كان يوسف قط أفضل عقلا ولا رأيا ولا تدبيرا منه اليوم، فردّوا إليه الملك، فأقام ستين سنة أخرى تمام مائة سنة، حتى مات، وهو ابن ثلاثين ومائة سنة. قال: ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك، وإنه إنما كان ذلك على المحنة منهم له، فقال للملك: عندي من الحكمة والتدبير غير ما رأيت، فقال له الملك: وما ذاك؟ قال: أنزل الفيوم من كل كورة من كور مصر أهل بيت، وآمر أهل كل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية، وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر، فإذا فرغوا من بناء قراهم، صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصير لها من الأرض لا يكون في ذلك زيادة، ولا نقص، وأصير لكل قرية شربا في زمان لا ينالهم الماء إلّا فيه، وأصير مطأطئا للمرتفع، ومرتفعا للمطأطىء بأوقات من الساعات في الليل والنهار، وأصير لها قبضات، فلا يقصر بأحد دون حقه، ولا يزداد فوق قدره، فقال له فرعون: هذا من ملكوت السماء؟ قال: نعم، فبدأ يوسف، فأمر ببنيان القرى وحدّد لها حدودا، وكانت أوّل قرية عمرت بالفيوم قرية يقال لها سانة، وهي القرية التي كانت تنزلها بنت فرعون، ثم أمر بحفر الخليج، وبنيان القناطر، فلما فرغوا من ذلك استقبل وزن الأرض، ووزن الماء، ومن يومئذ حدثت الهندسة، ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك، وكان أوّل من قاس النيل بمصر، يوسف، ووضع مقياسا بمنف. قال جامعه: وفي التوراة: أن فرعون ألزم بني إسرائيل البناء، وضرب اللبن، فبنوا له عدّة مدن محصنة منها فيثوم وعرمسيس. قال الشارح: هي الفيوم، وحوف رمسيس، وفي زمان الريان بن الوليد، دخل يعقوب عليه السلام، وولده مصر، وهم ثلاثة وسبعون نفسا ما بين رجل وامرأة، فأنزلهم يوسف ما بين عين شمس إلى الفرما، وهي أرض ريفية بريّة، وكان يعقوب لما دنا من مصر أرسل، يهودا إلى يوسف، فخرج إليه يوسف، فلقيه فالتزمه وبكى. فلما دخل يعقوب على فرعون كلمه، وكان يعقوب شيخا كبيرا حليما حسن الوجه واللحية جهير الصوت، فقال له فرعون: أيها الشيخ كم أتى عليك؟ قال: عشرون ومائة، وكان بهمن ساحر فرعون قد وصف صفة يعقوب ويوسف وموسى صلوات الله عليهم في كتبه، وأخبر أن خراب مصر، وهلاك أهلها يكون على أيديهم، ووضع البربايات وصفات من تخرب مصر على يديه. فلما رأى يعقوب، قام إلى مجلسه، فكان أول ما سأله عنه أن قال: من تعبد أيها الشيخ؟ قال له يعقوب: أعبد الله إله كل شيء، فقال: فكيف تعبد من لا ترى؟ قال يعقوب: إنه أعظم وأجلّ من أن يراه أحد، قال: فنحن نرى آلهتنا؟ قال يعقوب: إن آلهتكم من عمل أيدي بني آدم من يموت ويبلى، وإنّ إلهي لأعظم وأرفع، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، فنظر بهمن إلى فرعون فقال: هذا الذي يكون هلاك بلادنا على يديه؟

قال فرعون: أفي أيامنا أو في أيام غيرنا؟ قال: ليس في أيامك ولا أيام بنيك، قال الملك: فهل تجد هذا فيما قضى به إلهكم؟ قال: نعم، قال: فكيف تقدر أن تقيل من يريد إلهه هلاك قومه على يديه؟ فلا يعبأ بهذا الكلام. وعن كعب: أنّ يعقوب عاش في أرض مصر ست عشرة سنة، فلما أحضرته الوفاة قال ليوسف: لا تدفني بمصر، فإذا مت فاحملوني فادفنوني في مغارة جبل جيرون، وجيرون مسجد إبراهيم الخليل عليه السلام، وبينه وبين بيت المقدس، ثمانية عشر ميلا. قال: فلما مات لطخوه بمرّ وصبر وجعلوه في تابوت من ساج، فكانوا يفعلون به ذلك أربعين يوما، حتى كلم يوسف فرعون، فأعلمه: أنّ أباه قد مات، وإنه سأله أن يقبره في أرض كنعان، فأذن له وخرج معه أشراف أهل مصر، حتى دفنه، وانصرف. وقيل: قبر يعقوب بمصر، فأقام بها نحوا من ثلاث سنين، ثم حمل إلى بيت المقدس، وأوصاهم بذلك عند موته. قال: ثم مات الريان بن الوليد، فملكهم من بعده ابنه دارم بن الريان، وفي زمانه توفي يوسف عليه السلام، فلما حضرته الوفاة قال: إنكم ستخرجون من أرض مصر إلى أرض آبائكم، فاحملوا عظامي معكم، فمات فجعلوه في تابوت، ودفنوه في أحد جانبي النيل، فأخصب الجانب الذي كان فيه، وأجدب الجانب الآخر، فحوّلوه إلى الجانب الآخر، فأخصب الجانب الذي حوّلوه إليه، وأجدب الآخر. فلما رأوا ذلك جمعوا عظامه، فجعلوها في صندوق من حديد، وجعلوا فيه سلسلة، وأقاموا عمودا على شاطىء النيل، وجعلوا في أصله سكة من حديد، وجعلوا السلسلة في السكة، وألقوا الصندوق في وسط النيل، فأخصب الجانبان جميعا. وكان سبب حمل عظام يوسف من مصر إلى الشام أنّ سارة ابنة أسر بن يعقوب عمّرت حتى صارت عجوزا كبيرة ذاهبة البصر، فلما سرى موسى عليه السلام ببني إسرائيل غشيتهم ضبابة، حالت بينهم وبين الطريق أن يبصروه، وقيل لموسى: لن تعبر إلّا ومعك عظام يوسف، قال: ومن يدري أين موضعها؟ قالوا: عجوز كبيرة ذاهبة البصر تركناها في الديار، فرجع موسى، فلما سمعت حسه قالت: ما ردّك؟ قال: أمرت أن أحمل عظام يوسف، قالت: ما كنتم لتعبروا إلا وأنا معكم، قال: دليني على عظام يوسف، فدلته عليها، فأخذ عظام يوسف معه إلى التيه «1» . يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم: خليل الرحمن صلوات الله عليهم أحد

ذكر ما قيل في الفيوم وخلجانها وضياعها

الأسباط الاثني عشر ولد بأرض كنعان من بلاد الشام، ورأى الأحد عشر كوكبا، والشمس والقمر له ساجدين، وعمره سبع عشرة سنة، وكاد إخوته على ذلك، وباعوه من قوم مدنيين، فساروا به إلى مصر، وباعوه لقائد فرعون، فأقام في منزله اثني عشر شهرا، ثم راودته امرأة العزيز عن نفسه، فاعتصم، وكذبت عليه، إلى أن حبس، ومكث في السجن عشر سنين، وقيل غير ذلك، فلم يزل في السجن إلى أن رأى الساقي والخباز ذينك المنامين، وفسّر لهما يوسف وخرجا فأنسي الساقي يوسف سنتين إلى أن رأى الملك البقر والسنابل، فذكره، وأتاه فقص عليه الرؤيا وعبرها، فأخرج من السجن، وله حينئذ ثلاثون سنة، فاستوزره الملك، ومن ذلك الوقت إلى أن صار يعقوب إلى مصر تسع سنين منها، سبع سنين من سني الشبع، وسنتان من سني الجوع، وكان ليعقوب في السنة التي صار فيها إلى مصر، مائة سنة وثلاثون سنة، وكان أهل بيته حينئذ سبعين نفسا، ومنذ سار إلى مصر إلى أن ولد موسى عليه السلام، مائة وثلاثون سنة أخرى. فلما مضى له بمصر، سبع عشرة سنة توفي وعمره مائة وسبع وأربعون سنة، فخاف الأسباط حينئذ مقابلة يوسف إياهم، فقالوا: إنّ أباك أوصى أن تغفر ذنب إخوتك، فإنك وهم عبيد الله، إله أبيك، فبكى يوسف، وقال لهم: لا تحتاجون إلى ذلك، ووعدهم بخير تممه لهم، ومات يوسف وله مائة سنة وعشر سنين، والله أعلم. ذكر ما قيل في الفيوم وخلجانها وضياعها قال اليعقوبيّ: كان يقال، في متقدّم الأيام مصر والفيوم لجلالة الفيوم، وكثرة عمارتها، وبها القمح الموصوف، وبها يعمل الخيش. وحكى المسعوديّ: أنّ معنى الفيوم، ألف يوم. قال القضاعيّ: الفيوم وهي مدينة دبرها يوسف النبيّ عليه السلام بالوحي، وكانت ثلثمائة وستين ضيعة، تمير كل ضيعة منها مصر يوما واحدا، فكانت تمير مصر السنة، وكانت تروى من اثني عشر ذراعا، ولا يستبحر ما زاد على ذلك، فإنّ يوسف عليه السلام اتخذ لهم مجرى ورتبه ليدوم لهم دخول الماء فيه، وقوّمه بالحجارة المنضدة، وبنى به اللّاهون. وقال ابن رضوان «1» : الفيوم يخزن فيه ماء النيل، ويزرع عليه مرّات في السنة، حتى إنك ترى هذا الماء إذا خلى يغير لون النيل، وطعمه وأكثر ما تحسن هذه الحالة في البحيرة

التي تكون في أيام القيظ سفط ونهيا، وصاعدا إلى ما يلي الفيوم، وهذه حالة تزيد في رداءة أهل المدينة يعني مصر، ولا سيما إذا هبت ريح الجنوب، فإنّ الفيوم في جنوب مدينة مصر على مسافة بعيدة من أرضها. وقال القاضي السعيد أبو الحسن عليّ بن القاضي المؤتمن، بقية الدولة أبي عمرو عثمان بن يوسف القرشيّ المخزوميّ في كتاب المنهاج في علم الخراج: وهذه الأعمال من أحسن الأشياء تدبيرا وأوسعها أرضا وأجودها قطرا، وإنما غلب على بعضها الخراب لخلوّها من أهلها، واستيلاء الرمل على كثير من أرضها، وقد وقفت على دستور عمله أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر بن الحسن بن إسحاق لذكر خلجان الأعمال المدثورة، وما عليها من الضياع، وقد أوردته ههنا، وإن كان منه ما قد دثر، ومنه ما تغيرت أسماؤه، ومنه ما جهلت مواضعه بالدثور، ولكن أوردته ليعلم منه حال العامر الآن، ويستقصي به من له رغبة في عمارة ما يقذر عليه من الغامر، وفي إيراده مصلحة ليعلم شرب كل موضع ونسخته. دستور: على ما أوضحه الكشف من حال الخلج الأمّهات بمدينة الفيوم، وما لها من المواضع وشرب كل ضيعة منها، ورسمها في السدّ والفتح والتعديل والتحرير، وزمان ذلك عمل في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، تبتدىء بعون الله وحسن توفيقه بذكر حال البحر الأعظم الذي منه هذه الخلج، فنذكر مادّته التي صلاحه بصلاحها. خليج الفيوم الأعظم: يصل الماء إلى هذا الخليج من البحر الصغير المعروف بالنهي ذي الحجر اليوسفيّ، وفوقه هذا البحر عند الجبل المعروف: بكرسيّ الساحرة من أعمال الأشمونين، ومنه شرب بعض الضياع الأشمونية، والقيسية، والأهناسية وعلى جانبيه ضياع كثيرة شربها منه، وشرب كروم ما له كروم منها. قال الحجر اليوسفيّ: والحجر اليوسفيّ جدار مبنيّ بالطوب، والجير المعروف عند المتقدّمين بالصاروج، وهو الجير والزيت، وبناؤه من جهة الشمال إلى الجنوب، ويتصل من نهايته من الجنوب بجدار بناؤه مثل بنائه على استقامة من الغرب إلى الشرق، ويحصره ميلان منه في نهايته، وطوله مائتا ذراع بذراع العمل، ويتصل بهذا الجدار على طول ثمانين ذراعا منه من جهة الغرب نهاية الجدار الأعظم من الجنوب. وفائدة بناء الجدار الأعظم ردّ الماء إذا انتهى إلى حدود اثنتي عشرة ذراعا إلى مدينة الفيوم، وطول ما يتصل منه الجدار الذي من جهة الغرب إلى الشرق، ثم يتصل بالميل، ثم ينخفض من حدود هذا الميل إلى ميل مثله يقابله من جهة الشمال خمسون ذراعا، وبعد ما بين هذين الميلين، وهو المنخفض مائة ذراع وعشرة أذرع، ومقدار المنخفض منه، أربعة أذرع، وهذا المنخفض هو الذي يسدّ بجسر من حشيش يسمى لبشا، وعرض ما يجري عليه الماء، وهو موضع اللبش وما قابله إلى جهة الشرق، أربعون ذراعا، وعليه مسك اللبش

الثاني، ويتصل بهذا الميل إلى جهة الشمال، ما طوله ثلثمائة واثنان وسبعون ذراعا، ثم يتصل به على نهاية هذا الطول، جدار يمرّ على استقامته إلى الحجر مبنيّ بالحجر طوله على استقامته إلى جهة الشرق، مائة ذراع، ثم ينخفض أيضا من حيث يتصل بهذا الجدار ما طوله، عشرون ذراعا، وقدر المنخفض منه ذراعان. وهذا المنخفض أيضا يسدّ بجسر حشيش يسمى: اللكبد، وطول بقية الجدار إلى نهايته من جهة الشمال، مائة وستة وثلاثون ذراعا، وقبالة هذا بطوله منه مبلط، وفيه قناطر مبنية بالحجر كانت قديما تردّ الماء إلى اليوم من الخليج القديم الذي عنده السدود اليوم، وكان عليها أبواب، وعدّتها عشر قناطر قديمة، فيكون جميع ذرع الجدار الأعظم من نهايته، سبعمائة واثنين وسبعين ذراعا بذراع العمل دون الجدار المعترض من الغرب إلى الشرق، ويمرّ هذا الجدار الأعظم من كلتا جهتيه جميعا، حتى يتصل بالجبل، فتوجد آثاره في القيظ مرورا على غير استقامة، وعرضه مختلف، وكلما انتهى إلى سطحه، قلّ عرضه، وعرض أعلاه مع الظاهر من أسفله جميعا ستة عشر ذراعا، وفيه منافس يخرج منه الماء، وهي برابخ زجاج ملوّثة بشبه المينا وأزرق وسليمانيّ. وهو من العجائب الحسنة في عظم البناء وإتقانه، لأنه من الأبنية اللاحقة بمنارة الإسكندرية، وبناء الأهرام، فمن معجزته أن النيل يمرّ عليه من عهد يوسف عليه السلام إلى هذه الغاية، وما تغير عن مستقرّه، ويدخل الماء من هذا البحر في هذا الزمان إلى مدينة الفيوم من خليجها الأعظم ما بين أرض الضيعتين المعروفتين، بدمونة واللاهون، ومنه شرب هاتين الضيعتين وغيرهما سيحا، ومنه شرب كرومها بالدواليب على أعناق البقر، وإن قصر النيل عن الصعود إلى سوادها، سقيت منه على أعناق البقر وزرعت، وينتهي في الخليج الأعظم إلى خليج يعرف بخليج الأواسي، وليس عليه رسم في سدّ ولا فتح ولا تعديل، وينتهي إلى الضيعة المعروفة ببياض، فيملأ بركها وغيرها من البرك، وللبرك مقاسم يصل إلى كل مقسم منها لغايته، ومقدار شرب ما عليه، وينتهي إلى الضيعة المعروفة بالأوسية الكبرى «1» ، فمنه شربها من مقسمين لها، وبرسمها باب، ومنه يشرب نخلها وشجرها، وعلى هذا الحدّ طاحونة تعمل بالماء. ثم ينتهي إلى ثلاثة مقاسم آخرها الضيعة المعروفة بمرطينة منها مقسم لها، ومقسم لقبالات عدّة، والمقسم الثالث يسقي أحد أحياء النخل، وبهذا الحيّ أسواق وبساتين قد خربت، وجميز دائر به، وكان بها بيوت في أقنية النخل، ثم ينتهي إلى حيّ ثان على ضفة الأوّل، ثم ينتهي إلى الضيعة المعروفة بالجوبة، فيملأ بركها وينتهي إلى ثلاثة مقاسم في

صف، وفوقها خليج معطل ويشرب من هذه المقاسم عدّة ضياع، ثم ينتهي الماء من هذا الخليج إلى البطس، وهو نهايته، وعلى الخليج الأعظم بعد هذا أباليز شربها منه من أفواه لها سيحا، فإذا نضب ماء النيل، نصب على أفواهها برسم صيد السمك شباك. ثم ينتهي الخليج الأعظم على يمنة من يريد الفيوم إلى خليج يعرف: بخليج سمسطوس «1» . منه شرب سمسطوس وغيرها، وأباليز كثيرة تجاوز الصحراء من المشرق منه، ومن قبليه، وهي ما بين هذا الخليج، وخليج الأواسي. ثم ينتهي الخليج الأعظم أيضا إلى: خليج ذهالة. ومنه شرب عدّة ضياع وعليه يزرع الأرز وغيره. ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى ثلاث خلج ثم ينتهي إلى خليج بينطاوة. وبهذا الخليج ثلاثة أبواب قديمة يوسفية سعة كل باب منها، ذراعان بذراع العمل، ويمرّ فيه الماء، وينتهي أيضا إلى بابين يوسفيين، ورسم هذا الخليج أن يسدّ هو وسائر المطاطية على استقبال عشر تخلو من هاتور إلى سلخه، ويفتح على استقبال كهيك إلى عشر تبقى منه، ثم يسدّ إلى عشر تخلو من طوبة، ثم يفتح ليلة الغيطاس إلى سلخ طوبة، ثم يسدّ على استقبال أمشير إلى عشرة تبقى منه، ثم يفتح لعشر تبقى منه إلى عشر تخلو من برمهات، ثم يفتح إلى عشر تخلو من برمودة، ثم يعدل في موضعه، وقد خرب ما على بحريه من الضياع، ويشرب منه عدّة ضياع، ولهذا الخليج مغيض معمول تحت الجبل بقبو يخرج منه الماء في زمان تكاثره. ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى: خليج دله. وهو من المطاطية، وحكمه في السدّ، والفتح، والتعديل، والتحسين كما تقدّم، وهو على يسرة من يريد المدينة، وله بابان يوسفيان مبنيان بالحجر سعة كل منهما ذراعان وربع، ومنه شرب عدّة ضياع أمّهات وغيرها، وفي وسطه مفيض لزمان الاستبحار، يفتح فيفيض الماء إلى البركة العظمى، وفي أقصى هذه البركة أيضا مفيض له أبواب يقال: إنها كانت من حديد فإذا زادت فتحت الأبواب، فيمضي الماء إلى الغرب، وقيل: إنه يمرّ إلى سنترية، وكان على هذين الخليجين بساتين وكروم كثيرة تشرب على أعناق البقر. وينتهي الخليج الأعظم إلى خليج المجنونة. سمي بذلك لعظم ما يصير إليه من الماء، وحكمه في السدّ، وغيره على ما ذكر، ومنه شرب ضياع كثيرة، وبه تدار طواحين وإليه تصير مصالات مياه الضياع القبلية، وإلى بركة في أقصى مدينة الفيوم تجاور الجبل المعروف بأبي قطران، ويلقي ما ينصب من مصالات الضياع البحرية فيها، وهي البركة العظمى.

ذكر فتح الفيوم ومبلغ خراجها وما فيها من المرافق

ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى: خليج تلاله. وله بابان يوسفيان متينان مبنيان بالحجر سعة كل منهما ذراعان وثلثا ذراع، وليس فيه رسم سدّ، ولا فتح ولا تعديل، ولا تحييز إلا في تقصير النيل، فإنه يحيز بحشيش، ومنه شرب طوائف المدينة، وعدّة أراض وضياع، وفيه فوهة خليج البطش الذي إليه مفاضل المياه، وفيه أبواب تسدّ حتى يصعد الماء إلى أراض مرتفعة بقدر معلوم، وإذا حدث بالسدّ حدث يفسده، كانت النفقة عليه من الضياع التي تشرب منه بقدر استحقاقها. ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى خلجان من جانبيه في قبليه وبحريه ثم ينتهي إلى: خليج سموه. وهو على يمنة من يريد مدينة الفيوم، وهو من المطأطئة، وله بابان يوسفيان سعة كل منهما ذراعان ونصف، وحكمه حكم ما تقدّم، ومنه شرب طوائف كثيرة، وعدّة ضياع، وينتهي إلى أربعة مقاسم بأبواب، وإلى خلجان تسقي ضياعا كثيرة فيها. خليج تبدود: فيه عين حلوة فإذا سدّ هذا الخليج سقى منها أراضي ما جاورها، وظهرت هذه العين لما عدم الماء، وحفر هذا الموضع ليعمل بئرا، فظهرت منه هذه العين، فاكتفى بها، ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى خلجان بها شاذروانات، ومقاسم قديمة يوسفية، وبها أبواب يوسفية، بها رسوم في السدّ، والفتح يشرب منها ضياع كثيرة، ورسم الترع أن يسدّ جميعها على استقبال عشرة أيام تخلو من هاتور إلى سلخه، وتفتح على استقبال كيهك مدّة عشرين يوما، وتسدّ لعشر تبقى منه إلى الغطاس، وتفتح يوم الغطاس إلى سلخ طوبة، وتسدّ على استقبال أمشير عشرين يوما، ثم تفتح لعشر تبقى منه إلى عشرين من برمهات، وتفتح عشرة أيام تخلو من برمودة، ثم تعدّل فيهتم بعمارتها، ولهم في التعديل قسم تعطى منه كل ناحية شربها بالعدل بقوانين معروفة عندهم، وقد اختصرت أسماء الضياع التي ذكرها لخراب أكثرها الآن، والله أعلم. ذكر فتح الفيوم ومبلغ خراجها وما فيها من المرافق قال ابن عبد الحكم: فلما تمّ الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التي حولها، فأقامت الفيوم سنة لا يعلم المسلمون بمكانها، حتى أتاهم رجل، فذكرها لهم، فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفيّ فلما سلكوا في المجابة لم يروا شيئا، فهمّوا بالانصراف، فقالوا: لا تعجلوا سيروا فإن كان قد كذب، فما أقدركم على ما أردتم، فلم يسيروا إلا قليلا، حتى طلع لهم سواد الفيوم، فهجموا عليها، فلم يكن عندهم قتال، وألقوا بأيديهم. قال: ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصدفيّ، وهو صاحب الأشقر على فرسه

مدينة النحريرية

ينفض المجابة، ولا علم له بما خلفها من الفيوم، فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو، فأخبره بذلك. قال: ويقال بل بعث عمرو بن العاص، قيس بن الحارث إلى الصعيد، فسار حتى أتى القيس، فنزل بها، وبه سميت القيس، فراث على عمرو خبره، فقال ربيعة بن حبيش: كفيت، فركب فرسه، فأجاز عليه البحر، وكانت أنثى فأتاه بالخبر، ويقال: إنه أجاز من ناحية الشرقية حتى انتهى إلى الفيوم وكان يقال لفرسه: الأعمى، والله أعلم. وقال ابن الكنديّ في كتاب فضائل مصر: ومنها كورة الفيوم، وهي ثلثمائة وستون قرية دبرت على عدد أيام السنة لا تنقص عن الريّ، فإن قصر النيل في سنة من السنين مار بلد مصر، كل يوم قرية، وليس في الدنيا ما بني بالوحي غير هذه الكورة، ولا بالدنيا بلد أنفس منه، ولا أخصب، ولا أكثر خيرا، ولا أغزر أنهارا، ولو قايسنا بأنهار الفيوم، أنهار البصرة ودمشق، لكان لنا بذلك الفضل، ولقد عدّ جماعة من أهل العقل والمعرفة مرافق الفيوم وخيرها، فإذا هي لا تحصى، فتركوا ذلك، وعدّوا ما فيها من المباح مما ليس عليه ملك لأحد من مسلم، ولا معاهد يستعين به القويّ والضعيف، فإذا هو فوق السبعين صنفا. وقال ابن زولاق في كتاب الدلائل على أمراء مصر للكنديّ: وعقدت لكافور الإخشيديّ، الفيوم في هذه السنة يعني سنة ست وخمسين وثلثمائة، ستمائة ألف دينار ونيفا وعشرين ألف دينار. وقال القاضي الفاضل: في كتاب متجدّدات الحوادث، ومن خطه نقلت، أنّ الفيوم بلغت في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، مبلغ مائة ألف واثنين وخمسين ألف دينار، وسبعمائة وثلاثة دنانير. وقال البكريّ: والفيوم معروف هنالك يغلّ في كل يوم ألفي مثقال ذهبا. مدينة النحريرية «1» كانت أرضا مقطعة لعشرة من أجناد الحلقة من جملتهم، شمس الدين سنقرّ السعديّ، فأخذ قطعة من أراضي زراعتها، وجعلها اصطبلا لدوابه وخيله، فشكاه شركاؤه إلى السلطان الملك المنصور قلاون، فسأله عن ذلك فقال: أريد أن أجعله جامعا تقام فيه الخطبة، فأذن له السلطان في ذلك فابتدأ عمارته في أخريات سنة ثلاث وثمانين وستمائة، حتى كمل في سنة خمس وثمانين، فعمل له السلطان منبرا، وأقيمت به الجمعة، واستمرّت إلى يومنا هذا. وأنشأ السعديّ حوانيت حول الجامع، فلم تزل بيده حتى مات، وورثها ابناه:

عز الدين خليل، وركن الدين، عمر، فباعاها بعد مدّة للأمير: شيخو العمريّ، فجعلها مما وقفه على الخانكاه والجامع اللذين أنشأهما بخط صليبة جامع ابن طولون خارج القاهرة، فعمرت هذه الأرض بعمارة الجامع، وسكنها الناس، فصارت مدينة من مدائن أراضي مصر بحيث بلغت أنوال القزازين فيها «1» ، وترقى سنقر السعديّ في الخدم حتى صار من الأمراء، وولي نقيب المماليك السلطانية، وأنشأ المدرسة السعدية خارج القاهرة قريبا من حدرة البقر، فيما بين قلعة الجبل، وبركة الفيل في سنة خمس عشرة وسبعمائة، وبنى أيضا رباطا للنساء، وكان شديد الرغبة في العمائر محبا للزراعة كثير المال ظاهر الغنى، ثم إنه أخرج إلى طرابلس، وبها مات سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. تم الجزء الأوّل، ويليه الجزء الثاني وأوله: «ذكر تاريخ الخليقة»

الجزء الثانى

الجزء الثانى ذكر تاريخ الخليقة بسم الله الرّحمن الرّحيم اعلم: أنه لما كانت الحوادث لا بدّ من ضبطها، وكان لا يضبط ما بين العصور، وبين أزمنة الحوادث إلّا بالتاريخ المستعمل العام الذي لا ينكره الجماعة أو أكثرها، وذلك أنّ التاريخ المجمع عليه، لا يكون إلّا من حادث عظيم يملأ ذكره الأسماع، وكانت زيادة ماء النيل، ونقصانه، إنما يعتبرهما أهل مصر، ويحسبون أيامهما بأشهر القبط، وكذلك خراج أراضي مصر إنما يحسبون أوقاته بذلك، وهكذا زراعات الأراضي، إنما يعتمدون في أوقاتها أيام الأشهر القبطية عادة، وسلكوا فيها سبيل أسلافهم، واقتفوا مناهج قدمائهم، وما برح الناس من قديم الدهر أسراء العوائد. احتيج في هذا الكتاب إلى إيراد جملة من تاريخ الخليقة لتعيين موقع تاريخ القبط منها، فإنّ بذكر ذلك يتمّ الغرض. فأقول: التاريخ عبارة عن يوم، ينسب إليه ما يأتي بعده، ويقال أيضا: التاريخ عبارة عن مدّة معلومة تعدّ من أوّل زمن مفروض لتعرف بها الأوقات المحدودة، ولا غنى عن التاريخ في جميع الأحوال الدنيوية، والأمور الدينية، ولكل أمّة من أمم البشر تاريخ تحتاج إليه في معاملاتها، وفي معرفة أزمنتها تنفرد به دون غيرها من بقية الأمم. وأوّل الأوائل القديمة وأشهرها هو، كون مبدأ البشر، ولأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس في كيفيته، وسياقة التاريخ منه خلاف لا يجوز مثله في التواريخ، وكلّ ما تتعلق معرفته ببدء الخلق، وأحوال القرون السالفة، فإنه مختلط بتزويرات وأساطير لبعد العهد، وعجز المعتني به عن حفظه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [إبراهيم/ 9] . فالأولى أن لا يقبل من ذلك إلا ما يشهد به كتاب أنزل من عند الله يعتمد على صحته لم يرد فيه نسخ، ولا طرقه تبديل، أو خبر ينقله الثقات، وإذا نظرنا في التاريخ وجدنا فيه بين الأمم خلافا كثيرا، وسأتلو عليك من ذلك ما لا أظنك تجده مجموعا في كتاب، وأقدّم بين يدي هذا القول ما قيل في مدّة بقاء الدنيا.

ذكر ما قيل في مدة أيام الدنيا ماضيها وباقيها

ذكر ما قيل في مدّة أيام الدنيا ماضيها وباقيها اعلم: أنّ الناس قد اختلفوا قديما وحديثا في هذه المسألة، فقال قوم من القدماء الأول: بالأكوار والأدوار وهم الدهرية، وهؤلاء هم القائلون بعود العوالم كلها على ما كانت عليه بعد ألوف من السنين معدودة، وهم في ذلك غالطون من جهة طول أدوار النجوم، وذلك أنهم وجدوا قوما من الهند والفرس قد عملوا أدوارا للنجوم ليصححوا بها في كل وقت مواضع الكواكب فظنوا أنّ العدد المشترك لجميعها هو عدد سني العالم أو أيام العالم، وإنه كلما مضى ذلك العدد عادت الأشياء إلى حالها الأوّل. وقد وقع في هذا الظنّ ناس كثير مثل، أبي معشر وغيره، وتبع هؤلاء خلق وأنت تقف على فساد هذا الظن إن كنت تخبر من العدد شيئا ما، وذلك أنك إذا طلبت عددا مشتركا بعده أعداد معلومة، فإنك تقدر أن تضع لكل زيج أياما معلومة كالذي وضعه الهند والفرس، فهؤلاء حيث جهلوا صورة الحال في هذه الأدوار، ظنوا أنها عدد أيام العالم، فتفطن ترشد. وعند هؤلاء أنّ الدور هو أخذ الكواكب من نقطة وهي سائر حتى تعود إلى تلك النقطة، وأن الكور هو استئناف الكواكب في أدوارها سيرا آخر إلى أن تعود إلى مواضعها مرّة بعد أخرى. وزعم أهل هذه المقالة، أنّ الأدوار منحصرة في أنواع خمسة: الأوّل: أدوار الكواكب السيارة في أفلاك تداويرها. الثاني: أدوار مراكز أفلاك التدوير في أفلاكها الحاملة. الثالث: أدوار أفلاكها الحالة في فلك البروج. الرابع: أدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج. الخامس: أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة، وهذه الأدوار المذكورة، منها ما يكون في كل زمان طويل مرّة واحدة، ومنها ما يكون في كل زمان قصير مرّة واحدة، فأقصر هذه الأدوار، أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة فإنه يدور في كل أربع وعشرين ساعة، دورة واحدة، وباقي الأدوار يكون في أزمنة أخر أطول من هذه لا حاجة بنا في هذه المسألة إلى ذكرها. قالوا: وأدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج تكون في كلّ ستّة وثلاثين ألف سنة شمسية مرّة واحدة، وحينئذ تنتقل أوجات الكواكب، وجوز هراتها إلى مواضع حضيضها، ونوبهراتها وبالعكس، فيوجب ذلك عندهم، عود العوالم كلها إلى ما كانت عليه من الأحوال في الزمان والمكان والأشخاص والأوضاع، بحيث لا يتخالف ذرة واحدة، وهم مع ذلك

مختلفون في كمية ما مضى من أيام العالم، وما بقي. فقال البراهمة من الهند في ذلك قولا غريبا، وهو ما حكاه عنهم الأستاذ أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في كتاب القانون المسعوديّ: إنهم يسمون الطبيعة باسم ملك يقال له: إبراهيم، ويزعمون أنه محدث محصور الموت بين مبدأ وانتهاء عمره كعمرها مائة سنة برهموية، كل سنة منها ثلثمائة وستون يوما زمان النهار، منها بقدر مدّة دوران الأفلاك، والكواكب لإثارة الكون والفساد، وهذه المدّة بقدر ما بين كل اجتماعين للكواكب السبعة في أوّل برج الحمل بأوجاتها، وجوز هراتها، ومقدارها: أربعة آلاف ألف سنة، وثلثمائة ألف ألف سنة وعشرون ألف ألف سنة شمسية، وهو زمان اثني عشر ألف دورة للكواكب الثابتة على أنّ زمان الدورة الواحدة، ثلثمائة ألف سنة وستون ألف سنة شمسية، واسم هذا النهار بلغتهم الكلية، وزمان الليل عندهم كزمان النهار، وفي الليل تسكن المتحرّكات، وتستريح الطبيعة من إثارة الكون والفساد، ثم يثور في مبدأ اليوم الثاني بالحركة والتكوّن، فيكون زمان اليوم بليلته من سني الناس، ثمانية آلاف ألف سنة وستمائة ألف ألف سنة وأربعين ألف ألف سنة، فإذا ضربنا ذلك في ثلثمائة وستين تبلغ سنو أيام السنة البرهموية، ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة، وعشرة آلاف ألف ألف سنة، وأربعمائة ألف ألف سنة شمسية، فإذا ضربناها في مائة يبلغ عمر الملك الطبيعيّ البرهمويّ من سني الناس، ثلثمائة ألف ألف ألف ألف سنة، وأحد عشر ألف ألف ألف سنة وأربعين ألف ألف سنة شمسية، فإذا تمت هذه السنون بطل العالم عن الحركة، والتكوين ما شاء الله، ثم يستأنف من جديد على الوضع المذكور. وقسموا زمان النهار المذكور إلى تسع وعشرين قطعة، سموا كل أربع عشرة قطعة منها نوبا، وسموا الخمس عشرة قطعة الباقية فصولا، وجعلوا كل نوبة محصورة بين فصلين، وكل فصل محصورا بين نوبتين، وقدّموا زمان الفصل على النوبة إلى تمام المدّة، وزمان الفصل هو خمسا الدور والدور جزء من ألف جزء من المدّة، فإذا قسمنا المدّة على ألف تحصل زمان الدور، أربعة آلاف ألف سنة، وثمانية وعشرون ألف سنة، وزمان النوبة عندهم أحد وسبعون دورا مقدارها من السنين ثلثمائة ألف ألف سنة، وستة آلاف ألف سنة وسبعمائة ألف سنة وعشرون ألف سنة. وقد قسّموا الدور أيضا بأربع قطع، أوّلها أعظمها، وهي مدّة الفصل المذكور وثانيها ثلاثة أرباع الفصل، ومدّتها ألف ألف سنة، ومائتا ألف سنة وستة وتسعون ألف سنة، وثالثها نصف الفصل، ومدّته ثمانمائة ألف سنة وأربعة وستون ألف سنة، ورابعها ربع الفصل، وهو عشر الدور المذكور، ومدّته أربعمائة ألف سنة واثنان وثلاثون ألف سنة. ولكل واحد من هذه القطع الأربع اسم يعرف به، فاسم القطعة الرابعة عندهم، كلكال

لأنهم يزعمون أنهم في زمانها، وإنّ الذي مضى من عمر الملك الطبيعيّ على زعم حكيمهم الأعظم المسمى عندهم: برهمكوت ثمان سنين وخمسة أشهر وأربعة أيام. ونحن الآن في نهار اليوم الخامس من الشهر السادس من السنة التاسعة، ومضى من النهار الخامس ست نوب، وسبعة فصول وسبعة وعشرون دورا من النوبة السابعة، وثلاث قطع من الدور المذكور أعني تسعة أعشاره، ومضى من القطعة الرابعة أعني من أوّل كلكال إلى هلاك، شككال عظيم ملوكهم الواقع في آخر سنة ثمان وثمانينة وثلثمائة للإسكندر ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وتسع وسبعون سنة، وقال: إنما عرفنا هذا الزمان من علم إلهيّ، وقع إلينا من عظماء أنبيائنا المتألهين برواياتهم جيلا بعد جيل على ممرّ الدهور والأزمان، وزعموا أن في مبدأ كل دور أو فصل أو قطعة أو نوبة، تتجدّد أزمنة العوالم، وتنتقل من حال إلى حال، وأن الماضي من أوّل كلكال إلى شككال ثلاثة آلاف، ومائة وتسع وسبعون سنة، والماضي من النهار المذكور إلى آخر سنة ثمان وثمانين وثلثمائة للإسكندر ألف ألف ألف سنة، وتسعمائة ألف ألف سنة، واثنان وسبعون ألف ألف سنة، وتسعمائة ألف سنة وسبعة وأربعون ألف سنة، ومائة سنة وسبع وسبعون سنة. فيكون الماضي من عمر الملك الطبيعيّ إلى آخر هذه السنة ستة، وعشرين ألف ألف ألف ألف سنة، وثلثمائة ألف ألف ألف سنة وخمسة عشر ألف ألف ألف سنة، وسبعمائة ألف ألف سنة، واثنين وثلاثين ألف ألف سنة، وتسعمائة ألف سنة، وسبعة وأربعين ألف سنة ومائة سنة وتسعا وسبعين سنة، فإذا زدنا عليها الباقي من تاريخ الإسكندر بعد نقصان السنين المذكورة منه تحصل الماضي من عمر الملك بالوقت المفروض، والله أعلم بحقيقة ذلك. وقال الخطا والايعز في ذلك قولا أعجب من قول الهند، وأغرب على ما نقلته من زيج أدوار الأنوار، وقد لخص هذا القول من كتب أهل الصين، وذلك أنهم جعلوا مبادي سنيهم مبنية على ثلاثة أدوار: الأوّل: يعرف بالعشريّ مدّته عشر سنين لكل سنة منها اسم يعرف به، والثاني: يعرف بالدور الاثني عشريّ، وهو أشهرها خصوصا في بلاد الترك يسمون سنيه بأسماء حيوانات بلغتي الخطا والايعز، والثالث: مركب من الدورين جميعا ومدّته ستون سنة، وبه يؤرخون سني العالم وأيامه ويقوم عندهم مقام أيام الأسبوع عند العرب وغيرها، واسم كل سنة منها مركب من اسميها في الدورين جميعا، وكذلك كل يوم من أيام السنة. ولهذا الدور ثلاثة أسماء، وهي: شانكون، وجونكون، وخاون، ويصير بحسبها مرّة أعظم ومرّة أوسط، ومرّة أصغر، فيقال: دور شانكون الأعظم، ودور: جونكون الأوسط، ودور: خاون الأصغر، وبهذه الأدوار يعتبرون سني العالم وأيامه، وجملتها مائة وثمانون

سنة، ثم تدور الأدوار الثلاثة عليها مرة أخرى. واتفق وقوع مبدأ الدور الأعظم في الشهر الأوّل من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة: ليزدجرد، واسمه بلغتهم: كادره، وبلغة العرب: سنة الغار، وكان دخول أوّل افرودين هذه السنة من سني العرب يوم الخميس، وهو بلغتهم: سن جن، ومن هذا اليوم وعلى هذا التاريخ تترتب مبادي سنيهم وأيامهم في الماضي والمستقبل، وشهورهم اثنا عشر شهرا، لكل شهر منها اسم بلغة: الخطا، وبلغة الايعز لا حاجة بنا هنا إلى ذكره. ويقسمون اليوم الأوّل بليلته اثني عشر قسما، كل قسم منها يقال له: جاغ، وكل جاغ ثمانية أقسام، كل قسم منها يقال له: كه، ويقسمون اليوم بليلته أيضا عشرة آلاف فنك، وكل فنك منها: مائة مياو، فيصيب كل جاغ: ثمانمائة وثلاثة وثلاثين فنكا وثلث فنك، وكل: كه مائة وأربعة أفناك وسدس فنك، وينسبون، كل جاغ إلى صورة من الصور الاثنتي عشرة، ومبدأ اليوم بليلته عندهم من نصف الليل، وفي منتصف جاغ كسكو يتغير أوّل النهار وآخره بحسب الطول والقصر من قبل أنّ كل جاغ ساعتان مستويتان، وفي منتصف النهار ينتصف جاغ يوند، وهم يكبسون في كل ثلاث سنين قمرية شهرا واحدا يسمونه: سيون ليحفظوا بالكبس مبادي سني الشمس في زمان واحد من سنة أخرى، ويكبسون أحد عشر شهرا في كل ثلاثين سنة قمرية، ولا يقع عندهم شهر الكبس في موضع واحد بعينه من السنة، بل يقع في كل موضع منها، وكل شهر عدّة أيامه إما ثلاثون يوما أو تسعة وعشرون يوما، ولا يمكن عندهم أكثر من ثلاثة أشهر متوالية تامّة، ولا أكثر من شهرين ناقصين. ومبادي شهورهم، يوم الاجتماع إن وقع اجتماع النيرين نهارا، فإن وقع الاجتماع ليلا كان أوّل الشهر في اليوم الذي بعد الاجتماع وزمان السنة الشمسية بحسب أرصادهم، ثلثمائة وخمسة وستون يوما وألفان وأربعمائة وستة وثلاثون فنكا، والسنة أربعة وعشرون قسما، كل قسم منها: خمسة عشر يوما وألفان ومائة وأربعة وثمانون فنكا وخمسة أسداس فنك، ولكل قسم من هذه الأقسام اسم، وكل ستة أقسام منها فصل من فصول السنة، فاسم أوّل قسم من فصولها الحن، وأوّله أبدا، حيث تكون الشمس في ست عشرة درجة من برج الدلو وهكذا أوائل كل فصل، إنما تكون في حدود أواسط البروج الثابتة، وكان بعد مدخل الحن من أوّل الدور الستينيّ في السنة المذكورة أحد عشر يوما، وسبعة آلاف وستمائة وستين فنكا، واسم مدخله بي خايني، وكان بعد دخول السنة الفارسية المذكورة بنحو عشرين يوما، ويبعد مدخله عن أوّل الدور الستينيّ، ويتفاضل البعد بينهما في كل سنة بقدر فضل سنة الشمس على سنة القمر التي هي ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما، وثلاثة آلاف وستمائة واثنان وسبعون فتكا، ومقدار الفضل بينهما عشرة أيام وثمانية آلاف وسبعمائة وأربعة وستون فنكا، فإن زادت الأيام على زمان الشهر القمريّ الأوسط الذي هو تسعة وعشرون يوما، وخمسة آلاف وثمانمائة وستة أفناك، نقص منها هذا العدد، واحتسب بالباقي.

فإذا عرفت هذا من حسابهم، فاعلم أنّ عمر العالم عندهم ثلثمائة ألف ونّ وستون ألف ونّ، وكل ونّ: عشرة آلاف سنة. مضى من ذلك إلى أوّل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة ليزدجرد، وهي دور: شانكون الأعظم: ثمانية آلاف ونّ وثمانمائة ونّ وثلاثة وستون ونا، وتسعة آلاف وسبعمائة، وأربعون سنة، فتكون المدّة العظمى على هذا: ثلاثة آلاف ألف ألف ألف ألف سنة وستمائة ألف ألف ألف ألف سنة بهذه الصورة 3600000000 والماضي منها إلى السنة المذكورة: ثمانية، وثمانون ألف ألف سنة وستمائة ألف سنة وتسعة وثلاثون ألف سنة، وسبعمائة سنة وأربعون سنة بهذه الصورة 88639740 ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله. وإنما ذكرت طرفا من حساب سني البراهمة، وطرفا من حساب سني الخطا والايعز المستخرج من حساب الصين ليعلم المنصف أنّ ذلك لم يضعه حكماؤهم عبثا، ولأمر ما جدع قصير أنفه، وكم من جاهل بالتعاليم إذا سمع أقوالهم في مدّة سني العالم يبادر إلى تكذيبهم من غير علم بدليلهم عليه، وطريق الحق أن يتوقف، فيما لا يعلمه حتى يتبين أحد طرفيه فيرجحه على الآخر، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وقال أصحاب السند هند: ومعناه: الدهر الداهر أنّ الكواكب وأوجاتها وجوز هراتها تجتمع كلها في أوّل برج الحمل عند كل أربعة آلاف ألف ألف سنة وثلثمائة ألف ألف سنة وعشرين ألف ألف سنة شمسية، وهذه مدّة سني العالم. قالوا: وإذا جمعت برأس الحمل فسدت المكوّنات الثلاث التي يحويها عالم الكون والفساد المعبر عنه بالحياة الدنيا، وهذه المكوّنات هي: المعدن والنبات والحيوان، فإذا فسدت بقي العالم السفليّ خرابا دهرا طويلا إلى أن تتفرّق الكواكب، والأوجات والجوزهرات في بروج الفلك، فإذا تفرّقت فيها بدأ الكون بعد الفساد، فعادت أحوال العالم السفليّ إلى الأمر الأوّل، وهذا يكون عودا بعد بدء إلى غير نهاية، قالوا: ولكل واحد من الكواكب والأوجات والجوزهرات عدّة أدوار في هذه المدّة يدل كل دور منها على شيء من المكوّنات، كما هو مذكور في كتبهم مما لا حاجة بنا هنا إلى ذكره، وهذا القول منتزع من قول البراهمة الذي تقدّم ذكره. وقال أصحاب الهازروان من قدماء الهند: إنّ كل ثلثمائة ألف سنة وستين ألف سنة شمسية: يهلك العالم بأسره ويبقى مثل هذه المدّة، ثم يعود بعينه، ويعقبه البدل، وهكذا أبدا يكون الحال لا إلى نهاية. قالوا: ومضى من أيام العالم المذكورة إلى طوفان نوح عليه السلام: مائة ألف وثمانون ألف سنة شمسية.

ومضى من الطوفان إلى سنة الهجرة المحمدية ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاث وعشرون سنة، وأربعة أشهر وأيام. وبقي من سني العالم حتى يبتدئ ويفنى مائة ألف وبضع وسبعون ألف سنة شمسية، أوّلها تاريخ الهجرة الذي يؤرخ به أهل الإسلام. وقال أصحاب الأزجهير: مدّة العالم التي تجتمع فيها الكواكب برأس الحمل هي وأوجاتها وجوزهراتها: جزء من ألف جزء من مدّة: السند هند، وهذا أيضا منتزع من قول البراهمة. وقال أبو معشر، وابن بو بخت: إنّ بعض الفرس يرى أنّ عمر الدنيا اثنا عشر ألف سنة بعدّة البروج، لكل برج ألف سنة، فكان ابتداء أمر الدنيا في أوّل ألف الحمل، لأنّ الحمل والثور والجوزاء تسمى: أشرف الشرف، وينسب إلى الحمل: الفصل، وفيها تكون الشمس في شرفها، وعلوّها، وطول نهارها، ولذلك كانت الدنيا كانت إلى ثلاثة آلاف سنة: علوية روحانية طاهرة، ولأن السرطان والأسد والسنبلة: منتقصة، فإنّ الشمس تنحط من علوّها في أوّل دقيقة من السرطان، وكان قدر الدنيا وأبنائا منحطا في الثلاثة آلاف الثانية، ولأن الميزان أهبط الهبوط، وبئر الآبار، وضدّ البرج الذي فيه شرف الشمس دل على أنه أصابت الدنيا واكتسب أهلها المعصية، والميزان والعقرب والقوس إذا نزلتها الشمس لم تزدد إلّا انحطاطا، والأيام إلّا نقصانا. فلذلك دلت على البلايا والضيق، والشدّة والشرّ، وحيث تبلغ الآلاف إلى أوّل الجدي الذي فيه أوّل ارتفاع الشمس، وإشرافها على شرفها، وفيه تزداد الأيام طولا، والدلو والحوت اللذان تزداد الشمس فيهما صعودا، حتى تصل لشرفها فيدل على ظهور الخير، وضعف الشرّ، وثبات الدين والعقل والعمل بالحق والعدل، ومعرفة فضل العلم والأدب في تلك الثلاثة الآلاف سنة، وما يكون في ذلك فعلى قدر صاحب الألف والمائة والعشرة، وعلى حسب اتفاق الكواكب في أوّل سلطان صاحب الألف، فلا يزال ذلك في زيادة حتى يعود أمر الدنيا في آخرها إلى مثل ما كان عليه ابتداؤها، وهي في ألف الحمل وكلما تقارب آخر كل ألف من هذه الألوف اشتدّ الزمان، وكثرت البلايا لأنّ أواخر البرج في حدود النحوس، وكذلك في آخر المئين والعشرات، فعلى هذا الانقضاء للدنيا إذا كان الزمان يعود إلى الحمل كما بدأ أوّل مرّة. وزعموا أن ابتداء الخلق بالتحرّك كان والشمس في ابتداء المسير، فدار الفلك، وجرت المياه، وهبت الرياح، واتقدت النيران، وتحرّك سائر الخلائق بما هم عليه من خير وشرّ، والطالع تلك الساعة تسع عشرة درجة من برج السرطان، وفيه المشتري، وفي البيت الرابع الذي هو بيت العافية، وهو برج الميزان زحل، وكان الذنب في القوس، والمرّيخ والجدي والزهرة وعطارد في الحوت، ووسط السماء برج الحمل، وفي أوّل دقيقة منه

الشمس، وكان القمر في الثور وفي بيت السعادة، وكان الرأس في برج الجوزاء، وهو بيت الشقاء، وفي تلك الدقيقة من الساعة كان استقبال أمر الدنيا، فكان خيرها وشرّها وانحطاطها وارتفاعها، وسائر ما فيها على قدر مجاري البروج والنجوم، وولاية أصحاب الألوف، وغير ذلك من أحوالها. ولأنّ المشتري كان في السرطان في شرفه وزحل في الميزان في شرفه والمرّيخ والشمس والقمر في إشرافها دلت على كائنة جليلة، فكان نشوء العالم، وانبرز زحل. فتولى الألف هو والميزان وكان المشتري في الطالع مقبولا. وكذلك جميع الكواكب كانت مقبولة، فدل على نماء العالم وحسن نشوءه، وكان زحل هو المستولي والعالي في الفلك والبرج طويل المطالع، فطالت أعمار تلك الألف وقويت أبدانهم، وكثرت مياههم وكون الميزان تحت الأرض دل على خفاء أوّل حدوث العالم، وعلى أنّ أهل ذلك الزمان ينظرون في عمارة الأرضين وتشييد البنيان. ثم ولي الألف الثاني العقرب والمريخ، وكان في الطالع المرّيخ، فدل على القتل في ذلك الألف وسفك الدماء، والسبي والظلم والجور والخوف والهمّ والأحزان والفساد وجور الملوك، وولي الألف الثالث القوس وشاركه عطارد والزهرة بطلوعهما، وكان الذنب في القوس، فدل المشتري على النجدة في تلك الألف والشدّة والجلد والبأس والرياسة والعدل، وتقسيم الملوك الدنيا، وسفك الدماء بسبب ذلك، ودلت الزهرة على ظهور بيت العبادة وعلى الأنبياء، ودل عطارد على ظهور العقل والأدب والكلام، وكون البرج مجسدا دلّ على انقلاب الخير والشرّ في تلك الألف مرّات، وعلى ظهور ألوان من آيات الحق والعدل والجور. ثم ولي الألف الرابع الجدي، وكان فيه المرّيخ فدل على ما كان في تلك الألف من إهراق الدماء، ودلت الشمس على ظهور الخير والعلم، ومعرفة الله تعالى، وعبادته وطاعته وطاعة أنبيائه، والرغبة في الدين مع الشجاعة والجلد، وكون البرج منقلبا هو والبرج الذي فيه الشمس دلّ على انقلاب ذلك في آخرها، وظهور الشرّ والتفرّق والقسم والقتل وسفك الدماء والغصب في أصناف كثيرة، وتحوّل ذلك وتلوّنه، وكون الجدي منحطا دلّ على أنه يظهر في آخر تلك الألف الحسن الشبيه بصفة زحل والمريخ وانقطاع العظماء والحكماء، وبوارهم وارتفاع السفلة، وخراب العامر، وعمارة الخراب، وكثرة تلوّن الأشياء، وولي الألف الخامس الدلو بطلوع القمر، وكان القمر في الثور، فدل الدلو لبرودته وعسره على سقوط العماء وعطلة أمرهم، وارتفاع السفلة والعبيد، ومحمدة البخلاء، وظهور الجيش الأسود والسواد، وعلى كثرة التفتيش، والتفكر وظهور الكلام في الأديان ومحبة الخصومات وكون القمر في شرفه يدل على قهر الملوك، وظهور ولاة الحق، ونفاذ الخير، وظهور بيوت العبادة والكف عن الدماء، والراحة والسعادة في العامّة وثبات ما يكون من العدل والخير، وطول المدّة فيه وكون البرج مائيا يدل على كثرة الأمطار والغرق وآفة من البرد يهلك فيها

الكثير، ويلي الألف السادس برج الحوت بطلوع المشتري والرأس فيدل على المحمدة في الناس عامّة وعلى الصلاح والخير والسرور، وذهاب الشرّ، وحسن العيش، ولكل واحد من الكواكب ولاية ألف سنة، فصار عطارد خاتما في برج السنبلة. وزعم ابن بوبخت: أنّ من يوم سارت الشمس إلى تمام خمس وعشرين من ملك أنوشروان ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبع وستون سنة، وذلك في ألف الجدي وتدبير الشمس، ومنه إلى اليوم الأوّل من الهجرة سبع وثمانون سنة شمسية وستة وعشرون يوما، ومن الهجرة إلى قيام يزدجرد تسع سنين وثلثمائة وسبعة وثلاثون يوما فذلك الجميع إلى أن قام يزدجرد ثلاثة آلاف وتسعمائة وست وستون سنة. وقال أبو معشر: وزعم قوم من الفرس أنّ عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعدّة الكواكب السبعة. وزعم أبو معشر: أنّ عمر الدنيا ثلثمائة ألف سنة وستون ألف سنة، وأنّ الطوفان كان في النصف من ذلك على رأس مائة ألف وثمانين ألف سنة. وقال قوم: عمر الدنيا تسعة آلاف سنة لكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة ألف سنة، وللرأس ألف سنة، وللذنب ألف سنة وشرّها ألف الذنب، وإنّ الأعمار طالت في تدبير آلاف الثلاثة العلوية، وقصرت في آلاف الكواكب السفلية. وقال قوم: عمر الدنيا تسعة عشر ألف سنة بعدد البروج الاثني عشر لكل برج ألف سنة وبعدد الكواكب السبعة السيارة لكل كوكب ألف سنة. وقال قوم: عمر الدنيا أحد وعشرون ألف سنة بزيادة ألف للرأس، وألف للذنب. وقال قوم: عمر الدنيا ثمانية وسبعون ألف سنة في تدبير برج الحمل اثنا عشر ألف سنة، وفي تدبير برج الثور أحد عشر ألف سنة، وفي تدبير الجوزاء عشرة آلاف سنة، فكانت الأعمار في هذا الربع أطول، والزمان أجدّ، ثم تدبير الربع الثاني مدّة أربعة وعشرين ألف سنة، فتكون الأعمار دون ما كانت في الربع الأوّل، وتدبير الربع الثالث خمسة عشر ألف سنة، وتدبير الربع الرابع ستة آلاف سنة. وقال قوم: كانت المدّة من آدم إلى الطوفان ألفين وثمانين سنة وأربعة أشهر وخمسة عشر يوما، ومن الطوفان إلى إبراهيم عليه السلام تسعمائة واثنتين وأربعين سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوما، فذلك ثلاثة آلاف، ومائتان وثلاث وعشرون سنة. وقال قوم من اليهود: عمر الدنيا سبعون ألف سنة منحصرة في ألف جيل ولفقوا ذلك من قول موسى عليه السلام في صلاته: إنّ الجيل سبعون سنة، ومن قوله في الزبور: إنّ إبراهيم عليه السلام قطع معه الله تعالى عهد البقاء البشر ألف جيل، فجاء من ذلك أنّ مدّة الدنيا سبعون ألف سنة، واستظهروا لقولهم هذا بما في التوراة من قوله، واعلم أنّ الله إلهك

هو القادر المهيمن الحافظ العهد والفضل لمحبيه وحافظي وصاياه لألف جيل. وذكر أبو الحسن عليّ بن الحسين المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان عن الأوائل: أنهم قالوا: كان في الأرض ثمان وعشرون ذات أرواح وأيد وبطش وصور مختلفات بعدد منازل القمر لكل منزلة أمّة منفردة تعرف بها تلك الأمّة، ويزعمون أن تلك الأمم كانت الكواكب الثابتة تدبرها، وكانوا يعبدونها، ويقال: لما خلق الله تعالى البروج الاثني عشر قسم دوامها في سلطانها، فجعل للحمل اثني عشر ألف عام، وللثور أحد عشر ألف عام، وللجوزاء عشرة آلاف عام، وللسرطان تسعة آلاف عام، وللأسد ثمانية آلاف عام، وللسنبلة سبعة آلاف عام، وللميزان ستة آلاف عام، وللعقرب خمسة آلاف عام، وللقوس أربعة آلاف عام، وللجدي ثلاثة آلاف عام، وللدلو ألفي عام، وللحوت ألف عام، فصار الجميع ثمانية وسبعين ألف عام، فلم يكن في عالم الحمل والثور والجوزاء حيوان، وذلك ثلاثة وثلاثون ألف عام، فلما كان عالم السرطان تكوّنت دواب الماء وهوامّ الأرض. فلما كان عالم الأسد تكوّنت ذوات الأربع من الوحش والبهائم، وذلك بعد تسعة آلاف عام من خلق دواب الماء والهوام، فلما كان عالم السنبلة، تكوّن الإنسانان الأوّلان، وهما: أدمانوس، وحنوانواس، وذلك لتمام سبعة عشر ألف عام لخلق دواب الماء، وهوامّ الأرض ولتمام ثمانية آلاف عام من خلق ذوات الأرض، وخلقت الأرض في عالم الميزان، ويقال: بل خلقت الأرض أوّلا، وأقامت خالية ثلاثة وثلاثين ألف عام ليس فيها حيوان ولا عالم روحانيّ، ثم خلق الله تعالى هوامّ الماء، ودواب الأرض، وما بعد ذلك على ما تقدّم ذكره، فلما تمّ أربعة وعشرون ألف عام لخلق دواب الماء وهوامّ الأرض، ولتمام خمسة عشر ألف عام من خلق ذوات الأربع، ولتتمة سبعة آلاف عام من لدن تكوّن الإنسانين خلقت الطيور. ويقال: إنّ مدّة مقام الإنسانين ونسلهما في الأرض مائة ألف وثلاثة وثلاثون ألف عام منها لزحل: ستة وخمسون ألف عام، وللمشتري أربعة وأربعون ألف عام، وللمرّيخ ثلاثة وثلاثون ألف عام، ويقال: إنّ الأمم المخلوقات قبل آدم هي كانت الجبلة الأولى، وهي ثمان وعشرون أمّة بإزاء منازل القمر خلقت من أمزجة مختلفة أصلها: الماء، والهواء، والأرض، والنار، فتباين خلقها، فمنها أمّة خلقت طوالا زرقا ذوات أجنحة كلامهم قرقعة على صفة الأسود، ومنها أمّة أبدانهم أبدان الأسود ورؤوسهم رؤوس الطير لهم شعور، وآذان طوال، وكلامهم دويّ، ومنها أمّة لها وجهان: وجه أمامها، ووجه خلفها، ولها أرجل كثيرة، وكلامهم كلام الطير، ومنها أمّة ضعيفة في صور الكلاب لها أذناب، وكلامهم همهمة لا يعرف، ومنها أمّة تشبه بني آدم أفواههم في صدورهم يصفرون إذا تكلموا تصفيرا، ومنها أمّة يشبهون نصف إنسان لهم عين واحدة، ورجل يقفزون بها قفزا، ويصيحون كصياح الطير، ومنها أمّة لها وجوه كوجوه الناس وأصلاب كأصلاب السلاحف في رؤوسهم قرون

طوال لا يفهم كلامهم، ومنها أمّة مدوّرة الوجوه لهم شعور بيض، وأذناب كأذناب البقر ورؤوسهم في صدورهم لهم شعور وثديّ، وهم أناس كلهنّ ليس فيهنّ ذكر يلقحن من الريح، ويلدن أمثالهنّ، ولهنّ أصوات مطربة يجتمع إليهنّ كثير من هذه الأمم لحسن أصواتهنّ، ومنها أمّة على خلق بني آدم سود وجوههم، ورؤوسهم كرؤوس الغربان، ومنها أمّة في خلق الهوام والحشرات إلا أنها عظيمة الأجسام تأكل، وتشرب مثل الأنعام، ومنها أمّة كوجوه دواب البحر لها أنياب كأنياب الخنازير، وآذان طوال، ويقال: إنّ هذه الثمانية والعشرين أمّة تناكحت، فصارت مائة وعشرين أمّة. وسئل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: هل كان في الأرض خلق قبل آدم يعبدون الله تعالى؟ فقال: نعم خلق الله الأرض، وخلق فيها الجنّ يسبحون الله ويقدّسونه لا يفترون، وكانوا يطيرون إلى السماء، ويلقون الملائكة، ويسلمون عليهم ويستعملون منهم خبر ما في السماء، ثم إنّ طائفة منهم تمرّدت، وعتت عن أمر ربها، وبغت في الأرض بغير الحق، وعدا بعضهم على بعض، وجحدوا الربوبية، وكفروا بالله، وعبدوا ما سواه، وتغايروا على الملك حتى سفكوا الدماء، وأظهروا في الأرض الفساد، وكثر تقاتلهم، وعلا بعضهم على بعض، وأقام المطيعون لله تعالى على دينهم، وكان إبليس من الطائفة المطيعة لله والمسبحين له، وكان يصعد إلى السماء، فلا يحجب عنها لحسن طاعته. ويروى: أنّ الجنّ كانت تفترق على إحدى وعشرين قبيلة، وأنّ بعد خمسة آلاف سنة ملكوا عليهم ملكا يقال له: شملال بن ارس، ثم افترقوا فملكوا عليهم: خمسة ملوك، وأقاموا على ذلك دهرا طويلا، ثم أغار بعضهم على بعض، وتحاسدوا، فكانت بينهم وقائع كثيرة، فأهبط الله تعالى إليهم إبليس، وكان اسمه بالعربية: الحارث، وكنيته أبو مرّة، ومعه عدد كثير من الملائكة، فهزمهم وقتلهم، وصار إبليس ملكا على وجه الأرض، فتكبر وطغى، وكان من امتناعه من السجود لآدم ما كان، فأهبطه الله تعالى إلى الأرض، فسكن البحر، وجعل عرشه على الماء، فألقيت عليه شهوة الجماع، وجعل لقاحه لقاح الطير وبيضه. ويقال: إنّ قبائل الجنّ من الشياطين خمس وثلاثون قبيلة، خمس عشرة قبيلة تطير في الهواء وعشر قبائل مع لهب النار، وثلاثون قبيلة يسترقون السمع من السماء، ولكل قبيلة ملك موكل بدفع شرّها، ومنهم صنف من السعالي «1» يتصوّرون في صور النساء الحسان، ويتزوّجن برجال الأنس ويلدن منهم، ومنهم صنف على صور الحيات إذا قتل أحد منهم واحدة هلك من وقته، فإن كانت صغيرة هلك ولده أو عزيز عنده. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنّ الكلاب من الجنّ فإذا رأوكم تأكلون،

فألقوا إليهم من طعامكم، فإنّ لهم أنفسا يعني إنهم يأخذون بالعين. وقد روي: أنّ الأرض كانت معمورة بأمم كثيرة منهم: الطمّ، والرمّ، والجنّ، والبن، والحسن، والبسن، وأنّ الله تعالى لما خلق السماء عمّرها بالملائكة، ولما خلق الله الأرض عمرها بالجنّ، فعاثوا وسفكوا الدماء، فأنزل الله إليهم جندا من الملائكة، فأتوا على أكثرهم قتلا وأسرا، فكان ممن أسر إبليس، وكان اسمه عزازيل، فلما صعد به إلى السماء أخذ نفسه بالاجتهاد في العبادة والطاعة رجاء أن يتوب الله عليه، فلما لم يجد ذلك عليه شيئا خامر الملائكة القنوط، فأراط الله أن يظهر لهم خبث طويته، وفساد نيته، فخلق آدم فامتحنه بالسجود له ليظهر للملائكة تكبره، وإبانة ما خفي عنهم من مكتوم أنبائه، وإلى عمارة الأرض قبل آدم ممن أفسد فيها أشار بقوله تعالى حكاية عن الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة/ 30] يعنون كما فعل بها من قبل، والله أعلم بمراده. وقال أبو بكر بن أحمد بن عليّ بن وحشية في كتاب الفلاحة: إنه عرّب هذا الكتاب، ونقله من لسان الكلدانيين إلى اللغة العربية، وإنه وجده من وضع ثلاثة حكماء قدماء وهم: صعريت وسوساد وفوقاي ابتدأه الأوّل، وكان ظهوره في الألف السابعة من سبعة آلاف سني زحل، وهي الألف التي يشارك فيها زحل القمر، وتممه الثاني، وكان ظهوره في آخر هذه الألف، وأكمله الثالث، وكان ظهوره بعد مضيّ أربعة آلاف سنة من دور الشمس الذي هو سبعة آلاف سنة، وإنه نظر إلى ما بين زمان الأوّل والثالث، فكان ثمانية عشر ألف سنة شمسية، وبعض الألف التاسعة عشر، وقد اختلف أهل الإسلام في هذه المسألة أيضا، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، واليوم ألف سنة، فذلك سبعة آلاف سنة، وروى سفيان عن الأعمش عن أبي صالح قال: قال كعب الأحبار: الدنيا ستة آلاف سنة. وعن وهب بن منبه أنه قال: قد خلا من الدنيا خمسة آلاف سنة وستمائة سنة إني لأعرف كل زمان منها، ومن فيه من الأنبياء، فقيل له: فكم الدنيا؟ قال: ستة آلاف سنة. وروى عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس» . وفي حديث أبي هريرة: الحقب ثمانون عاما اليوم منها سدس الدنيا، والحقب هنا بكسر الحاء وضمها. قال أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمدانيّ في كتاب الإكليل: وكأن الدنيا جزء من أربعة آلاف وسبعمائة وثلاثة وعشرين جزءا وثلث جزء من الحقب، على أنّ السنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس يوم، فإذا كانت الدنيا ستة آلاف سنة، واليوم ألف سنة تكون سنين قمرية ستة آلاف ألف سنة، فإذا جعلناه جزءا وضربناه في أجزاء

الحقب، وهي أربعة آلاف وسبعمائة سنة وثلاث وعشرون وثلث خرج من السنين: ثمانية وعشرون ألف ألف ألف وثلثمائة ألف ألف وأربعون ألف ألف، وإذا كانت جمعة من جمع الآخرة زدنا مع هذا العدد مثل سدسه، وهذا عدد الحقب. وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ: الصواب من القول ما دل على صحته الخبر الوارد، فذكر قوله عليه السلام: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس» ، وقوله عليه السلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى، وقوله عليه السلام: «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني» . قال: فمعلوم إن كان اليوم أوّله طلوع الشمس، وآخره غروب الشمس، وكان صحيحا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس» ، وقوله: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى، وكان قدر ما بين أوسط أوقات العصر، وذلك إذا صار ظل كل شيء مثليه على التحرّي إنما يكون قدر نصف سبع اليوم يزيد قليلا أو ينقص قليلا، وكذلك فضل ما بين الوسطى والسبابة، إنما يكون نحوا من ذلك، وكان صحيحا مع ذلك قوله عليه السلام: «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمّة نصف يوم» يعني نصف اليوم الذي مقداره ألف سنة، فأولى القولين اللذين أحدهما عن ابن عباس والآخر عن كعب. قول ابن عباس: إنّ الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف، وإذا كان كذلك، وكان قد جاء عنه عليه السلام: أنّ الباقي من ذلك في حياته نصف يوم، وذلك خمسمائة عام إذا كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر الواحد منها ألف عام كان معلوما أنّ الماضي من الدنيا إلى وقت قوله عليه السلام: «ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة» أو نحو ذلك، وقد جاء عنه عليه السلام خبر يدل على صحة قول من قال: إنّ الدنيا كلها ستة آلاف سنة لو كان صحيحا لم يعد القول به إلى غيره، وهو حديث أبي هريرة يرفعه الحقب ثمانون عاما اليوم منها سدس الدنيا، فتبين من هذا الخبر أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، وذلك أنه حيث كان اليوم الذي هو من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من سني الدنيا، وكان اليوم الواحد من ذلك سدس الدنيا، كان معلوما أن جميعها ستة أيام من أيام الآخرة، وذلك ستة آلاف سنة، وقال أبو القاسم السهيليّ «1» : وقد مضت الخمسمائة من وفاته صلّى الله عليه وسلّم إلى اليوم بنيف عليها، وليس في قوله: لن يعجز الله أن يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم، ما ينفي الزيادة على النصف، ولا في قوله: بعثت أنا والساعة كهاتين، ما يقطع به على صحة تأويله، يعني الطبري، فقد نقل في تأويله غير هذا وهو أنه ليس بينه وبين الساعة نبيّ، ولا شرعة غير شرعته مع التقريب لحينها، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر/ 1] ، وقال: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل/ 1] ولكن إذا قلنا: إنه عليه السلام إنما بعث في الألف الآخر بعد ما مضت منه سنون

ونظرنا إلى الحروف المقطعة في أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفا يجمعها قولك. (ألم يسطع نص حق كره) . ثم تأخذ العدد على حساب أبي جاد، فيجيء تسعمائة وثلاثة، ولم يسمّ الله تعالى أوائل السور إلا هذه الحروف، فليس يبعد أن يكون من بعض مقتضياتها، وبعض فوائدها الإشارة إلى هذا العدد من السنين لما قدّمناه من حديث الألف السابع الذي بعث عليه السلام فيه غير أن الحساب يحتمل أن يكون من مبعثه أو من وفاته أو من هجرته وكل قريب بعضه من بعض، فقد جاء أشراطها، ولكن لا تأتيكم إلا بغتة، وقد روى أنه عليه السلام قال: «إن أحسنت أمّتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة» وذلك ألف سنة، وإن أساءت فنصف يوم. ففي الحديث تتميم للحديث المتقدّم، وبيان له، إذ قد نقضت الخمسمائة والأمة باقية، وقال شادان البلخيّ المنجم: مدّة ملة الإسلام ثلثمائة وعشرين سنين، وقد ظهر كذب قوله ولله الحمد، وقال أبو معشر: يظهر بعد المائة والخمسين من سني الهجرة اختلاف كثير. وقال حراس: إنّ المنجمين أخبروا كسرى أنوشروان بتملك العرب، وظهور النبوّة فيهم، وأنّ دليلهم الزهرة، وهي في شرفها، والزهرة دليل العرب، فتكون مدّة ملك نبوّتهم ألفا وستين سنة، ولأنّ طالع القرآن الدال على ذلك برج الميزان والزهرة صاحبته في شرفها، قال: وسأل كسرى وزيره بزرجمهر عن ذلك، فأعلمه أن الملك يخرج من فارس، وينتقل إلى العرب، وتكون ولادة القائم بإمرة العرب لخمس وأربعين سنة من وقت القران، وأنّ العرب تملك المشرق والمغرب من أجل أن المشتري دليل فارس قد قبل تدبير الزهرة دليل العرب، والقران قد انتقل من المثلثة الهوائية إلى المثلثة المائية، وإلى برج العقرب منها، وهو دليل العرب أيضا، وهذه الأدلة تقتضي بقاء الملة الإسلامية بقدر دور الزهرة، وهو ألف وستون سنة شمسية. وقال نفيل الروميّ: وكان في أيام بني أمية تبقى ملة الإسلام، بقدر مدّة القران الكبيرة، وهي تسعمائة وستون سنة شمسية، فإذا عاد القران بعد هذه المدة إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة، وتغير وضع تشكيل الفلك عن هيئته في الابتداء، فحينئذ يفتر العمل، ويتجدّد ما يوجب خلاف الظنّ. قال: واتفقوا على أنّ خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنار حتى تهلك المكوّنات بأسرها، وذلك إذا قطع قلب الأسد أربعا وعشرين درجة من برج الأسد الذي هو حدّ المرّيخ بعد تسعمائة وستين سنة شمسية من قران الملة، ويقال: إنّ ملك رابلستان وهي عزبة بعث إلى عبد الله أمير المؤمنين المأمون بحكيم اسمه دوبان في جملة هدية، فأعجب به المأمون، وسأله عن مدّة ملك بني العباس، فأخبره بخروج الملك عن عقبه، واتصاله في عقب أخيه، وأنّ العجم تغلبهم على الخلافة، فيتغلب الديلم أوّلا ثم يسوء حالهم، حتى يظهر الترك من

ذكر التواريخ التي كانت للأمم قبل تاريخ القبط

شمال المشرق، فيملكون الفرات والروم والشام، وقال يعقوب بن إسحاق الكنديّ: مدّة ملة الإسلام ستمائة وثلاث وتسعون سنة. وقال الفقيه الحافظ أبو محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم «1» : وأما اختلاف الناس في التاريخ، فإنّ اليهود يقولون: أربعة آلاف سنة، والنصارى يقولون: الدنيا خمسة آلاف سنة، وأما نحن يعني أهل الإسلام، فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا، ومن ادّعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقلّ فقد قال ما لم يأت قط عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه لفظة تصح، بل صح عنه عليه السلام خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [الكهف/ 51] ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود والشعرة السوداء في الثور الأبيض» . وهذه نسبة من تدبرها، وعرف مقدار عدد أهل الإسلام، ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض، وإنه الأكثر علم أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى، وكذلك قوله عليه السلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضم أصبعيه المقدّستين السبابة والوسطى، وقد جاء النص: بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله تعالى لا أحد سواه، فصح أنه صلّى الله عليه وسلّم، إنما عني شدّة القرب لا فضل السبابة على السباحة إذ لو أراد ذلك لأخذت نسبة ما بين الإصبعين، ونسب من طول الأصبع، فكان يعلم بذلك متى تقوم الساعة، وهذا باطل وأيضا فكان تكون نسبته صلّى الله عليه وسلّم إيانا من قبلنا بأننا كالشعرة في الثور كذبا، ومعاذ الله من ذلك، فصح أنه عليه السلام، إنما أراد شدّة القرب، وله صلّى الله عليه وسلّم منذ بعث أربعمائة عام ونيف، والله تعالى أعلم بما بقي للدنيا، فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عندما سلف لقتله، وتفاهته بالإضافة إلى ما مضى، فهو الذي قاله صلّى الله عليه وسلّم من أننا فيمن مضى كالشعرة في الثور أو الرقمة في ذراع الحمار. وقد رأيت بخط الأمير أبي محمد عبد الله بن الناصر قال: حدّثني محمد بن معاوية القرشيّ أنه رأى بالهند بلدا له اثنتان وسبعون ألف سنة، وقد وجد محمود بن سبكتكين بالهند مدينة يؤرخون بأربعمائة ألف سنة، قال أبو محمد: إلا أن لكل ذلك أوّلا، ولا بدّ ونهاية لم يكن شيء من العالم موجودا قبله، ولله الأمر من قبل ومن بعد، والله أعلم. ذكر التواريخ التي كانت للأمم قبل تاريخ القبط التاريخ: كلمة فارسية أصلها: ماروز، ثم عرّب. قال محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف البلخيّ في كتاب مفاتيح العلوم، وهو

كتاب جليل القدر، وهذا اشتقاق بعيد لولا أنّ الرواية جاءت به، وقال قدامة بن جعفر في كتاب الخراج: تاريخ كل شيء آخره، وهو في الوقت غايته، يقال: فلان تاريخ قومه، أي إليه ينتهي شرفهم، ويقال: ورّخت الكتاب توريخا وأرخته تأريخا، اللغة الأولى لتميم، والثانية لقيس، ولكل أهل ملة تاريخ، فكانت الأمم تؤرخ أوّلا بتاريخ الخليقة، وهو ابتداء كون النسل من آدم عليه السلام، ثم أرخت بالطوفان، وأرخت ببخت نصر، وأرخت بفيلبس، وأرخت بالإسكندر، ثم بأغشطش، ثم بأنطيس، ثم بدقلطيانوس، وبه تؤرخ القبط، لم يكن بعد تاريخ القبط إلا تاريخ الهجرة، ثم تاريخ يزدجرد، فهذه تواريخ الأمم المشهورة، وللناس تواريخ أخر قد انقطع ذكرها. فأما تاريخ الخليقة، ويقال له: ابتداء كون النسل، وبعضهم يقول: بدو التحرّك، فإنّ لأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس في كيفيته، وسياقة التاريخ منه خلافا كثيرا، قال المجوس والفرس: عمر العالم اثنا عشر ألف عام على عدد بروج الفلك وشهور السنة، وزعموا أنّ زرادشت صاحب شريعتهم قال: إن الماضي من الدنيا إلى وقت ظهوره ثلاثة آلاف ومائتا سنة وثمان وخمسون سنة، وإذا حسبنا من أوّل يوم كيومرت الذي هو عندهم الإنسان الأوّل، وجمعنا مدّة كل من ملك بعده، فإنّ الملك ملصق فيهم غير منقطع عنهم، كان العدد منه إلى الإسكندرية ثلاثة آلاف وثلثمائة وأربعا وخمسين سنة، فإذا لم يتفق التفصيل مع الجملة، وقال قوم: الثلاثة الآلاف الماضية إنما هي من خلق كيومرت فإنه مضى قبله ألف سنة، والفلك فيها واقف غير متحرّك، والطبائع غير مستحيلة، والأمّهات غير متمازجة، والكون والفساد غير موجود فيها، والأرض غير عامرة، فلما تحرّك الفلك حدث الإنسان الأوّل في معدن النهار، وتولد الحيوان وتوالد وتناسل الإنس فكثروا، وامتزجت أجزاء العناصر للكون والفساد، فعمرت الدنيا، وانتظم العالم. وقال اليهود: الماضي من آدم إلى الإسكندرية ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان وأربعون سنة. وقال النصارى: المدّة بينهما خمسة آلاف ومائة وثمانون سنة، وزعموا أن اليهود نقصوها، ليقع خروج عيسى ابن مريم عليه السلام في الألف الرابع وسط السبعة آلاف التي هي مقدار العالم عندهم، حتى تخالف ذلك الوقت الذي سبقت البشارة من الأنبياء الذين كانوا بعد موسى بن عمران عليه السلام، بولادة المسيح عيسى، وإذا جمع ما في التوراة التي بيد اليهود من المدّة التي بين آدم عليه السلام، وبين الطوفان، كانت ألفا وستمائة وستا وخمسين سنة، وعند النصارى في إنجيلهم ألفان ومائتا سنة واثنتان وأربعون سنة، وتزعم اليهود أن توراتهم بعيدة عن التخاليط، وتزعم النصارى: أن توراة السبعين التي هي بأيديهم لم يقع فيها تحريف، ولا تبديل، وتقول اليهود: فيها خلاف ذلك، وتقول السامرية: بأنّ

توارثهم هي الحقّ، وما عداها باطل، ولس في اختلافهم ما يزيل الشك بل يقوّي الجالبة له، وهذا الاختلاف بعينه بين النصارى أيضا في الإنجيل، وذلك أنّ له عند النصارى أربع نسخ مجموعة في مصحف واحد، أحدهما إنجيل متى، والثاني لمارقوس، والثالث للوقا، والرابع ليوحنا، قد ألف كل من هؤلاء الأربعة إنجيلا على حسب دعوته في بلاده، وهي مختلفة اختلافا كثيرا، حتى في صفات المسيح عليه السلام، وأيام دعوته، ووقت الصلب بزعمهم، وفي نسبه أيضا، وهذا الاختلاف لا يحتمل مثله، ومع هذا فعند كل من أصحاب مرقيون، وأصحاب ابن ديصان إنجيل يخالف بعضه هذا الأناجيل، ولأصحاب ماني إنجيل على حدة يخالف ما عليه النصارى من أوّله إلى آخره، ويزعمون أنه هو الصحيح، وما عداه باطل. ولهم أيضا إنجيل يسمى: إنجيل السبعين ينسب إلى تلامس، والنصارى وغيرهم ينكرونه، وإذا كان الأمر من الاختلاف بين أهل الكتاب، كما قد رأيت ولم يكن للقياس والرأي مدخل في تمييز حق ذلك من باطله امتنع الوقوف على حقيقة ذلك من قبلهم، ولم يعوّل على شيء من أقوالهم فيه، وأما غير أهل الكتاب، فإنهم أيضا مختلفون في ذلك. قال أسوش: بين خلق آدم وبين ليلة الجمعة أوّل الطوفان ألفا سنة ومائتا سنة وست وعشرون سنة وثلاثة وعشرون يوما وأربع ساعات، وقال ما شاه: واسمه منشا بن أثري منجم المنصور والمأمون في كتاب القرانات: أوّل قران وقع بين زحل والمشتري في بدء التحرّك، يعني ابتداء النسل من آدم كان على مضيّ خمسمائة وتسع سنين وشهرين وأربعة وعشرين يوما مضت من ألف المريخ، فوقع القران في برج الثور من المثلثة الأرضية على سبع درج واثنتين وأربعين دقيقة، وكان انتقال الممرّ من برج الميزان، ومثلثته الهوائية إلى برج العقرب، ومثلثته المائية بعد ذلك بألفي سنة وأربعمائة سنة واثنتي عشرة سنة وستة أشهر وستة وعشرين يوما، ووقع الطوفان في الشهر الخامس من السنة الأولى من القران الثاني من قرانات هذه المثلثة المائية، وكان بين وقت القران الأوّل الكائن في بدء التحرّك، وبين الشهر الذي كان فيه الطوفان ألفان وأربعمائة وثلاث وعشرون سنة وستة أشهر واثنا عشر يوما، قال: وفي كل سبعة آلاف سنة وسنتين وعشرة أشهر وستة أيام يرجع القران إلى موضعه من برج الثور الذي كان في بدء التحرّك، وهذا القول أعزك الله هو الذي اشتهر، حتى ظنّ كثير من الملل، أنّ مدّة بقاء الدنيا سبعة آلاف سنة فلا تغترّ به، وتنبه إلى أصله تجده أوهى من بيت العنكبوت فاطرحه. وقيل: كان بين آدم وبين الطوفان ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وثلاثون سنة، وقيل: كانت بينهما مدّة ألفين ومائتين وست وخمسين سنة، وقيل: ألفان وثمانون سنة. وأما تاريخ الطوفان: فإنه يتلو تاريخ الخليقة، وفيه من الاختلاف ما لا يطمع في حقيقته من أجل الاختلاف فيما بين آدم وبينه وفيما بينه وبين تاريخ الإسكندر، فإن اليهود

عندهم أنّ بين الطوفان، وبين الإسكندر ألفا وسبعمائة واثنتين وتسعين سنة، وعند النصارى بينهما ألفا سنة وتسعمائة وثمان وثلاثون سنة، والفرس وسائر المجوس، والكلدانيون أهل بابل، والهند، وأهل الصين، وأصناف الأمم المشرقية ينكرون الطوفان، وأقرّ به بعض الفرس، لكنهم قالوا: لم يكن الطوفان بسوى الشام والمغرب، ولم يعمّ العمران كله ولا غرّق إلا بعض الناس، ولم يتجاوز عقبة حلوان، ولا بلغ إلى ممالك المشرق، قالوا: ووقع في زمان طمهورت، وإنّ أهل المغرب لما أنذر حكماؤهم بالطوفان اتخذوا المباني العظيمة كالهرمين بمصر، ونحوهما ليدخلوا فيها عند حدوثه، ولما بلغ طمهورت الإنذار بالطوفان قبل كونه بمائة وإحدى وثلاثين سنة، أمر باختيار مواضع في مملكته صحيحة الهواء والتربة، فوجد ذلك بأصبهان «1» ، فأمر بتجليد العلوم، ودفنها فيها في أسلم المواضع، ويشهد لهذا ما وجد بعد الثلاثمائة من سني الهجرة في حيّ من مدينة أصبهان من التلال التي انشقت عن بيوت مملوءة أعد الأعدّة كثيرة قد ملئت من لحاء الشجر التي تلبس بها القسيّ «2» ، وتسمى: التور مكتوبة بكتابة لم يدر أحد ما هي؟. وأما المنجمون: فإنهم صححوا هذه السنين من القران الأوّل من قرانات العلويين: زحل والمشتري التي أثبت علماء أهل بابل، والكلدانيين مثلها إذا كان الطوفان ظهوره من ناحيتهم، فإنّ السفينة استقرّت على الجوديّ «3» وهو غير بعيد من تلك النواحي، قالوا: وكان هذا القران قبل الطوفان بمائتين وعشرين سنة ومائة وثمانية أيام، واعتنوا بأمرها وصححوا ما بعدها، فوجدوا ما بين الطوفان، وبين أوّل ملك بخت نصر الأوّل ألفي سنة وستمائة وأربع سنين، وبين بخت نصر هذا، وبين الإسكندر أربعمائة وست وثلاثون سنة، وعلى ذلك بنى أبو معشر أوساط الكواكب في زيجه، وقال: كان الطوفان عند اجتماع الكواكب في آخر برج الحوت، وأوّل برج الحمل، وكان بين وقت الطوفان، وبين تاريخ الإسكندر قدر ألفي سنة وسبعمائة وتسعين سنة مكبوسة وسبعة أشهر وستة وعشرين يوما، وبينه وبين يوم الخميس أوّل المحرّم من السنة الأولى من سني الهجرة النبوية ألف ألف يوم وثلثمائة ألف يوم وتسعة وخمسون ألف يوم وتسعمائة يوم وثلاثة وسبعون يوما، يكون من السنين الفارسية المصرية ثلاثة آلاف سنة، وسبعمائة وخمسا وعشرين سنة، وثلثمائة يوم وثمانية وأربعين يوما. ومنهم من يرى أنّ الطوفان كان يوم الجمعة، وعند أبي معشر أنه كان يوم الخميس، ولما تقرّر عنده الجملة المذكورة، وخرجت له المدّة التي تسمى: أدوار الكواكب، وهي بزعمهم ثلثمائة ألف وستون ألف سنة شمسية، وأوّلها متقدّم على وقت الطوفان بمائة ألف

ذكر تاريخ القبط

وثمانين ألف سنة شمسية، حكم بأنّ الطوفان كان في مائة ألف وثمانين ألف سنة، وسيكون فيما بعد كذلك، ومثل هذا لا يقبل إلّا بحجة أو من معصوم. وأما تاريخ بخت نصر: فإنه على سني القبط، وعليه يعمل في استخراج مواضع الكواكب من كتاب المجسطي، ثم أدوار قالليس، وأوّل أدواره في سنة ثماني عشرة وأربعمائة لبخت نصر، وكل دور منها ست وسبعون سنة شمسية، وكان قالليس من جلّة أصحاب التعاليم، وبخت نصر هذا ليس هو الذي خرّب بيت المقدس، وإنما هو آخر كان قبل بخت نصر مخرّب بيت المقدس، بمائة وثلاث وأربعين سنة، وهو اسم فارسيّ أصله بخت برسي، ومعناه كثير البكاء والأنين، ويقال له بالعبرانية: نصار، وقيل تفسيره: عطارد، وهو ينطق وذلك لتحيبه على الحكمة، وتغريب أهلها ثم عرّب فقيل: بخت نصر. وأما تاريخ فيلبس: فإنه على سني القبط، وكثيرا ما يستعمل هذا التاريخ من موت الإسكندر البناء المقدونيّ، وكلا الأمرين سواء، فإن القائم بعد البناء هو فيلبس فسواء كان من موت الأوّل أو من قيام الآخر، فإن الحالة المؤرخة هي كالفصل المشترك بينهما، وفيلبس هذا هو أبو الإسكندر المقدونيّ، ويعرف هذا التاريخ: بتاريخ الإسكندرانيين، وعله بنى تاون الإسكندرانيّ في تاريخه المعروف بالقانون، وأعلم. وأما تاريخ الإسكندرية فإنه على سني الروم عليه يعمل أكثر الأمم إلى وقتنا هذا من أهل الشام، وأهل بلاد الروم، وأهل المغرب والأندلس، والفرنج واليهود، وقد تقدّم الكلام عليه عند ذكر الإسكندرية من هذا الكتاب. وأما تاريخ أغشطش «1» فإنه لا يعرف اليوم أحد يستعمله، وأغشطش هذا هو أوّل القياصرة، ومعنى قيصر بالرومية شقّ عنه، فإنّ أغشطش هذا لما حملت به أمّه ماتت في المخاض، فشق بطنها حتى أخرج منه، فقيل: قيصر، وبه يلقب من بعده من ملوك الروم، ويزعم النصارى أنّ المسيح عليه السلام: ولد لأربعين سنة من ملكه، وفي هذا القول نظر، فإنه لا يصح عند سياقه السنين، والتواريخ بل يجيء تعديل ولادته عليه السلام في السنة السابعة عشر من ملكه. وأما تاريخ أنطينس: فإن بطليموس صحح الكواكب الثابتة في كتابه المعروف بالمجسطيّ لأوّل ملكه على الروم وسنو هذا التاريخ رومية. ذكر تاريخ القبط إعلم: أن السنة الشمسية عبارة عن عود الشمس في فلك البروج إذا تحرّكت على

خلاف حركة الكل إلى أيّ نقطة فرضت، ابتداء حركتها، وذلك أنها تستوفي الأزمنة الأربعة التي هي الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، وتحوز طبائعها الأربع، وتنتهي إلى حيث بدأت، وفي هذه المدّة يستوفي القمر اثنتي عشرة عودة، وأقلّ من نصف عودة، ويستهل اثنتي عشرة مرّة، فجعلت المدّة التي فيها عودات القمر الاثنتا عشرة في فلك البروج سنة للقمر على جهة الاصطلاح، وأسقط الكسر الذي هو أحد عشر يوما بالتقريب، فصارت السنة على قسمين: سنة شمسية، وسنة قمرية، وجميع من على وجه الأرض من الأمم أخذوا تواريخ سنيهم من مسير الشمس والقمر، فالآخذون بسير الشمس خمس أمم وهم: اليونانيون، والسريانيون، والقبط، والروم، والفرس، والآخذون بسير القمر خمس أمم هم: الهند، والعرب، واليهود، والنصارى، والمسلمون. فأهل قسنطينية والإسكندرية، وسائر الروم والسريانيون والكلدانيون، وأهل مصر، ومن يعمل برأي المعتضد أخذوا بالسنة الشمسية التي هي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم بالتقريب، وصيروا السنة ثلثمائة وخمسة وستين يوما، وألحقوا الأرباع بها في كل أربع سنين يوما حتى انجبرت السنة، وسمّوا تلك السنة كبيسة لانكباس الأرباع فيها. وأما قبط مصر القدماء: فإنهم كانوا يتركون الأرباع حتى يجتمع منها أيام سنة تامّة، وذلك في كل ألف وأربعمائة وستين سنة، ثم يكبسونها سنة واحدة، ويتفقون حينئذ في أوّل تلك السنة مع أهل الإسكندرية وقسطنطينية. وأما الفرس: فإنهم جعلوا السنة ثلثمائة وخمسة وستين يوما من غير كبس حتى اجتمع لهم من ربع اليوم في مائة وعشرين سنة أيام شهر تامّ، ومن خمس الساعة الذي يتبع ربع اليوم عندهم، يوم واحد، فألحقوا الشهر التامّ بها في كل مائة وست عشرة سنة، واقتفى أثرهم في هذا أهل خوارزم القدماء والصفد، ومن دان بدين فارس، وكانت الملوك البيشدادية منهم، وهم الذين ملكوا الدنيا بحذافيرها يعملون السنة ثلثمائة وخمسة وستين يوما كل شهر منها: ثلاثون يوما سواء، وكانوا يكبسون السنة كل ست سنين بيوم، ويسمونها كبيسة، وكل مائة وعشرين سنة بشهرين أحدهما بسبب خمسة الأيام، والثاني بسبب ربع اليوم، وكانوا يعظمون تلك السنة ويسمونها المباركة. وأما قدماء القبط: وأهل فارس في الإسلام، وأهل خوارزم والصفد فتركوا الكسور أعني الربع، وما يتبعه أصلا. وأما العبرانيون، وجميع بني إسرائيل، والصابئون، والحرّانيون فإنهم أخذوا السنة من مسير الشمس، وشهورها من مسير القمر لتكون أعيادهم، وصيامهم على حساب قمريّ، وتكون مع ذلك حافظة لأوقاتها من السنة، فكبسوا كل تسع عشرة سنة قمرية بستة أشهر، ووافقهم النصارى في صومهم، وبعض أعيادهم لأن مدار أمرهم على نسخ اليهود، وخالفوهم في الشهور إلى مذهب الروم والسريانيين، وكانت

العرب في جهالتها تنظر إلى فضل ما بين سنتهم، وسنة القمر، وهو عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمس ساعة، فيلحقون ذلك بها شهرا كلما تمّ منها ما يستوفي أيام شهر، ولكنهم كانوا يعملون على أنه عشرة أيام وعشرون ساعة، وكان يتولى ذلك النّسأة من بني كنانة المعروفون بالقلامس، وأحدهم قلمس، وهو البحر الغزير، وهو أبو تمام جنادة بن عوف بن أمية بن قلع، وأوّل من فعل ذلك منهم: حذيفة بن عبد فقيم، وآخر من فعله أبو تمامة، وأخذ العرب الكبس من اليهود قبل مجيء دين الإسلام بنحو المائتي سنة، وكانوا يكبسون في كل أربعة وعشرين سنة، تسعة أشهر حتى تبقى أشهر السنة ثابتة مع الأزمنة على حالة واحدة لا تتأخر عن أوقاتها، ولا تتقدّم إلى أن حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل الله تعالى عليه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [التوبة/ 37] ، فخطب صلّى الله عليه وسلّم وقال: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض فبطل النسيء، وزالت شهور العرب عما كانت عليه، وصارت أسماؤها غير دالة على معانيها» . وأما أهل الهند فإنهم يستعملون رؤية الأهلة في شهورهم، ويكبسون كل تسعمائة سنة وسبعين يوما بشهر قمريّ، ويجعلون ابتداء تاريخهم: اتفاق اجتماع في أوّل دقيقة من برج ما، وأكثر طلبهم لهذا الاجتماع أن يتفق في إحدى نقطتي الاعتدالين، ويسمون السنة الكبيسة بذمات فهذه آراء الخليقة في السنة. وأما اليوم فإنه عبارة عن عود الشمس بدوران الكل إلى دائرة قد فرضت، وقد اختلف فيه فجعله العرب من غروب الشمس إلى غروبها من الغد، ومن أجل أنّ شهور العرب مبنية على مسير القمر، وأوائلها مقيدة برؤية الهلال، والهلال يرى لدن غروب الشمس، صارت الليلة عندهم قبل النهار، وعند الفرس والروم، اليوم بليلته من طلوع الشمس بارزة من أفق المشرق إلى وقت طلوعها من الغد، فصار النهار عندهم قبل الليل، واحتجوا على قولهم: بأنّ النور وجود، والظلمة عدم، والحركة تغلب على السكون لأنها وجود لا عدم، وحياة لا موت، والسماء أفضل من الأرض، والعامل الشاب أصح، والماء الجاري لا يقبل عفونة كالراكد، واحتج الآخرون بأن الظلمة أقدم من النور، والنور طارىء عليها، فالأقدم يبدأ به، وغلبوا السكون على الحركة بإضافة الراحة والدعة إليه، وقالوا: الحركة إنما هي الحاجة والضرورة، والتعب تنتجه الحركة، والسكون إذا دام في الاستقصاءات مدّة لم يولد فسادا، فإذا دامت الحركة في الاستقصاءات واستحكمت أفسدت، وذلك كالزلازل والعواصف، والأمواج وشبهها، وعند أصحاب التنجيم أن اليوم بليلته من موافاة الشمس فلك نصف النهار إلى موافاتها إياه في الغد، وذلك من وقت الظهر إلى وقت العصر، وبنوا على ذلك حساب أزياجهم، وبعضهم ابتدأ باليوم من نصف الليل، وهو صاحب زيج شهر بارازانساه،

ذكر دقلطيانوس الذي يعرف تاريخ القبط به

وهذا هو حدّ اليوم على الإطلاق إذا اشترط الليلة في التركيب فأمّا على التفصيل: فاليوم بانفراده، والنهار بمعنى واحد، وهو من طلوع جرم الشمس إلى غروب جرمها، والليل خلاف ذلك وعكسه، وحدّ بعضهم أوّل النهار بطلوع الفجر وآخره بغروب الشمس لقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة/ 187] وقال: هذان الحدّان هما طرفا النهار، وعورض بأنّ الآية إنما فيها بيان طرفي الصوم لا تعريف أوّل النهار، وبأن الشفق من جهة المغرب نظير الفجر من جهة المشرق، وهما متساويان في العلة، فلو كان طلوع الفجر أوّل النهار، لكان غروب الشفق آخره، وقد التزم ذلك بعض الشيعة، فإذا تقرّر ذلك، فنقول تاريخ القبط يعرف عند نصارى مصر الآن بتاريخ الشهداء، ويسميه بعضهم، تاريخ دقلطيانوس. ذكر دقلطيانوس «1» الذي يعرف تاريخ القبط به إعلم: أنّ دقلطيانوس هذا: أحد ملوك الروم المعروفين بالقياصرة ملك في منتصف سنة خمس وتسعين وخمسمائة من سني الإسكندر، وكان من غير بيت الملك، فلما ملك تجبر وامتدّ ملكه إلى مدائن الأكاسرة، ومدينة بابل، فاستخلف ابنه على مملكة رومة، واتخذ تخت ملكه بمدينة أنطاكية، وجعل لنفسه بلاد الشام ومصر إلى أقصى المغرب، فلما كان في السنة التاسعة عشر من ملكه، وقيل: الثانية عشر خالف عليه أهل مصر، والإسكندرية، فبعث إليهم وقتل منهم خلقا كثيرا، وأوقع بالنصارى فاستباح دماءهم وغلق كنائسهم، ومنع من دين النصارى، وحمل الناس على عبادة الأصنام، وبالغ في الإسراف في قتل النصارى، وأقام ملكا إحدى وعشرين سنة، وهلك بعد علل صبعة دوّد منها بدنه، وسقطت أسنانه، وهو آخر من عبد الأصنام من ملوك الروم، وكل من ملك بعده فإنما كان على دين النصرانية، فإن الذي ملك بعده ابنه سنة واحدة، وقيل: أكثر من ذلك، ثم ملك قسطنطين الأكبر، فأظهر دين النصرانية، ونشره في الأرض، ويقال: إن رجلا ثار بمصر، يقال له: أجله، وخرج عن طاعة الروم، فسار إليه دقلطيانوس وحصر الإسكندرية دار الملك يومئذ ثمانية أشهر، حتى أخذ أجله وقتله، وعمّ أرض مصر كلها بالسبي والقتل، وبعث قائده، فحارب سابور ملك فارس، وقتل أكثر عسكره، وهزمه وأسر امرأته وإخوته وأثخن في بلاده، وعاد بأسرى كثيرة من رجال فارس، ثم أوقع بعامّة بلاد رومة، فأكثر في قتلهم وسبيهم، فكانت أيامه شنعة، قتل فيها من أصناف الأمم، وهدم من بيوت العبادات ما لا يدخل تحت حصر، وكانت واقعته بالنصارى هي الشدّة العاشرة، وهي أشنع شدائدهم،

ذكر أسابيع الأيام

وأطولها لأنها دامت عليهم مدّة عشر سنين لا يفتر يوما واحدا يحرق فيها كنائسهم، ويعذب رجالهم، ويطلب من استتر منهم أو هرب ليقتل، يريد بذلك قطع أثر النصارى، وإبطال دين النصرانية من الأرض، فلهذا اتخذوا ابتداء ملك دقلطيانوس تاريخا، وكان ابتداء ملكه يوم الجمعة، وبينه وبين يوم الاثنين أوّل يوم من توت، وهو أوّل أيام ملك الإسكندر بن فيلبس المقدونيّ خمسمائة وأربع وتسعون سنة، وأحد عشر شهرا، وثلاثة أيام، وبين يوم الجمعة أوّل يوم من تاريخ دقلطيانوس، وبين يوم الخميس أوّل يوم من سنة الهجرة النبوية ثلثمائة وثمان وثلاثون سنة قمرية وتسعة وثلاثون يوما، وجعلوا شهور السنة القبطية اثني عشر شهرا كل شهر منها عدده ثلاثون يوما سواء، فإذا تمت الأشهر الاثنا عشر أتبعوها بخمسة أيام زيادة على عدد أيامها، وسموا هذه الخمسة الأيام أبو عمنا، وتعرف اليوم: بأيام النسيء، فيكون الحال في النسيء على ذلك ثلاث سنين متواليات، فإذا كان في السنة الرابعة جعلوا النسيء ستة أيام، فتكون سنوهم ثلاث سنين متواليات كل سنة ثلثمائة وخمسة وستون يوما والرابعة يصير عددها ثلثمائة وستة وستين يوما، ويرجع حكم سنتهم إلى حكم سنة اليونانيين بأن تصير سنتهم الوسطى ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم إلا أن الكبس يختلف، فإذا كان كبس القبط في سنة كان كبس اليونانيين في السنة الداخلة. وأسماء شهور القبط «1» : توت، بابه. هتور، كهيك، طوبه، أمشير، برمهات، برموده، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرى؛ فهذه اثنا عشر شهرا كل شهر منها عدده ثلاثون يوما، وإذا كانت عدّة شهر مسري، وهو الشهر الثاني عشر زادوا أيام النسيء بعد ذلك، وعملوا النوروز أوّل يوم من شهر توت. ذكر أسابيع الأيام إعلم: أن القدماء من الفرس والصفد وقبط مصر الأول يم يكونوا يستعملون الأسابيع من الأيام في الشهور، وأوّل من استعملها أهل الجانب الغربيّ من الأرض لا سيما أهل الشام، وما حواليه من أجل ظهور الأنبياء عليهم السلام فيما هنا لك، وأخبارهم عن الأسبوع الأوّل وبدء العالم فيه، وإنّ الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام من الأسبوع، ثم انتشر ذلك منهم في سائر الأمم، واستعملته العرب العاربة بسبب تجاوز ديارهم، وديار أهل الشام، فإنهم كانوا قبل تحوّلهم إلى اليمن ببابل، وعندهم أخبار نوح عليه السلام، ثم بعث الله تعالى إليهم هودا، ثم صالحا عليهما السلام، وأنزل فيهم إبراهيم خليل الرحمن ابنه إسماعيل عليهما السلام، فتعرّب إسماعيل، وكانت القبط الأول تستعمل أسماء الأيام الثلاثين من كل شهر، فتجعل لكل يوم منها اسما، كما هو العمل في تاريخ الفرس،

ذكر أعياد القبط من النصارى بديار مصر

وما زالت القبط على هذا إلى أن ملك مصر أغشطش بن بوحس، فأراد أن يحملهم على كبس السنين ليوافقوا الروم أبدا فيها، فوجدوا الباقي حينئذ إلى تمام السنة الكبيسة الكبرى خمس سنين، فانتظر حتى مضى من ملكه خمس سنين، ثم حملهم على كبس الشهور في كل أربع سنين بيوم، كما تفعل الروم، فترك القبط من حينئذ استعمال أسماء الأيام الثلاثين، لاحتياجهم في يوم الكبس إلى اسم يخصه، وانقرض بعد ذلك مستعملو أسماء الأيام الثلاثين من أهل مصر، والعارفون بها، ولم يبق لها ذكر يعرف في العالم بين الناس، بل دثرت كما دثر غيرها من أسماء الرسوم القديمة، والعادات الأول سنة الله في الذين خلوا من قبل، وكانت أسماء شهور القبط في الزمن القديم: توت، بؤوني، أتور، سواق، طوبى، ماكير، فامينوت، برموتي، باحون، باوني، افيعي، ابيقا؛ وكل شهر منها ثلاثون يوما، ولكل يوم اسم يخصه، ثم أحدث بعض رؤساء القبط بعد استعمالهم الكبس الأسماء التي هي اليوم متداولة بين الناس بمصر، إلا أن من الناس من يسمى كيهك كياك، ويقول في برمهات برمهوط، وفي بشنس بشانس، وفي مسري ماسوري، ومن الناس من يسمى الخمسة الأيام الزائدة أيام النسيء، ومنهم من يسميها أبو عمنا، ومعنى ذلك الشهر الصغير، وهي كما تقدّم تلحق في آخر مسرى، وفيه يزاد اليوم الكبيس، فيكون أبو عمنا ستة أيام حينئذ، ويسمون السنة الكبيسة النقط، ومعناه العلامة، ومن خرافات القبط أنّ شهورهم هي شهور سني نوح وشيث وآدم منذ ابتداء العالم، وإنها لم تزل على ذلك إلى أن خرج موسى ببني إسرائيل من مصر، فعملوا أوّل سنتهم خامس عشر نيسان، كما أمروه به في التوراة إلى أن نقل الإسكندر رأس سنتهم إلى أوّل تشرين، وكذلك المصريون نقل بعض ملوكهم أوّل سنتهم إلى أوّل يوم من ملكه، فصار أوّل توت عندهم يتقدّم أوّل يوم خلق فيه العالم بمائتين وثمانية أيام أوّلها يوم الثلاثاء، وآخرها يوم السبت، وكان توت أوّله في ذلك الوقت يوم الأحد، وهو أوّل يوم خلق الله فيه العالم الذي يقال له الآن: تاسع عشري برمهات وذلك أنّ أوّل من ملك على الأرض بعد الطوفان نمرود بن كنعان بن حام بن نوح، فعمر بابل، وهو أبو الكلدانيين، وملك بنو مصرايم بن حام بن نوح عليه السلام: متش فبنى منف بمصر على النيل، وسماها باسم جدّه مصرايم، وهو ثاني ملك ملك على الأرض، وهذان الملكان استعملا تاريخ جدّهما نوح عليه السلام، واستن بسنتهم من جاء بعدهم حتى تغيرت كما تقدّم. ذكر أعياد القبط من النصارى بديار مصر روى يونس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: اجتنبوا عيد اليهود والنصارى، فإنّ السخط ينزل عليهم في مجامعهم، ولا تتعلموا رطانتهم فتخلقوا ببعض خلقهم. وعن ابن عباس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا

كِراماً [الفرقان/ 72] قال: أعياد المشركين، فقيل له: أو ما هذا في الشهادة بالزور، فقال: لا إنما أية شهادة الزور، ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا. اعلم: أنّ نصارى مصر من القبط ينحلون مذهب اليعقوبية كما تقدّم ذكره، وأعيادهم الآن التي هي مشهورة بديار مصر أربعة عشر عيدا في كل سنة من سنيهم القبطية منها سبعة أعياد يسمونها أعيادا كبارا، وسبعة يسمونها أعيادا صغارا. فالأعياد الكبار عندهم: عيد البشارة، وعيد الزيتونة، وعيد الفصح، وعيد خميس الأربعين، وعيد الخميس، وعيد الميلاد، وعيد الغطاس. والأعياد الصغار: عيد الختان، وعيد الأربعين، وخميس العهد، وسبت النور، وأحد الحدود، والتجلي، وعيد الصليب، ولهم مواسم أخر ليست هي عندهم من الأعياد الشرعية لكنها عندهم من المواسم العادية، وهو يوم النوروز، وسأذكر من خبر هذه الأعياد ما لا تجده مجموعا في غير هذا الكتاب على ما استخرجته من كتب النصارى، وتواريخ أهل الإسلام. عيد البشارة: هذا العيد عيد النصارى أصله بشارة جبريل مريم بميلاد المسيح عليهما السلام، وهم يسمون جبريل غبريال، ويقولون: مارت مريم، ويسمون المسيح: ياشوع، وربما قالوا: السيد يشوع، وهذا العيد تعمله نصارى مصر في اليوم التاسع والعشرين من شهر برمهات «1» . عيد الزيتونة: ويعرف عندهم: بعيد الشعانين، ومعناه التسبيح، ويكون في سابع أحد من صومهم وسنتهم في عيد الشعانين أن يخرجوا سعف النخل من الكنيسة، ويرون أنه يوم ركوب المسيح العنو، وهو الحمار في القدس، ودخوله إلى صهيون، وهو راكب والناس بين يديه يسبحون، وهو يأمر بالمعروف، ويحث على عمل الخير، وينهى عن المنكر، ويباعد عنه، وكان عيد الشعانين من مواسم النصارى بمصر التي تزين فيها كنائسهم، فلما كان لعشر خلون من شهر رجب سنة ثمان وسبعين وثلثمائة، كان عيد الشعانين فمنع الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور بن العزيز بالله النصارى من تزيين كنائسهم، وحملهم الخوص على ما كانت عادتهم، وقبض على عدّة ممن وجد معه شيئا من ذلك، وأمر بالقبض على ما هو محبس على الكنائس من الأملاك، وأدخلها في الديوان، وكتب لسائر الأعمال بذلك، وأحرقت عدّة من صلبانهم على باب الجامع العتيق والشرطة. عيد الفصح: هذا العيد عندهم هو العيد الكبير، ويزعمون أنّ المسيح عليه السلام،

لما تمالأ اليهود عليه، واجتمعوا على تضليله وقتله، قبضوا عليه، وأحضروه إلى خشبة ليصلب عليها، فصلب على خشبة عليها لصان، وعندنا وهو الحق أنّ الله تعالى رفعه إليه، ولم يصلب، ولم يقتل وأنّ الذي صلب على الخشبة مع اللصين غير المسيح ألقى الله عليه شبه المسيح، قالوا: واقتسم الجند ثيابه، وغشي الأرض ظلمة من الساعة السادسة من النهار إلى الساعة التاسعة من يوم الجمعة خامس عشر هلال نيسان للعبرانيين، وتاسع عشري برمهات، وخامس عشري آذار سنة «1» ودفن الشبيه آخر النهار بقبر، وأطبق عليه حجر عظيم، وختم عليه رؤساء اليهود، وأقاموا عليه الحرس باكر يوم السبت، كيلا يسرق فزعموا أنّ المقبور قام من القبر ليلة الأحد سحرا، ومضى بطرس، ويوحنا التلميذان إلى القبر، وإذا الثياب التي كانت على المقبور بغير ميت، وعلى القبر ملاك الله بثياب بيض، فأخبرهما بقيام المقبور من القبر، قالوا: وفي عشية يوم الأحد هذا، دخل المسيح على تلاميذه، وسلّم عليهم، وأكل معهم، وكلمهم وأوصاهم، وأمرهم بأمور قد تضمنها إنجيلهم، وهذا العيد عندهم بعد عيد الصلبوت بثلاثة أيام. خميس الأربعين: ويعرف عند أهل الشام بالمسلاق، ويقال له أيضا: عيد الصعود، وهو الثاني والأربعون من الفطر، ويزعمون أنّ المسيح عليه السلام بعد أربعين يوما من قيامته خرج إلى بيت عينا، والتلاميذ معه، فرفع يديه وبارك عليهم، وصعد إلى السماء، وذلك عند إكماله ثلاثا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، فرجع التلامذة إلى أوراسليم يعني بيت المقدس، وقد وعدهم باشتهار أمرهم، وغير ذلك مما هو معروف عندهم، فهذا اعتقادهم في كيفية رفع المسيح، ومن أصدق من الله حديثا. عيد الخميس: وهو العنصرة، ويعملونه بعد خمسين يوما من يوم القيام، وزعموا أن بعد عشرة أيام من الصعود وخمسين يوما من قيامة المسيح، اجتمع التلاميذ في علية صهيون، فتجلى لهم روح القدس في شبه ألسنة من نار، فامتلأوا من روح القدس، وتكلموا بجميع الألسن، وظهرت على أيديهم آيات كثيرة، فعاداهم اليهود، وحبسوهم فنجاهم الله منهم، وخرجوا من السجن، فساروا في الأرض متفرّقين يدعون الناس إلى دين المسيح. عيد الميلاد: يزعمون أنه اليوم الذي ولد فيه المسيح، وهو يوم الاثنين فيحيون عشية ليلة الميلاد، وسنتهم فيه كثرة الوقود بالكنائس، وتزيينها، ويعملونه بمصر في التاسع والعشرين من كيهك «2» ولم يزل بديار مصر من المواسم المشهورة، فكان يفرّق فيه أيام الدولة الفاطمية على أرباب الرسوم من الأستاذين المحنكين، والأمراء المطوّقين، وسائر الموالي من الكتاب وغيرهم، الجامات من الحلاوة القاهرية، والمثارد التي فيها السميذ،

وقربات الجلاب، وطمافير الزلابية، والسمك المعروف بالبوريّ، ومن رسم النصارى في الميلاد اللعب بالنار. ومن أحسن ما قيل: ما اللعب بالنار في الميلاد من سفه ... وإنما فيه للإسلام مقصود ففيه بهت النصارى أنّ ربهم ... عيسى ابن مريم مخلوق ومولود وأدركنا الميلاد بالقاهرة ومصر، وسائر إقليم مصر موسما جليلا يباع فيه من الشموع المزهرة بالأصباغ المليحة، والتماثيل البديعة بأموال لا تنحصر، فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى يشتري من ذلك لأولاده وأهله، وكانوا يسمونها: الفوانيس، واحدها فانوس، ويعلقون منها في الأسواق بالحوانيت شيئا يخرج عن الحدّ في الكثرة والملاحة، ويتنافس الناس في المغالات في أثمانها حتى لقد أدركت شمعة عملت فبلغ مصروفها: ألف درهم وخمسمائة درهم فضة عنها يومئذ ما ينيف على سبعين مثقالا من الذهب واعرف السؤال في الطرقات أيام هذه المواسم، وهم يسألون الله أن يتصدّق عليهم بفانوس، فيشتري لهم من صغار الفوانيس، ما يبلغ ثمنه الدرهم، وما حوله ثم لما اختلت أمور مصر، كان من جملة ما بطل من عوايد الترف، عمل الفوانيس في الميلاد إلّا قليلا. الغطاس: ويعمل بمصر في اليوم الحادي عشر من شهر طوبه «1» ، وأصله عند النصارى، أنّ يحيى بن زكرياء عليهما السلام المعروف عندهم بيوحنا المعمدانيّ: عمّد المسيح أي غسله في بحيرة الأردن، وعندما خرج المسيح عليه السلام من الماء، اتصل به روح القدس، فصار النصارى لذلك يغمسون أولادهم في الماء في هذا اليوم، وينزلون فيه بأجمعهم، ولا يكون ذلك إلا في شدّة البرد، ويسمونه يوم الغطاس، وكان له بمصر موسم عظيم إلى الغاية. قال المسعوديّ: ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها لا ينام الناس فيها، وهي ليلة الحادي عشر من طوبه، ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلثمائة ليلة الغطاس بمصر، والإخشيد محمد بن طفج أمير مصر في داره المعروفة بالمختار في الجزيرة الراكبة للنيل، والنيل يطيف بها، وقد أمر فأسرج في جانب الجزيرة، وجانب الفسطاط ألف مشعل غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع، وقد حضر بشاطئ النيل في تلك الليلة آلاف من الناس من المسلمين، ومن النصارى منهم في الزواريق، ومنهم في الدور الدانية من النيل، ومنهم على سائر الشطوط لا يتناكرون كل ما يمكنهم إظهاره من المآكل والمشارب والملابس، وآلات الذهب والفضة، والجوهر والملاهي، والعزف والقصف، وهي أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورا، ولا تغلق فيها الدروب، ويغطس أكثرهم في النيل، ويزعمون أنّ ذلك أمان من المرض ونشزة للداء.

وقال المسبحيّ في تاريخه: من حوادث سنة سبع وستين وثلثمائة: منع النّصارى من إظهار ما كانوا يفعلونه في الغطاس من الاجتماع، ونزول الماء، وإظهار الملاهي، ونودي أن من عمل ذلك نفي من الحضرة، وقال في سنة ثمان وثمانين وثلثمائة: كان الغطاس فضربت الخيام والمضارب والأسرّة في عدّة مواضع على شاطىء النيل، ونصبت أسرّة للرئيس فهد بن إبراهيم النصرانيّ كاتب الأستاذ برجوان «1» ، وأوقدت له الشموع والمشاعل، وحضر المغنون والملهون، وجلس مع أهله يشرب إلى أن كان وقت الغطاس، فغطس وانصرف. وقال: في سنة إحدى وأربعمائة، وفي ثامن عشري جمادى الأولى، وهو عاشر طوبه منع النصارى من الغطاس، فلم يغطس أحد منهم في البحر، وقال: في حوادث سنة خمس عشرة وأربعمائة، وفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة، كان غطاس النصارى، فجرى الرسم من الناس في شراء الفواكه والضأن وغيره، ونزل أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله لقصر جدّه العزيز بالله في مصر، لنظر الغطاس، ومعه الحرم، ونودي أن لا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم في البحر في النيل، وضرب بدر الدولة الخادم الأسود متولي الشرطتين، خيمة عند الجسر، وجلس فيها وأمر أمير المؤمنين بأن توقد النار والمشاعل في الليل، وكان وقيدا كثيرا، وحضر الرهبان والقسوس بالصلبان والنيران، فقسسوا هناك طويلا إلى أن غطسوا، وقال ابن المأمون في تاريخه: من حوادث سنة سبع عشرة وخمسمائة، وذكر الغطاس، ففرّق أهل الدولة ما جرت به العادة لأهل الرسوم من الأترج والنارنج والليمون في المراكب، وأطنان القصب والبوري بحسب الرسوم المقرّرة بالديوان لكل واحد. الختان: يعمل في سادس شهر بؤونة «2» ، ويزعمون أنّ المسيح ختن في هذا اليوم، وهو الثامن من الميلاد، والقبط من دون النصارى تختن بخلاف غيرهم. الأربعون: وهو عندهم دخول المسيح الهيكل، ويزعمون أنّ سمعان الكاهن: دخل بالمسيح مع أمّه، وبارك عليه، ويعمل في ثامن شهر أمشير «3» . خميس العهد: ويعمل قبل الفصح بثلاثة أيام، وسنتهم فيه أن يملئوا إناء من ماء، ويزمزمون عليه، ثم يغسل للتبرّك به أرجل سائر النصارى، ويزعمون أنّ المسيح فعل هذا بتلامذته في مثل هذا اليوم كي يعلمهم التواضع، ثم أخذ عليهم العهد أن لا يتفرّقوا، وأن

يتواضع بعضهم لبعض، وعوامّ أهل مصر في وقتنا يقولون: خميس العدس من أجل أنّ النصارى تطبخ فيه العدس المصفى، ويقول أهل الشام: خميس الأرز وخميس البيض، ويقول أهل الأندلس: خميس أبريل، وأبريل اسم شهر من شهورهم، وكان في الدولة الفاطمية تضرب في خميس العدس هذا خمسمائة دينار، فتعمل خراريب تفرّق في أهل الدولة برسوم مفردة كما ذكر في أخبار القصر من القاهرة عند ذكر دار الضرب من هذا الكتاب، وأدركنا خميس العدس هذا في القاهرة ومصر، وأعمالها من جملة المواسم العظيمة، فيباع في أسواق القاهرة من البيض المصبوغ عدّة ألوان ما يتجاوز حدّ الكثرة، فيقامر به العبيد والصبيان والغوغاء، وينتدب لذلك من جهة المحتسب من يردعهم في بعض الأحيان، ويهادي النصارى بعضهم بعضا، ويهدون إلى المسلمين أنواع السمك المنوّع مع العدس المصفى، والبيض، وقد بطل ذلك لما حلّ بالناس وبقيت منه بقية. سبت النور: وهو قبل الفصح بيوم، ويزعمون: أنّ النور يظهر على قبر المسيح بزعمهم في هذا اليوم بكنيسة القيامة من القدس، فتشعل مصابيح الكنيسة كلها، وقد وقف أهل الفصح، والتفتيش على أنّ هذا من جملة مخاريق النصارى، لصناعة يعملونها، وكان بمصر هذا اليوم من جملة المواسم، ويكون ثالث يوم من خميس العدس، ومن توابعه. حدّ الحدود: وهو بعد الفصح بثمانية أيام فيعمل أوّل أحد بعد الفطر لأن الآحاد قبله مشغولة بالصوم، وفيه يجدّون الآلات والأثاث واللباس، ويأخذون في المعاملات، والأمور الدنيوية والمعاش. عيد التجلي: يعمل في ثالث عشر شهر مسرى «1» يزعمون أن المسيح تجلى لتلاميذه بعد ما رفع، وتمنوا عليه أن يحضر لهم إيلياء، وموسى عليهما السلام، فأحضرهما إليهم بمصلى بيت المقدس، ثم صعد إلى السماء وتركهم. عيد الصليب: ويعمل في اليوم السابع عشر من شهر توت «2» ، وهو من الأعياد المحدثة، وسببه ظهور الصليب بزعمهم على يد هيلانة أم قسطنطين، وله خبر طويل عندهم ملخصه ما أنت تراه. ذكر قسطنطين: وقسطنطين هذا: هو ابن قسطنش بن وليطنوش بن أرشميوش بن دقبون بن كلوديش بن عايش بن كتبيان اعسب الأعظم الملقب قيصر، وهو أوّل من ثبت دين النصرانية، وأمر بقطع الأوثان، وهدم هياكلها، وبنيان البيع، وآمن من الملوك بالمسيح، وكانت أمّه هيلانة من مدينة الرها، فنشأ بها مع أمّه، وتعلم العلوم، ولم يزل في غاية من

الظفر والسعادة معانا منصورا على كل من حاربه، وكان في أوّل أمره على دين المجوس شديدا على النصارى ماقتا لدينهم، وكان سبب رجوعه عن ذلك إلى دين النصرانية أنه ابتلي بجذام ظهر عليه، فاغتمّ لذلك غما شديدا، وجمع الحذاق من الأطباء، فاتفقوا على أدوية دبّروها له، وأوجبوا أن يستنقع بعد أخذ تلك الأدوية في صهريج مملوء من دماء أطفال رضع ساعة يسيل منهم، فتقدّم أمره بجمع جملة من أطفال الناس، وأمر بذبحهم في صهريج ليستنقع في دمائهم، وهي طرية، فجمعت الأطفال لذلك، وبرز ليمضي فيهم ما تقدّم به من ذبحهم، فسمع ضجيج النساء اللّاتي أخذ أولادهنّ، فرحمهنّ وأمر فدفع لكل واحدة ابنها، وقال: احتمال علّتي أولى بي، وأوجب من هلاك هذه العدّة العظيمة من البشر، فانصرف النساء بأولادهنّ، وقد سررن سرورا كثيرا، فلما صار من الليل إلى مضجعه رأى في منامه شيخا يقول له: إنك رحمت الأطفال وأمّهاتهم، ورأيت احتمال علتك أولى من ذبحهم، فقد رحمك الله، ووهبك السلامة من علتك، فابعث إلى رجل من أهل الإيمان يدعى: شلبشقر، قد فرّ خوفا منك، وقف عندما يأمرك به، والتزم ما يخصك عليه تتم لك العافية، فانتبه مذعورا، وبعث في طلب شلبشقر الأسقف، فأتي به إليه وهو يظنّ أنه يريد قتله، لما عهده من غلظته على النصارى، ومقته لدينهم، فعندما رآه تلقاه بالبشر، وأعلمه بما رآه في منامه، قفص عليه دين النصرانية، وكانت له معه أخبار طويلة مذكورة عندهم، فبعث قسطنطين في جمع الأساقفة المنفيين، والمسيرين والتزم دين النصرانية، وشفاه الله من الجذام، فأيد الديانة، أعلن بالإيمان بدين المسيح، وبينا هو في ذلك إذ توقع وثوب أهل رومة عليه، وإيقاعهم به، فخرج عنها وبنى مدينة قسطنطينية «1» بنيانا جليلا فعرفت به، وسكنها فصارت موضع تخت الملك من عهده، وقد كان النصارى من لدن زمان بيرون الملك الذي قبل الحواريين، ومن بعده ممن ملك رومة في كل وقت يقتلون، ويحبسون ويشرّدون بالنفي، فلما سكن قسطنطين مدينة قسطنطينية جمع إلى نفسه أهل المسيح، وقوّى وجوههم وأذلّ عبّاد الأوثان، فشق ذلك على أهل رومة، وخلعوا طاعته، وقدّموا عليهم ملكا، فأهمه ذلك، ومرّت له معهم عدّة أخبار مذكورة في تاريخ رومة، ثم إنه خرج من قسطنطينية يريد رومة، وقد استعدّوا لحربه، فلما قاربهم أذعنوا له، والتزموا طاعته، فدخلها فأقام إلى أن رجع لحرب الفرس، وخرج إليهم، فقهرهم ودانت له أكثر ممالك الدنيا، فلما كان في عشرين سنة من دولته، خرجت الفرس على بعض أطرافه، فغزاهم وأخرجهم عن بلاده، ورأي في منامه كأن بنودا شبه الصليب قد رفعت، وقائلا يقول له: إن أردت أن تظفر بمن خالفك، فاجعل هذه العلامات على جميع بركك، وسكك، فما انتبه أمر بتجهيز أمه هيلانة إلى بيت المقدس في طلب آثار المسيح عليه السلام، وبناء الكنائس، وإقامة شعائر النصرانية، فسارت إلى بيت المقدس، وبنت الكنائس، فيقال: إنّ الأسقف مقاريوس دلّها على الخشبة

التي زعموا أن المسيح صلب عليها، وقد قص عليها ما عمل به اليهود، فحفرت فإذا قبر وثلاث خشبات على شكل الصليب، فزعموا أنهم ألقوا الثلاث خشبات على ميت واحدة بعد واحدة، فقام حيّا عندما وضعت عليه الخشبة الثالثة منها، فاتخذوا ذلك اليوم عيدا، وسمّوه: عيد الصليب، وكان في اليوم الرابع عشر من أيلول والسابع عشر من توت، وذلك بعد ولادة المسيح بثلاثمائة وثمان وعشرين سنة، وجعلت هيلانة لخشبات الصليب غلافا من ذهب، وبنت كنيسة القيامة «1» ببيت المقدس على قبر المسيح بزعمهم، وكانت لها مع اليهود أخبار كثيرة قد ذكرت عندهم، ثم انصرفت بالصليب معها إلى ابنها، وما زال قسطنطين على ممالك الروم إلى أن مات بعد أربع وعشرين سنة من ولايته، فقام من بعده بممالك الروم ابنه قسطنطين الأصغر، وقد كان لعيد الصليب بمصر موسم عظيم يخرج الناس فيه إلى بني وائل بظاهر فسطاط مصر، ويتظاهرون في ذلك اليوم بالمنكرات من أنواع المحرّمات، ويمرّ لهم فيه ما يتجاوز الحدّ، فلما قدمت الدولة الفاطمية إلى ديار مصر، وبنوا القاهرة، واستوطنوها، وكانت خلافة أمير المؤمنين العزيز بالله أمر في رابع شهر رجب في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وهو يوم الصليب، فمنع الناس من الخروج إلى بني وائل وضبط الطرق والدروب، ثم لما كان عيد الصليب في اليوم الرابع عشر من شهر رجب سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة خرج الناس فيه إلى بني وائل، وجروا على عادتهم في الاجتماع واللهو، وفي صفر سنة اثنتين وأربعمائة قرىء في سابعه سجل بالجامع العتيق وفي الطرقات كتب عن الحاكم بأمر الله يشتمل على منع النصارى من الاجتماع على عمل عيد الصليب، وأن لا يظهروا بزينتهم فيه، ولا يقربوا كنائسهم، وأن يمنعوا منها ثم بطل ذلك، حتى لم يكد يعرف اليوم بديار مصر البتة. النيروز: هو أوّل السنة القبطية بمصر، وهو أوّل يوم من توت، وسنتهم فيه إشعال النيران، والتراش بالماء، وكان من مواسم لهم المصريين قديما وحديثا. قال ابن وهب: بردت النار في الليلة التي ألقي فيها إبراهيم، وفي صبيحتها على الأرض كلها، فلم ينتفع بها أحد في الدنيا تلك الليلة، وذلك الصباح، فمن أجل ذلك بات الناس على النار في تلك الليلة التي رمي فيها إبراهيم عليه السلام، ووثبوا عليها، وتبخروا بها، وسموا تلك الليلة: نيروزا، والنيروز في اللسان السرياني: العيد. وسئل ابن عباس عن النيروز لم اتخذوه عيدا، فقال: إنه أوّل السنة المستأنفة وآخر السنة المنقطعة، فكانوا يستحبون أن يقدموا فيه على ملوكهم بالطرف، والهدايا، فاتخذته الأعاجم سنّة. قال الحافظ أبو القاسم عليّ بن عساكر في تاريخ دمشق من طريق ابن عباس رضي الله

عنهما، قال: إنّ فرعون لما قال للملأ من قومه: إن هذا لساحر عليم، قالوا له: ابعث إلى السحرة، فقال فرعون لموسى: يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن، ولا أنت، فتجتمع أنت وهارون وتجتمع السحرة، فقال موسى: موعدكم يوم الزينة، قال: ووافق ذلك يوم السبت في أوّل يوم من السنة، وهو يوم النيروز، وفي رواية: أن السحرة قالوا لفرعون: أيها الملك واعد الرجل، فقال: قد واعدته يوم الزينة، وهو عيدكم الأكبر، ووافق ذلك يوم السبت، فخرج الناس لذلك اليوم، قال: والنوروز أوّل سنة الفرس، وهو الرابع عشر من آذار، وفي شهر برمهات، ويقال: أوّل من أحدثه جمشيد «1» من ملوك الفرس، وإنه ملك الأقاليم السبعة، فلما كمل ملكه، ولم يبق له عدوّ اتخذ ذلك اليوم عيدا، وسماه نوروزا في اليوم الجديد، وقيل: إن سليمان بن داود عليهما السلام، أوّل من وضعه في اليوم الذي رجع إليه فيه خاتمه، وقيل: هو اليوم الذي شفي فيه أيوب عليه السلام، وقال الله سبحانه وتعالى له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ [ص/ 42] فجعل ذلك اليوم عيدا، وسنّوا فيه رش الماء، ويقال: كان بالشام سبط من بني إسرائيل أصابهم الطاعون، فخرجوا إلى العراق، فبلغ ملك العجم خبرهم، فأمر أن تبنى عليهم حظيرة يجعلون فيها، فلما صاروا فيها ماتوا، وكانوا أربعة آلاف رجل، ثم إن الله تعالى أوحى إلى نبيّ ذلك الزمان أرأيت بلاد كذا وكذا، فحاربهم بسبط بني فلان، فقال: يا رب كيف أحارب بهم، وقد ماتوا، فأوحى الله إليه: إني أحييهم لك، فأمطرهم الله ليلة من الليالي في الحظيرة، فأصبحوا أحياء فهم الذين قال الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة/ 243] فرفع أمرهم إلى ملك فارس، فقال: تبرّكوا بهذا اليوم، وليصب بعضكم على بعض الماء، فكان ذلك اليوم يوم النوروز، فصارت سنّة إلى اليوم، وسئل الخليفة المأمون عن رش الماء في النوروز، فقال قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة/ 243] هؤلاء قوم أجدبوا تقول مات فلان هزالا فغيثوا في هذا اليوم برشة من مطر فعاشوا، فأخصب بلدهم، فلما أحياهم الله بالغيث، والغيث يسمى الحيا جعلوا صب الماء في مثل هذا اليوم سنّة يتبرّكون بها إلى يومنا هذا. وقد روي: أن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون، وقيل: أمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم على يد حزقيل أحد أنبياء بني إسرائيل في خبر طويل قد ذكره أهل التفسير.

وقال عليّ بن حمزة الأصفهانيّ «1» في كتاب أعياد الفرس: إنّ أوّل من اتخذ النيروز، جمشيد، ويقال: جمشاد أحد ملوك الفرس الأول، ومعنى النوروز اليوم الجديد، والنوروز عند الفرس يكون يوم الاعتدال الربيعيّ، كما أنّ المهرجان أوّل الاعتدال الخريفيّ، ويزعمون أن النوروز أقدم من المهرجان، فيقولون: إن المهرجان كان في أيام أفريدون، وإنه أوّل من عمله لما قتل الضحاك، وهو بيوراست، فجعل يوم قتله عيدا سماه المهرجان، وكان حدوثه بعد النوروز بألفي سنة وعشرين سنة. وقال ابن وصيف شاه في ذكر مناوش بن منقاوش أحد ملوك القبط في الدهر القديم: وهو أوّل من عمل النوروز بمصر، فكانوا يقيمون سبعة أيام يأكلون ويشربون إكراما للكواكب. وقال ابن رضوان: ولمّا كان النيل هو السبب الأعظم في عمارة أرض مصر، رأى المصريون القدماء، وخاصة الذين كانوا في عهد قلديانوس الملك أن يجعلوا أوّل السنة في أوّل الخريف عند استكمال النيل الحاجة في الأمر الأكثر، فجعلوا أوّل شهورهم توت، ثم بابه ثم هاتور، وعلى هذا الولاء بحسب المشهور من ترتيب هذه الشهور. وقال ابن زولاق: وفي هذه السنة، يعني سنة ثلاث وستين وثلثمائة، منع أمير المؤمنين المعز لدين الله من وقود النيران ليلة النوروز في السكك، ومن صبّ الماء يوم النوروز. وقال: في سنة أربع وستين، وفي يوم النوروز زاد اللعب بالماء، ووقود النيران، وطاف أهل الأسواق، وعملوا فيه وخرجوا إلى القاهرة بلعبهم، ولعبوا ثلاثة أيام، وأظهروا السماجات والحلي في الأسواق، ثم أمر المعز بالنداء بالكف، وأن لا توقد نار، ولا يصب ماء، وأخذ قوم فحبسوا، وأخذ قوم فطيف بهم على الجمال. وقال ابن المأمون في تاريخه: وحلّ موسم النوروز في اليوم التاسع من رجب سنة سبع عشرة وخمسمائة، ووصلت الكسوة المختصة بالنوروز من الطراز، وثغر الإسكندرية مع ما يتبعها من الآلات المذهبة، والحريري والسوادج، وأطلق جميع ما هو مستقرّ من الكسوات الرجالية والنسائية والعين والورق، وجميع الأصناف المختصة بالموسم على اختلافها بتفصيلها، وأسماء أربابها، وأصناف النوروز البطيخ والرمان، وعناقيد الموز، وأفراد البسر، وأقفاص التمر القوصي، وأقفاص السفرجل، وبكل الهريسة المعمولة من لحم الدجاج، ومن لحم الضأن، ومن لحم

البقر من كل لون بكلة مع حبرير مارق، قال: وأحضر كاتب الدفتر الحسابات بما جرت به العادة من إطلاق العين والورق، والكسوات على اختلافها في يوم النوروز، وغير ذلك من جميع الأصناف، وهو أربعة آلاف دينار ذهبا وخمسة عشر ألف درهم فضة، والكسوات عدّة كثيرة من شقق ديبقية مذهبات وحريريات، ومعاجر وعصائب نسائيات ملوّنات وسقولاد مذهب وحريري، ومسفع، وفوط ديبقية حريرية، فأما العين والورق والكسوات، فذلك لا يخرج عمن تحوزه القصور، ودار الوزارة والشيوخ والأصحاب، والحواشي والمستخدمين ورؤساء العشاريات، وبحاريها، ولم يكن لأحد من الأمراء على اختلاف درجاتهم في ذلك نصيب. وأما الأصناف من البطيخ والرّمان والبسر والموز والسفرجل والعناب والهرائس على اختلافها، فيشمل ذلك جميع من تقدّم ذكرهم، ويشركهم فيه جميع الأمراء أرباب الأطواق والإنصاف وغيرهم من الأماثل، والأعيان من له جاه، ورسم في الدولة. وقال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة أربع وثمانين وخمسمائة يوم الثلاثاء رابع عشر رجب يوم النوروز القبطيّ، وهو مستهلّ توت، وتوت أوّل سنتهم، وقد كان بمصر في الأيام الماضية والدولة الخالية من مواسم بطالاتهم، ومواقيت ضلالاتهم، فكانت المنكرات ظاهرة فيه، والفواحش صريحة فيه، ويركب فيه أمير موسوم بأمير النوروز، ومه جمع كثير، ويتسلط على الناس في طلب رسم رتبه، ويرسم على دور الأكابر بالجمل الكبار، ويكتب مناشير، ويندب مرسمين كل ذلك يخرج مخرج الطير، ويقنع بالميسور من الهبات، ويجتمع المغنون، والفاسقات تحت قصر اللؤلؤ بحيث يشاهدهم الخليفة، وبأيديهم الملاهي، وترتفع الأصوات، ويشرب الخمر والمزر شربا ظاهرا بينهم، وفي الطرقات، ويتراش الناس بالماء، وبالماء والخمر، وبالماء ممزوجا بالأقذار، وإن غلط مستور، وخرج من بيته لقيه من يرشه، ويفسد ثيابه، ويستخف بحرمته، فإمّا أن يفدي نفسه، وإمّا أن يفضح، ولم يجر الحال على هذا، ولكن قد رش الماء في الحارات، وقد أحيى المنكرات في الدور أرباب الخسارات. وقال في متجدّدات سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة: وجرى الأمر في النوروز على العادة من رش الماء، واستجدّ فيه هذا العام التراجم بالبيض، والتصافع بالأنطاع، وانقطع الناس عن التصرّف، ومن ظفر به في الطريق رش بمياه نجسة، وخرق به، وما زال يوم النوروز يعمل فيه ما ذكر من التراش بالماء، والتصافع بالجلود، وغيرها إلى أن كانت أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، وأمر الدولة بديار مصر، وتدبيرها إلى الأمير الكبير برقوق «1» قبل

ذكر ما يوافق أيام الشهور القبطية من الأعمال في الزراعات، وزيادة النيل، وغير ذلك على ما نقله أهل مصر عن قدمائهم واعتمدوا عليه في أمورهم

أن يجلس على سرير الملك، ويتسمى بالسلطان، فمنع من لعب النوروز، وهدّد من لعبه بالعقوبة، فانكف الناس عن اللعب في القاهرة، وصاروا يعملون شيئا من ذلك في الخلجان، والبرك، ونحوها من مواضع التنزه، بعد ما كانت أسواق القاهرة تتعطل في يوم النوروز زمن البيع والشراء، ويتعاطى الناس فيه من اللهو واللعب ما يخرجون عن حدّ الحياء والحشمة إلى الغاية من الفجور والعهور، وقلما انقضى يوم نوروز إلّا وقتل فيه قتيل أو أكثر، ولم يبق الآن للناس من الفراغ ما يقتضي ذلك، ولا من الرفه والبطر ما يوجب لهم عمله، وما أحسن قول بعضهم: كيف ابتهاجك بالنوروز يا سكني ... وكل ما فيه يحكيني وأحكيه فتارة كلهيب النار في كبدي ... وتارة كتوالي دمعتي فيه وقال آخر: نوروز الناس ونورزت ولكن بدموعي ... وذكت نارهم والنار ما بين ضلوعي وقال آخر: ولما أتى النوروز يا غاية المنى ... وأنت على الأعراض والهجر والصدّ بعثت بنار الشوق ليلا إلى الحشا ... فنورزت صبحا بالدموع على الخدّ ذكر ما يوافق أيام الشهور القبطية من الأعمال في الزراعات، وزيادة النيل، وغير ذلك على ما نقله أهل مصر عن قدمائهم واعتمدوا عليه في أمورهم اعلم: أنّ المصريين القدماء اعتمدوا في تاريخهم السنة الشمسية كما تقدّم ذكره ليصير الزمان محفوظا، وأعمالهم واقعة في أوقات معلومة من كل سنة، لا يتغير وقت عمل من أعمالهم بتقديم ولا تأخير البتة. توت: بالقبطيّ هو أيلول، وكانت عادة مصر مذ عهد فراعنتها في استخراج خراجها، وجباية أموالها إنه لا يستتم استيفاء الخراج من أهلها، إلّا عند تمام الماء، وافتراشه على سائر أرضها، ويقع إتمامه في شهر توت، فإذا كان كذلك، وربما كانت زيادة عن ذلك أطلق الماء في جميع نواحيها من ترعها، ثم لا يزال يترجح في الزيادة والنقصان، حتى يفرغ توت، وفي أوّل يكون يوم النوروز، ورابعه أوّل أيلول، وسابعه يلقط الزيتون، وثاني عشره

يطلع الفجر بالصرفة «1» ، وسابع عشره عيد الصليب، فيشرط البلسان، ويستخرج دهنه، ويفتح ما يتأخر من الأبحر والترع، وترتب المدامسة لحفظ الجسور، وفي ثامن عشرة تنقل الشمس إلى برج الميزان، فيدخل فصل الخريف، وفي خامس عشريه يطلع الفجر بالعوّا «2» ، ويكبر صغار السمك، وفي هذا الشهر يعم ماء النيل أراضي مصر، وفيه تسجل النواحي، وتسترفع السجلات والقوانين، وتطلق التقاوي من الغلال لتخضير الأراضي، وفيه يدرك الرّمان والبسر والرطب والزيتون والقطن والسفرجل، وفيه يكون هبوب ريح الشمال أقوى من هبوب ريح الجنوب، وهبوب الصبا أقوى من الدبور، وكان قدماء المصريين لا ينصبون فيه أساسا وفيه يكثر بمصر العنب الشتويّ وتبذر المحمضات. بابه: في أوّله يحصد الأرز، ويزرع الفول والبرسيم، وسائر الحبوب التي لا تشق لها الأرض، وفي رابعه أوّل تشرين الأوّل، وفي ثامنه طلوع الفجر بالسماك «3» ، وهو نهاية زيادة النيل، وابتداء نقصه، وقد لا يتم الماء فيه، فيعجز بعض الأرض عن أن يركبها الماء، فيكون من ذلك نقص الخراج عن الكمال، وفي تاسعه يكون مجيء الكراكي إلى أرض مصر، وفي عاشره يزرع الكتان، وفي ثاني عشره يكون ابتداء شق الأرض بصعيد مصر لبذر القمح، والشعير، وفي ثامن عشره تنقل الشمس إلى برج العقرب، ويقطع الخشب، وفي تاسع عشره يكون ابتداء نقص ماء النيل، ويكثر البعوض، وفي حادي عشريه يطلع الفجر بالغفر «4» . وفي هذا الشهر تصرف المياه عن الأراضي، ويخرج المزارعون لتخضير الأراضي فيبدأون ببذر زراعة القرط، ثم بزراعة الغلة البدرية أوّلا فأوّلا، وفيه يستخرج دهن الآس، ودهن النيلوفر، ويدرك التمر والزبيب والسمسم والقلقاس، وفيه يكثر صغار السمك، ويقل كباره، ويسمن الراي، والأبرميس من السمك خاصة، وتستحكم حلاوة الرّمان، ويكون فيه أطيب منه في سائر الشهور التي يكون فيها، ويضع الضأن والمعز والبقر الخيسية، وفيه يملح السمك المعروف بالبوري، ويهزل الضأن والمعز والبقر، ولا تطيب لحومها، وتدر المحمضات، وفيه يجب كتابة التذاكر بالأعمال القوصية، وفيه يغرس المنثور، ويزرع السلجم. هاتور: في خامسه يكون أوّل تشرين الثاني، ويطلع الفجر بالزبانا «5» في رابعه، وفي سادسه يزرع الخشخاش، وفي سابعه يصرف ماء النيل عن أراضي الكتان، ويبذر في النصف منه، وبعد تمام شهر يسبخ، وفي ثامنه أوان المطر الموسمي، وفي حادي عشره تهب ريح الجنوب، وفي خامس عشره تبرد المياه بمصر، وفي سابع عشره يطلع الفجر بالإكليل «6» ، وفي ثامن عشره تحل الشمس برج القوس، وفي تاسع عشره يغلق

البحر الملح، وفي سابع عشريه تهب الرياح اللواقح. وفي هذا الشهر يلبس أهل مصر الصوف من سابعه، وفيه يكسر ما يحتاج إليه من قصب السكر برسم المعاصر، وبراح الغلة في جميع ما يحتاج إليه فيها، ويهتم بعلف أبقارها وجمالها بعد بيع شارفها وعاجزها، والتعويض عنه بغيره، وأفراد الأتيان برسم وقود القنود، وترتيب القوامصة لعمل الأباليح والقواديس، والأمطار برسم القنود، والأعسال، وفيه يدرك البنفسج، والنيلوفر، والمنثور، ومن البقولات الإسباناخ والبلسان، واختار قدماء المصريين في هاتور نصب الأساسات، وزرع القمح، وأطيب حملان السنة حمله، وفيه يكثر العنب الذي كان يحمل من قوص. كهيك: أوّله الأربعينات بمصر، ويدخل الطير وكره، وفي سادسه بشارة مريم بحمل عيسى عليهما السلام، وفي سابعه أوّل كانون الأول، وفي عاشره آخر الليالي البلق، وأوّلها أوّل هاتور، وفي حادي عشره أوّل الليالي السود، ويدخل النمل الأحجرة، وفي ثالث عشره يطلع الفجر بالشولة «1» ، وتظهر البراغيث، ويسخن باطن الأرض، وفي سادس عشره يسقط ورق الشجر، وفي سابع عشرة تنقل الشمس إلى برج الجدي، فيدخل فصل الشتاء، ويزرع الهليون، وفي حادي عشريه يكون آخر الليالي البلق، وفي ثاني عشريه عيد البشارة، وفي ثالث عشريه تزرع الحلبة والترمس، وفي سادس عشريه يطلع الفجر بالنعائم «2» ، وفي ثامن عشريه يبيض النعام، وفي تاسع عشريه الميلاد. وفي هذا الشهر يزرع الخيار بعد إغراق أرضه، وفيه يتكامل بذر القمح والشعير والبرسيم الحراثيّ، وفيه يستخرج خراج البرسيم بدار الوجه القبليّ، وفيه ترتب حراس الطير، وفيه كسر قصب السكر واعتصاره، واستخدام الطباخين لطبخ القنود، وفيه يكون إدراك النرجس، والمحمضات، والفول الأخضر، والكرنب والجزر والكرّاث الأبيض واللفت، وفيه يقل هبوب ريح الشمال، ويكثر هبوب ريح الجنوب، وفيه يجود الجدا، ويكون أطيب منها في جميع الشهور التي يكون فيها، وفيه يزرع أكثر حبوب الحرث، ولا يزرع بعده في شيء من أرض مصر غير السمسم، والمقاثي والقطن. طوبه: في ثالثه ابتداء زراعة الحمص والجلبان والعدس، وفي سادسه أوّل كانون الثاني، وفي تاسعه يطلع الفجر بالبلد «3» ، وعاشره صوم الغطاس، وحادي عشره الغطاس، وفي ثاني عشره يشتدّ البرد، وفي رابع عشره يرتفع الوباء بمصر، ويغرس النخل، وفي سابع عشره تحل الشمس أوّل برج الدلو، ويكثر الندى، ويكون ابتداء غرس الأشجار، وفي العشرين منه يكون آخر الليالي السود، وحادي عشريه الليالي البلق الثانية، وفي ثاني عشريه

يطلع الفجر بسعد الذابح «1» ، وفي ثالث عشريه تهب الرياح الباردة، وفي رابع عشريه تفرخ جوارح الطير، وفي خامس عشريه يكون نتاج الإبل المحمودة، وفي سابع عشريه يصفو ماء النيل، وفي ثامن عشريه يتكامل إدراك القرط. وفي هذا الشهر تقلم الكروم، وينظف زرع الغلة من اللبسان وغيره، وينظف زرع الكتان من الفجل وغيره، وفيه تبرش الأراضي أوّل سكة برسم الصيافي والمقائي والقطن والسمسم، وينتهي برشها في أوّل أمشير، وفيه تسقى أرض القلقاس والقصب، وتشق الجسور في آخره، وفيه تستخرج أراضي الخرس، ويكسر القصب الراس بعد إفراز ما يحتاج إليه من الزريعة، وهو لكل فدّان طين قيراط طيب قصب راس، وفيه يهتم بعمارة السواقي وحفر الآبار، وابتياع الأبقار، وفيه يظهر اللوز الأخضر والنبق والهليون، وفيه أيضا يكون هبوب ريح الجنوب أكثر من هبوب الشمال، وهبوب الصبا أكثر من هبوب الدبور، وفيه يكون الباقلا الأخضر والجزر أطيب منهما في غيره، وفيه يتناهى ماء النيل في صفائه، ويخزن فلا يتغير في أوانيه، ولو طال لبثه فيها، وفيه تطيب لحوم الضأن أطيب منها في سائر الشهور، وفيه تربط الخيول والبغال على القرط من أجل ربيعها، وبطوبه يطالب الناس بافتتاح الخراج، ومحاسبة المتقبلين على الثمن من السجلات من جميع ما بأيديهم من المحلول والمعقود. أمشير: في أوّله تختلف الرياح، وفي خامسه يطلع الفجر بسعد بلع «2» ، وفي سادسه يكون أوّل شباط، وفي تاسعه يجري الماء في العود، وحادي عشره أوّل جمرة باردة، وسادس عشره تحل الشمس بأوّل برج الحوت، وفي سابع عشره يخرج النمل من الأحجرة، وفي ثامن عشره يطلع الفجر بسعد السعود «3» ، وفي العشرين منه ثاني جمرة فاترة، وفي ثالث عشريه تقلم الكروم، وخامس عشريه يفرخ النحل، وسابع عشريه ثالث جمرة حامية، ويورق الشجر، وهو آخر غرسها، وفي آخره يكون آخر الليالي البلق. وفي هذا الشهر يقلع السلجم، ويستخرج خراجه، وفيه يثنى برش الصيافي وتبرش أيضا ثالث سكة، وفيه يعمل مقاطع الجسور، وتمسح الأراضي، ويرقد البيض في المعامل أربعة أشهر آخرها بشنس، وفيه يكون ريح الشمال أكثر الرياح هبوبا، وفيه ينبغي أن تعمل أواني الخزف للماء لتستعمل فيه طول السنة، فإنّ ما عمل فيه من أواني الخزف يبرّد الماء في الصف أكثر من تبريد ما يعمل في غيره من الشهور، وفيه يتكامل غرس الشجر، وتقليم الكروم، وفيه يدرك النبق واللوز الأخضر، ويكثر البنفسج والمنثور. ويقال: أمشير يقول للزرع سير، ويلحق بالطويل القصير، وفيه يقل البرد، ويهب الهواء الذي فيه سخونة ما، وفي أمشير يؤخذ الناس فيه بإتمام ربع الخراج من السجلات. برمهات: أوّل يوم منه يطلع الفجر بالأخبية «4» ، وفي خامسه يحضن دود القز،

وسادسه يزرع السمسم، وثاني عشره يقلع الكتان، ورابع عشره يكون أوّل الأعجاز، ويطلع الفجر بالفرغ المقدّم «1» ، وفي سادس عشره تفتح الحيات أعينها، وفي سابع عشره تنقل الشمس إلى برج الحمل، وهو أوّل فصل الربيع، ورأس سنة الجند، ورأس سنة العالم، وفي العشرين منه يكون آخر الإعجاز، وثاني عشريه نتاج الخيل المحمودة وثالث عشريه يظهر الذباب الأزرق، وخامس عشريه تظهر هوام الأرض، وسابع عشريه يطلع الفجر بالفرغ المؤخر «2» ، وفي آخره يتفرّق السحاب. وفي هذا الشهر تجري المراكب السفرية في البحر الملح إلى ديار مصر من المغرب والروم، ويهتم فيه بتجريد الأجناد إلى الثغور كالإسكندرية ودمياط وتنيس ورشيد، وفيه كانت تجهز الأساطيل، ومراكب الشواني لحفظ الثغور، وفيه زرع المقائي والصيفيّ، ويدرك الفول والعدس، ويقلع الكتان، وتزرع أقصاب السكر في الأرض المبروشة المختارة لذلك البعيدة العهد عن الزراعة، ويأخذ المقشرون في تنظيف الأرض المزروعة من القش في وقت الزراعة، ويأخذ القطاعون في قطع الزريعة، ويأخذ المزارعون في رمي قطع القصب، وفيه يؤخذ في تحصيل النطرون وحمله من وادي هبيت إلى الشونة السلطانية، وفيه يكون ريح الشمال أكثر الرياح هبوبا، وفيه تزهر الأشجار، وينعقد أكثر ثمارها، وفيه يكون اللبن الرائب أطيب منه في جميع الشهور التي يعمل فيها، وفي برمهات يطالب الناس بالربع الثاني، والثمن من الخراج. برموده: في سادسه أوّل نيسان، وفي عاشره يطلع الفجر بالرشاء «3» ، وفي ثاني عشره يقلع الفجل، وفي سابع عشره تحل الشمس أوّل برج الثور، وفي ثالث عشريه يطلع الفجر بالشرطين «4» ، وهو رأس الحمل، وأوّل منازل القمر، وفيه ابتداء كسار الفول، وحصاد القمح، وهو ختام الزرع. وفي هذا الشهر يهتم بقطع خشب السنط من الخراج الذي كان بمصر في القديم أيام الدولة الفاطمية والأيوبيّة، ويجرّ إلى السواحل لتيسر حمله في زمن النيل إلى ساحل مصر ليعمل شواني وأحطابا برسم الوقوع في المطابخ السلطانية، وفيه يكثر الورد، ويزرع الخيار شنبر والملوخيا والباذنجان، وفيه يقطف أوائل عسل النحل، وينفض بزر الكتان، وأحسن ما يكون الورد فيه من جميع زمانه، وفيه يظهر البطن الأوّل من الجميز، وفيه تقع المساحة على أهل الأعمال، ويطالب الناس بإغلاق نصف الخراج من سجلاتهم، ويحصد بدريّ الزرع. بشنس: في خامسه تكثر الفاكهة، وسادسه أوّل أيار، وفيه طلوع الفجر بالبطين «5» ،

وثامنه عيد الشهيد، وتاسعه انفتاح البحر المالح، ورابع عشره يزرع الأرز، وثامن عشره تحل الشمس أوّل بزرج الجوزاء، وفيه يطيب الحصاد، وفي تاسع عشره يطلع الفجر بالثريا «1» ، وفيه زراعة الأرز والسمسم، ورابع عشريه يكون عيد البلسان بالمطرية، ويزعمون أنه اليوم الذي دخلت فيه مريم إلى مصر. وفي هذا الشهر يكون دراس الغلة، وهدار الكتان، ونفض البزر، والنقاوي والأتبان، وحملها، وفيه زراعة البلسان وتقليمه وسقيه، وتكريم أراضيه من بؤونة إلى آخر هاتور، واستخراج دهنه بعد شرطه في نصف توت، وإن كان في أوّله، فهو أصلح إلى آخر هاتور، وصلاح أيامه أيام الندى، ويقيم في الندى سنة كاملة إلى أن يشرب إعكاره، وأوساخه، ويطبخ الدهن في الفصل الربيعيّ في شهر برمهات، فيعمل لكل رطل مصريّ أربعة وأربعون رطلا من مائة، فيحصل منه قدر عشرين درهما، وما حولها من الدهن. وفي هذا الشهر أكثر ما يهب من الرياح الشمالية، وفيه يدرك التفاح القاسمي، ويبتدي فيه التفاح المسكي، والبطيخ العبدلي، ويقال: إنه أوّل ما عرف بمصر عندما قدم إليها عبد الله بن طاهر بعد المائتين من سني الهجرة، فنسب إليه، وقيل له العبدليّ، وفيه أيضا يبتدئ البطيخ الجربيّ والمشمس والخوخ الزهريّ، ويجني الورد الأبيض، وفيه تقرّر المساحة، ويطالب الناس بما يضاف إلى المساحة من أبواب، وجوه المال كالصرف والجهبذة، وحق المراعي والقرط والكتان على رسوم كل ناحية، ويستخرج فيه إتمام الربع مما تقرّرت عليه العقود، والمساحة ويطلق الحصاد لجميع الناس. بؤونة: في ثانية يطلع الفجر بالدبران «2» ، وفي خامسه يتنفس النيل، وفي تاسعه أوان قطف النحل، وفي حادي عشره تهب رياح السموم، وفي ثاني عشره عيد ميكائيل، فيؤخذ قاع النيل، وفي ثالث عشره يشتدّ الحرّ، وفي خامس عشره يطلع الفجر بالهنعة «3» ، وفي عشريه تحل الشمس أوّل برج السلطان، وهو أوّل فصل الصيف، وفي سابع عشريه ينادى على النيل بما زاده من الأصابع، وفي ثامن عشريه يطلع الفجر بالهقعة «4» . وفي هذا الشهر تسفر المراكب لإحضار الغلال والتبن والقنود والأعسال، وغير ذلك من الأعمال القوصية، ونواحي الوجه البحريّ، وفيه يقطف عسل النحل، وتخرّص الكروم، ويستخرج زكاتها، وفيه يندّى الكتان، ويقلب أربعة أوجه في بؤونة وأبيب، وفيه زراعة النيلة بالصعيد الأعلى، وتحصد بعد مائة يوم، ثم تترك وتحصد في كل مائة يوم حصدة، ويحصل في أوّل كيهك وطوبة وأمشير وبرمهات، ويطلع في برمودة، وتحصد في عشرة أيام من أبيب، وتقيم في الأرض الجيدة ثلاث سنين، وتسقي كل عشرة أيام دفعتين، وثاني سنة ثلاث دفعات، وثالث سنة أربع دفعات، وفي هذا الشهر يكون التين الفيوميّ والخوخ الزهريّ والكمثرى والقراصيا والقثاء والبلح والحصرم، ويبتدئ إدراك العصفر، وفيه يدخل

بعض العنب ويطيب التوت الأسود، ويقطف جمهور العسل، فتكون رياحه قليلة والتين يكون فيه أطيب منه في سائر الشهور، وفيه يطلع النخل، وفيه يستخرج تمام نصف الخراج مما بقي بعد المساحة. أبيب: في سابعه أوّل تموز، وفي عاشره آخر قطع الخشب، وفي حادي عشره يطلع الفجر بالذراع «1» ، وثاني عشره ابتداء تعطين الكتان، وفي خامس عشره يقلّ ماء الآبار، وتدرك الفواكه، ويموت الدود، وفي حادي عشريه تحل الشمس بأوّل برج الأسد، وتذهب البراغيث ويبرد باطن الأرض، وتهيج أوجاع العين، وفي خامس عشريه يطلع الفجر بالنثرة «2» ، وفي سادس عشريه تطلع الشعرى «3» العبور اليمانية. وفي هذا الشهر أكثر ما يهب من الرياح الشمال، ويكثر فيه العنب، ويجود، وفيه يطيب التين المقرون بمجيء العنب، ويتغير البطيخ العبدليّ، وتقل حلاوته، وتكثر الكمثرى السكرية، ويطيب البلخ، وفيه يقطف بقايا عسل النحل، وتقوى زيادة ماء النيل، فيقال: في أبيب يدب الماء دبيب، وفيه ينقع الكتان بالمبلات، ويباع برسيم البذر برسم زراعة القرط والكتان، وفيه تدرك ثمرة العنب، ويحصد القرطم، وفيه تستتم ثلاثة أرباع الخراج. مسرى: في سابعه يطلع الفجر بالطرف «4» ، وفي ثامنه أوّل آب، وفي حادي عشره يجمع القطن، وفي رابع عشره يحمي الماء، ولا يبرد، وفي سابع عشره استكمال الثمار، وفي عشريه يطلع الفجر بالجبهة «5» ، وفي حادي عشريه تحلّ الشمس برج السنبلة، وفي ثالث عشريه يتغير طعم الفاكهة لغلبة ماء النيل على الأرض، وفي خامس عشريه يكون آخر السموم، وفي تاسع عشريه يطلع سهيل «6» بمصر. وفي هذا الشهر يكون وفاء النيل ستة عشر ذراعا في غالب السنين، حتى قيل: إن لم يوف النيل في مسرى فانتظره في السنة الأخرى، وفيه يجري ماء النيل في خليج الإسكندرية، ويسافر فيه المراكب بالغلال والبهار والسكر، وسائر أصناف المتاجر، وفيه يكثر البسر، وكانوا يخرّصون النخل، ويخرجون زكاة الثمار في هذا الشهر عندما كانت الزكوات يجيبها السلطان من الرعية، وأكثر ما يهب في هذا الشهر ريح الشمال، وفيه يعصر قبط مصر الخمر، ويعمل الخل من العنب، وفيه يدرك الموز وأطيب ما يكون الموز بمصر في هذا الشهر، وفيه يدرك الليمون التفاحي، وكان من جملة أصناف الليمون بأرض مصر ليمون يقال له: التفاحيّ يؤكل بغير سكر لقلة حمضه، ولذة طعمه، وفيه يكون ابتداء إدراك الرّمان، وإذا انقضت أيام مسرى ابتدأت أيام النسيء ففي أوّلها ابتداء هيج النعام، وفي

ذكر تحويل السنة الخراجية القبطية إلى السنة الهلالية العربية

رابعها يطلع الفجر بالخراتان، وفي مسرى يغلق الفلاحون خراج أراضي زراعاتهم، وكانوا يؤخرون البقايا على دق الكتان في مسرى وأبيب، لأنّ الكتان يبلّ في توت، ويدق في بابه. ذكر تحويل السنة الخراجية القبطية إلى السنة الهلالية العربية وكيف عمل ذلك في الإسلام؟ قد تقدّم فيما سلف من هذا الكتاب التعريف بالسنة الشمسية، والسنة القمرية، وما للأمم في كبس السنين من الآراء، فما جاء الله تعالى بالإسلام تحرّز المسلمون من كبس السنين خشية الوقوع في النسيء الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة/ 37] ، ثم لما رأوا تداخل السنين القمرية في السنين الشمسية، أسقطوا عند رأس كل اثنتين وثلاثين سنة قمرية، وسموا ذلك الازدلاق لأنّ لكل ثلاث وثلاثين سنة قمرية، اثنتين وثلاثين سنة شمسية بالتقريب، وسأتلوا عليك من نبأ ذلك ما لم أره مجموعا. قال أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن أبي طاهر في كتاب أخبار أمير المؤمنين المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن أبي أحمد طلحة الموفق ابن المتوكل، ومنه نقلت، وخرج أمر المعتضد في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين، ومائتين بتصيير النوروز لإحدى عشرة ليلة خلت من حزيران رأفة بالرعية، وإيثارا لإرقاقها، وقالوا: خرج التوقيع في المحرّم سنة اثنتين وثمانين ومائتين بإنشاء الكتب إلى جميع العمال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النوروز الفارسيّ الذي يقع يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر، وأن يجعل ما يفتتح من خراج سنة اثنتين وثمانين ومائتين يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وهو اليوم الحادي عشر من حزيران، ويسمى هذا النوروز المعتضديّ ترفيها لأهل الخراج ونظرا لهم. ونسخة التوقيع الخارج في تصيير افتتاح الخراج في حزيران: أمّا بعد: فإنّ الله لما حوّل أمير المؤمنين للمحل الذي أحله به من أمور عباده وبلاده، رأى أن من حق الله عليه أن لا يكلفها إلا ما به بالعدل والإنصاف لها، والسيرة القاصدة، وأن يتولى لها إصلاح أمورها، ويستقرئ السير والمعاملات التي كانت تعامل بها، ويقرّ منها ما أوجب الحق إقراره، ويزيل ما أوجب إزالته غير مستكثر لها كثير ما يسقطه العدل، ولا مستقل لها قليل ما يلزمه إياها الجور، وقد وفق الله أمير المؤمنين لما يرجو أن يكون لحق الله فيها قاضيا ولنصيبها من العدل موازيا، وبالله يستعين أمير المؤمنين على حفظ ما استرعاه منها، وحياطة ما قلده من أمورها، وهو خير موفق ومعين، وإن أبا القاسم عبيد الله رفع إلى أمير المؤمنين، فيما أمر أمير المؤمنين من ردّ النوروز الذي يفتتح به الخراج بالعراق والمشرق، وما يتصل بهما، ويجري مجراهما من الوقت الذي صار فيه من الزمان إلى الوقت الذي كان عليه متقدّما مع

ما أمر به في مستقبل السنين من الكبس، حتى يصير العدل عامّا في الزمان كله باقيا على غابر الدهر، ومرّ الأيام مؤامرة أمير المؤمنين، فأمر بتسجيلها لك في آخر كتابه مع ما وقع به فيها لتمثيله، فافعل ذلك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وكتب يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين. نسخة المؤامرة أنهيت إلى أمير المؤمنين أن مما أنعم الله به على رعيته، ورزقها إياه من رأفته، وحسن نظره، وإقامته عليها من عدله، وإنصافه ورفعه عنها في خلافته من الظلم الشامل ما كان الأقصى والأدنى، والصغير والكبير، والمسلم والذميّ فيه سواء ما حرّرته من نقل كتب الخراج عن السنة التي كانت تنسب إليها من سني الهجرة إلى السنة التي فيها تدرك الغلات، ويستخرج المال، وإن ذلك ما كان بعض أهل الجهل حاوله، وبعض المتغلبين استعمله من تثبيت الخراج على أهله، ومطالبتهم به قبل وقت الزراعة، وإعيائهم بذكر سنة من السنتين اللتين ينسب الخراج لإحداهما، وتدرك الغلات، ويقع الاستخراج في الأخرى منهما في حساب شهور الفرس التي عليها يجري العمل في الخراج بالسواد، وما يليه، والأهواز وفارس والجبل، وما يتصل به من جميع نواحي المشرق، وما يضاف إليه إذا كان عمل الشأم والجزيرة والموصل، جرى على حساب شهور الروم الموافقة للأزمنة، فليست تختلف أوقاتها مع الكبيسة المستعملة فيها، والعمل في خراج مصر، وما والاها على شهور القبط الموافقة لشهور الروم، وكانت من شهور الفرس قد خالفت موافقها من الزمان بما ترك من الكبس منذ أزال الله ملك فارس، وفتح للمسلمين بلادهم، فصار النوروز الذي كان الخراج يفتتح فيه بالعراق والمشرق قد تقدّم في ترك الكبس شهرين وصارا بينه وبين إدراك الغلة، فأمر أمير المؤمنين بما جبل الله عليه رأيه في التوصل إلى كل ما عاد بصلاح رعيته. وحسما للأسباب المؤدّية إلى إعيائها بتأخير النوروز الذي يقع في شهور سنة اثنتين وثمانين ومائتين من سني الهجرة عن الوقت الذي يتفق فيه أيام سنة الفرس، وهو يوم الجمعة لإحدى عشر تخلو من صفر مثل عدّة أيام الشهرين من شهور الفرس التي ترك كبسها، وهي ستون يوما، حتى يكون نوروز السنة واقعا يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وهو الحادي عشر من حزيران، وهو يتصل بهما، ويجري مجراهما، وينسب ويضاف إليهما، وبسائر أعمالهم، وبما يعمله أصحاب الحساب من التقويمات وجميع الأعمال، وما يعدّه الفرس من شهورهم إلى شهوره الكبيسة الأول والأخر، ثم يكبس بعد ذلك في كل أربع سنين من سني الفرس، ولا يقع تفاوت بينه وبينها على مرور الأيام، وليكن أبدا واقعا في حزيران، وغير خارج عنه، وأن يلغي ذكر كل سنة من أربع سنين تنسب إلى الخراج بالعراق، وفي المشرق والمغرب، وسائر النواحي والآفاق إذ كان مقدار سني أيام الهجرة، والسنة الجامعة للأزمنة التي تتكامل فيها الغلات، وأن يخرج التوقيع بذلك لتنشأ الكتب به من ديوان الرسائل إلى ولاة المعاون والأحكام،

وتقرأ على المنابر، ويحمل أصحاب المعاون الرعية عليه، وتأخذها بامتثال ما أمر به أمير المؤمنين، وسنة الحكام في ديوان حكمهم لتمثيل الضمان والمقاطعين ذلك على حسبه، واستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك، فرأى أمير المؤمنين في ذلك موفق إن شاء الله تعالى، وتكتب نسخة التوقيع بتنفيذ ذلك إن شاء الله تعالى، وكتب في شهر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين. قال: وكان السبب في نقل الخراج إلى حزيران في أيام المعتضد ما حدّثني به أبو أحمد يحيى بن عليّ بن يحيى المنجم القديم قال: كنت أحدّث أمير المؤمنين المعتضد، فذكرت خبر المتوكل في تأخير النوروز، فاستحسنه، وقال لي: كيف كان ذلك؟ قلت: حدّثني أبي قال: دخل المتوكل قبل تأخير النوروز بعض بساتينه الخاصة التي كانت في يدي وهو متوكئ عليّ يحادثني، وينظر إلى ما أحدث في ذلك البستان، فمرّ بزرع فرآه أخضر، فقال: يا عليّ، إنّ الزرع اخضرّ بعد ما أدرك، وقد استأمرني عبيد الله بن يحيى في استفتاح الخراج، فكيف كانت الفرس تستفتح الخراج في النوروز والزرع لم يدرك بعد؟ قال: فقلت له: ليس يجري الأمر اليوم على ما كان يجري عليه في أيام الفرس، ولا النوروز في هذه الأيام في وقته الذي كان في أيامها، قال: وكيف ذاك؟ فقلت: لأنها كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا. وكان النوروز إذا تقدّم شهرا، وصار في خمس من حزيران كبست ذلك الشهر، فصار في خمس من أيار، وأسقطت شهرا، وردته إلى خمس من حزيران، فكان لا يتجاوز هذا، فلما تقلّد العراق خالد بن عبد الله القسري، وحضر الوقت الذي تكبس فيه الفرس منعها من ذلك، وقال: هذا من النسيء الذي نهى الله عنه، فقال: إنما النسيء زيادة في الكفر وأنا لا أطلقه حتى أستأمر فيه أمير المؤمنين، فبذلوا على ذلك مالا جليلا، فامتنع عليهم من قبوله. وكتب إلى هشام بن عبد الملك يعرّفه ذلك، ويستأمره، ويعلمه أنه من النسيء الذي نهى الله عنه، فأمر بمنعهم من ذلك، فلما امتنعوا من الكبس تقدّم النوروز تقدّما شديدا حتى صار يقع في نيسان والزرع أخضر، فقال له المتوكل: فاعمل لهذا يا عليّ عملا تردّ النوروز فيه إلى وقته الذي كان يقع فيه أيام الفرس، وعرّف بذلك عبيد الله بن يحيى، وأدّ إليه رسالة مني في أن يجعل استفتاح الخراج فيه، قال: فصرت إلى أبي الحسن عبيد الله بن يحيى، وعرّفته ما جرى بيني وبين المتوكل، وأدّيت إليه رسالته، فقال لي: يا أبا الحسن قد والله فرّجت عني، وعن الناس، وعملت عملا كثيرا يعظم ثوابك عليه، وكسبت لأمير المؤمنين أجرا وشكرا، فأحسن الله جزاءك، فمثلك من يجالس الخلفاء، وأحب أن يتقدّم بالعمل الذي أمر به المتوكل، وينفذه إليّ حتى أجري الأمر عليه، وأتقدّم في كتب الكتب، باستفتاح الخراج، قال: فرجعت، وحرّرت الحساب، فوجدت النوروز لم يكن يتقدّم في

أيام الفرس أكثر من شهر يتقدّم من خمس تخلو من حزيران، فيصير في خمسه أيام تخلو أيار، فتكبس سنتها، وتردّه إلى خمسة أيام من حزيران، وأنفذته إلى عبيد الله بن يحيى، فأمر أن يستفتح الخراج في خمس من حزيران، وتقدّم إلى إبراهيم بن العباس في أن ينشئ كتابا عن أمير المؤمنين في ذلك ينفذ نسخته إلى النواحي، فعمل إبراهيم بن العباس كتابه المشهور في أيدي الناس. قال أبو أحمد: فقال لي المعتضد: يا يحيى، هذا والله فعل حسن، وينبغي أن يعمل به، فقلت: ما أحد أولى بفعل الحسن، وإحياء السنن الشريفة من سيدنا، ومولانا أمير المؤمنين لما جمعه الله فيه من المحاسن، ووهبه له من الفضائل، فدعا بعبيد الله بن سليمان، وقال له: اسمع من يحيى ما يخبرك به، وامض الأمر في استفتاح الخراج عليه، قال: فصرت مع عبيد الله بن سليمان إلى الديوان، وعرّفته الخبر، فأحب تأخيره عن ذلك لئلا يجري الأمر المجرى الأوّل بعينه، فجعله في أحد عشر من حزيران، واستأمر المعتضد في ذلك فأمضاه فقلت في ذلك شعرا أنشدته للمعتضد في هذا المعنى: يوم نوروزك يوم ... واحد لا يتأخر من حزيران يوافي ... أبدا في أحد عشر قال: وأخبرني بعض مشايخ الكتاب قال: وكانت الخلفاء تؤخر النوروز عن وقته عشرين يوما، وأقل وأكثر ليكون ذلك سببا لتأخير افتتاح الخراج على أهله. وأمّا المهرجان فلم تكن تؤخره عن وقته يوما واحدا، فكان أوّل من قدّمه عن وقته بيوم المعتمد بمدينة السلام في سنة خمس وستين ومائتين، وأمر المعتضد بتأخير النوروز عن وقته ستين يوما. وقال أبو الريحان محمد بن أحمد البيرونيّ في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية: ومنه نقلت ما ذكر ابن أبي طاهر وزاد، ونفذت الكتب إلى الآفاق يعني عن المتوكل في محرّم سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وقتل المتوكل، ولم يتم له ما دبر، واستمرّ الأمر حتى قام المعتضد، فاحتذى ما فعله المتوكل في تخير النوروز غير أنه نظر فإذا المتوكل أخذ ما بين سنته، وبين أوّل تاريخ يزدجرد، فأخذ المعتضد ما بين سنته، وبين السنة التي زال فيها ملك الفرس بهلاك يزدجرد، ظنا أن إهمالهم أمر الكبس من ذلك الوقت، فوجده مائتي سنة، وثلاثا وأربعين سنة، حصتها من الأرباع ستون يوما وكسر، فزاد ذلك على النوروز في سنة، وجعله منتهى تلك الأيام، وهو من خردادماه في تلك السنة، وكان يوم الأربعاء، ويوافقه اليوم الحادي عشر من حزيران، ثم وضع النوروز على شهور الروم لتكبس شهوره إذا كبست الروم شهورها. وقال القاضي السعيد ثقة الثقات ذو الرياستين أبو الحسن عليّ بن القاضي المؤتمن

ثقة الدولة أبي عمرو عثمان بن يوسف المخزومي في كتاب المنهاج في علم الخراج: والسنة الخراجية مركبة على حكم السنة الشمسية لأنّ السنة الشمسية ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، ورتب المصريون سنتهم على ذلك ليكون أدار الخراج عند إدراك الغلات من كل سنة، ووافقها السنة القبطية، لأنّ أيام شهورها ثلثمائة وستون يوما، ويتبعها خمسة أيام النسيء وربع يوم بعد تقضي مسرى، وفي كل أربع سنين تكون أيام النسيء ستة أيام، لينجبر الكسر. ويسمون تلك السنة كبيسة، وفي كل ثلاث وثلاثين سنة تسقط سنة، فيحتاج إلى نقلها لأجل الفصل بين السنين الشمسية والسنين الهلالية، لأنّ السنة الشمسية ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، والسنة الهلالية ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما وكسر، ولما كان كذلك احتيج إلى استعمال النقل الذي تطابق به إحدى السنتين الأخرى، وقد قال أبو الحسن عليّ بن الحسن الكاتب رحمه الله: عهدت جباية أموال الخراج في سنين قبل سنة إحدى وأربعين ومائتين من خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه، تجري كل سنة في السنة التي بعدها، بسبب تأخير الشهور الشمسية عن الشهور القمرية في كل سنة أحد عشر يوما وربع يوم، وزيادة الكسر عليه، فلما دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين، كان قد انقضى من السنين التي قبلها ثلاث وثلاثون سنة، أوّلهنّ سنة ثمان ومائتين من خلافة أمير المؤمنين المأمون رحمة الله عليه، واجتمع من هذا المتأخر فيها أيام سنة شمسية كاملة، وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، وزيادة الكسر، وبها إدراك غلات، وثمار سنة إحدى وأربعين ومائتين في صفر سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وأمر أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه، بإلغاء ذكر سنة إحدى وأربعين ومائتين، إذ كانت قد انقضت، وينسب الخراج إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين، فجرت الأعمال على ذلك سنة بعد سنة، إلى أن انقضت ثلاث وثلاثون سنة آخرهنّ انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين، فلم ينبه كتاب أمير المؤمنين المعتمد على الله رحمة الله عليه على ذلك، إذ كان رؤساؤهم في ذلك الوقت إسماعيل بن بلبل وبني الفرات، ولم يكونوا عملوا في ديوان الخراج والضياع في خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه ولا كانت أسنانهم أسنانا بلغت معرفتهم معها هذا النقل، بل كان مولد أحمد بن محمد بن الفرات قبل هذه السنة بخمس سنين، ومولد عليّ أخيه فيها، وكان إسماعيل بن بلبل يتعلم في مجلس لم يبلغ أن ينسخ، فلما تقلدت لناصر الدين أبي أحمد طلحة الموفق رحمه الله أعمال الضياع بقزوين «1» ونواحيها، لسنة ست وسبعين ومائتين، وكان مقيما بأذربيجان «2» ، وخليفته بالجبل جرادة بن محمد،

وأحمد بن محمد كاتبه، واحتجت إلى رفع جماعتي إليه ترجمتها بجماعة سنة ست وسبعين ومائتين التي أدركت غلاتها وثمارها في سنة سبع وسبعين ومائتين، ووجب إلغاء ذكر سنة ست وسبعين ومائتين، فلما وقفا على هذه الترجمة أنكراها، وسألاني عن السبب فيها، فشرحت لهما، وأكدت ذلك بأن عرّفتهما إني قد استخرجت حساب السنين الشمسية، والسنين القمرية من القرآن الكريم بعد ما عرضته على أصحاب التفسير، فذكروا أنه لم يأت فيه شيء من الأثر، فكان ذلك أوكد في لطف استخراجي، وهو أنّ الله تعالى قال في سورة الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف/ 25] فلم أجد أحدا من المفسرين عرف معنى قوله: وازدادوا تسعا، وإنما خاطب الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بكلام العرب، وما تعرفه من الحساب، فمعنى هذه التسع أنّ الثلاثمائة كانت شمسية بحساب العجم، ومن كان لا يعرف السنين القمرية، فإذا أضيف إلى الثلاثمائة القمرية زيادة التسع، كانت سنين شمسية صحيحة، فاستحسناه، فلما انصرف جرادة مع الناصر لدين الله إلى مدينة السلام، وتوفي الناصر رحمه الله، وتقلد القاسم عبيد الله بن سليمان كتابة أمير المؤمنين المعتضد بالله أجرى له جرادة ذكر هذا النقل، وشرح له سببه تقرّبا إليه وطعنا على أبي القاسم عبيد الله في تأخيره إياه، فلما وقف المعتضد على ذلك تقدّم إلى أبي القاسم بإنشاء الكتب بنقل سنة ثمان وسبعين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين، وكان هذا النقل بعد أربع سنين من وجوبه، ثم مضت السنون سنة بعد سنة إلى أن انقضت الآن ثلاث وثلاثون سنة، أولاهنّ السنة التي كان النقل وجب فيها، وهي سنة خمس وسبعين ومائتين، وآخرتهنّ انقضاء سنة سبع وثلثمائة، وقد تهيأ إدراك الغلات، والثمار في صدر سنة ثمان وثلثمائة، ونسبته إليها، وقد عملت نسخة هذا النقل نسختها تحت هذا الموضع ليوقف عليها، وقد كان أصحاب الدواوين في أيام المتوكل لما نقل سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين جبوا الجوالي والصدقات لسنتي إحدى واثنتين وأربعين ومائتين في وقت واحد، لأنّ الجوالي بسرّمن رأى «1» ، ومدينة السلام «2» ، وقصب المدن المشهورة كانت تجبي على شهور الأهلة، وما كان من جماجم أهل القرى في الخراج والضياع والصدقات والمستغلات، كان يجبى على شهور الشمس، وفي ثلاث وثلاثين سنة اجتمعت أيام سنة شمسية كاملة، فألزم أهل الذمّة خاصة بالجوالي، ورفعها العمال في حساباتهم فمن لم يرفعها ألزموه بجوالي السنة الزائدة، فأحفظ أنه اجتمع من ذلك ألوف دراهم، ثم جدّدت الكتب إلى العمال بأن تكون حساباتهم الجوالي على شهور الأهلة،

فجرى الأمر على ذلك، قال القاضي أبو الحسن: وقد كان النقل أغفل في الديار المصرية، حتى كانت سنة تسع وتسعين وأربعمائة الهلالية تجري مع سنة سبع وتسعين الخراجية، فنقلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة، هكذا رأيت في تعليقات أبي رحمه الله، وآخر ما نقلت السنة في وقتنا هذا سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة الهلالية، فتطابقت السنتان، وذلك أنني لما قلت للقاضي الفاضل أبي عليّ عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ: أنه قد آن نقل السنة، فأنشأ سجلا بنقلها نسخ الدواوين، وحمل الأمر على حكمه، وما برح الملوك والوزراء يعتنون بنقل السنين في أحيانها. وقال أبو الحسين هلال بن المحسن الصابي: حدّثني أبو عليّ قال: لما أراد الوزير أبو محمد المهلبيّ «1» نقل سنة خمس وثلثمائة الهلالية أمر أبا إسحاق والدي وغيره من كتابة في الخراج، والرسائل بإنشاء كتاب عن المطيع لله في هذا المعنى، فكتب كل منهم، وكتب والدي الكتاب الموجود في رسائله، وعرضت النسخ على الوزير، فاختاره منها، وتقدّم بأن يكتب إلى أصحاب الأطراف، وقال لأبي الفرج بن أبي هشام خليفته: اكتب إلى العمال بذلك كتبا محققه، وانسخ في أواخرها هذا الكتاب السلطانيّ، فغاظ أبا الفرج وقوع التفضيل والاختيار لكتاب والدي، وقد كان عمل نسخة اطرحت في جملة ما اطرح وكتب، قد رأينا نقل سنة خمسين إلى إحدى وخمسين، فاعمل على ذلك، ولم ينسخ الكتاب السلطانيّ، وعرف الوزير ما كتب به أبو الفرج، فقال له: لماذا أغفلت نسخ الكتاب السلطانيّ في آخر الكتب إلى العمال، وإثباته في الديوان، فأجاب جوابا علك فيه، فقال له: يا أبا الفرج ما تركت ذلك إلّا حسدا لأبي إسحاق، وهو والله في هذا الفنّ أكتب أهل زمانه، فأعد الآن الكتب، وانسخ الكتاب في أواخرها، قال القاضي أبو الحسن: وأنا أذكر بمشيئة الله نسخة الكتاب الذي أشار إليه أبو الحسن عليّ بن الحسن الكاتب، وكتاب أبي إسحاق، وكتاب القاضي الفاضل، ليستبين للناظر طريق نقل السنين الخراجية إلى السنين الهلالية، فإذا قاربت الموافقة، وحسنت فيها المطابقة، فالكتاب الفاضليّ أكثر نجازا، وأعظم إعجازا، ولا يخفى على المتأمّل قدر ما أورد فيه من البلاغة، كما لا يخفى على العارف قدر ما تضمنه كتاب الصابي من الصناعة. نسخة الكتاب الذي أشار إليه أبو الحسن الكاتب: إنّ أولى ما صرف إليه أمير المؤمنين عنايته، وأعمل فيه فكره ورويته، وشغل فيه تفقده، ورعايته أمر الفيء الذي خصه الله به، وألزمه جمعه، وتوفيره وحياطته، وتكثيره وجعله عماد الدين، وقوام أمر المسلمين،

وفيما يصرف منه إلى أعطيات الأولياء والجنود، ومن يستعان به لتحصين البيضة، والذب عن الحريم، وحج البيت، وجهاد العدوّ، وسدّ الثغور، وأمن السبيل، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البيت، وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى، راغبا إليه ومتوكلا عليه أن يحسن عونه على ما حمله منه، ويديم توفيقه بما أرضاه، وإرشاده إلى أن يقضي عنه وله، وقد نظر أمير المؤمنين فيما كان يجري عليه أمر جباية هذا الفيء في خلافة آبائه الراشدين صلوات الله عليهم، فوجده على حسب ما كان يدرك من الغلات والثمار من كل سنة أوّلا أوّلا على مجاري شهور سني الشمس في النجوم التي يحل مال كل صنف منها فيها، ووجد شهور السنة الشمسية تتأخر عن شهور السنة الهلالية أحد عشر يوما وربعا، وزيادة عليه، ويكون إدراك الغلات والثمار في كل سنة بحسب تأخرها، فلا تزال السنون تمضي على ذلك سنة بعد سنة حتى تنقضي منها ثلاث وثلاثون سنة، وتكون عدّة الأيام المتأخرة منها أيام سنة شمسية كاملة، وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وزيادة عليه. فحينئذ يتهيأ بمشيئة الله تعالى وقدرته إدراك الغلات التي تجري عليها الضرائب، والطسوق «1» في استقبال المحرّم من سني الأهلة، ويجب مع ذلك إلغاء السنة الخارجة إذا كانت قد انقضت، ونسبتها إلى السنة التي أدركت الغلات والثمار فيها، لأنه وجد ذلك قد كان وقع في أيام أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمة الله عليه عند انقضاء ثلاث وثلاثين سنة آخرتهنّ سنة إحدى وأربعين ومائتين، فجرت المكاتبات والحسبانات، وسائر الأعمال بعد ذلك سنة بعد سنة إلى أن مضت ثلاث وثلاثون سنة آخرتهنّ انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين، ووجب إنشاء الكتب بإلغاء ذكر سنة أربع وسبعين ومائتين، ونسبتها إلى سنة خمس وسبعين ومائتين، فذهب ذلك على كتاب أمير المؤمنين المعتمد على الله، وتأخر الأمر أربع سنين إلى أن أمر أمير المؤمنين المعتضد بالله رحمة الله عليه في سنة سبع وسبعين ومائتين بنقل خراج سنة ثمان وسبعين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين. فجرى الأمر على ذلك إلى أن انقضت في هذا الوقت ثلاث وثلاثون سنة: أولاهنّ السنة التي كان يجب نقلها فيها، وهي سنة خمس وسبعين ومائتين، وآخرتهنّ انقضاء شهور خراج سنة سبع وثلثمائة، ووجب افتتاح خراج ما يجري على الضرائب والطسوق في أوّلها، وإن من صواب التدبير واستقامة الأعمال، واستعمال ما يخف على الرعية معاملتها به، نقل سنة الخراج سنة سبع وثلثمائة إلى سنة ثمان وثلثمائة، فرأى أمير المؤمنين لما يلزمه نفسه، ويؤاخذها به من العناية بهذا الفيء، وحياطة أسبابه، وإجرائها مجاريها، وسلوك سبيل آبائه الراشدين رحمة الله عليهم أجمعين فيها، أن يكتب إليك، وإلى سائر العمال في النواحي

بالعمل على ذلك، وأن يكون ما يصدر إليكم من الكتب، وتصدرونه منكم، وتجري عليه أعمالكم ورفوعكم وحسباناتكم، وسائر مناظراتكم على هذا النقل، فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين، واعمل به مستشعرا فيه، وفي كل مضنة تقوى الله، وطاعته ومستعملا عليه ثقات الأعوان وكفاتهم، ومشرفا عليهم، ومقوّما لهم، واكتب بما يكون منك في ذلك إن شاء الله تعالى. نسخة أبي إسحاق الصابي: أما بعد: فإنّ أمير المؤمنين لا زال مجتهدا في مصالح المسلمين، وباعثا لهم على مراشد الدنيا والدين، ومهيأ لهم أحسن الاختيار فيما يوردون ويصدرون، وأصوب الرأي فيما يبرمون وينقضون، فلا يلوح له خلة داخلة على أمورهم إلّا سدّها، وتلافاها ولا حال عائدة بحظ عليهم إلا اعتمدها، وأتاها، ولا سنة عادلة إلا أخذهم بإقامة رسمها، وإمضاء حكمها، والاقتداء بالسلف الصالح في العمل بها، والإتباع لها، وإذا عرض من ذلك ما تعلمه الخاصة بوفور ألبابها، وتجهله العامّة بقصور أفهامها، وكانت أوامره فيه خارجة إليك، وإلى أمثالك من أعيان رجاله، وأماثل عماله الذين يكتفون بالإشارة، ويجتزون بيسير الإبانة والعبارة لم يدع أن يبلغ من تخليص اللفظ، وإيضاح المعنى إلى الحدّ الذي يلحق المتأخر بالمتقدّم، ويجمع بين العالم والمتعلم، ولا سيما إذا كان ذلك فيما يتعلق بمعاملات الرعية، ومن لا يعرف إلّا الظواهر الجلية دون البواطن الخفية، ولا يسهل عليه الانتقال عن العادات المتكرّرة إلى الرسوم المتغيرة ليكون القول بالمشروح لمن برز في المعرفة مذكرا، ولمن تأخر فيها مبصرا، ولأنه ليس من الحق أن تمنع هذه الطبقة من برد اليقين في صدورها، ولا أن يقتصر على اللمحة الدالة في مخاطبة جمهورها، حتى إذا استوت الأقدام بطوائف الناس في فهم ما أمروا به وفقه ما دعوا إليه، وصاروا على حكمه سواء لا يعترضهم شك الشاكين، ولا استرابة المستريبين، اطمأنت قلوبهم، وانشرحت صدورهم، وسقط الخلاف بينهم، واستمرّ الاتفاق بهم، واستيقنوا أنهم مؤسسون على استقامة من المنهاج، ومحروسون من حزائز الزيغ والاعوجاج، فكان الانقياد منهم، وهم دارون عالمون لا مقلدون مسلمون، وطائعون مختارون لا مكرهون، ولا مجبرون. وأمير المؤمنين يستمدّ الله تعالى في جميع أغراضه، ومراميه ومطالبه، ومغازيه مادّة من صنعه يقف بها على سنن الصلاح، ويفتح له أبواب النجاح، وينهضه بما أهّله لحمله من الأعباء التي لا يدّعي الاستقلال بها إلا بتوفيقه، ومعونته، ولا يتوجه فيها إلّا بدلالته وهدايته، وحسب أمير المؤمنين الله، ونعم الوكيل يرى أنّ أولى الأقوال أن يكون سدادا، وأحرى الأفعال أن يكون رشادا ما وجد له في السابق من حكم الله أصول وقواعد، وفي النص من كتابه آيات وشواهد، وكان منصبا بالأمّة إلى قوام من دين أو دنيا، ووفاق في آخره أو أولى، فذلك هو البناء الذي يثبت، ويعلو، والغرس الذي ينبت ويزكو، والسعي الذي

تنجح مباديه وهواديه، وتبهج عواقبه وتواليه، وتستنير سبله لسالكيها، وتوردهم موارد السعود في مقاصدهم فيها غير ضالين ولا عادلين، ولا منحرفين ولا زائلين، وقد جعل الله عز وجل لعباده من هذه الأفلاك الدائرة، والنجوم السائرة، فيما تنقلب عليه من اتصال وافتراق ويتعاقب عليها من اختلاف، واتفاق منافع تظهر في كرور الشهور والأعوام، ومرور الليالي والأيام، وتفاوت الضياء والظلام، واعتدال المسالك والأوطان، وتغاير الفصول والأزمان، ونشو النبات والحيوان، مما ليس في نظام ذلك خلل، ولا في صنعه زلل بل هو منوط بعضه ببعض، ومحوط من كل تلمة ونقض. قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ [يونس/ 5] ، وقال جلّ من قائل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الرعد/ 2] ، وقال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس/ 38] ، وقال عزت قدرته: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس/ 39] ، ففضل الله تعالى بهذه الآيات بين الشمس والقمر، وأنبأنا في الباهر من حكمه، والمعجز من كلامه أن لكل منهما طريقا سخر فيها، وطبيعة جبل عليها وأن تلك المباينة والمخالفة في المسير يؤدّيان إلى موافقة، وملازمة في التدبير، فمن هنا لك زادت السنة الشمسية. فصارت ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربعا بالتقريب المعمول عليه، وهي المدّة التي تقطع الشمس فيها الفلك مرّة واحدة، ونقصت الهلالية، فصارت ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما، وهي المدّة التي يجامع القمر فيها الشمس اثنتي عشرة مرّة، واحتيج إذا انساق هذا الفضل إلى استعمال النقل الذي يطابق إحدى السنتين بالأخرى إذا افترقنا، ويداني بينهما إذا تفاوتتا، وما زالت الأمم السالفة تكبس زيادات السنين على افتنان من طرقها ومذاهبها، وفي كتاب الله عز وجل شهادة بذلك إذ يقول في قصة أهل الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف/ 25] ، فكانت هذه الزيادة بأنّ الفضل في السنين المذكورة على تقريب التقريب. فأما الفرس: فإنهم أجروا معاملاتهم على السنة المعتدلة التي شهورها اثنا عشر شهرا، وأيامها ثلثمائة وستون يوما، ولقبوا الشهور باثني عشر لقبا، وسموا أيام الشهر منها بثلاثين اسما، وأفردوا الخمسة الأيام الزائدة، وسموها المسترقة، وكبسوا الربع في كل مائة وعشرين سنة شهرا، فلما انقرض ملكهم بطل في كبس هذا الربع تدبيرهم، وزال نوروزهم عن سنته، وانفرج ما بينه، وبين حقيقة وقته انفراجا هو زائد لا يقف، ودائر لا ينقطع، حتى إن موضوعهم في النوروز أن يقع في مدخل الصيف، وسينتهي إلى أن يقع في مدخل الشتاء

ويتجاوز ذلك، وموضوعهم في المهرجان أن يقع في مدخل الشتاء، وينتهي إلى أن يقع في مدخل الصيف، ويتجاوز. وأما الروم: فكانوا أتقن منهم حكمة، وأبعد نظرا في العاقبة لأنهم رتبوا شهور السنة على أرصاد شهروها، وأنواء عرفوها، وفضوا الخمسة الأيام على الشهور، وساقوها على الدهور، وكبسوا الربع في كل أربع سنين يوما، ورسموا أن يكون إلى شباط مضافا، فقرّبوها ما بعّده غيرهم، وسهّلوا على الناس أن يقتفوا أثرهم، لا جرم أن المعتضد بالله رحمه الله على أصولهم بنى، ولمثالهم احتذى في تصييره نوروزه اليوم الحادي عشر من حزيران، حتى سلم مما لحق النواريز في سالف الأزمان، وتلافوا الأمر في عجز سني الهلال عن سني الشمس بأن جبروها بالكبس، فكلما اجتمع من فصول سني الشمس، وما بقي تمام شهر جعلوا السنة الهلالية، يتفق ذلك فيها ثلاثة عشر هلالا، فربما تمّ الشهر الثالث عشر في ثلاث سنين، وربما تمّ في سنتين بحسب ما يوجبه الحساب، فتصير سنتا الشمس والهلال عندهم متقاربتين أبدا لا يتباعد ما بينهما. وأمّا العرب: فإنّ الله تعالى فضّلها على الأمم الماضية، وورثها ثمرات مشاقها المتعبة، وأجرى شهر صيامها، ومواقيت أعيادها، وزكاة أهل ملتها، وجزية أهل ذمّتها على السنة الهلالية، وتعبدها فيها برؤية الأهلة إرادة منه أن تكون مناهجها واضحة، وأعلامها لائحة، فيتكافأ في معرفة الغرض، ودخول الوقت الخاص منها والعام، والناقص الفقه والتام، والأنثى والذكر، والصغير والكبير والأكبر، فصاروا حينئذ يحسبون في سنة الشمس حاصل الغلات المقسومة، وخراج الأرض الممسوحة، ويجبون في سنة الهلال الجوالي، والصدقات والأرجاء، والمقاطعات والمستغلات، وسائر ما يجري على المشاهرات، وحدث من التداخل بين السنين ما لو استمرّ لقبح جدا، وازداد بعدا إذ كانت الجباية الخراجية في السنة التي ينتهي إليها تنسب إلى الشمسية، وإلى ما قبلها، فوجب مع هذا أن تطرح تلك السنة، وتلغي ويتجاوز إلى ما بعدها، ويتخطى، ولم يجز لهم أن يعتدّوا لمخالفتهم في كبس السنة الهلالية بشهر ثالث عشر، ولأنهم لو فعلوا ذلك لزحزحت الأشهر الحرم عن موافقها، وارتجت المناسك عن حقائقها، ونقصت الجباية في سني الأهلة القبطية بقسط ما استغرقه الكبس منها، فانتظروا بذلك الفضل إلى أن تتم السنة، وأوجب الحساب المقرّب أن يكون كل اثنتين وثلاثين سنة شمسية ثلاثا وثلاثين هلالية، فنقلوا المتقدّمة إلى المتأخرة نقلا لا يتجاوز الشمسية. وكانت هذه الكلفة في دنياهم مستسهلة مع تلك النعمة في دينهم، وقد رأى أمير المؤمنين نقل سنة خمسين وثلثمائة الخراجية إلى سنة إحدى وخمسين وثلثمائة الهلالية جمعا بينهما، ولزوما لتلك السنة فيهما، فاعمل بما ورد به أمر أمير المؤمنين عليك،

وتضمنه كتابه هذا إليك، ومر الكتاب قبلك أن يحتذوا رسمه فيما يكتبون به إلى عمال نواحيك، ويخلدونه في الدواوين من ذكورهم ورفوعهم، ويعدونه من خروج الأموال وينظمونه في الدواوين والأعمال، ويثبتون عليه الجماعات والحسبانات، ويوغرون بكتبه من الروزنامجات، والبراءات وليكن المنسوب من ذلك إلى سنة خمسين وثلثمائة التي وقع النقل إليها، وأقم في نفوس من بحضرتك من أصناف الجند والرعية، وأهل الملة والذمة أن هذا النقل لا يغير لهم رسما، ولا يلحق بهم ثلما، ولا يعود على قابضي العطاء بنقصان ما استحقوا قبضه، ولا على مؤدّي حق بيت المال بإغضاء عما وجب أداؤه، فإنّ قرائح أكثرهم فقيرة إلى إفهام أمير المؤمنين الذي آثر أن تزاح فيه العلة، ويسدّ بهم سهم الخلة إذ كان هذا الشأن لا يتجدّد إلا في المدد الطوال التي في مثلها يحتاج إلى تعريف الناسي، وأجب بما يكون منك جوابا يحسن موقعه لك إن شاء الله تعالى. وقال ابن المأمون في تاريخه: من حوادث سنة إحدى وخمسمائة، وأوّل ما تحدّث فيه نقل السنة الشمسية إلى العربية، وكان قد حصل بينهما تفاوت أربع سنين، فتحدّث القائد أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ «1» مع الأفضل بن أمير الجيوش في ذلك، فأجاب إليه، وخرج أمره إلى الشيخ أبي القاسم بن الصيرفيّ بإنشاء سجل به. فأنشأ ما نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي ارتضى أمير المؤمنين أمينه في أرضه وخليفته، وألهمه أن يعمّ بحسن التدبير عبيده وخليقته، ووفقه لمصالح يستمدّ أسبابها، ويفتح بحسن نظره أبوابها، وأورثه مقام آبائه الراشدين الذين اختصهم بشرف المفخر، وجعل اعتقاد موالاتهم سبب النجاة في المحشر، وعناهم بقوله: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وأعلى منار سلطانه بمدبر أفلاكك دولته، ومبيد أعداء مملكته، وأشرف من نصب للجند علما وراية، ووقف على مصلحة البرية نظره ورأيه، وأرشد بهداتيه الألباب الحائرة، وأذهب بمعدلته الأحكام الجائرة السيد الأجل الأفضل، ونتمم النعوت بالدعاء للذي كمل تدبيره نظام الصلاح وتممه، وسدّد تقريره الأمور في كل ما قصده ويممه، ونبّه في السياسة على ما أهمله من سبقه، وأغفله من تقدّمه، وتتبع أحوال المملكة، فلم يدع مشكلا إلا أوضحه وبين الواجب فيه، ولا خللا إلا أصلحه، وبادر بتلافيه، ولا مهملا إلا استعمله على ما يوافق الصواب، ولا ينافيه إيثارا لعمارة الأعمال، وقصدا لما يقضي بتوفير الأموال. وتوخيا لما عاد بضروب الاستغلال، واعتناء برجال الدولة العلوية وأجنادها، واهتماما

بمصالحهم التي ضعفت قواهم عن ارتيادها، ورعاية لمن ضمنه أقطار المملكة من الرعايا، وحملا لهم على أعدل السنن، وأفضل القضايا يحمده أمير المؤمنين على ما أعانه عليه من حسن النظر للأمّة، وادّخره لأيامه من الفضائل التي صفت بها ملابس النعمة، ووفقه لما يعود على الكافة بشمول الانتفاع، حتى صار استبدال الحقوق بواجبات الشريعة الواضحة الأدلة واستيفاؤها بمقتضى المعدلة، فيما يجري على أحكام الخراج، وأوضاع الأهلة، ويرغب إليه بالصلاة على محمد الذي ميزه بالحكمة، وفصل الخطاب، وبين به ما استيهم من سبل الصواب، وأنزل عليه في محكم الكتاب: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس/ 5] صلى الله عليه، وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كافيه فيما أعضل لمّا عدم المساعد، وواقيه بنفسه لما تخاذل الكف والساعد، وعلى الأئمة من ذريتهما العاملين برضى الله تعالى فيما يقولون ويفعلون، والذين يهددون بالحق، وبه يعدلون، وإنّ أولى ما أولاه أمير المؤمنين حظا وافيا من تفقده، وأسهم له جزءا وافرا من كريم تعهده، ونظر إليه بعين اهتمامه، واختصه بالقسم الأجزل من استمالة أمر الأموال التي يستعان بها على سدّ الخلل، وبرجائها يستدفع ما يطرق من الحادث الجلل، وبوفورها تستثبت شؤون المملكة، وتستقيم أحوال الدول، وباستخراجها على حكم العدل الشامل، ووصية إنصاف المعامل تكون العمارة التي هي أصل زيادتها، ومادة كثرتها وغزارتها. ولما كانت جباياتها على حكمين: أحدهما: يجيء هلاليا، وذلك ما لا يدخله عارض ولا إشكال، ولا إبهام، ولا يحتاج فيه إلى إيضاح ولا إفهام، لأن شهور الهلال يشترك في معرفتها الأمير والمقصر، ويستوي في الفهم بها المتقدّم في العلم والمتأخر، إذ كان الناس آلفين لأزمنة متعبداتهم السنين مما يحفظ لهم نظام مرسوم، والآخر يجيء خراجيا ويثبت بنسبته إلى الخراج لأنها تضبط أوقات ما يجري ذلك لأجله من النيل المبارك، والزراعة وتحفظ أحيانه دون السنة الهلالية، وتحرس أوضاعه، ولا يستقل بمعرفته إلا من باشره، وعرف موارده ومصادره، فوجب أن يقصر على السنة الخراجية النظر، ويفعل فيها ما تعظم به الفائدة، ويحسن فيه الأثر ويعتمد في إيضاح أمرها، وتقديم حكمها على ما تتحلى به التواريخ، وتزين به السير، ويكون ذلك شاهدا لمساعي السيد الأجل الأفضل الذي لا يزال ساهرا ليله في حياطه الهاجعين شاهرا لسيفه في حماية الوادعين مطلعا للدولة بدور السعادة، وشموسها مذللا صعب الحوادث، وشموسها ناطقة تارة بأن أمّة هو راعيها قد فضل الله سائسها، وأسعد مسوسها، وهذا حين التبصير والإرشاد، وأوان التبيين للغرض والمراد، لتتساوى العامّة والخاصة في علمه وتسعهم الفائدة في معرفة حكمه، وتتحقق المنفعة لهم فيما يمنع من تداخل السنين واستقبالها، وتتيقن المعدلة عليهم فيما يؤمن من المضار التي يحتاج إلى استدراكها.

ومعلوم أنّ أيام السنة الخراجية، وهي السنة الشمسية بخلاف السنة الهلالية لأن أيام السنة الخراجية من استقبال النوروز إلى آخر النسيء ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، وأيام السنة الهلالية لاستقبال المحرّم إلى آخر ذي الحجة ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما، والخلاف في كل سنة بالتقريب أحد عشر يوما، وفي كل ثلاث وثلاثين سنة سنة واحدة على حكم التقريب ويتقضيه ما تقدّم من الترتيب، فإذا اتفق أن يكون أوّل الهلالية موافقا لمدخل السنة الخراجية، وكانت نسبتهما واحدة استمرّ اتفاق التسمية فيهما، وبقي ذلك جاريا عليهما، ولم يزالا متداخلين لكون مدخل الخراجية في أثناء شهور الهلالية إلى انقضاء ثلاث وثلاثين سنة، فإذا انقضت هذه المدّة بطلت المداخلة، وخلت السنة الهلالية من نوروز يكون فيها، وبحكم ذلك بطل اتفاق التسمية، ويكون التفاوت سنة واحدة للعلّة المقدّم ذكرها، ومن أين يستمرّ بينهما ائتلاف، أو يعدم لهما اختلاف، أم كيف يعتقد ذلك أحد من البشر. والله تعالى يقول: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ [يس/ 40] فقد وضح دليل التباعد بما جاء منصوصا في الكتاب، وظهر برهانه بما اقتضاه موجب الحساب، فيحتاج بحكم ذلك إلى نقل السنة الشمسية إلى التي تليها لتكون موافقة للهلالية، وجارية معها، وفائدة النقل أن لا تخلو السنة الهلالية من مال خاص ينسب إلى السنة الموافقة لها، لأنّ واجبات العسكرية على عظمها، واتساعها وأرزاق المرتزقة على اختلاف أجناسها، وأوضاعها جارية على أحكام الهلالية غير معدول بها عن ذلك في حال من الأحوال، والمحافظة على ثمرة ارتفاعها متعينة، ومنفعة العناية بما تجري عليه واضحة مبينة، ولما أهلت سنة إحدى وخمسمائة، ودخلت فيها سنة تسع وتسعين وأربعمائة الخراجية المواقة لسنة إحدى وخمسمائة الهلالية كان في ذلك من التباين، والتعارض والتفاوت، والتنافر بحكم إهمال النقل فيما تقدّم ما صارت السنة الهلالية الحاضرة لا يجبي خراج ما يوافقها فيها، ولا تدرك غلّات السنة المجرى ما لها عليها إلّا في السنة التي تليها، فهي تستهل وتنقضي. وليس لها في الخراجيّ ارتفاع والأعمال تطيف بالزراعة، ولا حظ لها في ذلك، ولا انتفاع، وهذه الحال المضرّة بها على بيت المال غير خفية، والأذية فيها للرجال المقطعين بادية، وأسباب لحوقها إياهم مستمرّة متمادية، ولا سيما من وقع له بإثبات وأنعم عليه بزيادات، فإنّهم يتعجلون الاستقبال، ويتأجلون الاستغلال، ومتى لم تنقل هذه السنة الخراجية كانت متداخلة بين سنين هلالية، وهي موافقة لغيرها، وما لها يجري على سنة تجري بينهما لأنّ مدخلها في اليوم العاشر من المحرّم سنة إحدى وخمسمائة، وانقضاؤها في العشرين من المحرّم سنة اثنتين وخمسمائة، وهي متداخلة بين هاتين السنتين، وما لهما يجري على سنة إحدى وخمسمائة، والحال في ذلك لا ينتهي إلى أمد، ولا يزال الفساد

يتزايد طول الأبد، وقد رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه ما خرج به أمره إلى السيد الأجل الأفضل الذي نبه على هذا الأمر، وكشف غامضه، وأزال بحسن توصله تنافيه، وتناقضه أن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل مضمنا ما رآه ودبره مودعا إنفاذ ما أحكمه، وقرّره من نقل سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة، لتكون موافقة لها. ويجري عليها ما لها، ويكون ما يستأدونه من إقطاعاتهم، ويستخرجونه من واجباتهم جاريا على نظام محروس، ونطاق محيط غير منحوس، وشاهدا بنصيب موفي غير منقوص، ويتضح ما أبهم إشكاله التعمية، ويزول الاستكراه في اختلاف التسمية، ويستمرّ الوفاق بين السنين الهلالية والخراجية إلى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وينسب مال الخراج والمقاسمات، وما يستغلّ، ويجبي من الإقطاعات مما كان جاريا على ذكر سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة، وتجري الإضافة إليها مجرى ما يرتفع من الهلاليّ فيها لتكون سنة إحدى من هذه مشتملة على ما يخصها من مالها، وعلى مال السنة الخراجية بما يشرح من انتقالها، وكذلك نقل سنة تسع وتسعين وأربعمائة الخراجية الثابتة بالتسمية إلى سنة إحدى وخمسمائة المشار إليها، ويكون مالها جاريا عليها، فليعتمد ذلك في الدواوين بالحضرة، وفي سائر أعمال الدولة قاصيها ودانيها، وفارسها وشاميها، وليتنبه كافة الكتاب والمستخدمين، وجميع العمال والمتصرّفين إلى اقتفاء هذه السنن وأتباعه، وليحذروا الخروج عن أحكامه المقرّرة وأوضاعه، وليبادروا إلى امتثال المرسوم فيه، وليحذروا من تجاوزه وتعدّيه، ولينسخ في دواوين الأموال والجيوش المنصورة، وليخلد بعد ذلك في بيوت المال المعمورة، وكتب في محرّم سنة إحدى وخمسمائة. وقال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة ومن خطه نقلت مستهلّ المحرّم نسخ منشور بنقل السنة الخراجية إلى السنة الهلالية، والمطابقة بين اسمهما لموافقة الشهور العربية للشهور القبطية، وخلوّ سنة سبع من نوروز، فنقلت سنة خمس وستين وخمسمائة الخراجية إلى هذه السنة، وكان آخر نقل نقلته هذه السنة في الأيام الأفضلية، فإنّ سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وسنة تسع وتسعين الخراجيتين نقلتا إلى سنة إحدى وخمسمائة الخراجية، وسبب هذا الانفراج بينهما زيادة عدد السنة الشمسية على عدد الهلالية أحد عشر يوما، وإغفال النقل في سنة ثلاث وثلاثين في أيام الوزير الأفضل رضوان بن ولخشي، وانسحب ذيل هذه الزيادة، وتداخل السنين بعضها في بعض إلى أن صار التفاوت بينهما سنتين في هذه السنة فنقلت، وهو انتقال لا يتعدّى التسمية، ولا يتجاوز اللفظ، ولا ينقص مالا لديوان، ولا لمقطع، وإنما يقصد به إزالة الإلباس، وحل الإشكال. وقال القاضي أبو الحسين: ونسخة الكتاب الذي أنشأه القاضي الفاضل خرجت الأوامر الملكية الناصرية زاد الله في إعلائها بإبداع هذا المنشور إنا نؤثر من حسن النظر ما

يؤثر أحسن الخبر، ولا ينصرف بنا الفكر عمّا تحلى به السير، وتجلى به الغير، ولا تزال خواطرنا تعتلي فتطلع الدراري، وتغوص فتخرج الدرر، وإنّ أولى ما استحدّت به البصائر، وحرست فيه المصائر كل أمر يصحح المعاملات ويشرحها، ويطلق عقولهم من عقول الإشكال، ويسرّحها، ولما وجب نقل السنة الخراجية، والمطابقة بينها وبين الهلالية، لانفراجهما بسنتين، وموافقة الشهور الخراجية والهلالية في هذه السنة مطلع المستهلين أمضينا هذه السنة الخالية في هذه السنة الآتية، واستخرنا الله تعالى في نقل سنتي خمس وست وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة التي سميت بهذا النقل هلالية خراجية نفيا للأمور المشتبهة، والتسمية المموّهة، وتنزيها لسني الإسلام عن التكبيس، ولتاريخه عن ملابسة التلبيس، وإعلاما بالوفاق الذي استشعرته آباؤها وبنوها، وإعلانا باتباعه عناية بعوايد السلف التي خلفوها للخلف وبنوها، وفي ذلك ما تحمد به العواقب، وتنفسخ به المذاهب، وتتيسر به المطالب، ويزول به الإشكال، ويؤمن به الاختلال، وينحسم به الغلط في الحساب، ويؤلف بين السنين المتلفة الأنساب، ويحفظ على القمر معاملته، ويبعد عن التاريخ معاطلته، ويقرّب على الكاتب محاولته، ويصرف عن نعمة الله هجنة كونها مقدّمة في التسنية مؤخرة في التسمية، وعن معاملة بيت المال وصمة كونها معذوقة بالمطل، وقد بالغت في التوفيه لأنّ من أعطى في سنة سبع وستين وخمسمائة استحقاق سنة خمس، فلا ريب أنه قد مطل بحكم السمع، وإن كان قد أنجز بحكم الشرع فتوسم هذه السنة المباركة بالهلالية الخراجية، وترفع الحسبانات بهذا الوضع، ويعمل في التقريرات والتسجيلات على هذا، فليفعل في ذلك ما يقضي بإرتاج هذا الانفراج، وجبر هذا الصدع، وليعلم في الدواوين علمه، ولينفذ فيها حكمه بعد ثبوته إلى حيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى. وأما تاريخ العرب: فإنه لم يزل في الجاهلية والإسلام يعمل بشهور الأهلة، وعدّة شهور السنة عندهم: اثنا عشر شهرا، إلا أنهم اختلفوا في أسمائها، فكانت العرب العاربة تسميها: ناتق، ونقيل، وطليق، واسخ، أنخ، وحلك، وكسح، وزاهر، ونوط، وحرف، وبغش. فناتق هو: المحرّم، ونقيل هو: صفر، وهكذا ما بعده على سرد الشهور. وكانت ثمود تسميها: موجب، وموجر، ومورد، وملزم، ومصد، وهوبر، وهوبل، وموها، وديمر، ودابر، وحيقل، ومسيل، فموجب هو: المحرّم، وموجر: صفر، إلا أنهم كانوا يبدأون بالشهور من ديمر، وهو شهر رمضان، فيكون أوّل شهور السنة عندهم، ثم كانت العرب تسميها بأسماء أخر هي: مؤتمر، وناجر، وخوّان، وصوان، وحنتم، وزبا، والأصم، وعادل، وبايق، ووعل، وهواع، وبرك، ومعنى المؤتمر: أنه يأتمر بكل شيء مما تأتي به السنة من أقضيتها، وناجر: من النجر، وهو شدّة الحرّ، وخوّان: فعال من الخيانة، وصوان، بكسر الصاد وضمها: فعال من الصيانة، والزبا: الداهية العظيمة المتكاثفة سمي

بذلك لكثرة القتال فيه، ومنهم من يقول: بعد صوان الزبا، وبعد الزبا بائدة، وبعد بائدة الأصم، ثم واغل، وباطل، وعادل، ورنه، وبرك، فالبائد من القتال إذ كان فيه يبيد كثير من الناس، وجرى المثل بذلك فقيل العجب كل العجب بين جمادى ورجب، وكانوا يستعجلون فيه ويتوخون بلوغ النار والغارات قبل رجب فإنه شهر حرام، ويقولون له الأصم لأنهم كانوا يكفون فيه عن القتال، فلا يسمع فيه صوت السلاح، والواغل الداخل على شرب ولم يدعوه، وذلك لأنه تهجم على شهر رمضان، وكان يكثر في شهر رمضان شربهم الخمر لأن الذي يتلوه هي شهور الحج، وباطل هو مكيال الخمر سمي به لإفراطهم فيه في الشرب، وكثرة استعمالهم لذلك المكيال، وأما العادل فهو من العدل لأنه من أشهر الحج، وكانوا يشتغلون فيه عن الباطل، وأما الزبا فلأن الأنعام كانت تزب فيه لقرب النحر، وأما برك فهو لبروك الإبل إذا حضرت المنحر. وقد روي: أنهم كانوا يسمون المحرّم: مؤتمر، وصفر: ناجر، وربيع الأوّل: نصار، وربيع الآخر: خوان، وجمادى الأولى: حمتن، وجمادى الآخرة: الرنة، ورجب: الأصم وهو شهر مضر، وكانت العرب تصومه في الجاهلية، وكانت تمتار فيه، وتمير أهلها، وكان يأمن بعضهم بعضا فيه، ويخرجون إلى الأسفار، ولا يخافون، وشعبان: عادل، ورمضان: ناتق، وشوّال: واغل، وذو القعدة: هواع، وذو الحجة: برك، ويقال فيه أيضا: أبروك، وكانوا يسمونه الميمون، ثم سمت العرب أشهرها بالمحرّم، وصفر، وربيع الأوّل، وربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوّال، وذي القعدة، وذي الحجة، واشتقوا أسماءها من أمور اتفق وقوعها عند تسميتها، فالمحرّم كانوا يحرّمون فيه القتال، وصفر كانت تصفر فيه بيوتهم لخروجهم إلى الغزو، وشهرا ربيع كانا زمن الربيع، وشهرا جمادى كانا يجمد فيهما الماء لشدّة البرد، ورجب الوسط، وشعبان يشعب فيه القتال، ورمضان من الرمضاء لأنه كان يأتي فيه القيظ، وشوّال تشيل فيه الإبل أذنابها، وذو القعدة لقعودهم في دورهم، وذو الحجة لأنه شهر الحج، وأنت إذا تأمّلت اشتقاق أسماء شهور الجاهلية أوّلا، ثم اشتقاقها ثانيا تبين لك أنّ بين التسميتين زمانا طويلا، فإنّ صفر في أحدهما هو: صميم الحروب، وفي الآخر: رمضان، ولا يمكن ذلك في وقت واحد أو وقتين متقاربين، وكانت العرب أوّلا تستعمل هذه الشهور على نحو ما يستعمله أهل الإسلام إما بطريق إلهيّ، أو لأنّ العرب لم يكن لها دراية بمراعاة حساب حركات النيرين، فاحتاجت إلى استعمال مبادي الشهور لرؤية الأهلة، وجعلت زمان الشهر بحسب ما يقع بين كل هلالين، فربما كان بعض الشهور تامّا أعني ثلاثين يوما، وربما كان ناقصا أعني تسعة وعشرين يوما، وربما كانت أشهر متوالية تامّة أكثرها أربعة، وهذا نادر، وربما كانت أشهر متوالية ناقصة أكثرها ثلاثة، وكان يقع حج العرب في أزمنة السنة كلها، وهو أبدا عاشر ذي الحجة من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإذا انقضى موسم الحج تفرّقت العرب

طالبة أماكنها، وأقام أهل مكة بها، فلم يزالوا على ذلك دهرا طويلا إلى أن غيروا دين إبراهيم وإسماعيل، فأحبوا أن يتوسعوا في معيشتهم، ويجعلوا حجهم في وقت إدراك شغلهم من الأدم والجلود والثمار ونحوها، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة في أطيب الأزمنة، وأخصبها فتعلموا كبس الشهور من اليهود الذين نزلوا يثرب من عهد شمويل نبيّ بني إسرائيل، وعملوا النسيء «1» قبل الهجرة بنحو مائتي سنة، وكان الذي يلي النسيء يقال له: القلمس يعني الشريف، وقد اختلف في أول من أنسأ الشهور منهم فقيل: القلمس هو: عديّ بن زيد، وقيل: القلمس هو: سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وإنه قال: أرى شهور الأهلة ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما، وأرى شهور العجم ثلثمائة وخمسة وستين يوما، فبيننا وبينهم أحد عشر يوما، ففي كل ثلاث سنين ثلاثة وثلاثون يوما، ففي كل ثلاث سنين شهر، وكان إذا جاءت ثلاث سنين قدّم الحج في ذي القعدة، فإذا جاءت ثلاث سنين أخر في المحرّم، وكانت العرب إذا حجت قلّدت الإبل النعال، وألبستها الجلال، وأشعرتها، فلا يتعرّض لها أحد إلّا خثعم، وكان النسيء في بني كنانة، ثم في بني ثعلبة بن مالك بن كنانة، وكان الذي يلي ذلك منهم: أبو ثمامة المالكيّ، ثم من بني فقيم، وبنو فقيم هم النساءة، وهو منسيء الشهور، وكان يقوم على باب الكعبة، فيقول: إنّ إلهتكم العزى قد أنسأت صفر الأوّل، وكان يحله عاما ويحرّمه عاما، وكان إتباعهم على ذلك غطفان وهوازن وسليم وتميم، وآخر النساءة: جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم. وقيل: القلمس هو: حذيفة بن عبد بن فقيم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، ثم توارث ذلك منه بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذي قام عليه السلام أبو ثمامة جنادة، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فأحلّ لهم من الشهور، وحرّم، فأحلوا ما أحلّ وحرّموا ما حرّم، وكان إذا أراد أن ينسئ منها شيئا أحل المحرّم، فأحلوه، وحرّم مكانه صفر فحرّموه ليواطئوا عدّة الأربعة، فإذا أرادوا الهدي اجتمعوا إليه، فقال: اللهم إني لا أجاب، ولا أعاب في أمري والأمر لما قضيت، اللهم إني قد أحللت دماء المحلين من طي وخثعم، فاقتلوهم حيث ثقفتموهم أي ظفرتم به، اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين الصفر الأوّل وأنسأت الآخر من العام المقبل، وإنما أحل دم طي وخثعم لأنهم كانوا يعدون على الناس في الشهر الحرام من بين جميع العرب. وقيل: أوّل من أنسأ سرير بن ثعلبة، وانقرض فأنسأ من بعده ابن أخيه: القلمس واسمه عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحرث بن كنانة، ثم صار النسيء في ولده، وكان آخرهم أبو ثمامة جنادة، وقيل: عوف بن أمية بن قلع عن أبيه أمية بن قلع عن جدّه قلع بن عباد عن

جدّ أبيه عباد بن حذيفة عن جدّ جدّه حذيفة بن عبد بن فقيم، وكان يقال لحذيفة القلمس، وهو أوّل من أنسأ الشهور على العرب، فأحل منها ما أحل وحرّم ما حرّم، ثم كان بعد عوف المذكور ولده أبو ثمامة جنادة بن عوف، وعليه قام الإسلام، وكان أبعدهم ذكرا، وأطولهم أمدا يقال: إنه أنسأ أربعين سنة، ولهم يقول عمير بن قيس جذل الطعان يفتخر: وأيّ الناس لم يسبق بوتر ... وأيّ الناس لم يعلك لجاما ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحل نجعلها حراما وقال آخر: أتزعم أني من فقيم بن مالك ... لعمري لقد غيرت ما كنت أعلم لهم ناسئ يمشون تحت لوائه ... يحل إذا شاء الشهور ويحرم وقيل: كانت العرب تكبس في كل أربع وعشرين سنة قمرية بتسعة أشهر، فكانت شهورهم ثابتة مع الأزمنة جارية على سنن واحد لا تتأخر عن أوقاتها، ولا تتقدّم وكان النسيء الأوّل للمحرّم، فسمي صفر باسمه، وشهر ربيع الأوّل باسم صفر، ثم والوا بين أسماء الشهور، فكان النسيء الثاني بصفر، فسمي الذي كان يتلوه بصفر أيضا، وكذلك حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر، وعاد إلى المحرّم، فأعادوا فعلهم الأوّل، وكانوا يعدّون أدوار النسيء، ويحدّون بها الأزمنة، فيقولون: قد دارت السنون من لدن زمان كذا إلى زمان كذا: وكذا دورة، فإن ظهر لهم مع ذلك تقدّم شهر عن فصله من الفصول الأربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس بقية فضل ما بينها، وبين سنة القمر الذي ألحقوه بها كبسوها كبسا ثانيا، وكان يظهر لهم ذلك بطلوع منازل القمر، وسقوطها حتى هاجر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت نوبة النسيء بلغت شعبان، فسمي: محرّما، وشهر رمضان: صفر، وقيل: إن الناسيء الأوّل نسأ المحرّم، وجعله كبسا، وأخر المحرّم إلى صفر، وصفر إلى ربيع الأوّل، وكذا بقية الشهور، فوقع لهم في تلك السنة عاشر المحرّم، وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهرا، ونقل الحج بعد كل ثلاث سنين شهرا فمضى على ذلك مائتان وعشر سنين، وكان انقضاؤها سنة حجة الوداع، وكان وقوع الحج في السنة التاسعة من الهجرة عاشر ذي القعدة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه بالناس، ثم حجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السنة العاشرة حجة الوداع لوقوع الحج فيها عاشر ذي الحجة كما كان في عهد إبراهيم وإسماعيل، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم في حجته هذه: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» يعني رجوع الحج والشهور إلى الوضع، وأنزل الله تعالى إبطال النسيء بقوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ [التوبة/ 37] فبطل ما أحدثته الجاهلية من النسيء، واستمرّ وقوع الحج والصوم برؤية الأهلة، ولله الحمد.

وكانت العرب لها تواريخ معروفة عندها قد بادت، فما كانت تؤرخ به، إنّ كنانة أرخت من موت كعب بن لؤيّ حتى كان عام الفيل، فأرخوا به، وهو عام مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان بين كعب بن لؤيّ، والفيل خمسمائة وعشرون سنة، وكان بين الفيل، وبين الفجار أربعون سنة، ثم عدّوا من الفجار إلى وفاة هشام بن المغيرة، فكان ست سنين، ثم عدّوا من وفاة هشام بن المغيرة إلى بنيان الكعبة، فكان تسع سنين، ثم كان بين بنائها، وبين هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة سنة. ثم وقع التاريخ من الهجرة النبوية، فعن سعيد بن المسيب قال: جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس فسألهم من أيّ يوم يكتب التاريخ؟ فقال عليّ بن أبي طالب: من يوم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وترك أرض الشرك، ففعله عمر، وعن سهل بن سعد الساعديّ قال: أخطأ الناس في العدد ما عدّوا من مبعثه، ولا من وفاته إنما عدّوا من مقدمه المدينة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان التاريخ من السنة التي قدم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وقال قرّة بن خالد عن محمد: كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه عامل جاء من اليمن فقال لعمر: أما تؤرخون؟ تكتبون في سنة كذا وكذا من شهر كذا وكذا، فأراد عمر والناس أن يكتبوا من مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قالوا: من عند وفاته، ثم أرادوا أن يكون ذلك من الهجرة، ثم قالوا: من أي شهر، فأرادوا أن يكون من رمضان، ثم بدا لهم، فقالوا: من المحرّم. وقال ميمون بن مهران: رفع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، صكّ محله شعبان، فقال: أيّ شعبان هو؟ أشعبان الذي نحن فيه أو الآتي؟ ثم جمع وجوه الصحابة فقال: إنّ الأموال قد كثرت، وما قسمنا منها غير مؤقت، فكيف التوصل إلى ما يضبط به ذلك، فقالوا: يجب أن يعرف ذلك من رسوم الفرس، فعندها استحضر عمر رضي الله عنه الهرمزان، وسأله عن ذلك، فقال: إنّ لنا حسابا نسميه: ماه روز، معناه: حساب الشهور والأيام، فعرّبوا الكلمة، وقالوا: مؤرخ، ثم جعلوه اسم التاريخ واستعملوه، ثم طلبوا وقتا يجعلونه أوّلا لتاريخ دولة الإسلام، فاتفقوا على أن يكون المبدأ من سنة الهجرة، وكانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، وقد تصرّم من شهور السنة، وأيامها المحرّم وصفر، وأيام من ربيع الأوّل، فلما عزموا على تأسيس الهجرة رجعوا القهقرى ثمانية وستين يوما، وجعلوا التاريخ من أوّل محرّم هذه السنة، ثم أحصوا من أوّل يوم في المحرّم إلى آخر عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان عشر سنين وشهرين، وأما إذا حسب عمره المقدّس من الهجرة حقيقة، فيكون قد عاش صلّى الله عليه وسلّم بعدها تسع سنين، وأحد عشر شهرا واثنين وعشرين يوما، وكان بين مولده صلّى الله عليه وسلّم وبين مولد المسيح عليه السلام، خمسمائة وثمان وسبعون سنة تنقص شهرين وثمانية أيام. وابتداء تاريخ الهجرة يوم الخميس أوّل شهر الله المحرّم، وبينه وبين الطوفان ثلاثة

آلاف وسبعمائة، وخمس وثلاثون سنة، وعشرة أشهر واثنان وعشرون يوما على ما عرّفناه من الخلاف في ذلك، وبينه وبين تاريخ الإسكندر بن فيليبس المقدونيّ الروميّ: تسعمائة وإحدى وستون سنة قمرية وأربعة وخمسون يوما لتكون من السنين الشمسية تسعمائة واثنتين وثلاثين سنة، ومائتين وتسعة وثمانين يوما عنها تسعة أشهر وتسعة عشر يوما، وبينه وبين تاريخ القبط: ثلثمائة وسبع وثلاثون سنة وتسعة وثلاثون يوما. وقال ابن ماشا الله «1» : إنّ انتقال المرمن المثلثة الهوائية التي هي برج الجوزاء دولتها إلى برج السرطان، ومثلثته المائية التي كانت دولة الإسلام فيها عند تمام ستة آلاف وثلثمائة وخمس وأربعين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوما من وقت القران الأوّل الواقع في بدء التحرّك يعني خلق آدم عليه السلام، وإن القران من هذه المثلثة وقع في أربع درج ودقيقة واحدة من برج العقرب، وهو قران الملة الإسلامية، قال: وفي السنة الثانية من هذا القران ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان بين دخول الشمس برج الحمل في هذه السنة، وبين أوّل يوم من سنة الهجرة سنون فارسية عدّتها إحدى وخمسون سنة، وثلاثة أشهر وثمانية أيام وست عشرة ساعة، فكان من وقت الطوفان إلى وقت قران الملة ثلاثة آلاف وتسعمائة واثنتا عشرة سنة، وستة أشهر وأربعة عشر يوما. وزعمت اليهود أنّ من آدم عليه السلام إلى سنة الهجرة أربعة آلاف واثنتين وأربعين سنة وثلاثة أشهر. وزعمت النصارى أن بينهما خمسة آلاف وتسعمائة وتسعين سنة وثلاثة أشهر. وزعمت المجوس أعني الفرس أن بينهما أربعة آلاف ومائة واثنتين وثمانين سنة وعشرة أشهر، وتسعة عشر يوما، وقد عرفت أنّ شهور تاريخ الهجرة قمرية، وأيام كل سنة منها عدّتها ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما، وخمس وسدس يوم، وجميع الأحكام الشرعية مبنية على رؤية الهلال عند جميع فرق الإسلام ما عدا الشيعة، فإنّ الأحكام مبنية عندهم على عمل شهور السنة بالحساب على ما ستراه في ذكر القاهرة وخلفائها، ثم لما احتاج منجمو الإسلام إلى استخراج من لا بدّ منه من معرفة الأهلة، وسمت القبلة، وغير ذلك بنوا أزياجهم على التاريخ العربيّ، وجعلوا شهور السنة العربية شهرا كاملا، وشهرا ناقصا، وابتدأوا بالمحرّم اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، فجعلوا المحرّم ثلاثين يوما، وصفر تسعة وعشرين يوما، وربيعا الأوّل ثلاثين يوما، وربيعا الآخر تسعة وعشرين يوما، وجمادى الأولى ثلاثين يوما، وجمادى الآخرة تسعة وعشرين يوما، ورجب ثلاثين يوما، وشعبان تسعة وعشرين يوما، ورمضان ثلاثين يوما، وشوّالا تسعة وعشرين يوما، وذا القعدة ثلاثين

ذكر فسطاط مصر

يوما، وذا الحجة تسعة وعشرين يوما، وزادوا من أجل كسر اليوم الذي هو خمس وسدس يوما في ذي الحجة إذا صار هذا الكسر أكثر من نصف يوم، فيكون شهر ذي الحجة في تلك السنة ثلاثين يوما، ويسمون تلك السنة كبيسة، ويصير عددها ثلثمائة وخمسة وخمسين يوما، ويجتمع في كل ثلاثين من الكبس أحد عشر يوما، والله أعلم. وأما تاريخ الفرس، ويعرف أيضا بتاريخ يزدجرد، فإنه من ابتداء تملك يزدجرد بن شهربار بن كسرى أبرويز، أرخ به الفرس من أجل أن يزدجرد قام في المملكة بعد ما تبدّد ملك فارس، واستولى عليه النساء، والمتغلبون، وهو أيضا آخر ملوك فارس، وبقتله تمزق ملكهم، وأوّل هذا التاريخ يوم الثلاثاء، وبينه وبين تاريخ الهجرة تسع سنين، وثلثمائة وثمانية وثلاثون يوما، وأيام سنة هذا التاريخ تنقص عن السنة الشمسية ربع يوم، فيكون في كل مائة وعشرين سنة شهرا واحدا، ولهم في كبس السنة آراء ليس هذا موضع إيرادها، وعلى هذا التاريخ يعتمد في زمننا أهل العراق وبلاد العجم، ولله عاقبة الأمور. ذكر فسطاط مصر قال الجوهريّ: الفسطاط بيت من شعر، قال: ومنه فسطاط مدينة مصر، إعلم: أن فسطاط مصر اختط في الإسلام بعد ما فتحت أرض مصر، وصارت دار إسلام، وقد كانت بيد الروم، والقبط وهم نصارى ملكانية، ويعقوبية وميانية، وحين اختط المسلمون الفسطاط انتقل كرسيّ المملكة من مدينة الإسكندرية بعد ما كانت منزل الملك، ودار الإمارة زيادة على تسعمائة سنة، وصار من حينئذ الفسطاط دار إمارة ينزل به أمراء مصر، فلم يزل على ذلك حتى بنى العسكر بظاهر الفسطاط، فنزل فيه أمراء مصر، وسكنوه، وربما سكن بعضهم الفسطاط، فلما أنشأ الأمير أبو العباس أحمد بن طولون القطائع بجانب العسكر سكن فيها، واتخذها الأمراء من بعده منزلا إلى أن انقرضت دولة بني طولون، فصار أمراء مصر من بعد ذلك ينزلون بالعسكر خارج الفسطاط، وما زالوا على ذلك حتى قدمت عساكر الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ الفاطميّ مع كاتبه جوهر القائد، فبنى القاهرة، وصارت خلافة، واستمرّ سكنى الرعية بالفسطاط، وبلغ من وفور العمارة، وكثرة الخلائق، ما أربى على عامّة مدن المعمور حاشا بغداد، وما زال على ذلك، حتى تغلب الفرنج على سواحل البلاد الشامية، ونزل مخري ملك الفرنج بجموعه الكثيرة على بركة الحبش «1» يريد الاستيلاء على مملكة مصر، وأخذ الفسطاط والقاهرة، فعجز الوزير شاور «2» ابن مجير السعديّ عن حفظ

ذكر ما كان عليه موضع الفسطاط قبل الإسلام إلى أن اختطه المسلمون مدينة

البلدين معا، فأمر الناس بإخلاء مدينة الفسطاط، واللحاق بالقاهرة للامتناع من الفرنج، وكانت القاهرة إذ ذاك من الحصانة، والامتناع بحيث لا ترام، فارتحل الناس من الفسطاط، وساروا بأسرهم إلى القاهرة، وأمر شاور، فألقى العبيد النار في الفسطاط، فلم تزل به بضعا وخمسين يوما حتى احترقت أكثر مساكنه، فلما رحل مري عن القاهرة، واستولى شيركوه» على الوزارة تراجع الناس إلى الفسطاط، ورموا بعض شعثه، ولم يزل في نقص وخراب إلى يومنا هذا، وقد صار الفسطاط يعرف في زمننا بمدينة مصر، والله أعلم. ذكر ما كان عليه موضع الفسطاط قبل الإسلام إلى أن اختطه المسلمون مدينة اعلم: أنّ موضع الفسطاط الذي يقال له اليوم: مدينة مصر كان فضاء ومزارع فيما بين النيل، والجبل الشرقيّ الذي يعرف بالجبل المقطم، ليس فيه من البناء، والعمارة سوى حصن يعرف اليوم بعضه: بقصر الشمع، وبالمعلقة ينزل به شحنة الروم المتولي على مصر من قبل القياصر ملوك الروم عند مسيره من مدينة الإسكندرية، ويقيم فيه ما شاء، ثم يعود إلى دار الإمارة، ومنزل الملك من الإسكندرية، وكان هذا الحصن مطلا على النيل، وتصل السفن في النيل إلى بابه الغربيّ الذي كان يعرف بباب الحديد، ومنه ركب المقوقس في السفن في النيل من بابه الغربيّ حين غلبه المسلمون على الحصن المذكور، وصار فيه إلى الجزيرة التي تجاه الحصن، وهي التي تعرف اليوم: بالروضة قبالة مصر، وكان مقياس النيل بجانب الحصن. وقال ابن المتوّج: وعمود المقياس موجود في زقاق مسجد ابن النعمان قلت: وهو باق إلى يومنا هذا، أعني سنة عشرين وثمانمائة، وكان هذا الحصن لا يزال مشحونا بالمقاتلة، وسيرد في هذا الكتاب خبره إن شاء الله تعالى، وكان بجوار هذا الحصن من بحريه، وهي الجهة الشمالية أشجار وكروم صار موضعها الجامع العتيق، وفيما بين الحصن والجبل عدّة كنائس، وديارات للنصارى في الموضع الذي يعرف اليوم براشدة، وبجانب الحصن فيما بين الكروم التي كانت بجانبه، وبين الجرف الذي يعرف اليوم: بجبل يشكر، حيث جامع ابن طولون، والكبش عدّة كنائس، وديارات للنصارى في الموضع الذي كان يعرف في أوائل الإسلام بالحمراء، وعرف الآن بخط قناطر السباع والسبع سقايات، وبقي بالحمراء عدّة من الديارات إلى أن هدمت في سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاون على ما ذكر في هذا الكتاب عند ذكر كنائس النصارى، فلما افتتح عمرو بن العاص مدينة

ذكر الحصن الذي يعرف بقصر الشمع

الإسكندرية الفتح الأوّل نزل بجوار هذا الحصن، واختط الجامع المعروف بالجامع العتيق، وبجامع عمرو بن العاص، واختطت قبائل العرب من حوله، فصارت مدينة عرفت بالفسطاط، ونزل الناس بها، فانحسر بعد الفتح بأعوام ماء النيل عن أرض تجاه الحصن والجامع العتيق، فصار المسلمون يوقفون هناك دوابهم، ثم اختطوا فيه المساكن شيئا بعد شيء، وصار ساحل البلد حيث الموضع الذي يقال له اليوم في مصر: المعاريج مارّا إلى الكوم الذي على يسرة الداخل من باب مصر بحدّ الكبارة، وفي موضع هذا الكوم كانت الدور المطلة على النيل، ويمرّ الساحل من باب مصر المذكور إلى حيث بستان ابن كيسان الذي يعرف اليوم: ببستان الطواشي في أوّل مراغة مصر، وجميع الأماكن التي تعرف اليوم: بمراغة مصر وبالجرف إلى الخليج عرضا، ومن حيث قنطرة السدّ إلى سوق المعاريج طولا، كان غامرا بماء النيل إلى أن انحسر عنه ماء النيل بعد سنة ستمائة من سني الهجرة، فصار رملة، ثم اختط فيه الأمراء مما يلي النيل آدرا عند ما عمر الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة، واختط بعضه شونا إلى أن أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون جامعه المعروف بالجامع الجديد الناصري ظاهر مصر، فعمر ما حوله، وقد كان عند فتح مصر سائر المواضع التي من منشأة المهرانيّ إلى بركة الحبش طولا، ومن ساحل النيل بموردة الحلفاء، وتجاه الجامع الجديد إلى سوق المعاريج، وما على سمته إلى تجاه المشهد الذي يقال له: مشهد الراس، وتسميه العامّة اليوم: مشهد زين العابدين كلها بحرا لا يحول بين الحصن والجامع، وما على سمتهما إلى الحمراء الدنيا التي منها اليوم: خط قناطر السباع، وبين جزيرة مصر التي تعرف اليوم: بالروضة شيء سوى ماء النيل، وجميع ما في هذه المواضع من الأبنية انكشف عنه النيل قليلا قليلا، واختط على ما يتبين لك في هذا الكتاب. ذكر الحصن الذي يعرف بقصر الشمع «1» اعلم: أن هذا القصر أحدث بعد خراب مصر على يد بخت نصر، وقد اختلف في الوقت الذي بنى فيه، ومن أنشأه من الملوك، فذكر الواقديّ: أن الذي بناه اسمه: الريان بن الوليد بن أرسلاوس، وكان هذا القصر يوقد عليه الشمع في رأس كل شهر، وذلك أنه إذا حلّت الشمس في برج من البروج أوقد في تلك الليلة الشمع على رأس ذلك القصر، فيعلم الناس بوقود الشمع أنّ الشمس انتقلت من البرج الذي كانت فيه إلى برج آخر غيره، ولم يزل القصر على حاله، إلى أن خربت مصر زمن بخت نصر بن نيروز الكلدانيّ، فأقام خرابا خمسمائة سنة، ولم يبق منه إلا أثره فقط، فلما غلب الروم على مصر، وملكوها من أيدي اليونانيين، ولي مصر من قبلهم رجل يقال له: أرجاليس بن مقراطيس فبنى القصر على ما وجد من أساسه.

وقال ابن سعيد: وصارت مصر والشام بعد بخت نصر في مملكة الفرس، فوليها منهم: كشرجوش الفارسيّ باني قصر الشمع، وبعده طخارست الطويل الولاية، وتوالت بعده نوّاب الفرس إلى ظهور الإسكندر، وقال غيره: إن الذي بناه طخشاشت أحد ملوك الفرس عند ما سار لمحاربة أهل مصر، فلما غلب قسطو ملك مصر الذي يعرف بفرعون سابان، وفرّ منه إلى مقدونية غلب على ملك مصر، واستولى عليها وبنى للفرس قصرا، وجعل فيه بيت نار على شاطىء النيل الشرقيّ، وعرف بقصر الشمع لأنه كان له باب يقال له: باب الشمع، وجعل في القصر بيت نار وهو باق. وقال ابن عبد الحكم عن الليث بن سعد: وكانت الفرس قد أسست بناء الحصن الذي يقال له: باب اليون «1» ، وهو الحصن الذي بفسطاط مصر اليوم، فلما انكشفت جموع فارس عن الروم، وأخرجتهم الروم من الشام أتمت بناء ذلك الحصن، وأقامت به، فلم تزل مصر في ملك الروم حتى فتحها الله تعالى على المسلمين قال: وكان أبو الأسود نصر بن عبد الجبار يقولها بالميم، يعني باب اليوم، ويقال: إنما سمي كذا لأنهم كانوا يقولون: من يقاتل اليوم. وقال القضاعيّ: ذكر الحصن المعروف بقصر الشمع يقال: إن فارس لما ظهرت على الروم وملكت عليهم الشام، وملكت مصر بدأت ببناء هذا القصر، وبنت فيه هيكلا لبيت النار، ولم يتم بناؤه على أيديهم إلى أن ظهرت الروم عليهم، فتممت بناءه وحصنته، ولم تزل فيه إلى حين الفتح، وهيكل الناس هو القبة المعروفة اليوم بقبة الدخان، وبحضرتها مسجد معلق أحدثه المسلمون. وقال أبو عبيد البكريّ: باب اليون بمصر إن كان عربيا، فإنه مثل يوم، ويوح مما فاؤه ياء، وعينه واو، وقد يجوز أن يكون فعلا من بين، وهو اسم موضع على مذهب أبي الحسن في فعل من البيع بوع قال: وليست الألف واللام فيه للتعريف، فعلى هذا يجب أن تثبت في الرسم. وقال أبو صخر: وحلوا تهامي أرضنا وتبدّلوا ... بمكة باب اليون والربط بالعصب والرواية في شعر كثير عزّة في قوله: جرى بين باب اليون والعصب دونه ... رياح أشفت بالنقي وأشمت بالباء، وبفتح النون غير مجرور للعجمة على أن همزته مقطوعة، وصلها للضرورة. وقال الحازميّ: باب البون بالباء اسم مدينة مصر فتحها المسلمون، وسموها

الفسطاط، وقال عبد الملك بن هشام بابليون المنسوب إليه مصر هو: بابليون بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان وأن من ولده عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبا، وهو الملك على مصر لما قدم إليها إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه، والقبط تسمي عمرا هذا: طوطيس، ومن ولده حلوان بن بابليون بن عمرو بن امرئ القيس، وبه سميت حلوان. وقال القاضي القضاعيّ: في ظاهر الفسطاط القصر المعروف بباب ليون بالشرف، ليون اسم بلد مصر بلغة السودان والروم، وقد بقيت من بنائه بقية مبنية بالحجارة على طرف الجبل بالشرف، وعليه اليوم مسجد. قال المؤلف: فهذا كما ترى صريح في أن قصر باب اليون غير قصر الشمع، فإنّ قصر الشمع في داخل الفسطاط، وقصر باب اليون هذا عند القضاعيّ على الجبل المعروف بالشرف، والشرف خارج الفسطاط، وهو خلاف ما قاله ابن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر، والله أعلم. ويقال: إنّ في زمن ناحور بن شاروع، وهو الثامن عشر من آدم ملك مصر رجل اسمه: أفطوطس مدّة اثنتين وثلاثين سنة، وأنه أوّل من أظهر علم الحساب والسحر، وحمل كتب ذلك من بلاد الكلدانيين إلى مصر، وفي ذلك الزمان بنيت بابليون على بحر النيل بمصر، وذلك لتمام ثلاثة آلاف وثلثمائة وتسعين للعالم، وقال ابن سعيد في كتاب المعرب: وأما فسطاط مصر، فإنّ مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس، وجاء الإسلام، وبها بناء يعرف: بالقصر حوله مساكن، وعليه نزل عمرو بن العاص، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه، وهذا وهم من ابن سعيد، فإنّ فسطاط عمرو إنما كان مضروبا عند درب حمام شموط بخط الجامع هكذا هو بخط الشريف محمد بن أسعد الجواني «1» النسابة، وهو أقعد بخطط مصر، وأعرف من ابن سعيد، وأما موضع الجامع، فكان كروما وجنانا، وحاز موضعه قيسبة التجيبيّ، ثم تصدّق به على المسلمين، فعمل المسجد، وستقف على هذا إن شاء الله تعالى في ذكر جامع عمرو عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب. وقال ابن المتوّج: خط قصر الشمع هذا الخط يعرف بقصر الشمع، وفيه قصر الروم وفيه أزقة ودروب، قال: وكنيسة المعلقة بمصر بباب القصر، وهو قصر الروم. وقال ابن عبد الحكم: وأقرّ عمرو بن العاص القصر لم يقسمه ووقفه. وقال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الأمراء: وقد ذكر قيام عليّ بن محمد بن عبد الله بن

الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وطروق المسجد في إمارة يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة على مصر، وورد كتاب أبي جعفر المنصور على يزيد بن حاتم يأمره بالتحوّل من العسكر إلى الفسطاط، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر، وذلك في سنة ست وأربعين ومائة، والله أعلم.

ذكر حصار المسلمين للقصر وفتح مصر

ذكر حصار المسلمين للقصر وفتح مصر اختلف الناس في فتح مصر، فقال محمد بن إسحاق، وأبو معشر، ومحمد بن عمرو الواقديّ، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو عمرو الكنديّ: فتحت سنة عشرين، وقال سيف بن عمر: فتحت سنة ست عشرة، وقيل: فتحت سنة ست وعشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، والأوّل أصح وأشهر. قال ابن عبد الحكم: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الجابية قام إليه عمرو بن العاص، فخلا به، فقال: يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أسير إلى مصر، وحرّضه عليها، وقال: إنك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين، وعونا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا، وأعجز عن القتال والحرب. فتخوّف عمر بن الخطاب، وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب، ويخبره بحالها، ويهوّن عليه فتحها حتى ركن لذلك، فعقد له على أربعة آلاف رجل، كلّهم من عك، ويقال: بل ثلاثة آلاف وخمسمائة، وقال له عمر: سر وأنا مستخير الله في مسيرك، وسيأتيك كتابي سريعا إن شاء الله تعالى، فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها، أو شيئا من أرضها، فانصرف، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره. فسار عمرو بن العاص من جوف الليل، ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمر الله، فكأنه تخوّف على المسلمين في وجههم ذلك، فكتب إلى عمرو بن العاص أن ينصرف بمن معه من المسلمين، فأدرك عمرا الكتاب إذ هو برفج «1» فتخوّف عمرو إن هو أخذ الكتاب، وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول، ودافعه وسار كما هو حتى نزل قرية فيما بين رفج والعريش، فسأل عنها فقيل: إنها من مصر، فدعا بالكتاب فقرأه على المسلمين، فقال عمرو لمن معه: ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى، قال: فإنّ أمير المؤمنين عهد إليّ، وأمرني إن لحقني كتابه،

ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا، وامضوا على بركة الله. ويقال: بل كان عمرو بفلسطين، فتقدّم عمرو بأصحابه إلى مصر بغير إذن، فكتب فيه إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر وهو دون العريش، فحبس الكتاب فلم يقرأه حتى بلغ العريش، فقرأه فإذا فيه من عمر بن الخطاب إلى العاصي ابن العاصي: أما بعد، فإنك سرت إلى مصر، ومن معك وبها جموع الروم، وإنما معك نفر يسير، ولعمري لو نكل بك ما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر، فارجع. فقال عمرو: الحمد لله أية أرض هذه؟ قالوا: من مصر فتقدّم كما هو، ويقال: بل كان عمرو في جنده على قيسارية مع من كان بها من أجناد المسلمين، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ ذاك بالجابية، فكتب سرّا فاستأذن أن يسير إلى مصر، وأمر أصحابه، فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتنحوا من منزل إلى منزل قريب، ثم سار بهم ليلا، فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل، ورأوا أن قد غدر، فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر إلى العاصي ابن العاصي: أما بعد، فإنك قد غررت بمن معك، فإن أدركك كتابي، ولم تدخل مصر فارجع، وإن أدركك، وقد دخلت فامض، واعلم أنّي ممدّك. ويقال: إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إلى عمرو بن العاص بعد ما فتح الشام: أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به، وبعث به مع شريك بن عبدة، فندبهم عمرو، فأسرعوا إلى الخروج مع عمرو، ثم إنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على عمر بن الخطاب، فقال عمر: كتبت إلى عمرو بن العاص يسير إلى مصر من الشام، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين إنّ عمر لجريء وفيه إقدام وحبّ للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة، فيعرّض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا؟ فندم عمر على كتابه إلى عمرو، وأشفق مما قال عثمان، فكتب إليه: إن أدركك كتابي قبل أن تدخل إلى مصر، فارجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت، فامض لوجهك. فلما بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر توجه إلى موضع الفسطاط، فكان يجهز على عمرو الجيوش، وكان على القصر رجل من الروم يقال له: الأعيرج، واليا عليه، وكان تحت المقوقس، وأقبل عمرو حتى إذا كان بجبل الجلال نفرت معه راشدة، وقبائل من لخم فتوجه عمرو حتى إذا كان بالعريش أدركه النحر، فضحى عن أصحابه يومئذ بكبش، وتقدّم، فكان أوّل موضع قوتل فيه الفرما «1» قاتلته الروم قتالا شديدا نحوا من شهر، ثم فتح

2 لله عليه، وكان عبد الله بن سعد على ميمنة عمرو منذ توجه من قيسارية إلى أن فرغ من حربه، وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له: أبو ميامين، فلما بلغه قدوم عمرو إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة، وإنّ ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو. فيقال: إنّ القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا، ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى نزل القواصر، فسمع رجل من لخم نفرا من القبط يقول بعضهم لبعض: ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم، وإنما هم في قلة من الناس، فأجابه رجل منهم فقال: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلّا ظهروا عليه، حتى يقتلوا خيرهم، وتقدّم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوا من الشهر حتى فتح الله عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى أم دنين «1» ، فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمدّه فأمدّه بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف، وقيل: بل أمدّه باثني عشر ألفا، فوصلوا إليه أرسالا يتبع بعضهم بعضا. فكان فيهم أربعة آلاف عليهم أربعة: الزبير بن العوّام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد. وقيل: إنّ الرابع: خارجة بن حذافة دون مسلمة، ثم أحاط المسلمون بالحصن، وأميره يومئذ المندقور الذي يقال له: الأعيرج من قبل المقوقس بن قرقت اليونانيّ، وكان المقوقس ينزل الإسكندرية وهو في سلطان هرقل غير أنه كان حاضرا لحصن حين حاصره المسلمون، فقاتل عمرو بن العاص من بالحصن، وجاء رجل إلى عمرو فقال: اندب معي خيلا حتى آتي من دياراتهم عند القتال، فأخرج معه خمسمائة فارس عليهم: خارجة بن حذافة في قول، فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل قبل الصبح، وكانت الروم قد خندقوا خندقا، وجعلوا له أبوابا، وبنوا في أفنيتها حسك الحديد، فالتقى القوم حين أصبحوا، وخرج خارجة من ورائهم، فانهزموا حتى دخلوا الحصن، وكانوا قد خندقوا حوله، فنزل عمرو على الحصن، وقاتلهم قتالا شديدا يصبحهم ويمسيهم، وقيل: إنه لما أبطأ الفتح على عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب يستمدّه، ويعلمه بذلك، فأمدّه بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم مقام الألف الزبير بن العوّام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، وقيل: بل خارجة بن حذافة لا يعدّون مسلمة. وقال عمر: إعلم أنّ معك اثني عشر ألفا، ولا تغلب اثنا عشر ألفا من قلة. وقيل: قدم الزبير في اثني عشر ألفا، وإن عمرا لما قدم من الشام كان في عدّة قليلة،

فكان يفرّق أصحابه ليرى العدوّ أنهم أكثر مما هم، فلما انتهى إلى الخندق نادوه أن قد رأينا ما صنعت، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا، فلم يخطئوا برجل واحد، فأقام عمرو على ذلك أياما يغدو في السحر، فيصف أصحابه على أفواه الخندق عليهم السلاح، فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير بن العوام، أنه قدم في اثني عشر ألفا، فتلقاه عمرو، ثم أقبلا يسيران، ثم لم يلبث الزبير أن ركب، ثم طاف بالخندق، ثم فرّق الرجال حول الخندق، وألح عمرو على القصر، ووضع عليه المنجنيق، ودخل عمرو إلى صاحب الحصن، فتناظرا في شيء مما هم فيه، فقال عمرو: أخرج وأستشير أصحابي، وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مرّ به عمرو أن يلقي عليه صخرة فيقتله، فمرّ عمرو، وهو يريد الخروج برجل من العرب، فقال له: قد دخلت، فانظر كيف تخرج؟ فرجع عمرو إلى صاحب الحصن، فقال له: إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، فقال العلج في نفسه: قتل جماعة أحب إليّ من قتل واحد. وأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره به من قتل عمرو أن لا يتعرّض له، رجاء أن يأتيه بأصحابه، فيقتلهم، فخرج عمرو وعبادة بن الصامت في ناحية يصلي وفرسه عنده، فرآه قوم من الرّوم، فخرجوا إليه، وعليهم حلية وبزة، فلما دنوا منه سلّم من صلاته، ووثب على فرسه، ثم حمل عليهم، فلما رأوه ولّوا راجعين فأتبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم، ليشغلوه بذلك عن طلبهم، وهو لا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة، فرجع، ولم يتعرّض لشيء مما طرحوا من متاعهم حتى رجع إلى موضعه الذي كان به، فاستقبل الصلاة، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه، فلما أبطأ الفتح على عمرو قال الزبير: إني أهب الله نفسي، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلّما إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام، ثم صعد، فأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا، فما شعروا إلّا والزبير على رأس الحسن يكبر، ومعه السيف، وتحامل الناس على السلم، حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر، وكبر الزبير، فكبرت الناس معه، وأجابهم المسلمون من خارج، فلم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعا، فهربوا، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن، ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن، فخاف المقوقس على نفسه، ومن معه. فحينئذ سأل عمرو بن العاص الصلح، ودعاه إليه على أن يفرض للعرب على القبط دينارين على كل رجل منهم، فأجابه عمرو إلى ذلك وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر، قال: وقد سمعت في فتح القصر وجها آخر، هو أنّ المسلمين لما حصروا باب اليون كان به جماعة من الروم، وأكابر القبط ورؤسائهم، وعليهم المقوقس، فقاتلوهم شهرا، فلما رأى القوم الجدّ من العرب على فتحه والحرص، ورأوا من صبرهم على القتال، ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر

القبط، وخرجوا من باب القصر القبليّ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة، وأمروا بقطع الجسر، وذلك في جري النيل. ويقال: إنّ الأعيرج تخلف في الحصن بعد المقوقس، وقيل: خرج معهم، فلما خاف فتح الحصن ركب هو وأهل القوّة والشرف، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة، فأرسل المقوقس إلى عمرو: إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم، ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم، فلا ينفعنا الكلام، ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم، ورجائكم فابعثوا إلينا رجالا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضي نحن وهم به من شيء. فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس، حبسهم عنده يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل، ويستحلون ذلك في دينهم؟ وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين فردّ عليهم عمرو مع رسله، أنه ليس بيني وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال: إما أن دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا، وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين، فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم، فقال عند ذلك المقوقس: والذي يحلف به لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم، وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبوا بعد اليوم إذ أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم، فردّ إليهم المقوقس رسله: ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم، ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم. فبعث عمرو بن العاص: عشرة نفر، أحدهم: عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره أن يكون متكلم القوم، ولا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلّا إحدى هذه الثلاث خصال، فإن أمير المؤمنين قد تقدّم إليّ في ذلك، وأمرني أن لا أقبل شيئا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال، وكان عبادة أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه تقدّم

عبادة، فهابه المقوقس لسواده، وقال: نحوا عني هذا الأسود، وقدّموا غيره يكلمني، فقالوا جميعا: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا، والمقدّم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله، قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا: كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السواد فينا، فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود، وكلمني برفق، فإني أهاب سوادكم وإن اشتدّ كلامك عليّ ازددت لك هيبة، فتقدّم عليه عبادة، فقال: قد سمعت مقالتك، وإنّ فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشدّ سوادا مني وأفظع منظرا، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله، ما أهاب مائة رجل من عدوّي لو استقبلوني جميعا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله، وإتباع رضوانه، وليس غزونا عدوّنا ممن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلب للاستكثار منها إلا أنّ الله عز وجل، قد أحل لنا ذلك، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالي أحدنا إن كان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلا درهما، لأنّ غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعه لليلة «1» ونهاره وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله، واقتصر على هذا الذي بيده، ويبلغه ما كان في الدنيا لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلّا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، تكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوّه. فلما سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندي من منظره، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلها، ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت، فقال له: أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا، ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم، ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدّة ما يبالي أحدهم من لقي، ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم في ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم، وقلة ما بين أيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين،

ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام «1» لكم به. فقال عبادة بن الصامت: يا هذا لا تغرنّ نفسك، ولا أصحابك أمّا ما تخوّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوّفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقا، فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشدّ لحرصنا عليهم لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقرّ لأعيننا، ولا أحب لنا من ذلك، وإنا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، ولأنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجلّ قال لنا في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة/ 249] . وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وأن لا يردّه إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همّ فيمات خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربّه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا، وأما قولك: إنا في ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلها لنا، ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه، فانظر الذي تريد فيه فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك، ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبل «2» إلينا، إما إن أجبتم «3» إلى الإسلام الذي هو الدين القيم الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله تعالى أن نقاتل من خالفه، ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا، وعليه ما علينا، وكان أخانا في دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم، ولا التعرّض لكم، وإن أبيتم إلّا الجزية، فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وأن نعاملكم على شيء نرضى به نحن، وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا، وبقيتم ونقاتل عنكم من ناواكم، وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلّا المحاكمة بالسيف، حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم، هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم. فقال المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا ما تريدون إلّا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا.

فقال له عبادة: هو ذاك، فاختر لنفسك ما شئت. فقال المقوقس: أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الثلاث خصال؟ فرفع عبادة يديه إلى السماء فقال: لا ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، ورب كل شيء ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم. فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال: قد فرغ القوم، فما ترون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذل! أمّا ما أرادوا من دخولنا في دينهم، فهذا لا يكون أبدا أن نترك دين المسيح ابن مريم، وندخل في دين غيره لا نعرفه، وأمّا ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا، فالموت أيسر من ذلك لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا. فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى فراجع صاحبك على أن نعطيكم في مرّتكم هذه، ما تمنيتم وتنصرفون، فقال عبادة وأصحابه: لا، فقال المقوقس عند ذلك: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين، فقالوا: وأيّ خصلة تجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم، أمّا دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأمّا قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثالثة، قالوا: فنكون لهم عبيدا أبدا؟ قال: نعم تكونون عبيدا مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا من آخركم، وتكونوا عبيدا تباعوا، وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدا أنتم، وأهليكم وذراريكم، قالوا: فالموت أهون علينا، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط، وبالجزيرة وبالقصر من جمع القبط والروم كثير. فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم، وأمكن الله منهم، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من أسر وانجرّت السفن كلها إلى الجزيرة، وصار المسلمون يراقبونهم، وقد أحدق بهم الماء من كل وجه لا يقدرون على أن ينفذوا نحو الصعيد، ولا إلى غير ذلك من المدن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم «1» وأخافه عليكم! ما تنتظرون! فو الله لتجيبنهم إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منه كرها، فأطيعوني من قبل أن تندموا، فلما رأوا منهم ما رأوا، وقال لهم المقوقس ما قال، أذعنوا بالجزية ورضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه. وأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص: إني لم أزل حريصا على إجابتكم إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسلت إليّ بها، فأبى عليّ من حضرني من الروم والقبط، فلم يكن لي أن أفتات عليهم في أموالهم، وقد عرفوا نصحي لهم، وحبي صلاحهم، ورجعوا إلى قولي، فأعطني أمانا أجتمع أنا وأنت، أنا في نفر من أصحابي، وأنت في نفر من

أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك جميعا، وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنا عليه. فاستشار عمرو أصحابه في ذلك فقالوا: لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير الأرض كلها لنا فيئا وغنيمة، كما صار لنا القصر وما فيه، فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إليّ أمير المؤمنين في عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إليّ فيها أجبتهم إليها، وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا، وبين ما نريد من قتالهم فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض لهم على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران عن كل نفس شريفهم ووضيعهم، ممن بلغ منهم الحلم ليس على الشيخ الفاني، ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم، ولا على النساء شيء، وعلى أن للمسلمين عليهم لنزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأنّ لهم أرضهم وأموالهم لا تعرّض لهم في شيء منها، فشرط ذلك كله على القبط خاصة، وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة من بلغ منهم الجزية، وفرض عليهم الديناران، رفع ذلك عرفاؤهم بالإيمان المؤكدة، فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط فيما أحصوا، وكتبوا ورفعوا أكثر من ستة آلاف ألف «1» نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثني عشر ألف ألف «2» دينار في كل سنة. وقال ابن لهيعة عن يحيى بن ميمون الحضرميّ: لما فتح عمرو مصر صالح عن جميع من فيها من الرجال من القبط، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة، ولا شيخ ولا صبيّ، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف، قال: وشرط المقوقس للروم أن يخيروا، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا، أقام على ذلك لازما له مفترضا عليه ممن أقام بالإسكندرية، وما حولها من أرض مصر كلها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج، وعلى أن للمقوقس الخيار في الروم خاصة، حتى يكتب إلى ملك الروم، ويعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك، ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه، وكتبوا به كتابا، وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه بالأمر كله. فكتب إليه ملك الروم: يقبح رأيه، ويعجزه ويردّ عليه ما فعل، ويقول في كتابه: إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا، وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى، فإن كان القبط كرهوا القتال، وأحبوا أداء الجزية إلى العرب، واختاروهم علينا، فإن عندكم بمصر من الروم وبالإسكندرية، ومن معك أكثر من مائة ألف معهم العدّة والقوّة والعرب وحالهم،

وضعفهم على ما قد رأيت، فعجزت عن قتالهم، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم في حال القبط أذلاء فقاتلهم أنت ومن معك من الروم، حتى تموت أو تظهر عليهم، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم، وقوّتكم وعلى قدر قلتهم، وضعفهم كاكلة، ناهضهم القتال، ولا يكن لك رأي غير ذلك، وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم، فقال المقوقس لما أتاه كتاب ملك الروم: والله أعلم إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشدّ منا على قوّتنا، وكثرتنا إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة يقاتل الرجل منهم، وهو مستقبل يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده، ولا ولده ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوه منا، ويقولون أنهم إن قتلوا دخلوا الجنة، وليس لهم رغبة في الدنيا، ولا لذة إلّا قدر بلغة العيش من الطعام، واللباس، ونحن قوم نكره الموت، ونحب الحياة ولذتها، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء؟ وكيف صبرنا معهم، واعلموا معشر الروم، والله إني لا أخرج مما دخلت فيه، ولا صالحت العرب عليه، وإني لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولي ورأيي وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني، وذلك أني قد عاينت ورأيت، وعرفت ما لم يعاين الملك، ولم يره، ولم يعرفه أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا في دهره على نفسه، وماله وولده بدينارين في السنة. ثم أقبل المقوقس إلى عمرو، فقال له: إنّ الملك قد كره ما فعلت، وعجّزني وكتب إليّ وإلى جماعة الروم: أن لا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم، ولم أكن لأخرج عما دخلت فيه، وعاقدتك عليه، وإنما سلطاني على نفسي، ومن أطاعني وقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض، وأنا متمّ لك على نفسي، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاقدتهم، وأمّا الروم فأنا منهم بريء، وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال، لا تنقض بالقبط، وأدخلني معهم، وألزمني ما لزمهم، وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاقدتك عليه، فهم متمون لك على ما تحب، وأمّا الثانية إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم، فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا، فإنهم أهل ذلك لأني نصحتهم فاستغشوني، ونظرت لهم، فاتهموني وأما الثالثة: أطلب إليك إن أنا مت أن تأمرهم أن يدفنوني بجسر الإسكندرية، فأنعم له عمرو بذلك، وأجابه إلى ما طلب على أن يضمنوا له الجسرين جميعا، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة، والأسواق والجسور، ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية، ففعلوا. وصارت لهم القبط أعوانا كما جاء في الحديث. وقال ابن وهب في حديثه عن عبد الرحمن بن شريح: فسار عمرو بمن معه حتى نزل على الحصن، فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت، ويفتحوا له الحصن، ففعل ذلك ففرض عليهم عمرو لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين، وسألوه: أن يأذن لهم أن يهيئوا له ولأصحابه صنيعا، ففعل، وأمر عمرو أصحابه فتهيئوا ولبسوا البرود، ثم أقبلوا فلما فرغوا

ذكر ما قيل في مصر هل فتحت بصلح أو عنوة؟

من طعامهم سألهم عمرو: كم أنفقتم؟ قالوا: عشرين ألف دينار، قال عمرو: لا حاجة لنا بصنيعكم بعد اليوم أدّوا إلينا عشرين ألف دينار، فجاءه النفر من القبط، فاستأذنوه إلى قراهم وأهليهم، فقال لهم عمرو: كيف رأيتم أمرنا؟ قالوا: لم نر إلّا حسنا، فقال الرجل الذي قال في المرّة الأولى: إنكم لن تزالوا تظهرون على كل من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا، فغضب عمرو، وأمر به فطلب إليه أصحابه، وأخبروه أنه لا يدري ما يقول، حتى خلصوه. فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسل في طلب ذلك القبطيّ، فوجدوه قد هلك، فعجب عمرو من قوله ويقال: إنّ عمرو بن العاص قال: فلما طعن عمر بن الخطاب، قلت هو ما قال القبطيّ، فلما حدّثت أنه إنما قتله أبو لؤلؤة رجل نصرانيّ قلت: لم يعن هذا إنما عنى من قتله المسلمون، فلما قتل عثمان عرفت أن ما قال الرجل حق، فلما فرغ القبط من صنيعهم، أمر عمرو بن العاص بطعام، فصنع لهم وأمرهم أن يحضروا لذلك، فصنع لهم الثريد والعراق، وأمر أصحابه بلباس الأكسية، واشتمال الصمّاء والقعود على الركب، فلما حضرت الروم، وضعوا كراسي الديباج، فجلسوا عليها، وجلست العرب إلى جوانبهم، فجعل الرجل من العرب يلتقم اللقمة العظيمة من الثريد، وينهش من ذلك اللحم، فيتطاير على من إلى جنبه من الروم، فبشعت الروم ذلك، وقالت: أين أولئك الذين كانوا أتونا قبل؟ فقيل لهم: أولئك أصحاب المشورة، وهؤلاء أصحاب الحرب. وقال الكنديّ: وذكر يزيد بن أبي حبيب: أنّ عدد الجيش الذين كانوا مع عمرو بن العاص خمسة عشر ألفا وخمسمائة، وذكر عبد الرحمن بن سعيد بن مقلاص: أنّ الذي جرت سهمانهم في الحصن من المسلمين اثنا عشر ألفا وثلثمائة بعد من أصيب منهم في الحصار بالقتل والموت، ويقال: إنّ الذين قتلوا في هذا الحصار من المسلمين دفنوا في أصل الحصن. وذكر القضاعيّ: أنّ مصر فتحت يوم الجمعة مستهلّ المحرّم سنة عشرين، وقيل: فتحت سنة ست عشرة، وهو قول الواقديّ، وقيل: فتحت والإسكندرية سنة خمس وعشرين، والأكثر على أنها فتحت قبل عام الرّمادة، وكانت الرّمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأول ثمان عشرة. ذكر ما قيل في مصر هل فتحت بصلح أو عنوة؟ وقد اختلف في فتح مصر، فقال قوم: فتحت صلحا، وقال آخرون: إنما فتحت عنوة، فأمّا الذين قالوا كان فتح مصر بصلح، فإنّ حسين بن شفي قال: لما فتح عمرو بن

العاص الإسكندرية بقي من الأسارى بها ممن بلغ الخراج، وأحصي يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان، فاختلف الناس على عمرو في قسمهم، فكان أكثر المسلمين يريد قسمها، فقال عمرو: لا أقدر على قسمها، حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها، وأنّ المسلمين طلبوا قسمها، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين، وقوّة لهم على جهاد عدوّهم، فأقرّها عمرو، وأحصى أهلها، وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر كلها صلحا بفريضة: دينارين دينارين، إلّا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلّا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم، لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد، ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة. وقال الليث عن يزيد بن أبي حبيب: مصر كلها صلح إلّا الإسكندرية فإنها فتحت عنوة. وقال عبد الله بن أبي جعفر: حدّثني رجل ممن أدرك عمرو بن العاص قال: للقبط عهد عند فلان، وعهد عن فلان، فسمي ثلاثة نفر، وفي رواية: إنّ عهد أهل مصر كان عند كبرائهم، وفي رواية: سألت شيخا من القدماء عن فتح مصر، قلت له: فإن ناسا يذكرون أنه لم يكن لهم عهد، فقال: ما يبالي أن لا يصلي من قال: إنه ليس لهم عهد، فقلت: فهل كان لهم كتاب؟ فقال: نعم، كتب ثلاثة: كتاب عند ظلما صاحب إخنا، وكتاب عند قرمان صاحب رشيد، وكتاب عند بحنس صاحب البرلس؛ قلت: كيف كان صلحهم؟ قال: دينارين على كل إنسان جزية، وأرزاق المسلمين، قلت: فتعلم ما كان من الشروط؟ قال: نعم، ستة شروط: لا يخرجون من ديارهم، ولا تنزع نساؤهم، ولا كفورهم، ولا أراضيهم، ولا يزاد عليهم. وقال يزيد بن أبي حبيب عن أبي جمعة مولى عقبة قال: كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: يسأله أرضا يسترفق بها عند قرية عقبة، فكتب له معاوية: بألف ذراع في ألف ذراع، فقال له مولى له كان عنده: انظر أصلحك الله أرضا صالحة، فقال له عقبة: ليس لنا ذلك إنّ في عهدهم شروطا ستة لا يؤخذ من أنفسهم شيء، ولا من نسائهم، ولا من أولادهم، ولا يزاد عليهم، ويدفع عنهم موضع الخوف من عدوّهم، وأنا شاهد لهم بذلك. وعن يزيد بن أبي حبيب عن عوف بن حطان: أنه كان لقريات من مصر منهنّ: أم دنين وبلهيت عهد، وإنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع بذلك، كتب إلى عمرو يأمره أن يخبرهم، فإن دخلوا في الإسلام فذاك، وإن كرهوا فارددهم إلى قراهم، وقال يحيى بن أيوب وخالد بن حميد: ففتح الله أرض مصر كلها بصلح غير الإسكندرية، وثلاث

قريات ظاهرت الروم على المسلمين سلطيس «1» ومصيل «2» وبلهيت «3» ، فإنه كان للروم جمع، فظاهروا الروم على المسلمين، فلما ظهر عليها المسلمون استحلوها، وقالوا: هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية، فكتب عمرو بن العاص بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: أن يجعل الإسكندرية، وهؤلاء الثلاث قريات ذمّة للمسلمين، ويضربون عليهم الخراج، ويكون خراجهم، وما صالح عليه القبط كله قوّة للمسلمين لا يجعلون فيئا، ولا عبيدا، ففعلوا ذلك إلى اليوم. وقال آخرون: بل فتحت مصر عنوة بلا عهد، ولا عقد. قال سفيان بن وهب الخولانيّ: لما افتتحنا مصر بغير عهد، ولا عقد، قام الزبير بن العوّام فقال: اقسمها يا عمرو بن العاص، فقال عمرو: والله لا أقسمها، فقال الزبير: والله لنقسمنها، كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبر، فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: أقرّها حتى يغزو منها حبل الحبلة، وصولح الزبير على شيء أرضي به، وقال ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة: إنّ مصر فتحت عنوة، وعن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال: سمعت أشياخنا يقولون: إنّ مصر فتحت عنوة بغير عهد، ولا عقد منهم، أبي يحدّثنا عن أبيه، وكان فيمن شهد فتح مصر، وعن أبي الأسود عن عروة: إنّ مصر فتحت عنوة، وعن عمرو بن العاص أنه قال: لقد قعدت مقعدي هذا، وما لأحد من قبط مصر عليّ عهد، ولا عقد إلّا أهل أنطابلس «4» كان لهم عهد يوفي به إن شئت قبلت، وإن شئت خمست، وإن شئت بعت. وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أنّ عمرو بن العاص فتح مصر بغير عهد، ولا عقد، وأنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبس درها وضرعها أن يخرج منه شيء نظرا للإسلام وأهله. وعن يزيد بن أسلم قال: كان تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد، فمن أسلم منهم أقامه ومن أقام منهم قوّمه، وكتب حيان بن شريح إلى عمر بن عبد العزيز يسأله أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم، فسأل عمر عراك بن مالك، فقال عراك: ما سمعت لهم بعهد ولا عقد، وإنما أخذوا عنوة بمنزلة العبيد، فكتب عمر إلى حيّان: أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم، وقال يحيى بن عبد الله بن بكير: خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية في سفينة، فاحتاج إلى رجل يجذف، فسخر رجلا من القبط، فكلم في

ذكر من شهد فتح مصر من الصحابة رضي الله عنهم

ذلك، فقال: إنما هم بمنزلة العبيد إن احتجنا إليهم. وقال ابن لهيعة عن الصلت بن أبي عاصم: إنه قرأ كتاب عمر بن عبد العزيز إلى حيان بن شريح: أنّ مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد. وعن عبيد الله بن أبي جعفر: أن كاتب حيان حدّثه: أنه احتيج إلى خشب لصناعة الجزيرة، فكتب حيان إلى عمر بن عبد العزيز يذكر ذلك له، وأنه وجد خشبا عند بعض أهل الذمّة، وأنه كره أن يأخذها منهم حتى يعلمه، فكتب إليه عمر: خذها منهم بقيمة عدل، فإني لم أجد لأهل مصر عهدا أفي لهم به، وقال عمر بن عبد العزيز لسالم: أنت تقول ليس لأهل مصر عهد؟ قال: نعم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: أنّ عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب في رهبان يترهبون بمصر، فيموت أحدهم، وليس له وارث، فكتب إليه عمر: أن من كان منهم له عقب، فادفع ميراثه إلى عقبه، فإن لم يكن له عقب، فاجعل ماله في بيت مال المسلمين، فإن ولاءه للمسلمين. وقال ابن شهاب: كان فتح مصر بعضها بعهد وذمّة، وبعضها عنوة، فجعلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه جميعها ذمّة، وحملهم على ذلك، فمضى ذلك فيهم إلى اليوم، واشترى الليث بن سعد شيئا من أرض مصر لأنه كان يحدّث عن يزيد بن أبي حبيب: أن مصر صلح، وكان مالك بن أنس ينكر على الليث ذلك، وأنكر عليه أيضا عبد الله بن لهيعة، ونافع بن يزيد لأنّ مصر عندهم كانت عنوة. ذكر من شهد فتح مصر من الصحابة رضي الله عنهم قال ابن عبد الحكم: وكان من حفظ من الذين شهدوا فتح مصر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش وغيرهم، وممن لم يكن له برسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحبة الزبير بن العوّام، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وكان أمير القوم، وعبد الله بن عمرو، وخارجة ابن حذاقة العدويّ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وقيس بن أبي العاص السهميّ، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن أبي سعد بن أبي سرح العامري، ونافع بن عبد قيس الفهريّ، ويقال: بل هو عقبة بن نافع، وأبو عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهريّ، وأبو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وابن عبدة، وابن عبد الرحمن وربيعة ابنا شرحبيل بن حسنة، ووردان مولى عمرو بن العاص، وكان حامل لواء عمرو بن العاص وقد اختلف في سعد بن أبي وقاص، فقيل: إنما دخلها بعد الفتح، وشهد الفتح من الأنصار عبادة بن الصامت، وقد شهد بدرا وبيعة العقبة، ومحمد بن مسلمة الأنصاريّ، وقد شهد بدرا وهو الذي بعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مصر، فقاسم عمرو بن العاص ماله، وهو أحد من كان صعد الحصن مع الزبير بن العوّام، ومسلمة بن مخلد الأنصاريّ، يقال له: صحبة، وأبو أيوب خالد بن زيد الأنصاريّ، وأبو الدرداء عويمر بن عامر، وقيل: عويمر بن زيد، ومن أحياء

ذكر السبب في تسمية مدينة مصر بالفسطاط

القبائل أبو نصرة جميل بن نصرة الغفاريّ، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاريّ، وشهد الفتح مع عمرو بن العاص: هبيب بن معقل، وإليه ينسب وادي هبيب الذي بالمغرب، وعبد الله ابن الحارث ابن جزء الزبيديّ، وكعب بن ضبة العبسيّ، ويقال: كعب بن يسار بن ضبة، وعقبة بن عامر الجهنيّ، وهو كان رسول عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص حين كتب إليه يأمره أن يرجع إلى لم يكن دخل أرض مصر، وأبو زمعة البلويّ وبرح بن حسكل «1» ويقال: برح بن عسكر. وشهد فتح مصر واختط بها، وجنادة بن أبي أمية الأزديّ، وسفيان بن وهب الخولانيّ، وله صحبة، ومعاوية بن خديج الكنديّ، وهو كان رسول عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية، وقد اختلف فيه، فقال قوم: له صحبة، وقال آخرون: ليست له صحبة، وعامر مولى حمل الذي يقال له: عامر حمل شهد الفتح، وهو مملوك، وعمار بن يسار، ولكن دخل بعد الفتح في أيام عثمان وجهه إليها في بعض أموره. وقال ابن عبد الحكم: منهم من اختط بالبلد، فذكرنا خطته، ومنهم من لم يذكر له خطة، قال: فاختط عمرو بن العاص داره التي عند باب المسجد بينهما الطريق، وداره الأخرى اللاصقة إلى جنبها، وفيها دفن عبد الله بن عمرو، فيما زعم بعض مشايخ البلد لحدث كان يومئذ في البلد، والحمام الذي يقال له حمام الفار، وإنما قيل له: حمام الفار لأنّ حمامات الروم كانت ديماسات كبارا، فلما نبي هذا الحمام، ورأوا صغره قالوا: من يدخل هذا؟ هذا حمام الفار. ذكر السبب في تسمية مدينة مصر بالفسطاط قال ابن عبد الحكم عن يزد بن أبي حبيب: أنّ عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية، ورأى بيوتها، وبناءها مفروغا منها، همّ أن يسكنها، وقال: مساكن قد كفيناها، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذنه في ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إذا جرى النيل، فكتب عمر إلى عمرو: إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف، فتحوّل عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط، قال: وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص، وهو نازل بمدائن كسرى، وإلى عامله بالبصرة، وإلى عمرو بن العاص، وهو نازل بالإسكندرية: أن لا تجعلوا بيني وبينكم ماء متى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت، فتحوّل سعد من مدائن كسرى إلى الكوفة، وتحوّل صاحب البصرة من المكان الذي كان فيه، فنزل البصرة، وتحوّل عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط.

ذكر الخطط التي كانت بمدينة الفسطاط

قال: وإنما سميت الفسطاط لأنّ عمرو بن العاص لما أراد التوجه إلى الإسكندرية لقتال من بها من الروم، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه يمام قد فرّخ، فقال عمرو: لقد تحرّم منا بمتحرّم، فأمر به فأقرّ كما هو، وأوصى به صاحب القصر، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط، لفسطاط عمرو الذي كان خلفه، وكان مضروبا في موضع الدار التي تعرف اليوم بدار الحصار عند دار عمرو الصغيرة. قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ: كان فسطاط عمرو عند درب حمام شمول بخط الجامع، وقال ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث في حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «عليكم بالجماعة فإنّ يد الله على الفسطاط» يرويه سويد بن عبد العزيز عن النعمان بن المنذر عن مكحول عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والفسطاط: المدينة، وكل مدينة: فسطاط، ولذلك قيل لمصر: فسطاط. وقال البكريّ: الفسطاط بضم أوّله وكسره وإسكان ثانيه: اسم لمصر، ويقال: فسطاط وبسطاط. قال المطرّزي: وفصطاد، وفستاد، وبكسر أوائل جميعها، فهي عشر لغات. وقال ابن قتيبة: كل مدينة فسطاط، وذكر حديث: عليكم بالجماعة، فإنّ يد الله على الفسطاط، وأخبرني أبو حاتم عن الأصمعيّ أنه قال: حدّثني رجل من بني تميم قال: قرأت في كتاب رجل من قريش: هذا ما اشترى فلان بن فلان من عجلان مولى زياد، اشترى منه خمسمائة جريب «1» حيال الفسطاط، يريد البصرة، ومنه قول الشعبيّ في الآبق إذا أخذ في الفسطاط عشرة، وإذا أخذ خارجا عن الفسطاط أربعون، وأراد أن يد الله على أهل الأمصار وأنّ من شذ عنهم، وفارقهم في الرأي فقد خرج عن يد الله، وفي ذلك آثار، والله أعلم. ذكر الخطط التي كانت بمدينة الفسطاط اعلم: أنّ الخطط التي كانت بمدينة فسطاط مصر، بمنزلة الحارات التي هي اليوم بالقاهرة، فقيل لتلك في مصر: خطة، وقيل لها في القاهرة: حارة. قال القضاعيّ: ولما رجع عمرو من الإسكندرية، ونزل موضع فسطاطه، انضمت القبائل بعضها إلى بعض، وتنافسوا في المواضع، فولى عمرو على الخطط: معاوية بن خديج التجيبيّ، وشريك بن سميّ الغطيفيّ، وعمرو بن قحزم الخولانيّ، وحيويل بن ناشزة المغافريّ، وكانوا هم الذين أنزلوا الناس، وفصلوا بين القبائل، وذلك في سنة إحدى وعشرين.

خطة أهل الراية: أهل الراية جماعة من قريش، والأنصار وخزاعة، وأسلم، وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة، وثقيف، ودوس، وعبس بن بغيض، وحرش من بني كنانة، وليث بن بكر، والعتقاء منهم إلا أنّ منزل العتقاء في غير الراية، وإنما سموا أهل الراية، ونسبت الخطة إليهم لأنهم جماعة لم يكن لكل بطن منهم من العدد ما ينفرد بدعوة من الديوان، فكره كل بطن منهم أن يدعى باسم قبيلة غير قبيلته، فجعل لهم عمرو بن العاص راية، ولم ينسبها إلى أحد فقال: يكون موقفكم تحتها، فكانت لهم كالنسب الجامع، وكان ديوانهم عليها، وكان اجتماع هذه القبائل لما عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الولاية بينهم، وهذه الخطة محيطة بالجامع من جميع جوانبه، ابتدأوا من المصف الذي كانوا عليه في حصارهم الحصن، وهو باب الحصن الذي يقال له: باب الشمع، ثم مضوا بخطتهم إلى حمام الفار، وشرعوا بغربيها إلى النيل، فإذا بلغت إلى النحاسين، فالجانبان لأهل الراية إلى باب المسجد الجامع المعروف: بباب الوراقين، ثم يسلك على حمام شمول، وفي هذه الخطة زقاق القناديل إلى تربة عفان إلى سوق الحمام إلى باب القصر الذي بدأنا بذكره. خطة مهرة: بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير: وخطة مهرة هذه قبليّ خطة الراية، واختطت مهرة أيضا على سفح الجبل الذي يقال له: جبل يشكر مما يلي الخندق إلى شرقيّ العسكر إلى جنان بني مسكين، ومن جملة خطة مهرة الموضع الذي يعرف اليوم بمساطب الطباخ، واسمه حمد، ويقال: إنّ الخطة التي لهم قبليّ الراية كانت حوزا لهم يربطون فيها خيلهم إذا رجعوا إلى الجمعة، ثم انقطعوا إليها، وتركوا منازلهم بيشكر. خطة تجيب: وتجيب هم بنو عديّ، وسعد ابني الأشرس بن شبيب بن السكن بن الأشرس بن كندة، فمن كان من ولد عديّ، وسعد يقال لهم: تجيب، وتجيب: أمّهم، وهذه الخطة تلي خطة مهرة، وفيها درب الممصوصة آخره حائط من الحصن الشرقيّ. وخطط لخم في موضعين: فمنها خطة لخم بن عديّ بن مرّة بن أدد، ومن خالطها من جذام، فابتدأت لخم بخطتها من الذي انتهت إليه خطة الراية وأصعدت ذات الشمال، وفي هذه الخطة سوق بربر، وشارعه مختلط فيما بين لخم، والراية ولهم خطتان أخريان، إحداهما منسوبة إلى بني رية بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة من لخم، وأوّلها شرقيّ الكنيسة المعروفة: بمكائيل التي عند خليج بني وائل، وهذا الموضع اليوم وراقات يعمل فيها الورق بالقرب من باب القنطرة خارج مصر، والخطة الثانية: خطة راشدة بن أدب بن جزيلة من لخم، وهي متاخمة للخطة التي قبلها، وفي هذه الخطة جامع راشدة، وجنان كهمس بن معمر الذي عرف: بالمادرانيّ، ثم عرف بجنان الأمير تميم، وهو اليوم يقال له: المعشوق بجوار الآثار النبوية، ولهم مواضع مع اللفيف، وخطط أيضا بالحمراء.

خطط اللفيف: إنما سموا بذلك لالتفات بعضهم ببعض، وسبب ذلك: أنّ عمرو بن العاص، لما فتح الإسكندرية أخبر أنّ مراكب الروم قد توجهت إلى الإسكندرية لقتال المسلمين، فبعث عمرو بعمرو بن جمالة الأزديّ الحجريّ ليأتيه بالخبر، فمضى وأسرعت هذه القبائل التي تدعى اللفيف، وتعاقدوا على اللحاق به، واستأذنوا عمرو بن العاص في ذلك، فأذن لهم وهم جمع كثير، فلما رآهم عمرو بن جمالة استكثرهم، وقال: تالله ما رأيت قوما قد سدّوا الأفق مثلكم، وإنكم كما قال الله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء/ 104] فبذلك سموا من يومئذ اللفيف، وسألوا عمرو بن العاص: أن يفرد لهم دعوة فامتنعت عشائرهم من ذلك، فقالوا لعمرو: فإنا نجتمع في المنزل حيث كنا، فأجابهم إلى ذلك، فكانوا مجتمعين في المنزل متفرّقين في الديوان إذا دعي كل بطن منهم، انضم إلى بني أبيه. قال قتادة ومجاهد والضحاك بن مزاحم في قوله: جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء/ 104] قال: جميعا، وكان عامتهم من الأزد من الحجر، ومن غسان، ومن شجاعة، والتف بهم نفر من جذام ولخم والزحاف، وتنوخ من قضاعة، فهم مجتمعون في المنزل متفرّقون في الديوان، وهذه الخطة أوّلها مما يلي الراية سالكا ذات الشمال إلى نقاشي البلاط، وفيها دار ابن عشرات إلى نحو من سوق وردان. خطط أهل الظاهر: إنما سمي هذا المنزل بالظاهر، لأنّ القبائل التي نزلته كانت بالإسكندرية، ثم قفلت بعد قفول عمرو بن العاص، وبعد أن اختط الناس خططهم، فخاصمت إلى عمرو، فقال لهم معاوية بن خديج: وكان ممن يتولى الخطط يومئذ أرى لكم أن تظهروا على أهل هذه القبائل، فتتخذوا منزلا فسمي الظاهر بذلك، وكانت القبائل التي نزلت الظاهر العتقاء، وهم جماع من القبائل، كانوا يقطعون على أيام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبعث إليهم، فأتى بهم أسرى، فأعتقهم، فقيل لهم: العتقاء، وديوانهم مع أهل الراية، وخطتهم بالظاهر متوسطة فيه، وكان فيهم طوائف من الأزد وفهم، وأوّل هذه الخطة من شرقيّ خطة لخم، وتتصل بموضع العسكر، ومن هذه الخطة سويقة العراقيين، وعرفت بذلك ونّ زيادا لما ولاه معاوية بن أبي سفيان البصرة، غرّب جماعة من الأزد إلى مصر، وبها مسلمة بن مخلد في سنة ثلاث وخمسين، فنزل منهم هنا نحو من مائة وثلاثين، فقيل لموضعهم من خطة الظاهر: سويقة العراقيين. خطط غافق: هو غافق بن الحارث بن عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، وهذه الخطة تلي خطة لخم إلى خطة الظاهر، بجوار درب الأعلام. خطط الصدف: واسمه مالك بن سهل بن عمرو بن قيس بن حمير، ودعوتهم مع كندة.

خطط الفارسيين: واستبدّ بخطة خولان من حضر فتح مصر من الفارسيين، وهم بقايا جند باذان عامل كسرى على اليمن قبل الإسلام، أسلموا بالشأم، ورغبوا في الجهاد، فنفروا مع عمرو بن العاص إلى مصر، فاختطوا بها، وأخذوا في سفح الجبل الذي يقال له: جبل باب البون، وهذا الجبل اليوم شرقيّ من وراء خطة جامع ابن طولون تعرف أرضه بالأرض الصفراء، وهي من جملة العسكر. خطة مذحج: بالحاء قبل الجيم، وهو مالك بن مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان. خطة غطيف: بن مراد. خطة وعلان: بن قرن بن ناجية بن مراد، وكلهم من مذحج، فاختطت وعلان من الزقاق الذي فيه الصنم المعروف بسرية فرعون، وهذا الزقاق أوّله باب السوق الكبير، واختطت أيضا بجولان، ثم انفردت وعلان بخططها مقابل المسجد المعروف: بالدينوريّ، وأسندت إلى خولان، وهذه الخطة اليوم: كيمان تطلّ على قبر القاضي بكار. خطة يحصب: بن مالك بن أسلم بن زيد بن غوث، وهذه الخطة موضعها: كيمان، وهي تتصل بالشرف الذي يعرف اليوم: بالرصد المطلّ على راشدة. خطة رعين: بن زيد بن سهل. خطة ذي الكلاع: بن شرحبيل بن سعد من حمير. خطة المغافر: بن يعفر بن مرّة بن أدد، وهذه الخطة من الرصد إلى قاية بن طولون، وهي القناطر التي تطلّ على عفصة، وتفصل بين القرافتين والقناطر للمغافر، ولهم إلى مصلى خولان، وإلى الكوم المشرف على المصلى. خطة سبا وخطة الرحبة: بن زرعة بن كعب. خطة السلف بن سعد: فيما بين الكوم المطلّ على القاضي بكار، وبين المغافر. خطة بني وائل: بن زيد مناة بن أفصى بن إياس بن حرام بن جذام بن عديّ، وهي من سفح الشرف المعروف بالرصد إلى خطة الجولان. خطة القبض: بالتحريك، بن مرثد، وهي بجانب خطة بني وائل إلى نحو بركة الحبش، قال: وكان سبب نزول بني وائل، والقبض ورية وراشدة والفارسيين هذه المواضع أنهم كانوا في طوالع عمرو بن العاص، فنزلوا في مقدّمة الناس، وحازوا هذه المواضع قبل الفتح. خطط الحمراوات الثلاث: قال الكنديّ: وكانت الحمراء على ثلاثة: بنو نبه وروبيل

والأزرق، وكانوا ممن سار مع عمرو بن العاص من الشام إلى مصر من عجم الشأم ممن كان رغب في الإسلام من قبل اليرموك، ومن أهل قيسارية وغيرهم. قال القضاعيّ: وإنما قيل الحمراء لنزول الروم بها، وهط خطط بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وفهم وعدوان، وبعض الأزد وهم ثراد، وبني بحر، وبني سلامان ويشكر بن لخم وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وبني نبه، وبني الأزرق، وهم من الروم، وبني روبيل، وكان يهوديا، فأسلم. فأوّل ذلك الحمراء الدنيا خطة بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ومنها خطة ثراد من الأزد، وخطة فهم بن عمرو بن قيس عيلان، ومنها خطة بني بحر بن سوادة من الأزد. ومن ذلك الحمراء الوسطى: منها خطة بني نبه، وهم قوم من الروم حضر الفتح منهم مائة رجل، ومنها خطة هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، ومنها خطة بني سلامان من الأزد، ومنها خطة عدوان. ومن ذلك الحمراء القصوى، وهي خطة بني الأزرق، وكان روميا حضر الفتح منهم أربعمائة، وخطة بني روبيل، وكان يهوديا فأسلم، وحضر الفتح منهم ألف رجل، وخطة بني يشكر بن جزيلة بن لخم وكانت منازل يشكر مفرّقة في الجبل، فدثرت قديما، وعادت صحراء حتى جاءت المسودّة، يعني جيوش بني العباس، فعمروها، وهي الآن خراب. وقال ابن المتوّج: الحمراوات ثلاث: أولى، ووسطى، وقصوى. فأمّا الأولى: فتجمع جابر الأور، وعقبة العدّاسين، وسوق وردان، وخطة الزبير إلى نقاشي البلاط طولا وعرضا على قدر ذلك، وأمّا الوسطى: فمن درب نقاشي البلاط إلى درب معاني طولا وعرضا على قدره، وأمّا القصوى فمن درب معاني إلى القناطر الظاهرية يعني قناطر السباع، وهي حدّ ولاية مصر من القاهرة، وكانت هذه الحمراوات جلّ عمارة مصر في زمن الروم، فإذا الحمراء الأولى والوسطى هما الآن خراب، وموضعهما فيما بين سوق المعاريج، وحمام طن من شرقيهما إلى ما يقابل المراغة في الشرق، وأما الحمراء الدنيا فهي الآن تعرف بخط قناطر السباع، وبخط السبع سقايات، وبحكر الخليليّ، وحكر أقبغا والكوم، حيث الأسرى ومنها أيضا خط الكبش، وخط الجامع الطولونيّ والعسكر، ومنها حدرة ابن قميحة إلى حيث قنطرة السدّ، وبستان الطواشي، وما في شرقيه إلى مشهد الرأس المعروف بزين العابدين، وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند ذكر العسكر، وكانت مدينة الفسطاط على قسمين هما: عمل فوق، وعمل أسفل. فعمل فوق له طرفان غربيّ وشرقيّ، فالغربيّ من شاطىء النيل في الجهة القبلية، وأنت مار في الشرف المعروف اليوم بالرصد إلى القرافة الكبرى، والشرقيّ من القرافة الكبرى إلى العسكر، وعمل أسفل ما عدا ذلك إلى حدّ القاهرة.

ذكر أمراء الفسطاط من حين فتحت مصر إلى أن بني العسكر

ذكر أمراء الفسطاط من حين فتحت مصر إلى أن بني العسكر اعلم: أنّ عدّة من ولي مصر من الأمراء في الإسلام منذ فتحت، وسكن الفسطاط إلى أن بني العسكر تسعة وعشرون أميرا في مدّة مائة وثلاث عشرة سنة وسبعة أشهر، أوّلها يوم الجمعة مستهل المحرّم سنة عشرين من الهجرة النبوية، وهو يوم فتح مصر، وآخرها سلخ شهر رجب سنة ثلاث ومائة آخر ولاية صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس على مصر، وأوّل ولاية أبي عون عبد الملك، وهو أوّل من سكن العسكر من أمراء مصر. وأوّل أمراء الفسطاط بعد الفتح على ما ذكر الكنديّ وغيره: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك: أبو عبد الله، كان تاجرا في الجاهلية، وكان يختلف بتجارته إلى مصر، وهي الأدم والعطر، ثم ضرب الدهر ضرباته حتى فتح المسلمون الشأم، فخلا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستأذنه في المسير إلى مصر، فسار في سنة تسع عشرة، وأتى الحصن، فحاصره سبعة أشهر إلى أن فتحه في يوم الجمعة مستهل المحرّم سنة عشرين، وقيل: كان فتح مصر في ثاني عشر بؤنة سنة سبع وخمسين وثلثمائة لدقلطيانوس، فعلى هذا يكون فتح مصر في سنة تسع عشرة من الهجرة، وتحرير ذلك أن الذي بين يوم الجمعة أوّل يوم من ملك دقلطيانوس، وبين يوم الخميس أوّل سنة الهجرة ثمان وثلاثون وثلثمائة سنة فارسية، وتسعة وثلاثون يوما، فإذا ألغينا ذلك من تاريخ مصر في ثاني عشر بؤنة سنة سبع وخمسين وثلثمائة بقي ثمان عشر سنة، وثمانية أشهر وثلاثة أيام، وهذه سنون شمسية عنها من سني القمر تسع عشر سنة وشهر وثلاثة عشر يوما، فيكون ذلك في ثالث عشر ربيع الأوّل سنة عشرين، فلعل الوهم وقع في الشهر القبطيّ، وحاز الحصن بما فيه، وسار إلى الإسكندرية في ربيع الأوّل منها، فحاصرها ثلاثة أشهر، ثم فتحها عنوة، وهو الفتح الأوّل، ويقال: بل فتحها مستهل سنة إحدى وعشرين، ثم سار عنها إلى برقة، فافتتحها عنوة في سنة اثنتين وعشرين، وقيل: في سنة ثلاث وعشرين، وقدم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدمتين استخلف في إحداهما زكريا بن جهم العبدريّ، وفي الثانية ابنه عبد الله، وتوفي عمر رضي الله عنه في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وبويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فوفد عليه عمرو، وسأله عزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن صعيد مصر، وكان عمر ولاه الصعيد، فامتنع من ذلك عثمان، وعقد لعبد الله بن سعد على مصر كلها، فكانت ولاية عمرو على مصر: صلاتها وخراجها، منذ افتتحها إلى أن صرف عنها أربع سنين وأشهرا.

عبد الله بن سعد «1» بن أبي سرح، واسمه الحسام بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ، ولي من قبل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فجاءه الكتاب بالفيوم، فجعل لأهل أطواف جعلا فقدموا به الفسطاط، ثم إن منويل الخصيّ سار إلى الإسكندرية في سنة أربع وعشرين، فسأل أهل مصر: عثمان أن يردّ عمرو بن العاص لمحاربته، فردّه واليا على الإسكندرية، فحارب الروم بها حتى افتتحها، وعبد الله بن سعد مقيم بالفسطاط، حتى فتحت الإسكندرية الفتح الثاني عنوة في سنة خمس وعشرين، ثم جمع لعبد الله بن سعد أمير مصر صلاتها وخراجها، ومكث أميرا مدّة ولاية عثمان رضي الله عنه كلها، محمودا في ولايته، وغزا ثلاث غزوات كلها لها شأن، غزا إفريقية سنة سبع وعشرين، وقتل ملكها جرجير، وغزا غزوة الأساود حتى بلغ دنقلة في سنة إحدى وثلاثين، وغزا ذا الصواري في سنة أربع وثلاثين، فلقيهم قسطنطين بن هرقل في ألف مركب، وقيل: في سبعمائة مركب والمسلمون في مائتي مركب، فهزم الله الروم، وإنما سميت غزوة ذي الصواري لكثرة صواري المراكب، واجتماعها، ووفد على عثمان حين تكلم الناس بالطعن على عثمان، واستخلف عقبة بن عامر الجهنيّ، وقيل: السائب بن هشام العامريّ، وجعل على خراجها سليمان بن عتر التجيبي، وكان ذلك سنة خمس وثلاثين في رجب. محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. أمّر في شوال سنة خمس وثلاثين على عقبة بن عامر خليفة عبد الله بن سعد، فأخرجه من الفسطاط، ودعا إلى خلع عثمان، وأسعر البلاد، وحرّض على عثمان بكل شرّ يقدر عليه، فاعتزله شيعة عثمان، ونابذوه، وهم: معاوية بن خديج، وخارجة بن حذافة، وبسر بن أرطأة، ومسلمة بن مخلد في جمع كثير، وبعثوا إلى عثمان بأمرهم، وبصنيع ابن أبي حذيفة، فبعث سعد بن أبي وقاص: ليصلح أمرهم، فخرج إليه جماعة، فقلبوا عليه فسطاطه، وشجوه وسبوه، فركب وعاد راجعا، ودعا عليهم، وأقبل عبد الله بن سعد، فمنعوه أن يدخل، فانصرف إلى عسقلان، وقتل عثمان رضي الله عنه، وابن سعد بعسقلان، ثم أجمع ابن أبي حذيفة على بعث جيش إلى عثمان، فجهز إليه ستمائة رجل عليهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ، ثم قتل عثمان في ذي الحجة منها، فثار شيعة عثمان بمصر، وعقدوا لمعاوية بن خديج «2» ، وبايعوه على الطلب بدم عثمان، وساروا إلى الصعيد، فبعث إليهم ابن أبي حذيفة خيلا، فهزمت، ومضى ابن خديج إلى برقة، ثم رجع إلى الإسكندرية، فبعث

إليه ابن أبي حذيفة بجيش آخر فاقتتلوا بخربتا «1» في أوّل شهر رمضان سنة ست وثلاثين، فانهزم الجيش، وأقامت شيعة عثمان بخربتا. وقدم معاوية بن أبي سفيان يريد الفسطاط، فنزلت سلمنت «2» في شوّال، فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر، فمنعوه ثم اتفقا على أن يجعلا رهنا، ويتركا الحرب، فاستخلف ابن أبي حذيفة على مصر: الحكم بن الصلت، وخرج في الرهن هو وابن عديس، وعدّة من قتلة عثمان، فلما بلغوا لدّا سجنهم معاوية بها، وسار إلى دمشق، فهربوا من السجن، وتبعهم أمير فلسطين، فقتلهم في ذي الحجة سنة ست وثلاثين. قيس بن سعد «3» بن عبادة الأنصاري: ولاه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لما بلغه مصاب ابن أبي حذيفة، وجمع له الخراج والصلاة، فدخل مصر مستهل ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين، فاستمال الخارجية بخربتا شيعة عثمان، وبعث إليهم أعطياتهم، ووفد عليهم وفدهم، فأكرمهم، وكان من ذوي الرأي، فجهد عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان على أن يخرجاه من مصر ليغلبا على أمرها، فإنها كانت من جيش عليّ رضي الله عنه، فامتنع منهما بالدهاء والمكايدة، فلم يقدرا على مصر، حتى كاد معاوية قيسا من قبل عليّ رضي الله عنه، فأشاع أن قيسا من شيعته، وأنه يبعث إليه بالكتب والنصيحة سرّا، فسمع ذلك جواسيس عليّ رضي الله عنه، وما زال به محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن جعفر، حتى كتب إلى قيس بن سعد يأمره بالقدوم إليه، فوليها إلى أن عزل أربعة أشهر وخمسة أيام، وصرف لخمس خلون من رجب سنة سبع وثلاثين، فوليها: الأشتر مالك بن الحارث بن خالد النخعيّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فلما قدم القلزم شرب عسلا فمات، فبلغ ذلك عمرا ومعاوية، فقال عمرو: إن لله جنودا من عسل. ثم وليها: محمد بن أبي بكر الصدّيق من قبل عليّ رضي الله عنه، وجمع له صلاتها وخراجها، فدخلها للنصف من رمضان سنة سبع وثلاثين، فهدم دور شيعة عثمان، ونهب أموالهم وسجن ذراريهم، فنصبوا له الحرب، ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية، فلحقوا بمعاوية بالشام، فبعث معاوية عمرو بن العاص في جيوش أهل الشام إلى الفسطاط وتغيب ابن أبي بكر، فظفر به معاوية بن خديج فقتله، ثم جعله في جيفة

حمار ميت، وأحرقه بالنار لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمان وثلاثين، فكانت ولايته خمسة أشهر. ثم وليها: عمرو بن العاص: ولايته الثانية من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فاستقبل بولايته شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثلاثين، وجعل إليه الصلاة والخراج جميعا، وجعلت مصر له طعمة بعد عطاء جندها، والنفقة في مصلحتها، ثم خرج عمرو للحكومة، واستخلف على مصر ابنه عبد الله، وقيل: بل خارجة بن حذافة، ورجع إلى مصر، وتعاقد بنو لخم عبد الرحمن وقيس ويزيد على قتل عليّ ومعاوية وعمرو، وتواعدوا ليلة من رمضان سنة أربعين، فمضى كل منهم إلى صاحبه، وكان يزيد هو صاحب عمرو، فعرضت لعمرو علة منعته من حضور المسجد، فصلى خارجة بالناس، فشدّ عليه يزيد فضربه، حتى قتله، فدخل به على عمرو، فقال: أما والله ما أردت غيرك يا عمرو، قال عمرو: ولكن الله أراد خارجة، ولله در القائل: وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليا بمن شاءت من البشر وعقد عمرو لشريك بن سميّ على غزو لواتة «1» من البربر، فغزاهم في سنة أربعين، وصالحهم ثم انتقضوا، فبعث إليهم عقبة بن نافع في سنة إحدى وأربعين، فغزاهم حتى هزمهم، وعقد لعقبة أيضا على غزوة هوّارة، وعقد لشريك بن سميّ: على غزوة لبدة «2» ، فغزواهما في سنة ثلاث وأربعين، فقفلا، وعمرو شديد الدنف «3» في مرض موته، وتوفي ليلة الفطر، فغسله عبد الله بن عمرو، وأخرجه إلى المصلى وصلى عليه، فلم يبق أحد شهد العيد إلّا صلى عليه، ثم صلى بالناس صلاة العيد، وكان أبوه استخلفه، وخلف عمرو بن العاص سبعين بهارا دنانير، والبهار: جلد ثور، ومبلغه أردبان بالمصريّ، فلما حضرته الوفاة أخرجه، وقال: من يأخذه بما فيه، فأبى ولده أخذه، وقالا: حتى تردّ إلى كل ذي حق حقه، فقال: والله ما أجمع بين اثنين منهم، فبلغ معاوية، فقال: نحن نأخذه بما فيه. ثم وليها: عتبة بن أبي سفيان من قبل أخيه معاوية بن أبي سفيان على صلاتها، فقدم في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين، وأقام شهرا، ثم وفد على أخيه، واستخلف عبد الله بن قيس بن الحارث، وكان فيه شدّة، فكره الناس ولايته، وامتنعوا منها، فبلغ ذلك عتبة، فرجع إلى مصر، وصعد المنبر فقال: يا أهل مصر قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم، وقد وليكم من إذا قال فعل، فإن أبيتم درأكم بيده، فإن أبيتم درأكم بسيفه، ثم رجا في الأمير ما أدرك في الأوّل أن البيعة شائعة لنا عليكم السمع، ولكم علينا العدل،

وأينا غدر، فلا ذمّة له عند صاحبه، فناداه المصريون من جنبات المسجد سمعا سمعا فناداهم عدلا عدلا، ثم نزل ثم جمع له معاوية الصلات والخراج، وعقد عتبة لعلقمة بن زيد على الإسكندرية في اثني عشر ألفا من أهل الديوان تكون لها رابطة، ثم خرج إليها مرابطا في ذي الحجة سنة أربع وأربعين، فمات بها واستخلف على مصر عقبة بن عامر الجهنيّ، فكانت ولايته ستة أشهر. ثم وليها: عقبة بن عامر «1» بن عبس الجهنيّ من قبل معاوية، وجعل له صلاتها وخراجها، وكان قارئا فقيها مفرضا شاعرا، له الهجرة والصحبة والسابقة، ثم وفد مسلمة بن محمد الأنصاريّ على معاوية، فولاه مصر، وأمره أن يكتم ذلك عن عقبة بن عامر، وجعل عقبة على البحر، وأمره أن يسير إلى رودس، فقدم مسلمة، فلم يعلم بإمارته، وخرج مع عقبة إلى الإسكندرية، فلما توجه سائرا استوى مسلمة على سرير إمارته، فبلغ ذلك عقبة فقال: أخلعا وغربة، وكان صرفه لعشر بقين من ربيع الأوّل سنة سبع وأربعين، وكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر. فولي مسلمة بن مخلد «2» بن صامت بن نيار الأنصاريّ من قبل معاوية، وجمع له الصلات والخراج والغزو، فانتظمت غزواته في البر والبحر، وفي إمارته نزلت الروم البرلس «3» في سنة ثلاث وخمسين، فاستشهد يومئذ: وردان مولى عمرو بن العاص في جمع من المسلمين، وهدم ما كان عمرو بن العاص بناه من المسجد، وبناه وأمر بابتناء منارات المساجد كلها إلا خولان وتجيب، وخرج إلى الإسكندرية في سنة ستين، واستخلف عابس بن سعيد، ومات معاوية بن أبي سفيان في رجب منها، واستخلف ابنه يزيد بن معاوية، فأقرّ مسلمة، وكتب إليه بأخذ البيعة، فبايعه الجند إلّا عبد الله بن عمرو بن العاص، فدعا عابس بالنار ليحرق عليه بابه! فحينئذ بايع ليزيد، وقدم مسلمة من الإسكندرية، فجمع لعابس مع الشرط القضاء في سنة إحدى وستين، وقال مجاهد: صليت خلف مسلمة بن مخلد، فقرأ سورة البقرة، فما ترك ألفا ولا واوا، وقال ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد: كان مسلمة بن مخلد يصلي بنا، فيقوم في الظهر، فربما قرأ الرجل البقرة، وتوفي مسلمة، وهو وال لخمس بقين من رجب سنة اثنتين وستين، فكانت ولايته خمس عشرة سنة وأربعة أشهر، واستخلف عابس بن سعيد. ثم وليها سعيد بن يزيد بن علقمة بن يزيد بن عوف الأزدي من أهل فلسطين، فقدم

مستهلّ رمضان سنة اثنتين وستين فتلقاه عمرو بن قحزم الخولانيّ، فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك، يولي علينا أحدهم، ولم تزل أهل مصر على الشنآن له، والإعراض عنه، والتكبر عليه حتى توفي يزيد بن معاوية، ودعا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إلى نفسه، فقامت الخوارج الذين بمصر، وأظهروا دعوته، وسار منهم إليه، فبعث لعبد الرحمن بن جحدم، فقدم واعتزل سعيدا، فكانت ولايته سنتين غير شهر. ثم وليها: عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم من قبل عبد الله بن الزبير، فدخل في شعبان سنة أربع وستين في جمع كثير من الخوارج، فأظهروا التحكيم، ودعوا إليه، فاستعظم الجند ذلك، وبايعه الناس على غل في قلوب شيعة بني أمية، ثم بويع مروان بن الحكم بالخلافة في أهل الشام، وأهل مصر معه في الباطن، فسار إليها، وبعث ابنه عبد العزيز في جيش إلى أيلة ليدخل مصر من هناك، وأجمع ابن جحدم على حربه، وحفر الخندق في شهر، وهو الذي في شرقيّ القرافة، وقدم مروان، فحاربه ابن جحدم، وقتل بينهما كثير من الناس ثم اصطلحا، ودخل مروان لعشر من جمادى الأولى سنة خمس وستين، فكانت مدّة ابن جحدم تسعة أشهر، ووضع مروان العطاء، فبايعه الناس إلّا نفرا من المغافر قالوا: لا نخلع بيعة ابن الزبير، فضرب أعناقهم، وكانوا ثمانين رجلا، وذلك للنصف من جمادى الآخرة، يومئذ مات عبد الله بن عمرو بن العاص، فلم يستطع أن يخرج بجنازته إلى المقبرة لشغب الجند على مروان، وجعل مروان صلات مصر، وخراجها إلى ابنه عبد العزيز، وسار وقد أقام بها شهرين لهلال رمضان. عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص أبو الأصبغ ولي من قبل أبيه لهلال رجب سنة خمس وستين على الصلات والخراج، ومات أبوه، وبويع من بعده عبد الملك بن مروان، فأقرّ أخاه عبد العزيز، ووقع الطاعون بمصر سنة سبعين، فخرج عبد العزيز منها، ونزل حلوان، فاتخذها دارا وسكنها، وجعل بها الأعوان، وبنى بها الدور والمساجد، وعمرها أحسن عمارة، وغرس نخلها وكرمها، وعرّف بمصر، وهو أول من عرّف بها في سنة إحدى وسبعين، وجهز البعث في البحر لقتال ابن الزبير في سنة اثنتين وسبعين، ثم مات لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين، فكانت ولايته عشرين سنة، وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما. فولي: عبد الله بن عبد الملك بن مروان من قبل أبيه على صلاتها وخراجها، فدخل يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ست وثمانين، وهو ابن تسع وعشرين سنة، وقد تقدّم إليه أبوه أن يقتفي آثار عمه عبد العزيز، فاستبدل بالعمال وبالأصحاب، ومات عبد الملك، بويع ابنه الوليد بن عبد الملك، فأقرّ أخاه عبد الله، وأمر عبد الله، فنسخت دواوين مصر بالعربية، وكانت بالقبطية، وفي ولايته غلت الأسعار،

فتشاءم الناس به، وهي أوّل شدّة رأوها بمصر، وكان يرتشي، ثم وفد على أخيه في صفر سنة ثمان وثمانين، واستخلف عبد الرحمن بن عمرو بن قحزم الخولانيّ، وأهل مصر في شدّة عظيمة، ورفع سقف المسجد الجامع في سنة تسع وثمانين، ثم صرف، فكانت ولايته ثلاث سنين وعشرة أشهر. فولي: قرّة بن شريك «1» بن مرثد بن الحرث العبسيّ للوليد بن عبد الملك على صلات مصر وخراجها، فقدمها يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة تسعين، وخرج عبد الله بن عبد الملك من مصر بكل ما ملكه، فأحيط به في الأردن، وأخذ سائر ما معه، وحمل إلى أخيه، وأمر الوليد بهدم ما بناه عبد العزيز في المسجد، فهدم أوّل سنة اثنتين وتسعين، وبنى واستنبط قرّة بن شريك: بركة الحبش من الموات وأحياها، وغرس فيها القصب، فقيل لها: اصطبل قرّة، واصطبل القاش، ثم مات وهو وال ليلة الخميس لست بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين، واستخلف على الجند والخراج عبد الملك بن رفاعة، فكانت ولايته ست سنين وأياما. ثم ولي: عبد الملك بن رفاعة بن خالد بن ثابت الفهميّ: من قبل الوليد بن عبد الملك على صلاتها، وتوفي الوليد، واستخلف سليمان بن عبد الملك، فأقرّ ابن رفاعة، وتوفي سليمان، وبويع عمر بن عبد العزيز، فعزل ابن رفاعة، فكانت ولايته ثلاث سنين. ثم ولي: أيوب بن شرحبيل «2» بن أكسوم بن أبرهة بن الصباح، من قبل عمر بن عبد العزيز على صلاتها في ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين، فورد كتاب أمير المؤمنين: عمر بن عبد العزيز بالزيادة في أعطيات الناس عامّة، وخمرت الخمر، وكسرت وعطلت حاناتها، وقسم للغارمين بخمسة وعشرين ألف دينار، ونزعت مواريث القبط عن الكور، واستعمل المسلمون عليها، ومنع الناس الحمامات، وتوفي عمر بن عبد العزيز، واستخلف يزيد بن عبد الملك، فأقرّ أيوب على الصلات إلى أن مات لإحدى عشرة، وقيل: لسبع عشرة خلت من رمضان سنة إحدى ومائة، فكانت ولايته سنتين ونصفا. فولي: بشر بن صفوان «3» الكلبيّ: من قبل يزيد بن عبد الملك قدمها لسبع عشرة خلت من رمضان سنة إحدى ومائة، وفي إمرته نزل الروم تنيس، ثم ولاه يزيد على إفريقية،

فخرج إليها في شوّال سنة اثنتين ومائة، واستخلف أخاه حنظلة. فولي: حنظلة بن صفوان باستخلاف أخيه، فأقرّه يزيد بن عبد الملك، وخرج إلى الإسكندرية في سنة ثلاث ومائة، واستخلف عقبة بن مسلمة التجيبيّ، وكتب يزيد بن عبد الملك في سنة أربع ومائة بكسر الأصنام والتماثيل، فكسرت كلها، ومحيت التماثيل، ومات يزيد بن عبد الملك، وبويع هشام بن عبد الملك، فصرف حنظلة في شوّال سنة خمس ومائة، فكانت ولايته ثلاث سنين. وولي: محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم من قبل أخيه هشام بن عبد الملك على الصلات، فدخل مصر لإحدى عشرة خلت من شوّال سنة خمس ومائة، ووقع وباء شديد بمصر، فترفع محمد إلى الصعيد هاربا من الوباء أياما، ثم قدم وخرج عن مصر لم يلها إلّا نحوا من شهر، وانصرف إلى الأردن. فولي: الحرّ بن يوسف بن يحيى بن الحكم من قبل هشام بن عبد الملك على صلاتها، فدخل لثلاث خلون من ذي الحجة سنة خمس ومائة، وفي إمرته كان أوّل انتفاض القبط في سنة سبع ومائة، ورابط بدمياط ثلاثة أشهر، ثم وفد إلى هشام بن عبد الملك، فاستخلف حفص بن الوليد، وقدم في ذي القعدة من سنة سبع، وانكشف النيل عن الأرض فبنى فيها، وصرف في ذي القعدة سنة ثمان ومائة، باستعفائه لمغاضبة كانت بينه وبين عبد الله بن الحبحاب متولي خراج مصر، فكانت ولايته ثلاث سنين سواء. وولي: حفص بن الوليد «1» بن سيف بن عبد الله من قبل هشام بن عبد الملك، ثم صرف بعد جمعتين يوم الأضحى بشكوى ابن الحبحاب منه، وقيل: صرف سلخ ثمان ومائة. فولي: عبد الملك بن رفاعة ثانيا على الصلات، فقدم من الشام عليلا لثنتي عشرة بقيت من المحرّم سنة تسع ومائة، وكان أخوه الوليد يخلفه من أوّل المحرّم، وقيل: بل ولي أوّل المحرّم، ومات للنصف منه، وكانت ولايته خمس عشرة ليلة. ثم ولي أخوه: الوليد بن رفاعة باستخلاف أخيه، فأقرّه هشام بن عبد الملك على الصلات، وفي ولايته نقلت قيس إلى مصر، ولم يكن بها أحد منهم، وخرج وهيب اليحصبيّ شاردا في سنة سبع عشرة ومائة من أجل أنّ الوليد أذن للنصارى في ابتناء كنيسة يوحنا بالحمراء، وتوفي وهو وال أوّل جمادى الآخرة سنة سبع عشرة، واستخلف عبد الرحمن بن خالد، فكانت إمرته تسع سنين وخمسة أشهر.

فولي: عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهميّ أبو الوليد من قبل هشام بن عبد الملك على صلاتها، وفي إمرته نزل الروم على تروجة «1» ، فحاصروها، ثم اقتتلوا فأسروا، فصرفه هشام، فكانت ولايته سبعة أشهر. وولي: حنظلة بن صفوان ثانيا فقدم لخمس خلون من المحرّم سنة تسع ومائة، فانتفض القبط، وحاربهم في سنة إحدى وعشرين ومائة، وقدم رأس زيد بن عليّ إلى مصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة، ثم ولاه هشام إفريقية، فاستخلف حفص بن الوليد بإمرة هشام، وخرج لسبع خلون من ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة، فكانت ولايته هذه خمس سنين وثلاثة أشهر. وولي: حفص بن الوليد الحضرميّ ثانيا باستخلاف حنظلة له على صلاتها، فأقرّه هشام بن عبد الملك إلى ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شعبان سنة أربع وعشرين، فجمع له الصلات والخراج جميعا، واستسقى بالناس، وخطب ودعا، ثم صلى بهم، ومات هشام بن عبد الملك، واستخلف من بعده: الوليد بن يزيد، فأقرّ حفصا على الصلات والخراج، ثم صرف عن الخراج بعيسى بن أبي عطاء لسبع بقين من شوّال سنة خمس وعشرين ومائة، وانفرد بالصلات، ووفد على الوليد بن يزيد، واستخلف عقبة بن نعيم الرعيني، وقتل الوليد بن يزيد، وحفص بالشام، وبويع يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فأمر حفصا باللحاق بجنده، وأمّره على ثلاثين ألفا وفرض الفروض، وبعث بيعة أهل مصر إلى يزيد بن الوليد، ثم توفي يزيد وبويع إبراهيم بن الوليد، وخلعه مروان بن محمد الجعدي، فكتب حفص يستعفيه من ولاية مصر، فأعفاه مروان، فكانت ولاية حفص هذه ثلاث سنين إلا شهرا. وولي: حسان بن عتاهية بن عبد الرحمن التجيبيّ وهو بالشام، فكتب إلى خير بن نعيم باستخلافه، فسلم حفص إلى خير، ثم قدم حسان لثنتي عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة على الصلات، وعيسى بن أبي عطاء على الخراج، فأسقط حسان فروض حفص كلها، فوثبوا به، وقالوا: لا نرضى إلّا بحفص، وركبوا إلى المسجد، ودعوا إلى خلع مروان وحصروا حسان في داره، وقال له: اخرج عنا، فإنك لا تقيم معنا ببلد، وأخرجوا عيسى بن أبي عطاء صاحب الخراج، وذلك في آخر جمادى الآخرة، وأقاموا حفصا، فكانت ولاية حسان ستة عشر يوما. فولي: حفص بن الوليد الثالثة: كرها أخذه قوّاد الفروض بذلك، فأقام على مصر رجب وشعبان، ولحق حسان بمروان، وقدم حنظلة بن صفوان من إفريقية، وقد أخرجه

أهلها فنزل الجيزة، وكتب مروان بولايته على مصر، فامتنع المصريون من ولاية حنظلة، وأظهروا الخلع، وأخرجوا حنظلة إلى الحوف الشرقيّ، ومنعوه من المقام بالفسطاط، وهرب ثابت بن نعيم من فلسطين يريد الفسطاط، فحاربوه وهزموه، وسكت مروان عن مصر بقية سنة سبع وعشرين ومائة، ثم عزل حفصا مستهل سنة ثمان وعشرين. وولي: الحوثرة بن سهيل «1» بن العجلان الباهليّ: فسار إليها في آلاف، وقدم أوّل المحرّم، وقد اجتمع الجند على منعه، فأبى عليهم حفص، فخافوا حوثرة، وسألوه الأمان، فأمّنهم، ونزل ظاهر الفسطاط، وقد اطمأنوا إليه فخرج إليه حفص، ووجوه الجند، فقبض عليهم، وقيدهم، فانهزم الجند ودخل معه عيسى بن أبي عطاء على الخراج لثنتي عشرة خلت من المحرّم، وبعث في طلب رؤساء الفتنة، فجمعوا له وضرب أعناقهم، وقتل حفص بن الوليد، ثم صرف في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين ومائة، وبعثه مروان إلى العراق فقتل، واستخلف على مصر حسان بن عتاهية، وقيل: أبا الجرّاح بشر بن أوس، وخرج لعشر خلون من رجب، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر. ثم ولي: المغيرة بن عبيد الله بن المغيرة الفزاريّ على الصلاة من قبل مروان، فقدم لست بقين من رجب سنة إحدى وثلاثين، وخرج إلى الإسكندرية، واستخلف أبا الجرّاح الحرشي، وتوفي لثنتي عشرة خلت من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فكانت ولايته عشرة أشهر، واستخلف ابنه الوليد بن المغيرة، ثم صرف الوليد في النصف من جمادى الآخرة. وولى: عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير من قبل مرون على الصلات والخراج، وكان واليا على الخراج قبل أن يولي الصلات في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فأمر باتخاذ المنابر في الكور، ولم تكن قبله، وإنما كانت ولاة الكور يخطبون على العصيّ إلى جانب القبلة، وخرج القبط فحاربهم، وقتل كثيرا منهم، وخالف عمرو بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان على مروان، واجتمع عليه جمع من قيس في الحوف الشرقيّ، فبعث إليهم عبد الملك بجيش، فلم يكن حرب، وسار مروان بن محمد إلى مصر منهزما من بني العباس، فقدم يوم الثلاثاء لثمان بقين من شوّال سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقد سوّد أهل الحوف الشرقيّ، وأهل الإسكندرية، وأهل الصعيد وأسوان، فعزم مروان على تعديه النيل، وأحرق دار آل مروان المذهبة، ثم رحل إلى الجيزة، وخرق الجسرين، وبعث بجيش إلى الإسكندرية، فاقتتلوا بالكريون «2» ، وخالفت القبط برشيد،

ذكر العسكر الذي بني بظاهر مدينة فسطاط مصر

فبعث إليهم وهزمهم، وبعث إلى الصعيد، فقدم صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس في طلب مروان هو وأبو عون عبد الملك بن يزيد يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فأدرك صالح مروان ببوصير من الجيزة بعد ما استخلف على الفسطاط معاوية بن بحيرة بن ريسان، فحارب مروان حتى قتل ببوصير يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة، ودخل صالح إلى الفسطاط يوم الأحد لثمان خلون من المحرّم سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وبعث برأس مروان إلى العراق، وانقضت أيام بني أمية. فولي: صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس، ولي من قبل أمير المؤمنين أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح، فاستقبل بولايته المحرّم سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وبعث بوفد أهل مصر إلى أبي العباس السفاح ببيعة أهل مصر، وأسر عبد الملك بن موسى بن نصير وجماعة، وقتل كثيرا من شيعة بني أمية، وحمل طائفة منهم إلى العراق، فقتلوا بقلنسوة «1» من أرض فلسطين، وأمر للناس بأعطياتهم للمقاتلة والعيال، وقسمت الصدقات على اليتامى والمساكين، وزاد صالح في المسجد، وورد عليه كتاب أمير المؤمنين السفاح، بإمارته على فلسطين والاستخلاف على مصر، فاستخلف أبا عون مستهلّ شعبان سنة ثلاث وثلاثين، وسار ومعه عبد الملك بن نصير ملزما، وعدّة من أهل مصر صحابة لأمير المؤمنين، وأقطع الذين سوّدوا قطائع منها: منية بولاق، وقرى إهناس، وغيرها ثم من بعد صالح بن عليّ. سكن أمراء مصر العسكر، وأوّل من سكنه أبو عون، والله تعالى أعلم. ذكر العسكر الذي بني بظاهر مدينة فسطاط مصر اعلم: أن موضع العسكر قد كان يعرف في صدر الإسلام بالحمراء القصوى، وقد تقدّم أن الحمراء القصوى كانت خطة بني الأزرق، وبني روبيل، وبني يشكر بن جزيلة، ثم دثرت هذه الخطط بعد العمارة بتلك القبائل، حتى صارت صحراء، فلما قدم مروان بن محدم آخر خلفاء بني أمية إلى مصر منهزما من بني العباس نزلت عساكر صالح بن عليّ، وأبي عون عبد الملك بن يزيد في هذه الصحراء، حيث جبل يشكر حتى ملؤوا الفضاء، وأمر أبو عون أصحابه بالبناء فيه، فبنوا وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة. فلما خرج صالح بن عليّ من مصر خرب أكثر ما بنى فيه إلى زمن موسى بن عيسى الهاشميّ فابتنى فيه دارا أنزل فيها حشمة وعبيده، وعمر الناس، ثم ولي: السريّ بن الحكم، فأذن للناس في البناء، فابتنوا فيه وصار مملوكا بأيديهم، واتصل بناؤه ببناء الفسطاط، وبنيت فيه دار الإمارة، ومسجد جامع عرف بجامع العسكر، ثم عرف بجامع ساحل الغلة، وعملت

الشرطة أيضا في العسكر، وقيل لها: الشرطة العليا، وإلى جانبها بنى أحمد بن طولون جامعه الموجود الآن، وسمي من حينئذ ذلك الفضاء بالعسكر، وصار أمراء مصر إذا ولوا ينزلون به من بعد أبي عون، فقال الناس من يومئذ: كنا بالعسكر، وخرجنا إلى العسكر، وكتب من العسكر، وصار مدينة ذات محال، وأسواق ودور عظيمة، وفيه بنى أحمد بن طولون مارستانه «1» ، فأنفق عليه، وعلى مستغله ستين ألف دينار، وكان بالقرب من بركة قارون التي صارت كيمانا، وبعضها بركة على يسرة من سار من حدرة ابن قميحة يريد قنطرة السدّ، وعلى بركة قارون هذه كانت جنان بني مسكين، وبني كافور الإخشيدي دارا أنفق عليها مائة ألف دينار، وسكنها في رجب سنة ست وأربعين وثلثمائة، وانتقل منها بعد أيام عليها مائة ألف دينار، وسكنها في رجب سنة ست وأربعين وثلثمائة، وانتقل منها بعد أيام لوباء وقع في غلمانه من بخار البركة، وعظمت العمارة في العسكر جدّا إلى أن قدم أحمد بن طولون من العراق إلى مصر، فنزل بدار الإمارة من العسكر، وكان لها باب إلى جامع العسكر، وينزلها الأمراء منذ بناها صالح بن عليّ بعد قتله مروان، وما زال بها أحمد بن طولون إلى أن بنى القصر، والميدان بالقطائع، فتحوّل من العسكر، وسكن قصره بالقطائع، فلما ولي أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بعد أبيه، جعل دار الإمارة ديوان الخراج، ثم فرّقت حجرا بعد دخول محمد بن سليمان الكاتب إلى مصر، وزوال دولة بني طولون، فسكن محمد بن سليمان بدار الإمارة في العسكر عند المصلى القديم، وكان المصلى القديم حيث الكوم المطلّ الآن على قبر القاضي بكار، وما زالت الأمراء تنزل بالعسكر إلى أن قدم القائد جوهر «2» من المغرب، وبنى القاهرة المعزية، ولما بنى أحمد بن طولون القطائع اتصلت مبانيها بالعسكر، وبنى جامعه على جبل يشكر، فعمرها هنا لك عمارة عظيمة تخرج عن الحدّ في الكثرة، وقدم جوهر القائد بعساكر مولاه المعز لدين الله في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، والعسكر عامر إلّا أنه منذ بنيت القطائع هجر اسم العسكر، وصار يقال: مدينة الفسطاط والقطائع، وربما قيل: والعسكر أحيانا، فلما خرّب محمد بن سليمان قصر ابن طولون، وميدانه بقي في القطائع مساكن جليلة حيث كان العسكر، وأنزل المعز لدين الله عمه أبا عليّ في دار الإمارة، فلم يزل أهله بها إلى أن خربت القطائع في الشدّة العظمى التي كانت في خلافة المستنصر أعوام بضع وخمسين وأربعمائة، فيقال: إنه كان هناك زيادة على مائة ألف دار سوى البساتين، وما هذا ببعيد، فإنّ ذلك كان ما بين سفح الشرف الذي عليه الآن قلعة الجبل، وبين ساحل مصر القديم حيث الآن الكبارة خارج مصر، وما على سمتها إلى كوم الجارح، ومن كوم الجارح إلى جامع ابن طولون، وخط

قناطر السباع، وخط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ، ومراغة مصر إلى المعاريج بمصر، وإلى كوم الجارح، ففي هذه المواضع كان العسكر والقطائع، ويخص العسكر من بين ذلك ما بين قناطر السباع، وحدرة ابن قميحة إلى كوم الجارح حيث الفضاء الذي يتوسط ما بين قنطرة السدّ، وبين سور القرافة الذي يعرف بباب المجدم، فهذا هو العسكر، ولما استولى الخراب في المحنة أمر ببناء حائط يستر الخراب عن نظر الخليفة إذا سار من القاهرة إلى مصر، فيما بين العسكر والقطائع، وبين الطريق، وأمر ببناء حائط آخر عند جامع ابن طولون. فلما كان في خلافة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي أمر وزيره أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالأجل المأمون بن البطائحي، فنودي مدّة ثلاثة أيام في القاهرة ومصر، بأنّ من كان له دار في الخراب، أو مكان فليعمره، ومن عجز عن عمارته يبيعه أو يؤجره من غير نقل شيء من أنقاضه، ومن تأخر بعد ذلك، فلا حق له ولا حكر يلزمه، وأباح تعمير جميع ذلك بغير طلب حق، وكان سبب هذا النداء أنه لما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ في آخر الشدّة العظمى، وقام بعمارة إقليم مصر، أخذ الناس في نقل ما كان بالقطائع والعسكر من أنقاض المساكن حتى أتى على معظم ما هنا لك الهدم، فصار موحشا، وخرب ما بين القاهرة ومصر من المساكن، ولم يبق هنا لك إلّا بعض البساتين، فلما نادى الوزير المأمون عمّر الناس ما كان من ذلك، مما يلي القاهرة من جهة المشهد النفيسيّ إلى ظاهر باب زويلة، كما يرد خبر ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، ونقلت أنقاض العسكر كما تقدّم، فصار هذا الفضاء الذي يتوصل إليه من مشهد السيدة نفيسة، ومن الجامع الطولونيّ، ومن قنطرة السدّ، ومن باب المجدم في سور القرافة، ويسلك في هذا الفضاء إلى كوم الجارح، ولم يبق الآن من العسكر ما هو عامر سوى جبل يشكر الذي عليه جامع ابن طولون، وما حوله من الكبش، وحدرة ابن قميحة إلى خط السبع سقايات، وخط قناطر السباع إلى جامع ابن طولون، وأما سوق الجامع من قبليه، وما وراء ذلك إلى المشهد النفيسيّ، وإلى القبيبات، والرميلة تحت القلعة، فإنما هو من القطائع كما ستقف عليه عند ذكر القطائع، وعند ذكر هذه الخطط، إن شاء الله تعالى، وطالما سلكت هذا الفضاء الذي بين جامع ابن طولون، وكوم الجارح، حيث كان العسكر، وتذكرت ما كان هنا لك من الدور الجليلة والمنازل العظيمة، والمساجد والأسواق والحمامات والبساتين والبركة البديعة، والمارستان العجيب، وكيف بادت حتى لم يبق لشيء منها أثر البتة فأنشدت أقول: وبادوا فلا مخبر عنهم ... وماتوا جميعا وهذا الخبر فمن كان ذا عبرة فليكن ... فطينا ففي من مضى معتبر وكان لهم أثر صالح ... فأين هم ثم أين الأثر

ذكر من نزل العسكر من أمراء مصر من حين بني إلى أن بنيت القطائع

وسيأتي لذلك مزيد بيان عند ذكر القطائع، وعند ذكر خط قناطر السباع، وغيره من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ذكر من نزل العسكر من أمراء مصر من حين بني إلى أن بنيت القطائع إعلم: أنّ أمراء مصر ما برحوا ينزلون فسطاط مصر منذ اختط بعد الفتح إلى أن بنى أب عون العسكر، فصارت أمراء مصر من عهد أبي عون إنما ينزلون بالعسكر، وما برحوا على ذلك إلى أن أنشأ الأمير أبو العباس أحمد بن طولون القصر والميدان والقطائع، فتحوّل من العسكر إلى القصر، وسكن فيه وسكنه الأمراء من أولاده بعده إلى أن زالت دولتهم، فسكن الأمراء بعد ذلك العسكر إلى أن زالت دولة الإخشيدية بقدوم جوهر القائد من المغرب. وأوّل من سكن العسكر من أمراء مصر: أبو عون: عبد الملك بن يزيد من أهل جرجان ولي صلاة مصر وخراجها، باستخلاف صالح بن عليّ له، في مستهل شعبان سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ووقع الوباء بمصر، فهرب أبو عون إلى يشكر، واستخلف صاحب شرطته عكرمة بن عبد الله بن عمرو بن قحزم، وخرج إلى دمياط في سنة خمس وثلاثين ومائة، واستخلف عكرمة، وجعل على الخراج: عطاء بن شرحبيل، وخرج القبط بسمنود، فبعث إليهم وقتلهم، وورد الكتاب بولاية صالح بن عليّ على مصر وفلسطين والمغرب، جمعلت له، ووردت الجيوش من قبل أمير المؤمنين السفاح لغزو المغرب. فولي: صالح بن عليّ الثانية على الصلاة والخراج، فدخل لخمس خلون من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ومائة، فأقرّ عكرمة على شرطة الفسطاط، وجعل على شرطته بالعسكر: يزيد بن هاني الكنديّ، وولى أبا عون جيوش المغرب، وقدّم أمامه دعاة لأهل إفريقية، وخرج أبو عون في جمادى الآخرة، وجهزت المراكب من الإسكندرية إلى برقة، فمات السفاح في ذي الحجة، واستخلف أبو جعفر عبد الله بن محمد المنصور، فأقرّ صالحا، وكتب إلى أبي عون بالرجوع، وردّ الدعاة، وقد بلغوا شبرت «1» ، وبلغ أبو عون برقة، فأقام بها أحد عشر يوما، ثم عاد إلى مصر في جيشه، فجهزه صالح إلى فلسطين لحربه فغلب، وسير إلى مصر ثلاثة آلاف رأس، ثم خرج صالح إلى فلسطين، واستخلف ابنه الفضل، فبلغ بلبيس ورجع، ثم خرج لأربع خلون من رمضان سنة سبع وثلاثين، فلقي أبا عون بالفرما، فأمّره على مصر صلاتها وخراجها، ومضى فدخل أبو عون الفسطاط لأربع بقين من رمضان.

فولي: أبو عون ولايته الثانية من قبل صالح بن عليّ، ثم أفرده أبو جعفر بولايتها، وقدم أبو جعفر بيت المقدس، وكتب إلى أبي عون بأن يستخلف على مصر، ويخرج إليه، فاستخلف عكرمة على الصلاة، وعطاء على الخراج، وخرج للنصف من ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين ومائة، فلما صار إلى أبي جعفر ببيت المقدس، بعث أبو جعفر: موسى بن كعب فكانت ولاية أبي عون هذه ثلاث سنين، وستة أشهر. فوليها: موسى بن كعب «1» بن عيينة ابن عائشة أبو عيينة من تميم من قبل أبي جعفر المنصور، وكان أحد نقباء بني العباس، فدخلها لأربع عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائة على صلاتها وخراجها، ونزل العسكر وبها الناس من الجند يغدون، ويروحون إليه، كما كانوا يفعلون بالأمراء قبله، فانتهوا عنه حتى لم يكن أحد يلزم بابه، وكان قد اتهم في خراسان بأمر أبي مسلم، فأمر به أسد بن عبد الله البجليّ والي خراسان، فألجم بلجام، ثم كسرت أسنانه، فكان يقول بمصر كانت لنا أسنان وليس عندنا خبز، فلما جاء الخبز ذهبت الأسنان. وكتب إليه أبو جعفر: إني عزلتك من غير سخطة، ولكن بلغني أنّ غلاما يقتل بمصر يقال له: موسى، فكرهت أن تكونه، فكان ذلك موسى بن مصعب زمن المهديّ، كما يأتي إن شاء الله تعالى، فولي موسى بن كعب سبعة أشهر، وصرف في ذي القعدة، واستخلف على الجند ابن خاله ابن حبيب، وعلى الخراج نوفل بن الفرات، وخرج لست بقين منه. فولي: محمد بن الأشعث بن عقبة الخزاعيّ من قبل أبي جعفر على الصلاة والخراج، وقدم لخمس خلون من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين ومائة، وبعث أبو جعفر إلى نوفل بن الفرات: أن اعرض على محمد بن الأشعث ضمان خراج مصر، فإن ضمنه فأشهد عليه، واشخص إليّ، وإن أبى فاعمل على الخراج، فعرض عليه ذلك فأبى، فانتقل نوفل الدواوين، فافتقد ابن الأشعث الناس، فقيل له: هم عند صاحب الخراج، فندم على تسليمه، وعقد على جيش بعث به إلى المغرب لحربه فانهزم، وخرج ابن الأشعث يوم الأضحى سنة اثنتين وأربعين، وتوجه إلى الإسكندرية، واستخلف محمد بن معاوية بن بجير بن رسان صاحب شرطته، ثم صرف ابن الأشعث، فكانت ولايته سنة وشهرا. وولي: حميد بن قحطبة «2» بن شبيب بن خالد بن سعدان الطائيّ من قبل أبي جعفر على الصلاة والخراج، فدخل في عشرين ألفا من الجند لخمس خلون من رمضان سنة ثلاث

وأربعين ومائة، ثم قدم عسكر آخر في شوّال، وقدم عليّ بن محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن داعية لأبيه وعمه، فدس إليه حميد، فتغيب، فكتب بذلك إلى أبي جعفر، فصرفه في ذي القعدة، وخرج لثمان بقين من ذي القعدة سنة أربع وأربعين. فولي: يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة من قبل أبي جعفر على الصلاة والخراج، فقدم على البريد للنصف من ذي القعدة، فاستخلف على الخراج معاوية بن مروان بن موسى بن نصير، وفي إمرته ظهرت دعوة بني الحسن بن عليّ بمصر، وتكلم بها الناس، وبايع كثير منهم لعليّ بن محمد بن عبد الله، وطرق المسجد لعشر خلون من شوّال سنة خمس وأربعين، كما يذكر في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، ثم قدمت الخطباء برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ في ذي الحجة، فنصبت في المسجد، وورد كتاب أبي جعفر بأمر يزيد بن حاتم بالتحوّل من العسكر إلى الفسطاط، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر، وذلك في سنة ست وأربعين ومائة من أجل ليلة المسجد، ومنع يزيد أهل مصر من الحج سنة خمس وأربعين، فلم يحج أحد منهم، ولا من أهل الشام، لما كان بالحجاز من الاضطراب بأمر بني حسن، ثم حج يزيد في سنة سبع وأربعين، واستخلف عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج صاحب شرطته، وبعث جيشا لغزو الحبشة من أجل خارجيّ ظهر هناك، فظفر به الجيش، وقدم رأسه في عدّة رؤوس، فحملت إلى بغداد، وضم يزيد برقة إلى عمل مصر، وهو أوّل من ضمها إلى مصر، وذلك في سنة ثمان وأربعين، وخرج القبط بسخا «1» في سنة خمسين ومائة، فبعث إليهم جيشا، فشتته القبط ورجع منهزما، فصرفه أبو جعفر في ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين ومائة، فكانت ولايته سبع سنين وأربعة أشهر. وولي: عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج من قبل أبي جعفر على الصلاة لثنتي عشرة بقيت من ربيع الآخر، وهو أوّل من خطب بالسواد، وخرج إلى أبي جعفر لعشر بقين من رمضان سنة أربع وخمسين ومائة، واستخلف أخاه محمدا، ورجع في آخرها، ومات وهو وال مستهلّ صفر سنة خمس وخمسين ومائة، واستخلف أخاه محمدا، فكانت ولايته سنتين وشهرين. فولي: محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج باستخلاف أخيه، فأقرّه أبو جعفر على الصلاة، ومات وهو وال للنصف من شوّال، فكانت ولايته ثمانية أشهر ونصفا، واستخلف موسى بن عليّ. فولي: موسى بن عليّ بن رباح باستخلاف محمد بن خديج، فأقرّه أبو جعفر على

الصلاة وخرج القبط بهبيب في سنة ست وخمسين، فبعث إليهم وهزمهم، وكان يروح إلى المسجد ماشيا، وصاحب شرطته بين يديه يحمل الحربة، وإذا أقام صاحب الشرطة الجدود يقول له: ارحم أهل البلاد، فيقول: أيها الأمير ما يصلح الناس إلا ما يفعل بهم، وكأن يحدّث، فيكتب الناس عنه، ومات أبو جعفر لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وبويع ابنه محمد المهديّ، فأقرّ موسى بن عليّ إلى سابع عشر ذي الحجّة سنة إحدى وستين ومائة، فكانت ولايته ست سنين وشهرين. وولي: عيسى بن لقمان «1» بن محمد الجمحيّ: من قبل المهديّ على الصلاة والخراج، فقدم لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة سنة إحدى وستين ومائة، وصرف لثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة اثنتين وستين ومائة فوليها أربعة أشهر. ثم ولي: واضح مولى أبي جعفر من قبل المهديّ على الصلاة والخراج، فدخل لست بقين من جمادى الأولى وصرف في رمضان. فولي: منصور بن يزيد بن منصور الرعينيّ، وهو ابن خال المهديّ على الصلاة، فقدم لإحدى عشرة خلت من رمضان سنة اثنتين وستين ومائة، وصرف للنصف من ذي الحجة، فكان مقامه شهرين وثلاثة أيام. ثم ولي: يحيى بن داود أبو صالح من أهل خراسان من قبل المهديّ على الصلاة والخراج، فقدم في ذي الحجة، وكان أبوه تركيا، وهو من أشدّ الناس، وأعظمهم هيبة، وأقدمهم على الدم، وأكثرهم عقوبة، فمنع من غلق الدروب بالليل، ومن غلق الحوانيت حتى جعلوا عليها شرائح القصب لمنع الكلاب، ومنع حرّاس الحمامات أن يجلسوا فيها، وقال: من ضاع له شيء، فعليّ أداؤه، وكان الرجل يدخل الحمام، فيضع ثيابه، ويقول: يا أبا صالح احرسها، فكانت الأمور على هذا مدّة ولايته، وأمر الأشراف والفقهاء، وأهل النوبات بلبس القلانس الطوال، والدخول بها على السلطان يوم الاثنين والخميس بلا أردية، وكان أبو جعفر المنصور إذا ذكره قال: هو رجل يخافني، ولا يخاف الله، فولي إلى المحرّم سنة أربع وستين. وقدم: سالم بن سوادة التميميّ من قبل المهديّ على الصلاة، ومعه أبو قطيعة إسماعيل بن إبراهيم على الخراج لثنتي عشرة خلت من المحرّم. ثم ولي: إبراهيم بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل المهديّ على الصلاة والخراج، فقدم لإحدى عشرة خلت من المحرّم سنة خمس وستين، وابتنى دارا عظيمة

بالموقف من العسكر، وخرج دحية بن المعصب بن الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان بالصعيد، ونابذ، ودعا إلى نفسه بالخلافة، فتراخى عنه إبراهيم، ولم يحفل بأمره حتى ملك عامّة الصعيد، فسخط المهديّ لذلك، وعزله عزلا قبيحا لسبع خلون من ذي الحجة سنة سبع وستين، فوليها ثلاث سنين. ثم ولي: موسى بن مصعب بن الربيع من أهل الموصل على الصلاة والخراج من قبل المهديّ، فقدم لسبع خلون من ذي الحجة المذكور، فردّ إبراهيم، وأخذ منه وممن عمل له ثلثمائة ألف دينار، ثم سيره إلى بغداد، وشدّد موسى في استخراج الخراج، وزاد على كل فدّان ضعف ما يقبل به، وارتشى في الأحكام، وجعل خرجا على أهل الأسواق، وعلى الدواب، فكرهه الجند ونابذوه، وثارت قيس واليمانية، وكاتبوا أهل الفسطاط، فاتفقوا عليه وبعث بجيش إلى قتال دحية بالصعيد، وخرج في جند مصر كلهم لقتال أهل الحوف. فلما التقوا انهزم عنه أهل مصر بأجمعهم، وأسلموه فقتل من غير أن يتكلم أحد من أهل مصر لتسع خلون من شوّال سنة ثمان وستين ومائة، فكانت ولايته عشرة أشهر، وكان ظالما غاشما سمعه الليث بن سعد يقرأ في خطبته:: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ، فقال الليث: اللهم لا تمقتنا. ثم ولي: عسامة بن عمرو «1» باستخلاف موسى بن مصعب، وبعث إلى دحية جيشا مع أخيه بكار بن عمرو، فحارب يوسف بن نصير، وهو على جيش دحية، فتطاعنا ووضع يوسف الرمح في خاصرة بكار، ووضع بكار الرمح في خاصرة يوسف فقتلا معا، ورجع الجيشان منهزمين، وذلك في ذي الحجة، وصرف عسامة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة بكتاب ورد عليه من الفضل بن صالح بأنه ولي مصر، وقد استخلفه، فخلعه إلى سلخ المحرّم سنة تسع وستين ومائة. ثم قدم الفضل بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس سلخ المحرّم المذكور في جيوش الشام، ومات المهديّ في المحرّم هذا، وبويع موسى الهادي، فأقرّ الفضل، وقدم مصر يضطرب من أهل الخوف ومن خروج دحية، فإنّ الناس كانوا قد كاتبوه ودعوه، فسير العساكر حتى هزم دحية، وأسر وسيق إلى الفسطاط فضربت عنقه، وصلب في جمادى الآخرة سنة تسع وستين، فكان الفضل يقول: أنا أولى الناس بولاية مصر، لقيامي في أمر دحية، وقد عجز عنه غيري فعزل، وندم على قتل دحية، والفضل هو الذي بنى الجامع بالعسكر في سنة تسع وستين، فكانوا يجمعون فيه.

ثم ولي: عليّ بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الهادي على الصلاة والخراج، فدخل في سنة تسع وستين ومائة، ومات الهادي للنصف من ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة، وبويع هارون بن محمد الرشيد، فأقرّ عليّ بن سليمان، وأظهر في ولايته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الملاهي والخمور، وهدم الكنائس المحدثة بمصر، وبذل له في تركها خمسون ألف دينار، فامتنع وكان كثير الصدقة في الليل، وأظهر أنه تصلح له الخلافة، وطمع فيها، فسخط عليه هارون الرشيد، وعزله لأربع بقين من ربيع الأوّل سنة إحدى وسبعين ومائة. ثم ولي: موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة، فأذن للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها عليّ بن سليمان، فبنيت بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة، ثم صرف لأربع عشرة خلت من رمضان سنة اثنتين وسبعين ومائة، فكانت ولايته سنة وخمسة أشهر ونصفا. ثم ولي: مسلمة بن يحيى بن قرّة بن عبيد الله البجليّ من أهل جرجان من قبل الرشيد على الصلاة، ثم صرف في شعبان سنة ثلاث وسبعين، فوليها أحد عشر شهرا. ثم ولي: محمد بن زهير الأزدي على الصلاة والخراج لخمس خلون من شعبان، فبادر الجند لعمر بن غيلان صاحب الخراج، فلم يدفع عنه، فصرف بعد خمسة أشهر في سلخ ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومائة. فولي: داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وقدم هو وإبراهيم بن صالح بن عليّ، فولى داود الصلاة، وبعث بإبراهيم لإخراج الجند الذين ثاروا من مصر، فدخل لأربع عشرة خلت من المحرّم سنة أربع وسبعين ومائة، فأخرجت الجند العديدة إلى المشرق والمغرب في عالم كثير، فساروا في البحر فأسرتهم الروم، وصرف لست خلون من المحرّم سنة خمس وسبعين، فكانت ولايته سنة ونصف شهر. ثم ولي: موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس على الصلاة والخراج من قبل الرشيد، فدخل لسبع خلون من صفر سنة خمس وسبعين، وصرف لليلتين بقيتا من صفر سنة ست وسبعين ومائة، فولي سنة واحدة. ثم ولي: إبراهيم بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس ثانيا من قبل الرشيد، فكتب إلى عسامة بن عمرو، فاستخلفه، ثم قدم نصر بن كلثوم خليفته على الخراج مستهلّ ربيع الأوّل، وتوفي عسامة لسبع بقين من ربيع الآخر، فقدم روح بن روح بن زنباع خليفة لإبراهيم على الصلاة والخراج، ثم قدم إبراهيم للنصف من جمادى الأولى، وتوفي وهو وال لثلاث خلون من شعبان، فكان مقامه بمصر شهرين وثمانية عشر يوما، وقام بالأمر بعده ابنه

صالح بن إبراهيم، مع صاحب شرطته خالد بن يزيد. ثم ولي: عبد الله بن المسيب بن زهير بن عمرو الضبيّ من قبل الرشيد على الصلاة لإحدى عشرة بقيت من رمضان سنة ست وسبعين ومائة، وصرف في رجب سنة سبع وسبعين ومائة. فولي: إسحاق بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة والخراج مستهلّ رجب، فكشف أمر الخراج، وزاد على المزارعين زيادة أجحفت بهم، فخرج عليه أهل الحوف، فحاربهم، فقتل كثير من أصحابه، فكتب إلى الرشيد بذلك، فعقد لهرثمة بن أعين في جيش عظيم، وبعث به فنزل الحوف، فتلقاه أهله بالطاعة، وأذعنوا فقبل منهم، واستخرج الخراج كله، فكان صرف إسحاق في رجب سنة ثمان وسبعين ومائة. فولي: هرثمة بن أعين من قبل الرشيد على الصلاة والخراج لليلتين خلتا من شعبان ثم سار إلى إفريقية لثنتي عشر خلت من شوّال، فأقام بمصر شهرين ونصفا. ثم ولي: عبد الملك بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة والخراج، فلم يدخل مصر، واستخلف عبد الله بن المسيب بن زهير الضبيّ، وصرف في سلخ سنة ثمان وسبعين ومائة. فولي: عبيد الله بن المهديّ محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة والخراج في يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من المحرّم سنة تسع وسبعين ومائة، فاستخلف ابن المسيب، ثم قدم لإحدى عشرة خلت من ربيع الأول، وصرف في شهر رمضان، فولي تسعة أشهر وخرج من مصر لليلتين خلتا من شوّال. فأعاد الرشيد موسى بن عيسى وولاه مرّة ثالثة على الصلاة، فقدم ابنه يحيى بن موسى خليفة له لثلاث خلون من رمضان، ثم قدم آخر ذي القعدة، وصرف في جمادى الآخرة سنة ثمانين ومائة. فولى الرشيد عبيد الله بن المهديّ ثانيا على الصلاة، فقدم داود بن حباش خليفة له لسبع خلون من جمادى الآخرة، ثم قدم لأربع خلون من شعبان، وصرف لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة. فولي: إسماعيل بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس على الصلاة لسبع خلون من رمضان، فاستخلف عون بن وهب الخزاعيّ، ثم قدم لخمس بقين منه. قال ابن عفير: ما رأيت على هذه الأعواد أخطب من إسماعيل بن صالح، ثم صرف في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثمانين ومائة. فولي: إسماعيل بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة، فقدم لأربع عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وصرف في رمضان.

فولي: الليث بن الفضل «1» البيورديّ من أهل بيورد على الصلاة والخراج، وقدم لخمس خلون من شوّال، ثم خرج إلى الرشيد لسبع بقين من رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائة بالمال والهدايا، واستخلف أخاه الفضل بن عليّ، ثم عاد في آخر السنة، وخرج ثانيا بالمال لتسع بقين من رمضان سنة خمس وثمانين، واستخلف هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، وقدم لأربع عشرة خلت من المحرّم سنة ست وثمانين، فكان كلما غلق خراج سنة، وفرغ من حسابها خرج بالمال إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، ومعه الحساب، ثم خرج عليه أهل الحوف، وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم في أربعة آلاف ليومين بقيا من شعبان سنة ست وثمانين ومائة، واستخلف عبد الرحمن بن موسى بن عليّ بن رباح على الجند والخراج، فواقع أهل الحوف، وانهزم عنه الجند، فبقي في نحو المائتين فحمل بهم، وهزم القوم من أرض الجبّ إلى غيفة «2» ، وبعث إلى الفسطاط بثمانين رأسا، وقدم فرجع أهل الحوف، ومنعوا الخراج، فخرج ليث إلى الرشيد، وسأله أن يبعث معه بالجيوش، فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الأحواف إلّا بجيش، فرفع محفوظ بن سليمان أنه يضمن خراج مصر عن آخره بغير سوط ولا عصا، فولاه الرشيد الخراج، وصرف ليثا عن الصلاة والخراج، وبعث أحمد بن إسحاق على الصلاة، مع محفوظ، وكانت ولاية ليث أربع سنين، وسبعة أشهر. فولي: أحمد بن إسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل الرشيد على الصلاة والخراج، وقدم لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين، ثم صرف لثمان عشرة خلت من شعبان سنة تسع وثمانين، فولى سنتين وشهرا ونصفا. ثم ولي: عبيد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس على الصلاة، واستخلف لهيعة بن عيسى بن لهيعة الحضرميّ، ثم قدم للنصف من شوّال، وصرف لإحدى عشرة بقيت من شعبان سنة تسعين ومائة، وخرج واستخلف هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج. وولي: الحسين بن جميل «3» من قبل الرشيد على الصلاة، وقدم لعشر خلون من رمضان، ثم جمع له الخراج مع الصلاة في رجب سنة إحدى وتسعين، وخرج أهل الحوف، وامتنعوا من أداء الخراج، وخرج أبو النداء بأيلة في نحو ألف رجل، فقطع الطريق

بأيلة «1» ، وشعيب، ومدين «2» ، وأغار على بعض قرى الشام، وضوى إليه من جذام جماعة، فبلغ من النهب والقتل مبلغا عظيما، فبعث الرشيد من بغداد جيشا لذلك، وبعث الحسين بن جميل من مصر: عبد العزيز بن الوزير بن صابي الجرويّ في عسكر، فالتقى العسكران بأيلة، فظفر عبد العزيز بأبي النداء، وسار جيش الرشيد إلى بلبيس في شوّال سنة إحدى وتسعين ومائة، فأذعن أهل الحوف بالخراج، وصرف ابن جميل لثنتي عشرة خلت من ربيع الآخر سنة اثنتين، وتسعين ومائة. فولي: مالك بن دلهم «3» بن عمير الكلبيّ على الصلاة والخراج، وقدم لسبع بقين من ربيع الآخر، وفرغ يحيى بن معاذ أمير جيش الرشيد من أمر الحوف، وقدم الفسطاط لعشر بقين من جمادى الآخرة، فكتب إلى أهل الأحواف أن اقدموا حتى أوصي بك مالك بن دلهم، فدخل الرؤساء من اليمانية والقيسية، فأخذت عليهم الأبواب، وقيدوا، وسار بهم للنصف من رجب، وصرف مالك لأربع خلت من صفر سنة ثلاث وتسعين ومائة. فولي الحسن بن التختاح بن التختكان على الصلاة والخراج، فاستخلف العلاء بن عاصم الخولانيّ، وقدم لثلاث خلون من ربيع الأوّل، ثم مات الرشيد، واستخلف ابنه محمد الأمين، فثار الجند بمصر، ووقعت فتنة عظيمة قتل فيها عدّة، وسير الحسن مال مصر، فوثب أهل الرملة، وأخذوه، وبلغ الحسن عزله، فسار من طريق الحجاز لفساد طريق الشام لثمان بقين من ربيع الأوّل سنة أربع وتسعين ومائة، واستخلف عوف بن وهب على الصلاة، ومحمد بن زياد بن طبق القيسيّ على الخراج. فولي حاتم بن هرثمة بن أعين من قبل الأمين على الصلاة والخراج، وقدم في ألف من الأبناء، فنزل بلبيس، فصالحه أهل الأحواف على خراجهم، وثار عليه أهل تنو وتمي «4» ، وعسكروا، فبعث إليهم جيشا، فانهزموا، ودخل حاتم إلى الفسطاط، ومعه نحو مائة من الرهائن لأربع خلون من شوّال، وصرف في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة. فولي جابر بن الأشعث بن يحيى الطائيّ من قبل الأمين على الصلاة والخراج لخمس بقين من جمادى الآخرة، وكان لينا، فلما حدثت فتنة الأمين والمأمون، قام السريّ بن الحكم غضبا للمأمون، ودعا الناس إلى خلع الأمين، فأجابوه وبايعوا المأمون

لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وأخرجوا جابر بن الأشعث، وكانت ولايته سنة. فولي عباد بن محمد بن حيان أبو نصر من قبل المأمون على الصلاة والخراج، لثمان خلون من رجب بكتاب هرثمة بن أعين، وكان وكيله على ضياعه بمصر في الثامن من رجب سنة ست وتسعين، فبلغ الأمين ما كان بمصر، فكتب إلى ربيعة بن قيس بن الزبير الجرشي رئيس قيس الحوف بولاية مصر، وكتب إلى جماعة بمعاونته، فقاموا ببيعة الأمين، وخلعوا المأمون، وساروا لمحاربة أهل الفسطاط، فخندق عباد، وكانت حروب، فقتل الأمين، وصرف عباد في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، فكانت ولايته سنة وسبعة أشهر. فولي المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعيّ من قبل المأمون على الصلاة والخراج، فدخل من مكة للنصف من ربيع الأوّل، فكانت في أيامه حروب، وصرف في شوّال بعد سبعة أشهر. فولي العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس من قبل المأمون على الصلاة والخراج، فقدم ابنه عبد الله، ومعه الحسين بن عبيد بن لوط الأنصاريّ في آخر شوّال، فسجنا المطلب، فثار الجند مرارا، فمنعهم الأنصاريّ أعطياتهم وتهدّدهم، وتحامل على الرعية وعسفها، وتهدّد الجميع، فثاروا، وأخرجوا المطلب من الحبس، وأقاموه لأربع عشرة خلت من المحرّم سنة تسع وتسعين ومائة، وأقبل العباس، فنزل بلبيس، ودعا قيسا إلى نصرته، ومضى إلى الجرويّ بتنيس، ثم عاد فمات في بلبيس لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة، ويقال: إن المطلب دسّ إليه سما في طعامه فمات منه، وكانت حروب وفتن، فكانت ولاية المطلب هذه سنة وثمانية أشهر. ثم ولي السري بن الحكم بن يوسف من قوم الزط ومن أهل بلخ بإجماع الجند عليه عند قيامه على المطلب في مستهلّ رمضان سنة مائتين. ثم ولي سليمان بن غالب بن جبريل البجليّ على الصلاة والخراج بمبايعة الجند له لأربع خلون من ربيع الأوّل سنة إحدى ومائتين، فكانت حروب، ثم صرف بعد خمسة أشهر. وأعيد السري بن الحكم ثانيا من قبل المأمون على الصلاة والخراج، فذمّت ولايته، وأخرجه الجند من الحبس لثنتي عشرة خلت من شعبان، وتتبع من حاربه، وقوي أمره ومات، وهو وال لانسلاخ جمادى الأولى سنة خمس ومائتين، فكانت ولايته هذه ثلاث سنين وتسعة أشهر وثمانية عشر يوما. فولي ابنه محمد بن السريّ أبو نصر أوّل جمادى الآخرة على الصلاة والخراج، وكان

الجروي قد غاب على أسفل الأرض فجرت بينهما حروب، ثم مات لثمان خلون من شعبان سنة ست ومائتين، وكانت ولايته أربعة عشر شهرا. ثم ولي عبيد الله بن السريّ بن الحكم بمبايعة الجند لتسع خلون من شعبان على الصلاة والخراج، فكانت بينه وبين الجرويّ حروب إلى أن قدم عبد الله بن طاهر، وأطعن له عبيد الله في آخر صفر سنة إحدى عشرة ومائتين. فولي عبد الله بن طاهر «1» بن الحسين بن مصعب من قبل المأمون على الصلاة والخراج، فدخل يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين، وأقام في معسكره حتى خرج عبد الله بن السريّ إلى بغداد للنصف من جمادى الأولى، ثم سار إلى الإسكندرية مستهلّ صفر سنة اثنتي عشرة، واستخلف عيسى بن يزيد الجلوديّ، فحصرها بضع عشرة ليلة، ورجع في جمادى الآخرة، وأمر بالزيادة في الجامع العتيق، فزيد فيه مثله، وركب النيل متوجها إلى العراق لخمس بقين من رجب، وكان مقامه بمصر واليا سبعة عشر شهرا، وعشرة أيام. ثم ولي عيسى بن يزيد الجلوديّ باستخلاف ابن طاهر على صلاتها إلى سابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، فصرف ابن طاهر، وولي الأمير أبو إسحاق بن هارون الرشيد مصر، فأقرّ عيسى على الصلاة فقط، وجعل على الخراج: صالح بن شيرازاد، فظلم الناس، وزاد عليهم في خراجهم، فانتفض أهل أسفل الأرض، وعسكروا، فبعث عيسى بابنه محمد في جيش، فحاربوه فانهزم، وقتل أصحابه في صفر سنة أربع عشرة. فولي عمير بن الوليد التميميّ باستخلاف أبي إسحاق بن الرشيد على الصلاة لسبع عشرة خلت من صفر، وخرج ومعه عيسى الجلوديّ لقتال أهل الحوف في ربيع الآخر، واستخلف ابنه محمد بن عمير فاقتتلوا، وكانت بينهم معارك قتل فيها عمير لست عشرة خلت من ربيع الآخر، فكانت مدّة إمرته ستين يوما. فولي عيسى الجلوديّ ثانيا لأبي إسحاق على الصلاة، فحارب أهل الحوف بمنية مطر، ثم انهزم في رجب، وأقبل أبو إسحاق إلى مصر في أربعة آلاف من أتراكه، فقاتل أهل الحوف في شعبان، ودخل إلى مدينة الفسطاط لثمان بقين منه، وقتل أكابر الحوف، ثم خرج إلى الشام غرّة المحرّم سنة خمس عشرة ومائتين في أتراكه، ومعه جمع من الأسارى في ضر وجهد شديد.

وولي على مصر عبدويه بن جبلة «1» من الأبناء على الصلاة، فخرج ناس بالحوف في شعبان، فبعث إليهم وحاربهم حتى ظفر بهم، ثم قدم الأفشين حيدر بن كاوس الصفديّ إلى مصر لثلاث خلون من ذي الحجة، ومعه عليّ بن عبد العزيز الجرويّ لأخذ ماله، فلم يدفع إليه شيئا، فقتله، وصرف عبدويه، وخرج إلى برقة. وولي عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافعيّ، فولى من قبل أبي إسحاق أوّل سنة ست عشرة على الصلاة، فانتقضت أسفل الأرض عربها، وقبطها في جمادى الأولى، وأخرجوا العمال لسوء سيرتهم، وخلعوا الطاعة، فقدم الأفشين من برقة للنصف من جمادى الآخرة، ثم خرج هو وعيسى في شوّال، فأوقعا بالقوم، وأسرا منهم وقتلا، ومضى الأفشين ورجع عيسى، فسار الأفشين إلى الحوف، وقتل جماعتهم، وكانت حروب إلى أن قدم أمير المؤمنين عبد الله المأمون لعشر خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسخط على عيسى وحلّ لواءه، فأخذه بلباس البياض، ونسب الحدث إليه، وإلى عماله وسير الجيوش وأوقع بأهل الفساد وسبى القبط، وقتل مقاتلتهم، ثم رحل لثمان عشرة خلت من صفر بعد تسعة وأربعين يوما. وولي كيدر «2» وهو نصر بن عبد الله أبو مالك الصفديّ، فورد كتاب المأمون عليه بأخذ الناس بالمحنة في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة، والقاضي بمصر يومئذ هارون بن عبد الله الزهريّ، فأجاب، وأجاب الشهود، ومن وقف منهم سقطت شهادته، وأخذ بها القضاة والمحدّثون والمؤذنون، فكانوا على ذلك من سنة ثمان عشرة إلى سنة اثنتين وثلاثين، ومات المأمون في رجب سنة ثمان عشرة، وبويع أبو إسحاق المعتصم، فورد كتابه على كيدر ببيعته، ويأمره بإسقاط من في الديوان من العرب، وقطع العطاء عنهم، ففعل ذلك، فخرج يحيى بن الوزير الجرويّ في جمع من لخم وجذام، ومات كيدر في ربيع الآخر سنة تسع عشرة ومائتين. فولى ابنه المظفر بن كيدر باستخلاف أبيه وخرج إلى يحيى بن وزير، وقاتله وأسره في جمادى الآخرة، ثم صرفت مصر إلى أبي جعفر أشناس فدعي له بها، وصرف مظفر في شعبان. فولي موسى بن أبي العباس ثابت من قبل أشناس على الصلاة مستهلّ شهر رمضان

سنة تسع عشرة، وصرف في ربيع الآخرة سنة أربع وعشرين ومائتين، فكانت ولايته أربع سنين، وسبعة أشهر. فولى مالك بن كيدر بن عبد الله الصفديّ من قبل أشناس على الصلاة وقدم لسبع بقين من ربيع الآخر، وصرف لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ست وعشرين، فولى سنتين وأحد عشر يوما، وتوفي لعشر خلون من شعبان سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. فولي عليّ بن يحيى «1» الأرمنيّ من قبل أشناس على صلاتها، وقدم لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ست وعشرين ومائتين، ومات المعتصم في ربيع الأوّل سنة سبع وعشرين، وبويع: الواثق بالله، فأقرّه إلى سابع ذي الحجة سنة ثمان وعشرين ومائتين، فكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر. ثم ولي عيسى بن منصور الثانية من قبل أشناس على صلاتها، فدخل لسبع خلون من المحرّم سنة تسع وعشرين ومائتين، ومات أشناس سنة ثلاثين، وجعل مكانه إيتاخ، فأقرّ عيسى، ومات الواثق، وبويع المتوكل، فصرف عيسى للنصف من ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وقدم عليّ بن مهرويه خليفة هرثمة بن النضر، ثم مات عيسى في قبة الهواء بعد عزله لإحدى عشرة خلت من ربيع الآخر. فولي هرثمة بن نضر الجبليّ من أهل الجبل لإيتاخ على الصلاة، وقدم لست خلون من رجب سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، فورد كتاب المتوكل يترك الجدال في القرآن لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين ومائتين، ومات هرثمة، وهو وال لسبع بقين من رجب سنة أربع، واستخلف ابنه حاتم بن هرثمة. فولي حاتم بن هرثمة بن النضر باستخلاف أبيه له على الصلاة، وصرف لست خلون من رمضان. فولي عليّ بن يحيى بن الأرمنيّ الثانية من قبل إيتاخ على الصلاة لست خلون من رمضان، وصرف إيتاخ في المحرّم سنة خمس وثلاثين، واستصفيت أمواله بمصر، وترك الدعاء له، ودعي للمنتصر مكانه، وصرف عليّ في ذي الحجة منها. فولي إسحاق بن يحيى «2» بن معاذ بن مسلم الجبليّ من قبل المنتصر وليّ عهد أبيه المتوكل على الله على الصلاة والخراج، فقدم لإحدى عشرة خلت من ذي الحجة، فورد

كتاب المتوكل والمنتصر بإخراج الطالبيين من مصر إلى العراق، فأخرجوا، ومات إسحاق بعد عزله أوّل ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين ومائتين. فولي خوط عبد الواحد بن يحيى بن منصور بن طلحة بن زريق من قبل المنتصر على الصلاة والخراج، فقدم لتسع بقين من ذي القعدة سنة ست وثلاثين ومائتين، وصرف عن الخراج لتسع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين، وأقرّ على الصلاة، ثم صرف سلخ صفر سنة ثمان وثلاثين بخليفته عنبسة على الصلاة والشركة في الخراج مستهل ربيع الأوّل. فولي عنبسة بن إسحاق «1» بن شمر عبس أبو جابر من قبل المنتصر على الصلاة، وشريكا لأحمد بن خالد الضريقسيّ صاحب الخراج، فقدم لخمس خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين وأخذ العمال بردّ المظالم، وأقامهم للناس، وأنصف منهم، وأظهر من العدل ما لم يسمع بمثله في زمانه، وكان يروح ماشيا إلى المسجد الجامع من العسكر، وكان ينادي في شهر رمضان السحور، وكان يرمى بمذهب الخوارج، وفي ولايته نزل الروم دمياط، وملكوها وما فيها، وقتلوا بها جمعا كثيرا من الناس وسبوا النساء والأطفال، فنفر إليهم يوم النحر من سنة ثمان وثلاثين في جيشه، وكثير من الناس، فلم يدركهم، وأضيف له الخراج مع الصلاة، ثم صرف عن الخراج أوّل جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين، وأفرد بالصلاة، وورد الكتاب بالدعاء للفتح بن خاقان «2» في ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين، فدعا له، وعنبسة هذا آخر من ولي مصر من العرب، وآخر أمير صلى بالناس في المسجد الجامع، وصرف أوّل رجب منها، فقدم العباس بن عبد الله بن دينار خليفة يزيد بن عبد الله بولاية يزيد، وكانت ولاية عنبسة أربع سنين، وأربعة أشهر، وخرج إلى العراق في رمضان سنة أربع وأربعين. فولي يزيد بن عبد الله بن دينار أبو خالد من الموالي، ولاه: المنتصر على الصلاة، فقدم لعشر بقين من رجب سنة اثنتين وأربعين، فأخرج المؤنثين من مصر، وضربهم وطاف بهم، ومنع من النداء على الجنائز، وضرب فيه، وخرج إلى دمياط مرابطا في المحرّم سنة خمس وأربعين ورجع في ربيع الأوّل، فبلغه نزول الروم الفرما، فرجع إليها، فلم يلقهم، وعطل الرهان وباع الخيل التي تتخذ للسلطان، فلم تجر إلى سنة تسع وأربعين، وتتبّع الروافض، وحملهم إلى العراق، وبنى مقياس النيل في سنة سبع وأربعين، وجرت على

العلويين في ولايته شدائد، ومات المتوكل في شوّال، وبويع ابنه محمد المنتصر، ومات الفتح بن خاقان، فأقرّ المنتصر يزيد على مصر، ثم مات المنتصر في ربيع الأوّل سنة ثمان وأربعين، وبويع المستعين، فورد كتابه بالاستسقاء لقحط كان بالعراق، فاستسقوا السبع عشرة خلت من ذي القعدة، واستسقى أهل الآفاق في يوم واحد، وخلع المستعين في المحرّم سنة اثنتين وخمسين، وبويع المعتز، فخرج جابر بن الوليد بأرض الإسكندرية، وكانت هناك حروب ابتدأت من ربيع الآخر، فقدم مزاحم بن خاقان من العراق معينا ليزيد في جيش كثيف لثلاث عشرة بقيت من رجب، فواقعهم حتى ظفر بهم، ثم صرف يزيد، وكانت مدّته عشر سنين، وسبعة أشهر وعشرة أيام. فولي مزاحم بن خاقان بن عرطوج أبو الفوارس التركيّ لثلاث خلون من ربيع الأوّل سنة ثلاث، وخمسين ومائتين على الصلاة من قبل المعتز، وخرج إلى الحوف، فأوقع بأهله وعاد، ثم خرج إلى الجيزة، فسار إلى تروجة، فأوقع بأهلها، وأسر عدّة من أهل البلاد، وقتل كثيرا، وسار إلى الفيوم، فطاش سيفه، وكثر إيقاعه بسكان النواحي وعاد. وولي الشرطة أرجوز، فمنع النساء من الحمامات والمقابر، وسجن المؤنثين والنوائح، ومنع من الجهر بالبسملة في الصلاة بالجامع في رجب سنة ثلاث وخمسين، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها: أرجوز، وأخذ أهل الجامع بتمام الصفوف، ووكل بذلك رجلا من العجم يقوم بالسوط من مؤخر المسجد، وأمر أهل الحلق بالتحوّل إلى القبلة قبل إقامة الصلاة، ومنع من المساند التي يستند إليها، ومن الحصر التي كانت للمجالس في الجامع، وأمر أن تصلى التراويح في رمضان خمس تراويح، ولم يزل أهل مصر يصلونها ستا إلى شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ومنع من التثويب، وأمر بالأذان يوم الجمعة في مؤخر المسجد، وأن يغلس بصلاة الصبح، ونهى أن يشق ثوب على ميت أو يسوّد وجه، أو يحلق شعر، أو تصيح امرأة، وعاقب في ذلك، وشدّد فيه، ثم مات مزاحم لخمس مضين من المحرّم سنة أربع وخمسين. فاستخلف ابنه أحمد بن مزاحم، فولي باستخلاف أبيه على الصلاة إلى أن مات لسبع خلون من ربيع الآخر، فكانت ولايته شهرين ويوما، فاستخلف أرجوز بن أولع طرخان التركيّ على الصلاة، فولي خمسة أشهر ونصفا، وخرج أوّل ذي القعدة بعد أن صرف بأحمد بن طولون «1» في شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وإليه كان أمر البلد جميعه، من أيام مزاحم، وفي أيام ابنه أحمد أيضا، والله تعالى أعلم.

ذكر القطائع ودولة بني طولون

ذكر القطائع ودولة بني طولون اعلم: أنّ القطائع قد زالت آثارها، ولم يبق لها رسم يعرف، وكان موضعها: من قبة الهواء التي صار مكانها قلعة الجبل إلى جامع ابن طولون، وهذا أشبه أن يكون طول القطائع، وأمّا عرضها: فإنه من أوّل الرميلة تحت القلعة إلى الموضع الذي يعرف اليوم بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذي يقال له الآن: زين العابدين، وكانت مساحة القطائع ميلا في ميل، فقبة الهواء كانت في سطح الجرف الذي عليه قلعة الجبل. وتحت قبة الهواء: قصر ابن طولون، وموضع هذا القصر: الميدان السلطانيّ تحت القلعة والرميلة التي تحت القلعة مكان سوق الخيل والحمير والجمال. كانت بستانا، ويجاورها الميدان في الموضع الذي يعرف اليوم: بالقبيبات، فيصير الميدان، فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون، وبحذاء الجامع: دار الأمارة في جهته القبلية، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة المحيطة بمصلى الأمير إلى جوار المحراب، وهناك أيضا دار الحرم، والقطائع: عدّة قطع، تسكن فيها عبيد ابن طولون، وعساكره وغلمانه، وكل قطيعة لطائفة، فيقال: قطيعة السودان، وقطيعة الروم، وقطيعة الفرّاشين، ونحو ذلك، فكانت كل قطيعة لسكنى جماعة بمنزلة الحارات التي بالقاهرة، وكان ابتداء عمارة هذه القطائع، وسببها: أنّ أمير المؤمنين المعتصم بالله أبا إسحاق محمد بن هارون الرشيد، لما اختص بالأتراك، ووضع من العرب، وأخرجهم من الديوان، وأسقط أسماءهم، ومنعهم العطاء، وجعل الأتراك أنصار دولته، وأعلام دعوته. كان من عظمت عنده منزلته قلّده الأعمال الجليلة الخارجة عن الحضرة فيستخلف على ذلك العمل الذي تقلده من يقوم بأمره، ويحمل إليه ماله، ويدعى له على منابره كما يدعى للخليفة، وكانت مصر عندهم بهذه السبيل. وقصد المعتصم، ومن بعده من الخلفاء بذلك، العمل مع الأتراك محاكاة ما فعله الرشيد، بعبد الملك بن صالح، والمأمون بطاهر بن الحسين، ففعل المعتصم مثل ذلك بالأتراك، فقلد أشناس، وقلّد الواثق إيتاخ، وقلد المتوكل نقا ووصيف، وقلد المهتدي ماجور، وغير من ذكرنا من أعمال الأقاليم ما قد تضمنته كتب التاريخ، فتقلد باكباك مصر، وطلب من يخلفه عليها، وكان أحمد بن طولون قد مات أبوه في سنة أربعين ومائتين، ولأحمد عشرون سنة منذ ولد من جارية كانت تدعى قاسم، وكان مولده في سنة عشرين ومائتين، وولدت أيضا أخاه موسى وحبسية وسمانة، وكان طولون من الطغرغر مما حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظفا عليه من المال، والرقيق والبراذين، وغير ذلك في كل سنة، وذلك في سنة مائتين، فنشأ أحمد بن طولون نشأ جميلا غير نشء أولاد العجم، فوصف بعلوّ الهمة، وحسن الأدب والذهاب بنفسه عما كان يترامى إليه أهل

طبقته، وطلب الحديث، وأحب الغزو، وخرج إلى طرسوس «1» مرّات، ولقي المحدّثين، وسمع منهم، وكتب العلم، وصحب الزّهاد وأهل الورع، فتأدّب بآدابهم، وظهر فضله، فاشتهر عند الأولياء، وتميز على الأتراك، وصار في عداد من يوثق به، ويؤتمن على الأموال والأسرار، فزوّجه ماجور ابنته، وهي أم ابنه العباس، وابنته فاطمة. ثم إنه سأل الوزير عبيد الله بن يحيى أن يكتب له برزقه على الثغر، فأجابه وخرج إلى طرسوس، فأقام بها وشق على أمّه مفارقته، فكاتبته بما أقلقه، فلما قفل الناس إلى سرّ من رأى سار معهم إلى لقاء أمّه، وكان في القافلة، نحو خمسمائة رجل، والخليفة إذ ذاك: المستعين بالله أحمد بن المعتصم، وكان قد أنفذ خادما إلى بلاد الروم لعمل أشياء نفيسة، فلما عاد بها، وهي: وقر بغل إلى طرسوس، خرج مع القافلة، وكان من رسم الغزاة أن يسيروا متفرّقين، فطرق الأعراب بعض سوادهم، وجاء الصائح: فبدر أحمد بن طولون لقتالهم وتبعوه، فوضع السيف في الأعراب، ورمى بنفسه فيهم حتى استنفذ منهم جميع ما أخذوه، وفرّوا منه، وكان من جملة ما استنفذ من الأعراب البغل المحمل بمتاع الخليفة، فعظم أحمد بما فعل عند الخادم، وكبر في أعين القافلة، فلما وصلوا إلى العراق، وشاهد المستعين ما أحضره الخادم أعجب به، وعرّفه الخادم خروج الأعراب، وأخذهم البغل بما عليه، وما كان من صنع أحمد بن طولون، فأمر له بألف دينار، وسلم عليه مع الخادم، وأمره أن يعرّفه به إذا دخل مع المسلمين، ففعل ذلك، وتوالت عليه صلاة الخليفة حتى حسنت حاله، ووهبه جارية اسمها: مياس استولدها ابنه خمارويه في النصف من المحرّم سنة خمسين ومائتين، فلما خلع المستعين، وبويع المعتز أخرج المستعين إلى واسط، واختار الأتراك أحمد بن طولون أن يكون معه، فسلم إليه ومضى به، فأحسن عشرته، وأطلق له التنزه والصيد، وخشي أن يلحقه منه احتشام، فألزمه كاتبه أحمد بن محمد الواسطيّ، وهو إذ ذاك غلام حسن الشاهد حاضر النادرة، فأنس به المستعين. ثم إن فتيحة أم المعتز كتبت إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين، وقلدته واسط، فامتنع من ذلك، وكتب إلى الأتراك يخبرهم بأنه لا يقتل خليفة له في رقبته بيعة، فزاد محله عند الأتراك بذلك، ووجهوا سعيد الحاجب، وكتبوا إلى ابن طولون بتسليم المستعين له، فتسلمه منه وقتله، وواراه ابن طولون، وعاد إلى سرّ من رأى، وقد تقلد باكباك مصر، وطلب من يوجهه إليها، فذكر له أحمد بن طولون، فقلده خلافته، وضم إليه جيشا، وسار إلى مصر، فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين متقلّدا للقصبة دون غيرها من الأعمال الخارجة عنها، كالإسكندرية ونحوها، ودخل معه

أحمد بن محمد الواسطيّ، وجلس الناس لرؤيته، فسأل بعضهم غلام أبي قبيل: صاحب الملاحم، وكان مكفوفا عما يجده في كتبهم، فقال: هذا رجل نجد صفته كذا وكذا وأنه يتقلد الملك هو وولده قريبا من أربعين سنة، فما تمّ كلامه حتى أقبل أحمد بن طولون، وإذا هو على النعت الذي قال. ولما تسلم أحمد بن طولون مصر كان على الخراج أحمد بن محمد بن المدبر، وهو من دهاة الناس، وشياطين الكتاب، فأهدى إلى أحمد بن طولون هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار بعد ما خرج إلى لقائه هو وشقير الخادم غلام فتيحة أم المعتز، وهو يتقلد البريد، فرأى ابن طولون بين يدي ابن المدبر مائة غلام من الغور، قد انتخبهم وصيرهم عدّة وجمالا، وكان لهم خلق حسن وطول أجسام، وبأس شديد، وعليهم أقبية ومناطق تقال عراض، وبأيديهم مقارع غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة، وكانوا يقفون بين يديه في حافتي مجلسه إذا جلس، فإذا ركب ركبوا بين يديه، فيصير له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس، فلما بعث ابن المدبر بهديته إلى ابن طولون ردّها عليه، فقال ابن المدبر: إنّ هذه لهمة عظيمة، من كانت هذه همته لا يؤمن على طرف من الأطراف، فخافه وكره مقامه بمصر معه، وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد، واتفقا على مكاتبة الخليفة بإزالة ابن طولون، فلم يكن غير أيام حتى بعث ابن طولون إلى ابن المدبر يقول له: قد كنت أعزك الله أهديت لنا هدية وقع الغنى عنها، ولم يجز أن يغتنم مالك كثّره الله، فرددتها توفيرا عليك، ونحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيتهم بين يديك، فأنا إليهم أحوج منك، فقال ابن المدبر: لما بلغته الرسالة هذه أخرى أعظم مما تقدّم قد ظهرت من هذا الرجل إذ كان يردّ الأعراض، والأموال ويستهدي الرجال، ويثابر عليهم، ولم يجد بدّا من أن بعثهم إليه، فتحوّلت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون، ونقصت مهابة ابن المدبر بمفارقة الغلمان مجلسه. فكتب ابن المدبر فيه إلى الحضرة يغري به، ويحرّض على عزله، فبلغ ذلك ابن طولون، فكتم في نفسه، ولم يبده واتفق موت المعتز في رجب سنة خمس وخمسين، وقيام المهتدي بالله محمد بن الواثق، وقتل باكباك، وردّ جميع ما كان بيده إلى ماجور التركيّ حموا بن طولون، فكتب إليه: تسلم من نفسك لنفسك، وزاده الأعمال الخارجة عن قصبة مصر، وكتب إلى إسحاق بن دينار، وهو يتقلد الإسكندرية أن يسلمها لأحمد بن طولون، فعظمت لذلك منزلته، وكثر قلق ابن المدبر وغمه، ودعته ضرورة الخوف من ابن طولون إلى ملاطفته، والتقرّب من خاطره، وخرج ابن طولون إلى الإسكندرية وتسلمها من إسحاق بن دينار، وأقرّه عليها، وكان أحمد بن عيسى «1» بن شيخ الشيبانيّ يتقلد جندي فلسطين والأردن.

فلما مات وثب ابنه على الأعمال، واستبدّ بها، فبعث ابن المدبر سبعمائة ألف وخمسين ألف دينار حملا من مال مصر إلى بغداد، فقبض ابن شيخ عليها، وفرّقها في أصحابه، وكانت الأمور قد اضطربت ببغداد، فطمع ابن شيخ في التغلب على الشامات، وأشيع أنه يريد مصر، فلما قتل المهتدي في رجب سنة ست وخمسين، وبويع المعتمد بالله أحمد بن المتوكل لم يدع ابن شيخ له، ولا بايع هو، ولا أصحابه، فبعث إليه بتقليد أرمينية زيادة على ما معه من بلاد الشام، وفسح له في الاستخلاف عليها، والإقامة على عمله، فدعا حينئذ للمعتمد، وكتب إلى ابن طولون أن يتأهب لحرب ابن شيخ، وأن يزيد في عدّته، وكتب لابن المدبر أن يطلق له من المال ما يريد، فعرض ابن طولون الرجال، وأثبت من يصلح، واشترى العبيد من الروم والسودان، وعمل سائر ما يحتاج إليه، وخرج في تجمل كبير وجيش عظيم، وبعث إلى ابن شيخ يدعوه إلى طاعة الخليفة، وردّ ما أخذ من المال، فأجاب بجواب قبيح، فسار لست خلون من جمادى الآخرة، واستخلف أخاه موسى بن طولون على مصر، ثم رجع من الطريق بكتاب ورد عليه من العراق، ودخل الفسطاط في شعبان. وقدم من العراق: ماجور التركيّ لمحاربة ابن شيخ، فلقيه أصحاب ابن شيخ، وعليهم ابنه، فانهزموا منه، وقتل الابن، واستولى ماجور على دمشق، ولحق ابن شيخ بنواحي أرمينية، وتقلد ماجور أعمال الشام كله، وصار أحمد بن طولون من كثرة العبيد، والرجال والآلات بحال يضيق به داره، ولا يتسع له فركب إلى سفح الجبل في شعبان، وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى، واختط موضعها فبنى القصر والميدان، وتقدّم إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله، فاختطوا وبنوا حتى اتصل البناء لعمارة الفسطاط، ثم قطعت القطائع، وسميت كل قطيعة باسم من سكنها، فكانت للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وللفرّاشين قطيعة مفردة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم. وبنى القوّاد مواضع متفرّقة، فعمرت القطائع عمارة حسنة، وتفرّقت فيها السكك والأزقة، وبنيت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران، وسميت أسواقها، فقيل: سوق العيارين، وكان يجمع العطارين والبزازين، وسوق الفاميين، ويجمع الجزارين والبقالين والشوّايين، فكان في دكاكين الفاميين جميع ما في دكاكين نظرائهم في المدينة. وأكثر وأحسن، وسوق الطباخين، ويجمع الصيارف، والخبازين والحلوانيين، ولكل من الباعة سوق حسن عامر، فصارت القطائع مدينة كبيرة، أعمر وأحسن من الشام، وبنى ابن طولون قصره ووسعه وحسنه، وجعل له ميدانا كبيرا يضرب فيه بالصوالجة، فسمي القصر كله الميدان، وكان كل من أراد الخروج من صغير وكبير إذا سئل عن ذهابه يقول:

إلى الميدان، وعمل للميدان أبوابا لكل باب اسم، وهي باب الميدان، ومنه كان يدخل ويخرج معظم الجيش، وباب الصوالجة، وباب الخاصة، ولا يدخل منه إلا خاصة ابن طولون، وباب الجبل لأنه مما يلي جبل المقطم، وباب الحرم، ولا يدخل منه إلا خادم خصيّ أو حرمة، وباب الدرمون لأنه كان يجلس عنه حاجب أسود عظيم الخلقة يتقلد جنايات الغلمان السودان الرجالة فقط يقال له: الدرمون، وباب دعناج لأنه كان يجلس عنده حاجب يقال له: دعناج، وباب الساج لأنه عمل من خشب الساج، وباب الصلاة لأنه كان في الشارع الأعظم، ومنه يتوصل إلى جامع ابن طولون، وعرف هذا الباب أيضا بباب السباع، لأنه كان عليه صورة سبعين من جبس، وكان الطريق الذي يخرج منه ابن طولون، وهو الذي يعرج منه إلى القصر طريقا واسعا فقطعه بحائط وعمل فيه ثلاثة أبواب كأكبر ما يكون من الأبواب، وكانت متصلة بعضها ببعض واحدا بجانب الآخر. وكان ابن طولون إذا ركب يخرج معه عسكر متكاثف الخروج على ترتيب حسن بغير زحمة، ثم يخرج ابن طولون من الباب الأوسط من الأبواب الثلاثة بمفرده من غير أن يختلط به أحد من الناس، وكانت الأبواب المذكورة تفتح كلها في يوم العيد، أو يوم عرض الجيش، أو يوم صدقة، وما عدا هذه الأيام لا تفتح إلا بترتيب في أوقات معروفة، وكان القصر له مجلس يشرف منه ابن طولون يوم العرض، ويوم الصدقة لينظر من أعلاه من يدخل ويخرج، وكان الناس يدخلون من باب الصوالجة، ويخرجون من باب السباع، وكان على باب السباع مجلس يشرف منه ابن طولون ليلة العيد على القطائع ليرى حركات الغلمان، وتأهبهم وتصرّفهم في حوائجهم، فإذا رأى في حال أحد منهم نقصا أو خللا، أمر له بما يتسع به، ويزيد في تجمله، وكان يشرف منه أيضا على البحر، وعلى باب مدينة الفسطاط، وما يلي ذلك. فكان منتزها حسنا، وبنى الجامع، فعرف بالجامع الجديد، وبنى العين والسقاية بالمغافر، وبنى تنور فرعون فوق الجبل، واتسعت أحواله وكثرت اصطبلاته وكراعه، وعظم صيته، فخافه ماجور، وكتب فيه إلى الحضرة يغري به، وكتب فيه ابن المدبر وشقير الخادم، وكانت لابن طولون أعين، وأصحاب أخبار يطالعونه بسائر ما يحدث، فلما بلغه ذلك تلطف أصحاب الأخبار له ببغداد عند الوزير، حتى سير إلى ابن طولون بكتب ابن المدبر، وكتب شقير من غير أن يعلما بذلك، فإذا فيها: أنّ أحمد بن طولون عزم على التغلب على مصر والعصيان بها، فكتم خبر الكتب وما زال بشقير حتى مات وكتب إلى الحضرة يسأل صرف ابن المدبر عن الخراج، وتقليد هلال فأجيب إلى ذلك، وقبض على ابن المدبر وحبسه.

وكات له معه أمور آلت إلى خروج ابن المدبر عن مصر، وتقلد ابن طولون خراج مصر مع المعونة والثغور الشامية، فأسقط المعاون والمرافق، وكانت بمصر خاصة في كل سنة مائة ألف دينار، فأظفره الله عقيب ذلك، بكنز فيه ألف ألف دينار: بنى منه المارستان، وخرج إلى الشام، وقد تقلدها فتسلم دمشق وحمص، ونازل أنطاكية حتى أخذها، وكانت صدقاته على أهل المسكنة والستر، وعلى الضعفاء والفقراء، وأهل التجمل متواترة، وكان راتبه لذلك في كل شهر ألفي دينار سوى ما يطرأ عليه من النذور، وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها. يذبح فيها البقر والكباش، ويغرف للناس في القدور والفخار والقصاع على كل قدر أو قصعة لكل مسكين أربعة أرغفة في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القدر، وكانت تعمل في داره، وينادي من أحبّ أن يحضر دار الأمير فليحضر، وتفتح الأبواب ويدخل الناس الميدان، وابن طولون في المجلس الذي تقدّم ذكره ينظر إلى المساكين، ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسرّه ذلك، ويحمد الله على نعمته. ولقد قال له مرّة إبراهيم ابن قراطغان، وكان على صدقاته: أيّد الله الأمير إنّا نقف في المواضع التي تفرّق فيها الصدقة، فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشا، والمعصم الرائع فيه الحديدة، والكف فيها الخاتم فقال: يا هذا كل من مدّ يده إليك، فأعطه فهذه هي اللطيفة المستوردة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة/ 273] فاحذر أن تردّ يدا امتدّت إليك، وأعط كل من يطلب منك. فلما مات أحمد بن طولون، وقام من بعده ابنه خمارويه أقبل على قصر أبيه، وزاد فيه، وأخذ الميدان الذي كان لأبيه، فجعله كله بستانا، وزرع فيه أنواع الرياحين، وأصناف الشجر، ونقل إليه الودى اللطيف الذي ينال ثمره القائم، ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النخل، وحمل إليه كل صنف من الشجر المطعم العجيب، وأنواع الورد، وزرع فيه الزعفران، وكسا أجسام النخل نحاسا مذهبا حسن الصنعة، وجعل بين النحاس، وأجساد النخل مزاريب الرصاص، وأجرى فيها الماء المدبر، فكان يخرج من تضاعيف، قائم النخل عيون الماء، فتنحدر إلى فساقي معمولة، ويفيض منها الماء إلى مجار تسقي سائر البستان، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة، وكتابات مكتوبة يتعاهدها البستانيّ بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وزرع فيه النيلوفر الأحمر، والأزرق والأصفر والجنوى العجيب، وأهدى إليه من خراسان وغيرها، كل أصل عجيب، وطعموا له شجر المشمش باللوز، وأشباه ذلك من كل ما يستظرف ويستحسن، وبنى فيه برجا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ، ليقوم مقام الأقفاص، وزوّقه بأصناف الأصباغ وبلط أرضه، وجعل في تضاعيفه أنهارا لطافا جدا ولها يجري فيها الماء مدبرا من السواقي التي تدور على

الآبار العذبة، ويسقي منها الأشجار وغيرها، وسرّح في هذا البرج من أصناف القماري «1» والدباسي «2» والنونيات، وكل طائر مستحسن حسن الصوت، فكانت الطير تشرب، وتغتسل من تلك الأنهار الجارية في البرج، وجعل فيه أوكارا في قواديس لطيفة ممكنة في جوف الحيطان، لتفرخ الطيور فيها، وعارض لها فيه عيدانا ممكنة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت حتى يجاوب بعضها بعضا بالصياح، وسرّح في البستان من الطير العجيب كالطواويس، ودجاج الحبش، ونحوها شيئا كثيرا. وعمل في داره مجلسا برواقة سماه بيت الذهب طلى حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد المعمول في أحسن نقش، وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صورا في حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته، وصور حظاياه، والمغنيات اللّاتي تغنينه بأحسن تصوير، وأبهج تزويق، وجعل على رؤوسهنّ الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين، والكوادن المرصعة بأصناف الجواهر، وفي آذانها الأجراس الثقال الوزن، المحكمة الصنعة، وهي مسمرة في الحيطان، ولوّنت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة. فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا وجعل بين يدي هذا البيت فسقية مقدّرة وملأها زئبقا، وذلك أنه شكا إلى طبيبه كثرة السهر، فأشار عليه بالتغمير «3» ، فأنف من ذلك، وقال: لا أقدر على وضع يد أحد عليّ، فقال له: تأمر بعمل بركة من زئبق، فعمل بركة يقال: إنها خمسون ذراعا طولا في خمسين ذراعا عرضا، وملأها من الزئبق، فأنفق في ذلك أموالا عظيمة، وجعل في أركان البركة سككا من الفضة الخالصة، وجعل في السكك زنانير من حرير محكمة الصنعة في حلق من الفضة، وعمل فرشا من أدم يحشى بالريح حتى ينتفخ، فيحكم حينئذ شدّة، ويلقي على تلك البركة الزئبق، وتشدّ زنانير الحرير التي في حلق الفضة بسكك الفضة، وينام على هذا الفرش، فلا يزال الفرش يرتج ويتحرّك بحركة الزئبق، ما دام عليه، وكانت هذه البركة من أعظم ما سمع به من الهمم الملوكية، فكان يرى لها في الليالي المقمرة منظر عجيب، إذا تألف نور القمر بنور الزئبق، ولقد أقام الناس بعد خراب القصر مدّة يحفرون لأخذ الزئبق من شقوق البركة، وما عرف ملك قط تقدّم خمارويه «4» في عمل مثل هذه البركة.

وبنى أيضا في القصر قبة تضاهي قبة الهواء سماها الدكة، فكانت أحسن شيء بني، وجعل لها الستر التي تقي الحرّ والبرد، فتسبل إذا شاء، وترفع إذا أحب، وفرش أرضها بالفرش السرية، وعمل لكل فصل فرشا يليق به، وكان كثيرا ما يجلس في هذه القبة ليشرف منها على جميع ما في داره من البستان وغيره، ويرى الصحراء والنيل والجبل، وجميع المدينة، وبنى ميدانا آخر أكبر من ميدان أبيه، وكان أحمد بن طولون، قد اتخذ حجرة بقربه فيها رجال سمّاهم بالمكبرين عدّتهم اثنا عشر رجلا يبيت منهم في كل ليلة أربعة يتعاقبون الليل نوبا يكبرون ويسبحون ويحمدون، ويهللون ويقرءون القرآن تطريبا بألحان، ويتوسلون بقصائد زهدية، ويؤذنون أوقات الأذان، فلما ولي خمارويه: أقرّهم على حالهم، وأجراهم على رسمهم، وكان يجلس للشرب مع حظاياه في الليل، وقيناته تغنين، فإذا سمع أصوات هؤلاء يذكرون الله، والقدح في يده وضعه بالأرض، وأسكت مغنياته، وذكر الله معهم أبدا، حتى يسكت القوم لا يضجره ذلك، ولا يغيظه أن قطع عليه ما كان فيه من لذته بالسماع. وبنى أيضا في داره: دارا للسباع عمل فيها بيوتا بآزاج، كل بيت يسع سبعا، ولبوته، وعلى تلك البيوت أبواب تفتح من أعلاها بحركات، ولكل بيت منها طاق صغير يدخل منه الرجل الموكل بخدمة ذلك البيت يفرشه بالزبل، وفي جانب كل بيت حوض من رخام بميزاب من نحاس يصب فيه المال، وبين يدي هذه البيوت قاعة فسيحة متسعة فيها رمل مفروش بها، وفي جانبها حوض كبير من رخام يصب فيه ماء من ميزاب كبير، فإذا أراد سائس سبع من تلك السباع تنظيف بيته أو وضع وظيفة اللحم التى لغذائه، رفع الباب بحيلة من أعلى البيت، وصاح بالسبع، فيخرج إلى القاعة المذكورة، ويردّ الباب، ثم ينزل إلى البيت من الطاق، فيكنس الزبل، ويبدّل الرمل بغيره مما هو نظيف، ويضع الوظيفة من اللحم في مكان معدّ لذلك بعدما يخلص ما فيه من الغدد، ويقطعه لهما، ويغسل الحوض، ويملأه ماء، ثم يخرج ويرفع الباب من أعلاه، وقد عرف السبع ذاك، فحال ما يرفع السائس باب البيت دخل إليه الأسد، فأكل ما هيئ له من اللحم، حتى يستوفيه، ويشرب من الماء كفايته، فكانت هذه مملوءة من السباع، ولهم أوقات يفتح فيها سائر بيوت السباع، فتخرج إلى القاعة، وتتمشى فيها وتمرح وتلعب، ويهارش بعضها بعضا، فتقيم يوما كاملا إلى العشيّ، فيصبح بها السّواس، فيدخل كل سبع إلى بيته لا يتخطاه إلى غيره. وكان من جملة هذه السباع: سبع أزرق العينين يقال له: زريق قد أنس بخمارويه، وصار مطلقا في الدار لا يؤذي أحدا، ويقام له بوظيفته من الغذاء في كل يوم، فإذا نصبت مائدة خمارويه أقبل زريق معها، وربض بين يديه، فرمى إليه بيده الدجاجة بعد الدجاجة، والفضلة الصالحة من الجدي، ونحو ذلك مما على المائدة، فيتفكه به. وكانت له لبوة لم تستأنس كما أنس، فكانت مقصورة في بيت، ولها وقت معروف

يجتمع معها فيه، فإذا نام خمارويه جاء زريق ليحرسه، فإن كان قد نام على سرير ربض بين يدي السرير، وجعل يراعيه، ما دام نائما، وإن كان إنما نام على الأرض بقي قريبا منه، وتفطن لمن يدخل، ويقصد خمارويه لا يغفل عن ذلك لحظة واحدة، وكان على ذلك دهره قد ألف ذلك، ودرب عليه، وكان في عنقه طوق من ذهب، فلا يقدر أحد من أن يدنو من خمارويه ما دام نائما لمراعاة زريق له، وحراسته إياه حتى إذا شاء الله إنفاذ قضائه في خمارويه كان بدمشق، وزريق غائب عنه بمصر، ليعلم أنه لا يغني حذر من قدر، وبنى أيضا دار الحرم، ونقل إليها أمهات أولاد أبيه، مع أولادهنّ، وجعل معهنّ المعزولات من أمهات أولاده، وأفرد لكل واحدة حجرة واسعة نزل في كل حجرة منها بعد زوال دولتهم قائد جليل فوسعته، وفضل عنه منها شيء، وأقام لكل حجرة من الأنزال والوظائف الواسعة، ما كان يفضل عن أهلها منه شيء كثير، فكان الخدم الموكلون بالحرم من الطباخين، وغيرهم يفضل لكل منهم مع كثرة عددهم بعد التوسع في قوته الزلة «1» الكبيرة، والتي فيها العدّة من الدجاج، فمنها ما قلع فخذها، ومنها ما قد تشعب صدرها، ومن الفراخ مثل ذلك مع القطع الكبار من الجدي ولحوم الضأن، والعدّة من ألوان عديدة، والقطع الصالحة من الفالوذج، والكثير من اللوزينج، والقطائف والهرائس من العصيدة التي تعرف اليوم في وقتنا هذا بالمامونية، وأشباه ذلك مع الأرغفة الكبار، واشتهر بمصر بيعهم لذلك، وعرفوا به، فكان الناس يتناوبونهم لذلك، وأكثر ما تباع الزلة الكبيرة منها بدرهمين، ومنها ما يباع بدرهم، فكان كثير من الناس يتفكهون من هذه الزلات، وكان شيئا موجودا في كل وقت لكثرته، واتساعه بحيث إنّ الرجل إذا طرقه ضيف، خرج من فوره إلى باب دار الحرم، فيجد ما يشتريه ليتجمل به لضيفه، مما لا يقدر على عمل مثله، ولا يتهيأ له من اللحوم، والفراخ والدجاج والحلوى مثل ذلك. واتسعت أيضا اصطبلات خمارويه، فعمل لكل صنف من الدواب اصطبلا مفردا، لكان للخيل الخاص اصطبل مفرد ولدواب الغلمان اصطبلات عدّة، ولبغال القباب اصطبلات، ولبغال النقل غير بغال القباب اصطبلات، وللنجائب والبخاتي «2» اصطبلات لكل صنف اصطبل مفرد للاتساع في المواضع والتفنن في الأثقال، وعمل للنمور دارا مفردة، وللفهود دارا مفردة، وللفيلة دارا، وللزرافات دارا، كل ذلك سوى الاصطبلات التي بالجيزة، فإنه كان له عدّة ضياع من الجيزة اصطبلات مثل: نهيا، ووسيم، وسفط، وطهرمس، وغيرها، وكانت هذه الضياع لا تزرع إلا القرط برسم الدواب، وكان للخليفة أيضا بمصر اصطبلات سوى ما ذكر تنتج فيها الخيل: لحلبة السباق، وللرباط في سبيل الله تعالى برسم الغزو، وكان لكل دار من الدور المذكورة، ولكل اصطبل وكلاء لهم الرزق

السنيّ والوظائف الكثيرة والأموال المتسعة، وبلغ رزق الجيش في أيام خمارويه تسعمائة ألف دينار في كل سنة، وقام مطبخه المعروف بمطبخ العامة بثلاثة وعشرين ألف دينار في كل شهر، سوى ما هو موظف لجواريه وأرزاق من يخدمهنّ ويتصرّف في حوائجهنّ. وكان قد اتخذ لنفسه من ولد الحوف وشناترة الضياع قوما معروفين بالشجاعة، والبأس لهم خلق عظيم تامّ، وعظم أجسام، وأدرّ عليهم الأرزاق، ووسع لهم في العطاء، وشغلهم عما كانوا فيه من قطع الطريق، وأذية الناس بخدمته، وألبسهم الأقبية، وجواشن الديباج، وصاغ لهم المناطق العراض الثقال، وقلّدهم السيوف المحلاة يضعونها على أكتافهم، فإذا مشوا بين يديه، وموكبه على ترتيبه، ومضت أصناف العسكر وطوائفه تلاهم السودان، وعدّتهم ألف أسود لهم درق من حديد، محكم الصنعة، وعليهم أقبية سود، وعمائم سود، فيخالهم الناظر إليهم بحرا أسود يسير، لسواد ألوانهم، وسواد قيابهم، ويصير لبريق درقهم وحلي سيوفهم والبيض التي تلمع على رؤوسهم من تحت العمائم زيّ بهج، فإذا مضى السودان قدم خمارويه، وقد انفرد عن موكبه، وصار بينه وبين الموكب نحو نصف غلوة سهم والمختارة تحف به، وكان تامّ الظهر، ويركب فرسا تامّا، فيصير كالكوكب إذا أقبل لا يخفى على أحد، كأنه قطعة جبل في وسط المختارة، وكان مهابا ذا سطوة، وقد وقع في قلوب الكافة أنه متى أشار إليه أحد بإصبعه، أو تكلم أو قرب من، لحقه مكروه عظيم، فكان إذا أقبل كما ذكرنا لا يسمع من أحد كلمة، ولا سعلة ولا عطسة، ولا نحنحة البتة، كأنما على رؤوسهم الطير، وكان يتقلد في يوم العيد سيفا بحمائل، ولا يزال يتفرّج ويتنزه ويخرج إلى مواضع لم يكن أبوه يهش إليها، كالأهرام، ومدينة العقاب، ونحو ذلك لأجل الصيد، فإنه كان مشغوفا به لا يكاد يسمع بسبع، إلا قصده، ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة، وهو سليم فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع، وهو قائم فإذا قدم خمارويه من الصيد سار القفص، وفيه السبع بين يديه، وكانت حلبة السباق في أيامهم تقوم مقام الأعياد، لكثرة الزينة وركوب سائر الغلمان، والعساكر على كثرتهم بالسلاح التام، والعدد الكاملة، فيجلس الناس لمشاهدة ذلك، كما يجلسون في الأعياد وتطلق الخيل من غايتها، فتمرّ متفاوتة يقدم بعضها بعضا حتى يتم السبق. قال القضاعيّ: المنظر بناه أحمد بن طولون في ولايته لعرض الخيل، وكان عرض الخيل من عجائب الإسلام الأربعة التي منها هذا العرض، ورمضان بمكة، والعيد كان بطرسوس، والجمعة ببغداد، فبقي من هذه الأربعة، شهر رمضان بمكة، والجمعة ببغداد، وذهبت اثنتان، قال كاتبه: وقد ذهبت الجمعة ببغداد أيضا بعد القضاعيّ، بقتل هولاكو للخليفة المستعصم، وزوال شعائر الإسلام من العراق، وبقيت مكة شرّفها الله تعالى، وليس في شهر رمضان الآن بها ما يقال فيه أنه من عجائب الإسلام، ولما تكامل عزّ خمارويه،

وانتهى أمره بدأ يسترجع منه الدهر ما أعطاه، فأوّل ما طرقه موت خطيبته بوران التي من أجلها بنى بيت الذهب، وصوّر فيه صورتها وصورته، كما تقدّم، وكان يرى أن الدنيا لا تطيب له إلا بسلامتها وبنظره إليها، وتمتعه بها فكدّر موتها عيشه، وانكسر انكسارا بان عليه، ثم إنه أخذ في تجهيز ابنته، فجهزها جهازا ضاهى به نعم الخلافة، فلم يبق خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها، فكان من جملته: دكة أربع قطع من ذهب عليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هون من ذهب. قال القضاعيّ: وعقد المعتضد النكاح على ابنته، يعني ابنة خمارويه: قطر الندى، فحملها أبو الجيش خمارويه مع عبد الله بن الخصاص، وحمل معها ما لم ير مثله، ولا يسمع به، ولما دخل إليه ابن الخصاص يودّعه، قال له خمارويه: هل بقي بيني وبينك حساب؟ فقال: لا، فقال: انظر حسابك، فقال: كسر بقي من الجهاز، فقال: أحضروه، فأخرج ربع طومار فيه سبت ذكر النفقة، فإذا هي أربعمائة ألف دينار، قال محمد بن عليّ المادرانيّ، فنظرت في الطومار، فإذا فيه وألف تكة الثمن عنها عشرة آلاف دينار، فأطلق له الكل. قال القضاعيّ: وإنما ذكرت هذا الخبر لتستدل به على أشياء منها سعة نفس أبي الجيش، ومنها كثرة ما كان يملكه ابن الخصاص حتى أنه قال: كسر بقي من الجهاز، وهو أربعمائة ألف دينار، لو لم يقتضه ذلك، لم يذكره، ومنها ميسور ذلك الزمان لما طلب فيه ألف تكة من أثمان عشرة دنانير قدر عليها في أيسر وقت، وبأهون سعي، ولو طلب اليوم خمسون، لم يقدر عليها، قال كاتبه: ولا يعرف اليوم في أسواق القاهرة ومصر تكة بعشرة دنانير، إذا طلبت توجد في الحال، ولا بعد شهر، إلّا أن يتعنى بعملها، فتعمل، ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته أمر فبنى لها على رأس كل مرحلة تنزل بها قصر، فيما بين مصر وبغداد، وأخرج معها أخاه شيبان بن أحمد بن طولون في جماعة مع ابن الخصاص، فكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصرا قد فرش فيه جميع ما يحتاج إليه، وعلقت فيه الستور، وأعدّ فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة، كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس، حتى قدمت بغداد أوّل المحرّم سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فزفت على الخليفة المعتضد. وبعد ذلك قتل خمارويه بدمشق، وكانت مدّة بني طولون بمصر سبعا وثلاثين سنة، وستة أشهر واثنين وعشرين يوما. وولي منهم خمسة أمراء أوّلهم: أحمد بن طولون، ولي مصر من قبل المعتز على

صلاتها، فدخل يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، وخرج بغا الأصفر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا، فيما بين برقة والإسكندرية في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين، وسار إلى الصعيد، فقتل في الحرب، وحمل رأسه إلى الفسطاط لإحدى عشرة بقيت من شعبان، وخرج ابن الصوفي العلويّ، وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، ودخل إسنا في ذي القعدة، فنهب وقتل، فبعث إليه ابن طولون جيشا، فهزم الجيش في ربيع الأوّل سنة ست وخمسين، فبعث بجيش آخر، فواقعه بإخميم في ربيع الآخر، فانهزم ابن الصوفيّ إلى الواح، فأقام به، وخرج أحمد بن طولون يريد حرب عيسى بن الشيخ، ثم عاد، فابتدأ في أبناء الميدان، وقدم العباس وخمارويه ابنا أحمد بن طولون من العراق على طريق مكة سنة سبع وخمسين، وورد كتاب ماجور بتسلم أحمد بن طولون الأعمال الخارجة عن يده من أرض مصر، فتسلم الإسكندرية، وخرج إليها لثمان خلون من شهر رمضان، واستخلف طفج صاحب الشرط، ثم قدم لأربع عشرة بقيت من شوّال، وسخط على أخيه موسى، وأمره بلباس البياض. وخرج إلى الإسكندرية ثانيا لثمان بقين من شعبان سنة تسع وخمسين، واستخلف ابنه العباس، وقدم لثمان خلون من شوّال، وأمر ببناء المسجد الجامع على الجبل في صفر سنة تسع وخمسين، وببناء المارستان للمرضى، وورد كتاب المعتمد يستحثه في حمل الأموال، فكتب إليه لست أطيق ذلك، والخراج بيد غيري، فأنفذ المعتمد نفيسا الخادم بتقليد أحمد بن طولون الخراج، وبولايته على الثغور الشامية، فأقرّ أبا أيوب أحمد بن محمد بن شجاع على الخراج خليفة له عليه، وعقد لطخشى بن بلبرد على الثغور، فخرج في جمادى الأولى سنة أربع وستين، وتقدّم أبو أحمد الموفق إلى موسى بن بغا في صرف أحمد بن طولون، وتقليدها ماجور التركي والي دمشق، فكتب إليه بذلك، فتوقف لعجزه عن مقاومة ابن طولون، فخرج موسى بن بغا، ونزل الرقة، فبلغ ابن طولون أنه سائر إليه فابتدأ في بناء الحصن بالجزيرة، ليكون معقلا لماله وحرمه في سنة ثلاث وستين، واجتهد في عمل المراكب الحربية، وأظافها بالجزيرة، فأقام موسى بالرقة عشرة أشهر، واضطربت أموره، ومات في صفر سنة أربع وستين، ومات ماجور بدمشق، واستخلف ابنه عليّ بن ماجور، فحرّك ذلك أحمد بن طولون على المسير، وكتب إلى ابن ماجور أنه سائر إليه، وأمره بإقامة الأنزال والميرة، فأجاب بجواب حسن، وشكا أهل مصر إلى ابن طولون ضيق المسجد الجامع يوم الجمعة بجنده وسودانه، فأمر ببناء المسجد الجامع بجبل يشكر، فابتدأ ببنائه في سنة أربع وتم في سنة ست وستين ومائتين، وخرج في جيوشه لثمان بقين من شعبان سنة أربع وستين، واستخلف ابنه العباس، وضم إليه أحمد بن محمد الواسطيّ مدبرا ووزيرا، فبلغ الرملة، وتلقاه محمد بن رافع واليها، وأقام له بها الدعوة، فأقرّه ومضى إلى دمشق،

فتلقاه عليّ بن ماجور، وأقام له بها الدعوة، فأقام بها حتى استوثق له أمرها، ومضى إلى حمص فتسلمها، وبعث إلى سيما الطويل، وهو بأنطاكية يأمره بالدعاء له فأبى، فسار إليه في جيش عظيم، وحاصره، ورماه بالمجانيق، حتى دخلها في المحرّم سنة خمس وستين، فقتل سيما، واستباح أمواله ورجاله، ومضى إلى طرسوس، فدخلها في ربيع الأوّل، فضاقت به، وغلا السعر بها، فنابذه أهلها، فقاتلهم وأمر أصحابه أن ينهزموا عن أهل طرسوس ليبلغ طاغية الروم، فيعلم أنّ جيوش ابن طولون مع كثرتها وشدّتها، لم تقم لأهل طرسوس، فانهزموا، وخرج عنهم واستخلف عليها طخشي، فورد الخبر عليه بأنّ ابنه العباس قد خالف عليه، فأزعجه ذلك، وسار فخاف العباس، وقيد الواسطيّ، وخرج بطائفته إلى الجيزة لثمان خلون من شعبان سنة خمس وستين ومائتين، فعسكر بها، واستخلف أخاه ربيعة بن أحمد، وأظهر أنه يريد الإسكندرية، وسار إلى برقة، فقدم أحمد بن طولون من الشام لأربع خلون من رمضان، لأنفذ القاضي بكار بن قتيبة في نفر بكتابه إلى العباس، فساروا إليه ببرقة، فأبى أن يرجع، وعاد بكار في أوّل ذي الحجة، ومضى العباس يريد إفريقية في جمادى الأولى سنة ست وستين، فنهب لبدة «1» ، وقتل من أهلها عدّة، وضجت نساؤهم، فاجتمع عليه: جيش ابن الأغلب والإباضية، فقاتلهم بنفسه، وحسن بلاؤه يومئذ وقال: لله درّي إذ أعدوا على فرسي ... إلى الهياج ونار الحرب تستعر وفي يدي صارم أفري الرءوس به ... في حدّه الموت لا يبقي ولا يذر إن كنت سائلة عني وعن خبري ... فها أنا الليث والصمصامة الذكر من آل طولون أصلي إن سألت فما ... فوقي لمفتخر بالجود مفتخر لو كنت شاهدة كرّي بلبدة إذ ... بالسيف أضرب والهامات تبتذر إذا لعاينت مني ما تبادره ... عني الأحاديث والأنباء والخبر وقتل يومئذ صناديد عسكره، ووجوه أصحابه، ونهبت أمواله، وفرّ إلى برقة في ضرّ. وعقد أحمد بن طولون على جيش، وبعث به إلى برقة في رمضان سنة سبع وستين، ثم خرج بنفسه في عسكر عظيم يقال: إنه بلغ مائة ألف لثنتي عشر خلت من ربيع الأوّل سنة ثمان وستين، فأقام بالإسكندرية، وفرّ إليه أحمد بن محمد الواسطيّ من عند العباس، فصغر عنده أمر العباس، فعقد على جيش سيّره إلى برقة، فواقعوا أصحاب العباس وهزموهم، وقتلوا منهم كثيرا، وأدركوا العباس لأربع خلون من رجب وعاد أحمد إلى الفسطاط لثلاث عشرة خلت منه، وقدم العباس والأسرى في شوّال، ثم أخرجوا أوّل ذي

القعدة، وقد بنيت لهم دكة عالية، فضربوا وألقوا من أعلاها، ثم بعث بلؤلؤ في جيش إلى الشام، فخالف على أحمد، ومال مع الموفق، وصار إليه، فخرج أحمد، واستخلف ابنه خمارويه في صفر سنة تسع وستين، فنزل دمشق، ومعه ابنه العباس مقيدا، فخالف عليه أهل طرسوس، فخرج يريد محاربتهم ثم توقف لورود كتاب المعتمد عليه، أنه قادم عليه ليلتجئ إليه، فخرج كالمتصيد من بغداد، وتوجه نحو الرقة، فبلغ أبا أحمد الموفق مسيره، وهو محارب لصاحب الزنج، فعمل عليه حتى عاد إلى سامراء، ووكل به جماعة، وعقد لإسحاق بن كنداخ الخزريّ على مصر، فبلغ ذلك ابن طولون، فرجع إلى دمشق، وأحضر القضاة والفقهاء من الأعمال، وكتب إلى مصر كتابا قرئ على الناس بأنّ: أبا أحمد الموفق نكث بيعة المعتمد، وأسره في دار أحمد بن الخصيب، وإنّ المعتمد قد صار من ذلك إلى ما لا يجوز ذكره، وإنه بكى بكاء شديدا، فلما خطب الخطيب يوم الجمعة، ذكر ما نيل من المعتمد، وقال: اللهم فاكفه من حصره وظلمه، وخرج من مصر بكار بن قتيبة «1» ، وجماعة إلى دمشق، وقد حضر أهل الشامات والثغور، فأمر ابن طولون بكتاب فيه: خلع الموفق من ولاية العهد، لمخالفة المعتمد، وحصره إياه، وكتب فيه: إنّ أبا أحمد الموفق خلع الطاعة، وبرىء من الذمّة، فوجب جهاده على الأمّة، وشهد على ذلك جميع من حضر إلّا بكار بن قتيبة وآخرين. وقال بكار: لم يصح عندي ما فعله أبو أحمد، ولم أعلمه، وامتنع من الشهادة والخلع، وكان ذلك لإحدى عشرة خلت من ذي القعدة، فبلغ ذلك الموفق، فكتب إلى عماله: بلعن أحمد بن طولون على المنابر، فلعن عليه بما صيغته: اللهم العنه لعنا يفلّ حدّه، ويتعس جدّه، واجعله مثلا للغابرين إنك لا تصلح عمل المفسدين، ومضى أحمد إلى طرسوس، فنازلها، وكان البرد شديدا، ثم رحل عنها إلى أذنة «2» ، وسار إلى المصيصة «3» ، فنزلت به علة الموت، فأعدّ السير يريد مصر، حتى بلغ الفرما، فركب النيل إلى الفسطاط، فدخل لعشر بقين من جمادى الآخرى سنة سبعين، فأوقف بكار بن قتيبة، وبعث به إلى السجن، وتزايدت به العلة، حتى مات ليلة الأحد لعشر خلون من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين، فلما بلغ المعتمد موته اشتدّ وجده وجزعه عليه، وقال يرثيه: إلى الله أشكو أسى ... عراني كوقع الأسل

على رجل أروع «1» ... يرى منه فضل الوجل شهاب خبا وقده ... وعارض غيث أفل شكت دولتي فقده ... وكان يزين الدول فقام بعده ابنه: أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وبايعه الجند يوم الأحد لعشر خلون من ذي القعدة، فأمر بقتل أخيه العباس لامتناعه من مبايعته، وعقد لأبي عبد الله أحمد الواسطيّ، على جيش إلى الشام لست خلون من ذي الحجة، وعقد لسعد الأعسر على جيش آخر، وبعث بمراكب في البحر لتقيم على السواحل الشامية، فنزل الواسطيّ فلسطين، وهو خائف من خمارويه أن يوقع به، لأنه كان أشار عليه بقتل أخيه العباس، فكتب إلى أبي أحمد الموفق: يصغر أمر خمارويه، ويحرّضه على المسير إليه، فأقبل من بغداد، وانضمّ إليه إسحاق بن كنداح، ومحمد بن أبي الساج، ونزل الرقة، فتسلم قنسرين «2» والعواصم وسار إلى شيرز «3» ، فقاتل أصحاب خمارويه، وهزمهم ودخل دمشق، فخرج خمارويه في جيش عظيم لعشر خلون من صفر سنة إحدى وسبعين، فالتقى مع أحمد بن الموفق بنهر أبي بطرس المعروف بالطواحين من أرض فلسطين، فاقتتلا فانهزم أصحاب خمارويه، وكان في سبعين ألفا، وابن الموفق في نحو أربعة آلاف، واحتوى على عسكر خمارويه بما فيه، ومضى خمارويه إلى الفسطاط، وأقبل كمين له عليه: سعد الأعسر، ولم يعلم بهزيمة خمارويه، فحارب ابن الموفق، حتى أزاله عن المعسكر، وهزمه اثني عشر ميلا ومضى إلى دمشق، فلم يفتح له، ودخل خمارويه إلى الفسطاط لثلاث خلون من ربيع الأوّل، وسار سعد الأعسر والواسطيّ، فملكا دمشق، وخرج خمارويه من مصر لسبع بقين من رمضان، فوصل إلى فلسطين، ثم عاد لاثنتي عشرة بقيت من شوّال، ثم خرج في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، فقتل سعدا الأعسر، ودخل دمشق لسبع خلون من المحرّم سنة ثلاث وسبعين، وسار لقتال ابن كنداح، فكانت على خمارويه، فانهزم أصحابه، وثبت هو في طائفة، فهزم ابن كنداح، وأتبعه حتى بلغ أصحابه سرّ من رأى، ثم اصطلحا وتظاهرا، وأقبل إلى خمارويه، فأقام في عسكره، ودعا له في أعماله التي بيده، وكاتب خمارويه أبا أحمد الموفق في الصلح، فأجابه إلى ذلك، وكتب له بذلك كتابا، فورد عليه به: فالق الخادم إلى مصر في رجب ذكر فيه: أنّ المعتمد والموفق وابنه كتبوه بأيديهم، وبولاية خمارويه وولده ثلاثين سنة على مصر والشامات، ثم قدم خمارويه سلخ رجب،

فأمر بالدعاء لأبي أحمد الموفق، وترك الدعاء عليه، وجعل على المظالم بمصر: محمد بن عبدة بن حرب، وبلغه مسير محمد بن أبي الساج إلى أعماله، فخرج إليه في ذي القعدة، ولقيه شيبة العقاب من دمشق، فانهزم أصحاب خمارويه وثبت هو، فحاربه حتى هزمه أقبح هزيمة، وعاد إلى مصر فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين، ثم خرج إلى الإسكندرية لأربع خلون من شوّال، وورد الخبر أنه دعي له بطرسوس في جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين، وخرج إلى الشام لسبع عشرة من ذي القعدة، ومات الموفق في سنة ثمان وسبعين، ثم مات المعتمد في رجب سنة تسع وسبعين، وبويع المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفق، فبعث إليه خمارويه بالهدايا، وقدم من الشام لست خلون من ربيع الأوّل سنة ثمانين، فورد كتاب المعتضد بولاية خمارويه على مصر هو وولده ثلاثين سنة، من الفرات إلى برقة، وجعل له الصلاة والخراج والقضاء وجميع الأعمال، على أن يحمل في كل عام مائتي ألف دينار عما مضى، وثلثمائة ألف للمستقبل، ثم قدم رسول المعتضد بالخلع، وهي اثنتا عشرة خلعة وسيف وتاج ووشاح مع خادم في رمضان، وعقد المعتضد نكاح قطر الندى بنت خمارويه في سنة إحدى وثمانين، وفيها خرج خمارويه إلى نزهته ببربوط في شعبان، ومضى إلى الصعيد فبلغ سيوط، ثم رجع من الشرق إلى الفسطاط أوّل ذي القعدة، وخرج إلى الشام لثمان خلون من شعبان سنة اثنتين وثمانين، فأقام بمنية الأصبغ، ومنية مطر، ثم رحل حتى أتى دمشق، فقتل بها على فراشه، ذبحه جواريه وخدمه، وحمل في صندوق إلى مصر، وكان لدخول تابوته يوم عظيم، واستقبله جواريه، وجواري غلمانه، ونساء قوّاده، ونساء القطائع بالصياح، وما يصنع في المآتم، وخرج الغلمان، وقد حلوا أقبيتهم، وفيهم من سوّد ثيابه وشققها، وكانت في البلد ضجة عظيمة، وصرخة تتعتع القلوب حتى دفن، وكانت مدّته اثنتي عشرة سنة، وثمانية عشر يوما. ثم ولي أبو العساكر بن خمارويه «1» بن أحمد بن طولون لليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين بدمشق، فسار إلى مصر، واشتمل على أمور أنكرت عليه، فاستوحش من عظماء الجند وتنكر لهم، فخافوه ودأبوا في الفساد، فخرج منتزها إلى منية الأصبغ، ففرّ جماعة من عظماء الدولة إلى المعتضد، وخلعه أحمد بن طغان، وكان على الثغر، وخلعه طغج بن جف بدمشق، فوثب جيش على عمه مضر بن أحمد بن طولون فقتله، فوثب عليه الجيش، وخلعوه وجمعوا الفقهاء والقضاة، فتبرّأ من بيعته وحللهم منها، وكان خلعه لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين، فولي ستة أشهر واثني عشر يوما، ومات في السجن بعد أيام.

ثم ولي أبو موسى هارون بن خمارويه يوم خلع جيش، فقام طائفة من الجند، وكاتبوا ربيعة بن أحمد بن طولون، وكان بالإسكندرية، ودعوه، ووعدوه بالقيام معه، فجمع جمعا كثيرا من أهل البحيرة، ومن البربر وغيرهم، وسار حتى نزل ظاهر فسطاط مصر، فخذله القوم، وخرج إليه القوّاد، فقاتلوه وأسروه لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان سنة أربع وثمانين، وضرب ألف سوط ومائتي سوط فمات، ومات المعتضد في ربيع الآخر سنة تسع وثمانين، وبويع ابنه محمد المكتفي بالله، وخرج القرمطيّ بالشام في سنة تسعين، فخرج القوّاد من مصر وحاربوه، فهزمهم، وبعث المكتفي محمد بن سليمان الكاتب «1» ، فنزل حمص، وبعث بالمراكب من الثغر إلى سواحل مصر، وأقبل إلى فلسطين، فخرج هارون يوم التروية سنة إحدى وتسعين، وسير المراكب الحربية، فالتقوا بمراكب محمد بن سليمان في تنيس، فغلبوا، وملك أصحاب محمد بن سليمان تنيس ودمياط، فسار هارون إلى العباسة، ومعه أهله وأعمامه في ضيق وجهد، فتفرّق عنه كثير من أصحابه وبقي في نفر يسير، وهو متشاغل باللهو، فأجمع عمّاه: شيبان وعديّ: ابنا أحمد بن طولون على قتله، فدخلا عليه وهو ثمل، فقتلاه ليلة الأحد لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة اثنتين وتسعين، وسنه يومئذ اثنان وعشرون سنة، فكانت ولايته ثمان سنين وثمانية أشهر وأياما. ثم ولي شيبان بن أحمد بن طولون أبو المواقيت لعشر بقين من صفر، فرجع إلى الفسطاط، وبلغ طفج بن جف، وغيره من القوّاد قتل هارون، فأنكروه، وخالفوا على شيبان، وبعثوا إلى محمد بن سليمان فأمنهم، وحرّكوه على المسير إلى مصر، فسار حتى نزل العباسة، فلقيه طفج في ناس من القوّاد كثير، فساروا به إلى الفسطاط، وأقبل إليهم عامّة أصحاب شيبان، فخاف حينئذ شيبان، وطلب الأمان فأمنه محمد بن سليمان، وخرج إليه لليلة خلت من ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وكانت ولايته اثني عشر يوما، ودخل محمد بن سليمان يوم الخميس أوّل ربيع الأوّل، فألقى النار في القطائع، ونهب أصحابه الفسطاط، وكسروا السجون، وأخرجوا من فيها، وهجموا الدور، واستباحوا الحريم، وهتكوا الرعية، وافتضوا الأبكار، وساقوا النساء، وفعلوا كل قبيح من إخراج الناس من دورهم، وغير ذلك، وأخرج ولد أحمد بن طولون، وهم عشرون إنسانا، وأخرج قوّادهم، فلم يبق بمصر منهم أحد يذكر، وخلت منهم الديار، وعفت منهم الآثار، وتعطلت منهم المنازل، وحلّ بهم الذل بعد العز، والتطريد والتشريد بعد اجتماع الشمل، ونضرة الملك، ومساعدة الأيام، ثم سيق أصحاب شيبان إلى محمد بن سليمان، وهو راكب،

فذبحوا بين يديه، كما تذبح الشياه، وقتل من السودان سكان القطائع خلقا كثيرا فقال أحمد بن محمد الحبيشيّ: الحمد لله إقرارا بما وهبا ... قد لمّ بالأمن شعب الحق فانشعبا الله أصدق هذا الفتح لا كذب ... فسوء عاقبة المثوى لمن كذبا فتح به فتح الدنيا محمدها ... وفرّج الظلم والإظلام والكربا لا ريب رب هياج يقتضي دعة ... وفي القصاص حياة تذهب الريبا رمى الإمام به عذراء غادره ... فاقتض عذرتها بالسيف واقتضبا محمد بن سليمان أعزهم ... نفسا وأكرمهم في الذاهبين أبا سرى بأسد الشرى لو لم يروا بشرا ... أضحى عرينهم الخطيّ لا القضبا جمّ الفضاء على اليحموم حين أتوا ... مثل الزبا يمتحون الزبية الذأبا أيها علوت على الأيام مرتبة ... أبا عليّ ترى من دونها الرتبا لما أطال بنو طولون خطبتهم ... من الخطوب وعافت منهم الخطبا هارت بهارون من ذكراك بقعته ... وشيّب الرعب شيبانا وقد رعبا وكم ترى لهم من جنة أنف ... ومن نعيم جنى من غدرهم عطبا فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... كأنها من زمان غابر ذهبا وقال أحمد بن يعقوب: إن كنت تسأل عن جلالة ملكهم ... فارتع وعج بمرابع الميدان وانظر إلى تلك القصور وما حوت ... واسرح بزهرة ذلك البستان وإن اعتبرت ففيه أيضا عبرة ... تنبيك كيف تصرّف العصران يا قتل هارون اجتثثت أصولهم ... وأشبت رأس أميرهم شيبان لم يغن عنكم بأس قيس إذا غدا ... في جحفل لجب ولا غسان وعديه البطل الكميّ وخزرج ... لم ينصرا بأخيهما عدنان زفت إلى آل النبوّة والهدى ... وتمزقت عن شيعة الشيطان وقال إسماعيل بن أبي هاشم: قف وقفة بقباب باب الساج ... والقصر ذي الشرفات والأبراج وربوع قوم أزعجوا عن دارهم ... بعد الإقامة أيما إزعاج كانوا مصابيحا لدى ظلم الدجى ... يسري بها السارون في الإدلاج وكأنّ أوجههم إذا أبصرتها ... من فضة بيضاء أو من عاج كانوا ليوثا لا يرام حماهم ... في كل ملحمة وكل هياج

فانظر إلى آثارهم تلقي لهم ... علما بكل ثنية وفجاج وعليهم ما عشت لا أدع البكا ... مع كل ذي نظر وطرف ساجي وقال سعيد القاص: تجري دمعه ما بين سحر إلى نحر ... ولم يجر حتى أسلمته يد الصبر وبات وقيذا للذي خامر الحشا ... يئنّ كما أنّ الأسير من الأسر وهل يستطيع الصبر من كان ذا أسى ... يبيت على جمر ويضحى على جمر تتابع أحداث يضيعن صبره ... وغدر من الأيام والدهر ذو غدر أصاب على رغم الأنوف وجدعها ... ذوي الدين والدنيا بقاصمة الظهر طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها ... بفقد بني طولون والأنجم الزهر وفقد بني طولون في كل موطن ... أمرّ على الإسلام فقدا من القطر فبادوا وأضحوا بعد عز ومنعة ... أحاديث لا تخفى على كل ذي حجر وكان أبو العباس أحمد ماجدا ... جميل المحيّا لا يبيت على وتر كأنّ ليالي الدهر كانت لحسنها ... وإشرافها في عصره ليلة القدر يدل على فضل ابن طولون همة ... محلقة بين المساكين والغفر فإن كنت تبغي شاهدا ذا عدالة ... يخبر عنه بالجليّ من الأمر فبالجبل الغربيّ خطة يشكر ... له مسجد يغني عن المنطق الهذر يدل ذوي الألباب أن بناءه ... وبانيه لا بالضنين ولا الغمر بناه بآجرّ وساج وعرعر ... وبالمرمر المسنون والجص والصخر بعيد مدى الأقطار سام بناؤه ... وثيق المباني من عقود ومن جدر فسيح رحاب يحصر الطرف دونه ... رقيق نسيم طيب العرف والنشر وتنور فرعون الذي فوق قلة ... على جبل عال على شاهق وعر بنى مسجدا فيه يروق بناؤه ... ويهدي به في الليل إن ضلّ من يسري تخال سنا قنديله وضياءه ... سهيلا إذا ما لاح في الليل للسفر وعين معين الشرب عين زكية ... وعين أجاج للرواة وللطهر كأن وفود النيل في جنباتها ... تروح وتغدو بين مدّ إلى جزر فأرك بها مستنبطا لمعينها ... من الأرض من بطن عميق إلى ظهر بناء لو أنّ الجنّ جاءت بمثله ... لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر يمرّ على أرض المغافر كلها ... وشعبان والأحمور والحيّ من بشر قبائل لا نوء السحاب يمدّها ... ولا النيل يرويها ولا جدول يجري ولا تنس مارستانه واتساعه ... وتوسعة الأرزاق للحول والشهر

وما فيه من قوّامه وكفاته ... ورفقتهم بالمعتفين ذوي الفقر فللميت المقبور حسن جهازه ... وللحيّ رفق في علاج وفي جبر وإن جئت رأس الجسر فانظر تأمّلا ... إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر ترى أثرا لم يبق من يستطيعه ... من الناس في بدو البلاد ولا حضر مآثر لا تبلى وإن باد أهلها ... ومجد يؤدي وارثيه إلى الفخر لقد ضمن القبر المقدّر ذرعه ... أجلّ إذا ما قيس من قبتي حجر وقام أبو الجيش ابنه بعد موته ... كما قام ليث الغاب في الأسل السمر أتته المنايا وهو في أمن داره ... فأصبح مسلوبا من النهي والأمر كذاك الليالي من أعارته بهجة ... فيا لك من ناب حديد ومن ظفر وورث هارون ابنه تاج ملكه ... كذاك أبو الأشبال ذو الناب والهصر وقد كان جيش قبله في محله ... ولكنّ جيشا كان مستقصر العمر فقام بأمر الملك هارون مدّة ... على كظظ «1» من ضيق باع ومن حصر وما زال حتى زال والدهر كاشح «2» ... عقاربه من كل ناحية تسري تذكرتهم لما مضوا فتتابعوا ... كما أرفض سلك من جمان ومن شذر فمن يبك شيئا ضاع من بعد أهله ... لفقدهم فليبك حزنا على مصر ليبك بني طولون إذ بان عصرهم ... فبورك من دهر وبورك من عصر وقال أيضا: من لم ير الهدم للميدان لم يره ... تبارك الله ما أعلى وأقدره لو أن عين الذي أنشأه تبصره ... والحادثات تعاديه لأكبره كانت عيون الورى تعشوا لهيبته ... إذا أضاف إليه الملك عسكره أين الملوك التي كانت تحلّ به ... وأين من كان بالإنفاذ دبره وأين من كان يحميه ويحرسه ... من كل ليث يهاب الليث منظره صاح الزمان بمن فيه ففرّقهم ... وحط ريب البلى فيه فدعثره «3» وأخلق الدهر منه حسن جدّته ... مثل الكتاب محا العصر أن أسطره دكت مناظره واجتثّ جوسقه ... كأنما الخسف فاجأه فدمّره أو هبّ إعصار نار في جوانبه ... فعاد معروفه للعين منكره كم كان يأوي إليه في مقاصره ... أحوى أغنّ غضيض الطرف أحوره

كم كان فيه لهم من مشرب غدق ... فعب صرف الردى فيه فكدّره أين ابن طولون بانيه وساكنه ... أماته الملك الأعلى فأقبره ما أوضح الأمر لو صحت لنا فكر ... طوبى لمن خصه رشد فذكره وقال أحمد بن إسحاق الجفر: وإذا ما أردت أعجوبة الده ... ر تراها فانظر إلى الميدان تنظر البين والهموم وأنوا ... عا توالت به من الأشجان يعلم العالم المبصر أن الده ... ر فيما يراه ذو ألوان أين ما فيه من نعيم ومن عي ... ش رخيّ ونضرة وحسان أين ذاك المسك الذي ديف «1» بالعن ... بر بحتا وعلّ «2» بالزعفران أين ذاك الخز المضاعف والوشي ... وما استخلصوا من الكتان أين تلك القيان تشدو على العر ... س بما استحسنوا من الألحان حوّز الدهر آل طولون في هوّة ... نقر مسكونها غير دان وأعاض الميدان من بعد أهليه ... ذئابا تعوي بتلك المغاني ثم أمر الحسين بن أحمد المادراني متولي خراج مصر بهدم الديوان، فابتدىء في هدمه في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وبيعت أنقاضه، ودثر كأنه لم يكن. فقال محمد بن طسويه: وكأنّ الميدان ثكلى أصيبت ... بحبيب قد ضاع ليلة عرس تتغشى الرياح منه محلا ... كان للصون في ستور الدمقس وبفرش الأضريج والبسط الدي ... باج في نعمة وفي لين لمس ووجوه من الوجوه حسان ... وخدود مثل اللآلئ ملس وكل نجلاء كالغزال وبخلا ... ورداح «3» من بين حور ولعس «4» آل طولون كنتم زينة الأر ... ض فأضحى الجديد أهدام لبس وقال ابن أبي هاشم: يا منزلا لبني طولون قد دثرا ... سقاك صرف الغوادي القطر والمطرا يا منزلا صرت أجفوه وأهجره ... وكان يعدل عندي السمع والبصرا بالله عندك علم من أحبتنا ... أم هل سمعت لهم من بعدنا خبرا

وقال: ألا فاسأل الميدان ثم اسأل الجبل ... عن الملك الماضي ابن طولون ما فعل وعن ابنه العباس إن كنت سائلا ... وأين أبو الجيش الفصافصة البطل وجيش وهارون الذي قام بعده ... وشيبان بالأمس الذي خانه الأمل ومن قبله أردى ربيعة يومه ... وكان هزبرا لا يطاق إذا حمل وأين ذراريهم وأين جموعهم ... وكيف تقضي عنهم الملك فاضمحل وأين بناء القصر والجوسق الذي ... عهدناه معمور الفناء له زجل لقد ملكوه برهة من زماننا ... بدولتهم ثم انقضوا بانقضا الدول فما منهم خلق يحس ولا يرى ... بذكر طوال الدهر لما انقضى الأجل وصاروا أحاديثا لمن جاء بعدهم ... وكان بهم في ملكهم يضرب المثل وقال: قف وقفة وانظر إلى الميدان ... والقصر ذي الشرفات والإيوان والجوسق العالي المنيف بناؤه ... ما باله قفر من السكان أين الذين لهوا به وعنوا به ... زمنا مع القينات والنسوان يجبي الخراج إليهم في دارهم ... لا يرهبون غوائل الحدثان جمعوا الجموع مع الجموع فأكثروا ... واستأثروا بالروم والسودان فانظر إلى ما شيدوا من بعدهم ... هل فيه غير البوم والغربان أين الأولى حفروا العيون بأرضه ... وتأنقوا فيه وفي البنيان غرسوا صنوف النخل في ساحاته ... وغرائب الأعناب والرّمان والزعفران مع البهاء بأرضه ... والورد بين الآس والريحان كانوا ملوك الأرض في أيامهم ... كبراء كل مدينة ومكان فتمزقوا وتفرّقوا فهناك هم ... تحت الثرى يبلون في الأكفان إلا أغيلمة أسارى بعدهم ... في دار مضيعة ودار هوان متلذذين بأسرهم قد شرّدوا ... ونفوا عن الأهلين والأوطان والله وارث كل حيّ بعدهم ... وله البقاء وكل شيء فان وقال: إن في قبة الهواء لذي اللب معتبر ... والقصور المشيدات مع الدور والحجر والبساتين والمجالس والبيت والزهر ... والجواري المغنيات ذوي الدل والخفر يتبخترن في الحرير وفي الوشي والحبر ... وملوك عبيدهم عدد الشوك والشجر وجيوش مؤيدوون لدى البأس بالظفر ... من صنوف السودان والترك والروم والخزر

عمروا الأرض مدّة ثم صاروا إلى الحفر ... واستبدّ الزمان من عاش منهم فلم يذر فهم في الهوان والذل أسرى على خطر ... وهم بعد صفو عيش من الذل في كدر يا آل طولون ما لكم صرتم للورى سمر ... يا آل طولون كنتم خبرا فانقضى الخبر وقال: مررت على الميدان معتبرا به ... فناديته أين الجبال الشوامخ خمار وعباس وأحمد قبلهم ... وأين ترى شبانهم والمشايخ وأين ذراري آل طولون بعدهم ... أما فيك منهم أيها الربع صارخ وأين ثياب الخز والوشي والحلى ... وأربابها أم أين تلك المطابخ وأين فتات المسك والعنبر الذي ... عنيت به دهرا وتلك اللطائخ لقد غالك الدهر الخؤون بصرفه ... فأصبحت منحطا وغيرك باذخ وقال: مررت على الميدان بالأمس ضاحيا ... فأبصرته قفر الجناب فراعني فناديت فيه يا آل طولون ما لكم ... فهود فما حلق بحرف أجابني فأذريت عينا ذات دمع غزيرة ... ورحت كئيب القلب مما أصابني وإني عليهم ما بقيت لموجع ... ولست أبالي من لحاني وعابني وحدّث محمد بن أبي يعقوب الكاتب قال: لما كانت ليلة عيد الفطر من سنة اثنتين وتسعين ومائتين تذكرت ما كان فيه آل طولون في مثل هذه الليلة من الزيّ الحسن بالسلاح، وملوّنات البنود والأعلام، وشهرة الثياب، وكثرة الكراع وأصوات الأبواق والطبول، فاعتراني لذلك فكرة، ونمت في ليلتي، فسمعت هاتفا يقول: ذهب الملك التملك والزينة لما مضى بنو طولون. وقال القاضي أبو عمرو عثمان النابلسيّ في كتاب حسن السيرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة: رأيت كتابا قدر اثنتي عشرة كراسة مضمونة فهرست شعراء الميدان الذي لأحمد بن طولون قال: فإذا كانت أسماء الشعراء في ثنتي عشرة كراسة، كم يكون شعرهم؟ مع أنه لم يوجد من لك الآن ديوان واحد. وقال أبو الخطاب بن دحية في كتاب النبراس: وخربت قطائع أحمد بن طولون، يعني في الشدّة العظمى زمن الخليفة المستنصر، وهلك جميع من كان بها من الساكنين، وكانت نيفا على مائة ألف دار نزهة للناظرين محدقة بالجنان والبساتين، والله يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

ذكر من ولي مصر من الأمراء بعد خراب القطائع إلى أن بنيت قاهرة المعز على يد القائد جوهر

ذكر من ولي مصر من الأمراء بعد خراب القطائع إلى أن بنيت قاهرة المعز على يد القائد جوهر وكان أوّل من ولي مصر بعد زوال دولة بني طولون وخراب القطائع. محمد بن سليمان الكاتب «1» كاتب لؤلؤ غلام أحمد بن طولون دخل مصر يوم الخميس مستهلّ ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ودعا على المنبر لأمير المؤمنين المكتفي بالله وحده، وجعل أبا عليّ الحسين بن أحمد المادرانيّ على الخراج عوضا عن أحمد بن عليّ المادرانيّ. ثم ورد كتاب المكتفي بولاية: عيسى بن محمد «2» النوشريّ أبي موسى، فولي على الصلاة، ودخل خليفته لأربع عشرة خلت من جمادى الأولى، فتسلم الشرطتين وسائر الأعمال، ثم قدم عيسى لسبع خلون من جمادى الآخرة، وخرج محمد بن سليمان مستهلّ رجب، وكان مقامه بمصر أربعة أشهر، فأخرج كل من بقي من الطولونية، فلما بلغوا دمشق، انخنس عنهم محمد بن عليّ الخليج في جمع كثير ممن كره مفارقة مصر من القوّاد، فعقدوا له عليهم، وبايعوه بالإمرة في شعبان، ورجع إلى مصر، فبعث إليه النوشريّ بجيش أوّل رمضان، وقد دخل أرض مصر، ثم خرج إليه النوشري، وعسكر بباب المدينة أوّل ذي القعدة، وسار إلى العباسة، ثم رجع لثلاث عشرة خلت منه، وخرج إلى الجيزة من غده وأحرق الجسرين، وسار يريد الإسكندرية، ففرّ عنه طائفة إلى ابن الخليج، فبعث إليه بجيش، فهزمه وسار إلى الصعيد. ودخل محمد بن الخليج الفسطاط لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، فوضع العطاء، وفرض الفروض، وقدم أبو الأعز من قبل المكتفي في طلب ابن الخليج، فخرج إليه لثلاث خلون من المحرّم سنة ثلاث وتسعين وحاربه، فانهزم منه أبو الأعز، وأسر من أصحابه جمعا كثيرا، وعاد لثمان بقين منه، فقدم فاتك المعتضدي من بغداد في البرّ، فعسكر وقدم دميانة «3» في المراكب، فنزل فاتك النويرة «4» ، فخرج ابن الخليج وعسكر بباب المدينة، وقام في الليل بأربعة آلاف من أصحابه ليبيت فاتكا، فأضلوا الطريق، وأصبحوا قبل أن يبلغوا النويرة، فعلم بهم فاتك، فنهض بأصحابه، وحارب ابن الخليج، فانهزم عنه

أصحابه، وثبت في طائفة، ثم انهزم إلى الفسطاط لثلاث خلون من رجب، فاستتر، ودخل دميانة في مراكب الثغور، وأقبل عيسى النوشري، ومعه الحسين المادرانيّ، ومن كان معهما لخمس خلون منه، فعاد النوشري إلى ما كان عليه من صلاتها، والمادرانيّ إلى ما كان عليه من الخراج، وعرف النوشريّ بمكان ابن الخليج، فهجم عليه وقيده لست خلون من رجب، وكانت مدّة ابن الخليج بمصر سبعة أشهر وعشرين يوما، ودخل فاتك في عسكره إلى الفسطاط لعشر خلون من رجب، فأخرج ابن الخليج في البحر لست خلون من شعبان، فلما قدم بغداد طيف به وبأصحابه وهم ثلاثون نفرا، فكان يوما مذكورا، وابتدئ في هدم ميدان بني طولون في شهر رمضان، وبيعت أنقاضه، وخرج فاتك إلى العراق للنصف من جمادى الأولى سنة أربع وتسعين، وأمر النوشري بنفي المؤنثين، ومنع النوح والنداء على الجنائز، وأمر بإغلاق المسجد الجامع فيما بين الصلاتين، ثم أمر بفتحه بعد أيام، ومات المكتفي في ذي القعدة سنة خمس وتسعين، فشغب الجند بمصر، وحاربوا النوشريّ على طلب مال البيعة، فظفر بجماعة منهم، وبويع جعفر المقتدر، فأقرّ النوشري على الصلاة، وقدم زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية مهزوما من أبي عبد الله الشيعيّ في رمضان سنة ست وتسعين إلى الجيزة، فمنعه النوشري من العبور، وكانت بين أصحابه، وبين جند مصر منافسة، ثم أذن له أن يعبر وحده، ومات النوشري لأربع بقين من شعبان سنة سبع وتسعين، وهو وال، فكانت ولايته خمس سنين وشهرين ونصفا، منها مدّة ابن الخليج سبعة أشهر وعشرون يوما، وقام من بعده ابنه أبو الفتح محمد بن عيسى. ثم ولي تكين الخزريّ أبو منصور، من قبل المقتدر على الصلاة، فدعي له بها يوم الجمعة لإحدى عشرة خلت من شوّال، وقدم خليفته لسبع بقين منه، ثم قدم تكين لليلتين خلتا من ذي الحجة، وتقدّم إليه بالجدّ في أمر المغرب، والاحتراس منه، فبعث جيشا إلى برقة عليه أبو اليمن، فحاربه حباسة بن يوسف بعساكر المهديّ عبيد الله الفاطميّ صاحب إفريقية، واستولى على برقة، وسار إلى الإسكندرية في زيادة على مائة ألف، فدخلها في المحرّم سنة اثنتين وثلثمائة، فقدمت الجيوش من العراق مددا لتكين في صفر، وقدم الحسين المادرانيّ، وأحمد بن كيغلغ «1» في جمع من القوّاد، وبرزت العساكر إلى الجيزة في جمادى الأولى، وخرج تكين، فكانت واقعة حباسة: قتل فيها آلاف من الناس، وعاد حباسة إلى المغرب، وقدم مونس الحادم من بغداد في جيوشه للنصف من رمضان، ومعه جمع من الأمراء، فنزل الحمراء، ولقي الناس منهم

شدائد، وخرج ابن كيغلغ إلى الشام في رمضان، وصرف تكين لأربع عشرة خلت من ذي القعدة صرفه مؤنس، فخرج لسبع خلون من ذي الحجة، وأقام مونس يدعى ويخاطب بالأستاذ. ثم ولي: ذكا الروميّ أبو الحسن الأعور من قبل المقتدر على الصلاة، فدخل لثنتي عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلثمائة، وخرج موسى بجميع جيوشه لثمان خلون من ربيع الآخر، وخرج ذكا إلى الإسكندرية في المحرّم سنة أربع وثلثمائة، ثم عاد في ثامن ربيع الأوّل، وتتبع كل من يومأ إليه بمكاتبة المهديّ صاحب إفريقية، فسجن منهم، وقطع أيدي أناس، وأرجلهم، وجلا أهل لوبية «1» ومراقية «2» إلى الإسكندرية خوفا من صاحب برقة، وسير العساكر إلى الإسكندرية، ثم فسد ما بينه وبين الرعية بسبب سب الصحابة رضي الله عنهم، وسب القرآن، وقدمت عساكر المهديّ صاحب إفريقية إلى لوبية ومراقية عليها أبو القاسم، فدخل الإسكندرية ثامن صفر سنة سبع وثلثمائة، وفرّ الناس من مصر إلى الشام في البرّ والبحر، فهلك أكثرهم، وأخرج ذكا الجند المخالفون له، فعسكر بالجيزة، وقدم أبو الحسن بن المادرانيّ واليا على الخراج، فوضع العطاء، وجدّ ذكا في أمر الحرب، واحتفر خندقا على عسكره بالجيزة، فمرض ومات لإحدى عشرة خلت من ربيع الأوّل بالجيزة، فكانت إمرته أربع سنين وشهرا. فولي: تكين مرّة ثانية من قبل المقتدر، وقدمت جيوش العراق عليها، محمود بن حمل، وإبراهيم بن كيغلغ في ربيع الأوّل، ودخل تكين لإحدى عشرة خلت من شعبان، فنزل الجيزة، وحفر خندقا ثانيا، وأقبلت مراكب المغرب، فظفر بها في شوّال، وقدم مونس الخادم من بغداد بعساكره لخمس خلون من المحرّم سنة ثمان وثلثمائة، فنزل الجيزة، وكان في نحو ثلاثة آلاف وسيّر ابن كيغلغ إلى الأشمونين، فمات بالبهنساء أوّل ذي القعدة، وملك أصحاب المهديّ الفيوم، وجزيرة الأشمونين، فقدم جنى الخادم من بغداد في عسكر آخر ذي الحجة، فعسكر بالجيزة، فكانت حروب مع أصحاب المهديّ بالفيوم والإسكندرية، ورجع أبو القاسم بن المهديّ إلى برقة، وصرف تكين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة تسع وثلثمائة. فولّى مونس: أبا قابوس محمود بن حمل، فأقام ثلاثة أيام، وعزله ورد تكين لخمس بقين من ربيع الأوّل، ثم صرفه بعد أربعة أيام، وأخرجه إلى الشام في أربعة آلاف من أهل الديوان.

ثم ولي: هلال بن بدر من قبل المقتدر على الصلاة، فدخل لست خلون من ربيع الآخر، وخرج مونس لثمان عشرة خلت منه ومعه ابن حمل، فشغب الجند على هلال، وخرجوا إلى منية الأصبغ، ومعهم محمد بن طاهر صاحب الشرط، فكثر النهب والقتل والفساد بمصر، إلى أن صرف عنها في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلثمائة وخرج في نفر من أصحابه. فولي: أحمد بن كيغلغ من قبل المقتدر على الصلاة، وقدم ابنه أبو العباس خليفة له أوّل جمادى الأولى، ثم قدم ومعه محمد بن الحسين بن عبد الوهاب المادرانيّ على الخراج في رجب، فأحضرا الجند، ووضعا العطاء، وأسقطا كثيرا من الرجالة، وكان ذلك بمنية الأصبغ، فثار الرجالة به، ففرّ إلى فاقوس «1» ، وأدخل المادرانيّ إلى المدينة لثمان خلون من شوال، وأقام ابن كيغلغ بفاقوس إلى أن صرف بقدوم رسول تكين في ثالث ذي القعدة. فولي: تكين المرّة الثالثة من قبل المقتدر على الصلاة، وخلفه ابن منجور إلى أن قدم يوم عاشوراء سنة اثنتي عشرة وثلثمائة، فأسقط كثيرا من الرجالة، وكانوا أهل الشرّ والنهب، ونادى ببراءة الذمّة، ممن أقام منهم بالفسطاط، وصلى الجمعة في دار الإمارة بالعسكر، وترك حضور الجمعة في مسجد العسكر، والمسجد الجامع العتيق في سنة سبع عشرة، ولم يصلّ قبله أحد من الأمراء في دار الإمارة الجمعة، ثم قتل المقتدر في شوّال سنة عشرين، وبويع أبو منصور القاهر بالله، فأقرّ تكين حتى مات في سادس عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، فحمل إلى بيت المقدس، وكانت إمرته هذه تسع سنين وشهرين وخمسة أيام. فقام ابنه محمد بن تكين موضعه، وقام أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ بأمر البلد كله، ونظر في أعماله فشغب الجند عليه في طلب أرزاقهم، وأحرقوا دوره، ودور أهله، فخرج ابن تكين إلى منية الأصبغ، فبعث إليه المادرانيّ يأمره بالخروج من أرض مصر، وعسكر بباب المدينة، وأقام هناك بعدما رحل ابن تكين إلى سلخ ربيع الأوّل، فلحق ابن تكين بدمشق، ثم أقبل يريد مصر، فمنعه المادرانيّ. ثم ولي: محمد بن طغج «2» بن جف الفرغانيّ أبو بكر من قبل القاهر بالله على الصلاة، فورد كتابه لسبع خلون من رمضان سنة إحدى وعشرين، ودعي له، وهو بدمشق

مدّة اثنتين وثلاثين يوما إلى أن قدم رسول أحمد بن كيغلغ بولايته الثانية من قبل القاهر بالله لتسع خلون من شوّال، واستخلف أبا الفتح بن عيسى النوشريّ، فشغب الجند في أرزاقهم على المادرانيّ صاحب الخراج، فاستتر منهم، فأحرقوا دوره ودور أهله، وكانت فتن قتل فيها جماعة إلى أن أتاهم محمد بن تكين من فلسطين لثلاث عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين، فأنكر المادرانيّ ولايته، وتعصب له طائفة، ودعي له بالإمارة، وخرج قوم إلى الصعيد فيهم: ابن النوشريّ، فأمّروه عليهم وهم على الدعاء لابن كيغلغ، فنزل منية الأصبغ لثلاث خلون من رجب، فلحق به كثير من أصحاب تكين، ففرّ ابن تكين ليلا، ودخل ابن كيغلغ المدينة لست خلون منه، وكان مقام ابن تكين بالفسطاط مائة يوم واثني عشر يوما، وخلع القاهر، وبويع أبو العباس الراضي بالله، فعاد ابن تكين، وأظهر أنّ الراضي ولّاه فخرج إليه العسكر، وحاربوه فيما بين بلبيس وفاقوس، فانهزم وجيء به إلى المدينة، فحمل إلى الصعيد، فورد الخبر بأنّ محمد بن طفج سار إلى مصر بولاية الراضي له، فبعث إليه ابن كيغلغ بجيش ليمنعوه من دخول الفرما، فأقبلت مراكب ابن طغج إلى تنيس، وسارت مقدّمته في البرّ، وكانت بينهما حروب في تاسع عشر شعبان سنة ثلاث وعشرين كانت لأصحاب ابن طفج، وأقبلت مراكبه إلى الفسطاط سلخ شعبان، وأقبل فعسكر ابن كيغلغ للنصف من رمضان، ولاقاه لسبع بقين منه، فسلم ابن كيغلغ إلى محمد بن طفج من غير قتال. وولي: محمد بن طغج الثانية من قبل الراضي على الصلاة والخراج، فدخل لست بقين من رمضان، وقدم أبو الفتح الفضل» بن جعفر بن محمد بن فرات بالخلع لمحمد بن طغج، وكانت حروب مع أصحاب ابن كيغلغ انهزموا منها إلى برقة، وساروا إلى القائم بأمر الله محمد بن المهديّ بالمغرب، فحرّضوه على أخذ مصر، فجهز جيشا إلى مصر، فبعث ابن طغج عسكره إلى الإسكندرية والصعيد، ثم ورد الكتاب من بغداد بالزيارة في اسم الأمير محمد بن طغج، فلقب الإخشيد ودعي له بذلك على المنبر في رمضان سنة سبع وعشرين، وسار محمد «2» بن رائق إلى الشامات، ثم سار في المحرّم سنة ثمان وعشرين، واستخلف أخاه الحسن بن طغج، فنزل الفرما، وابن رائق بالرملة، فسفر بينهما الحسن بن طاهر بن يحيى العلويّ في الصلح، حتى تمّ، وعاد إلى الفسطاط مستهل جمادى الأولى، ثم أقبل ابن رائق من دمشق في شعبان، فسير إليه الإخشيد الجيوش، ثم خرج لست عشرة خلت من شعبان، والتقيا للنصف من رمضان بالعريش، فكانت بينهما وقعة عظيمة انكسرت فيها

ميسرة الإخشيد، ثم حمل بنفسه، فهزم أصحاب ابن رائق، وأسر كثيرا منهم، وأثخنهم قتلا وأسرا، ومضى ابن رائق فقتل الحسين بن طغج باللجون «1» ، ودخل الإخشيد الرملة بخمسمائة أسير، فتداعى ابن طغج وابن رائق إلى الصلح، فمضى ابن رائق إلى دمشق على صلح، وقدم الإخشيد محمد بن طغج إلى مصر لثلاث خلون من المحرّم سنة تسع وعشرين، ومات الراضي بالله، وبويع المتقي لله إبراهيم في شعبان، فأقرّ الإخشيد، وقتل محمد بن رائق بالموصل، قتله بنو حمدان في شعبان سنة ثلاثين وثلثمائة، فبعث الإخشيد بجيوشه إلى الشام، ثم سار لست خلون من شوّال، واستخلف أخاه أبا المظفر الحسن بن طغج، ودخل دمشق، ثم عاد لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين، فنزل البستان الذي يعرف اليوم بالكافوريّ من القاهرة، ثم دخل داره، وأخذ البيعة لابنه أبي القاسم أونوجور على جميع القوّاد، آخر ذي القعدة، وسار المتقي لله إلى بلاد الشام، ومعه بنو حمدان، فسار الإخشيد لثمان خلون من رجب سنة اثنتين وثلاثين، واستخلف أخاه الحسن، فلقي المتقي، ثم رجع فنزل البستان لأربع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين، وخلع المتقي، وبويع عبد الله المستكفي لسبع خلون من جمادى الآخرة، فأقرّ الإخشيد، وبعث الإخشيد بحانك وكافور «2» في الجيوش إلى الشام. ثم خرج لخمس خلون من شعبان سنة ست وثلاثين، واستخلف أخاه الحسن، فلقي عليّ بن عبد الله «3» بن حمدان بأرض قنسرين وحاربه، ومضى فأخذ منه حلب، وخلع المستكفي، ودعي للمطيع لله الفضل بن جعفر في شوّال سنة أربع وثلاثين، فأقرّ الإخشيد إلى أن مات بدمشق يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة. فولي بعده ابنه (أونوجور) أبو القاسم باستخلافه إياه، وقبض على أبي بكر محمد بن عليّ بن مقاتل في ثالث المحرّم سنة خمس وثلاثين، وجعل مكانه على الخراج محمد بن عليّ المادرانيّ، وقدم العسكر من الشام أوّل صفر، فلم يزل أونوجور واليا إلى أن مات لسبع خلون من ذي القعدة سنة سبع وأربعين وثلثمائة، وحمل إلى القدس، فدفن عند أبيه، وكان كافور متحكما في أيامه، ويطلق له في السنة أربعمائة ألف دينار، فلما مات، قوي كافور، وكانت ولايته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر.

فأقام كافور أخاه عليّ بن الإخشيد أبا الحسن لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة، فأقرّ المطيع لله على الحرب والخراج بمصر والشام والحرمين، وصار خليفته على ذلك كافور غلام أبيه، وأطلق له ما كان يطلق لأخيه في كل سنة، وفي سنة إحدى وخمسين ترفع السعر، واضطربت الإسكندرية والبحيرة بسبب المغاربة الواردين إليها، وتزايد الغلاء، وعز وجود القمح، وقدم القرمطيّ إلى الشام في سنة ثلاث وخمسين، وقلّ ماء النيل، ونهبت ضياع مصر، وتزايد الغلاء، وسار ملك النوبة إلى أسوان، ووصل إلى إخميم، فقتل ونهب وأحرق، واشتدّ اضطراب الأعمال، وفسد ما بين كافور وبين عليّ بن الإخشيد، فمنع كافور من الاجتماع به، واعتلّ عليّ بعد ذلك علة أخيه، ومات لإحدى عشرة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين وثلثمائة، فحمل إلى القدس، وبقيت مصر بغير أمير أياما، ولم يدع بها إلّا للمطيع لله وحده، وكافور يدبر أمورها، ومعه أبو الفضل جعفر بن الفرات. ثم ولي كافور الخصيّ الأسود مولى الإخشيد من قبل المطيع على الحرب والخراج، وجميع أمور مصر والشام والحرمين، فلم يغير لقبه، وإنما كان يدعى ويخاطب بالأستاذ «1» ، وأخرج كتاب المطيع بولايته لأربع بقين من المحرّم سنة خمس وخمسين، فلم يزل إلى أن توفي لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة. فولي أحمد بن عليّ «2» الإخشيد أبو الفوارس وسنة إحدى عشرة سنة في يوم وفاة كافور، وجعل الحسين بن عبيد الله بن طغج يخلفه، وأبو الفضل جعفر بن الفرات يدبر الأمور وسمول الإخشيديّ «3» العساكر إلى أن قدم جوهر القائد من المغرب بجيوش المعز لدين الله في سابع عشر شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، ففرّ الحسين بن عبيد الله، وتسلم جوهر البلاد، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فكانت مدّة الدعاء لبني العباس بمصر، منذ ابتدئت دولتهم إلى أن قدم القائد جوهر إلى مصر: مائتي سنة، وخمسا وعشرين سنة، ومدّة الدولة الإخشيدية بها أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر، وأربعة وعشرين يوما، ومنذ افتتحت مصر إلى أن انتقل كرسيّ الإمارة منها إلى القاهرة ثلثمائة سنة وسبع وثلاثون سنة وأشهر، والله تعالى أعلم.

ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة

ذكر ما كانت عليه مدينة الفسطاط من كثرة العمارة قال ابن يونس عن الليث بن سعد: أن حكيم بن أبي راشد حدّثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه وقف على جزار، فسأله عن السعر؟ فقال: بأربعة أفلس الرطل، فقال له أبو سلمة: هل لك أن تعطينا بهذا السعر ما بدا لنا وبدا لك؟ قال: نعم، فأخذ منه أبو سلمة، ومرّ في القصبة، حتى إذا أراد أن يوفيه، قال: بعثني بدينار، ثم قال: اصرفه فلوسا، ثم وفه. وقال الشريف أبو عبد الله محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط: سمعت الأمير تأييد الدولة تميم بن محمد المعروف بالضمضام يقول: في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وحدّثني القاضي أبو الحسين عليّ بن الحسين الخلعيّ عن القاضي أبي عبد الله القضاعيّ قال: كان في مصر الفسطاط من المساجد، ستة وثلاثون ألف مسجد، وثمانية آلاف شارع مسلوك، وألف ومائة، وسبعون حماما، وإن حمام جنادة في القرافة ما كان يتوصل إليها إلّا بعد عناء من الزحام، وإن قبالتها في كل يوم جمعة خمسمائة درهم. وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ في كتاب الخطط: إنه طلب لقطر الندى ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون ألف تكة بعشرة آلاف دينار من أثمان كل تكة بعشرة دنانير، فوجدت في السوق في أيسر وقت، وبأهون سعي، وذكر عن القاضي أبي عبيد: أنه لما صرف عن قضاء مصر كان في المودع مائة ألف دينار، وإنّ فائقا مولى أحمد بن طولون اشترى دارا بعشرين ألف دينار، وسلم الثمن إلى البائعين، وأجلهم شهرين، فلما انقضى الأجل سمع فائق صياحا عظيما وبكاء فسأل عن ذلك؟ فقيل: هم الذين باعوا الدار، فدعاهم وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: إنما نبكي على جوارك، فأطرق وأمر بالكتب، فردّت عليهم، ووهب لهم الثمن، وركب إلى أحمد بن طولون، فأخبره فاستصوب رأيه، واستحسن فعله. ويقال: إنه كان لفائق ثلثمائة فرشة كل فرشة لحظية مثمنة، وإنّ دار الحرم بناها خمارويه لحرمه، وكان أبوه اشتراها له، فقام عليه الثمن وأجرة الصناع والبناء بسبعمائة ألف دينار، وإنّ عبد الله بن أحمد بن طباطبا الحسينيّ دخل الجامع، فلم يجد مكانا في الصفّ الأوّل، فوقف في الصف الثاني، فالتفت أبو حفص بن الجلاب، فلما رآه تأخر، وتقدّم الشريف مكانه، فكافأه على ذلك بنعمة حملها إليه، ودارا ابتاعها له، ونقل أهله إليها بعد أن كساهم وحلّاهم. وذكر غير القضاعيّ: أنه دفع إليه خمسمائة دينار قال: ويقال: إنه أهدى إلى أبي جعفر الطحاويّ كتبا قيمتها ألف دينار، وإنّ رشيقا الإخشيديّ استحجبه أبو بكر محمد بن

عليّ المادرانيّ، فلما مضت عليه سنة رفع فيه أنه كسب عشرة آلاف دينار، فخاطبه في ذلك، فحلف بالإيمان الغليظة على بطلان ذلك، فأقسم أبو بكر المادرانيّ بمثل ما أقسم به لئن خرجت سنتنا هذه، ولم تكسب هذه الجملة لأصحبتني، ولم يزل في صحبته إلى أن صودر أبو بكر، فأخذ منه، ومن رشيق مال جزيل، وذكر: أن الحسن بن أبي المهاجر موسى بن إسماعيل بن عبد الحميد بن بحر بن سعد كان على البريد في زمن أحمد بن طولون، وقتله خمارويه، وسبب ذلك ما كان في نفس عليّ بن أحمد المادرانيّ منه، فأغرى خمارويه به، وقال: قد بقي لأبيك مال غير الذي ذكره في وصيته، ولم يقف عليه غير ابن مهاجر، فطالبه، فلم يزل خمارويه بابن مهاجر إلى أن وصف له موضع المال من دار خمارويه، فأخرج فكان مبلغه ألف ألف دينار، فسلمه إلى أحمد المادرانيّ، فحمله إلى داره، وأقبلت توقيعات خمارويه فأخرج، فكان مبلغه ألف ألف دنار، فسلمه أموال الضياع والمرافق، وحصلت له تلك الأموال، ولم يضع يده عليها إلى أن قتل، وصودر أبو بكر محمد بن عليّ في أيام الإخشيد، وقبضت ضياعه، فعاد إلى تلك الألف ألف دينار مع ما سواها من ذخائره وأعراضه وعقده، فما ظنك برجل ذخيرته ألف ألف دينار، سوى ما ذكر عن أبي بكر محمد بن عليّ المادرانيّ أنه قال: بعث إليّ أبو الجيش خمارويه أن أشتري له أردية وأقنعة للجواري، وعمل دعوة خلا فيها بنفسه وبهم، وغدوت متعرّفا لخبره، فقيل له: إنه طرب لما هو فيه، فنثر دنانير على الجواري والغلمان، وتقدّم إليهم أنّ ما سقط من ذلك في البركة، فهو لمحمد بن عليّ كاتبي، فلما حضرت، وبلغني ذلك أمرت الغلمان، فنزلوا في البركة، فأصعدوا إليّ منها سبعين ألف دينار، فما ظنك بمال نثر على أناس فتطاير منه إلى بركة ماء هذا المبلغ. وقال ابن سعيد في كتاب المعرب في حل المغرب: وفي الفسطاط دار تعرف بعبد العزيز يصب فيها لمن بها في كل يوم أربعمائة راوية ماء، وحسبك من دار واحدة يحتاج أهلها في كل يوم إلى هذا القدر من الماء. وقال ابن المتوّج في كتاب إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمّل عن ساحل مصر، ورأيت من نقل عمن نقل عمن رأى الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على النيل، وكان عددها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببكر، وأطناب بها ترخى وتملأ. أخبرني بذلك من أثقل بنقله، قال: وكان بالفسطاط في جهته الشرقية حمام من بناء الروم عامرة زمن أحمد بن طولون. قال الراوي: دخلتها في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون، وطلبت بها صانعا يخدمني، فلم أجد فيها صانعا متفرّغا لخدمتي، وقيل لي: إن كل صانع معه اثنان يخدمهم وثلاثة، فسألت كم فيها من صانع؟ فأخبرت: أنّ بها سبعين صانعا قلّ من معه دون ثلاثة، سوى من قضى حاجته، وخرج قال: فخرجت ولم أدخله لعدم من يخدمني بها، ثم طفت غيرها، فلم أقدر على من أجده فارغا إلّا بعد أربع حمامات، وكان الذي خدمني فيها نائبا، فانظر رحمك الله

ما اشتمل عليه هذا الخبر، مع ما ذكره القضاعيّ من عدد الحمامات، وأنها ألف ومائة وسبعون حماما، تعرف من ذلك كثرة ما كان بمصر من الناس، هذا والسعر راخ والقمح كل خمسة أرادب بدينار، وبيعت عشرة أرادب بدينار في زمن أحمد بن طولون. قال ابن المتوّج: خطة مسجد عبد الله أدركت بها آثار دار عظيمة، قيل: إنها كانت دار كافور الإخشيديّ، ويقال: إن هذه الخطة تعرف بسوق العسكر، وكان به مسجد الزكاة، وقيل: إنه كان منه قصبة سوق متصلة إلى جامع أحمد بن طولون، وأخبرني بعض المشايخ العدول عن والده، وكان من أكابر الصلحاء أنه قال: عددت من مسجد عبد الله إلى جامع ابن طولون ثلثمائة وتسعين قدر حمص مصلوق بقصبة هذا السوق بالأرض، سوى المقاعد والحوانيت التي بها الحمص، فتأمّل أعزك الله ما في هذا الخبر مما يدل على عظمة مصر، فإن هذا السوق كان خارج مدينة الفسطاط، وموضعه اليوم الفضاء الذي بين كوم الجارح وبين جامع ابن طولون، ومن المعروف أن الأسواق التي تكون بداخل المدينة أعظم من الأسواق التي هي خارجها، ومع ذلك ففي هذا السوق من صنف واحد من المآكل هذا القدر، فكم ترى تكون جملة ما فيه من سائر أصناف المآكل، وقد كان إذ ذاك بمصر عشرة أسواق كلها أو أكثرها أجلّ من هذا السوق، قال: ودرب السفافير بني فيه زقاق بني الرصاص، كان به جماعة إذا عقد عندهم عقد لا يحتاجون إلى غريب، وكانوا هم وأولادهم نحوا من أربعين نفسا. وقال ابن زولاق «1» في كتاب سيرة المادرانيين: ولما قدم الأستاذ مونس الخادم من بغداد إلى مصر استدعى أبو عليّ الحسين بن أحمد المادرانيّ المعروف بأبي زنبور الدقاق، وهو الذي نسميه اليوم الطحان، وقال: إن الأستاذ مؤنسا قد وافى، ولي بمشتول «2» قدر ستين ألف أردب قمحا، فإذا وافى، فقم له بالوظيفة، فكان يقوم له بما يحتاج إليه من دقيق حواري مدّة شهر، فلما كمل الشهر قال كاتب مونس للدقاق: كم لك حتى ندفعه إليك؟ فأعلمه الخبر، فقال: ما أحسب الأستاذ يرضى أن يكون في ضيافة أبي عليّ، وأعلم مونسا بذلك، فقال: أنا آكل خبز حسين؟! لا يبرح الرجل حتى يقبض ماله، فمضى الدقاق وعلم أبا زنبور، فقام من فوره إلى مونس، فأكب على رجليه، فاحتشم منه، وقال: والله لا أجيبك إلا هذا الشهر الذي مضى ولا تعاود، ثم رجع فقال الدقاق: قم له بالوظيفة في المستقبل واعمل ما يريده؟ قال: فجئته وقد فرغ القمح، ومعي الحساب، وأربعمائة دينار قال:

إيش هذا؟ فقلت: بقية ذلك القمح، فقال: أعفني منه وتركه، فتأمّل ما اشتمل عليه هذا الخبر من سعة حال كاتب من كتاب مصر، كيف كان له في قرية واحدة هذا القدر من صنف القمح، وكيف صار مما يفضل عنه، حتى يجعله ضيافة، وكيف لم يعبأ بأربعمائة دينار، حتى وهبها لدقاق قمح، وما ذاك إلا من كثرة المعاش، وقس عليه باقي الأحوال. وقال عن أبي بكر محمد بن عليّ المادرانيّ: أنه حج اثنتين وعشرين حجة متوالية، أنفق في كل حجة مائة ألف دينار، وخمسين ألف دينار، وأنه كان يخرج معه بتسعين ناقعة لقبته التي يركبها، وأربعمائة لجهازه وميرته، ومعه المحامل فيها أحواض البقل، وأحواض الرياحين، وكلاب الصيد، وينفق على الأشراف، وأولاد الصحابة، ولهم عنده ديوان بأسمائهم، وأنه أنفق في خمس حجات أخر ألفي ألف دينار، ومائتي ألف دينار، وكانت جاريته تواصل معه الحج، ومعها لنفسها ثلاثون ناقة لقبتها، ومائة وخمسون عربيا لجهازها، وأحصى ما يعطيه كل شهر لحاشيته، وأهل الستر، وذوي الأقدار جراية من الدقيق الحواري، فكان بضعا وثمانين ألف رطل، وكان سنة القرمطيّ بمكة، فمن جملة ما ذهب له به مائتا قميص ديبقي ثمن كل ثوب منها خمسون دينارا، وقال مرّة: وهو في عطلته أخذ مني محمد بن طفج الإخشيد عينا وعرضا يبلغ نيفا وثمانين ويبة دنانير، فاستعظم من حضر ذلك، فقال ابنه الذي أخذ أكثر: وأنا أوقفه عليه، ثم قال لأبيه: يا مولاي أليس نكتب ثلاث مرّات؟ قال: قريب منها، قال: وعرض وعين؟ قال: كذلك، فأمر بعض الحساب بضبط ذلك، فجاء ما ينيف عن ثلاثين أردبا من ذهب؟! فانظر ما تضمنته أخبار المادرانيّ، وقس عليها بقية أحوال مصر، فما كان سوى كاتب الخراج، وهذه أمواله كما قد رأيت. وقال الشريف الجوانيّ: إن أبا عبد الله محمد بن مفسر قاضي مصر سمع بأن المادرانيّ عمل في أيامه الكعك المحشوّ بالسكر، والقرص الصغار المسمى افطن له، فأمرهم بعمل الفستق الملبس بالسكر الأبيض الفانيد المطيب بالمسك، وعمل منه في أوّل الحال أشياء عوض لبه: لب ذهب في صحن واحد، فمضى عليه جملة، وخطف قدّامه تخاطفه الحاضرون، ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس، وكان قد سمع في سيرة المادرانيين أنه عمل له هذا الإفطن له، وفي كل واحدة خمسة دنانير، ووقف أستاذ على السماط، فقال لأحد الجلساء: افطن له، وكان عمل على السماط عدّة صحون من ذلك الجنس، لكن ما فيه الدنانير صحن واحد، فلما رمز الأستاذ لذلك الرجل بقوله: افطن له، وأشار إلى الصحن تناول ذلك الرجل منه، فأصاب الذهب، واعتمد عليه، فحصل له جملة، ورآه الناس وهو إذا أكل يخرج من فمه، ويجمع بيده، ويحط في حجره، فتنبهوا له، وتزاحموا عليه فقيل لذلك من يومئذ: افطن له.

وقال أبو سعيد «1» عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر: حدّثني بعض أصحابنا بتفسير رؤيا رآها غلام ابن عقيل الخشاب عجيبة، فكانت حقا، كما فسرت، فسألت غلام ابن عقيل عنها؟ فقال لي: أنا أخبرك، كان أبي في سوق الخشابين فأنفق بضاعته، ورثت حاله وماله، فأسلمتني أمي إلى ابن عقيل، وكان صديقا لأبي، فكنت أخدمه، وأفتح حانوته وأكنسها، ثم أفرش ما يجلس عليه، فكان يجري عليّ رزقا أتقوّت به، فأتى يوما في الحانوت، وقد جلس أستاذي ابن عقيل، فجاء ابن العسال مع رجل من أهل الريف يطلب عود خشب لطاحونة، فاشترى من ابن عقيل عود طاحونة بخمسة دنانير، فسمعت قوما من أهل السوق يقولون: هذا ابن العسال المفسر للرؤيا عند ابن عقيل، فجاء منهم قوم، وقصوا عليه منامات رأوها، ففسرها لهم، فذكرت رؤيا رأيتها في ليلتي، فقلت له: إني رأيت البارحة في نومي كذا وكذا، فقصصت عليه الرؤيا، فقال لي: أيّ وقت رأيتها من الليل، فقلت: انتبهت بعد رؤياي في وقت كذا، فقال لي: هذه رؤيا لست أفسرها إلّا بدنانير كثيرة، فألححت عليه، فقال أستاذي ابن عقيل: إن قرّبت علينا وزنت أنا لك ذلك من عندي، فلم يزل به ينزله، حتى قال: والله لا آخذ أقل من ثمن العود الخشب خمسة دنانير، فقال له ابن عقيل: إن صحت الرؤيا دفعت إليك العود بلا ثمن، فقال له: يأخذ مثل هذا اليوم ألف دينار، قال أستاذي: فإذا لم يصح هذا، فقال: يكون العود عندك إلى مثل هذا اليوم، فإن كان لم يصح أخذ ما قلت له في ذلك اليوم، فليس لي عندك شيء، ولا أفسر رؤيا أبدا، فقال له أستاذي: قد أنصفت ومضت الجمعة، فلما كان مثل ذلك اليوم غدوت مثل ما كنت أغدو إلى دكان أستاذي، ففتحتها ورششتها، واستلقيت على ظهري أفكر فيما قال لي، ومن أين يمكن أن يصير إليّ ألف دينار، فقلت: لعل سقف المكان ينفرج، فيسقط منه هذا المال، وجعلت أجيل فكري، وإني كذلك إلى ضحى إذ وقف عليّ جماعة من أعوان الخراج معهم ناس، فقالوا: هذه دكان ابن عقيل؟ ثم قالوا لي: قم، فقلت لهم: لست ابن عقيل، أنا غلامه، فقالوا: بل أنت ابنه، وجبذوني، فأخرجوني من الدكان، فقلت: إلى أين؟ فقالوا: إلى ديوان الأستاذ أبي عليّ الحسين بن أحمد يعنون أبا زنبور، فقلت: وما يصنع بي؟ فقالوا: إذا جئت سمعت كلامه، وما يريده منك، وكنت بعقب علة ضعيف البدن، فقلت: ما أقدر أمشي، فقالوا: اكتر حمارا تركبه، ولم يكن معي ما أكتري به حمارا، فنزعت تكة سراويلي من وسطي، ودفعتها على درهمين لمن أكراني الحمار، ومضيت معهم، فجاءوا بي إلى دار أبي زنبور، فلما دخلت قال لي: أنت ابن عقيل؟ فقلت: لا يا سيدي، أنا غلام في حانوته، قال،: أفليس تبصر قيمة الخشب؟ قلت: بلى، قال: فاذهب مع هؤلاء، فقوّم لنا هذا الخشب، فانظر بحيث لا يزيد ولا ينقص، فمضيت

معهم، فجاءوا بي إلى شط البحر إلى خشب كثير من أثل وسنط جاف، وغير ذلك مما يصلح لبناء المراكب، فقوّمته تقويم جزع، حتى بلغت قيمته ألفي دينار، فقالوا لي: انظر هذا الموضع الآخر فيه من الخشب أيضا، فنظرت فإذا هو أكثر مما قوّمت بنحو مرّتين فأعجلوني، ولم أضبط قيمة الخشب، فردّوني إلى أبي زنبور، فقال لي: قوّمت الخشب كما أمرتك؟ ففزعت، فقلت: نعم، فقال: هات كم قوّمته، فقلت: ألفا دينار، فقال: انظر لا تغلط، فقلت: هو قيمته عندي، فقال لي: فخذه أنت بألفي دينار، فقلت: أنا فقير لا أملك دينارا واحدا، فكيف لي بقيمته، قال: ألست تحسن تدبيره وتبيعه؟ فقلت: بلى، قال: فدبره وبعه ونحن نصبر عليك بالثمن إلى أن تبيع شيئا شيئا، وتؤدّي ثمنه، فقلت: أفعل، فأمر بكتاب يكتب عليّ في الديوان بالمال، فكتب عليّ، ورجعت إلى الشط أعرف عدد الخشب، وأوصي به الحرّاس، فوافيت جماعة أهل سوقنا، وشيوخهم قد أتوا إلى موضع الخشب، فقالوا لي: إيش صنعت؟ قوّمت الخشب؟ قلت: نعم، قالوا: بكم قوّمته؟ فقلت: بألفي دينار، فقالوا لي: وأنت تحسن تقوّم؟ لا يساوي هذا هذه القيمة، فقلت لهم: قد كتب عليّ كتاب في الديوان، وهو عندي يساوي أضعاف هذا، فقالوا لي: اسكت لا يسمعك أحد، وكانوا قد قوّموه قبلي لأبي زنبور بألف دينار، فقال بعضهم لبعض: أعطوا هذا ربحه، وتسلموه أنتم، فقال قائل: أعطوه ربحه خمسمائة دينار، فقلت: لا والله لا آخذ، فقالوا: قد رأى رؤيا، فزيدوه، فقلت: لا والله لا آخذ أقلّ من ألف دينار، قالوا: فلك ألف دينار، فحوّل اسمك من الديوان نعطك إذا بعنا ألف دينار، فقلت: لا والله لا أفعل حتى آخذ الألف دينار في وقتي هذا، فمضوا إلى حوانيتهم، وإلى منازلهم حتى جاءوني بألف دينار، فقلت: لا آخذها إلا بنقد الصيرفيّ وميزانه، فمضيت معهم إلى صيرفيّ الناحية، حتى وزنوا عنده الألف دينار، ونقدتها وأخذتها فشددتها في طرف رداءي، فمضيت معهم إلى الديوان، وحوّلت أسماءهم مكان اسمي، ووفوا حتى الديوان من عندهم، ورجعت وقت الظهر إلى أستاذي، فقال لي: قبضت ألف دينار منهم؟ فقلت: نعم ببركتك، وتركت الدنانير بين يديه، وقلت له: يا أستاذ خذ ثمن العود الخشب، فقال: لا والله لا آخذ منك شيئا أنت عندي مقام ابني، وجاء في الوقت ابن العسال، فدفع إليه أستاذي العود الخشب، فمضى، فهذا خبر رؤياي وتفسيرها، فتأمّل أعزك الله ما يشتمل عليه من عظم ما كانت عليه مصر، وسعة حال الديوان، وكيف فضل فيه خشب يساوي آلافا من الذهب، ونحن اليوم في زمن إذا احتيج فيه إلى عمارة شيء من الأماكن السلطانية بخشب أو غيره أخذ من الناس إما بغير ثمن أو بأخس القيم، مع ما يصيب مالكه من الخوف والخسارة للأعوان، وكيف لما قوّم هذا الخشب لم يكلف المشتري دفع المال في الحال، وفي زمننا إذا طرحت البضاعة السلطانية على الباعة يكلفون حمل ثمنها بالسرعة، حتى أنّ فيهم من يبيعها بأقلّ من نصف ما اشتراها به، ويكمل الثمن إمّا من ماله، أو يقترضه بربح، وكيف لما علم أهل السوق أن الخشب بيع بدون القيمة

ذكر الآثار الواردة في خراب مصر

لم يمضوا إلى الديوان، ويدفعون فيه زيادة إمّا لقلة شره الناس إذ ذاك وتركهم الأخلاق الرذيلة من الحسد ونحوه أو لعلمهم بعدل السلطان، وإنه لا ينكث ما عقده، وفي زمننا لو ادّعى عدوّ على عدوّه أنّ البضاعة التي كان اشتراها من الديوان قيمتها أكثر مما أخذها به لقبل قوله، ورغم زيادة على ما ادّعاه عدوّه من قلة القيمة جملة أخرى لا جرم أنه تظاهر سفهاء الناس بكل رذيلة وذميمة من الأخلاق، فإنّ الملك سوق يجبى إليه ما نفق به، وكيف لما علم ابن عقيل أنّ غلامه استفاد على اسمه ألف دينار، لم يشره إلى أخذها بل دفع عنه خمسة الدنانير، وما ذاك إلا من انتشار الخير في الناس، وكثرة أموالهم، وسعة حال كل أحد بحسبه وطيب نفوس الكافة، ولعمري لو سمع زمننا أحد من الأمراء والوزراء فضلا عن الباعة، أنّ غلاما من غلمانه أخذ على اسمه عشر هذا المبلغ لقامت قيامته، وكيف اتسعت أحوال الخشابين حتى وزنوا ألف دينار في ساعة، وإنه ليعسر اليوم على الخشابين أن يزنوا في يوم مائة دينار، وهذا كله من وفور غنى الناس بمصر، وعظم أمرهم، وكثرة سعاداتهم، وكان الفسطاط نحو ثلث بغداد، ومقداره فرسخ على غاية العمارة، والخصب والطيبة، واللذة، وكانت مساكن أهلها خمس طبقات وستا وسبعا وربما سكن في الدار الواحدة المائتان من الناس، وكان فيه دار عبد العزيز بن مروان يصب فيها لمن في كل يوم أربعمائة راوية ماء، وكان فيها خمسة مساجد وحمامان، وعدّة أفران يخبز بها عجين أهلها، وقد قال أبو داود في كتاب السنن: شبرت قثاءة بمصر: ثلاثة عشر شبرا، ورأيت أترجة على بعير قطعتين: قطعت، وصيرت على مثل عدلين، ذكره في باب صدقة الزرع من كتاب الزكاة، قلت: وقد ذكر أن هذا كان في جنان بني سنان البصريّ خارج مدينة الفسطاط، وكانت بحيث لم ير أبدع منها، فلما قدم أمير المؤمنين عبد الله المأمون بن هارون الرشيد مصر: سنة سبع عشرة ومائتين، رأى جنان بني سنان هذه؟ فأعجب بها، وسأل إبراهيم بن سنان: كم عليه من الخراج لجنانه؟ فذكر أنه يحمل إلى الديوان في كل سنة عشرين ألف دينار، فقال المأمون: وكم ترد عليك هذه الجنان؟ قال: لا أستطيع حصره إلا أن ما زاد على مائة ألف دينار، أتصدّق به ولو درهما هذا، وله ولد اسمه أحمد بن إبراهيم بن سنان يوصف بعلم وزهد، والله تعالى أعلم. ذكر الآثار الواردة في خراب مصر روى قاسم بن أصبغ عن كعب الأحبار قال: الجزيرة آمنة من الخراب، حتى تخرب أرمينية، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة، والكوفة آمنة من الخراب، حتى تكون الملحمة، ولا يخرج الدجال حتى تفتح القسطنطينية. وعن وهب بن منبه أنه قال: الجزيرة آمنة من الخراب، حتى تخرب أرمينية، وأرمينية آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب، حتى تخرب الكوفة، ولا

تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى، فتحت القسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم، وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل، واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من قبل الجوع والسيف، وخراب الكوفة من قبل عدوّ من ورائهم يخفرهم، حتى لا يستطيعوا أن يشربوا من الفرات قطرة، وخراب البصرة من قبل العراق، وخراب الأبلة من قبل عدوّ يخفرهم مرّة برّا، ومرّة بحرا، وخراب الريّ من قبل الديلم، وخراب خراسان من قبل التبت، وخراب التبت من قبل الصين، وخراب الصين من قبل الهند، وخراب اليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من قبل الحبشة، وخراب المدينة من قبل الجوع، وفي رواية: وخراب أرمينية من قبل الرجف والصواعق، وخراب الأندلس، وخراب الجزيرة من سنابك الخيل، واختلاف الجيوش. وعن عبد الله بن الصامت قال: إن أسرع الأرضين خرابا البصرة ومصر، فقيل له: وما يخربهما وفيهما عيون الرجال والأموال؟ فقال: يخربهما القتل الأحمر والجوع الأغبر، كأني بالبصرة: كأنها نعامة جاثمة، وأما مصر: فإنّ نيلها ينضب، أو قال: ييبس، فيكون ذلك خرابها، وعن الأوزاعيّ: إذا دخل أصحاب الرايات الصفر مصر، فلتحفر أهل الشام أسرابا تحت الأرض. وعن كعب: علامة خروج المهديّ ألوية تقبل من قبل المغرب عليها رجل من كندة أعرج، فإذا ظهر أهل المغرب على مصر، فبطن الأرض يومئذ خير لأهل الشام. وعن سفيان الثوريّ «1» قال: يخرج عنق من البربر، فويل لأهل مصر. وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن مولى لشرحبيل بن حسنة أو لعمرو بن العاص قال: سمعته يوما، واستقبلنا فقال: إيها لك مصر إذا رميت بالقسيّ الأربع: قوس الأندلس، وقوس الحبشة، وقوس الترك، وقوس الروم. وعن قاسم بن أصبغ: حدّثنا أحمد بن زهير حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة عن الشيبانيّ قال: تهلك مصر غرقا، أو حرقا. وعن عبد الله بن مغلا أنه قال لابنته: إذا بلغك أن الإسكندرية قد فتحت، فإن كان خمارك بالمغرب، فلا تأخذيه حتى تلحقي بالمشرق. وذكر مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس يرفعه قال: أنزل الله تعالى من الجنة

ذكر خراب الفسطاط

إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون، وهو نهر الهند، وجيحون، وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات، وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام، واستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم، وذلك قوله عز وجل: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون/ 18] فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام، فرفع من الأرض القرآن كله، والعلم كله، والحجر من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [المؤمنون/ 18] فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقدت أهلها خير الدنيا والدين، وقال ابن لهيعة عن عقبة بن عامر الحضرميّ عن حيان بن الأعين عن عبد الله بن عمرو قال: إنّ أوّل مصر خرابا أنطابلس، وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن عبد الله بن عمرو قال: إني لأعلم السنة التي تخرجون فيها من مصر قال: فقلت له: ما يخرجنا منها يا أبا محمد، أعدوّ؟ قال: لا، ولكن يخرجكم منها نيلكم هذا، يغور فلا تبقى منه قطرة حتى تكون فيه الكثبان من الرمل، وتأكل سباع الأرض حيتانه. ذكر خراب الفسطاط وكان لخراب مدينة فسطاط مصر سببان: أحدهما: الشدّة العظمى التي كانت في خلافة المستنصر بالله الفاطمي، والثاني: حريق مصر في وزارة شاور بن مجير السعديّ. فأما الشدّة العظمى: فإنّ سببها أنّ السعر ارتفع بمصر في سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتبع الغلاء، وباء، فبعث الخليفة المستنصر بالله أبو تميم معدّ بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ إلى متملك الروم بقسطنطينية أن يحمل الغلال إلى مصر، فأطلق أربعمائة ألف أردب، وعزم على حملها إلى مصر، فأدركه أجله ومات قبل ذلك، فقام في الملك بعده امرأة، وكتبت إلى المستنصر تسأله أن يكون عونا لها، ويمدّها بعساكر مصر إذا ثار عليها أحد، فأبى أن يسعفها في طلبتها، فجردت لذلك، وعاقت الغلال عن المسير إلى مصر، فخنق المستنصر، وجهز العساكر، وعليها مكين الدولة الحسن بن ملهم، وسارت إلى اللاذقية، فحاربتها بسبب نقض الهدنة وإمساك الغلال عن الوصول إلى مصر، وأمدّها بالعساكر الكثيرة، ونودي في بلاد الشام بالغزو، فنزل ابن ملهم قريبا من فامية «1» ، وضايق أهلها، وجال في أعمال أنطاكية، فسبى ونهب، فأخرج صاحب قسطنطينية ثمانين قطعة في البحر، فحاربها ابن ملهم عدّة مرار، وكانت عليه، وأسر هو وجماعة كثيرة في شهر ربيع

الأوّل منها، فبعث المستنصر في سنة سبع وأربعين: أبا عبد الله القضاعيّ برسالة إلى القسطنطينية فوافى إليها رسول طغربل السلجوقيّ من العراق بكتابة يأمر متملك الروم بأن يمكن الرسول من الصلاة في جامع القسطنطينية، فأذن له في ذلك، فدخل إليه وصلى فيه صلاة الجمعة. وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ، فبعث القاضي القضاعيّ إلى المستنصر يخبره بذلك، فأرسل إلى كنيسة قمامة بيت المقدس، وقبض على جميع ما فيها، وكان شيئا كثيرا من أموال النصارى، ففسد من حينئذ ما بين الروم والمصريين، حتى استولوا على بلاد الساحل كلها، وحاصروا القاهرة كما يرد في موضعه إن شاء الله تعالى، واشتدّ في هذه السنة الغلاء، وكثر الوباء بمصر والقاهرة، وأعمالها إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة، فحدث مع ذلك الفتنة العظيمة التي خرب بسببها إقليم مصر كله، وذلك أنّ المستنصر لما خرج على عادته في كل سنة على النجب مع النساء، والحشم إلى أرض الجب خارج القاهرة، وجرّد بعض الأتراك سيفا، وهو سكران على أحد عبيد الشراء، فاجتمع عليه كثير من العبيد وقتلوه، فحنق لقتله الأتراك، وساروا بجميعهم إلى المستنصر. وقالوا: إن كان هذا عن رضاك، فالسمع والطاعة، وإن كان من غير رضى أمير المؤمنين، فلا نرضى بذلك، فتبرّأ المستنصر مما جرى وأنكره، فتجمع الأتراك لمحاربة العبيد، وكانت بينهما حروب شديدة بناحية كوم شريك قتل فيها عدّة من العبيد. وانهزم من بقي منهم، فشق ذلك على أمّ المستنصر، فإنها كانت السبب في كثرة العبيد السود بمصر، وذلك أنها كانت جارية سوداء، فأحبت الاستكثار من جنسها، واشترتهم من كل مكان، وعرفت رغبتها في هذا الجنس، فجلبت الناس إلى مصر منهم، حتى يقال: إنه صار في مصر إذ ذاك على زيادة على خمسين ألف عبد أسود، فلما كانت وقعة كوم شريك أمدّت العبيد بالأموال والسلاح سرّا، وكانت أمّ المستنصر قد تحكمت في الدولة، وحقدت على الأتراك، وحثت على قتلهم مولاها أبا سعد التستريّ، فقويت العبيد لذلك، حتى صار الواحد منهم يحكم بما يختار، فكرهت الأتراك ذلك، وكان ما ذكر، فظفر بعض الأتراك يوما بشيء من المال والسلاح قد بعثت به أمّ المستنصر إلى العبيد تمدّهم به بعد انهزامهم من كوم شريك، فاجتمعوا بأسرهم، ودخلوا على المستنصر، وأغلظوا في القول، فحلف أنه لم يكن عنده علم بما ذكر، وصار إلى أمه، فأنكرت ما فعلت، وخرج الأتراك، فصار السيف قائما، ووقعت الفتنة ثانيا فانتدب المستنصر: أبا الفرج ابن المغربيّ ليصلح بين الطائفتين، فاصطلحه على غلّ، وخرج العبيد إلى شبرا دمنهور، فكان هذا أوّل اختلال أحوال أهل مصر، ودبت عقارب العداوة بين الفئتين إلى سنة تسع وخمسين، فقويت شوكة الأتراك، وضروا على المستنصر، وزاد طمعهم فيه، وطلبوا منه الزيادة في واجباتهم، وضاقت أحوال

العبيد، واشتدّت ضرورتهم، وكثرت حاجتهم، وقلّ مال السلطان، واستضعف جانبه، فبعثت أم المستنصر إلى قوّاد العبيد تغريهم بالأتراك، فاجتمعوا بالجيزة، وخرج إليهم الأتراك، ومقدّمهم ناصر الدين حسين بن حمدان «1» ، فاقتتلا عدّة مرار ظهر في آخرها الأتراك على العبيد، وهزموهم إلى بلاد الصعيد، فعاد ابن حمدان إلى القاهرة، وقد عظم أمره، وقوي جأشه، وكبرت نفسه، واستخف بالخليفة، فجاءه الخبر: أنه قد تجمع من العبيد ببلاد الصعيد نحو خمسة عشر ألف فارس، فقلق وبعث بمقدّمي الأتراك إلى المستنصر، فأنكر ما كان من اجتماع العبيد، وجفوا في خطابهم، وفارقوه على غير رضى منهم، فبعثت أم المستنصر إلى من بحضرتها من العبيد، تأمرهم بالإيقاع على غفلة بالأتراك، فهجموا عليهم، وقتلوا منهم عدّة، فبادر ابن حمدان إلى الخروج ظاهر القاهرة، وتلاحق به الأتراك، وبرز إليهم العبيد المقيمون بالقاهرة ومصر، وحاربوهم عدّة أيام، فحلف ابن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه حتى ينفصل الأمر إمّا له أو عليه، وجدّ كل من الفريقين في القتال، فظهرت الأتراك على العبيد، وأثخنوا في قتلهم وأسرهم، فعادوا إلى القاهرة، وتتبع ابن حمدان من في البلد منهم، حتى أفنى معظمهم، هذا والعبيد ببلاد الصعيد على حالهم، وبالإسكندرية أيضا منهم جمع كثير، فسار ابن حمدان إلى الإسكندرية، وحاصرهم فيها مدّة حتى سألوه الأمان، فأخرجهم، وأقام فيها من يثق به، وانقضت هذه السنة كلها في قتال العبيد، ودخلت سنة ستين وأربعمائة، وقد خرق الأتراك ناموس المستنصر، واستهانوا به، واستخفوا بقدره، وصار مقرّرهم في كل شهر أربعمائة ألف دينار بعدما كان ثمانية وعشرين ألف دينار، ولم يبق في الخزائن مال، فبعثوا يطالبونه بالمال، فاعتذر إليهم بعجزه عما طلبوه، فلم يعذروه، وقالوا: بع ذخائرك، فلم يجد بدّا من إجابتهم، وأخرج ما كان في القصر من الذخائر، فصاروا يقوّمون ما يخرج إليهم بأخس القيم، وأقل الأثمان، ويأخذون ذلك في واجباتهم. وتجهز ابن حمدان، وسار إلى الصعيد يريد قتال العبيد، وكانت شرورهم قد كثرت، وضررهم وفسادهم قد تزايد، فلقيهم وواقعهم غير مرّة، والأتراك تنكسر منهم، وتعود إلى محاربتهم إلى أن حمل العبيد عليهم حملة انهزموا فيها إلى الجيزة، فأفحشوا عند ذلك في أمر المستنصر، ونسبوه إلى مباطنة العبيد، وتقويتهم، فأنكر ذلك، وحلف عليه، فأخذوا في إصلاح شأنهم، ولمّ شعثهم وساروا لقتال العبيد، وما زالوا يلحون في قتالهم حتى انكسرت العبيد كسرة شنيعة، وقتل منهم خلق كثير، وفرّ من بقي، فذهبت شوكتهم، وزالت دولتهم، ورجع ابن حمدان، وقد كشف قناع الحياء، وجهر بالسوء للمستنصر، واستبدّ بسلطنة

البلاد، ودخلت سنة إحدى وستين وابن حمدان مستبدّ بالأمر مجاف للمستنصر، فنقل مكانه على الأتراك، وتفرّغوا من العبيد، والتفتوا إليه، وقد استبدّ بالأمور دونهم، واستأثر بالأموال عليهم، ففسد ما بينهم وبينه، وشكوا منهم إلى الوزير خطير الملك، فأغراهم به، ولامهم على ما كان من تقويته، وحسن لهم الثورة به، فصاروا إلى المستنصر، ووافقوه على ذلك، فبعث إلى ابن حمدان يأمره بالخروج عن مصر، ويهدّده إن امتنع، فلم يقدر على الامتناع منه، لفساد الأتراك عليه، وميلهم مع المستنصر، فخرج إلى الجيزة، وانتهب الناس دوره ودور حواشيه، فلما جنّ عليه الليل عاد من الجيزة سرّا إلى دار القائد تاج الملوك شادي، وترامى عليه، وقبل رجليه، وسأله النصرة على الذكر والوزير الخطير، فإنهما قاما بهذه الفتنة، فأجابه إلى ذلك، ووعده بقتل المذكورين وفارقه ابن حمدان، فلما كان من الغد ركب شادي في أصحابه، وأخذ يسير بين القصرين بالقاهرة، وأقبل الوزير الخطير، في موكبه، فبادره شادي على حين غفلة وقتله، ففرّ الذكر إلى القصر، والتجأ بالمستنصر، فلم يكن بأسرع من قدوم ابن حمدان، وقد استعدّ للحرب، فيمن معه فركب المستنصر بلأمة الحرب، واجتمع إليه الأجناد والعامّة، وصار في عدد لا ينحصر، وبرزت الفرسان، فكانت بين الخليفة، وابن حمدان حروب آلت إلى هزيمة ابن حمدان، وقتل كثير من أصحابه، فمضى في طائفة إلى البحيرة، وترامى على بني سيس، وتزوّج منها، فعظم الأمر بالقاهرة ومصر من شدّة الغلاء، وقلة الأقوات لما فسد من الأعمال بكثرة النهب، وقطع الطريق حتى أكل الناس الجيف والميتات، ووقف أرباب الفساد في الطريق، فصاروا يقتلون من ظفروا به في أزقة مصر، فهلك من أهل مصر في هذه الحروب والفتن ما لا يمكن حصره، وامتدّ ذلك إلى أن دخلت سنة ثلاث وستين، فجهز المستنصر عساكره لقتال ابن حمدان بالبحيرة، فسارت إليه ولم يوفق في محاربته، فكسرها كلها، واحتوى على ما كان معها من سلاح وكراع ومال، فتقوّى به، وقطع الميرة عن البلد، ونهب أكثر الوجه البحريّ، وقطع منه الخطبة للمستنصر، ودعا للخليفة القائم بأمر الله العباسيّ بالإسكندرية ودمياط، وعامّة الوجه البحريّ، فاشتدّ الجوع، وتزايد الموتان بالقاهرة ومصر حتى أنه كان يموت الواحد من أهل البيت، فلا يمضي يوم وليلة من موته، حتى يموت سائر من في ذلك البيت، ولا يوجد من يستولي عليه، ومدّت الأجناد أيديها إلى النهب، فخرج الأمر عن الحدّ، ونجا أهل القوّة بأنفسهم من مصر، وساروا إلى الشام والعراق، وخرج من خزائن القصر ما يجل وصفه، وقد ذكر طرف من ذلك في أخبار القاهرة عند ذكر خزائن القصر، فاضطرّ الأجناد ما هم فيه من شدّة الجوع إلى مصالحة ابن حمدان بشرط أن يقيم في مكانه، ويحمل إليه مال مقرّر، وينوب عنه شادي بالقاهرة، فرضي بذلك، وسير الغلال إلى القاهرة ومصر، فسكن ما بالناس من شدّة الجوع قليلا، ولم يكن ذلك إلا نحو شهر، ووقع الاختلاف عليه، فقدم من البحيرة إلى مصر، وحاصرها وانتهبها، وأحرق دورا عديدة بالساحل، ورجع إلى البحيرة،

فدخلت سنة أربع وستين، والحال على ذلك، وشادى قد استبدّ بأمر الدولة، وفسد ما بينه وبين ابن حمدان، ومنعه من المال الذي تقرّر له وشح به عليه، فلم يوصله إلى القليل، فجرد من ذلك ابن حمدان، وجمع العربان، وسار إلى الجيزة، وخادع شادي حتى صار إليه ليلا في عدّة من الأكابر، فقبض عليه وعليهم، وبعث أصحابه فنهبوا مصر، وأطلقوا فيها النار، فخرج إليهم عسكر المستنصر من القاهرة، وهزموهم، فعاد إلى البحيرة، وبعث رسولا إلى الخليفة القائم بأمر الله ببغداد بإقامة الخطبة له، وسأله الخلع والتشاريف فاضمحل أمر المستنصر، وتلاشى ذكره، وتفاقم الأمر في الشدّة من الغلاء، حتى هلكوا فسار ابن حمدان إلى البلد، وليس في أحد قوّة يمنعه بها، فملك القاهرة وامتنع المستنصر بالقصر، فسير إليه رسولا يطلب منه المال، فوجده، وقد ذهب سائر ما كان يعهده من أبهة الخلافة، حتى جلس على حصير، ولم يبق معه سوى ثلاثة من الخدم، فبلغه رسالة ابن حمدان، فقال المستنصر للرسول: ما يكفي ناصر الدولة أن اجلس في مثل هذا البيت على هذا الحال؟ فبكى الرسول رقة له، وعاد إلى ابن حمدان فأخبره بما شاهد من اتضاع أمر المستنصر، وسوء حاله، فكف عنه، وأطلق له في كل شهر مائة دينار، وامتدّت يده وتحكم وبالغ في إهانة المستنصر مبالغة عظيمة، وقبض على أمه وعاقبها أشد العقوبة، واستصفى أموالها، فحاز منها شيئا كثيرا، فتفرّق حينئذ عن المستنصر جميع أقاربه، وأولاده من الجوع فمنهم من سار إلى المغرب، ومنهم من سار إلى الشام والعراق. قال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ «1» النسابة في كتاب النقط: حلّ بمصر غلاء شديد، في خلافة المستنصر بالله في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وأقام إلى سنة أربع وستين وأربعمائة، وعمّ مع الغلاء وباء شديد، فأقام ذلك سبع سنين، والنيل يمدّ وينزل، فلا يجد من يزرع، وشمل الخوف من العسكرية، وفساد العبيد، فانقطعت الطرقات برّا وبحرا إلّا بالخفارة الكثيرة مع ركوب الغرر، ونزا المارقون بعضهم على بعض، واستولى الجوع لعدم القوت، وصار الحال إلى أن بيع رغيف من الخبز الذي وزنه رطل بزقاق القناديل: كبيع الطرف في النداء بأربعة عشر درهما، وبيع أردب من القمح بثمانين دينارا، ثم عدم ذلك، وأكلت الكلاب والقطاط، ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتا قصيرة السقوف قريبة ممن يسعى في الطرقات ويطوف، وقد أعدّوا سلبا، وخطاطيف فإذا مرّ بهم أحد شالوه في أقرب وقت، ثم ضربوه بالأخشاب، وشرّحوا لحمه وأكلوه. قال: وحدّثني بعض نسائنا الصالحات قالت: كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها، وفيها كالحفر، فكنا نسألها، فتقول: أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدّة،

فأخذني إنسان، وكنت ذات جسم وسمن، فأدخلني إلى بيت فيه سكاكين وآثار الدماء، وزفرة القتلى، فأضجعني على وجهي، وربط في يديّ ورجليّ سلبا إلى أوتاد حديد عريانة، ثم شرّح من أفخاذي شرائح وأنا أستغيث، ولا أحد يجيبني، ثم أضرم الفحم وشوي من لحمي، وأكل أكلا كثيرا، ثم سكر حتى وقع على جنبه لا يعرف أين هو، فأخذت في الحركة إلى أن انحل أحد الأوتاط، وأعان الله على الخلاص، وتخلصت وحللت الرباط، وأخذت خرقا من داره، ولففت بها أفخاذي، وزحفت إلى باب الدار، وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى المأمن، وجئت إلى بيتي، وعرّفتهم بموضعه، فمضوا إلى الوالي، فكبس عليه وضرب عنقه، وأقام الدواء في أفخاذي سنة إلى أن ختم الجرح، وبقي كذا حفرا، وبسبب هذا الغلاء خرب الفسطاط، وخلا موضع العسكر والقطائع، وظاهر مصر، مما يلي القرافة حيث الكيمان الآن إلى بركة الحبش، فلما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ إلى مصر، وقام بتدبير أمرها نقلت أنقاض ظاهر مصر مما يلي القاهرة حيث كان العسكر والقطائع، وصار فضاء وكيمانا، فيما بين مصر والقاهرة، وفيما بين مصر والقرافة، وتراجعت أحوال الفسطاط بعد ذلك حتى قارب ما كان عليه قبل الشدّة. وأما حريق مصر: فكان سببه: أنّ الفرنج لما تغلبوا على ممالك الشام، واستولوا على الساحل حتى صار بأيديهم ما بين ملطية «1» إلى بلبيس إلّا مدينة دمشق فقط، وصار أمر الوزارة بديار مصر: لشاور بن مجير السعديّ، والخليفة يومئذ العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف، اسم لا معنى له، وقام في منصب الوزارة بالقوّة في صفر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وتلقب بأمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزيك وزراء مصر، وملوكها من قبله، فلما استبدّ بالإمرة حسده ضرغام صاحب الباب، وجمع جموعا كثيرة، وغلب شاور على الوزارة في شهر رمضان منها، فسار شاور إلى الشام، واستقل ضرغام بسلطنة مصر، فكان بمصر في هذه السنة ثلاثة وزراء هم: العادل بن رزيك بن طلائع بن رزيك، وشاور بن مجير، وضرغام، فأساء ضرغام السيرة في قتل أمراء الدولة، وضعفت من أجل ذلك دولة الفاطميين بذهاب رجالها الأكابر، ثم إن شاور استنجد بالسلطان: نور الدين محمود بن زنكي «2» صاحب الشام، فأنجده وبعث معه عسكرا كثيرا في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين، وقدم عليه أسد الدين شيركوه على أن يكون لنور الدين إذا عاد شاور إلى منصب الوزارة ثلث خراج مصر بعد إقطاعات العساكر، وأن يكون شيركوه عنده بعساكره في مصر، ولا يتصرّف إلا بأمر نور الدين، فخرج ضرغام بالعسكر، وحاربه في بلبيس فانهزم، وعاد إلى مصر، فنزل شاور بمن معه عند التاج خارج القاهرة، وانتشر عسكره في البلاد، وبعث

ضرغام إلى أهل البلاد، فأتوه خوفا من الترك القادمين معه، وأتته الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية، فامتنعوا بالقاهرة، وتطاردوا مع طلائع شاور بأرض الطبالة، فنزل شاور في المقس، وحارب أهل القاهرة فغلبوه، وحتى ارتفع إلى بركة الحبش، فنزل على الرصد واستولى على مدينة مصر، وأقام أياما فمال الناس إليه، وانحرفوا عن ضرغام لأمور، فنزل شاور باللوق، وكانت بينه وبين ضرغام حروب آلت إلى إحراق الدور من باب سعادة إلى باب القنطرة خارج القاهرة، وقتل كثير من الفريقين، واختلّ أمر ضرغام، وانهزم، فملك شاور القاهرة، وقتل ضرغام آخر جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، فأخلف شيركوه ما وعد به السلطان نور الدين، وأمره بالخروج عن مصر، فأبى عليه واقتتلا. وكان شيركوه قد بعث بابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلبيس، ليجمع له الغلال وغيرها من الأموال، فحشد شاور، وقاتل الشاميين، فجرت وقائع، واحترق وجه الخليج خارج القاهرة بأسره، وقطعة من حارة زويلة، فبعث شاور إلى الفرنج واستنجد بهم فطمعوا في البلاد، وخرج ملكهم مري من عسقلان بجموعه، فبلغ ذلك شيركوه، فرحل عن القاهرة بعد طول محاصرتها، ونزل بلبيس فاجتمع على قتاله بها شاور وملك الفرنج، وحصروه بها، وكانت إذا ذاك حصينة ذات أسوار، فأقام محصورا مدّة ثلاثة أشهر، وبلغ ذلك نور الدين، فأغار على ما قرب منه من بلاد الفرنج، وأخذها من أيديهم، فخافوه، ووقع الصلح مع شيركوه على عوده إلى الشام، فخرج في ذي الحجة، ولحق بنور الدين، فأقام وفي نفسه من مصر أمر عظيم إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين، فجهزه نور الدين إلى مصر في جيش قويّ في ربيع الأوّل، وسيره فبلغ ذلك شاور، فبعث إلى مري ملك الفرنج مستنجدا به، فسار بجموع الفرنج، حتى نزل بلبيس، فوافاه شاور وأقام حتى قدم شيركوه إلى أطراف مصر، فلم يطق لقاء القوم، فسار حتى خرج من إطفيح «1» إلى جهة بلاد الصعيد من ناحية بحر القلزم، فبلغ شاور أنّ شيركوه قد ملك بلاد الصعيد، فسقط في يده، ونهض للفور من بلبيس ومعه الفرنج، فكان من حروبه مع شيركوه ما كان حتى انهزم بالأشمونين، وسار منها بعد الهزيمة إلى الإسكندرية فملكها، وأقرّ بها ابن أخيه صلاح الدين، وخرج إلى الصعيد، فخرج شاور بالفرنج وحصر الإسكندرية أشدّ حصار، فسار شيركوه من قوص ونزل على القاهرة، وحاصرها، فرحل إليه شاور، وكانت أمور آلت إلى الصلح وسار شيركوه بمن معه إلى الشام في شوّال، فطمع مري في البلاد، وجعل له شحنة بالقاهرة، وصارت أسوارها بيد فرسان الفرنج، وتقرّر لهم في كل سنة مائة ألف دينار، ثم رحل إلى بلاده، وترك بالقاهرة من يثق به من الفرنج، وسار شيركوه إلى الشام، فتحكم الفرنج في القاهرة حكما جائرا، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم، وتيقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم، وانكشفت لهم

عورات الناس إلى أن دخلت سنة أربع وستين، فجمع مري جمعا عظيما من أجناس الفرنج، وأقطعهم بلاد مصر، وسار يريد أخذ مصر، فبعث إليه شاور يسأله عن سبب مسيره، فاعتل بأنّ الفرنج غلبوه على قصد ديار مصر، وأنه يريد ألفي ألف دينار يرضيهم بها، وسار فنزل على بلبيس، وحاصرها حتى أخذها عنوة في صفر، فسبي أهلها، وقصد القاهرة، فسير العاضد كتبه إلى نور الدين، وفيها شعور نسائه وبناته يسأله إنقاذ المسلمين من الفرنج، وسار مري من بلبيس، فنزل على بركة الحبش، وقد انضم الناس من الأعمال إلى القاهرة، فنادى شاور بمصر أن لا يقيم بها أحد، وأزعج الناس في النقلة منها، فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم، وأولادهم وقد ماج الناس واضطربوا كأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده، ولا يلتفت أخ إلى أخيه، وبلغ كراء الدابة من مصر إلى القاهرة بضعة عشر دينارا، وكراء الحمل إلى ثلاثين دينارا، ونزلوا بالقاهرة في المساجد، والحمامات والأزقة وعلى الطرقات، فصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم، وقد سلبوا سائر أموالهم، وينتظرون هجوم العدوّ على القاهرة بالسيف، كما فعل بمدينة بلبيس، وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط، وعشرة آلاف مشعل نار، فرّق ذلك فيها، فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء، فصار منظرا مهولا، فاستمرّت النار تأتي على مساكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يوما، والنّهابة من العبيد، ورجال الأسطول وغيرهم بهذه المنازل في طلب الخبايا، فلما وقع الحريق بمصر، رحل مري من بركة الحبش، ونزل بظاهر القاهرة، مما يلي باب البرقية، وقاتل أهلها قتالا كثيرا، حتى زلزلوا زلزالا شديدا، وضعفت نفوسهم، وكادوا يؤخذون عنوة، فعاد شاور إلى مقاتلة الفرنج، وجرت أمور آلت إلى الصلح على مال، فبينا هم في جبايته إذ بلغ الفرنج مجيء أسد الدين شيركوه بعساكر الشام من عند السلطان نور الدين محمود، فرحلوا في سابع ربيع الآخر إلى بلبيس، وساروا منها إلى فاقوس، فصاروا إلى بلادهم بالساحل، ونزل شيركوه بالمقس خارج القاهرة، وكان من قتل شاور، واستيلاء شيركوه على مصر ما كان، فمن حينئذ خربت مصر الفسطاط هذا الخراب الذي هو الآن: كيمان مصر، وتلاشى أمرها، وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم، وزالت نعمهم، فلما استبدّ شيركوه بوزارة العاضد، أمر بإحضار أعيان أهل مصر الذين خلوا عن ديارهم في الفتنة، وصاروا بالقاهرة، وتغمم لمصابهم وسفه رأي شاور في إحراق المدينة، وأمرهم بالعود إليها، فشكوا إليه ما بهم من الفقر والفاقة وخراب المنازل، وقالوا: إلى أيّ مكان نرجع؟ وفي أيّ مكان ننزل ونأوي؟ وقد صارت كما ترى، وبكوا وأبكوا، فوعدهم جميلا، وترفق بهم وأمر، فنودي في الناس بالرجوع إلى مصر، فتراجع إليها الناس قليلا وعمروا ما حول الجامع إلى أن كانت المحنة من الغلاء والوباء العظيم في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب لسنتي خمس وخمسمائة فخرب من مصر جانب كبير، ثم تحايا الناس بها، وأكثروا من العمارة بجانب

ذكر ما قيل في مدينة فسطاط مصر

مصر الغربيّ على شاطىء النيل، لمّا عمّر الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة، وصار بمصر عدّة آدار جليلة، وأسواق ضخمة، فلما كان غلاء مصر والوباء الكائن في سلطنة الملك العادل: كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة خرب كثير من مساكن مصر، وتراجع الناس بعد ذلك في العمارة إلى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فحدث الفناء الكبير الذي أقفر منه معظم دور مصر، وخربت ثم تحايا الناس من بعد الوباء، وصار ما يحيط بالجامع العتيق، وما على شط النيل عامرا إلى سنة ست وسبعين وسبعمائة، فشرقت بلاد مصر، وحدث الوباء بعد الغلاء، فخرب كثير من عامر مصر، ولم يزل يخرب شيئا بعد شيء إلى سنة تسعين وسبعمائة، فعظم الخراب في خط زقاق القناديل، وخط النحاسين، وشرع الناس في هدم دور مصر، وبيع أنقاضها، حتى صارت على ما هي عليه الآن، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا. ذكر ما قيل في مدينة فسطاط مصر قال ابن رضوان: والمدينة الكبرى اليوم بأرض مصر ذات أربعة أجزاء: الفسطاط، والقاهرة، والجزيرة، والجيزة، وبعد هذه المدينة عن خط الاستواء ثلاثون درجة، والجبل المقطم في شرقيها، وبينها وبين مقابر المدينة. وقد قالت الأطباء: إن أردأ المواضع ما كان الجبل في شرقيه يعوق ريح الصبا عنه، وأعظم أجزائها: هو الفسطاط، ويلي الفسطاط من الغرب: النيل، وعلى شط النيل الغربيّ أشجار طوال وقصار، وأعظم أجزاء الفسطاط: موضع في غور، فإنه يعلوه من المشرق المقطم، ومن الجنوب الشرف، ومن الشمال الموضع العالي من عمل فوق، أعني الموقف والعسكر وجامع ابن طولون، ومتى نظرت إلى الفسطاط من الشرق أو من مكان آخر عال: رأيت وضعها في غور. وقد بيّن أبقراط أن المواضع المتسفلة: أسخن من المواضع المرتفعة، وأردأ هواء لاحتقان البخار فيها، ولأن ما حولها من المواضع العالية يعوق تحليل الرياح لها، وأزقة الفسطاط وشوارعها ضيقة، وأبنيتها عالية، وقد قال روفس: إذا دخلت مدينة، فرأيتها ضيقة الأزقة مرتفعة البناء، فاهرب منها لأنها وبيئة أراد أن البخار لا ينحل منها كما ينبغي لضيق الأزقة وارتفاع البناء. ومن شأن أهل الفسطاط أن يرموا ما يموت في دورهم من السنانير والكلاب، ونحوها من الحيوان الذي يخالط الناس في شوارعهم وأزقتهم فتعفن، وتخالط عفونتها الهواء، ومن شأنهم أيضا: أن يرموا في النيل الذي يشربون منه فضول حيواناتهم وجيفها، وخرّارا كنفهم تصب فيه، وربما انقطع جري الماء، فيشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء، وفي خلال الفسطاط مستوقدات عظيمة يصعد منها في الهواء دخان مفرط، وهي أيضا كثيرة الغبار لسخانة أرضها، حتى أنك ترى الهواء في أيام الصيف كدرا يأخذ بالنفس، ويتسخ الثوب

النظيف في اليوم الواحد، وإذا مرّ الإنسان في حاجة لم يرجع إلّا وقد اجتمع في وجهه ولحيته غبار كثير، ويعلوها في العشيات خاصة في أيام الصيف بخار كدر أسود وأغبر، سيّما إذا كان الهواء سليما من الرياح، وإذا كانت هذه الأشياء كما وصفنا، فمن البيّن أنه يصير الروح الحيوانيّ الذي فيها حالة كهذه الحال، فيتولد إذا في البدن من هذه الأعراض فضول كثيرة، واستعدادات نحو العفن إلّا أنّ ألف أهل الفسطاط لهذه الحال، وأنسهم بها يعوق عنهم أكثر شرّها، وإن كانوا على كل حال أسرع أهل مصر وقوعا في الأمراض، وما يلي النيل من الفسطاط، يجب أن يكون أرطب مما يلي الصحراء، وأهل الشرق أصلح حالا لتخرّق الرياح لدورهم، وكذلك عمل فوق والحمراء، إلّا أن أهل الشرف الذي يشربونه أجود لأنه يستقى قبل أن تخالطه عفونة الفسطاط، فأمّا القرافة فأجود هذه المواضع، لأن المقطم يعوق بخار الفسطاط من المرور بها، وإذا هبت ريح الشمال مرّت بأجزاء كثيرة من بخار الفسطاط، والقاهرة على الشرف، فغيرت حاله، وظاهر أن المواضع المكشوفة في هذه المدينة هي أصح هواء، وكذلك حال المواضع المرتفعة، وأردأ موضع في المدينة الكبرى هو ما كان من الفسطاط حول الجامع العتيق إلى ما يلي النيل والسواحل، وإذا كان في الشتاء وأوّل الربيع حمل من بحر الملح سمك كثير، فيصل إلى هذه المدينة، وقد عفن، وصارت له رائحة منكرة جدّا، فساغ في القاهرة، ويأكله أهلها وأهل الفسطاط، فيجتمع في أبدانهم منه فضول كثيرة عفنة، فلولا الاعتدال أمزجتهم وصحة أبدانهم في هذا الزمان لكان ذلك يولد في أبدانهم أمراضا كثيرة، قاتلة، إلّا أن قوّة الاستمرار تعوق عن ذلك، وربما انقطع النيل في آخر الربيع، وأوّل الصيف من جهة الفسطاط، فيعفن بكثرة ما يلقي فيه إلى أن يبلغ عفنه إلى أن تصير له رائحة منكرة محسوسة، وظاهر أن هذا الماء إذا صار على هذه الحال، غيّر مزاج الناس تغيرا محسوسا. قال: فمن البيّن أن أهل هذه المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض ما خلا أهل الفيوم، فإنها أيضا قريبة، وأردأ ما في المدينة: الموضع الغائر من الفسطاط، ولذلك غلب على أهلها الحين، وقلة الكرم، وأنه ليس أحد منهم يغيث، ولا يضيف الغريب إلا في النادر، وصاروا من السعاية والاغتياب على أمر عظيم، ولقد بلغ بهم الجبن إلى أنّ خمسة أعوان تسوق منهم مائة رجل وأكثر، ويسوق الأعوان المذكورين: رجل واحد من أهل البلدان الأخر، وممن قد تدرّب في الحرب، فقد استبان إذا العلة والسبب في أن صار أهل المدينة الكبرى بأرض مصر أسرع وقوعا في الأمراض من جميع أهل هذه الأرض، وأضعف أنفسا، ولعل لهذا السبب اختار القدماء: اتخاذ المدينة في غير هذا الموضع، فمنهم من جعلها بمنف، وهي: مصر القديمة، ومنهم من جعلها بالإسكندرية، ومنهم من جعلها بغير هذه المواضع، ويدل على ذلك آثارهم. وقال ابن سعيد عن كتاب الكمائم: وأما فسطاط مصر فإنّ مبانيها كانت في القديم

متصلة بمباني مدينة عين شمس، وجاء الإسلام، وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن، وعليه نزل عمرو بن العاص، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه، ثم لما فتحها: قسم المنازل على القبائل، ونسبت المدينة إليه، فقيل: فسطاط عمرو، وتداولت عليها بعد ذلك ولاة مصر، فاتخذوها سريرا للسلطنة وتضاعفت عمارتها، فأقبل الناس من كل جانب إليها، وقصروا أمانيهم عليها إلى أن رسخت بها دولة بني طولون، فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع، وبها كان مسجد ابن طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة، وهي مدينة مستطيلة يمرّ النيل مع طولها، ويحط في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل، وجنوبه بأنواع الفوائد، ولها منتزهات، وهي في الإقليم الثالث، ولا ينزل فيها مطر إلّا في النار، وترابها تثيره الأرجل، وهو قبيح اللون تتكدّر منه أرجاؤها ويسوء بسببه هواؤها، ولها أسواق ضخمة إلّا أنّها ضيقة ومبانيها بالقصب، والطوب طبقة على طبقة، ومذ بنيت القاهرة، ضعفت مدينة الفسطاط، وفرّط في الاغتباط بها بعد الإفراط، وبينهما نحو ميلين، وأنشد فيها الشريف العقيلي: أحنّ إلى الفسطاط شوقا وإنني ... لأدعو لها أن لا يحلّ بها القطر وهل في الحيا من حاجة لجنابها ... وفي كل قطر من جوانبها نهر تبدّت عروسا والمقطم تاجها ... ومن نيلها عقد كما انتظم الدر وقال عن كتاب آخر: فالفسطاط هي قصبة مصر، والجبل المقطم شرقها، وهو متصل بجبل الزمرّذ. وقال عن كتاب ابن حوقل: والفسطاط مدينة حسنة ينقسم النيل لديها، وهي كبيرة نحو ثلث بغداد، ومقدارها نحو فرسخ على غاية العمارة والطيبة واللذة، ذات رحاب في محالها، وأسواق عظام فيها ضيق، ومتاجر فخام، ولها ظاهر أنيق وبساتين نضرة، ومنتزهات على ممرّ الأيام خضرة، وفي الفسطاط قبائل، وخطط للعرب تنسب إليها كالبصرة والكوفة إلا أنها أقل من ذلك، وهي سبخة الأرض غير نقية التربة، وتكون بها الدار سبع طبقات وستا وخمسا، وربما يسكن في الدار المائتان من الناس، ومعظم بنيانهم بالطوب، وأسفل دورهم غير مسكون، وبها مسجدان للجمعة: بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط، والآخر على الموقف بناه أحمد بن طولون، وكان خارج الفسطاط أبنية بناها أحمد بن طولون ميلا في ميل يسكنها جنده تعرف بالقطائع، كما بنى بنو الأغلب خارج القيروان وقادة، وقد خربتا في وقتنا هذا، وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة. قال ابن سعيد: ولما استقررت بالقاهرة تشوّقت إلى معاينة الفسطاط، فسار معي أحد أصحاب العزمة، فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدّة لركوب من يسير إلى الفسطاط

جملة عظيمة لا عهد لي بمثلها في بلد، فركب منها حمارا، وأشار إليّ أن اركب حمارا آخر، فأنفت من ذلك جريا على عادة ما خلّفته في بلاد المغرب، فأعلمني أنه غير معيب على أعيان مصر، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والسادة الظاهرة يركبونها فركبت، وعندما استويت راكبا أشار المكاري على الحمار، فطار بي، وأثار من الغبار الأسود، ما أعمى عيني، ودنس ثيابي، وعاينت ما كرهته، ولقلة معرفتي بركوب الحمار، وشدّة عدوه على قانون لم أعهده، وقلة رفق المكاري، وقفت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج فقلت: لقيت بمصر أشدّ البوار ... ركوب الحمار وكحل الغبار وخلفي مكار يفوق الريا ... ح لا يعرف الرفق بهمي استطار أناديه مهلا فلا يرعوي ... إلى أن سجدت سجود العثار وقد مدّ فوقي رواق الثرى ... وألحد فيه ضياء النهار فدفعت إلى المكاري أجرته، وقلت له: إحسانك إليّ أن تتركني أمشي على رجليّ، ومشيت إلى أن بلغتها، وقدّرت الطريق بين القاهرة والفسطاط، وحققت بعد ذلك نحو الميلين، ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرّة، وتأمّلت أسوار مثلمة سوداء، وآفاقا مغبرّة، ودخلت من بابها، وهو دون غلق مفض إلى خراب معمور بمبان سيئة الوضع غير مستقيمة الشوارع، قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب، والنخيل طبقة فوق طبقة، وحول أبوابها من التراب الأسود، والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الطريف، فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال إلى أن سرت في أسواقها الضيقة، فقاسيت من ازدحام الناس فيها بحوائج السوق والروايا التي على الجمال ما لا يفي به إلّا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضدّه في جامع إشبيلية، وجامع مراكش، ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء غير مزخرف، ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه، وتبسط فيه، وأبصرت العامّة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق، والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك، وما جرى مجرى ذلك، والناس يأكلون منه في أمكنة عديدة غير محتشمين لجري العادة عندهم بذلك، وعدّة صبيان بأواني ماء يطوفون على من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منهم رزقا، وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع، وفي زواياه والعنكبوت قد عظم نسجه في السقوف والأركان والحيطان، والصبيان يلعبون في صحنه، وحيطانه مكتوبة بالفحم، والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامّة إلّا أن مع هذا كله على الجامع المذكور من الرونق، وحسن القبول، وانبساط النفس، ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته، والبستان الذي في صحنه، وقد تأمّلت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس دون منظر يوجب ذلك، فعلمت أنه سرّ مودع من

وقوف الصحابة رضوان الله عليهم في ساحته عند بنائه، واستحسنت ما أبصرته فيه من حلق المصدّرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدّة أماكن، وسألت عن موارد أرزاقهم، فأخبرت أنها من فروض الزكاة، وما أشبه ذلك. ثم أخبرت أن اقتضاءها يصعب إلا بالجاه والتعب، ثم انفصلنا من هنالك إلى ساحل النيل، فرأيت ساحلا كدر التربة غير نظيف، ولا متسع الساحة، ولا مستقيم الاستطالة، ولا عليه سور أبيض، إلّا أنه مع ذلك كثير العمارة بالمراكب، وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار الأرض والنيل، ولئن قلت إني لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل، فإني أقول حقا والنيل هنا لك ضيق لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط، وبحسن سورها المبيض الشامخ: حسن منظر الفرجة في ذلك الساحل، وقد ذكر ابن حوقل «1» الجسر الذي يكون ممتدّا من الفسطاط إلى الجزيرة، وهو غير طويل، ومن الجانب الآخر إلى البرّ الغربيّ المعروف ببرّ الجيزة جسر آخر من الجزيرة إليه، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب لأن هذين الجسرين قد احترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الجزيرة والفسطاط راكبا احتراما لموضع السلطان، ويتنافى ليلة ذلك اليوم بطيارة «2» مرتفعة على جانب النيل فقلت: نزلنا من الفسطاط أحسن منزل ... بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد وقد جمعت فيه المراكب سحرة ... كسرب قطا أضحى يزف على ورد وأصبح يطغى الموج فيه ويرتمي ... ويطغو حنانا وهو يلعب بالنرد غدا ماؤه كالريق ممن أحبه ... فمدّت عليه حلية من حلي الخدّ وقد كان مثل الزهر من قبل مدّة ... فأصبح لما زاده المدّ كالورد قلت: هذا لأني لم أذق في المياه أحلى من مائه، وأنه يكون قبل المدّ الذي يزي به، ويفيض على أقطاره أبيض، فإذا كان عباب النيل صار أحمر. وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط وأهلها: حبذا الفسطاط من والدة ... جنبت أولادها درّ الجفا يرد النيل إليها كدرا ... فإذا مازج أهليها صفا لطفوا فالمزن لا يألفهم ... خجلا لما رآهم ألطفا ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط، حتى أنهم ألطف من أهل القاهرة، وبينهما نحو ميلين، وجملة الحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام،

ذكر ما عليه مدينة مصر الآن وصفتها

وتحت ذلك من الملق، وقلة المبالاة برعاية قدم الصحبة، وكثرة الممازجة والألفة ما يطول ذكره، وأما ما يرد على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندرانيّ، والبحر الحجازي، فإنه فوق ما يوصف، وبها مجمع ذلك لا بالقاهرة، ومنها تجهز إلى القاهرة، وسائر البلاد، وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون، ومعظم ما يجري هذا المجرى، لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند، كما أنّ جميع زيّ الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط وكذلك ما ينسج، ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطانية، والخراب في الفسطاط كثير، والقاهرة أجدّ وأعمر، وأكثر زحمة بسبب انتقال السلطان إليها، وسكنى الأجناد فيها، وقد نفخ روح الاعتناء والنموّ في مدينة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية، وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة، وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر، يعني ابن سعيد: ما بني على شقة مصر من جهة النيل. ذكر ما عليه مدينة مصر الآن وصفتها قد تقدّم من الأخبار جملة تدل على عظم ما كان بمدينة فسطاط مصر من المباني وكثرتها، ثم الأسباب التي أوجبت خرابها، وآخر ما رأيت من الكتب التي صنفت في خطط مصر كتاب إيقاظ المتغفل، واتعاظ المتأمّل تأليف: القاضي الرئيس تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج الزبيريّ رحمه الله، وقطع على سنة خمس وعشرين وسبعمائة، فذكر من الأخطاط المشهورة بذاتها لعهده اثنين وخمسين خطا، ومن الحارات ثنتي عشرة حارة، ومن الأزقة المشهورة: ستة وثمانين زقاقا، ومن الدروب المشهورة: ثلاثة وخمسين دربا، ومن الخوخ المشهورة: خمسا وعشرين خوخة، ومن الأسواق المشهورة: تسعة عشر سوقا، ومن الخطط المشهورة بالدور: ثلاثة عشر خطا، ومن الرحاب المشهورة: خمس عشرة رحبة، ومن العقبات المشهورة: إحدى عشرة عقبة، ومن الكيمان المسماة: ستة كيمان، ومن الأقباء: عشرة أقباء، ومن البرك: خمس برك، ومن السقائف: خمسا وستين سقيفة، ومن القياسر: سبع قياسر، ومن مطابخ السكر العامرة: ستة وستين مطبخا، ومن الشوارع: ستة شوارع، ومن المحارس: عشرين محرسا، ومن الجوامع التي تقام فيها الجمعة بمصر، وظاهرها من الجزيرة، والقرافة: أربعة عشر جامعا، ومن المساجد: أربعمائة وثمانين مسجدا، ومن المدارس: سبع عشرة مدرسة، ومن الزوايا: ثماني زوايا، ومن الربط التي بمصر والقرافة: بضعا وأربعين رباطا، ومن الأحباس والأوقاف كثيرا، ومن الحمامات: بضعا وسبعين حماما، ومن الكنائس وديارات النصارى: ثلاثين ما بين دير وكنيسة، وقد باد أكثر ما ذكره ودثر، وسيرد ما قاله من ذلك في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. فأقول: إنّ مدينة مصر محدودة الآن بحدود أربعة: فحدّها الشرقيّ اليوم: من قلعة الجبل، وأنت آخذ إلى باب القرافة، فتمرّ من داخل السور الفاصل بين القرافة، ومصر إلى

كوم الجارح، وتمرّ من كوم الجارح، وتجعل كيمان مصر كلها عن يمينك حتى تنتهي إلى الرصد حيث أوّل بركة الحبش، فهذا طول مصر من جهة المشرق، وكان يقال لهذه الجهة عمل فوق. وحدّها الغربي: من قناطر السباع خارج القاهرة إلى موردة الحلفاء، وتأخذ على شاطىء النيل إلى دير الطين، فهذا أيضا طولها من جهة المغرب. وحدّها القبليّ من شاطىء النيل بدير الطين حيث ينتهي الحدّ الغربيّ إلى بركة الحبش تحت الرصد، حيث انتهى الحدّ الشرقيّ، فهذا عرض مصر من جهة الجنوب التي تسميها أهل مصر الجهة القبلية. وحدّها البحريّ: من قناطر السباع حيث ابتداء الحدّ الغربيّ إلى قلعة الجبل، حيث ابتداء الحدّ الشرقيّ، فهذا عرض مصر من جهة الشمال التي تعرف بمصر بالجهة البحرية، وما بين هذه الجهات الأربع فإنه يطلق عليه الآن مصر، فيكون أوّل عرض مصر في الغرب بحر النيل، وآخر عرضها في الشرق أوّل القرافة، وأوّل طولها من قناطر السباع، وآخره بركة الحبش، فإذا عرفت ذلك ففي الجهة الغربية خط السبع سقايات، ويجاوره الخليج، وعليه من شرقيه حكر أقبغا، ومن غربيه المريس، ومنشأه المهرانيّ، ويحاذي المنشأة من شرقيّ الخليج خط قنطرة السدّ، وخط بين الزقّاقين، وخط موردة الحلفاء، وخط الجامع الجديد، ومن شرقيّ خط الجامع الجديد خط المراغة، ويتصل به خط الكبارة، وخط المعاريج، ويجاوز خط الجامع الجديد من بحريه الدور التي تطلّ على النيل، وهي متصلة إلى جسر الأفرم المتصل بدير الطين وما جاوره إلى بركة الحبش، وهذه الجهة هي أعمر ما في مصر الآن، وأما الجهة الشرقية، فليس فيها شيء عامر إلّا قلعة الجبل، وخط المراغة المجاور لباب القرافة إلى مشهد السيدة نفيسة، ويجاور خط مشهد السيدة نفيسة من قبليه الفضاء الذي كان موضع الموقف، والعسكر إلى كوم الجارح، ثم خط كوم الجارح، وما بين كوم الجارح إلى آخر حدّ طول مصر عند بركة الحبش تحت الرصد، فإنه كيمان، وهي الخطط التي ذكرها القضاعيّ، وخربت في الشدّة العظمى زمن المستنصر، وعند حريق شاور لمصر كما تقدّم، وأما عرض مصر الذي من قناطر السباع إلى القلعة، فإنه عامر ويشتمل على بركة الفيل الصغرى، بجوار خط السبع سقايات، ويجاور الدور التي على هذه البركة من شرقيها خط الكبش، ثم خط جامع أحمد بن طولون، ثم خط القبيبات، وينتهي إلى الفضاء الذي يتصل بقلعة الجبل، وأما عرض مصر الذي من شاطىء النيل بخط دير الطين إلى تحت الرصد حيث بركة الحبش، فليس فيه عمارة سوى خط دير الطين، وما عدا ذلك فقد خرب بخراب الخطط، وكان فيه خط بني وائل، وخط راشدة، فأما خط السبع سقايات: فإنه من جملة الحمراء الدنيا، وسيرد عند ذكر الأخطاط إن شاء الله تعالى، وما عدا ذلك فإنه يتبين من ذكر ساحل مصر.

ذكر ساحل النيل بمدينة مصر

ذكر ساحل النيل بمدينة مصر قد تقدّم أنّ مدينة فسطاط مصر اختطها المسلمون حول جامع عمرو بن العاص، وقصر الشمع، وأنّ بحر النيل كان ينتهي إلى باب قصر الشمع الغربيّ المعروف بالباب الجديد، ولم يكن عند فتح أرض مصر بين جامع عمرو وبين النيل حائل، ثم انحسر ماء النيل عن أرض تجاه الجامع، وقصر الشمع، فابتنى فيها عبد العزيز بن مروان، وحاز منه بشر بن مروان لما قدم على أخيه عبد العزيز، ثم حاز منه هشام بن عبد الملك في خلافته، وبنى فيه، فلما زالت دولة بني أمية قبض ذلك في الصوافي، ثم أقطعه الرشيد السريّ بن الحكم، فصار في يد ورثته من بعده يكترونه، ويأخذون حكره، وذلك أنه كان قد اختط فيها المسلمون شيئا بعد شيء وصار شاطىء النيل بعد انحساره ماء النيل عن الأرض المذكورة حيث الموضع الذي يعرف اليوم بسوق المعاريج. قال القضاعيّ: كان ساحل أسفل الأرض بإزاء المعاريج القديم، وكانت آثار المعاريج قائمة سبع درج حول ساحل البيما إلى ساحل البوريّ اليوم، فعرف ساحل البوريّ بالمعاريج الجديد، يعني بالمعاريج الجديد: موضع سوق المعاريج اليوم، وكان من جملة خطط مدينة فسطاط مصر: الحمراوات الثلاث، فالحمراء الأولى من جملتها سوق وردان، وكان يشرف بغربيه على النيل، ويجاوره: الحمراء الوسطى، ومن بعضها الموضع الذي يعرف اليوم بالكبارة، وكانت على النيل أيضا، وبجانب الكبارة: الحمراء القصوى، وهي من بحريّ الحمراء الوسطى إلى الموضع الذي هو اليوم: خط قناطر السباع، ومن جملة الحمراء القصوى: خط خليج مصر من حدّ قناطر السباع إلى تجارة قنطرة السدّ من شرقيها، وبآخر الحمراء القصوى: الكبش وجبل يشكر، وكان الكبش يشرف على النيل من غربيه، وكان الساحل القديم، فيما بين سوق المعاريج اليوم إلى دار التفاح بمصر، وأنت مارّ إلى باب مصر بجوار الكبارة، وموضع الكوم المجاور لباب مصر من شرقيه، فلما خربت مصر بحريق شاور بن مجير إياها صار هذا الكوم من حينئذ، وعرف بكوم المشانيق، فأنه كان يشنق بأعلاه أرباب الجرائم، ثم بنى الناس فوقه دورا فعرف إلى يومنا هذا بكوم الكبارة، وكان يقال لما بين سوق المعاريج، وهذا الكوم لما كان ساحل النيل القالوص «1» . قال القضاعيّ: رأيت بخط جماعة من العلماء القالوص: بألف، والذي يكتب في هذا الزمان القلوص بحذف الألف، فأما القلوص: بحذف الألف، فهي من الإبل والنعام الشابة، وجمعها قلص، وقلاص وقلائص، والقلوص من الحباري الأنثى الصغيرة، فلعل هذا المكان سمي بالقلوص لأنه في مقابلة الجمل الذي كان على باب الريحان الذي يأتي ذكره في

عجائب مصر، وأما القالوص بالألف: فهي كلمة رومية ومعناها بالعربية: مرحبا بك، ولعل الروم كانوا يصفقون لراكب هذا الجمل، ويقولون هذه الكلمة على عاداتهم. وقال ابن المتوّج: والساحل القديم أوّله من باب مصر المذكور يعني المجاور للكبارة، وإلى المعاريج جميعه كان بحرا يجري فيه ماء النيل، وقيل: إنّ سوق المعاريج كان موردة سوق السمك يعني ما ذكره القضاعيّ من أنه كان يعرف بساحل البوريّ، ثم عرف بالمعاريج الجديد. قال ابن المتوّج «1» : ونقل أنّ بستان الجرف المقابل لبستان حوض ابن كيسان كان صناعة العمارة، وأدركت أنا فيه بابها، ورأيت زريبة من ركن المسجد المجاور للحوض من غربيه تتصل إلى قبالة مسجد العادل الذي بمراغة الدواب الآن. قال مؤلفه رحمه الله: بستان الجرف يعرف بذلك إلى اليوم، وهو على يمنة من سلك إلى مصر من طريق المراغة، وهو جار في وقف الخانقاه التي تعرف بالواصلة بين الزقاقين، وحوض ابن كيسان يعرف اليوم: بحوض الطواشي، تجاه غيط الجرف المذكور، يجاوره بستان ابن كيسان الذي صار صناعة، وقد ذكر خبر هذه الصناعة عند ذكر مناظر الخلفاء، ويعرف بستان ابن كيسان اليوم ببستان الطواشي أيضا، وبين بستان الجرف، وبستان الطواشي هذا مراغة مصر المسلوك منها إلى الكبارة، وباب مصر. قال ابن المتوّج: ورأيت من نقل عمن نقل عمن رأى هذا القلوص يتصل إلى آدر الساحل القديم، وأنه شاهد ما عليه من العمائر المطلة على بحر النيل من الرباع والدور المطلة، وعدّ الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على بحر النيل، فكانت عدّتها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببكر مؤبدة فيها أطناب ترخى بها وتملأ أخبرني بذلك من أثق بنقله، وقال: إنه أخبره به من يثق به متصلا بالمشاهد له الموثوق به، قال: وباب مصر الآن بين البستان الذي قبليّ الجامع الجديد يعني بستان العالمة، وبين كوم المشانيق يعني كوم الكبارة، ورأيت السور يتصل به إلى دار النحاس، وجميع ما بظاهره شون، ولم يزل هذا السور القديم الذي هو قبليّ بستان العالمة موجودا أراه وأعرفه إلى أن اشترى أرضه من باب مصر إلى موقف المكارية بالخشابين القديمة الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري، فأجّر مكانه للعامة، وصار كل من استأجر قطعة هدم ما بها من البناء بالطوب اللبن، وقلع الأساس الحجر، وبنى به، فزال السور المذكور، ثم حدث الساحل الجديد. قال مؤلفه رحمه الله: وهذا الباب الذي ذكره ابن المتوّج كان يقال له: باب الساحل، وأوّل حفر ساحل مصر في سنة ست وثلاثين وثلثمائة، وذلك أنه جف النيل عن برّ مصر

حتى احتاج الناس أن يستقوا من بحر الجيزة الذي هو فيما بين جزيرة مصر التي تدعى الآن بالروضة، وبين الجيزة، وصار الناس يمشون هم والدواب إلى الجزيرة، فحفر الأستاذ كافور الإخشيديّ، وهو يومئذ مقدّم أمراء الدولة لأونوجور بن الإخشيد خليجا حتى اتصل بخليج بني وائل، ودخل الماء إلى ساحل مصر، ثم إنه لما كان قبل سنة ستمائة تقلص الماء عن ساحل مصر القديمة، وصار في زمن الاحتراق يقل حتى تصير الطريق إلى المقاييس يبسا، فلما كان في سنة ثمان وعشرين وستمائة خاف السلطان الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من تباعد البحر عن العمران بمصر، فاهتم بحفر البحر من دار الوكالة بمصر إلى صناعة التمر الفاضلية، وعمل فيه بنفسه فوافقه على العمل في ذلك الجمّ الغفير، واستوى في المساعدة السوقة، والأمير، وقسط مكان الحفر على الدور بالقاهرة ومصر والروضة والمقياس، فاستمرّ العمل فيه من مستهلّ شعبان إلى سلخ شوّال مدّة ثلاثة أشهر حتى صار الماء يحيط بالمقياس، وجزيرة الروضة دائما بعد ما كان عند الزيادة يصير جدولا رقيقا في ذيل الروضة، فإذا اتصل ببحر بولاق في شهر أبيب كان ذلك من الأيام المشهودة بمصر، فلما كانت أيام الملك الصالح، وعمر قلعة الروضة، أراد أن يكون الماء طول السنة كثيرا فيما دار بالروضة، فأخذ في الاهتمام بذلك، وغرّق عدّة مراكب مملوءة بالحجارة في برّ الجيزة تجاه باب القنطرة خارج مدينة مصر، ومن قبليّ جزيرة الروضة، فانعكس الماء، وجعل البحر حينئذ يمرّ قليلا قليلا، وتكاثر أوّلا فأوّلا في برّ مصر من دار الملك إلى قريب المقس، وقطع المنشأة الفاضلية. قال ابن المتوّج عن موضع الجامع الجديد: وكان في الدولة الصالحية، يعني الملك الصالح نجم الدين أيوب: رملة تمرّغ الناس فيها الدواب في زمن احتراق النيل، وجفاف البحر الذي هو أمامها، فلما عمر السلطان الملك الصالح قلعة الجزيرة، وصار في كل سنة يحفر هذا البحر بجنده ونفسه، ويطرح بعض رمله في هذه البقعة، شرع خواص السلطان في العمارة على شاطىء هذا البحر، فذكر من عمّر على هذا البحر من قبالة موضع الجامع الجديد الآن إلى المدرسة المعزية، وذكر ما وراء هذه الدور من بستان العالمة المطل عليه الجامع الجديد وغيره، ثم قال: وإنما عرف بالعالمة لأنه كان قد حله السلطان الملك الصالح لهذه العالمة، فعمرت بجانبه منظرة لها، وكان الماء يدخل من النيل لباب المنظرة المذكورة، فلما توفيت بقي البستان مدّة في يد ورثتها، ثم أخذ منهم، وذكر أن بقعة الجامع الجديد كانت قبل عمارته شونا للأتبان السلطانية، وكذلك ما يجاورها، فلما عمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون الجامع الجديد كثرت العمائر من حدّ موردة الحلفاء على شاطىء النيل، حتى اتصلت بدير الطين، وعمر أيضا ما وراء الجامع من حدّ باب مصر الذي كان بحرا كما تقدّم إلى حدّ قنطرة السدّ، وأدركنا ذلك كله على غاية العمارة، وقد اختل منذ الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، فخرب خط بين الزقاقين المطل من غربيه على الخليج،

ذكر المنشأة

ومن شرقيه على بستان الجرف، ولم يبق به إلا القليل من الدور، وموضعه كما تقدّم كان في قديم الزمان غامرا بماء النيل، ثم ربى جرفا، وهو بين الزقاقين المذكور، فعمر عمارة كبيرة، ثم خرب الآن وخرب أيضا خط موردة الحلفاء، وكان في القديم غامرا بالماء، فلما ربى النيل الجرف المذكور، وتربت الجزيرة قدّام الساحل القديم الذي هو الآن البكارة إلى المعاريج، وأنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الجامع الجديد عمرت موردة الحلفاء هذه، واتصلت من بحريها بمنشأة المهرانيّ، ومن قبليها بالأملاك التي تمتدّ من تجاه الجامع الجديد إلى دير الطين، وصارت موردة الحلفاء عظيمة تقف عندها المراكب بالغلال وغيرها، ويملأ منها الناس الروايا، وكان البحر لا يبرح طول السنة هناك، ثم صار ينشّف في فصل الربيع والصيف، واستمرّ على ذلك إلى يومنا هذا، وخراب ما خلف الجامع الجديد أيضا من الأماكن التي كانت بحرا تجاه الساحل القديم، ثم لما انحسر الماء صارت مراغة للدواب، فعرفت اليوم بالمراغة وهي من آخر خط قنطرة السدّ إلى قريب من الكبارة، ويحصرها من غربيها بستان الجرف المقدّم ذكره، وعدّة دور كانت بستانا وشونا إلى باب مصر، ومن شرقيها بستان ابن كيسان الذي صار صناعة، وعرف الآن ببستان الطواشي، ولم يبق الآن بخط المراغة إلّا مساكن يسيرة حقيرة. ذكر المنشأة اعلم أن خليج مصر كان يخرج من بحر النيل، فيمرّ بطريق الحمراء القصوى، وكان في الجانب الغربيّ من هذا الخليج عدّة بساتين من جملتها بستان، عرف ببستان الخشاب، ثم خرب هذا البستان، وموضعه الآن يعرف: بالمريس، فلما كان بعد الخمسمائة من سني الهجرة انحسر النيل عن أرض فيما بين ميدان اللوق الآتي ذكره في الأحكار ظاهر القاهرة إن شاء الله تعالى، وبين بستان الخشاب المذكورة، فعرفت هذه الأرض بمنشأة الفاضل، لأنّ القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ أنشأ بها بستانا عظيما كان يمير أهل القاهرة من ثماره وأعنابه، وعمر بجانبه جامعا، وبنى حوله فقيل لتلك الخطة منشأة الفاضل، وكثرت بها العمارة، وأنشأ بها موفق الدين محمد بن أبي بكر المهدويّ العثمانيّ الديباجيّ بستانا دفع له فيه ألف دينار في أيام الظاهر بيبرس، وكان الصرف قد بلغ كل دينار ثمانية وعشرين درهما ونصفا، فاستولى البحر على بستان الفاضل وجامعه، وعلى سائر ما كان بمنشأة الفاضل من البساتين والدور، وقطع ذلك حتى لم يبق لشيء منه أثر، وما برح باعة العنب بالقاهرة ومصر تنادي على العنب بعد خراب بستان الفاضل هذا عدّة سنين: رحم الله الفاضل يا عنب، إشارة لكثرة أعناب بستان الفاضل وحسنها، وكان أكل البحر لمنشأة الفاضل هذه بعد سنة ستين وستمائة، وكان الموفق الديباجيّ المذكور يتولى خطابة جامع الفاضل الذي كان بالمنشأة، فلم تلف الجامع باستيلاء النيل عليه سأل: الصاحب بهاء الدين بن حنا، وألحّ عليه وكان من ألزامه، حتى قام في عمارة الجامع بمنشأة المهرانيّ، ومنشأة المهرانيّ هذه

موضعها فيما بين النيل والخليج، وفيها من الحمراء القصوى فوهة الخليج انحسر عنها ماء النيل قديما وعرف موضعها بالكوم الأحمر من أجل أنه كان يعمل فيها أقمنة الطوب، فلما سأل الصاحب بهاء الدين بن حنا الملك الظاهر بيبرس في عمارة جامع بهذا المكان ليقوم مقام الجامع الذي كان بمنشأة الفاضل أجابه إلى ذلك، وأنشأ الجامع بخط الكوم الأحمر كما ذكر في خبره عند ذكر الجوامع، فأنشأ هناك الأمير سيف الدين بلبان المهرانيّ دارا وسكنها، وبنى مسجدا، فعرفت هذه الخطة به، وقيل لها: منشأة المهرانيّ، فإنّ المهرانيّ المذكور أوّل من ابتنى فيها بعد بناء الجامع، وتتابع الناس في البناء بمنشأة المهرانيّ وأكثروا من العمائر حتى يقال: إنه كان بها فوق الأربعين من أمراء الدولة سوى من كان هناك من الوزراء، وأماثل الكتاب، وأعيان القضاة، ووجوه الناس، ولم تزل على ذلك حتى انحسر الماء عن الجهة الشرقية فخربت، وبها الآن بقية يسيرة من الدور، ويتصل بخط الجامع الجديد خط دار النحاس، وهو مطلّ على النيل، ودار النحاس هذه من الدور القديمة، وقد دثرت، وصار الخط: يعرف بها. قال القضاعيّ: دار النحاس اختطها: وردان مولى عمرو بن العاص، فكتب مسلمة بن مخلد، وهو أمير مصر إلى معاوية يسأله أن يجعلها ديوانا، فكتب معاوية إلى وردان يسأله فيها، وعوّضه فيها دار وردان التي بسوقه الآن، وقال ربيعة: كانت هذه الدار من خطة الحجر من الأزد، فاشتراها عمر بن مروان، وبناها، فكانت في يد ولده، وقبضت عنهم وبيعت في الصوافي سنة ثمان وثلثمائة، ثم صارت إلى شمول الإخشيديّ، فبناها قيسارية وحماما، فصارت دار النحاس قيسارية شمول. وقال ابن المتوّج: دار النحاس خط نسب لدار النحاس، وهو الآن فندق الأشراف ذو البابين أحدهما من رحبة أمامه، والثاني شارع بالساحل القديم، وبآخر هذه الشقة التي تطل على النيل (جسر الأفرم) ، وهو في طرف مصر فيما بين المدرسة المعزية، وبين رباط الآثار كان مطلا على النيل دائما، والآن ينحسر الماء عنه عند هبوط النيل، وعرف بالأمير عز الدين أيدمر الأفرم الصالحيّ النجميّ أمير جندار، وذلك أنه لما استأجر بركة الشعيبية، كما ذكر عند ذكر البرك من هذا الكتاب جعل منها فدّانين من غربيها أذن للناس في تحكيرها، فحكرت وبنى عليها عدّة دور بلغت الغاية في إتقان العمارة، وتنافس عظماء دولة الناصر محمد بن قلاون من الوزراء، وأعيان الكتاب في المساكن بهذا الجسر، وبنوا وتأنقوا، وتفننوا في بدع الزخرفة، وبالغوا في تحسين الرخام، وخرجوا عن الحدّ في كثرة إنفاق الأموال العظيمة على ذلك بحيث صار خط الجسر خلاصة العامر من إقليم مصر، وسكانه أرق الناس عيشا، وأترف المتنعمين حياة، وأوفرهم نعمة، ثم خرب هذا الجسر بأسره، وذهبت دوره.

وأما الجهة الشرقية من مصر: ففيها قلعة الجبل، وقد أفردنا لها خبرا مستقلا يحتوي على فوائد كثيرة تضمنه هذا الكتاب فانظره، ويتصل آخر قلعة الجبل بخط باب القرافة، وهو من أطراف القطائع والعسكر، ويلي خط باب القرافة الفضاء الذي كان يعرف بالعسكر، وقد تقدّم ذكره، وكان بأطراف العسكر مما يلي كوم الجارح. الموقف «1» قال ابن وصيف شاه في أخبار الريان بن الوليد: وهو فرعون نبيّ الله يوسف صلوات الله عليه، ودخل إلى البلد في أيامه غلام من أهل الشام احتال عليه إخوته وباعوه، وكانت قوافل الشام تعرّس بناحية الموقف اليوم، فأوقف الغلام، ونودي عليه، وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم، فاشتراه أطفين العزيز، ويقال: إنّ الذي أخرج يوسف من الجب: مالك بن دعر بن حجر بن جزيلة بن لخم بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقال القضاعيّ: كان الموقف فضاء لأم عبد الله بن مسلمة بن مخلد، فتصدّقت به على المسلمين، فكان موقفا تباع فيه الدواب، ثم ملك بعد وقد ذكرته في الظاهر يعني في خطط أهل الظاهر، فإنّ الموقف من جملة خطط أهل الظاهر. وقال ابن المتوّج: بقعة (خط الصفاء) هذا الخط دثر جميعه، ولم يبق له أثر، وهو قبليّ الفسطاط أوّله بجوار المصنع، وخط الطحانين أدركته، كان صفين طواحين متلاصقة متصلة من درب الصفاء إلى كوم الجارح، وأدركت به جماعة من أكابر المصريين أكثرهم عدول، وكان المار بين هذين الصفين لا يسمع حديث رفيقه إذا حدّثه لقوّة دوران الطواحين، وكان من جملتها طاحون واحد فيه سبعة أحجار، دثر جميع ذلك، ولم يبق له أثر. قال: وبقعة درب الصفاء هو الدرب الذي كان باب مصر، وقيل: إنه كان بظاهره سوق يوسف عليه السلام، وكان بابا بمصراعين يعلوهما عقد كبير، وهو بعتبة كبيرة سفلى من صوّان، وكان بجوار المصنع الخراب الموجود الآن، وكان حول المصنع عمد رخام بدائرة حاملة الساباط يعلوه مسجد معلق، هدم ذلك جميعه في ولاية سيف الدين المعروف بابن سلار، والي مصر في دولة الظاهر بيبرس، وهذا الدرب يسلك منه إلى درب الصفاء، والطحانين. قال مؤلفه رحمه الله: كان هذا الباب المذكور أحد أبواب مدينة مصر، وبابها الآخر من ناحية الساحل الذي موضعه اليوم باب مصر بجوار الكبارة، وأنا أدركت آثار درب الصفاء المذكور والمصنع الخراب، وكان يصب فيه الماء للسبيل، وهو قريب من كوم

ذكر أبواب مدينة مصر

الجارح، وسيأتي ذكر كوم الجارح في ذكر الكيمان من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وأما الذي يلي كوم الجارح إلى آخر حدّ طول مصر عند بركة الحبش، فإنها الخطط القديمة، وأدركتها عامرة لا سيما خط النخالين، وخط زقاق القناديل، وخط المصاصة، وقد خرب جميع ذلك، وبيعت أنقاضه من بعد سنة تسعين وسبعمائة. وأما الجهة القبلية من مصر: فإن» خط دير الطين حدثت العمارة فيه بعد سنة ستمائة لما أنشأ الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا الجامع هناك، وعمّر الناس في جسر الأفرم، وكان قبل ذلك آخر عمارة مدينة مصر دار الملك التي موضعها الآن بجوار المدرسة المعزية، وأما موضع الجسر فإنه كان بركة ماء، تتصل بخط راشدة حيث جامع راشدة، ومن قبليّ هذه البركة البستان الذي كان يعرف ببستان الأمير تميم بن المعز، ويعرف اليوم: بالمعشوق، وهو على رباط الآثار، ويجاور المعشوق بركة الحبش، وما بين خط دير الطين، وآخر عرض مصر من الجهة القبلية طرف خط راشدة. وأما الجهة البحرية من مصر: فإنه يتصل بخط السبع سقايات الدور المطلّة على البركة التي يقال لها بركة قارون، وهي التي تجاور الآن حدرة ابن قميحة، وهي من جملة الحمراء القصوى، وبقبليّ البركة المذكورة الكوم المعروف بالأسرى، وهو من جملة العسكر، وسيرد إن شاء الله تعالى ذكره عند ذكر الكيمان، ويجاور البركة المذكورة خط الكبش، وقد ذكر في الجبال، ويأتي إن شاء الله تعالى له خبر عند ذكر الأخطاط، ويلي خط الكبش خط الجامع الطولونيّ، ويلي خط الجامع القبيبات، وخط المشهد النفيسيّ، وجميع ذلك إلى قلعة الجبل من جملة القطائع. ذكر أبواب مدينة مصر وكان لفسطاط مصر أبواب في القديم خربت، وتجدّد لها بعد ذلك أبواب أخر. باب الصفاء: هذا الباب كان هو في الحقيقة باب مدينة مصر، وهي في كمالها، ومنه تخرج العساكر، وتعبر القوافل، وموضعه الآن بالقرب من كوم الجارح، وهدم في أيام الملك الظاهر بيبرس. باب الساحل: كان يفضي بسالكه إلى ساحل النيل القديم، وموضعه قريب من الكبارة. باب مصر: هذا الباب هو الذي بناه قراقوش، ومنه يسلك الآن من دخل إلى مدينة مصر من الطريق التي تعرف بالمراغة، وهو مجاور للكوم الذي يقال له: كوم المشانيق، ويعرف اليوم بالكبارة، وكان موضع هذا الباب غامرا بماء النيل، فلما انحسر الماء عن ساحل مصر صار الموضع المعروف بالمراغة، والموضع المعروف بغيط الجرف، إلى موردة

الحلفاء فضاء لا يصل إليه ماء النيل البتة، فأحب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أن يدير سورا يجمع فيه القاهرة ومصر وقلعة الجبل، فزاد في سور القاهرة على يد قراقوش من باب القنطرة إلى باب الشعرية، وإلى باب البحر يريد أن يمدّ السور من باب البحر إلى الكوم الأحمر الذي هو اليوم حافة خليج مصر تجاه خط بين الزقاقين ليصل أيضا من الكوم الأحمر إلى باب مصر هذا، فلم يتهيأ له هذا، وانقطع السور من عند جامع المقس، وزاد في سور القاهرة أيضا من باب النصر إلى قلعة الجبل، فلم يكمل له ومدّ السور من قلعة الجبل إلى باب القنطرة خارج مصر، فصار هذا الباب غير متصل بالسور. باب القنطرة: هذا الباب في قبليّ مدينة مصر عرف بقنطرة بني وائل التي كانت هناك، وهو أيضا من بناء قراقوش.

ذكر القاهرة قاهرة المعز لدين الله

ذكر القاهرة قاهرة المعز لدين الله اعلم: أن القاهرة المعزية رابع موضع انتقل سرير السلطنة إليه من أرض مصر في الدولة الإسلامية، وذلك أن الإمارة كانت بمدينة الفسطاط، ثم صار محلها العسكر خارج الفسطاط، فلما عمرت القطائع صارت دار الإمارة إلى أن خربت، فسكن الأمراء بالعسكر إلى أن قدم القائد جوهر بعساكر مولاه الإمام المعز لدين الله معدّ، فبنى القاهرة حصنا، ومعقلا بين يدي المدينة، وصارت القاهرة دار خلافة ينزلها الخليفة بحرمه، وخواصه إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية. فسكنها من بعدهم: السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وابنه الملك العزيز عثمان، وابنه الملك المنصور محمد، ثم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وابنه الملك الكامل محمد، وانتقل من القاهرة إلى قلعة الجبل، فسكنها بحرمه وخواصه، وسكنها الملوك من بعده إلى يومنا هذا، فصارت القاهرة مدينة سكنى بعد ما كانت حصنا يعتقل به، ودار خلافة يلتجأ إليها، فهانت بعد العز، وابتذلت بعد الاحترام، وهذا شأن الملوك ما زالوا يطمسون آثار من قبلهم، ويميتون ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن والحصون، وكذلك كانوا أيام العجم، وفي جاهلية العرب، وهم على ذلك في أيام الإسلام، فقد هدم عثمان بن عفان صومعة غمدان، وهدم الآطام التي كانت بالمدينة، وقد هدم زياد كل قصر، ومصنع كان لابن عامر، وقد هدم بنو العباس مدن الشام لبني مروان: وإذا تأمّلت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد وسيأتي من أخبار القاهرة، والكلام على خططها وآثارها ما تنتهي إليه قدرتي، ويصل إلى معرفته علمي وفوق كل ذي علم عليم. ذكر ما قيل في نسب الخلفاء الفاطميين بناة القاهرة اعلم: أن القوم كانوا ينسبون إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، والناس فريقان في أمرهم: فريق يثبت صحة ذلك، وفريق يمنعه، وينفيهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويزعم أنهم أدعياء من ولد ديصان البونيّ الذي ينسب إليه النوبة، وإنّ ديصان كان له ابن اسمه: ميمون القدّاح كان له مذهب في الغلوّ، فولد ميمون: عبد الله،

وكان عبد الله عالما بجميع الشرائع، والسنن والمذاهب. وأنه رتب سبع دعوات يندرج الإنسان فيها حتى ينحل عن الأديان كلها، ويصير معطلا إباحيا لا يرجو ثوابا، ولا يخاف عقابا، ويرى أنه، وأهل نحلته على هدى، وجميع من خالفهم أهل ضلالة، وإنه قصد بذلك أن يجعل له أتباعا، وكان يدعو إلى الإمام من آل البيت محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأنه كان من الأهواز، واشتهر بالعلم والتشيع، وصار له دعاة، وقصد بالمكروه، ففرّ إلى البصرة، فاشتهر أمره، وسار منها إلى سلمية «1» من أرض الشام، فولد له ابن بها اسمه: أحمد، ومات فقام من بعده أحمد، وبعث بالحسين الأهوازيّ داعية إلى العراق، فلقي أحمد بن الأشعث المعروف: بقرمط في سواد الكوفة، ودعاه إلى مذهبه، فأجابه، وقام هناك بالأمر، وإلى قرمط هذا تنسب القرامطة، وولد لأحمد بن عبد الله بن ميمون القدّاح: الحسين، ومحمد المعروف بأبي الشعلع، فلما مات أحمد خلفه ابنه الحسين في الدعوة حتى مات، فقام من بعده أخوه: أبو الشعلع، وكان لأحمد بن عبد الله ولد اسمه سعيد، فصار تحت حجر عمه، وبعث أبو الشعلع بداعيين إلى المغرب وهما: أبو عبد الله وأخوه أبو العباس، فنزلا في البربر، ودعوها، واشتهر سعيد بسلمية بعد موت عمه، وكثر ماله فطلبه السلطان ففر من سلمية إلى مصر يريد المغرب، وكان على مصر عيسى النوشريّ، فورد عليه كتاب الخليفة ببغداد بالقبض عليه، ففاته، وصار بسلجماسة «2» في زيّ التجار، فبعث المعتضد من بغداد في طلبه، فأخذ وحبس حتى أخرجه أبو عبد الله الشيعيّ من محبسه، فتسمى حينئذ بعبيد الله، وتكنى بأبي محمد، وتلقب بالمهديّ، وصار إماما علويا من ولد محمد بن جعفر الصادق، وإنما هو: سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القدّاح بن ديصان البونيّ الأهوازيّ، وأصله من المجوس، فهذا قول من ينكر نسبهم. وبعض منكري نسبهم في العلوية يقول: إنّ عبيد الله من اليهود، وإنّ الحسين بن أحمد المذكور تزوّج امرأة يهودية من نساء سلمية كان لها ابن من يهوديّ حدّاد، مات وتركه لها، فرباه الحسين، وأدّبه وعلمه، ثم مات عن غير ولد فعهد إلى ابن امرأته هذا، فكان هو: عبيد الله المهديّ، وهذه أقوال إن أنصفت تبين لك أنها موضوعة، فإن بني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قد كانوا إذ ذاك على غاية من وفور العدد وجلالة القدر عند الشيعة، فما الحامل لشيعتهم على الإعراض عنهم، والدعاء لابن مجوسيّ، أو لابن يهودي، فهذا مما لا يفعله أحد، ولو بلغ الغاية في الجهل والسخف، وإنما جاء ذلك من قبل ضعفة خلفاء

بني العباس عندما غصوا بمكان الفاطميين، فإنهم كانوا قد اتصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة، وملكوا من بني العباس: بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والحرمين واليمن، وخطب لهم ببغداد نحو أربعين خطبة، وعجزت عساكر بني العباس عن مقاومتهم، فلاذت حينئذ بتنفير الكافة عنهم بإشاعة الطعن في نسبهم، وبث ذلك عنهم خلفاؤهم، وأعجب به أولياؤهم، وأمراء دولتهم الذين كانوا يحاربون عساكر الفاطميين كي يدفعوا بذلك عن أنفسهم وسلطانهم معرّة العجز عن مقاومتهم ودفعهم عما غلبوا عليه من ديار مصر والشام والحرمين، حتى اشتهر ذلك ببغداد، وأسجل القضاة بنفيهم من نسب العلويين. وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم الشريفان: الرضي والمرتضى، وأبو حامد الإسفراينيّ والقدوريّ في عدّة وافرة عندما جمعوا لذلك في سنة اثنتين وأربعمائة أيام القادر، وكانت شهادة القوم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد، وأهلها، إنما هم شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب، والمتطيرون من بني عليّ بن أبي طالب الفاعلون فيهم منذ ابتداء دولتهم الأفاعيل القبيحة، فنقل الإخباريون وأهل التاريخ ذلك كما سمعوه، ورووه حسب ما تلقوه من غير تدبر، والحق من وراء هذا، وكفاك بكتاب المعتضد من خلائف بني العباس حجة، فإنه كتب في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان، وابن مدرار بسلجماسة بالقبض على عبيد الله، فتفطن أعزك الله لصحة هذا الشاهد، فإنّ المعتضد لولا صحة نسب عبيد الله عنده ما كتب لمن ذكرنا بالقبض عليه إذ القوم حينئذ لا يدعون لدعيّ البتة، ولا يذعنون له بوجه، وإنما ينقادون لمن كان علويا، فخاف مما وقع، ولو كان عنده من الأدعياء لما مرّ له بفكر، ولا خافه على ضيعة من ضياع الأرض، وإنما كان القوم أعني بني عليّ بن أبي طالب تحت ترقب الخوف من بني العباس، لتطلبهم لهم في كل وقت، وقصدهم إياهم دائما بأنواع من العقاب، فصاروا ما بين طريد شريد، وبين خائف يترقب، ومع ذلك فإن لشيعتهم الكثيرة المنتشرة في أقطارهم من المحبة لهم، والإقبال عليهم، ما لا مزيد عليه، وتكرّر قيام الرجال منهم مرّة بعد مرّة، والطلب عليهم من ورائهم، فلاذوا بالاختفاء، ولم يكادوا يعرفون حتى تسمى محمد بن إسماعيل الإمام جدّ عبيد الله المهديّ بالمكتوم سماه بذلك الشيعة عند اتفاقهم على إخفائه حذرا من المتغلبين عليهم. وكانت الشيعة فرقا فمنهم: من كان يذهب إلى أنّ الإمام من ولد جعفر الصادق هو إسماعيل ابنه، وهؤلاء يعرفون ممن بين فرق الشيعة: بالإسماعيلية من أجل أنهم يرون أنّ الإمام من بعد جعفر ابنه إسماعيل، وأنّ الإمام بعد إسماعيل بن جعفر الصادق هو ابنه محمد المكتوم، وبعد ابنه محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق، ومن بعد جعفر الصادق ابنه محمد الحبيب، وكانوا أهل غلوّ في دعاويهم في هؤلاء الأئمة، وكان محمد بن جعفر هذا يؤمّل ظهوره، وأنه يصير له دولة، وكان باليمن من أهل هذا المذهب كثير يعدن بإفريقية، وفي

ذكر الخلفاء الفاطميين

كتامة «1» ، ونقرة «2» ، تلقوا ذلك من عهد جعفر الصادق، فقدم على محمد بن جعفر والد عبيد الله رجل من شيعته باليمن، فبعث معه الحسن بن حوشب في سنة ثمان وستين ومائتين، فأظهرا أمرهما باليمن، وأشهرا الدعوة في سنة سبعين، وصار لابن حوشب دولة بصنعاء، وبث الدعاة بأقطار الأرض، وكان من جملة دعاته أبو عبد الله الشيعيّ، فسيره إلى المغرب، فلقي كتامة ودعاهم، فلما مات محمد بن جعفر عهد لابنه عبيد الله، فطلبه المكتفي العباسيّ، وكان يسكن عسكر مكرّم، فسار إلى الشام، ثم سار إلى المغرب، فكان من أمره ما كان، وكانت رجال هذه الدولة الذين قاموا ببلاد المغرب، وديار مصر «3» عشر رجلا هذه خلاصة أخبارهم في أنسابهم، فتفطن ولا تغترّ بزخرف القول الذي لفقوه من الطعن فيهم، والله يهدي من يشاء. ذكر الخلفاء الفاطميين وكان ابتداء الدولة الفاطمية أن أبا عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكرياء الشيعيّ سار إلى أبي القاسم الحسين بن فرج بن حوشب الكوفيّ القائم ببلاد اليمن، وصار من كبار أصحابه وله علم، وعنده دهاء ومكر، فورد على ابن حوشب من المغرب، خبر موت الحلوانيّ داعية في المغرب ورفيقه، فقال لأبي عبد الله الشيعيّ: قد خرّب الحوانيّ، وأبو يوسف بلاد المغرب، وقد ماتا، وليس للبلاد إلّا أنت فإنها موطأة ممهدة، فخرج أبو عبد الله إلى مكة، وقصد حجاج كتامة، فجلس قريبا منهم، وسمعهم يتحدّثون بفضائل البيت، فحدّثهم في معناه، فمالوا إليه، وسألوه أن يأذن لهم في زيارته، فلما زاروه سألوه عن مقصده، فلم يخبرهم، وأوهمهم أنه يريد مصر، فسرّوا بصحبته، ورحلوا، وهو رفيقهم فشاهدوا من عبادته، وزهده ما زادهم رغبة فيه، هذا وهو يسألهم عن أحوالهم وقبائلهم، حتى صار يعرف جميع أمورهم، فلما وصلوا مصر همّ بمفارقتهم، فقالوا: أيّ شيء تطلب من مصر؟ فقال: أطلب التعليم بها، فقالوا: إذا كان قصدك هذا، فبلادنا أنفع لك، وما زالوا به حتى سار معهم، فلما وصلوا بلادهم اقترعوا فيمن يضيفه منهم، ومن بقية أصحابهم، ووصلوا به أرض كتامة للنصف من ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين ومائتين، وكادوا يحتربون عليه أيّهم ينزل عنده، فأبى أن ينزل عندهم، وقال: أين يكون فج الأخيار؟ فعجبوا لذلك! إذ لم يكونوا ذكروه له قط، فدلوه عليه، فسار إليه، وقال: هذا فج الأخيار، وما سمي إلا بكم، ولقد جاء في الآثار للمهديّ هجرة عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم اسمهم مشتق من الكتمان، وبخروجكم في هذا الفج سمي فج الأخيار،

فتسامعت به القبائل، وأتوه فعظم أمره وهو لا يذكر اسم المهديّ البتة، فبلغ خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية، فبعث يسأل عن خبره، وكانت له معه قصص آلت إلى قيام أبي عبد الله ومحاربته لمن خالفه، فظفر بهم، وصارت إليه أموالهم، وغلب على مدائن، وهزم جيوش ابن الأغلب، وقتل كثيرا من أصحابه، فمات إبراهيم بن الأغلب، وولي زيادة الله بن الأغلب، وكان كثير اللهو، فقوي أمر أبي عبد الله، وانتشرت جنوده في البلاد، وصار يقول: المهديّ يخرج في هذه الأيام، ويملك الأرض فيا طوبى لمن هاجر إليّ، وأطاعني ويغري الناس بزيادة الله بن الأغلب ويعيبه، وكان أكثر خواص زيادة الله شيعة، فلم يكن يسوءهم ظفر أبي عبد الله، وأكثر من ذكر كرامات المهديّ، والإرسال إلى أصحاب زيادة الله إلى أن تمكن، فبعث برجال من كتامة إلى سلمية من أرض الشام، فقدموا على عبيد الله، وأخبروه بما فتح الله عليه، وكان قد اشتهر هناك، وطلبه الخليفة المكتفي، فخرج من سلمية فارا، ومعه ابنه أبو القاسم نزار، ومعهما أهلهما ومواليهما، فأقاما بمصر مستترين، فوردت على عيسى النوشريّ أمير مصر الكتب من بغداد بصفة عبيد الله وحليته، وإنه يأخذ عليه الطريق ويقبضه، فبلغ ذلك عبيد الله، فخرج والأعوان في طلبه، ويقال: إنّ النوشريّ ظفر به، فناشده الله في أمره، فخلى عنه ووصله، فسار إلى طرابلس، وقد سبق خبره إلى زيادة الله، فسار إلى قسطيلية «1» ، فقدم كتاب زيادة الله بن الأغلب إلى عامل طرابلس بأخذ عبيد الله وقد فاتهم، فلم يدركوه، فرحل إلى سلجماسة، وأقام بها، وقد أقيمت له المراصد بالطرقات، فتلطف باليسع بن مدرار صاحب سلجماسة، وأهدى إليه فكف عنه، ووافاه كتاب زيادة الله بالقبض على عبيد الله، فلم يجد بدّا من أن قبض عليه وسجنه، واشتغل زيادة الله بجمع العساكر لمحاربة أبي عبد الله وتجهيزهم إليه فغلبهم أبو عبد الله، وغنم سائر ما معهم، وقتل أكثرهم، وبلغه ما كان من سجن عبيد الله، فكتب إليه يبشره، فوصل إليه الكتاب، وهو بالسجن مع قصاب دخل به إليه، وهو يبيع اللحم، وما زال أبو عبد الله يضايق زيادة الله إلى أن فرّ إلى مصر، وقام من بعده إبراهيم بن الأغلب، فلم يتم له أمر، وملك أبو عبد الله القيروان، ونزل برقادة «2» مستهل رجب سنة ست وتسعين ومائتين، فأمر ونهى، وبث العمال في الأعمال، وقتل من يخاف شرّه، وأمر فنقش على السكة في أحد الوجهين: بلغت حجة الله، وفي الآخر: تفرّق أعداء الله ونقش على السلاح عدّة في سبيل الله، ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله، وأقام على ما كان عليه من لبس الخشن الدون، وتناول القليل الغليظ من الطعام، فلما دخل شهر رمضان سار من رقادة في جيوش عظيمة اهتز لها المغرب بأسره يريد سلجماسة، فحاربه اليسع يوما كاملا إلى الليل، ثم فرّ في خاصته، فدخل أبو عبد الله من الغد إلى البلد، وأخرج عبيد الله وابنه، ومشى في

ركابهما بجميع رؤساء القبائل، وهو يقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدّة الفرح حتى وصل بهما إلى فسطاط ضربه في العسكر، فأنزلهما فيه، وبعث الخيل في طلب اليسع، فأدركته وجاءت به فقتله، وأقام عبيد الله بسلجماسة أربعين يوما، ثم سار إلى إفريقية في ربيع الآخر سنة سبع وتسعين، ونزل برقادة، وأمر يوم الجمعة أن يذكر في الخطبة وتلقب بالمهديّ أمير المؤمنين، فدعي له في جميع البلاد بذلك، وجلس بعد الصلاة الدعاة ودعوا الناس كافة إلى مذهبهم، فمن أجاب قبل منه، ومن أبى قتل، وعرض جواري زيادة الله، واختار منهنّ لنفسه ولولده، وفرّق ما بقي على وجوه كتامة، وقسم عليهم أعمال إفريقية، ودوّن الدواوين، وجبى الأموال ودانت له البلاد، فشق ذلك على أبي عبد الله، ونافس المهديّ، وحسده من أجل أنه كف يده، ويده، ويد أخيه أبي العباس، فعظم عليه الفطام عن الأمر والنهي والأخذ والعطاء، وأقبل أبو العباس يرزي على المهديّ في مجلس أخيه، ويؤنب أخاه على ما فعل حتى أثر في نفسه، فسأل المهديّ: أن يفوّض إليه الأمور ويجلس في القصر، وكان قد بلغ المهديّ ما يجهر به أبو العباس من السوء في حقه، فردّ أبا عبد الله ردّا لطيفا، وأسرّها في نفسه، وأكثر أبو العباس من قوله حتى أغرى المقدّمين بالمهديّ، وقال: ما هذا بالذي كنا نعتقد طاعته، وندعو إليه لأنّ المهديّ يأتي بالآيات الباهرة، فمال إليه جماعة، وواجه بعضهم المهديّ بذلك، وقال له: إن كنت المهديّ، فأظهر لنا آية، فقد شككنا فيك، فبعد ما بين المهديّ، وبين أبي عبد الله، وأوجس كلّ منهما في نفسه خيفة من الآخر، وأخذ أبو العباس يدبر في قتل المهديّ، والمهديّ يحلّ ما كان يبرمه، وثم رتب رجالا، فلما ركب أبو عبد الله، وأخوه إلى قصر المهديّ ثار بهما الرجال، فقال أبو عبد الله: لا تفعلوا، فقالوا له: إنّ الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك، فقتل هو وأخوه للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين بمدينة رقادة، فثارت فتنة بسبب قتلهما، فركب المهديّ حتى سكنت وتتبع جماعة منهم، فقتلهم فلما استقام له الأمر عهد إلى ابنه أبي القاسم، وتتبع بني الأغلب، فقتل منهم جماعة، وجهز في سنة إحدى وثلثمائة ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر، فأخذ برقة والإسكندرية والفيوم، وكانت له مع عساكر مصر، وعساكر العراق الواردة إلى مصر مع مؤنس الخادم عدّة حروب، وعاد إلى الغرب، فجهز المهديّ في سنة اثنتين وثلثمائة: حباسة بجيوش إلى مصر، فغلب على الإسكندرية، وكان من أمره ما تقدّم ذكره. وكان للمهدي ببلاد المغرب عدّة حروب، وكان يوجد في الكتب خروج أبي يزيد النكاريّ على دولته، فبنى المهدية، وأدار عليها سورا جعل فيه أبوابا زنة كل مصراع منها، مائة قنطار من حديد، وكان ابتداء بنائها في ذي القعدة سنة ثلاث وثلثمائة، وبنى المصلى بظاهرها، وقال: إلى هنا يصل صاحب الحمار، يعني أبا يزيد، فكان كذلك، وأنشأ صناعة فيها تسعمائة شونة، وقال: إنما بنيت هذه لتعتصم الفواطم بها ساعة من نهار، فكان كذلك،

ثم إنه جهز ابنه أبا القاسم في سنة ست وثلثمائة على جيش إلى مصر، فأخذ الإسكندرية، وملك جزيرة الأشمونين، وكثيرا من صعيد مصر، وكانت هناك حروب مع عساكر مصر والعراق، ثم عاد إلى المغرب، وخرج أبو القاسم في سنة خمس عشرة بالجيوش إلى المغرب، فحارب قوما وعاد، فمات عبيد الله في ليلة الثلاثاء منتصف شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة بالمهدية من القيروان عن ثلاث وستين سنة، وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وشهرا وعشرين يوما، ولما مات: أخفى ابنه موته. وقام من بعد عبيد الله المهديّ وليّ عهده: القائم بأمر الله أبو القاسم محمد، ويقال: كان اسمه بالمشرق: عبد الرحمن، فتسمى في بلاد المغرب: بمحمد، وذلك بسلمية في المحرّم سنة ثمانين ومائتين، فلما فرغ من جميع ما يريده، وتمكن أظهر موت أبيه، واستقل بالأمر، وله سبع وأربعون سنة، وتبع سيرة أبيه وثار عليه جماعة، فظفر بهم وبث جيوشه في البرّ والبحر، فسبوا وغنموا من بلد جنوة، وبعث جيشا إلى مصر، فملكوا الإسكندرية والإخشيد يومئذ أمير مصر، فلما كان في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، خرج عليه أبو يزيد مخلد بن كندار «1» النكاريّ الخارجيّ بإفريقية، واشتدّت شوكته، وكثرت أتباعه، وهزم جيوش القائم غير مرّة، وكان مذهبه تكفير أهل الملة، وإراقة دمائهم ديانة، فملك باجة» ، وحرّقها، وقتل الأطفال، وسبى النسوان، ثم ملك القيروان، فاضطرب القائم، وخاف الناس وهموا بالنقلة من زويلة، وقوي أمر أبي يزيد، ونازل المهدية، وحصر القائم بها، وكاد أن يغلب عليها، فلما بلغ المصلى حيث أشار المهديّ أنه يصل هزمه أصحاب القائم، وقتلوا كثيرا من أصحابه، وكانت له قصص، وأنباء إلى أن مات القائم لثلاث عشرة خلت من شوّال سنة أربع وثلاثين وثلثمائة عن أربع وخمسين سنة وتسعة أشهر، ولم يرق منبرا، ولا ركب دابة لصيد مدّة خلافته، حتى مات وصلى مرّة على جنازة، وصلى بالناس العيد مرّة واحدة، وكانت مدّة خلافته اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وأياما، وترك أبا الظاهر إسماعيل، وأبا عبد الله جعفرا، وحمزة وعدنان، وعدّة أخر. وقام من بعده ابنه: المنصور بنصر الله أبو الظاهر إسماعيل، وكتم موت أبيه خوفا أن يعلم أبو يزيد فإنه كان قريبا منه، وأبقى الأمور على حالها، ولم يتسمّ بالخليفة، ولا غير السكة، ولا الخطبة ولا البنود، وجدّ في حرب أبي يزيد حتى ظفر به وحمل إليه، فمات من جراحات كانت به سلخ المحرّم سنة ست وثلاثين وثلثمائة، ولم يزل المنصور إلى أن مات سلخ شوّال سنة إحدى وأربعين وثلثمائة عن إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر، وكانت

مدّة خلافته ثمان سنين، وقيل: سبع سنين وعشرة أيّام، وقد اختلف في تاريخ ولادته، فقيل: ولد أوّل ليلة من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلثمائة بالمهدية، وقيل: بل ولد في سنة اثنتين، وقيل: سنة إحدى وثلثمائة، وكان خطيبا بليغا يرتجل الخطبة لوقته شجاعا عاقلا. وقام من بعده ابنه: المعز لدين الله أبو تميم معدّ، وعمره نحو أربع وعشرين سنة، فإنه ولد للنصف من رمضان سنة سبع عشرة وثلثمائة، فانقاد إليه البربر، وأحسن إليهم فعظم أمره، واختص من مواليه: بجوهر، وكناه بأبي الحسين وأعلى قدره، وصيره في رتبة الوزارة، وعقد له على جيش كثيف فيهم: الأمير زيري بن مناد الصنهاجيّ، فدوّخ المغرب وافتتح مدنا، وقهر عدّة أكابر وأسرهم حتى أتى البحر المحيط، فأمر باصطياد سمكة منه، وسيّرها في قلة من ماء إلى المعز إشارة إلى أنه ملك حتى سكان البحر المحيط الذي لا عمارة بعده، ثم قدم غانما مظفرا، فعظم قدره عند المعز، ولما كان في بعض الأيام استدعى المعز في يوم شات عدّة من شيوخ كتامة، فدخلوا عليه في مجلس قد فرش باللبود، وحوله كساء، وعليه جبة، وحوله أبواب مفتحة تفضي إلى خزائن كتب، وبين يديه دواة وكتب. فقال: يا إخواننا أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد، فقلت لأمّ الأمراء، وإنها الآن بحيث تسمع كلامي: أترى إخواننا يظنون أنا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب، ونتقلب في المثقل والديباج والحرير، والفنك والسمور والمسك والخمر، والقباء كما يفعل أرباب الدنيا، ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضرتكم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم، واحتجبت عنكم، وإني لا أفضلكم في أحوالكم إلّا بما لا بدّ لي منه من دنياكم، وبما خصني الله به من إمامتكم، وإني مشغول بكتب ترد عليّ من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطي، وإني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما يصون أرواحكم، ويعمر بلادكم، ويذل أعداءكم، ويقمع أضدادكم، فافعلوا يا شيوخ في خواتكم مثل ما أفعله، ولا تظهروا التكبر والتجبر، فينزع الله النعمة عنكم، وينقلها إلى غيركم، وتحننوا عليّ من وراءكم ممن لا يصل إليّ، كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل، ويكثر الخير، وينتشر العدل، وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا الواحدة التي تكون لكم، ولا تشرهوا إلى التكثر منهنّ والرغبة فيهنّ، فيتنغص عشيكم، وتعود المضرّة عليكم، وتنهكوا أبدانكم وعقولكم، واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به رجوت أن يقرّب الله علينا أمر المشرق كما قرّب أمر المغرب بكم انهضوا رحمكم الله ونصركم، فخرجوا عنه، واستدعى يوما أبا جعفر حسين بن مهذب صاحب بيت المال، وهو في وسط القصر قد جلس على صندوق، وبين يديه ألوف صناديق مبدّدة، فقال له: هذه صناديق مال، وقد شذ عني ترتيبها فانظرها ورتبها قال: فأخذت أجمعها إلى أن صارت مرتبة، وبين يديه جماعة من خدّام بيت المال، والفرّاشين، فأنفذت إليه أعلمه فأمر برفعها في الخزائن على ترتيبها، وأن يغلق عليها، وتختم بخاتمه، وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك، فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار، وذلك في سنة سبع وخمسين

وثلثمائة، فأنفقها أجمع على العساكر التي سيرها إلى مصر من سنة ثمان وخمسين إلى سنة اثنتين وستين وثلثمائة. ولما أخذ في تجهيز جوهر بالعساكر إلى أخذ ديار مصر، حتى تهيأ أمره، وبرز للمسير، بعث المعز خفيفا الصقلبيّ إلى شيوخ كتامة يقول: يا إخواننا قد رأينا أن ننفذ رجالا إلى بلدان كتامة يقيمون بينهم، ويأخذون صدقاتهم، ومراعيهم ويحفظونها عليهم في بلادهم، فإذا احتجنا إليها أنفذنا خلفها، فاستعنا بها على ما نحن بسبيله، فقال بعض شيوخهم لخفيف لما بلغه ذلك، قل لمولانا والله لا فعلنا هذا أبدا، كيف تؤدّي كتامة الجزية، ويصير عليها في الديوان ضريبة، وقد أعزها الله قديما بالإسلام، وحديثا معكم بالإيمان وسيوفنا بطاعتكم في المشرق والمغرب، فعاد خفيف إلى المعز بذلك، فأمر بإحضار جماعة كتامة، فدخلوا عليه، وهو راكب فرسه، فقال: ما هذا الجواب الذي صدر عنكم؟ فقالوا: هذا جواب جماعتنا ما كنا يا مولانا بالذي يؤدّي جزية تبقى علينا، فقام المعز في ركابه، وقال: بارك الله فيكم فهكذا أريد أن تكونوا، وإنما أردت أن أختبركم، فانظر كيف أنتم بعدي، فسار جوهر، وأخذ مصر، كما قد ذكر في ترجمته عند ذكر سور القاهرة من هذا الكتاب. فلما ثبتت قدم جوهر بمصر كتب إليه المعز جوابا عن كتابه، وأما ما ذكرت يا جوهر، من أن جماعة بني حمدان وصلت إليك كتبهم يبذلون الطاعة، ويعدون بالمسارعة في المسير إليك، فاسمع لما أذكره لك، احذر أن تبتدىء أحدا من آل حمدان بمكاتبة ترهيبا له، ولا ترغيبا، ومن كتب إليك كتابا منهم، فأجبه بالحسن الجميل، ولا تستدعه إليك، ومن ورد إليك منهم، فأحسن إليه، ولا تمكن أحدا منهم من قيادة جيش، ولا ملك طرف، فبنو حمدان يتظاهرون بثلاثة أشياء عليها مدار العالم، وليس لهم فيها نصيب، يتظاهرون بالدين، وليس لهم فيه نصيب، ويتظاهرون بالكرم، وليس لواحد منهم كرم في الله، ويتظاهرون بالشجاعة، وشجاعتهم للدنيا لا للآخرة، فاحذر كل الحذر من الاستناد إلى أحد منهم. ولما عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره، فيمن يخلفه في بلاد المغرب، فوقع اختياره على جعفر بن عليّ الأمير، فاستدعاه، وأسرّ إليه أنه يريد استخلافه بالمغرب، فقال: تترك معي أحد أولادك أو إخوتك يجلس في القصر، وأنا أدبر، ولا تسألني عن شيء من الأموال، لأنّ ما أجيبه يكون بإزاء ما أنفقه من الأموال، وإذا أردت أمرا فعلته من غير أن أنتظر ورود أمرك فيه لبعد ما بين مصر والمغرب، ويكون تقليد القضاء والخراج وغيره إليّ، فغضب المعز، وقال: يا جعفر عزلتني عن ملكي؟ وأردت أن تجعل لي فيه شريكا في أمري؟ واستبددت بالأعمال والأموال دوني؟ قم فقد أخطأت حظك، وما أصبت رشدك، فخرج عنه.

ثم إنه استدعى يوسف «1» بن زيري الصنهاجيّ، وقال له: تأهب لخلافة المغرب، فأكبر ذلك، وقال: يا مولانا، أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما صفا لكم المغرب، فكيف يصفو لي، وأنا صنهاجيّ بربري؟ قتلتني يا مولانا بغير سيف ولا رمح، فما زال به المعز حتى أجاب بشريطة أنّ المعز يولي القضاء والخراج لمن يراه ويختاره، ويجعل الحيز لمن يثق به، ويجعله قائما بين أيدي هؤلاء، فمن استعصى عليهم يأمره هؤلاء به حتى يعمل به ما يجب، ويكون الأمر لهم ويصير كالخادم بين أولئك، فأحب المعز ما قال وشكره، فلما انصرف قال أبو طالب بن القائم بأمر الله للمعز: يا مولانا، وتثق بهذا القول من يوسف، وإنه يقوم بوفاء ما ذكر، فقال المعز: يا عمنا كم بين قول يوسف، وقول جعفر، فاعلم يا عمّ أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداء، هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف، وإذا تطاولت المدّة سينفرد بالأمر، ولكن هذا أوّلا أحسن، وأجود عند ذوي العقل، وهو نهاية ما يفعله، وكانت أم الأمراء قد وجهت من المغرب صبية لتباع بمصر، فعرضها وكيلها في مصر للبيع، وطلب فيها ألف دينار، فحضر إليه في بعض الأيام امرأة شابة على حمار لتقلب الصبية، فساومته ففيها، وابتاعتها منه بستمائة دينار، فإذا هي ابنة الإخشيد محمد بن طفج، وقد بلغها خبر هذه الصبية. فلما رأتها شغفتها حبا، فاشترتها لتستمتع بها، فعاد الوكيل إلى المغرب، وحدّث المعز بذلك، فأحضر الشيوخ، وأمر الوكيل فقص عليهم خبر ابنة الإخشيد مع الصبية إلى آخره، فقال المعز: يا إخواننا انهضوا إلى مصر، فلن يحول بينكم وبينها شيء، فإنّ القوم قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها، وتشتري جارية لتتمتع بها، وما هذا إلّا من ضعف نفوس رجالهم، وذهاب غيرتهم، فانهضوا لمسيرنا إليهم، فقالوا: السمع والطاعة، فقال: خذوا في حوائجكم، فنحن نقدّم الاختيار لمسيرنا إن شاء الله تعالى. وكان قيصر، ومظفر الصقلبيان قد بلغا رتبة عظيمة عند المنصور والد المعز، وكان المظفر يدل على المعز من أجل أنه علمه الخط في صغره، فحرد عليه مرّة، وولى فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلبية استراب منها، ولقنها منه، وأنفت نفسه من السؤال عن معناها، فأخذ يحفظ اللغات، فابتدأ بتعلم اللغة البربرية، حتى أحكمها، ثم تعلم الرومية والسودانية حتى أتقنهما، ثم أخذ يتعلم الصقلبية، فمرّت به تلك الكلمة، فإذا هي سب قبيح، فأمر بمظفر، فقتل من أجل تلك الكلمة، وبلغه أمر الحرب التي كانت بين بني حسن، وبني جعفر بالحجاز، حتى قتل من بني حسن أكثر ممن قتل من بني جعفر، فأنفذ مالا ورجالا في السرّ ما زالوا بالطائفتين حتى اصطلحتا، وتحمل الرجال عن كل منهما

الحمالات، فجاء الفاضل في القتلى لبني حسن عند بني جعفر نحو سبعين قتيلا، فأدّوا عنهم وعقدوا بينهم الصلح في الحرم تجاه الكعبة، وتحملوا عنهم الديات من مال المعز، وكان ذلك في سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، فصارت هذه الفعلة يدا عند بني حسن للمعز، فلما ملك جوهر مصر: بادر حسن بن جعفر الحسنيّ بالدعاء للمعز في مكة، وبعث إلى جوهر بالخبر، فسير إلى المعز يعرّفه بإقامة الدعوة له بمكة، فأنفذ إليه بتقليده الحرم وأعماله. وسار المعز بعساكره من المغرب حتى نزل بالجيزة فعقد له جوهر جسرا جديدا عند المختار بالجزيرة، فسار عليه، وقد زينت له مدينة الفسطاط، فلم يشقها ودخل إلى القاهرة بجميع أولاده وإخوته وسائر أولاد عبيد الله المهديّ، وبتوابيت آبائه، وذلك لسبع خلون من رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة، فعندما دخل القصر صلى ركعتين، فاقتدى به من حضر، وبات به ثم أصبح فجلس للهناء، وأمر فكتب في سائر مدينة مصر: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وأثبت اسم المعز لدين الله، واسم أبيه عبد الله الأمير، وجلس في القصر على السرير الذهب، وصلى بالناس صلاة عيد الفطر في المصلى، فسبح في كل ركعة، وفي كل سجدة ثلاثين تسبيحة، ثم خطب بعد الصلاة، وركب لفتح خليج مصر يوم الوفاء، وعمل عيد غدير خم، ومات بعض بني عمه، فصلى عليه، وكبر سبعا، وكبر على ميت آخر خمسا، وقدمت القرامطة إلى مصر، فسير إليهم الجلوس وهزموهم، وما زال إلى أن توفي من علة اعتلها بعد دخوله إلى القاهرة بسنتين وسبعة أشهر وعشرة أيام، وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريبا، فإنّ مولده بالمهدية في حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة، ووفاته بالقاهرة لأربع عشرة خلت من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلثمائة، وكانت مدّة خلافته بالمغرب، وديار مصر، ثلاثا وعشرون سنة وعشرة أيام، وهو أوّل الخلفاء الفاطميين بمصر، وإليه تنسب القاهرة المعزية لأنّ عبده جوهر القائد بناها حسب ما رسم له كما ذكر في خبر بنائها. وكان المعز عالما فاضلا جوادا حسن السيرة منصفا للرعية مغرما بالنجوم أقيمت له الدعوة بالمغرب كله وديار مصر والشام، والحرمين، وبعض أعمال العراق. وقام من بعده ابنه: العزيز بالله أبو منصور نزار، فأقام في الخلافة إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا، ومات وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما في الثامن والعشرين من رجب سنة ست وثمانين وثلثمائة بمدينة بلبيس، وحمل إلى القاهرة. وقام من بعده ابنه: الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور، وكانت مدّة خلافته إلى أن فقد خمسا وعشرين سنة وشهرا، وفقد وعمره ست وثلاثون سنة وسبعة أشهر في ليلة السابع والعشرين من شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وقد بسطت خبر العزيز والحاكم عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب.

وقام من بعده ابنه: الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسين عليّ بن الحاكم، بأمر الله، ولد بالقاهرة يوم الأربعاء، لعشر خلون من رمضان سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وبويع له بالخلافة يوم عيد النحر، سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وعمره ست عشرة سنة، فخرج إلى صلاة العيد، وعلى رأسه المظلة، وحوله العساكر، وصلى بالناس في المصلى، وعاد فكتب بخلافته إلى الأعمال، وشرب الخمر ورخص فيه للناس، وفي سماع الغناء، وشرب الفقاع، وأكل الملوخيا وجميع الأسماك، فأقبل الناس على اللهو، ووزر له الخطير رئيس الرؤساء أبو الحسن عمار «1» بن محمد، وكان يلي ديوان الإنشاء وغيره، واستوزره بعده بدر الدولة أبا الفتوح موسى بن الحسين، وكان يتولى الشرطة، ثم ولي ديوان الإنشاء بعد ابن حيران، وصرف عن الوزارة في المحرّم سنة ثلاث عشرة، وقبض عليه في شوّال، وقتل فوجد له من العين ستمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار، وولي بعده الأزارة الأمير شمس الملوك المكين مسعود بن طاهر. وفي سنة أربع عشرة قلد منتخب الدولة الدريزي متولي قيساورية ولاية فلسطين، فكانت له مع حسان بن مفرح بن جراح الطائيّ حروب، وفيها نزع السعر بمصر، وتعذر وجود الخبز، وفي المحرّم سنة خمس عشرة لقب الخادم الأسود معضاد «2» ، بالقائد عز الدولة وسنائها أبي الفوارس معضاد الظاهر، وخلع عليه، وثار رجل من بني الحسين ببلاد الصعيد، فقبض عليه، وأقرّ أنه قتل الحاكم بأمر الله، ووجد معه قطعة من جلد رأسه، وقطعة من الفوطة التي كانت عليه، فسئل عن سبب قتله إياه؟ فقال: غرت لله وللإسلام، ثم قتل نفسه بسكين كانت معه، فقطعت رأسه، وسيرت إلى القاهرة، وفيها اشتدّ الغلاء بمصر، وكثر نقص النيل. وفيها قرّر الشريف الكبير العجميّ، والشيخ نجيب الدولة الجرجراي «3» ، والشيخ العميد محسن بن بدوس، مع القائد معضاد أن لا يدخل على الظاهر أحد غيرهم، وكانوا يدخلون كل يوم خلوة ويخرجون، فيتصرّفون في سائر أمور الدولة، والظاهر مشغول بلذاته، وصار شمس الملوك مظفر صاحب المظلمة، وابن حيران صاحب الإنشاء، وداعي

الدعاة، ونقيب نقباء الطالبيين، وقاضي القضاة، ربما دخلوا على الظاهر في كل عشرين يوما مرّة، ومن عداهم لا يصل إلى الظاهر البتة، والثلاثة الأول هم الذين يقضون الأشغال، ويمضون الأمور بعد الاجتماع عند القائد معضاد، ومنع الناس من ذبح الأبقار لقلتها، وعزت الأقوات بمصر، وقلت البهائم كلها حتى بيع الرأس البقر بخمسين دينارا، وكثر الخوف في ظواهر البلد، وكثر اضطراب الناس، وتحدّث زعماء الدولة بمصادرة التجار، فاختلف بعضهم على بعض، وكثر ضجيج طوائف العسكر من الفقر والحاجة، فلم يجابوا وتحاسد زعماء الدولة، فقبض على العميد محسن، وضرب عنقه واشتدّ الغلاء، وفشت الأمراض، وكثر الموت في الناس، وفقد الحيوان، فلم يقدر على دجاجة، ولا فروج وعز الماء لقلة الظهر، فعمّ البلاء من كل جهة، وعرض الناس أمتعتهم للبيع، فلم يوجد من يشتريها، وخرج الحاج فقطع عليهم الطريق بعد رحيلهم من بركة الجب، وأخذت أموالهم، وقتل منهم كثير وعاد من بقي، فلم يحج أحد من أهل مصر، وتفاقم الأمر في شدّة الغلاء، فصاح الناس بالظاهر: الجوع الجوع يا أمير المؤمنين؟ لم يصنع بنا هذا أبوك ولا جدّك، فالله الله في أمرنا، وطرقت عساكر ابن جراح الفرما، ففرّ أهلها إلى القاهرة، وأصبح الناس بمصر على أقبح حال من الأمراض والموتان، وشدّة الغلاء، وعدم الأقوات، وكثر الخوف من الذعار التي تكبس حتى أنه لما عمل سماط عيد النحر بالقصر كبس العبيد على السماط، وهم يصيحون: الجوع، ونهبوا سائر ما كان عليه، ونهبت الأرياف وكثر طمع العبيد ونهبهم، وجرت أمور من العامّة قبيحة، واحتاج الظاهر إلى القرض، فحمل بعض أهل الدولة إليه مالا، وامتنع آخرون، واجتمع نحو الألف عبد لتنهب البلد من الجوع، فنودي بأن من تعرّض له أحد من العبيد، فليقتله وندب جماعة لحفظ البلد، واستعدّ الناس، فكانت نهبات بالساحل، ووقائع مع العبيد احتاج الناس فيها إلى أن خندقوا عليهم خنادق، وعملوا الدروب على الأزقّة والشوارع، وخرج معضاد في عسكر، فطردهم وقبض على جماعة منهم ضرب أعناقهم، وأخذ العبيد في طلب الحرحراي وغيره من وجوه الدولة، فحرسوا أنفسهم، وامتنعوا في دورهم وانقضت السنة، والناس في أنواع من البلاء. وفي سنة ست عشرة أمر الظاهر، فأخرج من بمصر من الفقهاء المالكية وغيرهم، وأمر الدعاة أن يحفظوا الناس كتاب دعائم الإسلام، ومختصر الوزير، وجعل لمن حفظ ذلك مالا. وفي سنة سبع عشرة ثار بمصر رعاف عظيم بالناس، وكثرت زيادة النيل عن العادة، وتصدّق الظاهر بمائة ألف دينار من أجل أنه سقط عن فرسه وسلم. وفي سنة ثمان عشرة وقعت الهدنة مع صاحب الروم، وخطب للظاهر في بلاده، وأعاد الجامع بقسطنطينية، وعمل فيه مؤذنا، فأعاد الظاهر كنيسة قمامة بالقدس، وأذن لمن

أظهر الإسلام في أيام الحاكم أن يعود إلى النصرانية، فرجع إليها كثير منهم، وصرف الظاهر وزيره عميد الدولة، وناصحها أبا محمد الحسن بن صالح الروذبادي، وأقام بدله أبا القاسم عليّ بن أحمد الحرحراي. وفي سنة عشرين كانت فتنة بين المغاربة والأتراك قتل فيها كثير. وفي سنة إحدى وعشرين بويع لابن الظاهر بولاية العهد، وعمره ثمانية أشهر، وأنفق على ذلك في خلع لأهل الدولة، وطعام ونثار للعامة ما يجل وصفه. وفي سنة اثنتين وعشرين تحرّك السعر لنقص ماء النيل، ثم زاد بعد أوانه بأربعة أشهر. وفي سنة ثلاث وعشرين قتل الظاهر أحد الدعاة، فاضطربت الرعية والجند، وتحدّث الناس بخلعه، ثم سكنت الفتنة بعد إنفاق مال جزيل. وفي سنة أربع وعشرين ركب وليّ العهد من القاهرة إلى مصر، وقد زينت الطرقات، فكان إذا مرّ بقوم قبلوا له الأرض، ونثر يومئذ على العامّة مبلغ خمسة آلاف دينار، فكان يوما عظيما. وفي سنة خمس وعشرين بث الظاهر دعاته ببغداد عند اختلاف الأتراك بها، فكثرت دعاته هناك، واستجاب لهم خلق كثير، فلما كان في سنة ست وعشرين كثر الوباء بمصر، ومات الظاهر للنصف من شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة عن اثنتين وثلاثين سنة إلّا أياما، فكانت مدّة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياما، وكان مشغوفا باللهو محبا للغناء، فتأنق الناس في أيامه بمصر، واتخذوا المغنيات والرقاصات، وبلغوا من ذلك مبلغا عظيما، واتخذ حجرا لمماليكه وعلمهم أنواع العلوم، وسائر فنون الحرب، واتخذ خزانة البنود، وأقام فيها ثلاثة آلاف صانع، وراسل الملوك واستكثر من شراء الجواهر، وكانت مملكته بإفريقية ومصر والشام والحجاز، وغلب صالح «1» بن مرداس على حلب في أيامه، واستولى على ما يليها، وتغلّب حسان بن جرّاح على أكثر بلاد الشام، فتضعضعت الدولة. وقام من بعده ابنه وليّ العهد، وبويع له وهو: المستنصر بالله أبو تميم معدّ، ومولده في السادس عشر من جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة، وبويع بالخلافة للنصف من شعبان سنة سبع وعشرين، وعمره يومئذ سبع سنين، فأقام ستين سنة وأشهرا في الخلافة كانت فيها أنباء، وقصص شنيعة بديار مصر منها: أنّ أمّه كانت أمة سوداء لتاجر يهوديّ يقال له: أبو سعد سهل بن هارون التستريّ، فابتاعها منه الظاهر، واستولدها المستنصر، فلما أفضت الخلافة إليه استدنت أمّه أبا سعد، ورقته درجة عليّة، وكان الوزير يومئذ أبا القاسم

الحرحراي، فلم يتمكن أبو سعد من إظهار ما في نفسه حتى مات الحرحراي، وتولى أبو منصور صدقة بن يوسف العلاجيّ الوزارة، فانبسطت يد أبي سعد، وصار العلاجيّ يأتمر بأمر، فعمل عليه وقتله كما ذكر في خبر خزانة البنود، فحقدت أم المستنصر على العلاجيّ، وصرفته عن الوزارة واستقر أبو البركات صفيّ الدين الحسين بن محمد بن أحمد الحرحراي في الوزارة. وفي سنة أربعين سار ناصر الدولة الحسين بن حمدان متولي دمشق بالعساكر إلى حلب، وحارب متوليها: ثمال بن صالح بن مرداس، ثم رجع بغير طائل، فقلد مظفر الصقلبيّ دمشق، وقبض على ابن حمدان، وصادره واعتقله بصور، ثم بالرملة، وخرج أمير الأمراء: رفق الخادم على عسكر تبلغ عدّته نحو الثلاثين ألفا بلغت النفقة عليه أربعمائة ألف دينار يريد الشام، ومحاربة بني مرداس. وفي المحرّم سنة إحدى وأربعين صرف قاضي القضاة قاسم بن عبد العزيز بن النعمان عن القضاء بعدما باشره ثلاث عشرة سنة وشهر أو أربعة أيام، وتقلد وظيفة القضاء بعده القاضي الأجل خطير الملك أبو محمد البازوريّ. وفيها حارب رفق بني مرداس، فظفروا به وأسروه، فمات بقلعة حلب، فأفرج عن ابن حمدان، وبقي بالحضرة، وقبض على الوزير أبي البركات الحرحراي، ونفي إلى الشام، وعمل أبو المفضل صاعد بن مسعود واسطة لا وزيرا، ثم قلد القضاة أبو محمد البازوريّ الوزارة مع وظيفة القضاء، ولقب بسيد الوزراء. وفي سنة اثنتين وأربعين كانت حروب البحيرة، وإخراج بني قرّة منها، وإنزال بني سنيس بعدهم بها، وفيها دعا عليّ بن محمد الصليحيّ باليمن للمستنصر، وبعث إليه بمال النجوة والهدن. وفي سنة أربع وأربعين كتب ببغداد محاضر بالقدح في نسب الخلفاء المصريين، ونفيهم من الانتساب إلى عليّ بن أبي طالب، وسيرت إلى الآفاق وقصر مدّ النيل، فتحرّك السعر بمصر، ثم قصر أيضا مدّ النيل في سنة ست وأربعين، فقوي الغلاء، وكثر الموت في الناس. وفي سنة ثمان وأربعين خرج أبو الحارث «1» البساسيري من بغداد منتميا للمستنصر،

فسيرت إليه الأموال والخلع. وفي سنة ثمان وأربعين عادت حلب إلى مملكة المستنصر. وفي سنة خمسين قبض على الوزير الناصر للدين أبي محمد البازوريّ، وتقلد بعده الوزارة أبو الفرج محمد بن جعفر المغربي بن عبد الله بن محمد، وولي القضاء بعد البازوريّ أبو عليّ أحمد بن عبد الحكم، ثم صرف بعبد الحاكم المليحيّ، وفيها أخذ البساسيري بغداد، وأقام فيها الخطبة للمستنصر، وفرّ الخليفة القائم بأمر الله العباسيّ إلى قريش «1» بن بدران، فبعث به إلى غانة، وسيرت ثياب القائم، وعمامته وغير ذلك من الأموال إلى مصر، وفيها سار ناصر الدولة إلى دمشق أميرا عليها. وفي سنة إحدى وخمسين أقيمت دعوة المستنصر بالبصرة وواسط وجميع تلك الأعمال، فقدم طغريل إلى بغداد، وأعاد الخليفة القائم بعد ما خطب للمستنصر ببغداد أربعون خطبة، وقتل البساسيريّ، وفيها قطعت خطبة المستنصر أيضا من حلب، فسار إليها ابن حمدان، وحارب أهلها، فانكسر كسرة شديدة شنيعة، وعاد إلى دمشق، وفيها صرف أبو الفرج بن المغربيّ عن الوزارة، وعبد الحاكم عن القضاء، وأعيد إلى الوزارة أبو الفرج البابليّ، واستقرّ في وظيفة القضاء أحمد بن أبي زكري. وفي سنة ثلاث وخمسين كثر صرف الوزراء والقضاة، وولايتهم لكثرة مخالطة الرعاع للخليفة، وتقدّم الأراذل بحيث كان يصل إليه في كل يوم ثمانمائة رقعة فيها المرافعات والسعايات، فاشتبهت عليه الأمور، وتناقضت الأحوال، ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة، وضعفت قوى الوزراء عن التدبير لقصر مدّة كل منهم، وخربت الأعمال، وقلّ ارتفاعها، وتغلب الرجال على معظمها مع كثرة النفقات والاستخفاف بالأمور، وطغيان الأكابر إلى أن آل الأمر إلى حدوث الشدّة العظمى، كما قد ذكر في موضعه من هذا الكتاب، وكان من قدوم أمير الجيوش بدر الجماليّ «2» في سنة ست وستين وأربعمائة، وقيامه بسلطنة مصر ما ذكر في ترجمته عند ذكر أبواب القاهرة، فلم يزل المستنصر مدّة أمير الجيوش ملجما عن التصرّف إلى أن مات في سنة سبع وثمانين، فأقام العسكر من بعده في الوزارة ابنه الأفضل شاهنشاه، فباشر الأمور يسيرا، ومات المستنصر ليلة الخميس لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة سبع وثمانين عن سبع، وستين سنة وخمسة أشهر منها في الخلافة ستون سنة، وأربعة

أشهر وثلاثة أيام مرّت فيها أهوال عظيمة، وشدائد آلت به إلى أن جلس على نخ، وفقد القوت فلم يقدر عليه حتى كانت امرأة من الأشراف تتصدّق عليه في كل يوم بقعب فيه فتيت، فلا يأكل سواه مرّة في كل يوم، وقد مرّ في غير موضع من هذا الكتاب كثير من أخباره، فلما مات المستنصر أقام الأفضل بن أمير الجيوش في الخلافة من بعده ابنه: المستعلي بالله أبا القاسم أحمد، وكان مولده في العشرين من المحرّم سنة سبع وستين وأربعمائة، فحالف عليه أخوه نزار، وفرّ إلى الإسكندرية وكان القائم بالأمور كلها الأفضل، فحاربه حتى ظفر به، وقتله كما تقدّم في خبر أفتكين عند خزائن القصر. وفي سنة تسعين وقع بمصر غلاء ووباء وقطعت الخطبة من دمشق للمستعلي، وخطب بها للعباسيّ، وخرج الفرنج من قسطنطينية لأخذ سواحل الشام، وغيرها من أيدي المسلمين فملكوا أنطاكية. وفي سنة إحدى وتسعين خرج الأفضل بعسكر عظيم من القاهرة، فأخذ بيت المقدس من الأرمن، وعاد إلى القاهرة. وفي سنة اثنتين وتسعين ملك الفرنج الرملة وبيت المقدس، فخرج الأفضل بالعساكر، وسار إلى عسقلان، فسار إليه الفرنج وقاتلوه، وقتلوا كثيرا من أصحابه، وغنموا منه شيئا كثيرا وحصروه، فنجا بنفسه في البحر، وصار إلى القاهرة. وفي سنة ثلاث وتسعين عمّ الوباء أكثر البلاد، فهلك بمصر عالم عظيم. وفي سنة أربع وتسعين خرج عسكر مصر لقتال الفرنج، وكانت بينهما حروب كثيرة. وفي سنة خمس وتسعين وأربعمائة مات المستعلي بالله لثلاث عشرة بقيت من صفر، وعمره سبع وعشرون سنة وسبعة وعشرون يوما، ومدّة خلافته سبع سنين وشهران، وفي أيامه اختلت الدولة، وانقطعت الدعوة من أكثر مدن الشام، فإنها صارت بين الأتراك والفرنج، وصارت الإسماعيلية فرقتين: فرقة نزارية تطعن في إمامة المستعلي، وفرقة ترى صحة خلافته، ولم يكن للمستعلي مع الأفضل أمر ولا نهي، ولا نفوذ كلمة، وقيل: إنه سمّ، وقيل: بل قتل سرّا. فلما مات أقام الأفضل من بعده في الخلافة ابنه: الآمر بأحكام الله أبا عليّ منصورا، وعمره خمس سنين وشهر وأيام، فقتل الأفضل في أيامه، وأقام في الخلافة تسعا وعشرين سنة وثمانية أشهر ونصفا، وقد ذكرت ترجمته عند ذكر الجامع الأقمر في ذكر الجوامع من هذا الكتاب، ولما قتل الآمر بأحكام الله. أقيم من بعده: الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله، وكان قد ولد بعسقلان في المحرّم سنة سبع، وقيل: في سنة ثمان

وتسعين وأربعمائة لما أخرج المستنصر ابنه أبا القاسم مع بقية أولاده في أيام الشدّة، فلذلك كان يقال له في أيام الآمر بأحكام الله الأمير عبد المجيد العسقلانيّ ابن عمّ مولانا. ولما قتل النزارية: الخليفة الآمر أقام برغش وهزار الملوك الأمير عبد المجيد في دست الخلافة، ولقباه بالحافظ لدين الله، وأنه يكون كفيلا لمنتظر في بطن أمّه من أولاد الآمر، واستقرّ هزاز الملوك وزيرا، فثار العسكر، وأقاموا أبا عليّ بن الأفضل وزيرا، وقتل هزار الملوك، ونهب شارع القاهرة، وذلك كله في يوم واحد، فاستبدّ أبو عليّ بالوزارة يوم السادس عشر من ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وقبض على الحافظ، وسجنه مقيدا، فاستمرّ إلى أن قتل أبو عليّ في سادس عشر المحرّم سنة ست وعشرين، فأخرج من معتقله، وأخذ له العهد على أنه وليّ عهد كفيل لمن يذكر اسمه، فاتخذ الحافظ هذا اليوم عيدا سماه عيد النصر، وصار يعمل كل سنة، ونهبت القاهرة يومئذ وقام يانس صاحب الباب بالوزارة إلى أن هلك في ذي الحجة منها بعد تسعة أشهر، فلم يستوزر الحافظ بعده أحدا، وتولى الأمور بنفسه إلى سنة ثمان وعشرين، فأقام ابنه سليمان وليّ عهده مقام وزير، فلم تطل أيامه سوى شهرين ومات، فجعل مكانه ابن حيدرة، فخنق ابنه حسن، وثار بالفتنة، وكان من أمره ما ذكر في خبر الحارة اليانسية من هذا الكتاب، فلما قتل حسن قام بهرام الأرمنيّ، وأخذ الوزارة في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين، وكان نصرانيا، فاشتدّ ضرر المسلمين من النصارى، وكثرت أذيتهم فسار رضوان بن ولخشي، وهو يومئذ متولي الغربية، وجمع الناس لحرب بهرام، وسار إلى القاهرة، فانهزم بهرام، ودخل رضوان القاهرة، واستولى على الوزارة في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين، فأوقع بالنصارى وأذلهم، فشكره الناس إلا أنه كان خفيفا عجولا، فأخذ في إهانة حواشي الخليفة، وهمّ بخلع، وقال: ما هو بإمام، وإنما هو كفيل لغيره، وذلك الغير لم يصح، فتوحش الحافظ منه، وما زال يدبر عليه حتى ثارت فتنة انهزم فيها رضوان، وخرج إلى الشام، فجمع وعاد في سنة أربع وثلاثين، فجهز له الحافظ العساكر لمحاربته، فقاتلهم وانهزم منهم إلى الصعيد فقبض عليه، واعتقل، فلم يستوزر الحافظ أحدا بعده إلى أن كانت سنة ست وثلاثين، فغلت الأسعار بمصر وكثر الوباء، وامتدّ إلى سنة سبع وثلاثين، فعظم الوباء. وفي سنة اثنتين وأربعين خلص رضوان من معتقله بالقصر، وخرج من نقب، وثار بجماعة، وكانت فتنة آلت إلى قتله. وفي سنة أربع وأربعين ثارت فتنة بالقاهرة بين طوائف العسكر، فمات الحافظ ليلة الخامس من جمادى الآخرة عن سبع وسبعين سنة منها مدّة خلافته ثمان عشرة سنة وأربعة أشهر وتسعة يوما، أصابته فيها شدائد كثيرة، وكان حازما سيوسا كثير المداراة عارفا جماعا للمال مغرى بعلم النجوم يغلب عليه الحلم.

فلما مات والفتنة قائمة أقيم ابنه: الظاهر بأمر الله أبو منصور إسماعيل، ومولده للنصف من ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فأقام في الخلافة أربع سنين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام، وكان محكوما عليه من الوزارة، وفي أيامه أخذت عسقلان، فظهر الخلل في الدولة، وقد ذكرت أخباره في خط الخشيبة عند ذكر الخطط من هذا الكتاب. فلما قتل أقيم من بعده ابنه: الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى، أقامه في الخلافة بعد مقتل أبيه الوزير عباس، وعمره خمس سنين، فقدم طلائع بن رزيك «1» والي الأشمونين بجموعه إلى القاهرة، ففرّ عباس، واستولى طلائع على الوزارة، وتلقب بالصالح، وقام بأمر الدولة إلى أن مات الفائز لثلاث عشرة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين عن إحدى عشرة سنة، وستة أشهر ويومين منها في الخلافة ست وستين وخمسة أشهر وأيام، لم ير فيها خيرا فإنه لما أخرج ليقام خليفة رأى أعمامه قتلى، وسمع الصراخ، فاختلّ عقله، وصار يصرخ حتى مات. فأقام الصالح بن رزيك في الخلافة بعده: العاضد لدين الله أبا محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله، ومولده لعشر بقين من المحرّم سنة ست وأربعين وخمسمائة، وكان عمره يوم بويع نحو إحدى عشرة سنة، وقام الصالح بتدبير الأمور إلى أن قتل في رمضان سنة ست وخمسين كما ذكر في خبره عند ذكر الجوامع، فقام من بعده ابنه رزيك بن طلائع، وحسنت سيرته، فعزل شاور بن مجير السعديّ عن ولاية قوص، فلم يقبل العزل، وحشد وسار على طريق الواحات في البرية إلى تروجة، فجمع الناس، وسار إلى القاهرة، فلم يثبت رزيك، وفرّ فقبض عليه بإطفيح، واستقرّ شاور في الوزارة لأيام خلت من صفر سنة ثمان وخمسين، فأقام إلى أن ثار ضرغام صاحب الباب، ففرّ منه إلى الشام، واستبدّ ضرغام بالوزارة، فقتل أمراء الدولة، وأضعفها بسبب ذهاب أكابرها، فقدم الفرنج، ونازلوا مدينة بلبيس مدّة، ودافعهم المسلمون عدّة مرار، حتى عادوا إلى بلادهم بالساحل، ورجع العسكر إلى القاهرة، وقد قتل منهم كثير، فوصل شاور بعساكر الشام في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، فحاربه ضرغام على بلبيس بعساكر مصر، وكانت لهم منه معارك انهزموا في آخرها، وغنم شاور ومن معه سائر ما خرجوا به، وكان شيئا جليلا، فسرّوا بذلك، وساروا إلى القاهرة فكانت بين الفريقين حروب آلت إلى هزيمة ضرغام، وقتله في شهر رمضان منها. فاستولى شاور على الوزارة مرّة ثانية، واختلف مع الغزاة القادمين معه من الشام، وكانت له معهم حروب آلت إلى أن شاور كتب إلى مري ملك الفرنج يستدعيه إلى القاهرة

ليعينه على محاربة شيركوه، ومن معه من الغز، فحضر، وقد صار شيركوه في مدينة بلبيس، فخرج شاور من القاهرة، ونزل هو ومري على بلبيس، وحصرا شيركوه ثلاثة أشهر، ثم وقع الصلح، فسار شيركوه بالغز إلى الشام، ورحل الفرنج، وعاد شاور إلى القاهرة في سنة ستين وخمسمائة، فلم يزل إلى أن قدم شيركوه من الشام بالعساكر مرّة ثانية في ربيع الآخر، فخرج شاور من القاهرة إلى لقائه، واستدعى مري ملك الفرنج، فسار شيركوه على الشرق، وخرج من إطفيح، فسار إليه شاور بالفرنج، وكانت له معه الوقعة المشهورة، فسار شيركوه بعد الوقعة من الأشمونين، وأخذ الإسكندرية بعد أن استخلف عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولم يزل يسير من الإسكندرية إلى قوص، وهو يجبي البلاد، فخرج شاور من القاهرة بالفرنج، ونازل الإسكندرية، فبلغ شيركوه ذلك، فعاد من قوص إلى القاهرة، وحصرها. ثم كانت أمور آخرها مسير شيركوه وأصحابه من أرض مصر إلى الشام في شوّال، وقد طمع الفرنج في البلاد وتسلموا أسوار القاهرة، وأقاموا فيها شحنة معه عدّة من الفرنج لمقاسمة المسلمين ما يتحصل من مال البلد، وفحش أمر شاور، وساءت سيرته، وكثر تجرّيه على الدماء، وإتلافه للأموال، فلما كان في سنة أربع وستين قوي تمكن الفرنج في القاهرة، وجاروا في حكمهم بها، وركبوا المسلمين بأنواع الإهانة. فسار مري يريد أخذ القاهرة، ونزل على مدينة بلبيس، وأخذها عنوة، فكتب العاضد إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستصرخه، ويحثه على نجدة الإسلام، وإنقاذ المسلمين من الفرنج، فجهز أسد الدين شيركوه في عسكر كثير، وجهزهم وسيرهم إلى مصر، وقد أحرق شاور مدينة مصر، كما تقدّم ونزل مري ملك الفرنج على القاهرة، وألحّ في قتال أهلها حتى كاد أن يأخذها عنوة، فسير إليها شاور وخادعه حتى رضي بمال يجمعه له، فشرع في جبايته، وإذا بالخبر ورد بقدوم شيركوه، فرحل الفرنج عن القاهرة في سابع ربيع الآخر، ونز شيركوه على القاهرة بالغز ثالث مرّة، فخلع عليه العاضد، وأكرمه، فأخذ شاور يفتك بالغز على عادته، فكان من قتله ما ذكر في موضعه، وذلك في سابع عشر ربيع الآخر المذكور، وتقلد شيركوه وزارة العاضد، وقام بالدولة شهرين وخمسة أيام، ومات في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، ففوّض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب، فساس الأمور، ودبر لنفسه، فبذل الأموال، وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد. وأمر العاضد في نقصان، وصار يخطب من بعد العاضد للسلطان محمود نور الدين، وأقطع أصحابه البلاد، وأبعد أهل مصر، وأضعفهم، واستبدّ بالأمور، ومنع العاضد من التصرّف حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة إلى أن كان من واقعة العبيد ما ذكرنا،

فأبادهم وأفناهم، ومن حينئذ تلاشى العاضد، وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة فقط، هذا وصلاح الدين يوالي الطلب منه في كل يوم ليضعفه، فأتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك حتى لم يبق عند العاضد غير فرس واحد، فطلب منه، وألجأه إلى إرساله، وأبطل ركوبه من ذلك الوقت. وصار لا يخرج من القصر البتة، وتتبع صلاح الدين جند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم، فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر، وهدم دار المعونة بمصر، وعمرها مدرسة للشافعية، وأنشأ مدرسة أخرى للمالكية، وعزل قضاة مصر الشيعة، وقلد القضاء صدر الدين بن عبد الملك بن درباس الشافعيّ، وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله، فعزل سائر القضاة، واستتاب قضاة شافعية، فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعيّ رضي الله عنهما، واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر، وأخذ في غزو الفرنج، فخرج إلى الرملة، وعاد في ربيع الأوّل، ثم سار إلى أيلة، ونازل قلعتها، حتى أخذها من الفرنج في ربيع الآخر، ثم سار إلى الإسكندرية، ولمّ شعث سورها، وعاد وسير توران شاه «1» ، فأوقع بأهل الصعيد، وأخذ منهم ما لا يمكن وصفه كثرة، وعاد فكثر القول من صلاح الدين، وأصحابه في ذم العاضد، وتحدّثوا بخلعه، وإقامة الدعوة العباسية بالقاهرة ومصر، ثم قبض على سائر من بقي من أمراء الدولة، وأنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة، فأصبح في البلد من العويل والبكاء، ما يذهل، وتحكم أصحابه في البلد بأيديهم، وأخرج إقطاعات سائر المصريين لأصحابه، وقبض على بلاد العاضد، ومنع عنه سائر موادّه، وقبض على القصور، وسلمها إلى الطواشي بهاء الدين «2» قراقوش الأسديّ، وجعله زمامها، فضيق على أهل القصر، وصار العاضد معتقلا تحت يده، وأبطل من الأذان: حيّ على خير العمل، وأزال شعار الدولة، وخرج بالعزم على قطع خطبة العاضد، فمرض ومات، وعمره إحدى وعشرون سنة إلّا عشرة أيام منها في الخلافة إحدى عشرة سنة وستة أشهر وسبعة أيام، وذلك في ليلة يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة بعد قطع اسمه من الخطبة، والدعاء للمستنجد العباسيّ بثلاثة أيام، وكان كريما لين الجانب مرّت به مخاوف وشدائد، وهو آخر الخلفاء الفاطميين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهديّ إلى أن مات العاضد مائتي سنة واثنتين وسبعين سنة وأياما بالقاهرة، منها مائتان وثماني سنين، فسبحان الباقي.

ذكر ما كان عليه موضع القاهرة قبل وضعها

ذكر ما كان عليه موضع القاهرة قبل وضعها إعلم أن مدينة الإقليم منذ كان فتح مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه كانت مدينة الفسطاط المعروفة في زماننا بمدينة: مصر قبليّ القاهرة، وبها كان محل الأمراء، ومنزل ملكهم، وعاليها تجبى ثمرات الأقاليم، وتأوي الكافة، وكانت قد بلغت من وفور العمارة، وكثرة الناس وسعة الأرزاق والتفنن في أنواع الحضارة، والتأنق في النعيم ما أربت به على كل مدينة في المعمور حاشا بغداد، فإنها كانت سوق العالم، وقد زاحمتها مصر، وكادت أن تساميها إلّا قليلا، ثم لما انقضت الدولة الإخشيدية من مصر، واختلّ حال الإقليم بتوالي الغلوات، وتواتر الأوباء، والفنوات حدثت مدينة القاهرة عند قدوم جيوش المعز لدين الله أبي تميم معدّ أمير المؤمنين على يد عبده، وكاتبه القائد جوهر، فنزل حيث القاهرة الآن، وأناخ هناك، وكانت حينئذ رملة، فيما بين مصر وعين شمس يمرّ بها الناس عند مسيرهم من الفسطاط إلى عين شمس، وكانت فيما بين الخليج المعروف في أوّل الإسلام بخليج أمير المؤمنين، ثم قيل له خليج القاهرة، ثم هو الآن يعرف بالخليج الكبير، وبالخليج الحاكميّ، وبين الخليج المعروف باليحاميم، وهو الجبل الأحمر، وكان الخليج المذكور فاصلا بين الرملة المذكورة، وبين القرية التي يقال لها: أم دنين، ثم عرفت الآن بالمقس، وكان من يسافر من الفسطاط إلى بلاد الشام ينزل بطرف هذه الرملة في الموضع الذي كان يعرف بمنية الأصبغ، ثم عرف إلى يومنا بالخندق، وتمرّ العساكر والتجار، وغيرهم من منية الأصبغ إلى بني جعفر على غيفة وسلمنت إلى بلبيس، وبينها وبين مدينة الفسطاط أربعة وعشرون ميلا، ومن بلبيس إلى العلاقمة إلى الفرما، ولم يكن الدرب الذي يسلك في وقتنا من القاهرة إلى العريش في الرمل يعرف في القديم، وإنما عرف بعد خراب تنيس والفرما، وإزاحة الفرنج عن بلاد الساحل بعد تملكهم له مدّة من السنين، وكان من يسافر في البرّ من الفسطاط إلى الحجاز ينزل بجب عميرة المعروف اليوم ببركة الجب، وببركة الحاج، ولم يكن عند نزول جوهر بهذه الرملة فيها بنيان سوى أماكن هي بستان الإخشيد محمد بن ظفج المعروف اليوم بالكافوريّ من القاهرة، ودير للنصارى يعرف بدير: العظام، تزعم النصارى أنّ فيه بعض من أدرك المسيح عليه السلام، وبقي الآن بئر هذا الدير، وتعرف ببئر العظام والعامة تقول بئر العظمة، وهي بجوار الجامع الأقمر من القاهرة، ومنها ينقل الماء إليه، وكان بهذه الرملة أيضا مكان ثالث يعرف بقصيّر الشوك بصيغة التصغير تنزله بنو عذرة في الجاهلية، وصار موضعه عند بناء القاهرة يعرف بقصر الشوك من جملة القصور الزاهرة، هذا الذي اطلعت عليه أنه كان في موضع القاهرة قبل بنائها بعد الفحص والتفتيش، وكان النيل حينئذ بشاطئ المقس يمرّ من موضع الساحل القديم بمصر الذي هو الآن سوق المعاريج، وحمام طن والمراغة، وبستان الجرف، وموردة الحلفاء، ومنشأة

ذكر حد القاهرة

المهرانيّ على ساحل الحمراء، وهي موضع قناطر السباع، فيمرّ النيل بساحل الحمراء إلى المقس موضع جامع المقس الآن، وفيما بين الخليج، وبين ساحل النيل بساتين الفسطاط، فإذا صار النيل إلى المقس حيث الجامع الآن مرّ من هناك على طرف الأرض التي تعرف اليوم بأرض الطبالة من الموضع المعروف اليوم بالجرف، وصار إلى البعل، ومرّ على طرف منية الأصبغ من غربيّ الخليج إلى المنية، وكان فيما بين الخليج والجبل مما يلي بحريّ موضع القاهرة مسجد بني على رأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ثم مسجد تبر الإخشيديّ، فعرف بمسجد تبر، والعامّة تقول: مسجد التبن، ولم يكن الممرّ من الفسطاط إلى عين شمس، وإلى الحوف الشرقيّ، وإلى البلاد الشامية إلّا بحافة الخليج، ولا يكاد يمرّ بالرملة التي في موضعها الآن مدينة القاهرة كثير جدا، ولذلك كان بها دير للنصارى إلّا أنه لما عمر الإخشيد البستان المعروف: بالكافوريّ، أنشأ بجانبه ميدانا، وكان كثيرا ما يقيم به، وكان كافور أيضا يقيم به، وكان فيما بين موضع القاهرة، ومدينة الفسطاط مما يلي الخليج المذكور: أرض تعرف في القديم منذ فتح مصر بالحمراء القصوى، وهي موضع قناطر السباع، وجبل يشكر حيث الجامع الطولونيّ، وما دار به، وفي هذه الحمراء عدّة كنائس، وديارات للنصارى خربت شيئا بعد شيء إلى أن خرب آخرها في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وجميع ما بين القاهرة ومصر مما هو موجود الآن من العمائر، فإنه حادث بعد بناء القاهرة، ولم يكن هناك قبل بنائها شيء البتة، سوى كنائس الحمراء، وسيأتي بيان ذلك مفصلا في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ذكر حدّ القاهرة قال ابن عبد الظاهر في كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة الذي استقرّ عليه الحال أنّ حدّ القاهرة من مصر من السبع سقايات، وكان قبل ذلك من المجنونة إلى مشهد السيدة رقية عرضا، اهـ. والآن تطلق القاهرة على ما حازه السور الحجر الذي طوله من باب زويلة الكبير إلى باب الفتوح وباب النصر، وعرضه من باب سعادة، وباب الخوخة إلى باب البرقية والباب المحروق، ثم لما توسع الناس في العمارة بظاهر القاهرة، وبنوا خارج باب زويلة حتى اتصلت العمائر بمدينة فسطاط مصر، وبنوا خارج باب الفتوح، وباب النصر إلى أن انتهت العمائر إلى الريدانية، وبنوا خارج باب القنطرة إلى حيث الموضع الذي يقال له بولاق حيث شاطىء النيل، وامتدّوا بالعمارة من بولاق على الشاطئ إلى أن اتصلت بمنشأة المهرانيّ، وبنوا خارج باب البرقية، والباب المحروق إلى سفح الجبل بطول السور، فصار حينئذ العامر بالسكنى على قسمين: أحدهما يقال له: القاهرة، والآخر يقال له: مصر. فأما مصر: فإنّ حدّها على ما وقع عليه الاصطلاح في زمننا هذا الذي نحن فيه من حدّ أوّل قناطر السباع إلى طرف بركة الحبش القبليّ، مما يلي بساتين الوزير، وهذا هو

طول حدّ مصر، وحدّها في العرض من شاطىء النيل الذي يعرف قديما بالساحل الجديد حيث فم الخليج الكبير، وقنطرة السدّ إلى أوّل القرافة الكبرى. وأما حدّ القاهرة، فإنّ طولها من قناطر السباع إلى الريدانية، وعرضه من شاطىء النيل ببولاق إلى الجبل الأحمر، ويطلق على ذلك كله مصر والقاهرة، وفي الحقيقة قاهرة المعز التي أنشأها القائد جوهر عند قدومه من حضرة مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ إلى مصر في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة إنما هي ما دار عليه السور فقط غير أن السور المذكور الذي أداره القائد جوهر تغير، وعمل منذ بنيت إلى زمننا هذا ثلاث مرّات، ثم حدثت العمائر فيما وراء السور من القاهرة، فصار يقال لداخل السور: القاهرة، ولما خرج عن السور ظاهر القاهرة، وظاهر القاهرة أربع جهات: الجهة القبلية، وفيها الآن معظم العمارة، وحدّ هذه الجهة طولا من عتبة باب زويلة إلى الجامع الطولونيّ، وما بعد الجامع الطولونيّ، فإنه من حدّ مصر، وحدّها عرضا من الجامع الطيبرسيّ بشاطئ النيل غربيّ المريس إلى قلعة الجبل، وفي الاصطلاح الآن أن القلعة من حكم مصر، والجهة البحرية، وكانت قبل السبعمائة من سني الهجرة، وبعدها إلى قبيل الوباء الكبير فيها أكثر العمائر والمساكن، ثم تلاشت من بعد ذلك، وطول هذه الجهة من باب الفتوح، وباب النصر إلى الريدانية، وعرضها من منية الأمراء المعروفة في زمننا الذي نحن فيه بمنية الشيرج «1» إلى الجبل الأحمر، ويدخل في هذا الحدّ مسجد تبر والريدانية، والجهة الشرقية فإنها حيث ترب أهل القاهرة، ولم تحدث بها العمر من التربة إلا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وحدّ هذه الجهة طولا من باب القلعة المعروف بباب السلسلة إلى ما يحاذي مسجد تبر في سفح الجبل، وحدّها عرضا فيما بين سور القاهرة، والجبل والجهة الغربية، فأكثر العمائر بها لم يحدث أيضا إلّا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وإنما كانت بساتين وبحرا، وحدّ هذه الجهة طولا من منية الشيرج إلى منشأة المهرانيّ بحافة بحر النيل، وحدّها عرضا من باب القنطرة، وباب الخوخة وباب سعادة إلى ساحل النيل، وهذه الأربع جهات من خارج السور يطلق عليها: ظاهر القاهرة. وتحوي مصر والقاهرة من الجوامع، والمساجد، والربط والمدارس، والزوايا، والدور العظيمة، والمساكن الجليلة، والمناظر البهجة، والقصور الشامخة، والبساتين النضرة، والحمامات الفاخرة، والقياسر المعمورة بأصناف الأنواع، والأسواق المملوءة مما تشتهي الأنفس، والخانات المشحونة بالواردين، والفنادق الكاظة بالسكان والترب التي تحكي القصور ما لا يمكن حصره، ولا يعرف ما هو قدره إلا أن قدر ذلك بالتقريب الذي

ذكر بناء القاهرة وما كانت عليه في الدولة الفاطمية

يصدّقه الاختبار طولا بريدا «1» ، وما يزيد عليه، وهو من مسجد تبر إلى بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش، وعرضا يكون نصف بريد فما فوقه، وهو من ساحل النيل إلى الجبل، ويدخل في هذا الطول والعرض بركة الحبش، وما داربها وسطح الجرف المسمى: بالرصد، ومدينة الفسطاط التي يقال لها: مدينة مصر، والقرافة الكبرى والصغرى، وجزيرة الحصن المعروف اليوم: بالروضة، ومنشأة المهرانيّ، وقطائع ابن طولون التي تعرف الآن بحدرة ابن قميحة، وخط جامع ابن طولون والرميلة تحت القلعة، والقبيبات وقلعة الجبل والميدان الأسود الذي هو اليوم مقابر أهل القاهرة خارج باب البرقية إلى قبة النصر، والقاهرة المعزية، وهو ما دار عليه السور الحجر، والحسينية والريدانية، والخندق وكوم الريش، وجزيرة الفيل، وبولاق، والجزيرة الوسطى المعروفة بجزيرة أروى «2» ، وزريبة قوصون، وحكر ابن الأثير، ومنشأة الكاتب، والأحكار التي فيما بين القاهرة، وساحل النيل، وأراضي اللوق، والخليج الكبير الذي تسميه العامّة بالخليج الحاكميّ، والحبانية والصليبة والتبانة، ومشهد السيدة نفيسة، وباب القرافة، وأرض الطبالة، والخليج الناصريّ، والمقس والدكة، وغير ذلك مما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وقد أدركنا هذه المواضع، وهي عامرة، والمشيخة تقول: هي خراب بالنسبة لما كانت عليه قبل حدوث طاعون سنة تسع وأربعين وسبعمائة الذي يسميه أهل مصر: الفناء الكبير، وقد تلاشت هذه الأماكن، وعمها الخراب منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، ولله عاقبة الأمور. ذكر بناء القاهرة وما كانت عليه في الدولة الفاطمية وذلك أن القائد جوهر الكاتب: لمّا قدم الجيزة بعساكر مولاه الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ أقبل في يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وسارت عساكره بعد زوال الشمس، وعبرت الجسر أفواجا، وجوهر في فرسانه إلى المناخ الذي رسم له المعز موضع القاهرة الآن، فاستقرّ هناك، واختط القصر، وبات المصريون، فلما أصبحوا حضروا للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر بالليل، وكانت فيه ازورارات غير معتدلة، فلما شاهدها جوهر لم يعجبه، ثم قال: قد حفر في ليلة مباركة، وساعة سعيدة، فتركه على حاله، وأدخل فيه دير العظام، ويقال: إن القاهرة اختطها جوهر في يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة، سنة تسع وخمسين، واختطت كل قبيلة خطة عرفت بها: فزويلة بنت الحارة المعروفة بها، واختطت جماعة من أهل برقة الحارة البرقية، واختطت الروم حارتين: حارة الروم الآن، وحارة الروم الجوّانية بقرب باب النصر، وقصد

جوهر باختطاط القاهرة حيث هي اليوم أن تصير حصنا فيما بين القرامطة، وبين مدينة مصر ليقاتلهم من دونها، فأدار السور اللبن على مناخه الذي نزل فيه بعساكره، وأنشأ من داخل السور جامعا، وقصرا، وأعدّها معقلا يتحصن به، وتنزله عساكره، واحتفر الخندق من الجهة الشامية ليمنع اقتحام عساكر القرامطة إلى القاهرة، وما وراءها من المدينة، وكان مقدار القاهرة حينئذ أقل من مقدارها اليوم، فإن أبوابها كانت من الجهات الأربعة، ففي الجهة القبلية التي تفضي بالسالك منها إلى مدينة مصر: بابان متجاوران يقال لهما: بابا زويلة، وموضعهما الآن بحذاء المسجد الذي تسميه العامّة: بسام بن نوح، ولم يبق إلى هذا العهد سوى عقده، ويعرف باب القوس، وما بين باب القوس هذا، وباب زويلة الكبير ليس هو من المدينة التي أسسها القائد جوهر، وإنما هي زيادة حدثت بعد ذلك، وكان في جهة القاهرة البحرية، وهي التي يسلك منها إلى عين شمس بابان أحدهما، باب النصر، وموضعه بأوّل الرحبة التي قدّام الجامع الحاكميّ الآن، وأدركت قطعة منه كانت قدّام الركن الغربيّ من المدرسة القاصدية، وما بين هذا المكان، وباب النصر الآن مما زيد في مقدار القاهرة بعد جوهر، والباب الآخر من الجهة البحرية: باب الفتوح، وعقده باق إلى يومنا هذا، مع عضادته اليسرى، وعليه أسطر مكتوبة بالقلم الكوفيّ، وموضع هذا الباب الآن بآخر سوق المرحلين، وأوّل رأس حارة بهاء الدين مما يلي باب الجامع الحاكميّ، وفيما بين هذا العقد، وباب الفتوح من الزيادات التي زيدت في القاهرة من بعد جوهر، وكان في الجهة الشرقية من القاهرة، وهي الجهة التي يسلك منها إلى الجبل بابان: أحدهما يعرف الآن: بالباب المحروق، والآخر يقال له: باب البرقية، وموضعهما دون مكانهما إلى الآن ويقال لهذه الزيادة من هذه الجهة: بين السورين، وأحد البابين القديمين موجود إلى الآن اسكفته، وكان في الجهة الغربية من القاهرة، وهي المطلة على الخليج الكبير بابان أحدهما: باب سعادة، والآخر باب الفرج، وباب ثالث يعرف: بباب الخوخة، أظنه حدث بعد جوهر، وكان داخل سور القاهرة يشتمل على قصرين، وجامع يقال لأحد القصرين: القصر الكبير الشرقيّ، وهو منزل سكنى الخليفة، ومحل حرمه، وموضع جلوسه لدخول العساكر، وأهل الدولة، وفيه الدواوين وبيت المال، وخزائن السلاح، وغير ذلك، وهو الذي أسسه القائد جوهر، وزاد فيه المعز، ومن بعده من الخلفاء، والآخر تجاه هذا القصر، ويعرف: بالقصر الغربيّ، وكان يشرف على البستان الكافوريّ، ويتحوّل إليه الخليفة في أيام النيل للنزهة على الخليج، وعلى ما كان إذ ذاك بجانب الخليج الغربيّ من البركة التي يقال لها بطن البقرة، ومن البستان المعروف بالبغدادية، وغيره من البساتين التي كانت تتصل بأرض اللوق، وجنان الزهريّ، وكان يقال لمجموع القصرين: القصور الزاهرة، ويقال للجامع: جامع القاهرة، والجامع الأزهر. فأما القصر الكبير الشرقيّ: فإنه كان من باب الذهب الذي موضعه الآن محراب

المدرسة الظاهرية التي أنشأها الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ «1» ، وكان يعلو عقد باب الذهب منظرة يشرف الخليفة فيها من طاقات في أوقات معروفة، وكان باب الذهب هذا هو أعظم أبواب القصر، ويسلك من باب الذهب المذكور إلى باب البحر، وهو الباب الذي يعرف اليوم: بباب قصر بشتاك، مقابل المدرسة الكاملية، وهو من باب البحر إلى الركن المخلق، ومنه إلى باب الريح، وقد أدركنا منه عضادتيه، واسكفته، وعليها أسطر بالقلم الكوفيّ، وجميع ذلك مبنيّ بالحجر إلى أن هدمه الأمير الوزير المشير جمال الدين يوسف الإستادار، وفي موضعه الآن قيسارية أنشأها المذكور بجوار مدرسته من رحبة باب العيد، ويسلك من باب الريح المذكور إلى باب الزمرّذ، وهو موضع المدرسة الحجازية الآن، ومن باب الزمرّذ إلى باب العيد، وعقده باق، وفوقه قبة إلى الآن في درب السلامي بخط رحبة باب العيد، وكان قبالة باب العيد هذا رحبة عظيمة في غاية الاتساع تقف فيها العساكر الكثيرة من الفارس والراجل في يومي العيدين تعرف: برحبة العيد، وهي من باب الريح إلى خزانة البنود، وكان يلي باب العيد السفينة، وبجوار السفينة خزانة البنود، ويسلك من خزانة البنود إلى باب قصر الشوك، وأدركت منه قطعة من أحد جانبيه كانت تجاه الحمام التي عرفت بحمام الأيدمريّ، ثم قيل لها في زمننا: حمام يونس بجوار المكان المعروف: بخزانة البنود، وقد عمل موضع هذا الباب زقاق يسلك منه إلى المارستان العتيق، وقصر الشوك، ودرب السلامي وغيره، ويسلك من باب قصر الشوك إلى باب الديلم، وموضعه الآن المشهد الحسينيّ، وكان فيما قصر الشوك، وباب الديلم رحبة عظيمة تعرف برحبة قصر الشوك، أوّلها من رحبة خزانة البنود، وآخرها حيث المشهد الحسينيّ الآن، وكان قصر الشوك يشرف على اصطبل الطارمة، ويسلك من باب الديلم إلى باب تربة الزعفران، وهي مقبرة أهل القصر من الخلفاء، وأولادهم ونسائهم، وموضع باب تربة الزعفران فندق الخليليّ في هذا الوقت، ويعرف بخط الزراكشة العتيق، وكان فيما بين باب الديلم، وباب تربة الزعفران الخوخ السبع التي يتوصل منها الخليفة إلى الجامع الأزهر في ليالي الوقدات، فيجلس بمنظرة الجامع الأزهر، ومعه حرمه لمشاهدة الوقيد والجمع، وبجوار الخوخ السبع اصطبل الطارمة، وهو برسم الخيل الخاص المعدّة لركاب الخليفة، وكان مقابل باب الديلم، ومن وراء اصطبل الطارمة الجامع المعدّ لصلاة الخليفة بالناس أيام الجمع، وهو الذي يعرف في وقتنا هذا بالجامع الأزهر، ويسمى في كتب التاريخ: بجامع القاهرة، وقدّام هذا الجامع رحبة متسعة من حدّ اصطبل الطارمة إلى الموضع الذي يعرف اليوم: بالأكفانيين، ويسلك من باب تربة الزعفران إلى باب الزهومة، وموضعه الآن باب سرّ قاعة

مدرسة الحنابلة من المدارس الصالحية، وفيما بين تربة الزعفران، وباب الزهومة دراس العلم، وخزانة الدرق، ويسلك من من باب الزهومة إلى باب الذهب المذكور أوّلا، وهذا هو دور القصر الشرقيّ الكبير، وكان بحذاء رحبة باب العيد: دار الضيافة، وهي الدار المعروفة: بدار سعيد السعداء «1» التي هي اليوم: خانقاه للصوفية، ويقابلها: دار الوزارة، وهي حيث الزقاق المقابل لباب سعيد السعداء، والمدرسة القراسنقرية، وخانقاه بيبرس، وما يجاورها إلى باب الجوّانية، وما وراء هذه الأماكن، وبجوار دار الوزارة الحجر، وهي من حذاء دار الوزارة بجوار باب الجوّانية إلى باب النصر القديم، ومن وراء دار الوزارة: المناخ السعيد، ويجاوره حارة العطوفية، وحارة الروم الجوّانية، وكان جامع الخطبة الذي يعرف اليوم بجامع الحاكم خارجا عن القاهرة، وفي غربيه الزيادة التي هي باقية إلى اليوم، وكانت أهراء «2» لخزن الغلال التي تدّخر بالقاهرة، كما هي عادة الحصون، وكان في غربيّ الجامع الأزهر: حارة الديلم، وحارة الروم البرّانية، وحارة الأتراك، وهي تعرف اليوم: بدرب الأتراك، وحارة الباطلية، وفيما بين باب الزهومة، والجامع الأزهر، وهذه الحارات خزائن القصر، وهي خزانة الكتب، وخزانة الأشربة، وخزانة السروج، وخزانة الخيم، وخزائن الفرش، وخزائن الكسوات، وخزائن دار أفتكين، ودار الفطرة، ودار التعبية، وغير ذلك من الخزائن هذا ما كان في الجهة الشرقية من القاهرة. وأما القصر الصغير الغربيّ: فإنه موضع المارستان الكبير المنصوريّ إلى جوار حارة برجوان، وبين هذا القصر، وبين القصر الكبير الشرقيّ فضاء متسع يقف فيه عشرة آلاف من العساكر ما بين فارس وراجل يقال له: بين القصرين، وبجوار القصر الغربيّ الميدان، وهو الموضع الذي يعرف بالخرنشف، واصطبل الطارمة، وبحذاء الميدان البستان الكافوريّ المطل من غربيه على الخليج الكبير، ويجاور الميدان، دار برجوان العزيزيّ، وبحذائها رحبة الأفيال، ودار الضيافة القديمة، ويقال لهذه المواضع الثلاثة: حارة برجوان، ويقال دار برجوان المنحر، وموضعه الآن يعرف: بالدرب الأصفر، ويدخل إليه من قبالة خانقاه بيبرس، وفيما بين ظهر المنحر، وباب حارة برجوان سوق أمير الجيوش، وهو من باب حارة برجوان الآن إلى باب الجامع الحاكميّ، ويجاور حارة برجوان من بحريها اصطبل الحجرية، وهو متصل بباب الفتوح الأوّل، وموضع باب اصطبل الحجرية يعرف اليوم: بخان الوراقة، والقيسارية تجاه الجملون الصغير، وسوق المرحلين، وتجاه اصطبل الحجرية الزيادة، وفيما بين الزيادة والمنحر درب الفرنجية.

وبجوار البستان الكافوري حارة زويلة، وهي تتصل بالخليج الكبير من غربيها، وتجاه حارة زويلة اصطبل الجميزة، وفيه خيول الخليفة أيضا، وفي هذا الاصطبل بئر زويلة، وموضعها الآن قيسارية معقودة على البئر المذكورة يعلوها ربع يعرف: بقيسارية يونس من خط البندقانيين، فكان اصطبل الجميزة المذكور فيما بين القصر الغربيّ من بحريه، وبين حارة زويلة، وموضعه الآن قبالة باب سرّ المارستان المنصوريّ إلى البندقانيين، وبحذاء القصر الغربيّ من قبيلة مطبخ القصر تجاه باب الزهومة المذكور، والمطبخ موضعه الآن الصاغة قبالة المدارس الصالحية، وبجوار المطبخ الحارة العدوية، وهي من الموضع الذي يعرف بحمام خشيبة إلى حيث الفندق الذي يقال له فندق الزمام، وبجوار العدوية، حارة الأمراء، ويقال لها اليوم: سوق الزجاجين، وسوق الحريريين الشراربيين. ويجاور الصاغة القديمة: حبس المعونة، وهو موضع قيسارية العنبر، وتجاه حبس المعونة، عقبة الصباغين، وسوق القشاشين، وهو يعرف اليوم: بالخرّاطين، ويجاور حبس المعونة دكة الحسبة، ودار العيار، ويعرف موضع دكة الحسبة الآن، بالإبزاريين، وفيما بين دكة الحسبة وحارتي الروم والديلم: سوق السرّاجين، ويقال له الآن: الشوّايين، وبطرف سوق السرّاجين مسجد ابن البناء الذي تسميه العامّة: سام بن نوح، ويجاور هذا المسجد: باب زويلة، وكان من حذاء حارة زويلة من ناحية باب الخوخة: دار الوزير يعقوب بن كلس، وصارت بعده: دار الديباج، ودار الاستعمال وموضعها الآن المدرسة الصالحية، وما وراءها ويتصل دار الديباج بالحارة الوزيرية، وإلى جانب الوزيرية: الميدان الآخر إلى باب سعادة، وفيما بين باب سعادة وباب زويلة أهراء أيضا وسطاح. هذا ما كانت عليه صفة القاهرة في الدولة الفاطمية، وحدّثت هذه الأماكن شيئا بعد شيء، ولم تزل القاهرة دار خلافة، ومنزل ملك، ومعقل قتال لا ينزلها إلّا الخليفة وعساكره، وخواصه الذين يشرّفهم بقربه فقط. وأما ظاهر القاهرة من جهاتها الأربع: فإنه كان في الدولة الفاطمية على ما أذكر. أما الجهة القبلية: وهي التي فيما بين باب زويلة ومصر طولا، وفيما بين الخليج الكبير والجبل عرضا، فإنها كانت قسمين: ما حاذى يمينك إذا خرجت من باب زويلة تريد مصر، وما حاذى شمالك إذا خرجت منه نحو الجبل، فأما: ما حاذى يمينك، وهي المواضع التي تعرف اليوم بدار التفاح، وتحت الربع والقشاشين، وقنطرة باب الخرق، وما على حافتي الخليج من جانبيه طولا إلى الحمراء التي يقال لها اليوم: خط قناطر السباع، ويدخل في ذلك سويقة عصفور، وحارة الحمزيين، وحارة بني سوس إلى الشارع، وبركة الفيل، والهلالية والمحمودية إلى الصليبة، ومشهد السيدة نفيسة، فإنّ هذه الأماكن كلها كانت بساتين تعرف بجنان الزهريّ، وبستان سيف الإسلام، وغير ذلك، ثم حدث في الدولة

هناك حارات للسودان، وعمر الباب الجديد، وهو الذي يعرف اليوم بباب القوس من سوق الطيور في الشارع عند رأس «1» ، وحدثت الحارة الهلالية، والحارة المحمودية، وأما: ما حاذى شمالك حيث الجامع المعروف: بجامع الصالح، والدرب الأحمر إلى قطائع ابن طولون التي هي الآن الرميلة، والميدان تحت القلعة فإن ذلك كان مقابر أهل القاهرة. وأما جهة القاهرة الغربية: وهي التي فيها الخليج الكبير، وهي من باب القنطرة إلى المقس، وما جاور ذلك، فإنها كانت بساتين من غربيها النيل، وكان ساحل النيل بالمقس حيث الجامع الآن، فيمرّ من المقس إلى المكان الذي يقال له الجرف، ويمضي على شماليّ أرض الطبالة إلى البعل، وموضع كوم الريش إلى المنية، ومواضع هذه البساتين اليوم أراضي اللوق والزهري، وغيرها من الحكورة التي في برّ الخليج الغربيّ إلى بركة قرموط، والخور، وبولاق، وكان فيما بين باب سعادة، وباب الخوخة، وباب الفرج، وبين الخليج فضاء لا بنيان فيه، والمناظر تشرف على ما في غربيّ الخليج من البساتين التي وراءها بحر النيل، ويخرج الناس فيما بين المناظر والخليج للنزهة، فيجتمع هناك من أرباب البطالة، واللهو ما لا يحصى عددهم، ويمرّ لهم هنالك من اللذات والمسرّات ما لا تسع الأوراق حكايته خصوصا في أيام النيل عند ما يتحوّل الخليفة إلى اللؤلؤة، ويتحوّل خاصته إلى دار الذهب، وما جاورها، فإنه يكثر حينئذ الملاذ بسعة الأرزاق، وإدرار النعم في تلك المدّة، كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وأما جهة القاهرة البحرية، فإنها كانت قسمين: خارج باب الفتوح، وخارج باب النصر، أما خارج باب الفتوح: فإنه كان هناك منظرة من مناظر الخلفاء، وقدّامها البستانان الكبيران، وأوّلهما من زقاق الكحل، وآخرهما منية مطر التي تعرف اليوم: بالمطرية، ومن غربيّ هذه المنظرة في جانب الخليج الغربيّ منظرة البعل فيما بين أرض الطبالة، والخندق، وبالقرب منها مناظر الخمس وجوه، والتاج ذات البساتين الأنيقة المنصوبة لتنزه الخليفة، وأما خارج باب النصر: فكان به مصلى العيد التي عمل من بعضها مصلى الأموات لا غير، والفضاء من المصلى إلى الريدانية، وكان بستانا عظيما، ثم حدث فيما خرج من باب النصر تربة أمير الجيوش بدر الجمالي، وعمر الناس الترب بالقرب منها، وحدث فيما خرج عن باب الفتوح عمائر منها: الحسينية، وغيرها. وأما جهة القاهرة الشرقية، وهي ما بين السور والجبل، فإنه كان فضاء ثم أمر الحاكم بأمر الله أن تلقى أتربة القاهرة من وراء السور، لتمنع السيول أن تدخل إلى القاهرة، فصار منها الكيمان التي تعرف بكيمان البرقية، ولم تزل هذه الجهة خالية من العمارة إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية، فسبحان الباقي بعد فناء خلقه.

ذكر ما صارت إليه القاهرة بعد استيلاء الدولة الأيوبية عليها

ذكر ما صارت إليه القاهرة بعد استيلاء الدولة الأيوبية عليها قد تقدّم أن القاهرة إنما وضعت منزل سكنى للخليفة، وحرمه، وجنده، وخواصه، ومعقل قتال يتحصن بها، ويلتجأ إليها، وإنها ما برحت هكذا حتى كانت السنة العظمى في خلافة المستنصر، ثم قدم أمير الجيوش بدر الجمالي، وسكن القاهرة، وهي يباب دائرة خاوية على عروشها غير عامرة، فأباح للناس من العسكرية، والملحية، والأرمن، وكل من وصلت قدرته إلى عمارة بأن يعمر ما شاء في القاهرة مما خلا من فسطاط مصر، ومات أهله، فأخذ الناس ما كان هناك من أنقاض الدور، وغيرها، وعمروا به المنازل في القاهرة، وسكنوها فمن حينئذ سكنها أصحاب السلطان إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية باستيلاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي في سنة سبع وستين وخمسمائة. فنقلها عما كانت عليه من الصيانة، وجعلها مبتذلة لسكن العامّة والجمهور، وحط من مقدار قصور الخلافة، وأسكن في بعضها، وتهدّم البعض، وأزيلت معالمه، وتغيرت معاهده، فصارت خططا وحارات، وشوارع ومسالك، وأزقة، ونزل السلطان منها في دار الوزارة الكبرى حتى بنيت قلعة الجبل، فكان السلطان صلاح الدين يتردّد إليها، ويقيم بها، وكذلك ابنه الملك العزيز عثمان، وأخوه الملك العادل، أبو بكر، فلما كان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب تحوّل من دار الوزارة إلى القلعة، وسكنها ونقل سوق الخيل والجمال والحمير إلى الرميلة تحت القلعة، فلما خرب المشرق والعراق بهجوم عساكر التتر منذ كان جنكيزخان في أعوام بضع عشرة وستمائة إلى أن قتل الخليفة المستعصم ببغداد في صفر سنة ست وخمسين وستمائة، كثر قدوم المشارقة إلى مصر، وعمرت حافتي الخليج الكبير، وما دار على بركة الفيل، وعظمت عمارة الحسينية، فلما كانت سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاون الثالثة بعد سنة إحدى عشرة وسبعمائة، واستجدّ بقلعة الجبل المباني الكثيرة من القصور وغيرها، حدثت فيما بين القلعة وقبة النصر عدّة ترب بعد ما كان ذلك المكان فضاء يعرف: بالميدان الأسود وميدان القبق، وتزايدت العمائر بالحسينية، حتى صارت من الريدانية إلى باب الفتوح، وعمر جميع ما حول بركة الفيل، والصليبة إلى جامع ابن طولون، وما جاوره إلى المشهد النفيسيّ، وحكر الناس أرض الزهريّ، وما قرب منها، وهو من قناطر السباع إلى منشاة المهرانيّ، ومن قناطر السباع إلى البركة الناصرية إلى اللوق إلى المقس، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ اتسعت الخطة فيما بين المقس، والدكة إلى ساحل النيل، وأنشأ الناس فيها البساتين العظيمة، والمساكن الكثيرة، والأسواق والجوامع والمساجد، والحمامات والشون، وهي من المواضع التي من باب البحر خارج المقس إلى ساحل النيل المسمى

ببولاق، ومن بولاق إلى منية الشيرج، ومنه في القبلة إلى منشأة المهرانيّ، وعمر ما خرج عن باب زويلة يمنة ويسرة من قنطرة الخرق إلى الخليج، ومن باب زويلة إلى المشهد النفيسيّ، وعمرت القرافة من باب القرافة إلى بركة الحبش طولا، ومن القرافة الكبرى إلى الجبل عرضا، حتى أنه استجدّ في أيام الناصر بن قلاون بضع وستون حكرا، ولم يبق مكان يحكر، واتصلت عمائر مصر والقاهرة، فصارا بلدا واحدا يشتمل على البساتين والمناظر والقصور، والدور والرباع، والقياسر، والأسواق، والفنادق، والخانات، والحمامات، والشوارع، والأزقة، والدروب، والخطط والحارات، والأحكار والمساجد، والجوامع، والزوايا والربط، والمشاهد والمدارس، والترب والحوانيت، والمطابخ والشون، والبرك والخلجان والجزائر والرياض، والمنتزهات متصلا جميع ذلك بعضه ببعض من مسجد تبر إلى بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش، ومن شاطىء النيل بالجيزة إلى الجبل المقطم، وما زالت هذه الأماكن في كثرة العمارة، وزيادة العدد تضيق بأهلها لكثرتها، وتختال عجبا بهم لما بالغوا في تحسينها، وتأنقوا في جودتها، وتنميقها إلى أن حدث الفناء الكبير في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فخلا كثير من هذه المواضع، وبقي كثير أدركناه، فلما كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة، وقصر جري النيل في مدّة، وخربت البلاد الشامية بدخول الطاغية تيمور لنك، وتحريقها، وقتل أهلها وارتفاع أسعار الديار المصرية، وكثرة الغلاء فيها، وطول مدّته، وتلاف النقود المتعامل بها، وفسادها، وكثرة الحروب والفتن بين أهل الدولة، وخراب الصعيد، وجلاء أهله عنه، وتداعى أسفل أرض مصر من البلاد الشرقية والغربية إلى الخراب، واتضاع أمور ملوك مصر، وسوء حال الرعية، واستيلاء الفقر والحاجة والمسكنة على الناس، وكثرة تنوّع المظالم الحادثة من أرباب الدولة بمصادرة الجمهور، وتتبع أرباب الأموال، واحتجاب ما بأيديهم من المال بالقوّة والقهر والغلبة، وطرح البضائع مما يتجر فيه السلطان، وأصحابه على التجار والباعة بأغلى الأثمان إلى غير ذلك مما لا يتسع لأحد ضبطه، ولا تسع الأوراق حكايته، كثر الخراب بالأماكن التي تقدّم ذكرها، وعمّ سائرها، وصارت كيمانا، وخرائب موحشة مقفرة يأويها البوم والرخم أو مستهدمة واقعة، أو آئلة إلى السقوط والدثور، سنة الله التي قد خلت في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

ذكر طرف مما قيل في القاهرة ومنتزهاتها

ذكر طرف مما قيل في القاهرة ومنتزهاتها قال أبو الحسن عليّ بن رضوان الطبيب: ويلي الفسطاط في العظم، وكثرة الناس القاهرة، وهي في شمال الفسطاط، وفي شرقيها أيضا الجبل المقطم يعوق عنها ريح الصبا، والنيل منها أبعد قليلا، وجميعها مكشوف للهواء، وإن كان عمل فوق ربما عاق عن بعض ذلك، وليس ارتفاع الأبنية بها كارتفاع الفسطاط، لكن دونها كثيرا، وأزقتها وشوارعها بالقياس إلى أزقة الفسطاط، وشوارعها أنظف، وأقل وسخا، وأبعد عن العفن، وأكثر شرب أهلها من مياه الآبار، وإذا هبت ريح الجنوب أخذت من بخار الفسطاط على القاهرة شيئا كثيرا، وقرب مياه آبار القاهرة من وجه الأرض مع سخافتها موجب ضرورة أن تكون يصل إليها بالرشح من عفونة الكتف شيء ما، وبين القاهرة والفسطاط بطائح تمتلىء من رشح الأرض في أيام فيض النيل، ويصب فيها بعض خرّارات القاهرة، ومياه البطائح هذه رديئة وسخة أرضها، وما يصب فيها من العفونة يقتضي أن يكون البخار المرتفع منها على القاهرة، والفسطاط زائدا في رداءة الهواء بهما، ويطرح في جنوب القاهرة قذر كثير نحو حارة الباطلية، وكذلك يطرح في وسط حارة العبيد إلّا أنه إذا تأمّلنا حال القاهرة، كانت بالإضافة إلى الفسطاط أعدل وأجود هواء، وأصلح حالا، لأنّ أكثر عفوناتهم ترمى خارج المدينة والبخار ينحل منها أكثر، وكثير أيضا من أهل القاهرة يشرب من ماء النيل، وخاصة في أيام دخوله الخليج، وهذا الماء يستقى بعد مروره بالفسطاط، واختلاطه بعفوناتها. قال: وقد اقتصر أمر الفسطاط والجيزة والجزيرة، فظاهر أن أصح أجزاء المدينة الكبرى: القرافة، ثم القاهرة، والشرف، وعمل فوق مع الحمراء والجيزة، وشمال القاهرة أصح من جميع هذه لبعده عن بخار الفسطاط، وقربه من الشمال، وأرقى موضع في المدينة الكبرى هو ما كان من الفسطاط حول الجامع العتيق إلى ما يلي النيل، والسواحل، وإلى جانب القاهرة من الشمال الخندق، وهو في غور فهو يتغير أبدا لهذا السبب، فأما المقس فمجاورته للنيل تجعله أرطب. وقال ابن سعيد في كتاب المعرب في حلي المغرب عن البيهقيّ: وأما مدينة القاهرة، فهي الحالية الباهرة التي تفنن فيها الفاطميون، وأبدعوا في بنائها، واتخذوها وطنا لخلافتهم، ومركزا لأرجائها، فنسي الفسطاط، وزهد فيه بعد الاغتباط.

قال: وسميت القاهرة، لأنها تقهر من شذّ عنها، ورام مخالفة أميرها، وقدّروا أن منها يملكون الأرض، ويستولون على قهر الأمم، وكانوا يظهرون ذلك، ويتحدّثون به. قال ابن سعيد: هذه المدينة اسمها أعظم منها، وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته، لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين، وكان سلطانه، قد عمّ جميع طول المغرب من أوّل الديار المصرية إلى البحر المحيط، وخطب له في البحرين من جزيرة عند القرامطة، وفي مكة والمدينة، وبلاد اليمن، وما جاورها، وقد علت كلمته، وسارت مسير الشمس في كل بلدة، وهبت الريح في البرّ والبحر، لا سيما، وقد عاين مباني أبيه المنصور في مدينة المنصورية «1» التي إلى جانب القيروان، وعاين المهدية «2» مدينة جدّه عبيد الله المهديّ لكن الهمة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة، وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار ولله درّ القائل: هم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشأن واهتم من بعد الخلفاء المصريون بالزيادة في تلك القصور، وقد عاينت فيها إيوانا يقولون: إنه بني على قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن، وكان يجلس فيه خلفاؤهم، ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبان عظيمة جليلة الآثار، وأبصرت في قصورهم حيطانا عليها طاقات عديد من الكلس والجبس، ذكر لي أنهم كانوا يجدّدون تبييضها في كل سنة، والمكان المعروف في القاهرة ببين القصرين هو من الترتيب السلطانيّ، لأنّ هناك ساحة متسعة للعسكر، والمتفرّجين ما بين القصرين، ولو كانت القاهرة عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية، ولكن ذلك أمد قليل، ثم تسير منه إلى أمد ضيق، وتمرّ في ممرّ كدر حرج بين الدكاكين إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان ذلك ما تضيق منه الصدور، وتسخن منه العيون، ولقد عاينت يوما وزير الدولة، وبين يديه أمراء الدولة، وهو في موكب جليل، ولقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة، وقد سدّت جميع الطرق بين يدي الدكاكين، ووقف الوزير وعظم الازدحام، وكان في موضع طباخين والدخان في وجه الوزير، وعلى ثيابه، وقد كاد يهلك المشاة، وكدت أهلك في جملتهم. وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب، والأزبال، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيقت مسلك الهواء والضوء بينهما، ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ

حالا منها في ذلك، ولقد كنت إذا مشيت فيها بضيق صدري، ويدركني وحشة عظيمة حتى أخرج إلى بين القصرين. ومن عيوب القاهرة: أنها في أرض النيل الأعظم، ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النيل لئلا يصادرها، ويأكل ديارها، وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف: بالمقس، وجوّها لا يبرح كدرا، بما تثيره الأرجل من التراب الأسود، وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفاقي من الحض على العود فيها: يقولون سافر إلى القاهرة ... وما لي بها راحة ظاهره زحام وضيق وكرب وما ... تثير بها أرجل السائره وعند ما يقبل المسافر عليها، يرى سورا أسود كدرا، وجوّا مغبرّا، فتنقبض نفسه، ويفرّ أنسه، وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة، لا سيما أرض القرط والكتان فقلت: سقى الله أرضا كلما زرت أرضها ... كساها وحلّاها بزينته القرط تجلت عروسا والمياه عقودها ... وفي كل قطر من جوانبها قرط وفيها خليج لا يزال يضعف بين خضرتها حتى يصير كما قال الرصافي: ما زالت الأنحال تأخذه ... حتى غدا كذؤابة النجم وقلت في نوّار الكتان على جانبي هذا الخليج: انظر إلى النهر والكتان يرمقه ... من جانبيه بأجفان لها حدق رأته سيفا عليه للصبا شطب ... فقابلته بأحداق بها أرق وأصبحت في يد الأرواح تنسجها ... حتى غدت حلقا من فوقها حلق فقم وزرها ووجه الأفق متضح ... أو عند صفرته إن كنت تغتبق وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر، والمناظرة فوقها كالنجوم، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل، وتسرج أصحاب المناظر على قدر همتهم، وقدرتهم فيكون بذلك لها منظر عجيب وفيها أقول: انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظر كالأهداب للبصر كأنما هي والأبصار ترمقها ... كواكب قد أداروها على القمر ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت:

انظر إلى بركة الفيل التي نحرت ... لها الغزالة نحرا من مطالعها «1» وخل طرفك مجنونا ببهجتها ... تهيم وجدا وحبا في بدائعها والفسطاط أكثر أرزاقا، وأرخص أسعارا من القاهرة لقرب النيل من الفسطاط، فالمراكب التي تصل بالخيرات تحط هناك، ويباع ما يصل فيها بالقرب منها، وليس يتفق ذلك في ساحل القاهرة، لأنه بعيد عن المدينة، والقاهرة هي أكثر عمارة، واحتراما وحشمة من الفسطاط، لأنها أجلّ مدارس، وأضخم خانات، وأعظم دثارا لسكنى الأمراء فيها لأنها المخصوصة بالسلطنة لقرب قلعة الجبل منها، فأمور السلطنة كلها فيها أيسر، وأكثر، وبها الطراز وسائر الأشياء التي تتزين بها الرجال والنساء، إلّا أنّ في هذا الوقت لما اعتنى السلطان الآن ببناء قلعة الجزيرة التي أمام الفسطاط، وصيرها سرير السلطنة عظمت عمارة الفسطاط، وانتقل إليها كثير من الأمراء، وضخمت أسواقها وبنى فيها للسلطان أمام الجسر الذي للجزيرة قيسارية عظيمة تنقل إليها من القاهرة سوق الأجناد التي يباع فيها الفراء والجوخ، وما أشبه ذلك. ومعاملة القاهرة والفسطاط بالدراهم المعروفة بالسوداء، كل درهم منها ثلث من الدرهم الناصريّ، وفي المعاملة بها شدّة وخسارة في البيع والشراء، ومخاصمة مع الفريقين، وكان بها في القديم الفلوس، فقطعها الملك الكامل فبقيت إلى الآن مقطوعة منها، وهي في الإقليم الثالث، وهواءها رديء لا سيّما إذا هبّ المريسي من جهة القبلة، وأيضا رمد العين فيها كثير، والمعايش فيها متعذرة نزرة، لا سيّما أصناف الفضلاء وجوامك المدارس قليلة كدرة، وأكثر ما يتعيش بها اليهود والنصارى في كتابة الخراج والطب، والنصارى بها يمتازون بالزنار في أوساطهم، واليهود بعلامة صفراء في عمائمهم، ويركبون البغال، ويلبسون الملابس الجليلة، ومآكل أهل القاهرة الدميس، والصير، والصحناة، والبطارخ، ولا تصنع النيدة، وهي حلاوة القمح إلا بها وبغيرها من الديار المصرية، وفيها جوار طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين لهنّ في الطبخ صناعة عجيبة ورياسة متقدّمة، ومطابخ السكر، والمطابخ التي يصنع فيها الورق المنصوري مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة، ويصنع فيها من الأنطاع المستحسنة، ما يسفر إلى الشام وغيرها، ولها من الشروب الدمياطية وأنواعها، ما اختصت به، وفيها صناع للقسيّ كثيرون متقدّمون، ولكن قسيّ دمشق بها يضرب المثل وإليها النهاية، ويسفر من القاهرة إلى الشام ما يكون من أنواع الكمرانات، وخرائط الجلد، والسيور، وما أشبه ذلك وهي الآن عظيمة آهلة يجبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال، ولا ترسيما وعذابا، ولا يطلب برفيق له إذا مات فيقال له: ترك عندك مالا، فربما سجن في شأنه أو ضرب وعصر، والفقير

المجرّد فيها مستريح من جهة رخص الخبز وكثرته، ووجود السماعات، والفرج في ظواهرها ودواخلها، وقلة الاعتراض عليه، فيما تذهب إليه نفسه يحكم فيها كيف شاء من رقص في السوق أو تجريد، أو سكر من حشيشة أو غيرها أو صحبة المردان، وما أشبه ذلك بخلاف غيرها من بلاد المغرب، وسائر الفقراء لا يعترضون بالقبض للأسطول إلّا المغاربة، فذلك وقف عليهم لمعرفتهم بمعاناة البحر، فقد عمّ ذلك من يعرف معاناة البحر منهم، ومن لا يعرف، وهم في القدوم عليها بين حالين إن كان المغربيّ غنيا طولب بالزكاة، وضيقت عليه أنفاسه حتى يفرّ منها، وإن كان مجرّدا فقيرا حمل إلى السجن حتى يجيء وقت الأسطول، وفي القاهرة أزاهير كثيرة غير منقطعة الاتصال، وهذا الشأن في الديار المصرية تفضل به كثيرا من البلاد، وفي اجتماع النرجس والورد فيها أقول: من فضل النرجس وهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس أما ترى الورد غدا قاعدا ... وقام في خدمته النرجس وأكثر ما فيها من الثمرات والفواكه: الرمان والموز والتفاح، وأما الإجاص فقليل غال، وكذلك الخوخ، وفيها الورد والنرجس والنسرين واللينوفر والبنفسج والياسمين والليمون الأخضر والأصفر، وأما العنب والتين فقيل غال ولكثرة ما يعصرون العنب في أرياف النيل لا يصل منه إلا القليل، ومع هذا فشراؤه عندهم في نهاية الغلاء، وعامّتها يشربون المزر الأبيض المتخذ من القمح، حتى أن القمح يطلع عندهم سعره بسببه، فينادي المنادي من قبل الوالي بقطعه، وكسر أوانيه، ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر، ولا آلات الطرب ذوات الأوتار، ولا تبرّج النساء العواهر، ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها من بلاد المغرب، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر، ومعظم عمارته فيما يلي القاهرة، فرأيت فيه من ذلك العجائب، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر، فيمنع فيه الشرب، وذلك في بعض الأحيان، وهو ضيق عليه في الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم الطرب والتهكم، والمخالفة حتى إنّ المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب، وللسرج في جانبيه الليل منظر فتان، وكثيرا ما يتفرّج فيه أهل الستر بالليل، وفي ذلك أقول: لا تركبن في خليج مصر ... إلا إذا أسدل الظلام فقد علمت الذي عليه ... من عالم كلهم طغام صفان للحرب قد أظلا ... سلاح ما بينهم كلام يا سيدي لا تسر إليه ... إلا إذا هوّم النيام والليل ستر على التصابي ... عليه من فضله لثام والسرج قد بدّدت عليه ... منها دنانير لا ترام وهو قد امتدّ والمباني ... عليه في خدمة قيام لله كم دوحة جنينا ... هناك أثمارها الآثام

انتهى. وفيه تحامل كثير. وقال زكي الدين الحسين من رسالة كتبها من مصر في شهر رجب سنة اثنتين وستين وسبعمائة إلى أخيه، وهو بدمشق يتشوّق إليها، ويذكر ما فيها من المواضع، والمنتزهات، ويذم من مصر بقوله: فكيف يبقى لمن حلّ في جنة النعيم ورياضها، ويرتع في ميادين المسرّات، وغياضها تلفت إلى من سلمته يد الأقدار إلى أرض ليست بذات قرار، وبدّلوا بجنتهم ذات البان المتفاوح، والورق المتصادح، والنشر المتقادح، والماء المطلق المسلسل، والنسيم الصحيح العليل جنتين ذواتي أكل خمط «1» ، وأثل وشيء من سدر قليل، وتقصدتهم يد القضاء، فأخذتهم بالبأساء والضرّاء، وأوقعتهم بمصر وشموسها، وحميمها وغمومها، وحزونها، ووعورها، وحرورها، وزفيرها، وسعيرها، وكيمانها، ونيرانها، وسودانها، وفلاحيها، وملاحيها، ومشاربها، ومساربها، ومسالكها، ومهالكها، وصحناتها، وعصفورها، وبوريها، وصقورها، ومخاوف نوروها، وحرارة تموزها، ودارس طلولها، ورائس أسطولها، وتعكر مائها، وتكدّر هوائها، فلو تراهم في أرجائها القصوى كالأباعر الهمل، وهم يصطخرون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل. فأجابه من دمشق بكتاب من جملته على لسان دمشق، كأنها تخاطبه: ويا أيها الولد العزيز كيف سمحت فطرتك السليمة، ومروءتك الكريمة، وسيرتك المستقيمة، وصبرك المحافظ، ودينك المراقب الملاحظ بذم من جنيت نعمها، وسكنت حرمها، وقلت مصر وشموسها، وسقت عليها القول من كل جانب، واستعرت لها التكدير حتى في المشارب والمسارب، وهلا ذكرتها، وقد باكرها نيل نيل النعيم، بمغيثة بليل النسيم بكأس من تسنيمه، وطما البحر عليها زاخرا، فأغناها عن بكاء السحاب وتجهيمه، وعمّ معظم أرضها، وعبّ عبابه في طولها وعرضها، حتى كاد يعلو رفيع قصورها، ويتسوّر بسورته شامخ سورها، ومع ذا لا تراه جسورا على ضعاف جسورها، وقد طبق التهائم والأنجاد، وغرّق الآكام والوهاد، وعلا أعلى الصعيد والصعاد، وأعاد البرّ سلطانه بحرا بالازدياد، فإذا ارتوى أوام «2» أكباد البلاد، وروى السهل والوعر والهضاب والوهاد، وذهب إملاق الأرض بكل ملقة وخليج، وانجاب عنها فاهتزت وربت وأنبتت من كلزوج بهيج، بدت روضة نضرة بأملاق مقطعة، كزمرّذة أخضر بلآل مرصعة، فكم من غدير مستدير كبدر منير، ودقيق مستطيل كسيف صقيل، وكم من قليب قلاب بماء كجلاب، وكم من عظيم بركة حرّكها النسيم بلطفه، وطيبها عبير عنبرها، فضمّخها بكفه، وزهت بزهو نيلوفرها، فعرّفها بعرفه، وكم ترى من ملقة لبقة، عليها عيون النرجس محدّقة، كصحن خدّ عروس منمقة، والنوّار

قد دارت بمدام الندى كؤوسه، وجالت في مراح الأفراح نفوسه، ونجم نجمه وابتسم عروسه، وسامره الرذاذ المنهل، وباكره الطل، فكلله بلؤلؤه وقلده، وزاره النسيم المعتل فأقامه وأقعده، ونمق أرضه وروضه، فذهّبه وفضّضه، قد تاهت برياضها الغناء، وزهت بزخرفها وزينتها الحسناء، وامتدّ بساطها الزمرّدي، وانبسط مدادها الزبرجدي، فلا يدرك أقصاه ناظر مسافر، ولا يحيط بمنتهاه خيال ولا خاطر، فلله درّها من روضة مرن، وكعبة حسن، ومقطعات بماء غير آسن، وحرم بحر لحجاج طيره آمن، آتاها حجيج الطير من كل فج عميق، ملبيا داعي حسنها من كل مكان سحيق، قد امتطى ركبها متون الرياح، وعلا جثمانها عالم الأرواح، ووصلن الإدلاج بالصباح، وقطعن أجناح الليل بخفاق الجناح، كأنهن الدراري السواري، أو المنشآت الجواري، أو المطايا المهاري: تواصل من جوّ حوائض نيله ... صعود على حكم الطريق نزول رفاق تعاهدن على الوفاء، وتحالفن على النعماء والبلاء، خرجن مهاجرات من الأوطان ألوفا، وقدمن صافات كالمصلين صفوفا، يقدمهن دليل كأنه إمام، قد قتل طرق الآفاق خبرا واستوى لديه الإضواء والإظلام، أبصر من زرقاء اليمامة، وأطير من الورقاء والهامة، وأهدى من النجم، وأشدّ من السهم، يتناجين بلغات أعجميات، سبحات بألحان مطربات، فطفن في حرمها الآمن، واعتمرن بتلك المحاسن، فتراها عند إقبال نوّها، وحومها في جوّها، ما تستقيم خطا مستقيما، وإن كانت تصطف صفا عظيما، فمنها ما يستهل هلالا، ومنها ما يحكي بنات نعس حالا، ومنها ما ينثني بإدلاله دالا، ومنها ما يخط نونا نونا، فيحكي حاجبا مقرونا، ومنها ما يكتب زينا، فيعيدها عينا، ومنها ما يصوّر ميم الهجاء، فيشاهد مبسم السماء، ومنها ما يأتي زرافات ووحدانا، فيبدع في إعجابه حسنا وإحسانا، فكم من حبل أوز معلق بالسماء، يحلق إلى ذلك الماء، وأوانس عرّيسات، أنيسات كيّسات وصور صور، كأمثال حور، وطير لغلغ «1» ، مكتس بديباج مصبغ، وجليل حبرج «2» ، كعلج متوّج، وكركيّ عريض طويل، كبعير كبير جميل، وغرير غرّ، مغرّر متغير، وسبيطر «3» شديد شويطر، وكم ضخم الدسيعة جوّال، ككوهي بالقوّة المنيعة صوّال، ورخام مرزم كذي إمرة محتشم، وجلالة نسر في الشائع الذائع، والحاضر الواقع، أبهى من النسر الطائر والواقع، وعظم عقاب تمّ الحسن بحسنه، وكل الصيد في ضمنه، وكم من خضاري وحرمان، وبلشون وشهرمان، صنوان وغير صنوان، وكم من بط على شط وخلط، وقطقط «4» منقط، وغرّ وغرنوق، وكرسوغ ممشوق، ونورس مستأنس، وقد امتلأت بهنّ

الآفاق وتكللت بنجومهنّ الأملاق، وشربن من جريالها، فأسكرهنّ الاصطباح «1» والاغتباق «2» ، فكم من مسودّ كخال بخدّ، وأزرق كلا زورد، وأشقر كزهر ورد، أحمر ناصع، وأصفر فاقع، وأبيض ذي خضاب عندمي، بلطيف منقار بقمي، ومبرقش ومبقع، ومعمم ومقتنع، وأشقر منقش، وأرقش مرشش، وعودي، وهندي، وصيني مسني، وعينين كياقوتتين، قد رصعتا في لجين، وكم من طائر أبهى من قمر سائر بفرق مثل صبح سافر، فتراهنّ في الماء صموتا وقوفا، صفوفا عكوفا، كصور أصنام، أو حجارة مبدّدة في آكام، وكم من أطيار ظراف، ملاح لطاف، ذوات ألحان، ونضرة وألوان، وخلق وأخلاق، ونطق وأطواق، وإيناس مع شماس، قد ازدانت الأرض بأصواتها، واختلاف لغاتها وعجائب صفاتها، فبرزت بأنواع الأعاجيب، وتجلت بأجمل الجلابيب، وأبدعت في صور الإحسان، وتصوّرت في بدائع الألوان، فإذا بدت زرقاء في زهر كتانها، مذهبة بأزهار لبسانها، مفضضة بنجوم أقحوانها، خلعت السماء عليها خلعة جميل أردانها «3» ، وإذا فاح نشر نوّار قرطها، شممت المسك الذكيّ من مرطها «4» ، ورأيت لآلىء سمطها، مبسوطة على خضر بسطها، ومغالاتها بغالية نور فولها، وهزاتها إذا رفل النسيم في ذيولها، قد رصعت أغصانه بفصوص لجينها، ونقطته من حسنها بسواد عينها، فعيونه كعيون غزلانها في فتكها، وأحداقه كأحداق ولدانها من تركها، وكم لها من طرّة معتبرة، وجبهة منوّرة، ووجنة مزعفرة، وملاءة منشورة معصفرة، وخدّ مورّد، وطرف مهند، ولماها صيغ من عقيق الشقيق، وسكرها من ذلك الريق على التحقيق، وأين بزوغ بشنينها، وامتداد يقطينها، وأين حلاوة عرائس نخلاتها، وطلاوة أوانس قاماتها، بمشابهتها في صفاتها، وغرائس فسيلاتها «5» ، وأين نضيد طلعها، وحميد فرعها، ومديد جذعها، وفرّ جمارها، عن غرّة جمارها، واخضرار أكمامها، واحمرار لثامها، وبنان بسرها المطرف، وبنان نشرها المشرف، وانتظام سرورها، بابتسام منثورها، وورد واديها ومنحناها، وندي ندّها وتمرحناها، وآسي آسها، وطبيب طيب أنفاسها، وتبرّجها بأترجها، وتبهرجها بنارنجها، وتختمها بمختمها، وتبسمها عن بلسمها، وتشقق أبرادها، عن نهود كبادها، وتضاعف أرجها، بمضعف بنفسجها، وجلالة مقدارها، إذا فتحت أزرارها عن جل نارها، وطيب شميمها من أشمومها، ونسيمها ووسيمها بأوسيمها، وجنان قليوبها، وحرمان قليبها، وأحواضها، ببهنيها ورياضها، وطربتها

بمطريتها، ونفيس أنسها بمقسها «1» ، وغريب غرسها ببلقسها، وعظيم آسها بمحلق مقياسها، وكريم تحيتها من قبل اليمن هبوب أنفاسها، واجتماع أسعدها، وارتفاع رصدها، وسواقيها الحنانة في سجعها، الهتانة بسكبها من دمعها، وجنة لوقها، ولجة بولاقها، وبركة فيلها، من بركة نيلها، وجزيرة ذهبها، وقلعة الجزيرة بذهبها، من عجبها حكت فلكها في بحرها، وأحكمت مملكتها في برّها، وعظم جللها بقلعة جبلها، واتلاء أعلامها، ببناء أهرامها، وإذا نظرت إلى سعود صعودها، إلى سعيد صعيدها، واغتباطها بانحطاطها، إلى صوب سكندريتها ودمياطها، ألهتك عن حسن الثريا ومناطها، ولا تنس الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، التي تسبق عند طياب الرياح مفوّقات السهام، وإعجابها بغربانها البحرية، وحراقاتها الحربية، وشوانيها وحول مبانيها، وجلال شكلها وجمال معانيها، تبدو موشاة بالنضار الأحمر، منقشة باللون الأفخر، فهي كالأرقم «2» المنمر، أو كمتلوّن الثمر، أو الطاوس الذكر أو الناوس لبني الأصفر، معمرة بيأس الحديد والأحجار، محمولة على سيح الماء التيار، مشحونة بالرجال، منصورة عند القتال، مصونة بالمجنّ والنبال تبرز مذكرة بالآية النوحية، وتضمن إحراز الهمة العلية الفتحية، حصون أمنع من أعز قلاع، تطير إذا فتح لها جناح القلاع، فتسبق وفد الريح عند الإسراع، وتفوق سرعة السحاب عند الاتساع، فهن مع العقبان في النيق «3» حوّم، وهن مع البنيان في البحر عوّم، لو أقسم من رآها، ولو قال مشاهد معناها، إن الله نفخ فيها الروح فأحياها، لبرّ في يمينه التي أقسم وتلاها، وكم من مركب لحسنه معجب، وكم من سفين قويّ أمين، وخضاري جليل، وعشاري طويل، ومسماري طويل جميل وفستراوي، عكاوي، ولكة ودرمونة، ومعدّية مكينة، وسلور دقيق، وشختور رشيق، وقرقور رقيق، وزورق ذي زواريق، وطريدة بخيل الطراد معمورة، دهماء بحمل الجياد والأجناد مشهورة، ومخلوف في الآفاق بالمعروف معروف، وما أحلى بنان رطبها المخضب، ورشيق قامة قصبها المقصب، وبهجة فوز ما بطلح موزها، وخضر أعلام أوراقها، وصفر كرام إعلاقها، فلا البلاغة تبلغ من إحصاء فضلها مراما، ولا الفصاحة تصوغ لوصف تشبيهها كلاما، فنسأل الله تعالى أن يكنفها بركنه الذي لا يرام، ويحرسها بعينه التي لا تنام بمنه وكرمه. وقال الرئيس شهاب الدين أحمد بن يحيي بن فضل الله العمري كاتب السرّ: لمصر فضل باهر ... بعيشها الرغد النضر في كل سفح يلتقي ... ماء الحياة والخضر

وقال إبراهيم بن القاسم الكاتب الملقب بالرشيق يتشوّق إلى مصر، وقد خرج عنها في سنة ست وثمانين وثلثمائة من قصيدة: هل الريح إن سارت مشرّقة تسري ... تؤدّي تحياتي إلى ساكني مصر فما خطرت إلّا بكيت صبابة ... وحملتها ما ضاق عن حمله صدري لأني إذا هبت قبولا بنشرهم ... شممت نسيم المسك من ذلك النشر فكم لي بالأهرام أو دير نهية ... مصايد غزلان المطايد والقفر إلى جيزة الدنيا وما قد تضمنت ... جزيرتها ذات المواخر والجسر وبالمقس والبستان للعين منظر ... أنيق إلى شاطىء الخليج إلى القصر وفي بئر دوس مستراد وملعب ... إلى دير محنا إلى ساحل البحر فكم بين بستان الأمير وقصره ... إلى البركة النضراء من زهر نضر تراها كمرآة بدت في رفارف ... من السندس الموشى تنشر للتجر «1» وكم ليلة بالقرافة خلتها ... لما نلت من لذاتها ليلة القدر وقال أحمد بن رستم بن إسفهسلار الديلميّ: يخاطب الوزير نجم الدين أبا يوسف بن الحسين المجاور، وتوفي في رابع عشر ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وستمائة: حيّ الديار بشاطئي مقياسها ... فالمقسم الفياح بين دهاسها «2» فالروضتين وقد تضوّع عرفها ... أرج البنفسج في غضارة أسها فمنازل العين المنيفة أصبحت ... يغني سناها عن سنا نبراسها فخليجها لذاته مطلوبة ... تسمو محاسنه علا بأناسها حافاته محفوفة بمنازل ... نزلت بها الآرام دون كناسها وقال العلامة جلال الدين محمد الشيرازيّ المعروف بإمام منكلي بغا: حيّا الحيا مصرا وسكانها ... وباكر الوسميّ «3» كثبانها وجاد صوب المزن من أرضها ... معاهد الأنس وأوطانها معاهد بالأنس معمورة ... لم أنس مهما عشت إحسانها كم أيقظتني في ذرا دوحها ... عجماء لا تفقه ألحانها وكم نعيم قد تخيلته ... فيها وكم غازلت غزلانها وعاينت عيني بها أغيدا ... منعس المقلة وسنانها

تسحر بالتفتير ألحاظه ... كأنّ من بابل شيطانها وكم شجت قلبي بها غادة ... قد كحلت بالغنج أجفانها إذا دعت صبا إلى حبها ... لا يستطيع الصب عصيانها وكم ليال لي بها قد مضت ... تسحب بالإعجاب أردانها وألهف نفسي كيف شطت بها ... حوادث قوّضن بنيانها فارقتها لا عن قلى صدّني ... عنها فراق الروح جسمانها واعتضت عن غزلانها والمها ... نعاج جيرون وثيرانها يا سائلي عن حالتي بعدها ... ها أنا ذا أذكر عنوانها ما حال من فارق أصحابه ... وفارق الدنيا وجيرانها تقلب فوق الجمر أحشاؤه ... تؤجج الأشواق نيرانها والعين لا تنفك من عبرة ... ترسل فوق الخدّ طوفانها يا سائق النوق يبث الثرى ... كمثل بث السحب تهتانها «1» حيّ ربا مصر وجناتها ... وحورها العين وولدانها ودورها الزهر وساحاتها ... وبين قصريها وميدانها وأرضها المخصب أرجاؤها ... ونيلها الزاهي وخلجانها والروضة الفيحاء تلك التي ... تجلو عن الأنفس أحزانها ومنية الشيرج لا تنسها ... وقرطها الأحوى وكتانها والتاج الخمس وجوه التي ... أضحت من الأعين إنسانها وحيّ يا برق وجد بالحيا ... جزيرة الفيل وغيطانها وبانها الغض ونسرينها ... ووردها البكر وريحانها وظلها الضافي وأزهارها ... وماءها الصافي وغدرانها والمعهد المأنوس من ربعها ... وحيّ أهليها وسكانها لم أنس لا أنسى اصطباحي بها ... ولا اغتباقاتي وإبانها ولا أويقات التصابي ولا ... تلك الخلاعات وأزمانها أيام لا انفك من صبوة ... أهوى اللذا ذات وإعلانها أخطر تيها في رياض الصبا ... مرنح الأعطاف كسلانها وخيل لهوي في ميادينها ... تجرجر الصبوة أرسانها ودوحتي ناضرة غضة ... تعطف ريح اللهو أغصانها حاشاي أن أنقض عهدا لها ... حاشاي أن أصبح خوّانها حاشاي أن أهجرها قاليا ... حاشاي أن أحدث سلوانها

حاشاي أن أرضى بديلا بها ... روابي الشام وقيعانها وماءها الثج وحصباءها ... وصخرها الصلد وصوّانها قد تاقت النفس إلى الفها ... وحثت الأشواق أظعانها وادّكرت في البعد أحبابها ... فهيّج التبريح «1» أشجانها وما لها غيرك من ملتجا ... يا أوحد الدنيا وإنسانها

ذكر ما قيل في مدة بقاء القاهرة ووقت خرابها

ذكر ما قيل في مدّة بقاء القاهرة ووقت خرابها قال المعارف محيي الدين محمد بن العربيّ الطائيّ الحاتميّ في الملحمة المنسوبة إليه قاهرة تعمر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وتخرب سنة ثمانين وسبعين، ووقفت لها على شرح لم أعرف تصنيف من هو، فإنه لم يسمّ في النسخة التي وقفت عليها، وهو شرح لطيف قليل الفائدة، فإنه ترك كلام المصنف فيما مضى على ما هو معروف في كتب التاريخ، ولم يبين مراده، فيما يستقبل، وكانت الحاجة ماسة إلى معرفة ما يستقبل أكثر من المعرفة بحال ما مضى، لكن أخبرني غير واحد من الثقات، أنه وقف لهذه الملحمة على شرح كبير في مجلدين، قال هذا الشارح: كانت بداية عمارة القاهرة والنّيران في شرفهما: الشمس في برج الحمل، والقمر في برج الثور، وهو برج ثابت. قال: فعمّر القاهرة، ومدّتها أربعمائة، وإحدى وستون سنة، قال في الأصل: وإذا نزل زحل برج الجوزاء عزت الأقوات بمصر، وقلّ أغنياؤهم، وكثر فقراءهم ويكون الموت فيهم ويخرج أهل برقة عن أوطانهم، لا سيما إذا قارن زحل الجوزهر، فإنّ الحال يكون أشدّ وأقوى. قال الشارح: كان ذلك في سنة أربع وستين وستمائة في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، فإنه نزل زحل برج الجوزاء، فوقع الغلاء، وفي آخر سنة أربع، وأوّل سنة خمس وتسعين وستمائة، في أيام الملك العادل: كتبغا «1» حلّ زحل في برج الجوزاء، وكان معه الجوزهر، فكانت أشدّ وأقوى وكثر الغلاء والوباء. قال: سئل المعز عن الترك ما هم؟ فقال: قوم مسلمون يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الحدود والواجبات، ويقاتلون في سبيل الله أعداء الله، فقيل له: أتطول مدّتهم؟ قال: لا تطول مدّتهم، قيل: فكيف يكون زوالهم؟ قال: يكون هكذا، وكان إلى جانبه طبق كيزان، فحرّكه حركة شديدة، فتكسرت الكيزان، فقال: هكذا يكون زوالهم يقتل بعضهم بعضا، قال: احذر بنيّ من القران العاشر ... وارحل بأهلك قبل نقر الناقر

قال الشارح: أوّل القران العاشر في سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وفيه تكون حالات رديئة بأرض مصر، وهذا يوافق ما في القول عن القاهرة، وتخرب في سنة خمس وثمانين وسبعمائة، يعني بداية انحطاطها من سنة خمس وثمانين وسبعمائة التي فيها القران العاشر، ويثبت في عشرين سنة التي هي أيام القران، وقد ذكر في الربع الآخر أربعمائة، وإحدى وستين سنة، وقد تخيلت أنها مدّة عمر القاهرة، فإذا زدتها على تاريخ عمارتها بلغ ذلك ثمانمائة وتسع عشرة سنة، وفي ذلك الوقت يكون زوالها، وهو ما بين سنة ثمانين، وسبعمائة إلى سنة تسع عشرة وثمانمائة، ويكون ذلك سببه قحط عظيم، وقلة خير، وكثرة شرّ حتى تتخرّب ويضعف أهلها. قال: قران زحل والمرّيخ في برج الجدي يكون في سنة سبعين وسبعمائة، فتعدّ لكل مائة سنة من سني الهجرة ثلاث سنين، فيكون ثلاثا وعشرين سنة تزيدها على سبعمائة وسبعين سنة تبلغ سبعمائة، وثلاثا وتسعين سنة، ففي مثلها من سني الهجرة يكون أوّل أوقات خراب القاهرة، انتهى. وتهذيب هذا القول: أنّ زحل كلما حلّ برج الجوزاء،. اتضعت أحوال مصر، وقلت أموالهم، وكثر الغلاء والفناء عندهم، بحسب الأوضاع الفلكية، وزحل يحلّ في برج الجوزاء كل ثلاثين سنة شمسية، فيقيم فيه نحوا من ثلاثين شهرا، وأنت إذا اعتبرت أمور العالم وجدت الحال كما ذكرنا، فإنه كلما حلّ زحل برج الجوزاء وقع الغلاء بمصر، وذكر أنّ القران العاشر تتضع فيه أحوال القاهرة، ورأينا الأمر كما ذكرنا، فإنّ القران العاشر كان في سنة ست وثمانين وسبعمائة، ومدّة سنينه عشرون سنة شمسية، آخرها سابع عشر رجب سنة سبع وثمانمائة، وفي هذه المدّة اتضع حال القاهرة وأهلها، اتضاعا قبيحا، ومن الأوقات المحذورة لها أيضا اقتران زحل والمريخ في برج السرطان، ويكون ذلك في كل ثلاثين سنة شمسية، ويقترنان في سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وفي مدّته تنقضي الأربعمائة والإحدى والستون سنة التي ذكر أنها عمر القاهرة في سنة تسع عشرة وثمانمائة، وشواهد الحال اليوم تصدّق ذلك لما عليه أهل القاهرة الآن من الفقر والفاقة، وقلة المال وخراب الضياع والقرى، وتداعى الدور للسقوط، وشمول الخراب أكثر معمور القاهرة، واختلاف أهل الدولة، وقرب انقضاء مدّتهم وغلاء سائر الأسعار. ولقد سمعت عمن يرجع إليه في مثل ذلك: أنّ العمارة تنتقل من القاهرة إلى بركة الحبش، فيصير هناك مدينة، والله تعالى أعلم.

ذكر مسالك القاهرة وشوارعها على ما هي عليه الآن

ذكر مسالك القاهرة وشوارعها على ما هي عليه الآن وقبل أن نذكر خطط القاهرة، فلنبتدىء بذكر شوارعها، ومسالكها: المسلوك منها إلى الأزقة، والحارات لتعرف بها الحارات والخطط والأزقة والدروب، وغير ذلك مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. فالشارع الأعظم: قصبة القاهرة من باب زويلة إلى بين القصرين، عليه باب الخرنفش أو الخرنشف، ومن باب الخرنفش ينفرق من هنالك طريقان ذات اليمين، ويسلك منها إلى الركن المخلق، ورحبة باب العيد إلى باب النصر، وذات اليسار، ويسلك منها إلى الجامع الأقمر، وإلى حارة برجوان إلى باب الفتوح، فإذا ابتدأ السالك بالدخول من باب زويلة، فإنه يجد يمنة الزقاق الضيق الذي يعرف اليوم: بسوق الخلعيين، وكان قديما يعرف: بالخشابين، ويسلك من هذا الزقاق إلى حارة الباطلية، وخوخة حارة الروم البرّانية، ثم يسلك الداخل أمامه، فيجد على يسرته سجن متولي القاهرة المعروف: بخزانة شمايل، وقيسارية سنقر الأشقر، ودرب الصفيرة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته: حمام الفاضل المعدّة لدخول الرجال، وعلى يسرته تجاه هذه الحمام: قيسارية الأمير بهاء الدين رسلان الدوادار الناصريّ إلى أن ينتهي بين الحوانيت، والرباع فوقها إلى بابي زويلة الأوّل، ولم يبق منهما سوى عقد أحدهما، ويعرف الآن: بباب القوس، ثم يسلك أمامه فيجد على يسرته الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الحدّادين، والحجارين المعروف اليوم بسوق الأنماطيين، وسكن الملاهي، وإلى المحمودية، وإلى سوق الأخفافيين، وحارة الجودرية والصوّافين، والقصارين والفحامين وغير ذلك، ويجد تجاه هذا الزقاق عن يمينه المسجد المعروف قديما، بابن البناء وتسميه العامّة الآن: بسام بن نوح، وهو في وسط سوق الغرابليين والمناخليين، ومن معهم من الضببيين، ثم يسلك أمامه فيجد سوق السرّاجين، ويعرف اليوم: بالشوّايين، وفي هذا السوق على يمينه: الجامع الظافريّ المعروف بجامع الفكاهين، وبجانبه الزقاق المسلوك منه إلى حارة الديلم، وسوق القفاصين، وسوق الطيوريين، والأكفانيين القديمة المعروفة الآن بسكنى دقاقي الثياب، ويجد على يسرته الزقاق المسلوك منه إلى حارة الجودرية، ودرب كركامة، ودكة الحسبة المعروفة قديما بسوق الحدّادين وسوق الورّاقين القديمة، وإلى سوق الفاميين المعروف اليوم: بالأبازرة،

وإلى غير ذلك، ثم يسلك أمامه إلى سوق الحلاويين الآن، فيجد عن يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الكعكيين المعروف قديما بالقطانيين، وسكنى الأساكفة، وإلى بابي قيسارية جهاركس، وعن يسرته: قيسارية الشرب، ثم يسلك أمامه إلى سوق الشرابشيين المعروف قديما يسكن الحالقيين، وعن يمنته درب قيطون، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق الشرابشيين، فيجد عن يمنته قيسارية أمير علي، ويجد عن يسرته سوق الجملون الكبير المسلوك فيه إلى قيسارية ابن قريش، وإلى سوق العطارين والوراقين، وإلى سوق الكفتيين، والصيارف، والأخفافيين، وإلى بئر زويلة والبندقانيين، وإلى غير ذلك، ثم يسلك أمامه، فيجد عن يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الفرّايين الآن، وكان يعرف أوّلا بدرب البيضاء، وإلى درب الأسواني، وإلى الجامع الأزهر، وغير ذلك، ويجد عن يسرته قيسارية بني أسامة، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق الجوخيين واللجميين، فيجد عن يمينه قيسارية السروج، وعن يسرته قيسارية «1» ثم يسلك أمامه إلى سوق السقطيين والمهامزيين، فيجد عن يمينه درب الشمسيّ، ويقابله باب قيسارية الأمير علم الدين الخياط، وتعرف اليوم: بقيسارية العصفر، ثم يسلك أمامه شاقا في السوق المذكور، فيجد عن يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق القشاشين، وعقبة الصباغين المعروف اليوم بالخرّاطين، وإلى سوق الخيميين، وإلى الجامع الأزهر، وغير ذلك ويجد قبالة هذا الزقاق عن يسرته قيسارية العنبر المعروفة قديما بحبس المعونة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يسرته الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الورّاقين، وسوق الحريريين الشراربيين المعروف قديما بسوق الصاغة القديمة، وإلى درب شمس الدولة، وإلى سوق الحريريين، وإلى بئر زويلة والبندقانيين، وإلى سويقة الصاحب، والحارة الوزيرية، وإلى باب سعادة وغير ذلك، ثم يسلك أمامه شاقا في بعض سوق الحريريين، وسوق المتعيشين، وكان قديما سكنى الدجاجين والكعكيين، وقبل ذلك أوّلا سكنى السيوفيين، فيجد عن يمينه قيسارية الصنادقيين، وكانت قديما تعرف بفندق الدبابليين، ويجد عن يسرته مقابلها، دار المأمون البطائحي المعروفة بمدرسة الحنفية، ثم عرفت اليوم بالمدرسة السيوفية، لأنها كانت في سوق السيوفيين، ثم يسلك أمامه في سوق السيوفيين الذي هو الآن سوق المتعيشين، فيجد عن يمينه خان مسرور، وحجرتي الرقيق، وكدة المماليك بينهما، ولم تزل موضعا لجلوس من يعرض من المماليك الترك والروم، ونحوهم للبيع إلى أوائل أيام الملك الظاهر برقوق، ثم بطل ذلك، ويجد عن يسرته قيسارية الرماحين، وخان الحجر، ويعرف اليوم هذا الخط بسوق باب الزهومة، ثم يسلك أمامه، فيجد عن يسرته الزقاق والساباط «2» المسلوك فيه إلى حمام خشيبة، ودرب شمس الدولة، وإلى حارة العدوية المعروفة اليوم بفندق الزمام، وإلى

حارة زويلة وغير ذلك، ويجد بعد هذا الزقاق قريبا منه في صفة درب السلسلة، ومن هنا ابتداء خط بين القصرين، وكان قديما في أيام الدولة الفاطمية مراحا واسعا ليس فيه عمارة البتة، يقف فيه عشرة آلاف فارس، والقصران هما موضع سكنى الخليفة أحدهما شرقيّ، وهو القصر الكبير، وكان على يمنة السالك من موضع خان مسرور طالبا باب النصر وباب الفتوح، وموضعه الآن المدارس الصالحية النجمية، والمدرسة الصاهرية الركنية، وما في صفها من الحوانيت، والرباع إلى رحبة العيد، وما وراء ذلك إلى البرقية، ويقابل هذا القصر الشرقيّ القصر الغربيّ، وهو القصر الصغير، ومكانه الآن المارستان المنصوريّ، وما في صفه من المدارس والحوانيت، إلى تجاه باب الجامع الأقمر، فإذا ابتدأ السالك بدخول بين القصرين من جهة خان مسرور، فإنه يجد على يسرته درب السلسلة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمينه الزقاق المسلوك فيه إلى سوق الأمشاطيين المقابل لمدرسة الصالحية التي للحنفية والحنابلة، وإلى الزقاق الملاصق لسور المدرسة المذكورة المسلوك فيه إلى خط الزراكشة العتيق حيث خان الخليليّ، وخان منج، وإلى الخوخ السبع حيث الآن سوق الأبارين، وإلى الجامع الأزهر، وإلى المشهد الحسينيّ وغير ذلك، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق السيوفيين الآن، فيجد على يساره دكاكين السيوفيين، وعلى يمينه دكاكين النقليين ظاهر سوق الكتبيين الآن، وعلى يساره سوق الصيارف برأس باب الصاغة، وكان قديما مطبخ القصر قبالة باب الزهومة، ثم يسلك أمامه فيجد على يمينه باب المدارس الصالحية تجاه باب الصاغة، ثم يسلك أمامه فيجد عن يمينه القبة الصالحية، وبجوارها المدرسة الطاهرية الركنية، ويجد على يساره باب المارستان المنصوري، وفي داخله القبة المنصورية التي فيها قبور الملوك، وتحت شبابيكها دكك القفصيات التي فيها الخواتيم ونحوها، فيما بين القبة المذكورة، والمدرسة الظاهرية المذكورة، وفي داخله أيضا المدرسة المنصورية، وتحت شبابيكها أيضا، دكك القفصيات فيما بين شبابيكها، وشبابيك المدرسة الصالحية التي للشافعية والمالكية، وتحتها خيمة الغلمان بجوار قبة الصالح، وفي داخله أيضا المارستان الكبير المنصوريّ المتوصل من باب سرّه إلى حارة زويلة، وإلى الخرنشف، وإلى الكافوري وإلى البندقانيين، وغير ذلك، ثم يسلك باب المارستان، فيجد على يمنته سوق السلاح والنشابين الآن تحت الربع المعروف: بوقف أمير سعيد، ويجد على يسرته المدرسة الناصرية الملاصقة لمئذنة القبة المنصورية، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته: خان بشتاك، وفوقه الربع وعرف الآن هذا الخان: بالمستخرج، ويجد على يسرته: المدرسة الظاهرية الجديدة بجوار المدرسة الناصرية، وكانت قبل إنشائها مدرسة فندقا يعرف: بخان الزكاة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته، باب قصر بشتاك، ويجد على يسرته المدرسة الكاملية المعروفة: بدار الحديث، وهي ملاصقة للمدرسة الظاهرية الجديدة، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته الزقاق المسلوك فيه إلى بيت أمير سلاح المعروف بقصر أمير سلاح، وهو الأمير فخر الدين

بكتاش الفخريّ الصالحيّ النجميّ، وإلى دار الأمير سلار نائب السلطنة، وإلى دار الطواشي سابق الدين، ومدرسته التي يقال لها المدرسة السابقية، وكان في داخل هذا الزقاق مكان يتوصل إليه من تحت قبو المدرسة السابقية يعرف بالسودوس فيه عدّة مساكن صارت كلها اليوم دارا واحدة إنشاء الأمير جمال الدين الإستادار، وكان تجاه باب المدرسة السابقية ربع تحته فرن، ومن ورائه عدّة مساكن يعرف مكانها بالحدرة، فهدم الأمير جمال الدين المذكور الربع، وما وراءه، وحفر فيه صهريجا وأنشأ به عدة آدر هي الآن جارية في أوقافه. وكان يسلك من باب السابقية على باب الربع، والفرن المذكورين إلى دهليز طويل مظلم ينتهي إلى باب القصر، تجاه سور سعيد السعداء، ومنه يخرج السالك إلى رحبة باب العيد، وإلى الركن المخلق، فهدمه الأمير جمال الدين، وجعل مكانه قيسارية، وركب على رأس هذا الزقاق تجاه حمام البيسريّ، دربا في داخله دروب ليصون أمواله، وانقطع التطرّق من هذا الزقاق، وصار دربا غير نافذ، ويجد السالك عن يسرته قبالة هذا الزقاق، وصار دربا مدربا باب قصر البيسرية، وقد بنى في وجهه حوانيت بجانبها حمام البيسري، ومن هنا ينقسم شارع القاهرة المذكورة إلى طريقين: إحداهما ذات اليمين، والأخرى ذات اليسار، فأمّا ذات اليسار، فإنها تتمة القصبة المذكورة، فإذا مرّ السالك من باب حمام الأمير بيسري، فإنه يجد على يسرته باب الخرنشف المسلوك فيه إلى باب سرّ البيسرية، وإلى باب حارة برجوان، الذي يقال له: أبو تراب، وإلى الخرنشف، واصطبل القطبية، وإلى الكافوري، وإلى حارة زويلة، وإلى البندقانيين، وغير ذلك، ثم يسلك أمامه فيجد سوقا يعرف أخيرا بالوزارزين والدجاجين يباع فيه الأوز، والدجاج والعصافير، وغير ذلك من الطيور، وأدركناه عامرا سوقا كبيرا من جملته دكان لا يباع فيها غير العصافير، فيشتريها الصغار للعب بها. وفي هذا السوق على يمنة السالك: قيسارية يعلوها ربع كانت مدّة سوقا يباع فيه الكتب، ثم صارت لعمل الجلود، وكانت من جملة أوقاف المارستان المنصوري، فهدمها بعض من كان يتحدّث في نظره عن الأمير أيتمش في سنة إحدى وثمانمائة، وعمرها على ما هي عليه الآن، وعلى يسرة السالك في هذا السوق ربع يجري في وقف المدرسة الكاملية، وكان هذا السوق يعرف قديما بالتبانين والقماحين، ثم يمرّ سالكا أمامه، فيجد سوق الشماعين متصلا بسوق الدجاجين، وكان سوقا كبيرا فيه صفان عن اليمين والشمال من حوانيت باعة الشمع أدركته عامرا، وقد بقي منه الآن يسير، وفي آخر هذا السوق على يمنة السالك: الجامع «1» الأقمر، وكان موضعه قديما سوق القماحين، وقبالته درب الخضريّ،

وبجانب الجامع الأقمر من شرقيه الزقاق الذي يعرف بالمحايريين ويسلك فيه إلى الركن المخلق وغيره، وقبالة هذا الزقاق بئر الدلاء، ثم يسلك المارّ أمامه، فيجد على يمنته زقاقا ضيقا، ينتهي إلى دور ومدرسة تعرف بالشرابشية، يتوصل من باب سرّها إلى الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، ثم يسلك أمامه في سوق المتعيشين، فيجد على يسرته باب حارة برجوان، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق المتعيشين، وقد أدركته سوقا عظيما لا يكاد يعدم فيه شيء مما يحتاج إليه من المأكولات، وغيرها بحيث إذا طلب منه شيء من ذلك في ليل أو نهار وجد. وقد خرب الآن، ولم يبق منه إلا اليسير، وكان هذا السوق قديما يعرف بسوق أمير الجيوش، وبآخره خان الروّاسين، وهو زقاق على يمنة السالك غير نافذ، ويقابل هذا الزقاق على يسرة السالك إلى باب الفتوح شارع يسلك فيه إلى سوق يعرف اليوم بسويقة أمير الجيوش، وكان قبل اليوم يعرف بسوق الخروقيين، ويسلك من هذا السوق إلى باب القنطرة في شارع معمور بالحوانيت من جانبيه، ويعلوها الرباع، وفيما بين الحوانيت دروب ذات مساكن كثيرة، ثم يسلك أمامه من رأس سويقة أمير الجيوش، فيجد على يمينه الجملون الصغير المعروف بجملون ابن صيرم، وكان مسكنا للبزازين فيه عدّة حوانيت عامرة بأصناف الثياب أدركتها عامرة، وفيه مدرسة ابن صيرم المعروفة بالمدرسة الصيرمية، وفي آخره باب زيادة الجامع الحاكميّ، وكان على بابها عدّة حوانيت تعمل فيها الضبب التي برسم الأبواب، ويخرج من هذا الجملون إلى طريقين: إحداهما يسلك فيها إلى درب الفرنجية، وإلى دار الوكالة وشارع باب النصر، والأخرى إلى درب الرشيديّ النافذ إلى درب الجوّانية، ثم يسلك أمامه فيجد على يمنته شباك المدرسة الصيرمية، ويقابله باب قيسارية خوانداردكين الأشرفية، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق المرحلين، وكان صفين من حوانيت عامرة فيها جميع ما يحتاج إليه في ترحيل الجمال، وقد خرب وبقي منه قليل، وفي هذا السوق على يسرة السالك زقاق يعرف بحارة الورّاقة، وفيه أحد أبواب قيسارية خوند المذكورة، وعدّة مساكن وكان مكانه يعرف قديما باصطبل الحجرية، ثم يسلك أمامه فيجد على يمنته أحد أبواب الجامع الحاكميّ وميضأته، ويجد باب الفتوح القديم، ولم يبق منه سوى عقدته، وشيء من عضادته، وبجواره شارع على يسرة السالك يتوصل منه إلى حارة بهاء الدين، وباب القنطرة، ثم يسلك أمامه شاقا في سوق المتعيشين، فيجد على يمينه بابا آخر من أبواب الجامع الحاكميّ، ثم يسلك أمام، فيجد عن يسرته زقاقا بساياط ينفذ إلى حارة بهاء الدين فيه كثير من المساكن، ثم يسلك أمامه، فيجد عن يمينه باب الجامع الحاكمي الكبير، ويجد عن يساره فندق العادل، ويشق في سوق عظيم إلى باب الفتوح، وهو آخر قصبة القاهرة، وأما ذات اليمين من شارع بين القصرين، فإن المارّ إذا سلك من الدرب الذي يقابل حمام البيسري طالبا الركن المخلق، فإنه يشق في سوق القصاصين، وسوق الحصريين إلى

الركن المخلق، ويباع فيه الآن النعال، وبه حوض في ظهر الجامع الأقمر لشرب الدواب تسميه العامة حوض النبي، ويقابله مسجد يعرف بمراكع موسى، وينتهي هذا السوق إلى طريقين: إحداهما إلى بئر العظام التي تسميها العامة: بئر العظمة، ومنها ينقل الماء إلى الجامع الأقمر والحوض المذكور بالركن المخلق، ويسلك منه إلى المحايريين والطريق الأخرى تنتهي إلى الدنق المعروف بقيسارية الجلود، ويعلوها ربع أنشأت ذلك خوند بركة أمّ الملك الأشرف شعبان «1» بن حسين، وبجوار هذه القيسارية بوّابة عظيمة، قد سترت بحوانيت يتوصل منها إلى ساحة عظيمة هي من حقوق المنحر كانت خوند المذكورة، قد شرعت في عمارتها قصرا لها، فماتت دون إكماله، ثم يسلك أمامه فيجد الرباع التي تعلو الحوانيت، والقيسارية المستجدّة في مكان باب القصر الذي كان ينتهي إلى مدرسة سابق الدين، وبين القصرين، وكان أحد أبواب القصر، ويعرف بباب الريح، وهذه الرباع والقيسارية من جملة إنشاء الأمير جمال الدين الإستادار، وكانت قبله حوانيت ورباعا، فهدمها وأنشأها على ما هي عليه اليوم، ثم يسلك أمامه فيجد عن يمينه مدرسة الأمير جمال الدين المذكور، وكان موضعها خانا، وظاهره حوانيت، فبنى مكانها مدرسة وحوضا للسبيل، وغير ذلك، ويقال لهذه الأماكن رحبة باب العيد، ويسلك منها إلى طريقين: إحداهما ذات اليمين، والأخرى ذات اليسار، فأما ذات اليمين فإنها تنتهي إلى المدرسة الحجازية، وإلى درب قراصيا، وإلى حبس الرحبة، وإلى درب السلاميّ المسلوك منه إلى باب العيد الذي تسميه العامة بالقاهرة، وإلى المارستان العتيق، وإلى قصر الشوك، ودار الضرب، وإلى باب سرّ المدارس الصالحية، وإلى خزانة البنود، ويسلك من رأس درب السلاميّ هذا في رحبة باب العيد إلى السفينة، وخط خزانة البنود، ورحبة الأيد مريّ، والمشهد الحسينيّ، ودرب الملوخيا، والجامع الأزهر، والحارة الصالحية، والحارة البرقية إلى باب البرقية، والباب المحروق، والباب الجديد. وأما ذات اليسار من رحبة باب العيد، فإنّ المارّ يسلك من باب مدرسة الأمير جمال الدين إلى باب زاوية الخدّام إلى باب الخانقاه المعروفة بدار سعيد السعداء، فيجد عن يمينه زقاقا بجوار سور دار الوزارة يسلك فيه إلى خرائب تتر، وإلى خط الفهادين، وإلى درب ملوخيا، وغير ذلك. ثم يسلك أمامه فيجد عن يمينه المدرسة القراسنقرية، وخانقاه ركن الدين بيبرس، وهما من جملة دار الوزارة، وما جاور الخانقاه إلى باب الجوّانية، وتجاه خانقاه بيبرس الدرب الأصفر، وهو المنحر الذي كانت الخلفاء تنحر فيه الأضاحي، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمنته دار الأمير قزمان بجوار خانقاه بيبرس، وبجوارهما دار الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الوزير، وقد عرفت الآن

بدار خوند طولوباي زوجة السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، وبجوارها حمام الأعسر المذكور، وجميع هذا من دار الوزارة، ويجد على يسرته: درب الرشيدي تجاه حمام الأعسر المسلوك فيه إلى درب الفرنجية وجملون بن صيرم، ثم يسلك أمامه، فيجد على يمينه الشارع المسلوك فيه إلى الجوّانية، وإلى خط الفهادين، وإلى درب ملوخيا، وإلى العطوفية، وقد خربت هذه الأماكن ويجد على يسرته الوكالة المستجدّة من إنشاء الملك الظاهر برقوق، ثم يسلك أمامه، فيجد على يسرته زقاقا يسلك فيه إلى جملون ابن صيرم، وإلى درب الفرنجية، ثم يسلك أمامه فيجد على يمنته: دار الأمير شهاب الدين أحمد، ابن خالة الملك الناصر محمد بن قلاوون، ودار الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وهما من حقوق الحجرانتي كانت بها مماليك الخلفاء، وأجنادهم، ويجد على يسرته: وكالة الأمير قوصون ثم يسلك من باب الوكالة، فيجد مقابل باب قاعة الجاولي: خان الجاولي، وبعدها باب النصر القديم، وأدركت فيه قطعة كانت تجاه ركن المدرسة الفاصدية الغربيّ، وقد زال ويسلك منه إلى رحبة الجامع الحاكمي، فيجد على يمنته المدرسة القاصدية، وعلى يسرته بابي الجامع الحاكميّ، وتجاه أحدهما الشارع المسلوك فيه إلى حارة العبدانية، وحارة العطوفية، وغير ذلك، ومن باب الجامع الحاكميّ ينتهي إلى باب النصر، فيما بين حوانيت ورباع ودور، فهذه صفة القاهرة الآن، وستقف إن شاء الله تعالى على كيفية ابتداء موضع هذه الأماكن، وما صارت إليه، وذكر التعريف بمن نسبت إليه أو عرفت به على ما التقطت ذلك من كتب التواريخ، ومجامع الفضلاء، ووقفت عليه بخطوط الثقات، وأخبرني بذلك من أدركته من المشيخة، وما شاهدته من ذلك سالكا فيه سبيل التوسط في القول بين الإكثار والاختصار، والله الموفق بمنه وكرمه لا إله غيره.

ذكر سور القاهرة

ذكر سور القاهرة اعلم أن القاهرة مذ أسست عمل سورها ثلاث مرّات: الأولى: وضعه القائد جوهر، والمرّة الثانية: وضعه أمير الجيوش بدر الجماليّ في أيام الخليفة المستنصر، والمرّة الثالثة: بناه الأمير الخصيّ بهاء الدين قراقوش الأسديّ في سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أوّل ملوك القاهرة. السور الأوّل: كان من لبن وضعه جوهر القائد على مناخه الذي نزل به هو وعساكره حيث القاهرة الآن، فأداره على القصر والجامع، وذلك أنه لما سار من الجيزة بعد زوال الشمس، من يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة بعساكره، وقصد إلى مناخه الذي رسمه له مولاه الإمام المعز لدين الله أبو تميم معدّ، واستقرّت به الدار اختط القصر، وأصبح المصريون يهنونه، فوجدوه قد حفر الأساس في الليل، فأدار السور اللبن، وسماها المنصورية إلى أن قدم المعز لدين الله من بلاد المغرب إلى مصر، ونزل بها فسماها: القاهرة. ويقال في سبب تسميتها: إن القائد جوهرا لما أراد بناءها أحضر المنجمين، وعرّفهم أنه يريد عمارة بلد ظاهر مصر ليقيم بها الجند، وأمرهم باختيار طالع سعيد لوضع الأساس بحيث لا يخرج البلد عن نسلهم أبدا، فاختاروا طالعا لوضع الأساس، وطالعا لحفر السور، وجعلوا بدائر السور قوائم خشب بين كل قائمتين حبل فيه أجراس، وقالوا للعمال: إذا تحرّكت الأجراس، فارموا ما بأيديكم من الطين والحجارة، فوقفوا ينتظرون الوقت الصالح لذلك، فاتفق أنّ غرابا وقع على حبل من تلك الحبال التي فيها الأجراس، فتحرّكت كلها، فظن العمال أن المنجمين قد حرّكوها، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة، وبنوا فصاح المنجمون: القاهرة في الطالع فمضى ذلك، وفاتهم ما قصدوه. ويقال: إنّ المرّيخ كان في الطالع عند ابتداء وضع الأساس، وهو قاهر الفلك، فسموها: القاهرة، واقتضى نظرهم أنها لا تزال تحت القهر، وأدخل في دائر هذه السور بئر العظام، وجعل القاهرة حارات للواصلين صحبته، وصحبة مولاه المعز، وعمّر القصر بترتيب ألقاه إليه المعز.

ويقال: إنّ المعز لما رأى القاهرة لم يعجبه مكانها، وقال الجوهر: لما فاتك عمارة القاهرة بالساحل، كان ينبغي عمارتها بهذا الجبل يعني سطح الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد المشرف على جامع راشدة، ورتب في القصر جميع ما يحتاج إليه الخلفاء بحيث لا تراهم الأعين في النقلة من مكان إلى مكان، وجعل في ساحاته البحرة والميدان، والبستان وتقدّم بعمارة المصلى بظاهر القاهرة، وقد أدركت من هذا السور اللبن قطعا، وآخر ما رأيت منه قطعة كبيرة كانت فيما بين باب البرقية، ودرب بطوط هدمها شخص من الناس في سنة ثلاث وثمانمائة، فشاهدت من كبر لبنها ما يتعجب منه في زمننا، حتى أنّ اللبنة تكون قدر ذراع في ثلثي ذراع، وعرض جدار السور: عدّة أذرع يسع أن يمر به فارسان، وكان بعيدا عن السور الحجر الموجود الآن، وبينهما نحو الخمسين ذراعا، وما أحسب أنه بقي الآن من هذا السور اللبن شيء. وجوهر هذا: مملوك روميّ رباه المعز لدين الله أبو تميم معدّ، وكناه بأبي الحسن، وعظم محله عنده في سنة سبع وأربعين وثلثمائة، وصار في رتبة الوزارة، فصيره قائد جيوشه وبعثه في صفر منها، ومعه عساكر كثيرة فيهم الأمير: زيري بن مناد الصنهاجي وغيره من الأكابر، فسار إلى تاهرت «1» وأوقع بعدّة أقوام، وافتتح مدنا وسار إلى فاس، فنازلها مدّة، ولم ينل منها شيئا، فرحل عنها إلى سجلماسة، وحارب ثائرا، فأسره بها، وانتهى في مسيره إلى البحر المحيط، واصطاد منه سمكا، وبعثه في قلة ماء إلى مولاه المعز، وأعلمه أنه قد استولى على ما مرّ به من المدائن والأمم، حتى انتهى إلى البحر المحيط، ثم عاد إلى فاس، فألح عليه بالقتال إلى أن أخذها عنوة، وأسر صاحبها، وحمله هو والثائر بسجلماسة في قفصين، مع هدية إلى المعز، وعاد في أخريات السنة، وقد عظم شأنه وبعد صيته، ثم لما قوي عزم المعز على تسيير الجيوش لأخذ مصر، وتهيأ أمرها، فقدّم عليها القائد جوهرا، وبرز إلى رمادة، ومعه ما ينيف على مائة ألف فارس، وبين يديه أكثر من ألف صندوق من المال، وكان المعز يخرج إليه في كل يوم ويخلو به، وأطلق يده في بيوت أمواله، فأخذ منها ما يريد زيادة على ما حمله معه، وخرج إليه يوما، فقام جوهر بين يديه، وقد اجتمع الجيش، فالتفت المعز إلى المشايخ الذين وجههم مع جوهر، وقال: والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر، ولتدخلن إلى مصر بالأردية من غير حرب، ولتنزلن في خرابات ابن طولون، وتبنى مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا، وأمر المعز بإفراغ الذهب في هيئة الأرحية، وحملها مع جوهر على الجمال ظاهرة، وأمر أولاده وإخوانه الأمراء، ووليّ العهد، وسائر أهل الدولة أن يمشوا في خدمته، وهو راكب وكتب إلى سائر عماله يأمرهم

إذا قدم عليهم جوهر أن يترجلوا مشاة في خدمته، فلما قدم برقة افتدى صاحبها من ترجله ومشيه في ركابه بخمسين ألف دينار ذهبا، فأبى جوهر إلّا أن يمشي في ركابه، وردّ المال فمشى، ولمّا رحل من القيروان إلى مصر في يوم السبت رابع عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين وثلثمائة أنشد محمد «1» بن هانىء، في ذلك: رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع غداة كأن الأفق سدّ بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع فلم أدر إذ ودّعت كيف أودع ... ولم أدر إذا شيّعت كيف أشيع إلا أن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع إذا حلّ في أرض بناها مدائنا ... وإن سار عن أرض غدت «2» وهي بلقع تحلّ بيوت المال حيث محله ... وجمّ العطايا والرواق المرفع وكبّرت الفرسان لله إذ بدا ... وظل السلاح المنتضى يتقعقع وعب عباب الموكب الفخم حوله ... ورق كما رق الصباح الملمع رحلت إلى الفسطاط أوّل رحلة ... بأيمن فأل بالذي أنت تجمع فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع ويمّمهم من لا يغار بنعمة ... فيسلبهم لكن يزيد فيوسع ولما دخل إلى مصر واختط القاهرة، وكتب بالبشارة إلى المعز قال ابن هانىء: تقول بنو العباس قد فتحت مصر ... فقل لبني العباس قد قضي الأمر وقد جاوز الإسكندرية جوهر ... تصاحبه «3» البشرى ويقدمه النصر ولم يزل معظما مطاوعا، وله حكم ما فتح من بلاد الشام، حتى ورد المعز من المغرب إلى القاهرة، وكان جعفر بن فلاح يرى نفسه أجلّ من جوهر، فلما قدم معه إلى مصر سيره جوهر إلى بلاد الشام في العساكر، فأخذ الرملة، وغلب الحسن بن عبد الله بن طفج، وسار فملك طبرية ودمشق. فلما صارت الشام له شمخت نفسه عن مكاتبة جوهر، فأنفذ كتبه من دمشق إلى المعز، وهو بالمغرب سرّا من جوهر يذكر فيها طاعته، ويقع في جوهر، ويصف ما فتح الله للمعز على يده، فغضب المعز لذلك، وردّ كتبه كما هي مختومة، وكتب إليه: قد أخطأت

الرأي لنفسك، نحن قد أنفذناك مع قائدنا جوهر، فاكتب إليه فما وصل منك إلينا على يده قرأناه، ولا تتجاوزه بعد، فلسنا نفعل لك ذلك على الوجه الذي أردته، وإن كنت أهله عندنا، ولكنا لا نستفسد جوهرا مع طاعته لنا، فزاد غضب جعفر بن فلاح، وانكشف ذلك لجوهر، فلم يبعث ابن فلاح لجوهر يسأله نجدة خوفا أن لا ينجده بعسكر، وأقام مكانه لا يكاتب جوهرا بشيء من أمره إلى أن قدم عليه الحسن بن أحمد القرمطيّ، وكان من أمره ما قد ذكر في موضعه. ولما مات المعز واستخلف من بعده ابنه العزيز، وورد إلى دمشق: هفتكين الشرابيّ من بغداد، ندب العزيز بالله جوهرا القائد إلى الشام، فخرج إليها بخزائن السلاح، والأموال والعساكر العظيمة، فنزل على دمشق لثمان بقين من ذي القعدة سنة خمس وستين وثلثمائة، فأقام عليها، وهو يحارب أهلها إلى أن قدم الحسن بن أحمد القرمطيّ من الإحساء إلى الشام، فرحل جوهر في ثالث جمادى الأولى سنة ست وستين، فنزل على الرملة والقرمطيّ في إثره فهلك، وقام من بعده جعفر القرمطيّ، فحارب جوهرا، واشتدّ الأمر على جوهر، وسار إلى عسقلان، وحصره هفتكين بها حتى بلغ من الجهد مبلغا عظيما، فصالح هفتكين، وخرج من عسقلان إلى مصر بعد أن أقام بها، وبظاهر الرملة نحوا من سبعة عشر شهرا، فقدم على العزيز، وهو يريد الخروج إلى الشام. فلما ظفر العزيز بهفتكين، واصطنعه في سنة ثمانين وثلثمائة، واصطنع منجوتكين التركيّ أيضا، أخرجه راكبا من القصر وحده في سنة إحدى وثمانين، والقائد جوهر وابن عمار، ومن دونهما من أهل الدولة مشاة في ركابه، وكانت يد جوهر في يد ابن عمار، فزفر ابن عمار زفرة كاد أن ينشق لها، وقال: لا حول ولا قوّ إلا بالله، فنزع جوهر يده منه، وقال: قد كنت عندي يا أبا محمد أثبت من هذا، فظهر منك إنكار في هذا المقام، لأحدّثنك حديثا عسى يسليك عما أنت فيه، والله ما وقف على هذا الحديث أحد غيري. لما خرجت إلى مصر وأنفذت إلى مولانا المعز من أسرته، ثم حصل في يدي آخرون اعتقلتهم، وهم نيف على ثلثمائة أسير من مذكوريهم والمعروفين فيهم، فلما ورد مولانا المعز إلى مصر أعلمته بهم، فقال: أعرضهم عليّ، واذكر في كل واحد حاله، ففعلت، وكان في يده كتاب مجلد يقرأ فيه، فجعلت آخذ الرجل من يد الصقالبة، وأقدّمه إليه، وأقول: هذا فلان، ومن حاله وحاله، فيرفع رأسه، وينظر إليه، ويقول: يجوز ويعود إلى قراءة ما في الكتاب حتى أحضرت له الجماعة، وكان آخرهم غلاما تركيا، فنظر إليه وتأمّله، ولما ولي أتبعه بصره، فلما لم يبق أحد قبلت الأرض، وقلت: يا مولانا رأيتك فعلت لما رأيت هذا التركيّ ما لم تفعله مع من تقدّمه، فقال: يا جوهر يكون عندك مكتوما حتى ترى أنه يكون لبعض ولدنا غلام من هذا الجنس تنفق له فتوحات عظيمة في بلاد كثيرة، ويرزقه

الله على يده ما لم يرزقه أحد منا مع غيره، وأنا أظنّ أنه ذاك الذي قال لي مولانا المعز، ولا علينا إذا فتح الله لموالينا على أيدينا أو على يد من كان، يا أبا محمد، لكل زمان دولة ورجال، أنريد نحن أن نأخذ دولتنا ودولة غيرنا، لقد أرجل لي مولانا المعز لما سرت إلى مصر أولاده وإخوته، ووليّ عهده، وسائر أهل دولته، فتعجب الناس من ذلك، وها أنا اليوم أمشي راجلا بين يدي منجوتكين، أعزونا وأعزوا بنا غيرنا، وبعد هذا، فأقول: اللهم قرّب أجلي ومدّتي فقد أنفت على الثمانين، أو أنا فيها، فمات في تلك السنة، وذلك أنه اعتلّ، فركب إليه العزيز بالله عائدا أو حمل إليه قبل ركوبه خمسة آلاف دينار ومرتبة مثقل، وبعث إليه الأمير منصور بن العزيز بالله خمسة آلاف دينار، توفي يوم الاثنين لسبع بقين من ذي القعدة سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، فبعث إليه العزيز بالحنوط والكفن، وأرسل إليه الأمير منصور بن العزيز أيضا الكفن، وأرسلت إليه السيدة العزيزية الكفن، فكفن في سبعين ثوبا ما بين مثقل ووشي مذهب، وصلى عليه العزيز بالله، وخلع على ابنه الحسين، وحمله وجعله في مرتبة أبيه، ولقبه بالقائد ابن القائد، ومكنه من جميع ما خلفه أبوه، وكان جوهر عاقلا محسنا إلى الناس كاتبا بليغا، فمن مستحسن توقيعاته على قصة رفعت إليه بمصر: سوء الاجترام، أوقع بكم حلول الانتقام، وكفر الإنعام أخرجكم من حفظ الذمام، فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاحتساب، لأنكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعدّيتم، فابتداؤكم ملوم، وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة إلا تقتضي الذم لكم والإعراض عنكم ليرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه رأيه فيكم، ولما مات رثاه كثير من الشعراء. السور الثاني: بناه أمير الجيوش بدر الجماليّ في سنة ثمانين وأربعمائة، وزاد فيه الزيادات التي فيما بين بابي زويلة، وباب زويلة الكبير، وفيما بين باب الفتوح الذي عند حارة بهاء الدين، وباب الفتوح الآن، وزاد عند باب النصر أيضا جميع الرحبة التي تجاه جامع الحاكم الآن إلى باب النصر، وجعل السور من لبن، وأقام الأبواب من حجارة، وفي نصف جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وثمانمائة ابتدئ بهدم السور الحجر، فيما بين باب زويلة الكبير، وباب الفرج عندما هدم الملك المؤيد شيخ الدور ليبني جامعه، فوجد عرض السور في الأماكن نحو العشرة أذرع. السور الثالث: ابتدأ في عمارته السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة ست وستين وخمسمائة، وهو يومئذ على وزارة العاضد لدين الله، فلما كانت سنة تسع وستين، وقد استولى على المملكة، انتدب لعمل السور الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي، فبناه بالحجارة على ما هو عليه الآن، وقصد أن يجعل على القاهرة ومصر والقلعة سورا واحدا، فزاد في سور القاهرة القطعة التي من باب القنطرة إلى باب الشعرية، ومن باب الشعرية إلى باب البحر، وبنى قلعة المقس، وهي برج كبير، وجعله على النيل بجانب جامع المقس، وانقطع السور من هناك، وكان في أمله مدّ السور من المقس إلى أن يتصل بسور مصر، وزاد

في سور القاهرة قطعة مما يلي باب النصر ممتدّة إلى باب البرقية، وإلى درب بطوط، وإلى خارج باب الوزير ليتصل بسور قلعة الجبل، فانقطع من مكان يقرب الآن من الصوّة تحت القلعة لموته، وإلى الآن آثار الجد وظاهرة لمن تأمّلها فيما بين آخر السور إلى جهة القلعة، وكذلك لم يتهيأ له أن يصل سور قلعة الجبل بسور مصر، وجاء دور هذا السور المحيط بالقاهرة الآن تسعة وعشرين ألف ذراع وثلثمائة ذراع وذراعين بذراع العمل، وهو الذراع الهاشميّ، من ذلك ما بين قلعة المقس على شاطىء النيل، والبرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، ومن قلعة المقس إلى حائط قلعة الجبل بمسجد سعد الدولة ثمانية آلاف وثلثمائة واثنان وتسعون ذراعا، ومن جانب حائط قلعة الجبل من جهة مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف، ومائتا ذراع، ومن وراء القلعة بحيال مسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف، ومائتان وعشرة أذرع، وذلك طول قوسه في أبراجه من النيل إلى النيل، وقلعة المقس المذكور كانت برجا مطلا على النيل في شرقيّ جامع المقس، ولم تزل إلى أن هدمها الوزير الصاحب شمس الدين عبد الله المقسيّ، عندما جدّد الجامع المذكور في سنة سبعين وسبعمائة، وجعل في مكان البرج المذكور جنينته، وذكر أنه وجد في البرج مالا، وأنه إنما جدّد الجامع منه، والعامّة تقول اليوم جام المقسيّ بالإضافة وكان يحيط بسور القاهرة خندق شرع في حفره من باب الفتوح إلى المقس في المحرّم سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وكان أيضا من الجهة الشرقية خارج باب النصر إلى باب البرقية، وما بعده، وشاهدت آثار الخندق باقية، ومن ورائه سور بأبراج له عرض كبير مبنيّ بالحجارة، إلّا أنّ الخندق انطمّ، وتهدّمت الأسوار التي كانت من ورائه، وهذا السور هو الذي ذكره القاضي الفاضل في كتابه إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فقال: والله يحيي المولى حتى يستدير بالبلدين نطاقه، ويمتدّ عليهما رواقه، فما عقيلة ما كان معصمها ليترك بغير سوار، ولا خصرها ليتحلى بغير منطقة تضار، والآن قد استقرّت خواطر الناس، وأمنوا به من يد تتخطف، ومن يد مجرم يقدم، ولا يتوقف.

ذكر أبواب القاهرة

ذكر أبواب القاهرة وكان للقاهرة من جهتها القبلية: بابان متلاصقان يقال لهما: باب زويلة، ومن جهتها البحرية: بابان متباعدان، أحدهما: باب الفتوح، والآخر: باب النصر، ومن جهتها الشرقية: ثلاثة أبواب متفرقة: أحدها: يعرف الآن بباب البرقية، والآخر: بالباب الجديد، والآخر: بالباب المحروق، ومن جهتها الغربية ثلاثة أبواب: باب القنطرة، وباب الفرج، وباب سعادة، وباب آخر يعرف: باب الخوخة، ولم تكن هذه الأبواب على ما هي عليه الآن، ولا في مكانها عندما وضعها جوهر. باب زويلة «1» كان باب زويلة عندما وضع القائد جوهر القاهرة بابين متلاصقين بجوار المسجد المعروف اليوم: بسام ابن نوح، فلما قدم المعز إلى القاهرة دخل من أحدهما، وهو الملاصق للمسجد الذي بقي منه إلى اليوم عقد، ويعرف بباب القوس، فتيامن الناس به، وصاروا يكثرون الدخول والخروج منه، وهجروا الباب المجاور له، حتى جرى على الألسنة أن من مرّ به لا تقضى له حاجة، وقد زال هذا الباب، ولم يبق له أثر اليوم إلّا أنه يفضي إلى الموضع الذي يعرف اليوم: بالحجارين، حيث تباع آلات الطرب من الطنابير، والعيدان ونحوهما، وإلى الآن مشهور بين الناس أن من يسلك من هناك لا تقضى له حاجة، ويقول بعضهم: من أجل أن هناك آلات المنكر، وأهل البطالة من المغنين والمغنيات، وليس الأمر كما زعم، فإنّ هذا القول جار على ألسنة أهل القاهرة من حين دخل المعز إليها قبل أن يكون هذا الموضع سوقا للمعازف، وموضعا لجلوس أهل المعاصي.

فلما كان في سنة خمس وثمانين وأربعمائة، بنى أمير الجيوش بدر الجماليّ: وزير الخليفة المستنصر بالله باب زويلة الكبير الذي هو باق إلى الآن، وعلى أبراجه، ولم يعمل له باشورة، كما هي عادة أبواب الحصون من أن يكون في كل باب عطف، حتى لا تهجم عليه العساكر في وقت الحصار، ويتعذر سوق الخيل، ودخولها جملة لكنه عمل في بابه زلاقة كبيرة من حجارة صوّان عظيمة بحيث إذا هجم عسكر على القاهرة لا تثبت قوائم الخيل على الصوّان، فلم تزل هذه الزلاقة باقية إلى أيام السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فاتفق مروره من هنا لك، فاختلّ فرسه، وزلق به، وأحسبه سقط عنه، فأمر بنقضها، فنقضت، وبقي منها شيء يسير ظاهر، فلما ابتنى الأمير جمال الدين يوسف الإستادار المسجد المقابل لباب زويلة، وجعله باسم الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق، ظهر عند حفرة الصهريج الذي به بعض هذه الزلاقة، وأخرج منها حجارة من صوّان لا تعمل فيها العدّة الماضية، وأشكالها في غاية من الكبر لا يستطيع جرّها إلّا أربعة أرؤس بقر، فأخذ الأمير جمال الدين منها شيئا، وإلى الآن حجر منها ملقى تجاه قبو الخرنشف من القاهرة. ويذكر أن ثلاثة إخوة قدموا من الرها بنائين بنوا: باب زويلة، وباب النصر، وباب الفتوح، وكل واحد بنى بابا، وأن باب زويلة هذا بني في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وأن باب الفتوح بني في سنة ثمانين وأربعمائة. وقد ذكر ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة: أن باب زويلة هذا بناه العزيز بالله نزار بن المعز، وتممه أمير الجيوش، وأنشد لعليّ بن محمد النيلي: يا صاح لو أبصرت باب زويلة ... لعلمت قدر محله بنيانا باب تأزر بالمجرّة وارتدى ال ... شعرى ولاث برأسه كيوانا لو أنّ فرعونا بناه لم يرد ... صرحا ولا أوصى به هامانا اهـ. وسمعت غير واحد يذكر أنّ فردتيه يدوران في سكرجتين من زجاج. وذكر جامع سيرة الناصر محمد بن قلاوون: أن في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة رتب أيدكين والي القاهرة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون على باب زويلة خليلية تضرب كل ليلة بعد العصر. وقد أخبرني من طاف البلاد، ورأى مدن الشرق، أنه لم يشاهد في مدينة من المدائن عظم باب زويلة، ولا يرى مثل بدنتيه اللتين عن جانبيه، ومن تأمّل الأسطر التي قد كتبت على أعلاه من خارجه، فإنه يجد فيها اسم أمير الجيوش، والخليفة المستنصر، وتاريخ بنائه، وقد كانت البدنتان أكبر مما هما الآن بكثير، هدم أعلاهما الملك المؤيد شيخ لما أنشأ الجامع داخل باب زويلة، وعمر على البدنتين منارتين، ولذلك خبر تجده

باب النصر

في ذكر الجوامع، عند ذكر الجامع المؤيدي. باب النصر «1» كان باب النصر أوّلا دون موضعه اليوم، وأدركت قطعة من أحد جانبيه، كانت تجاه ركن المدرسة القاصدية الغربيّ، بحيث تكون الرحبة التي فيما بين المدرسة القاصدية، وبين بابي جامع الحاكم القبليين خارج القاهرة، ولذلك تجد في أخبار الجامع الحاكميّ أنه وضع خارج القاهرة، فلما كان في أيام المستنصر، وقدم عليه أمير الجيوش بدر الجماليّ من عكا، وتقلد وزارته، وعمر سور القاهرة، نقل باب النصر، من حيث وضعه القائد جوهر إلى حيث هو الآن، فصار قريبا من مصلى العيد، وجعل له باشورة أدركت بعضها إلى أن احتفرت أخت الملك الظاهر برقوق الصهريج السبيل تجاه باب النصر، فهدمته، وأقامت السبيل مكانه، وعلى باب النصر مكتوب بالكوفيّ في أعلاه: لا إله إلّا الله محمد رسول الله عليّ وليّ الله صلوات الله عليهما. باب الفتوح «2» وضعه القائد جوهر دون موضعه الآن، وبقي منه إلى يومنا هذا عقده، وعضادته اليسرى، وعليه أسطر من الكتابة بالكوفيّ، وهو برأس حارة بهاء الدين من قبليها دون جدار الجامع الحاكميّ، وأما الباب المعروف اليوم: بباب الفتوح، فإنه من وضع أمير الجيوش، وبين يديه باشورة، قد ركبها الآن الناس بالبنيان، لما عمر ما خرج عن باب الفتوح. أمير الجيوش: أبو النجم بدر الجماليّ كان مملوكا أرمنيا لجمال الدولة بن عمار، فلذلك عرف: بالجماليّ، وما زال يأخذ بالجدّ من زمن سبيه فيما يباشره، ويوطن نفسه على قوّة العزم، ويتنقل في الخدم، حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر في يوم الأربعاء ثالث عشري ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة، ثم سار منها كالهارب في ليلة الثلاثاء لأربع عشرة خلت من رجب سنة ست وخمسين، ثم وليها ثانيا يوم الأحد سادس شعبان سنة

ثمان وخمسين، فبلغه قتل ولده شعبان بعسقلان، فخرج في شهر رمضان سنة ستين وأربعمائة، فثار العسكر، وأخربوا قصره، وتقلد نيابة عكا، فلما كانت الشدّة بمصر من شدّة الغلاء، وكثرة الفتن، والأحوال بالحضرة قد فسدت، والأمور قد تغيرت، وطوائف العسكر قد شغبت، والوزراء يقنعون بالاسم دون نفاذ الأمر والنهي، والرخاء قد أيس منه، والصلاح لا مطمع فيه، ولواته قد ملكت الريف، والصعيد بأيدي العبيد، والطرقات قد انقطعت برّا وبحرا إلّا بالخفارة الثقيلة، فلما قتل بلدكوش «1» : ناصر الدولة حسين بن حمدان، كتب المستنصر إليه يستدعيه ليكون المتولي لتدبير دولته، فاشترط أن يحضر معه من يختاره من العساكر، ولا يبقى أحدا من عسكر مصر، فأجابه المستنصر إلى ذلك، فاستخدم معه عسكرا، وركب البحر من عكا في أوّل كانون، وسار بمائة مركب بعد أن قيل له: إنّ العادة لم تجر بركوب البحر في الشتاء لهيجانه، وخوف التلف، فأبى عليهم، وأقلع فتمادى الصحو، والسكون مع الريح الطيبة مدّة أربعين يوما، حتى كثر التعجب من ذلك، وعدّ من سعادته، فوصل إلى تنيس ودمياط، واقترض المال من تجارها ومياسيرها، وقام بأمر ضيافته، وما يحتاج إليه من الغلال: سليمان اللواتيّ كبير أهل البحيرة، وسار إلى قليوب، فنزل بها وأرسل إلى المستنصر يقول: لا أدخل إلى مصر حتى تقبض على بلدكوش، وكان أحد الأمراء، وقد اشتدّ على المستنصر بعد قتل ابن حمدان، فبادر المستنصر، وقبض عليه، واعتقله بخزانة البنود، فقدم بدر عشية الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة خمس وستين وأربعمائة، فتهيأ له أن قبض على جميع أمراء الدولة، وذلك أنه لما قدم لم يكن عند الأمراء علم من استدعائه، فما منهم إلّا من أضافه، وقدّم إليه، فلما انقضت نوبهم في ضيافته استدعاهم إلى منزله في دعوة صنعها لهم، وبيت مع أصحابه أن القوم إذا أجنهم الليل، فإنهم لا بدّ يحتاجون إلى الخلاء، فمن قام منهم إلى الخلاء يقتل هناك، ووكل بكل واحد واحدا من أصحابه، وأنعم عليه بجميع ما يتركه ذلك الأمير من دار ومال، وإقطاع وغيره، فصار الأمراء إليه وظلوا نهارهم عنده، وباتوا مطمئنين، فما طلع ضوء النهار حتى استولى أصحابه على جميع دور الأمراء، وصارت رؤوسهم بين يديه، فقويت شوكته، وعظم أمره، وخلع عليه المستنصر بالطيلسان المقوّر، وقلده وزارة السيف والقلم، فصارت القضاة والدعاة، وسائر المستخدمين من تحت يده، وزيد في ألقابه أمير الجيوش كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، وتتبع المفسدين، فلم يبق منهم أحدا حتى قتله، وقتل من أماثل المصريين، وقضاتهم ووزرائهم جماعة، ثم خرج إلى الوجه البحريّ، فأسرف في قتل من هنا لك من لواتة، واستصفى أموالهم، وأزاح المفسدين وأفناهم بأنواع القتل، وصار

باب القنطرة

إلى البرّ الشرقيّ، فقتل منه كثيرا من المفسدين، ونزل إلى الإسكندرية، وقد ثار بها جماعة مع ابنه الأوحد، فحاصرها أياما من المحرّم سنة سبع وسبعين وأربعمائة، إلى أن أخذها عنوة، وقتل جماعة ممن كان بها، وعمر جامع العطارين من مال المصادرات، وفرغ من بنائه في ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وأربعمائة، ثم سار إلى الصعيد، فحارب جهينة والثعالبة، وأفتى أكثرهم بالقتل، وغنم من الأموال، ما لا يعرف قدره كثرة، فصلح به حال الإقليم بعد فساده، ثم جهز العساكر لمحاربة البلاد الشامية، فصارت إليها غير مرّة، وحاربت أهلها، ولم يظفر منها بطائل، واستناب ولده شاهنشاه، وجعله وليّ عهده. فلما كان في سنة سبع وثمانين وأربعمائة مات في ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى منها، وقد تحكم في مصر تحكم الملوك، ولم يبق للمستنصر معه أمر، واستبدّ بالأمور، فضبطها أحسن ضبط، وكان شديد الهيبة، وافر الحرمة مخوف السطوة قتل من مصر خلائق لا يحصيها إلا خالقها، منها أنه قتل من أهل البحيرة نحو العشرين ألف إنسان إلى غير ذلك من أهل دمياط والإسكندرية، والغربية والشرقية، وبلاد الصعيد وأسوان، وأهل القاهرة ومصر، إلّا أنه عمر البلاد، وأصلحها بعد فسادها وخرابها، بإتلاف المفسدين من أهلها، وكان له يوم مات نحو الثمانين سنة، وكانت له محاسن منها: أنه أباح الأرض للمزارعين ثلاث سنين، حتى ترفهت أحوال الفلاحين، واستغنوا في أيامه، ومنها حضور التجار إلى مصر لكثرة عدله بعد انتزاحهم منها في أيام الشدّة، ومنها كثرة كرمه، وكانت مدّة أيامه بمصر إحدى وعشرين سنة، وهو أوّل وزراء السيوف الذين حجروا على الخلفاء بمصر. ومن آثاره الباقية بالقاهرة: باب زويلة، وباب الفتوح، وباب النصر، وقام من بعده بالأمر ابنه شاهنشاه الملقب بالأفضل بن أمير الجيوش، وبه وبابنه الأفضل أبهة الخلفاء الفاطمية بعد تلاشي أمرها، وعمرت الديار المصرية بعد خرابها، واضمحلال أحوال أهلها، وأظنه هو الذي أخبر عنه المعز فيما تقدّم من حكاية جوهر عنه، فإنه لم يتفق ذلك لأحد من رجال دولتهم غيره، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. باب القنطرة عرف بذلك لأنّ جوهر القائد بنى هناك قنطرة فوق الخليج الذي بظاهر القاهرة ليمشي عليها إلى المقس عند مسير القرامطة إلى مصر في شوّال سنة ستين وثلثمائة.

باب الشعرية

باب الشعرية يعرف بطائفة من البربر يقال لهم: بنو الشعرية، هم ومزانة وزيارة وهوارة من أحلاف لواتة الذين نزلوا بالمنوفية. باب سعادة عرف بسعادة بن حيان، غلام المعز لدين الله، لأنه لما قدم من بلاد المغرب بعد بناء القائد جوهر القاهرة نزل بالجيزة، وخرج جوهر إلى لقائه، فلما عاين سعادة جوهرا ترجل وسار إلى القاهرة في رجب سنة ستين وثلثمائة، فدخل إليها من هذا الباب، فعرف به، وقيل له: باب سعادة، ووافى سعادة هذا القاهرة بجيش كبير معه، فلما كان في شوّال سيره جوهر في عسكر مجر عند ورود الخبر من دمشق بمجيء الحسين بن أحمد القرمطيّ المعروف: بالأعصم، إلى الشام، وقتل جعفر بن فلاح، فسار سعادة يريد الرملة، فوجد القرمطيّ قد قصدها، فانحاز بمن معه إلى يافا، ورجع إلى مصر، ثم خرج إلى الرملة، فملكها في سنة إحدى وستين، فأقبل إليه القرمطيّ، ففرّ منه إلى القاهرة، وبها مات لخمس بقين من المحرّم سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وحضر جوهر جنازته، وصلى عليه الشريف أبو جعفر مسلم، وكان فيه برّ وإحسان. الباب المحروق كان يعرف قديما بباب القرّاطين، فلما زالت دولة بني أيوب، واستقل بالملك: الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ «1» ، أوّل من ملك من المماليك بمملكة مصر في سنة خمسين وستمائة، كان حينئذ أكبر الأمراء البحرية مماليك، الملك الصالح نجم الدين أيوب، الفارس أقطاي الجمدار، وقد استفحل أمره، وكثرت أتباعه، ونافس المعز أيبك، وتزوّج بابنة الملك المظفر صاحب حماه، وبعث إلى المعز بأن ينزل من قلعة الجبل، ويخليها له، حتى يسكنها بامرأته المذكورة، فقلق المعز منه، وأهمّه شأنه، وأخذ يدبر عليه، فقرّر مع عدّة من مماليكه أن يقفوا بموضع من القلعة عينه لهم، وإذا جاء الفارس أقطاي فتكوا به، وأرسل إليه وقت القائلة يستدعيه ليشاوره في أمر مهمّ، فركب في قائلة يوم الاثنين حادي عشري شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة في نفر من مماليكه، وهو آمن مطمئن بما

باب البرقية

صار له في الأنفس من الحرمة والمهابة، وبما يثق به من شجاعته، فلما صار بقلعة الجبل، وانتهى إلى قاعة العواميد عوّق من معه من المماليك عن الدخول معه، ووثب به المماليك الذين أعدّهم المعزّ، وتناولوه بالسيوف، فهلك لوقته، وغلقت أبواب القلعة، وانتشر الصوت بقتله في البلد، فركب أصحابه وخشداشيته «1» ، وهم نحو السبعمائة فارس إلى تحت القلعة، وفي ظنهم أنّ الفارس أقطاي لم يقتل، وإنما قبض عليه السلطان، وإنهم يقاتلونه حتى يطلقه لهم، فلم يشعروا إلّا برأس الفارس أقطاي، وقد ألقيت عليهم من القلعة، فانفضوا لوقتهم، وتواعدوا على الخروج من مصر إلى الشام، وأكابرهم يومئذ بيبرس البندقداريّ، وقلاون الإلفيّ، وسنقر الأشقر، وبيسري، وسكز، وبرامق، فخرجوا في الليل من بيوتهم بالقاهرة إلى جهة باب القرّاطين، ومن العادة أن تغلق أبواب القاهرة بالليل، فألقوا النار في الباب حتى سقط من الحريق، وخرجوا منه، فقيل له من ذلك الوقت: الباب المحروق وعرف به، وأما القوم فإنهم ساروا إلى الملك الناصر يوسف بن العزيز صاحب الشام، فقبلهم وأنعم عليهم، وأقطعهم إقطاعات، واستكثر بهم، وأصبح المعز، وقد علم بخروجهم إلى الشام، فأوقع الحوطة على جميع أموالهم ونسائهم وأولادهم وعامّة تعلقاتهم، وسائر أسبابهم، وتتبعهم ونادى عليهم في الأسواق بطلب البحرية، وتحذير العامّة من إخفائهم، فصار إليه من أموالهم ما ملأ عينه، واستمرّت البحرية في الشام إلى أن قتل المعز أيبك، وخلع ابنه المنصور، وتسلطن الأمير قطز، فتراجعوا في أيامه إلى مصر، وآلت أحوالهم إلى أن تسلطن منهم: بيبرس وقلاون، ولله عاقبة الأمور. باب البرقية «2»

ذكر قصور الخلفاء ومناظرهم والإلماع بطرف من مآثرهم وما صارت إليه أحوالها من بعدهم

ذكر قصور الخلفاء ومناظرهم والإلماع بطرف من مآثرهم وما صارت إليه أحوالها من بعدهم إعلم أنه كان للخلفاء الفاطميين بالقاهرة، وظواهرها: قصور ومناظر، منها: القصر الكبير الشرقيّ الذي وضعه القائد جوهر عندما أناخ في موضع القاهرة، ومنها: القصر الصغير الغربيّ، والقصر اليافعيّ، وقصر الذهب، وقصر الأقيال، وقصر الظفر، وقصر الشجرة، وقصر الشوك، وقصر الزمرّذ، وقصر النسيم، وقصر الحريم، وقصر البحر، وهذه كلها قاعات، ومناظر من داخل سور القصر الكبير، ويقال لها: القصور الزاهرة، ويسمى مجموعها: القصر، وكان بجوار القصر الغربيّ: الميدان والبستان الكافوريّ، وكان لهم عدّة مناظر وآدر سلطانية غير هذه القصور، منها: دار الضيافة، ودار الوزارة، ودار الوزارة القديمة، ودار الضرب، والمنظرة بالجامع الأزهر، والمنظرة بجوار الجامع الأقمر، ومنظرة اللؤلؤة على الخليج بظاهر القاهرة، ومنظرة الغزالة، ودار الذهب، ومنظرة المقس، ومنظرة الدكة والبعل، والخمس وجوه، والتاج وقبة الهواء، والبساتين الجيوشية، والبستان الكبير، ومنظرة السكرة، والمنظرة ظاهر باب الفتوح، ودار الملك بمدينة مصر، ومنازل العز بها، ومنظرة الصناعة بالساحل، ومنظرة بجوار جامع القرافة الكبرى المعروف اليوم: بجامع الأولياء والأندلس بالقرافة، والمنظرة ببركة الحبش، وسأذكر من أخبار هذه الأماكن في مدّة الدولة الفاطمية، وما آل إليه حالها بحسب ما انتهى إليّ علمه إن شاء الله تعالى. القصر الكبير هذا القصر كان في الجهة الشرقية من القاهرة، فلذلك يقال له: القصر الكبير الشرقيّ، ويسمى: القصر المعزي لأنّ المعز لدين الله أبا تميم معدّا هو الذي أمر عبده، وكاتبه جوهرا ببنائه، حين سيره من رمادة أحد بلاد إفريقية بالعساكر إلى مصر، وألقى إليه ترتيبه، فوضعه على الترتيب الذي رسمه له، ويقال: إن جوهرا لما أسسه في الليلة التي أناخ قبلها في موضعه، وأصبح رأي فيه ازورارات غير معتدلة لم تعجبه، فقيل له في تغييرها، فقال: قد

حفر في ليلة مباركة، وساعة سعيدة، فتركه على حاله. وكان ابتداء وضعه مع وضع أساس سور القاهرة في ليلة الأربعاء الثامن عشر من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وركّب عليه بابان يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين، ثم إنه أدار عليه سورا محيطا به في سنة ستين وثلثمائة، وهذا القصر كان دار الخلافة، وبه سكن الخلفاء إلى آخر أيامهم، فلما انقرضت الدولة على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، أخرج أهل القصر منه وأسكن فيه الأمراء، ثم خرب أوّلا فأوّلا. وذكر ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة عن مرهف بوّاب باب الزهومة «1» أنه قال: أعلم هذا الباب المدّة الطويلة، وما رأيته دخل إليه حطب، ولا رمي منه تراب قال: وهذا أحد أسباب خرابة، لوقود أخشابه، وتكوين ترابه، قال: ولما أخذه صلاح الدين، وأخرج من كان به كان فيه اثنا عشر ألف نسمة، ليس فيهم فحل إلا الخليفة، وأهله وأولاده، فأسكنهم دار المظفر بحارة برجوان «2» ، وكانت تعرف: بدار الضيافة، قال: ووجد إلى جانب القصر بئر تعرف ببئر الصنم، كان الخلفاء يرمون فيها القتلى، فقيل: إنّ فيها مطلبا، وقصد تغويرها، فقيل: إنها معمورة بالجانّ، وقتل عمارها جماعة من أشياعه، فردمت وتركت، انتهى. وكان صلاح الدين لما أزال الدولة أعطى هذا القصر الكبير لأمراء دولته، وأنزلهم فيه، فسكنوه وأعطى القصر الصغير الغربيّ لأخيه الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، فسكنه وفيه ولد له ابنه الكامل ناصر الدين محمّد، وكان قد أنزل والده نجم الدين أيوب بن شادي في منظرة اللؤلؤة، ولما قبض على الأمير داود ابن الخليفة العاضد، وكان وليّ عهد أبيه، وينعت بالحامد لله اعتقله وجميع إخوته، وهم: أبو الأمانة جبريل، وأبو الفتوح، وابنه أبو القاسم، وسليمان بن داود بن العاضد، وعبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد، وإسماعيل بن العاضد، وجعفر بن أبي الطاهر بن جبريل، وعبد الظاهر بن أبي الفتوح بن جبريل بن الحافظ وجماعة، فلم يزالوا في الاعتقال بدار المظفر وغيرها إلى أن انتقل الكامل محمد بن العادل من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل، فنقل معه ولد العاضد وإخوته

وأولاد عمه، واعتقلهم بها، وفيها مات داود بن العاضد، ولم يزل بقيتهم معتقلين بالقلعة، إلى أن استبدّ السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، فأمر في سنة ستين بالإشهاد على كمال الدين إسماعيل بن العاضد، وعماد الدين أبي القاسم ابن الأمير أبي الفتوح بن العاضد، وبدر الدين عبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد أن جميع المواضع التي قبليّ المدارس الصالحية من القصر الكبير، والموضع المعروف بالتربة باطنا وظاهرا بخط الخوخ السبع، وجميع الموضع المعروف بالقصر اليافعي «1» بالخط المذكور، وجميع الموضع المعروف بالجباسة بالخط المذكور، وجميع الموضع المعروف بالجباسة بالخط المذكور، وجميع الموضع المعروف: بخزائن السلاح السلطانية، وما هو بخطه، وجميع الموضع المعروف بسكن أولاد شيخ الشيوخ وغيرهم من القصر الشارع بابه قبالة دار الحديث النبويّ الكاملية، وجميع الموضع المعروف بالقصر الغربيّ، وجميع الموضع المعروف بدار القنطرة بخط المشهد الحسينيّ، وجميع الموضع المعروف بدار الضيافة بحارة برجوان، وجميع الموضع المعروف بدار الذهب بظاهر القاهرة، وجميع الموضع المعروف باللؤلؤة «2» ، وجميع قصر الزمرّذ، وجميع البستان «3» الكافوريّ، ملك لبيت المال بالنظر المولويّ السلطانيّ الملكيّ الظاهريّ من وجه صحيح شرعيّ، لا رجعة لهم فيه، ولا لواحد منهم في ذلك، ولا في شيء منه ولاء، ولا شبهة بسبب يد ولا ملك، ولا وجه من الوجوه كلها خلا ما في ذلك من مسجد لله تعالى أو مدفن لآبائهم، فأشهدوا عليهم بذلك، وورخوا الإشهاد بالثالث عشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، وأثبت على يد قاضي القضاة الصاحب تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعيّ، وتقرّر مع المذكورين أنه مهما كان قبضوه من أثمان بعض الأماكن المذكورة التي عاقد عليها وكلاؤهم، واتصلوا إليه يحاسبوا به من جملة ما تحرّر ثمنه عند وكيل بيت المال، وقبضت أيدي المذكورين عن التصرّف في الأماكن المذكورة، وغيرها مما هو منسوب إلى آبائهم، ورسم ببيع ذلك، فباعه وكيل بيت المال كمال الدين ظافر شيئا بعد شيء، ونقضت تلك المباني، وابتنى في مواضعها على غير تلك الصفة من المساكن وغيرها كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وكان هذا القصر يشتمل على مواضع منها: قاعة الذهب: وكان يقال لقاعة الذهب: قصر الذهب، وهو أحد قاعات القصر الذي

هو قصر المعز لدين الله معدّ، وبنى قصر الذهب العزيز بالله نزار بن المعز، وكان يدخل إليه من باب الذهب الذي كان مقابلا للدار القطبية التي هي اليوم المارستان المنصوريّ، ويدخل إليه أيضا من باب البحر الذي هو الآن تجاه المدرسة الكاملية، وجدّد هذا القصر من بعد العزيز الخليفة المستنصر في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وبهذه القاعة كانت الخلفاء تجلس في الموكب يوم الاثنين، ويوم الخميس، وبها كان يعمل سماط شهر رمضان للأمراء، وسماط العيدين، وبها كل سرير الملك. هيئة جلوس الخليفة بمجلس الملك: قال الفقيه أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق في كتاب سيرة المعز: وكان وصول المعز لدين الله إلى قصره بمصر في يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة، ولما وصل إلى قصره خرّ ساجدا، ثم صلى ركعتين وصلى بصلاته كل من دخل معه، واستقرّ في قصره بأولاده وحشمه، وخواص عبيده، والقصر يومئذ يشتمل على ما فيه من عين، وورق، وجوهر، وحلى، وفرش، وأوان، وثياب وسلاح، وأسفاط وأعدال، وسروج ولجم، وبيت المال بحاله بما فيه، وفيه جميع ما يكون للملوك، وللنصف من رمضان جلس المعجز في قصره على السرير الذهب الذي عمله عبده القائد جوهر في الإيوان الجديد، وأذن بدخول الأشراف أوّلا، ثم أذن بعدهم للأولياء، ولسائر وجوه الناس، وكان القائد جوهر قائما بين يديه يقدّم الناس قوما بعد قوم، ثم مضى القائد جوهر، وأقبل بهديته التي عباها ظاهرة يراها الناس، وهي: من الخيل مائة وخمسون فرسا مسرجة ملجمة منها مذهب، ومنها مرصع، ومنها معنبر، وإحدى وثلاثون قبة على نوق بخاتي بالديباج، والمناطق والفرش منها تسعة بديباج مثقل، وتسع نوق مجنوبة مزينة بمثقل، وثلاثة وثلاثون بغلا منها سبعة مسرجة ملجمة، ومائة وثلاثون بغلا للنقل، وتسعون نجيبا، وأربعة صناديق مشبكة، يرى ما فيها، وفيها أواني الذهب والفضة، ومائة سيف محلى بالذهب والفضة، ودرجان من فضة مخرقة فيها جوهر، وشاشية مرصعة في غلاف وتسعمائة ما بين سفط وتخت فيها سائر ما أعدّ له من ذخائر مصر. وفي يوم عرفة نصب المعز الشمسية التي عملها للكعبة على إيوان قصره، وسعتها: اثنا عشر شبرا في اثني عشر شبرا، وأرضها ديباج أحمر، ودورها اثنا عشر هلال ذهب، في كل هلال أترجة ذهب مسبك، جوف كل أترجة خمسون درة كبار كبيض الحمام، وفيها الياقوت الأحمر، والأصفر، والأزرق، وفي دورها كتابة آيات الحج بزمرّذ أخضر قد فسر، وحشو الكتابة در كبير لم ير مثله، وحشو الشمسية: المسك المسحوق يراها الناس في القصر، ومن خارج القصر لعلوّ موضعها، وإنما نصبها عدّة فرّاشين، وجرّوها لثقل وزنها. وقال في كتاب الذخائر والتحف: وما كان بالقصر من ذلك إن وزن ما استعمل من الذهب الإبريز الخالص في سرير الملك الكبير، مائة ألف مثقال وعشرة آلاف مثقال ووزن

ما حلي به الستر الذي أنشأه سيد الوزراء أبو محمد البازوري من الذهب أيضا ثلاثون ألف مثقال، وإنه رصع بألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر من سائر ألوانه، وذكر أن في الشمسية الكبيرة ثلاثين ألف مثقال ذهبا، وعشرين ألف درهم مخرّقة، وثلاثة آلاف وستمائة قطعة جوهر من سائر ألوانه وأنواعه، وأن في الشمسية التي لم تتمّ من الذهب سبعة عشر ألف مثقال. وقال المرتضى أبو محمد عبد السلام بن محمد بن الحسن بن عبد السلام بن الطوير الفهريّ القيسرانيّ: الكاتب المصريّ في كتاب نزهة المقلتين في أخبار الدولتين الفاطمية والصلاحية، الفصل العاشر في ذكر هيئتهم في الجلوس العام بمجلس الملك، ولا يتعدّى ذلك يومي الاثنين والخميس، ومن كان أقرب الناس إليهم، ولهم خدم لا تخرج عنهم، وينتظر لجلوس الخليفة أحد اليومين المذكورين، وليس على التوالي بل على التفاريق، فإذا تهيأ ذلك في يوم من هذه الأيام استدعى الوزير من داره صاحب الرسالة على الرسم المعتاد في سرعة الحركة، فيركب في أبهته، وجماعته على الترتيب المقدّم ذكره يعني في ذكر الركوب أوّل العام، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه من هذا الكتاب، فيسير من مكان ترجله عن دابته بدهليز العمود إلى مقطع الوزارة، وبين يديه أجلاء أهل الإمارة، كل ذلك بقاعة الذهب التي كان يسكنها السلطان بالقصر، وكان الجلوس قبل ذلك بالإيوان الكبير الذي هو خزائن السلاح في صدره على سير الملك، وهو باق في مكانه إلى الآن من هذا المكان إلى آخر أيام المستعلي، ثم إنّ الآمر نقل الجلوس في هذا المكان، واسمه مكتوب بأعلى باذهنجه «1» إلى اليوم، ويكون المجلس المذكور معلقا فيه ستور الديباج شتاء، والدبيقيّ صيفا، وفرش الشتاء بسط الحرير عوضا عن الصوف مطابقا لستور الديباج، وفرش الصيف مطابقا لستور الديبقيّ، ما بين طبري وطبرستاني مذهب معدوم المثل، وفي صدره: المرتبة المؤهلة لجلوسه في هيئة جليلة على سرير الملك المغشى بالقرقوبيّ، فيكون وجه الخليفة عليه قبالة وجوه الوقوف بين يديه، فإذا تهيأ الجلوس استدعى الوزير من المقطع إلى باب المجلس المذكور، وهو مغلق وعليه ستر، فيقف بحذائه، وعن يمينه زمام القصر، وعن يساره زمام بيت المال، فإذا انتصب الخليفة على المرتبة وضع أمين الملك مفلح أحد الأستاذين المحنكين «2» الخواص الدواة مكانها من المرتبة، وخرج من المقطع الذي يقال له فردا لكم، فإذا الوزير واقف أمام باب المجلس، وحواليه الأمراء المطوّقون أرباب الخدم

الجليلة، وغيرهم، وفي خلالهم قرّاء الحضرة، فيشير صاحب المجلس إلى الأستاذين، فيرفع كل منهم جانب الستر، فيظهر الخليفة جالسا بمنصبه المذكور، فتستفتح القرّاء بقراءة القرآن الكريم، ويسلم الوزير بعد دخوله إليه، فيقبل يديه ورجليه، ويتأخر مقدار ثلاثة أذرع، وهو قائم قدر ساعة زمانية، ثم يؤمر بأن يجلس على الجانب الأيمن، وتطرح له مخدّة تشريفا، ويقف الأمراء في أماكنهم المقرّرة، فصاحب الباب، واسفهسلار «1» العساكر من جانبي الباب يمينا ويسارا، ويليهم من خارجه لاصقا بعتبته زمام الآمرية والحافظية كذلك، ثم يرتبهم على مقاديرهم، فكل واحد لا يتعدّى مكانه هكذا إلى آخر الرواق، وهو الإفريز العالي عن أرض القاعة، ويعلوه الساباط على عقود القناطر التي على العهد هناك، ثم أرباب القصب والعماريات يمنة ويسرة كذلك، ثم الأماثل، والأعيان من الأجناد المترشحين للتقدمة، ويقف مستندا للصدر الذي يقابل باب المجلس: بوّاب الباب، والحجاب، ولصاحب الباب في ذلك المحل الدخول والخروج، وهو الموصل عن كل قائل ما يقول، فإذا انتظم ذلك النظام، واستقرّ بهم المقام، فأوّل ماثل للخدمة بالسلام: قاضي القضاة، والشهود المعروفون بالاستخدام، فيجيز صاحب الباب القاضي دون من معه، فيسلم متأدّبا، ويقف قريبا، ومعنى الأدب في السلام، أنه يرفع يده اليمنى، ويشير بالمسبحة، ويقول بصوت مسموع: السلام على أمير المؤمنين، ورحمة الله وبركاته، فيتخصص بهذا الكلام دون غيره من أهل السلام، ثم يسلم بالأشراف الأقارب زمامهم، وهو من الأستاذين المحنكين، وبالأشراف الطالبيين نقيبهم، وهو من الشهود المعدّلين، وتارة يكون من الأشراف المميّزين، فيمضي عليهم كذلك ساعتان زمانيتان أو ثلاث، ويخص بالسلام في ذلك الوقت خلع عليه: لقوص، أو الشرقية أو الغربية أو الإسكندرية، فيشرّفون بتقبيل القبة، فإن دعت حاجة الوزير إلى مخاطبة الخليفة في أمر قام من مكانه، وقرب منه منحنيا على سيفه، فيخاطبه مرّة أو مرّتين، ثم يؤمر الحاضرون، فيخرجون حتى يكون آخر من يخرج الوزير بعد تقبيل يد الخليفة ورجله، ويخرج فيركب على عادته إلى داره، وهو مخدوم بأولئك، ثم يرخي الستر، ويغلق باب المجلس إلى يوم مثله، فيكون الحال كما ذكر، ويدخل الخليفة إلى مكانه المستقرّ فيه، ومعه خواص أستاذيه، وكان أقرب الناس إلى الخلفاء: الأستاذون المحنكون، وهم أصحاب الأنس لهم، ولهم من الخدم ما لا يتطرّق إليه سواهم، ومنهم زمام القصر، وشاد التاج الشريف، وصاحب بيت المال، وصاحب الدفتر، وصاحب الرسالة، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب المجلس، وهم المطلعون على أسرار الخليفة، وكانت لهم طريقة محمودة في بعضهم بعضا، منها: أنه متى ترشح أستاذ للتحنيك، وحنك: حمل إليه كل واحد من المحنكين بدلة من ثياب، ومنديلا وفرشا

كيفية سماط شهر رمضان بهذه القاعة

وسيفا، فيصبح لاحقا بهم، وفي يديه مثل ما في أيديهم، وكان لا يركب أحد في القصر إلا الخليفة، ولا ينصرف ليلا ونهارا إلا كذلك، وله في الليل شدّادات من النساء يخدمن البغلات والحمير الإناث للجواز في السراديب القصيرة الأقباء، والطلوع على الزلاقات إلى أعالي المناظر والأماكن، وفي كل محلة من محلات القصر فسقية مملوءة بالماء خيفة من حدوث حريق في الليل. كيفية سماط شهر رمضان بهذه القاعة قال ابن الطوير: فإذا كان اليوم الرابع من شهر رمضان، رتب عمل السماط كل ليلة بالقاعة بالقصر إلى السادس والعشرين منه، ويستدعى له: قاضي القضاة ليالي الجمع توقيرا له، فأما الأمراء، ففي كل ليلة منهم قوم بالنوبة، ولا يحرمونهم الإفطار مع أولادهم، وأهاليهم، ويكون حضورهم بمسطور يخرج إلى صاحب الباب، وأسفهسلاره، فيعرف صاحب كل نوبة ليلته، فلا يتأخر ويحضر الوزير، فيجلس صدره، فإن تأخر كان ولده أو أخوه، وإن لم يحضر أحد من قبله كان صاحب الباب، ويهتم فيه اهتماما عظيما تاما بحيث لا يفوته شيء من أصناف المأكولات الفائقة، والأغذية الرائقة، وهو مبسوط في طول القاعة، مادّ من الرواق إلى ثلثي القاعة المذكورة، والفرّاشون قيام لخدمة الحاضرين، وحواشي الأستاذين يحضرون الماء المبخر في كيزان الخزف برسم الحاضرين، ويكون انفصالهم العشاء الآخرة، فيعمهم ذلك، ويصل منه شيء إلى أهل القاهرة من بعض الناس لبعض، ويأخذ الرجل الواحد ما يكفي جماعة، فإذا حضر الوزير أخرج إليه مما هو بحضرة الخليفة، وكانت يده فيه تشريفا له، وتطييبا لنفسه، وربما حمل لسحوره من خاص ما يعين لسحور الخليفة نصيب وافر، ثم يتفرّق الناس إلى أماكنهم بعد العشاء الآخرة بساعة أو ساعتين، قال: ومبلغما ينفق في شهر رمضان لسماطه مدّة سبعة وعشرين يوما ثلاثة آلاف دينار. عمل سماط عيد الفطر بهذه القاعة قال الأمير المختار عز الملك بن عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز المسبحيّ في تاريخه الكبير: وفي آخر يوم منه يعني شهر رمضان سنة ثمانين وثلثمائة، حمل يانس الصقلبي صاحب الشرطة السفلى السماط، وقصور السكر والتماثيل، وأطباقا فيها تماثيل حلوى، وحمل أيضا عليّ بن سعد المحتسب القصور وتماثيل السكر. وقال ابن الطوير: فأما الأسمطة الباطنة التي يحضرها الخليفة بنفسه، ففي يوم عيد الفطر: اثنان، ويوم عيد النحر: واحد، فأما الأوّل من عبيد الفطر، فإنه يعين في الليل بالإيوان قدّام الشباك الذي يجلس فيه الخليفة، فيمدّ ما مقداره ثلثمائة ذراع في عرض سبعة

أذرع من الخشكنان، والفانيذ، والبسندود المقدّم ذكر عمله بدار الفطرة، فإذا صلى الفجر في أوّل الوقت حضر إليه الوزير، وهو جالس في الشباك، ومكن الناس من ذلك الممدود، فأخذ وحمل ونهب، فيأخذه من يأكله في يومه، ومن يدّخره لغده، ومن لا حاجة له به، فيبيعه ويتسلط عليه أيضا حواشي القصر المقيمون هناك، فإذا فرغ من ذلك، وقد بزغت الشمس ركب من باب الملك بالإيوان، وخرج من باب العيد إلى المصلى، والوزير معه كما وصفنا في هيئة ركوب هذا العيد في فصله مخليا لقاعة الذهب لسماط الطعام، فينصب له سرير الملك قدّام باب المجلس في الرواق، وينصب فيه مائدة من فضة، ويقال لها: المدوّرة، وعليها أواني الفضيات والذهبيات، والصيني الحاوية للأطعمة الخاص الفائحة الطيب الشهية من غير خضراوات، سوى الدجاج الفائق المسمن المعمول بالأمزجة الطيبة النافعة، ثم ينصب السماط أمام السرير إلى باب المجلس قبالته، ويعرف بالمحول طول القاعة، وهو اليوم الباب الذي يدخل منه إليها من باب البحر الذي هو باب القصر اليوم، والسماط خشب مدهون شبه الدكك اللاطية، فيصير من جمعه للأواني سماطا عاليا في ذلك الطول، وبعرض عشرة أذرع، فيفرش فوق ذلك الأزهار، ويرص الخبز على حافتيه سواميذ كل واحد ثلاثة أرطال من نقيّ الدقيق، ويدهن وجهها عند خبزها بالماء، فيحصل لها بريق، ويحسن منظرها، ويعمر داخل ذلك السماط على طوله بأحد وعشرين طبقا في كل طبق أحد وعشرون ثنيا سمينا مشويا، وفي كل من الدجاج والفراريج وفراخ الحمام ثلثمائة وخمسون طائرا، فيبقى طائلا مستطيلا، فيكون كقامة الرجل الطويل، ويسوّر بشرائح الحلواء اليابسة، ويزين بألوانها المصبغة، ثم يسدّ خلل تلك الأطباق بالصحون الخزفية التي في كل واحد منها سبع دجاجات، وهي مترعة بالألوان الفائقة من الحلواء المائعة والطباهجة «1» المشققة، والطيب غالب على ذلك كله، فلا يبعد أن تناهز عدّة الصحون المذكورة خمسمائة صحن، ويرتب ذلك أحسن ترتيب من نصف الليل بالقاعة إلى حين عود الخليفة من المصلى، والوزير معه، فإذا دخل القاعة، وقف الوزير على باب دخول الخليفة، لينزع عنه الثياب العيدية التي في عمامتها السمة، ويلبس سواها من خزائن الكسوات الخاصة التي قدّمنا ذكرها، وقد عمل بدار الفطرة، قصران من حلى في كلواحد سبعة عشر قنطارا، وحملا، فمنهما واحد يمضي به من طريق قصر الشوك إلى باب الذهب، والآخر يشق به بين القصرين يحملهما العتالون، فينصبان أوّل السماط وآخره، وهما شكل مليح مدهونان بأوراق الذهب، وفيهما شخوص ناتئة كأنها مسبوكة في قوالب لوحا لوحا، فإذا عبر الخليفة راكبا، ونزل على السرير الذي عليه المدوّرة الفضة، وجلس قام على رأسه أربعة من كبار الأستاذين المحنكين، وأربعة من خواص الفرّاشين، ثم يستدعي الوزير، فيطلع إليه ويجلس عن يمينه، ويستدعي الأمراء المطوّقين، ومن يليهم من الأمراء دونهم،

الإيوان الكبير

فيجلسون على السماط كقيامهم بين يديه، فيأكل من أراد من غير إلزام، فإنّ في الحاضرين من لا يعتقد الفطر في ذلك اليوم، فيستولي على ذلك المعمول الآكلون، وينقل إلى دار أرباب الرسوم، ويباح فلا يبقى منه إلا السماط فقط، فيعم أهل القاهرة ومصر من ذلك نصيب وافر، فإذا انقضى ذلك عند صلاة الظهر، انفض الناس، وخرج الوزير إلى داره مخدوما بالجماعة الحاضرين، وقد عمل سماطا لأهله وحواشيه، ومن يعز عليه لا يلحق بأيسر يسير من سماط الخليفة، وعلى هذا العمل يكون سماط عيد النحر أوّل يوم منه، وركوبه إلى المصلى، كما ذكرنا، ولا يخرج عن هذا المنوال ولا ينقص عن هذا المثال، ويكون الناس كلهم مفطرين، ولا يفوت أحدا منهم شيء، كما ذكرنا في عيد الفطر. قال: ومبلغ ما ينفق في سماطي الفطر، والأضحى أربعة آلاف دينار، وكان يجلس على أسمطة الأعياد في كل سنة رجلان من الأجناد يقال لأحدهما: ابن فائز، والآخر الديلميّ يأكل كل واحد منهما خروفا مشويا، وعشر دجاجات محلاة، وجام حلوى عشرة أرطال، ولهما رسوم تحمل إليهما بعد ذلك من الأسمطة لبيوتهما ودنانير وافرة على حكم الهبة، وكان أحدهما أسر بعسقلان في تجريدة جرّد إليها، وأقام مدّة في الأسر فاتفق أنه كان عندهم عجل سمين فيه عدّة قناطير لحم، فقال له الذي أسره وهو يداعبه: إن أكلت هذا العجل أعتقتك، ثم ذبحه، وسوّى لحمه، وأطعمه حتى أتى على جميعه، فوفى له وأعتقه، فقدم على أهله بالقاهرة، ورأيته يأكل على السماط. الإيوان الكبير قال القاضي الرئيس محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر الروحي الكاتب في كتاب الروضة البهية الزهراء في خطط المعزية القاهرة، الإيوان الكبير بناه العزيز بالله أبو منصور نزار بن المعز لدين الله معدّ في سنة تسع وستين وثلثمائة، انتهى. وكان الخلفاء أولا يجلسون به في يومي الاثنين والخميس إلى أن نقل الخليفة الآمر بأحكام الله الجلوس منه في اليومين المذكورين إلى قاعة الذهب كما تقدّم، وبصدر هذا الإيوان كان الشباك الذي يجلس فيه الخليفة، وكان يعلو هذا الشباك قبة، وفي هذا الإيوان، كان يمدّ سماط الفطرة بكرة يوم عيد الفطر كما تقدّم به، وبه أيضا كان يعمل الاجتماع، والخطبة في يوم عيد الغدير، وكان بجانب هذا الإيوان الدواوين، وكان بهذا الإيوان ضلعا سمكة إذا أقيما واريا الفارس بفرسه، ولم يزالا حتى بعثهما السلطان صلاح الدين يوسف إلى بغداد في هدية. عيد الغدير «1» : إعلم أن عيد الغدير لم يكن عيدا مشروعا، ولا عمله أحد من سالف

الأمّة المقتدى بهم، وأوّل ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معز الدولة عليّ بن بويه، فإنه أحدثه في سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا، وأصلهم فيه، ما خرّجه الإمام أحمد في مسنده الكبير من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر لنا، فنزلنا بغدير خم، ونودي الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: «ألستم أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» . قال: فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. وغدير خم: على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة الطريق، وتصب فيه عين، وحوله شجر كثير، ومن سنتهم في هذا العيد، هو أبدا يوم الثامن عشر من ذي الحجة أن يحيوا ليلته بالصلاة، ويصلوا في صبيحته ركعتين قبل الزوال، ويلبسوا فيه الجديد، ويعتقوا الرقاب، ويكثروا من عمل البرّ، ومن الذبائح، ولما عمل الشيعة هذا العيد بالعراق أرادت عوامّ السنية مضاهاة فعلهم، ونكايتهم، فاتخذوا في سنة تسع وثمانين وثلثمائة بعد عيد الغدير بثمانية أيام عيدا، أكثروا فيه من السرور واللهو، وقالوا: هذا يوم دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغار هو وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، وبالغوا في هذا اليوم في إظهار الزينة، ونصب القباب، وإيقاد النيران، ولهم في ذلك أعمال مذكورة في أخبار بغداد ... وقال ابن زولاق: وفي يوم ثمانية عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وهو يوم الغدير: تجمع خلق من أهل مصر والمغاربة، ومن تبعهم للدعاء لأنه يوم عيد، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فيه، واستخلفه، فأعجب المعز ذلك من فعلهم، وكان هذا أوّل ما عمل بمصر. قال المسبحيّ، وفي يوم الغدير، وهو ثامن عشر ذي الحجة اجتمع الناس بجامع القاهرة والقرّاء والفقهاء، والمنشدون، فكان جمعا عظيما أقاموا إلى الظهر، ثم خرجوا إلى القصر، فخرجت إليهم الجائزة، وذكر أن الحاكم بأمر الله، كان قد منع من عمل عيد الغدير، قال ابن الطوير: إذا كان العشر الأوسط من ذي الحجة اهتمّ الأمراء، والأجناد بركوب عيد الغدير، وهو في الثامن عشر منه، وفيه خطبة وركوب الخليفة بغير مظلمة، ولا

سمة، ولا خروج عن القاهرة، ولا يخرج لأحد شيء، فإذا كان ذلك اليوم ركب الوزير بالاستدعاء الجاري به العادة، فيدخل القصر، وفي دخوله بروز الخليفة لركوبه من الكرسيّ على عادته، فيخدم ويخرج ويركب من مكانه من الدهليز، ويخرج فيقف قبالة باب القصر، ويكون ظهره إلى دار فخر الدين جهاركس اليوم، ثم يخرج الخليفة راكبا أيضا، فيقف في الباب، ويقال له: القوس، وحواليه الأستاذون المحنكون رجالة، ومن الأمراء المطوّقين من يأمره الوزير بإشارة خدمة الخليفة على خدمته، ثم يجوز زيّ كل من له زيّ على مقدار همته، فأوّل ما يجوز زيّ الخليفة، وهو الظاهر في ركوبه، فتجد الجنائب الخاص التي قدّمنا ذكرها أوّلا، ثم زيّ الأمراء المطوّقين لأنهم غلمانه واحدا فواحدا بعددهم، وأسلحتهم، وجنائبهم إلى آخر أرباب القصب والعماريات، ثم طوائف العسكر أزمّتها أمامها، وأولادهم مكانهم لأنهم في خدمة الخليفة وقوف بالباب طائفة طائفة، فيكونون أكثر عددا من خمسة آلاف فارس، ثم المترجلة الرماة بالقسيّ بالأيدي والأرجل، وتكون عدّتهم قريبا من ألف، ثم الراجل من الطوائف الذين قدّمنا ذكرهم في الركوب، فتكون عدّتهم قريبا من سبعة آلاف كل منهم بزمام وبنود ورايات وغيرها، بترتيب مليح مستحسن، ثم يأتي زيّ الوزير مع ولده، أو أحد أقاربه، وفيه جماعته وحاشيته في جمع عظيم، وهيئة هائلة، ثم زيّ صاحب الباب، وهم أصحابه وأجناده، ونوّاب الباب، وسائر الحجاب، ثم يأتي زيّ اسفهسلار العساكر بأصحابه، وأجناده في عدّة وافرة، ثم يأتي زيّ والي القاهرة، وزيّ والي مصر، فإذا فرغا خرج الخليفة من الباب والوقوف بين يديه مشاة في ركابه خارجا عن صبيان ركابه الخاص، فإذا وصل إلى باب الزهومة بالقصر، انعطف على يساره داخلا من الدرب هناك جائزا على الخوخ «1» ، فإذا وصل إلى باب الديلم الذي داخله المشهد الحسينيّ، فيجد في دهليز ذلك الباب: قاضي القضاة والشهود، فإذا وازاهم خرجوا للخدمة والسلام عليه، فيسلم القاضي كما ذكرنا من تقبيل رجله الواحدة التي تليه، والشهود أمام رأس الدابة بمقدار قصبة، ثم يعودون ويدخلون من ذلك الدهليز إلى الإيوان الكبير، وقد علق عليه الستور القرقوبية جميعه على سعته، وغير القرقوبية سترا فسترا، ثم يعلق بدائرة على سعته ثلاث صفوف: الأوسط طوارق فارسيات مدهونة، والأعلى والأسفل درق، وقد نصب فيه كرسيّ الدعوة، وفيه تسع درجات لخطابة الخطيب في هذا العيد، فيجلس القاضي والشهود تحته، والعالم من الأمراء، والأجناد، والمتشيعين، ومن يرى هذا الرأي من الأكابر والأصاغر، فيدخل الخليفة من باب العيد إلى الإيوان إلى باب الملك، فيجلس بالشباك، وهو ينظر القوم، ويخدمه الوزير عندما ينزل، ويأتي هو ومن معه، فيجلس بمفرده على يسار منبر الخطيب، ويكون قد سير لخطيبه بدلة حرير يخطب فيها، وثلاثون دينارا، ويدفع له كرّاس

محرّر من ديوان الإنشاء يتضمن نص الخلافة من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورضي عنه بزعمهم، فإذا فرغ ونزل صلى قاضي القضاة بالناس ركعتين، فإذا قضيت الصلاة، قام الوزير إلى الشباك، فيخدم الخليفة، وينفض الناس بعد التهاني من الإسماعيلية بعضهم بعضا، وهو عندهم أعظم من عيد النحر، وينحر فيه أكثرهم. قال: وكان الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد: لما سلم من يد أبي عليّ بن الأفضل الملقب كتيفات، لما وزر له، وخرج عليه عمل عيدا في ذلك اليوم، وهو السادس عشر من المحرّم من غير ركوب، ولا حركة بل إنّ الإيوان باق على فرشه، وتعليقه من يوم الغدير، فيفرش المجلس المحوّل اليوم في الإيوان الذي بابه خورنق. وكان يقابل الإيوان الكبير الذي هو اليوم: خزائن السلاح، بأحسن فرش، وينصب له مرتبة هائلة قريبا من باذهنجه، فيجتمع أرباب الدولة سيفا وقلما، ويحضرون إلى الإيوان إلى باب الملك المجاور للشباك، فيخرج الخليفة راكبا إلى المجلس، فيترجل على بابه، وبين يديه الخواص، فيجلس على المرتبة، ويقفون بين يديه صفين إلى باب المجلس، ثم يجعل قدّامه كرسيّ الدعوة، وعليه غشاء قرقوبيّ، وحواليه الأمراء الأعيان، وأرباب الرتب، فيصعد قاضي القضاة، ويخرج من كمه كراسة مسطحة تتضمن فصولا، كالفرج بعد الشدّة بنظم مليح، يذكر فيه كل من أصابه من الأنبياء والصالحين والملوك شدّة، وفرّج الله عنه واحدا فواحدا، حتى يصل إلى الحافظ، وتكون هذه الكراسة محمولة من ديوان الإنشاء، فإذا تكاملت قراءتها، نزل عن المنبر، ودخل إلى الخليفة، ولا يكون عنده من الثياب أجلّ مما لبسه، ويكون قد حمل إلى القاضي قبل خطابته بدلة مميزة يلبسها للخطابة، ويوصل إليه بعد الخطابة خمسون دينارا. وقال الأمير جمال الدين أبو عليّ موسى بن المأمون أبي عبد الله محمد بن فاتك بن مختار الطائحيّ في تاريخه، واستهل عيد الغدير يعني من سنة ست عشرة وخمسمائة، وهاجر إلى باب الأجل يعني الوزير المأمون البطائحي الضعفاء والمساكين من البلاد، ومن انضمّ إليهم من العوالي، والأدوان على عادتهم في طلب الحلال، وتزويج الأيامى، وصار موسما يرصده كل أحد، ويرتقبه كل غنيّ وفقير، فجرى في معروفه على رسمه، وبالغ الشعراء في مدحه بذلك، ووصلت كسوة العيد المذكور، فحمل ما يختص بالخليفة والوزير، وأمر بتفرقة ما يختص بأزمّة العساكر فارسها وراجلها من عين وكسوة، ومبلغ ما يختص بهم من العين سبعمائة وتسعون دينارا، ومن الكسوات مائة وأربع وأربعون قطعة، والهيئة المختصة بهذا العيد، برسم كبراء الدولة، وشيوخها وأمرائها وضيوفها، والأستاذين المحنكين والمميزين منهم خارجا عن أولاد الوزير وإخوته، ويفرّق من مال الوزير بعد الخلع عليه ألفان وخمسمائة دينار وثمانون دينارا، وأمر بتعليق جميع أبواب القصور،

وتفرقة المؤذنين بالجوامع والمساجد عليها، وتقدّم بأن تكون الأسمطة بقاعة الذهب على حكم سماط أوّل يوم من عيد النحر، وفي باكر هذا اليوم توجه الخليفة إلى الميدان، وذبح ما جرت به العادة، وذبح الجزارون بعده مثل عدد الكباش المذبوحة في عيد النحر، وأمر بتفرقة ذلك للخصوص دون العموم، وجلس الخليفة في المنظرة وخدمت الرهجية «1» . وتقدّم الوزير والأمراء، وسلموا، فلما حان وقت الصلاة والمؤذنون على أبواب القصر يكبرون تكبير العيد إلى أن دخل الوزير، فوجد الخطيب على المنبر قد فرغ، فتقدّم القاضي أبو الحجاج يوسف بن أيوب فصلى به وبالجماعة صلاة العيد، وطلع الشريف بن أنس الدولة، وخطب خطبة العيد، ثم توجه الوزير إلى باب الملك، فوجد الخليفة قد جلس قاصدا للقائه، قد ضربت المقدّمة، فأمره بالمضيّ إليها، وخلع عليه خلعة مكملة من بدلات النحر وثوبها أحمر بالشدّة الدائمية، وقلده سيفا مرصعا بالياقوت والجواهر، وعندما نهض ليقبل الأرض وجده قد أعدّ له العقد الجوهر، وربطه في عنقه بيده، وبالغ في إكرامه، وخرج من باب الملك فتلقاه المقرّبون، وسارع الناس إلى خدمته، وخرج من باب العيد وأولاده وإخوته والأمراء المميزون بحجبه، وخدمت الرهجية، وضربت العربية والموكب جميعه بزيه، وقد اصطفت العساكر، وتقدّم إلى ولده بالجلوس على أسمطته وتفرّقتها برسومها، وتوجه إلى القصر، واستفتح المقرئون، فسلم الحاضرون، وجرى الرسم في السماط الأوّل والثاني، وتفرقة الرسوم والموائد على حكم أوّل يوم من عيد النحر، وتوجه الخليفة بعد ذلك إلى السماط الثالث الخاص بالدار الجليلة لأقاربه وجلسائه. ولما انقضى حكم التعييد جلس الوزير في مجلسه، واستفتح المقرئون، وحضر الكبراء وبياض البلدين لتهنىء بالعيد والخلع، وخرج الرسم، وتقدّم الشعراء، فأنشدوا وشرحوا الحال، وحضر متولي خزائن الكسوة الخاص بالثياب التي كانت على المأمون قبل الخلع، وقبضوا الرسم الجاري به العادة، وهو مائة دينار، وحضر متولي بيت المال، وصحبته صندوق فيه خمسة آلاف دينار برسم فكاك العقد الجوهر والسيف المرصع، فأمر الوزير المأمون الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة: كاتب الدست الشريف بكتب مطالعة إلى الخليفة بما حمل إليه من المال برسم منديل الكم، وهو ألف دينار، ورسم الأخوة والأقارب ألف دينار، وتسلم متولي الدولة بقية المال ليفرّق على الأمراء المطوّقين والمميزين والضيوف والمستخدمين. المحول: قال ابن عبد الظاهر: المحول هو مجلس الداعي «2» ، ويدخل إليه من باب

الريح، وبابه من باب البحر، ويعرف بقصر البحر، وكان في أوقات الاجتماع يصلي الداعي بالناس في رواقه. وقال المسبحيّ: وفي ربيع الأوّل يعني من سنة خمس وثمانين وثلثمائة، جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسيّ بالقصر لقراءة علوم آل البيت على الرسم المعتاد المتقدّم له ولأخيه بمصر، ولأبيه بالمغرب، فمات في الزحمة أحد عشر رجلا، فكفنهم العزيز بالله، وقال ابن الطوير: وأما داعي الدعاة فإنه يلي قاضي القضاة في الرتبة، ويتزيا بزيه في اللباس وغيره، ووصفه أنه يكون عالما بجميع مذاهب أهل البيت يقرأ عليه، ويأخذ العهد على من ينتقل من مذهبه إلى مذهبهم، وبين يديه من نقباء المعلمين اثنا عشر نقيبا، وله نوّاب كنوّاب الحكم في سائر البلاد، ويحضر إليه فقهاء الدولة، ولهم مكان يقال له: دار العلم «1» ، ولجماعة منهم على التصدير بها أرزاق واسعة، وكان الفقهاء منهم يتفقون على دفتر يقال له: مجلس الحكمة في كل يوم اثنين وخميس، ويحضر مبيضا إلى داعي الدعاة فينفذه إليهم، ويأخذه منهم، ويدخل به إلى الخليفة في هذين اليومين المذكورين، فيتلوه عليه إن أمكن، ويأخذ علامته بظاهره، ويجلس بالقصر لتلاوته على المؤمنين في مكانين للرجال على كرسيّ الدعوة بالإيوان الكبير، وللنساء بمجلس الداعي، وكان من أعظم المباني وأوسعها. فإذا فرغ من تلاوته على المؤمنين والمؤمنات حضروا إليه، لتقبيل يديه، فيمسح على رؤوسهم بمكان العلامة، أعني خط الخليفة، وله أخذ النجوى من المؤمنين بالقاهرة ومصر وأعمالهما، لا سيما الصعيد، ومبلغها ثلاثة دراهم وثلث، فيجتمع من ذلك شيء كثير يحمله إلى الخليفة بيده بينه، وبينه، وأمانته في ذلك مع الله تعالى، فيفرض له الخليفة منه ما يعينه لنفسه وللنقباء، وفي الإسماعيلية المموّلين من يحمل ثلاثة وثلاثين دينارا وثلثي دينار على حكم النجوى، وصحبة ذلك رقعة مكتوبة باسمه، فيتميز في المحول فيخرج له عليها خط الخليفة بارك الله فيك، وفي مالك وولدك ودينك، فيدّخر ذلك، ويتفاخر به، وكانت هذه الخدمة متعلقة بقوم يقال لهم: بنو عبد القويّ أبا عن جدّ آخرهم الجليس، وكان الأفضل بن أمير الجيوش نفاهم إلى المغرب، فولد الجليس بالمغرب، وربي به، وكان يميل إلى مذهب أهل السنة، وولي القضاء مع الدعوة، وأدركه أسد الدين شيركوه، وأكرمه وجعله واسطة عند الخليفة العاضد، وكان قد حجر على العاضد ولولاه لم يبق في الخزائن شيء لكرمه، وكأنه علم أنه آخر الخلفاء.

قال المسبحيّ: وكان الداعي يواصل الجلوس بالقصر لقراءة ما يقرأ على الأولياء، والدعاوي المتصلة، فكان يفرد للأولياء مجلسا، وللخاصة وشيوخ الدولة، ومن يختص بالقصور من الخدم وغيرهم مجلسا، ولعوام الناس، وللطارئين على البلد مجلسا، وللنساء في جامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر مجلسا، وللحرم وخواص نساء القصر مجلسا، وكان يعمل المجالس في داره، ثم ينفذها إلى من يختص بخدمة الدولة، ويتخذ لهذه المجالس كتبا يبيضونها بعد عرضها على الخليفة، وكان يقبض في كل مجلس من هذه المجالس ما يتحصل من النجوى من كل من يدفع شيئا من ذلك عينا وورقا من الرجال والنساء، ويكتب أسماء من يدفع شيئا على ما يدفعه، وكذلك في عيد الفطر يكتب ما يدفع عن الفطرة، ويحصل من ذلك مال جليل، يدفع إلى بيت المال شيئا بعد شيء، وكانت تسمى مجالس الدعوة: مجالس الحكمة، وفي سنة أربعمائة كتب سجل عن الحاكم بأمر الله فيه رفع الخمس والزكاة والفطرة والنجوى التي كانت تحمل، ويتقرّب بها، وتجري على أيدي القضاة، وكتب سجل آخر بقطع مجالس الحكمة التي تقرأ على الأولياء يوم الخميس والجمعة، انتهى. ووظيفة داعي الدعاة كانت من مفردات الدولة الفاطمية، وقد لخصت من أمر الدعوة طرفا أحببت إيراده هنا. وصف الدعوة وترتيبها: وكانت الدعوة مرتبة على منازل: دعوة بعد دعوة. الدعوة الأولى: سؤال الداعي لمن يدعوه إلى مذهبه عن المشكلات، وتأويل الآيات، ومعاني الأمور الشرعية، وشيء من الطبيعيات، ومن الأمور الغامضة، فإن كان المدعوّ عارفا سلم له الداعي وإلّا تركه يعمل فكره فيما ألقاه عليه من الأسئلة، وقال له: يا هذا، إنّ الدين لمكتوم، وإنّ الأكثر له منكرون، وبه جاهلون، ولو علمت هذه الأمّة ما خص الله به الأئمة من العلم، لم تختلف؟ فيتشوق حينئذ المدعوّ إلى معرفة ما عند الداعي من العلم فإذا علم منه الإقبال أخذ في ذكر معاني القراءات وشرائع الدين، وتقرير أنّ الآفة التي نزلت بالأمّة، وشتت الكلمة، وأورثت الأهواء المضلة، ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حافظين لشرائعهم يؤدونها على حقيقتها، ويحفظون معانيها، ويعرفون بواطنها غير أنّ الناس لما عدلوا عن الأئمة، ونظروا في الأمور بعقولهم، واتبعوا ما حسن في رأيهم، وقلدوا أسفلتهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعا للملوك، وطلبا للدنيا التي هي أيدي متبعي لإثم وأجناد الظلمة، وأعوان الفسقة الذين يحبون العاجلة، ويجتهدون في طلب الرئاسة على الضعفاء ومكايدة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمّته وتغيير كتاب الله عزّ وجلّ، وتبديل سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومخالفة دعوته، وإفساد شريعته، وسلوك غير طريقته، ومعاندة الخلفاء الأئمة من بعده بختر من قبل ذلك، وصار الناس إلى أنواع الضلالات، فإنّ دين محمد صلّى الله عليه وسلّم ما جاء بالتحلي، ولا بأمانيّ الرجال، ولا شهوات الناس، ولا بما خف على الألسنة،

وعرفته دهماء العامّة، ولكنه صعب مستصعب، وأمر مستقبل، وعلم خفيّ غامض ستره الله في حجبه، وعظم شأنه عن ابتذال أسراره، فهو سرّ الله المكتوم، وأمره المستور الذي لا يطيق حمله، ولا ينهض بأعبائه، وثقله إلّا ملك مقرّب، أو نبيّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للتقوى، فإذا ارتبط المدعوّ على الداعي، وأنس له، نقله إلى غير ذلك. فمن مسائلهم ما معنى: رمي الجمار؟ والعدو بين الصفا والمروة؟ ولم كانت الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ وما بال الجنب يغتسل من ماء دافق يسير؟ ولا يغتسل من البول النجس الكثير القذر؟ وما بال الله خلق الدنيا في ستة أيام؟ أعجز عن خلقها في ساعة واحدة؟ وما معنى الصراط المضروب في القرآن مثلا؟ والكاتبين الحافظين وما لنا لا نراهما؟ أخاف أن نكابره، ونجاحده حتى أدلى العيون، وأقام علينا الشهود، وقيد ذلك في القرطاس بالكتابة، وما تبديل الأرض غير الأرض؟ وما عذاب جهنم؟ وكيف يصح تبديل جلد مذنب بجلد لم يذنب حتى يعذب؟ وما معنى: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية؟ وما إبليس؟ وما الشياطين؟ وما وصفوا به وأين مستقرّهم؟ وما مقدار قدرهم؟ وما يأجوج ومأجوج وهاروت وماروت وأين مستقرّهم؟ وما سبعة أبواب النار؟ وما ثمانية أبواب الجنة؟ وما شجرة الزقوم النابتة في الجحيم؟ وما دابة الأرض ورؤس الشياطين؟ والشجرة الملعونة في القرآن؟ والتين والزيتون؟ وما الخنس الكنس؟ وما معنى ألم والمص؟ وما معنى كهيعص وحمعسق، ولم جعلت السماوات سبعا والأرضون سبعا، والمثاني من القرآن سبع آيات، ولم فجرت العيون اثنتي عشرة عينا، ولم جعلت الشهور اثني عشر شهرا، وما يعمل معكم عمل الكتاب والسنة، ومعاني الفرائض اللازمة؟ فكروا أوّلا في أنفسكم أين أرواحكم؟ وكيف صورها؟ وأن مستقرّها؟ وما أوّل أمرها والإنسان ما هو؟ وما حقيقته؟ وما الفرق بين حياته وحياة البهائم؟ وفضل ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات؟ وما الذي بانت به حياة الحشرات من حياة النبات؟ وما معنى قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلقت حوّاء من ضلع آدم» ؟ وما معنى قول الفلاسفة: الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير؟ ولم كانت قامة الإنسان منتصبة دون غيره من الحيوانات؟ ولم كان في يديه من الأصابع عشر، وفي رجليه عشر أصابع؟ وفي كل أصبع من أصابع يديه ثلاثة شقوق إلا الإبهام، فإنّ فيه شقين فقط؟ ولم كان في وجهه سبع ثقب؟ وفي سائر بدنه ثقبان؟ ولم كان في ظهره اثنتا عشرة عقدة وفي عنقه سبع عقد؟ ولم جعل عنقه صورة ميم، ويداه: حاء، وبطنه: ميما، ورجلاه: دالا حتى صار ذلك كتابا مرسوما يترجم عن محمد، ولم جعلت قامته إذا انتصب صورة ألف، وإذا ركع صارت صورة: لام، وإذا سجد صارت صورة هاء، فكان كتابا يدل على الله، ولم جعلت أعداد عظام الإنسان كذا؟ وأعداد أسنانه كذا؟ والأعضاء الرئيسة كذا إلى غير ذلك من التشريح، والقول في العروق والأعضاء، ووجوه منافع الحيوان، ثم يقول الداعي: ألا تتفكرون في حالكم، وتعتبرون وتعلمون أنّ الذي خلقكم حكيم غير مجازف، وأنه فعل جميع ذلك

لحكمة، وله فيها أسرار خفية، حتى جمع ما جمع، وفرّق ما فرّق، فكيف يسعلكم الإعراض عن هذه الأمور، وأنتم تسمعون قول الله عز وجل: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات/ 20، 21] ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم/ 25] ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ [فصلت/ 53] . فأيّ شيء رآه الكفار في أنفسهم وفي الآفاق، حتى عرفوا أنه الحق، وأيّ حق عرفه من جحد الديانة، ألا يدلكم هذا على أنّ الله جل اسمه أراد أن يرشدكم إلى بواطن الأمور الخفية، وأسرار فيها مكتومة لو نبهتم لها، وعرفتموها لزالت عنكم كل حيرة، ودحضت كل شبهة، وظهرت لكم المعارف السنية، ألا ترون أنكم جهلتم أنفسكم التي من جهلها، كان حريا أن لا يعلم غيرها، أليس الله تعالى يقول: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء/ 72] ونحو ذلك من تأويل القرآن، وتفسير السنن والأحكام، وإيراد أبواب من التجويز والتعليل، فإذا علم الداعي أن نفس المدعوّ قد تعلقت بما سأله عنه، وطلب منه الجواب عنها قال له: حينئذ لا تعجل فإنّ دين الله أعلى وأجل من أن يبذل لغير أهله، ويجعل غرضا للعب وجرت عادة الله، وسنته في عباده عند شرع من نصبه أن يأخذ العهد على من يرشده، ولذلك قال: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الأحزاب/ 7] ، وقال عز وجلّ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب/ 23] ، وقال جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة/ 1] ، وقال: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النحل/ 91] ، وقال: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة/ 70] . ومن أمثال هذا فقد أخبر الله تعالى أنه لم يملك حقه إلا لمن أخذ عهده فأعطنا صفقة يمينك، وعاهدنا بالموكد من أيمانك وعقودك، أن لا تفشي لنا سرّا، ولا تظاهر علينا أحدا، ولا تطلب لنا غيلة، ولا تكتمنا نصحا، ولا توالي لنا عدوّا، فإذا أعطى العهد قال له الداعي: أعطنا جعلا من مالك نجعله مقدّمة أمام كشفنا لك الأمور، وتعريفك إياها، والرسم في هذا الجعل بحسب ما يراه الداعي، فإن امتنع المدعوّ أمسك عنه الداعي، وإن أجاب وأعطى نقله إلى الدعوة الثانية، وإنما سميت الإسماعيلية بالباطنية لأنهم يقولون: لكل ظاهر من الأحكام الشرعية باطن، ولكل تنزيل تأويل. الدعوة الثانية: لا تكون إلّا بعد تقدّم الدعوى الأولى، فإذا تقرّر في نفس المدعوّ جميع ما تقدّم، وأعطى الجعل، قال له الداعي: إنّ الله تعالى لم يرض في إقامة حقه، وما شرعه لعباده إلّا أن يأخذوا ذلك عن أئمة نصبهم للناس، وأقامهم لحفظ شريعته على ما أراده الله تعالى، ويسلك في تقرير هذا، ويستدل عليه بأمور مقرّرة في كتبهم، حتى يعلم أن

اعتقاد الأئمة قد ثبت في نفس المدعوّ، فإذا اعتقد ذلك، نقله إلى الدعوة الثالثة. الدعوة الثالثة: مرتبة على الثانية، وذلك أنه إذا علم الداعي ممن دعاه، أنّ ارتباطه على دين الله لا يعلم إلّا من قبل الأئمة، قرّر حينئذ عنده أن الأئمة سبعة، قد رتبهم الباري تعالى كما رتب الأمور الجليلة، فإنه جعل الكواكب السيارة سبعة، وجعل السماوات سبعا، وجعل الأرضين سبعا، ونحو ذلك مما هو سبع من الموجودات. وهؤلاء الأئمة السبعة هم: عليّ بن أبي طالب، والحسن بن عليّ، والحسين بن عليّ، وعليّ بن الحسين الملقب زين العابدين، ومحمد بن عليّ، وجعفر بن محمد الصادق، والسابع هو: القائم صاحب الزمان. وهم أعني الشيعة مختلفون في هذا القائم، فمنهم من يجعله: محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ويسقط إسماعيل بن جعفر، ومنهم من يعدّ إسماعيل بن جعفر إماما، ثم يعدّ ابنه محمد بن إسماعيل، فإذا تقرّر عند المدعوّ أن الأئمة سبعة انحل عن معتقد الإمامية من الشيعة القائلين بإمامة اثني عشر إماما، وصار إلى معتقد الإسماعيلية، بأنّ الإمامة انتقلت إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، فإذا علم الداعي ثبات هذا العقد في نفس المدعوّ، شرع في ثلب بقية الأئمة الذين قد اعتقد الإمامية فيهم الإمامة، وقرّر عند المدعوّ أنّ محمد بن إسماعيل عنده علم المستورات، وبواطن المعلومات التي لا يمكن أن توجد عند أحد غيره، وأنّ عنده أيضا علم التأويل، ومعرفة تفسير ظاهر الأمور، وعنده سرّ الله تعالى في وجه تدبيره المكتوم، وإتقان دلالته في كل أمر يسأل عنه في جميع المعدومات، وتفسير المشكلات، وبواطن الظاهر كله والتأويلات، وتأويل التأويلات، وأنّ دعاته هم: الوارثون لذلك كله من بين سائر طوائف الشيعة لأنهم أخذوا عنه، ومن جهته رووا، وإنّ أحدا من الناس المخالفين لهم لا يستطيع أن يساويهم، ولا يقدر على التحقق بما عندهم إلّا منهم، ويحتج لذلك بما هو معروف في كتبهم مما لا يسع هذا الكتاب حكايته لطوله، فإذا انقاد المدعوّ، وأذعن لما تقرّر، نقله إلى الدعوة الرابعة. الدعوة الرابعة: لا يشرع الداعي في تقريرها حتى يتيقن صحة انقياد المدعوّ لجميع ما تقدّم، فإذا تيقن منه صحة الانقياد، قرّر عنده أنّ عدد الأنبياء الناسخين للشرائع المبدّلين لأحكامها، أصحاب الأدوار، وتقليب الأحوال، الناطقين بالأمور، سبعة فقط، كعدد الأئمة سواء، وكل واحد من هؤلاء الأنبياء لا بدّ له من صاحب يأخذ عنه دعوته، ويحفظها على أمّته، ويكون معه ظهيرا له في حياته، وخليفة له من بعد وفاته، إلى أن يبلغ شريعته إلى أحد يكون سبيله معه، كسبيله هو مع نبيه الذي اتبعه، ثم كذلك كل مستخلف خليفة إلى أن يأتي منهم على تلك الشريعة، سبعة أشخاص. ويقال لهؤلاء السبعة: الصامتون لثباتهم على شريعة اقتفوا فيها أثر واحد هو أوّلهم،

ويسمى الأوّل من هؤلاء السبعة: السوس، وأنه لا بدّ عند انقضاء هؤلاء السبعة، ونفاذ دورهم من استفتاح دور ثان يظهر فيه نبيّ ينسخ شرع من مضى من قبله، وتكون الخلفاء من بعده أمورهم تجري كأمر من كان قبلهم، ثم يكون من بعدهم نبيّ ناسخ يقوم من بعده سبعة صمت أبدا، وهكذا حتى يقوم النبيّ السابع من النطقاء، فينسخ جميع الشرائع التي كانت قبله، ويكون صاحب الزمان الأخير. فكان أوّل هؤلاء الأنبياء النطقاء: آدم عليه السلام، وكان صاحبه وسوسه ابنه شيث، وعدوّ إتمام السبعة الصامتين على شريعة آدم. وكان الثاني من الأنبياء النطقاء نوح عليه السلام فإن نطق بشريعة، نسخ بها شريعة آدم، وكان صاحبه وسوسه ابنه سام، وتلاه بقية السبعة الصامتين على شريعة نوح. ثم كان الثالث من الأنبياء النطقاء إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه، فإنه نطق بشريعة نسخ بها شريعة نوح وآدم عليهما السلام، وكان صاحبه وسوسه في حياته، والخليفة القائم من بعده المبلغ شريعته ابنه إسماعيل عليه السلام، ولم يزل يخلفه صامت بعد صامت على شريعة إبراهيم، حتى تمّ دور السبعة الصمت. وكان الرابع من الأنبياء النطقاء: موسى بن عمران عليه السلام، فإنه نطق بشريعة نسخ بها شريعة آدم ونوح وإبراهيم، وكان صاحبه وسوسه أخوه هارون، ولما مات هارون في حياة موسى، قام من بعد موسى، يوشع بن نون خليفة له صمت على شريعته، وبلغها فأخذها عنه واحد بعد واحد إلى أن كان آخر الصمت على شريعة موسى، يحيى بن زكرياء وهو آخر الصمت. ثم كان الخامس من الأنبياء النطقاء المسيح عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فإنه نطق بشريعة نسخ بها شرائع من كان قبله، وكان صاحبه وسوسه: شمعون الصفا، ومن بعده تمام السبعة الصمت على شريعة المسيح. إلى أن كان السادس من الأنبياء النطقاء نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه نطق بشريعة نسخ بها جميع الشرائع التي جاء بها الأنبياء من قبله، وكان صاحبه وسوسه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم من بعد عليّ ستة صمتوا على الشريعة المحمدية، وقاموا بميراث أسرارها، وهم: ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم عليّ بن الحسين، ثم محمد بن عليّ، ثم جعفر بن محمد، ثم إسماعيل بن جعفر الصادق، وهو آخر الصمت من الأئمة المستورين والسابع من النطقاء هو صاحب الزمان. وعند هؤلاء الإسماعيلية أنه: محمد بن إسماعيل بن جعفر وأنه الذي انتهى إليه علم الأوّلين، وقام بعلم بواطن الأمور وكشفها، وإليه المرجع في تفسيرها دون غيره، وعلى

جميع الكافة أتباعه والخضوع له، والانقياد إليه، والتسليم له، لأنّ الهداية في موافقته وأتباعه، والضلال والحيرة إلى في العدول عنه، فإذا تقرّر ذلك عند المدعوّ انتقل الداعي إلى الدعوة الخامسة. الدعوة الخامسة: مترتبة على ما قبلها، وذلك أنه إذا صار المدعوّ في الرتبة الرابعة من الاعتقاد أخذ الداعي يقرّر أنه لا بدّ مع كل إمام قائم في كل عصر حجج متفرّقون في جميع الأرض عليهم تقوم، وعدّة هؤلاء الحجج أبدا اثنا عشر رجلا في كل زمان كما أنّ عدد الأئمة سبعة، ويستدل لذلك بأمور منها: أنّ الله تعالى لم يخلق شيئا عبثا، ولا بدّ في خلق كل شيء من حكمة، وإلّا فلم خلق النجوم التي بها قوام العالم سبعة، وجعل أيضا السماوات سبعا، والأرضين سبعا، والبروج اثني عشر، والشهور اثني عشر شهرا، ونقباء بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، ونقباء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأنصار اثني عشر نقيبا، وخلق تعالى في كف كل إنسان أربع أصابع، وفي كل أصبع ثلاث شقوق تكون جملتها اثني عشر شقا، على أنه في يد كل إبهام شقان، دلالة على أنّ الإنسان بدنه كالأرض، وأصابعه كالجزائر الأربع والشقوق التي في الأصابع كالحجج، والإبهام الذي به قوام جميع الكف، وسداد الأصابع، كالذي يقوّم الأرض بقدر ما فيها، والشقان اللذان في الإبهام إشارة إلى أنّ الإمام وسوسة لا يفترقان، ولذلك صار في ظهر الإنسان: اثنتا عشرة خرزة، إشارة إلى الحجج الاثني عشر، وصار في عنقه: سبع، فكان العنق عاليا في خرزات الظهر، وذلك إشارة إلى الأنبياء النطقاء، والأئمة السبعة، وكذلك الأثقاب السبعة التي في وجه الإنسان العالي على بدنه، وأشياء من هذا النوع كثيرة، فإذا تمهد عند المدعوّ ما دعاه إليه الداعي، وتقرّر نقله حينئذ إلى الدعوة السادسة. الدعوة السادسة: لا تكون إلا بعد ثبوت جميع ما تقدّم في نفس المدعوّ، وذلك أنه إذا صار إلى الرتبة الخامسة، أخذ الداعي في تفسير معاني شرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والحج والطهارة، وغير ذلك من الفرائض بأمور مخالفة للظاهر، بعد تمهيد قواعد تبين في أزمنة من غير عجلة تؤدّي إلى أنّ هذه الأشياء، وضعت على جهة الرموز لمصلحة العامة، وسياستهم حتى يشتغلوا بها عن بغي بعضهم على بعض، وتصدّهم عن الفساد في الأرض، حكمة من الناصبين للشرائع، وقوّة في حسن سياستهم لأتباعهم، وإتقانا منهم لما رتبوه من النواميس ونحو ذلك، حتى يتمكن هذا الاعتقاد في نفس المدعوّ، فإذا طال الزمان، وصار المدعوّ يعتقد أنّ أحكام الشريعة كلها وضعت على سبيل الرمز لسياسة العامّة، وأنّ لها معاني أخر غير ما يدل عليه الظاهر، ونقله الداعي إلى الكلام في الفلسفة، وحضه على النظر في كلام أفلاطون، وأرسطو، وفيثاغورس، ومن في معناهم، ونهاه عن قبول الأخبار، والاحتجاج بالسمعيات، وزين له الاقتداء بالأدلة العقلية، والتعويل عليها، فإذا استقرّ ذلك عنده واعتقده، نقله بعد ذلك إلى الدعوة السابعة، ويحتاج ذلك إلى زمان طويل.

الدعوة السابعة: لا يفصح بها الداعي ما لم يكثر أنسه بمن دعاه، ويتيقن أنه قد تأهل إلى الانتقال إلى رتبة أعلى مما هو فيه، فإذا علم ذلك منه قال: إنّ صاحب الدلالة، والناصب للشريعة، لا يستغني بنفسه، ولا بدّ له من صاحب معه يعبر عنه ليكون أحدهما الأصل والآخر عنه كان وصدر، وهذا إنما هو إشارة العام السفليّ، لما يحويه العالم العلويّ، فإنّ مدبر العالم في أصل الترتيب، وقوام النظام صدر عنه أوّل موجود بغير واسطة، ولا سبب نشأ عنه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس/ 82] إشارة إلى الأوّل في الرتبة، والآخر هو القدر الذي قال فيه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر/ 49] وهذا معنى ما نسمعه من أنّ الله: أوّل ما خلق القلم، فقال للقلم: اكتب، فكتب في اللوح ما هو كائن، وأشياء من هذا النوع موجودة في كتبهم، وأصلها مأخوذ من كلام الفلاسفة القائلين: الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد، وقد أخذ هذا المعنى المتصوّفة، وبسطوه بعبارات أخر في كتبهم، فإن كنت ممن ارتاض وعرف مقالات الناس تبين ذلك ما ذكرت، ولا يحتمل هذا الكتاب بسط القول في هذا المعنى، وإذا تقرّر ما ذكر في هذه الدعوة عند المدعوّ، نقله الداعي إلى الدعوة الثامنة. الدعوة الثامنة: متوقفة على اعتقاد سائر ما تقدّم، فإذا استقرّ ذلك عند المدعوّ، دينا له، قال له الداعي: اعلم أن أحد المذكورين اللذين هما مدبر الوجود والصادر عنه، إنما تقدّم السابق على اللاحق، تقدّم العلة على المعلول، فكانت الأعيان كلها ناشئة، وكائنة عن الصادر الثاني، بترتيب معروف في بعضهم، ومع ذلك فالسابق عندهم: لا اسم له، ولا صفة، ولا يعبر عنه، ولا يقيد فلا يقال هو موجود، ولا معدوم، ولا عالم، ولا جاهل، ولا قادر، ولا عاجز، وكذلك سائر الصفات، فإنّ الإثبات عندهم يقتضي شركة بينه وبين المحدثات، والتقي يقتضي التعطيل، وقالوا: ليس بقديم، ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته، كما هو مبسوط في كتبهم، فإذا استقرّ ذلك عند المدعوّ قرر عنده الداعي، أن التالي يدأب في أعماله حتى يلحق بمنزلة السابق، وأنّ الصامت في الأرض يدأب في أعماله حتى يصير بمنزلة الناطق سواء، وأنّ الداعي يدأب في أعماله حتى يبلغ منزلة السوس، وحالة سواء. وهكذا تجري أمور العالم في أكواره وأدواره، ولهذا القول بسط كثير، فإذا اعتقده المدعوّ قرّر عنده الداعي أنّ معجزة النبيّ الصادق الناطق ليست غير أشياء ينتظم بها سياسة الجمهور، وتشمل الكافة مصلحتها بترتيب من الحكمة تحوي معاني فلسفية تنبىء عن حقيقة أنية السماء والأرض، وما يشتمل العالم عليه بأسره من الجواهر والأعراض، فتارة برموز يعقلها العالمون، وتارة بإفصاح يعرفه كل أحد، فينتظم بذلك للنبيّ شريعة يتبعها الناس، ويقرّر عنده أيضا أنّ القيامة، والقرآن، والثواب، والعقاب، معناها: سوى ما يفهمه

العامّة، وغير ما يتبادر الذهن إليه، وليس هو إلّا حدوث أدوار عند انقضاء أدوار من أدوار الكواكب، وعوالم اجتماعاتها من كون، وفساد جاء على ترتيب الطباع، كما قد بسطه الفلاسفة في كتبهم، فإذا استقرّ هذا العقد عند المدعوّ، نقله الداعي إلى الدعوة التاسعة. الدعوة التاسعة: هي النتيجة التي يحاول الداعي بتقرير جميع ما تقدّم رسوخها في نفس من يدعوه، فإذا تيقن أنّ المدعوّ تأهل لكشف السرّ، والإفصاح عن الرموز أحاله على ما تقرّر في كتب الفلاسفة من علم الطبيعيات، وما بعد الطبيعة والعلم الإلهي، وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية، حتى إذا تمكن المدعوّ من معرفة ذلك، كشف الداعي قناعه وقال اذكر من الحدوث، والأصول رموز إلى معاني المبادىء، وتقلب الجواهر، وأنّ الوحي إنما هو صفاء النفس، فيجد النبيّ في فهمه ما يلقي إليه، ويتنزل عليه، فيبرزه إلى الناس، ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبيّ شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذ العمل بها إلّا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء، بخلاف العارف، فإنه لا يلزمه العمل بها، ويكفيه معرفته، فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه وما عدا المعرفة من سائر المشروعات، فإنما هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأعراض والأسباب. ومن جملة المعرفة عندهم: أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع، إنّما هم لسياسة العامّة، وإنّ الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة، وإنّ الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني، إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه، وظهوره الآن إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه، ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتبهم، وهذا حاصل علم الداعي، ولهم في ذلك مصنفات كثيرة، منها اختصرت ما تقدّم ذكره. ابتداء هذه الدعوة: إعلم أنّ هذه الدعوة منسوبة إلى شخص كان بالعراق يعرف: بميمون القدّاح، وكان من غلاة الشيعة، فولد ابنا عرف: بعبد الله بن ميمون، اتسع علمه وكثرت معارفه، وكاد أن يطلع على جميع مقالات الخليقة، فرتب له مذهبا، وجعله في تسع دعوات، ودعا الناس إلى مذهبه، فاستجاب له خلق، وكان يدعو إلى الإمام محمد بن إسماعيل، وظهر من الأهواز، ونزل بعسكر مكرّم، فصار له مال، واشتهرت دعاته، فأنكر الناس عليه، وهموا به ففرّ إلى البصرة، ومعه من أصحابه الحسين الأهوازيّ، فلما انتشر ذكره بها طلب، فصار إلى بلاد الشام، وأقام بسلمية، وبها ولد له ابنه أحمد، فقام من بعد أبيه عبد الله بن ميمون فسير الحسين الأهوازيّ داعية له إلى العراق، فلقي حمدان بن الأشعث المعروف: بقرمط بسواد الكوفة، فدعاه واستجاب له، وأنزله عنده، وكان من أمره ما هو مذكور في أخبار القرامطة من كتابنا هذا، عند ذكر المعز لدين الله معدّ، ثم إنه ولد لأحمد بن عبد الله: ابنه الحسين ومحمد المعروف: بأبي الشلعلع، فلما هلك أحمد خلفه ابنه الحسين، ثم قام من بعده أخوه أبو الشلعلع، وكان من أمرهم ما هو مذكور في موضعه، فانتشرت الدعاة في أقطار الأرض، وتفقهوا في الدعوة، حتى وضعوا فيها الكتب الكثيرة،

وصارت علما من العلوم المدوّنة، ثم اضمحلت الآن، وذهبت بذهاب أهلها، ولهذا يقال: إنّ أصل دعوة الإسماعيلية مأخوذ من القرامطة، ونسبوا من أجلها إلى الإلحاد. صفة العهد الذي يؤخذ على المدعوّ: وهو إنّ الداعي يقول لمن يأخذ عليه العهد ويحلفه: جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه، وذمّة رسوله، وأنبيائه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما أخذه على النبيين من عقد، وعهد، وميثاق إنك تستر جميع ما تسمعه، وسمعته، وعلمته، وتعلمه، وعرفته، ونعرفه من أمري، وأمر المقيم بهذا البلد لصاحب الحق الإمام الذي عرّفت إقراري له، ونصحي لمن عقد ذمّته، وأمور إخوانه وأصحابه وولده، وأهل بيته المطيعين له على هذا الدين، ومخالصته له من الذكور والإناث، والصغار والكبار، فلا تظهر من ذلك شيئا قليلا، ولا كثيرا، ولا شيئا يدل عليه إلا ما أطلقت لك أن تتكلم به، أو أطلقه لك صاحب الأمر المقيم بهذا البلد، فتعمل في ذلك بأمرنا ولا تتعدّاه، ولا تزيد عليه، وليكن ما تعمل عليه قبل العهد، وبعده بقولك، وفعلك أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتشهد أن محمدا عبده ورسوله، وتشهد أن الجنة حقّ، وأن النار حقّ، وأن الموت حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وتقيم الصلاة لوقتها، وتؤتي الزكاة لحقها، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام، وتجاهد في سبيل الله حق جهاده على ما أمر الله به ورسوله، وتوالي أولياء الله، وتعادي أعداء الله، وتقوم بفرائض الله وسننه، وسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله الطاهرين ظاهرا وباطنا، وعلانية سرّا وجهرا فإنّ ذلك يؤكد هذا العهد، ولا يهدمه، ويثبته، ولا يزيله، ويقرّ به، ولا يباعده، ويشدّه، ولا يضعفه، ويوجب ذلك، ولا يبطله ويوضحه، ولا يعميه، كذلك هو الظاهر والباطن، وسائر ما جاء به النبييون من ربهم صلوات الله عليهم أجمعين على الشرائط المبينة في هذا العهد، جعلت على نفسك الوفاء بذلك، قل: نعم، فيقول المدعوّ: نعم. ثم يقول الداعي له: والصيانة له بذلك، وأداء الأمانة على أن لا تظهر شيئا أخذ عليك في هذا العهد في حياتنا، ولا بعد وفاتنا لا في غضب، ولا على حال رضى، ولا على رغبة، ولا في حال رهبة، ولا عند شدّة، ولا في حال رخاء، ولا على طمع، ولا على حرمان، تلقي الله على الستر لذلك، والصيانة له على الشرائط المبينة في هذا العهد، وجعلت على نفسك عهد الله وميثاقه، وذمّته وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أن تمنعني وجميع من أسميه لك، وأثبته عندك مما تمنع منه نفسك، وتنصح لنا ولوليك وليّ الله نصحا ظاهرا وباطنا، فلا تخن الله ووليه، ولا أحدا من إخواننا وأوليائنا، ومن تعلم أنه منا بسبب في أهل ولا مال، ولا رأي، ولا عهد، ولا عقد تتأوّل عليه بما يبطله، فإن فعلت شيئا من ذلك، وأنت تعلم أنك قد خالفته، وأنت على ذكر منه فأنت بريء من الله خالق السماوات والأرض الذي سوّى خلقك، وألف تركيبك، وأحسن إليك في دينك ودنياك، وآخرتك، وتبرأ من رسله الأوّلين

والآخرين، وملائكته المقرّبين الكروبيين، والروحانيين والكلمات التامّات، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، وتبرأ من التوراة، والإنجيل، والزبور، والذكر الحكيم، ومن كل دين ارتضاه الله في مقدّم الدار الآخرة، ومن كل عبد رضي الله عنه، وأنت خارج من حزب الله، وحزب أوليائه وخذلك الله خذلانا بينا، يعجل لك بذلك النقمة والعقوبة، والمصير إلى نار جهنم التي ليس لله فيها رحمة، وأنت بريء من حول الله وقوّته، وملجأ إلى حول نفسك، وقوّتك، وعليك لعنة الله التي لعن الله بها إبليس، وحرّم عليه بها الجنة وخلده في النار، إن خالقت شيئا من ذلك، ولقيت الله يوم تلقاه، وهو عليك غضبان، ولله عليك أن تحج إلى بيته الحرام ثلاثين حجة حجا واجبا ماشيا حافيا، لا يقبل الله منك إلّا الوفاء بذلك، وكل ما تملك في الوقت الذي تخالفه فيه، فهو صدقة على الفقراء والمساكين الذين لا رحم بينك، وبينهم لا يأجرك الله عليه، ولا يدخل عليك بذلك منفعة وكل مملوك لك من ذكر وأنثى في ملكك، أو تستفيده إلى وقت وفاتك إن خالفت شيئا من ذلك، فهم أحرار لوجه الله عز وجل، وكل امرأة لك أو تتزوّجها إلى وقت وفاتك إن خالفت شيئا من ذلك، فهنّ طوالق ثلاثا بتة، طلاق الحرج لا مثوبة لك، ولا خيار، ولا رجعة، ولا مشيئة، وكل ما كان لك من أهل ومال وغيرهما، فهو عليك حرام، وكل ظهار فهو لازم لك، وأنا المستحلف لك لإمامك، وحجتك، وأنت الحالف لهما، وإن نوت أو عقدت أو أضمرت، خلاف ما أحملك عليه، وأحلفك به، فهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها مجدّدة عليك لازمة لك، لا يقبل الله منك، إلّا الوفاء بها والقيام بما عاهدت بيني وبينك. قل: نعم، فيقول: نعم، ولهم مع ذلك وصايا كثيرة أضربنا عنها خشية الإطالة وفيما ذكرناه كفاية لمن عقل.

الدواوين

الدواوين وكانت دواوين الدولة الفاطمية لما قدم المعز لدين الله إلى مصر، ونزل بقصره في القاهرة، محلها بدار الإمارة من جوار الجامع الطولونيّ. فلما مات المعز، وقلد العزيز بالله الوزارة، ليعقوب بن كلس نقل الدواوين إلى داره، فلما مات يعقوب نقلها العزيز بعد موته إلى القصر، فلم تزل به إلى أن استبدّ الأفضل بن أمير الجيوش، وعمر دار الملك بمصر فنقل إليها الدواوين، فلما قتل عادت من بعده إلى القصر، وما زالت هناك حتى زالت الدولة. قال في كتاب الذخائر والتحف: وحدّثني من أثق به، قال: كنت بالقاهرة يوما من شهور سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وقد استفحل أمر المارقين، وقويت شوكتهم، وامتدّت أيديهم إلى أخذ الذخائر المصونة في قصر السلطان بغير أمره، فرأيت وقد دخل من باب الديلم أحد أبواب القصور المعمورة الزاهرة المعروف بتاج الملوك شادي، وفخر العرب عليّ بن ناصر الدولة بن حمدان، ورضي الدولة بن رضي الدولة، وأمير الأمراء بحتكين ابن بسكتكين، وأمير العرب بن كيغلغ والأعز بن سنان، وعدّة من الأمراء أصحابهم البغداديين وغيرهم، وصاروا في الإيوان الصغير، فوقفوا عند ديوان الشام لكثرة عددهم وجماعتهم، وكان معهم أحد الفرّاشين المستخدمين برسم القصور المعمورة، فدخلوا إلى حيث كان الديوان النظريّ في الديوان المذكور، وصحبتهم فعلة، وانتهوا إلى حائط مجيّر، فأمروا الفعلة بكشف الجير عنه، فظهرت حنية باب مسدود، فأمروا بهدمه، فتوصلوا منه إلى خزانة، ذكر أنها عزيزية من أيام العزيز بالله فوجدوا فيها من السلاح ما يروق الناظر، ومن الرماح العزيزية المطلية أسنتها بالذهب، ذات مهارك فضة مجراة بسواد ممسوح، وفضة بياض ثقيلة الوزن عدّة رزم، أعوادها من الزان الجيد، ومن السيوف المجوهرة النصول ومن النشاب الخلنجيّ وغيره، ومن الدرق اللمطيّ، والجحف التينيّ وغير ذلك، ومن الدروع المكلل سلاح بعضها والمحلّى بعضها بالفضة المركبة عليه، ومن التخافيف، والجواشن، والكراعيدات الملبسة ديباجا المكوكبة بكواكب فضة، وغير ذلك، مما ذكر أنّ قيمته تزيد على عشرين ألف دينار، فحملوا جميع ذلك بعد صلاة المغرب. ولقد شاهدت بعض حواشيهم، وركابياتهم يكسرون الرماح، ويتلفون بذلك أعوادها

ديوان المجلس

الزان، ليأخذوا المهارك الفضة ومنهم من يجعل ذلك في سراويله، وعمامته، وجيبه، ومنهم من يستوهب من صاحب السيف الثمين، وكان فيها من الرماح الطوال الخطية السمر الجياد عدّة، حملوا منها ما قدروا عليه، وبقي منها ما كسره الركابية، ومن يجري مجراهم كانوا يبيعونه للمغازليين، ولصناع المرادن، حتى كثر هذا الصنف بالقاهرة، ولم تعترضهم الدولة، ولا التفتت إلى قدر ذلك، ولا احتفلت به، وجعلته هو وغيره فداء لأموال المسلمين، وحفظا لما في منازلهم. ديوان المجلس قال ابن الطوير: ديوان المجلس، هو أصل الدواوين قديما، وفيه علوم الدولة بأجمعها، وفيه عدّة كتاب، ولكل واحد مجلس مفرد، وعنده معين أو معينان، وصاحب هذا الديوان، هو المتحدّث في الإقطاعات، ويلحق بديوان النظر ويخلع عليه وينشأ له السجل، وله المرتبة والمسند والدواة والحاجب إلى غير ذلك. قال: ذكر خدمهم الخاصة المتصلة بهم، فأوّلها دفتر المجلس، وصاحبه من الأستاذين المحنكين، ثم يتولاه أجلّ كتاب الدولة ممن يكون مترشحا لرأس الدواوين، ويتضمن ذلك الدفتر، وله مكان ديوان بالقصر الباطن من الإنعام في العطايا، والظاهر من الرسوم المعروفة في غرّة السنة، والضحايا والمرتب من الكسوات للأولّاد، والأقارب والجهات، وأرباب الرتب على اختلاف الطبقات، وما يرد من ملوك الدنيا من التحف والهدايا، وما يرسل إليهم من الملاطفات، ومقادير الصلات للمترسلين بالمكاتبات، وما يخرج من الأكفان لمن يموت من أرباب الجهات المحترمات، ثم يضبط ما ينفق في الدولة من المهمات ليعلم ما بين كل سنة من التفاوت، فالصرّة المنعم بها في أوّل العام من الدنانير، والرباعية والقراريط تقرب من ثلاثة آلاف دينار، وثمن الضحايا يقرّب من ألفي دينار، وما ينفق في دار الفطرة فيما يفرّق على الناس سبعة آلاف دينار، وما ينفق في دار الطراز للاستعمالات الخاص، وغيرها في كل سنة عشرة آلاف دينار، وما ينفق في مهمّ فتح الخليج غير المطاعم ألفا دينار، وما ينفق في شهر رمضان في سماطه ثلاثة آلاف دينار، وما ينفق في سماطي الفطر، والنخر أربعة آلاف دينار، وهذا خارج عما يطلق للناس أصنافا من خزائنه من المآكل والمشارب والمواصلة من الهبات، وما تخرج به الخطوط من التشريفات «1» ، والمسامحات «2» ، وما يطلق من الأهراء من الغلات حتى لا يفوتهم علم شيء من هذه المطلقات، وفي هذه الخدمة كاتب مستقل بين يدي صاحب ديوانه الأصليّ، ومعه

كاتبان آخران لتنزيل ذلك في الدفتر، والدفتر عبارة عن جرائد مسطوحات ينزل ذلك فيها في أوقاته من غير فوات. قال: وإذا انقضى عيد النحر من كل سنة تقدّم بعمل الاستيمار لتلك السنة تمام ذي الحجة منها، فيجتمع كتاب ديوان الرواتب عند متوليه، وتحمل العروض إليه، فإذا تحرّرت نسخة التحرير: بيّضت بعد أن يستدعي من المجلس أوراق بالإدرار الذي يقبض بغير حرج، وفي الإدرار ما هو مستقرّ بالوجهين، فيضاف هذا المبلغ بجهاته إلى المبالغ المعلومة بديوان الرواتب وجهاتها، حتى لا يفوت من الاستيمار شيء من كل ما تقرّر شرحه، ويعلم مقداره عينا وورقا، وغلة وغير ذلك، فيحرّر ذلك كله بأسماء المرتزقين، وأوّلهم: الوزير، ومن يلوذ به، وعلى ذلك إلى أن ينتهي الجميع إلى أرباب الضرّ، فإذا تكمل استدعى له من خزانة الفرش وطاء حرير لشدّه، وشرابة لمسكه، إمّا خضراء أو حمراء، ويعمل له صدر من الكلام اللائق بما بعده، وهذا كله خارج عن الكسوات المطلقة لأربابها، والرسوم المعدّة في كل سنة، وما يحمل من دار الفطرة من الأصناف برسم عيد الفطر، وعما يشهد به دفتر المجلس من العطايا الخافية والرسوم، وقد انعقد مرّة، وأنا أتولى ديوان الرواتب على ما مبلغه نيف ومائة ألف دينار أو قريب من مائتي ألف دينار، ومن القمح والشعير على عشرة آلاف أردب، فإذا فرغ من مسكه في الشرابة حمل إلى صاحب ديوان النظر إن كان، وإلّا فلصاحب ديوان المجلس ليعرضه على الخليفة، إن كان يعني مستبدّا أو الوزير لاستقبال المحرّم من السنة الآتية في أوقات معلومة، فيتأخر في العرض، وربما يستوعب المحرّم ليحيط العلم بما فيه، فإذا كمل العرض أخرج إلى الديوان، وقد شطب على بعضه، وكانوا يتحرّجون من الإقامات على مال الدولة التي لا أصل لها، وعلى غير متوفر، ويتنجزها أربابها بالمستقبلات على الخلفاء والوزراء، وينقص قوم للاستكثار، ويزاد قوم للاستحقاق، ويصرف قوم، ويستخدم آخرون على ما تقتضيه الآراء في ذلك الوقت، ثم يسلم لرب هذا الديوان فيحمل الأمر على ما شطب عليه، وعلامة الإطلاق خروجه من العرض. وقيل: إنه عمل مرّة في أيام المستنصر بالله، فلما استؤذن على عرضه، قال: هل وقع أحد بما فيه غيرنا؟ قيل له: معاذ الله يا مولانا، ما تمّ إنعام إلّا لك، ولا رزق إلّا من الله على يديك، فقال: ما ينقص به أمرنا، ولا خطنا، وما صرفناه في دولتنا بإذننا، وتقدّم إلى وليّ الدولة بن جبران كاتب الإنشاء بإمضائه للناس من غير عرض، وحمل الأمر على حكمه، ووقع عن الخليفة بظاهره: الفقر مرّ المذاق، والحاجة تذل الأعناق، وحراسة النعم بإدرار الأرزاق، فليجروا على رسومهم في الإطلاق ما عندكم ينفد، وما عند الله باق. ووقع في خلافة الحافظ لدين الله على استيمار الرواتب ما نصه: أمير المؤمنين لا يستكثر في ذات الله كثيرا لإعطاء، ولا يكدّره بالتأخير له، والتسويف، والإبطاء، ولما انتهى

إليه ما أرباب الرواتب عليه من القلق للامتناع من إيجاباتهم، وحمل خروجاتهم، قد ضعفت قلوبهم، وقنطت نفوسهم، وساءت ظنونهم، شملهم برحمته ورأفته، وأمنهم مما كانوا وجلين من مخافته، وجعل التوقيع بذلك بخط يده تأكيدا للإنعام والمنّ، وتهنئة بصدقة لا تتبع بالأذى والمنّ، فليعتمد في ديوان الجيوش المنصورة إجراء ما تضمنت هذه الأوراق ذكرهم على ما ألفوه، وعهدوه من رواتبهم، وإيجابها على سياقها لكافتهم من غير تأوّل، ولا تعنت ولا استدراك ولا تعقب وليجروا في نسبياتهم على عادتهم لا ينقض من أمرهم ما كان مبرما، ولا ينسخ من رسمهم ما كان محكما، كرما من أمير المؤمنين، وفعلا مبرورا، وعملا بما أخبر به عز وجل في قوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان/ 9] ولينسخ في جميع الدواوين بالحضرة إن شاء الله تعالى. وقال في كتاب كنز الدرر: إن في سنة ست وأربعمائة: عرض على الحاكم بأمر الله الاستيمار باسم المتفقهين، والقرّاء، والمؤذنين بالقاهرة ومصر، وكانت الجملة في كل سنة: أحدا وسبعين ألف دينار، وسبعمائة، وثلاثة وثلاثين دينارا وثلثي دينار وربع دينار، فأمضى جميع ذلك. وقال ابن المأمون: وأما الاستيمار، فبلغني ممن أثق به أنه كان في الأيام الأفضلية اثني عشر ألف دينار، وصار في الأيام المأمونية لاستقبال سنة ست عشرة، وخمسمائة ستة عشر ألف دينار، وأما تذكر الطراز، فالحكم فيها مثل الاستيمار، والشائع فيها أنها كانت تشمل في الأيام الأفضلية على أحد وثلاثين ألف دينار، ثم اشتملت في الأيام المأمونية على ثلاثة وأربعين ألف دينار، وتضاعفت في الأيام الآمرية، وعرض روزنامج بما أنفق عينا من بيت المال في مدّة أوّلها محرّم سنة سبع وعشرة وخمسمائة، وآخرها: سلخ ذي الحجة منها في العساكر المسيرة لجهاد الفرنج برّا، والأساطيل بحرا، والمنفق في أرباب النفقات من الحجرية والمصطيعية والسودان على اختلاف قبوضهم، وما ينصرف برسم خزانة القصور الزاهرة، وما يبتاع من الحيوان برسم المطابخ، وما هو برسم منديل الكمّ الشريف في كل سنة، مائة دينار، والمطلق في الأعياد والمواسم، وما ينعم به عند الركوبات من الرسوم والصدقات، وعند العود منها، وثمن الأمتعة المبتاعة من التجار على أيدي الوكلاء والمطلق برسم الرسل، والضيوف، ومن يصل متسأمنا، ودار الطراز، ودار الديباج، والمطلق برسم الصلاة والصدقات، ومن يعتدي للإسلام، وما ينعم به على الولاة عند استدامهم في الخدم، ونفقات بيت المال، والعمائر وهو من العين: أربعمائة ألف وثمانية وستون ألفا، وسبعمائة وسبعة وتسعون دينارا ونصف من جملة: خمسمائة ألف وسبعة وستين وألفا، ومائة وأربعين دينارا ونصف، يكون الحاصل بعد ذلك مما يحمل إلى الصناديق الخاص برسم المهمات لما يتجدّد من تسفير العساكر، وما يحمل إلى الثغور عند نفاد ما بها: ثمانية وتسعين ألفا، ومائة وسبعة وتسعين دينارا وربعا وسدسا، ولم يكن يكتب من بيت المال وصول، ولا مجرى ولا

تعرّف، وذلك خارج عما يحمل مشاهرة برسم الديوان المأمونيّ، والأجلاء إخوته، وأولاده، وما أنعم به على ما تضمنت اسمه مشاهرة من الأصحاب، والحواشي، وأرباب الخدم، والكتاب، والأطباء، والشعراء، والفرّاشين الخاص والجوق، والمؤدبين، والخياطين، والرفائين، وصبيان بيت المال، ونوّاب الباب، ونقباء الرسائل، وأرباب الرواتب المستقرّة من ذوي النسب، والبيوتات والضعفاء، والصعاليك من الرجال والنساء عن مشاهرتهم، ستة عشر ألفا، وستمائة واثنان وثمانون دينارا وثلثا دينار يكون في السنة: مائتي ألف ومائة دينار، فتكون الجملة سبمائة ألف وسبعة وستين ألفا ومائتين وأربعة وتسعين دينارا ونصفا. قال: وفي هذا الوقت، يعني شوّال، سنة سبع عشرة وخمسمائة: وقعت مرافعة في أبي البركات بن أبي الليث متولي ديوان المجلس صورتها المملوك يقبل الأرض، وينهى إنه ما واصل إنهاء حال هذا الرجل، وما يعتمده لأنه أهل أن ينال خدمته، وإنما هي نصيحة تلزمه في حق سلطانه، وقد حصل له من الأموال والذخائر ما لا عدد له ولا قيمة عليه، ويضرب المملوك عن وجوه الجناية التي هي ظاهرة، لأن السلطان لا يرضى بذكرها في عالي مجلسه ولا سماعها في دولته، وله ولأهله مستخدمون في الدولة ست عشرة سنة بالجاري الثقيل لكل منهم. ويذكر المملوك ما وصلت قدرته إلى علمه، ما هو باسمه خاصة دون من هو مستخدم في الدواوين من أهله، وأصحابه، ويبدأ بما باسمه مياومة إدرارا من بيت المال، والخزائن ودار التعبية، والمطابخ، وشون الحطب، وهو ما يبين برسم البقولات والتوابل: نصف دينار، ومن الضأن: رأس واحد، ومن الحيوان: ثلاثة أطيار، ومن الحطب: حملة واحدة، ومن الدقيق: خمسة وعشرون رطلا، ومن الخبز: عشرون وظيفة، ومن الفاكهة: ثمرة زهرة قصريتان وشمامة، وفي كل اثنين وخميس من السماط بقاعة الذهب: طيفور «1» خاص وصحن من الأوائل، وخمسة وعشرون رغيفا من الخبز الموائدي والسميذ، وفي كل يوم أحد وأربعاء من الأسمطة بالدار المأمونية مثل ذلك، وفي كل يوم سبت وثلاثاء من أسمطة الركوبات: خروف مشويّ، وجام حلوى ورباعي عنبا، ويحضر إليه في كل يوم من الإصطبلات بغلة بمركوب محلى وبغلة برسم الراجل، وفراشين من الجوق برسم خدمته، وتبيت على بابه، وإذا خرج من بين يدي السلطان في الليل، كان له شمعة من الموكبيات توصله إلى داره وزنها: سبعة عشر رطلا، ولا تعود، وبرسم ولده: في كل يوم ثلاثة أرطال لحم، وعشرة أرطال دقيق، وفي أيام الركوبات رباعي، والمشاهرة جاري ديوان الخاص،

والمجلس برسمه: مائة وعشرون دينارا، وبرسم ولده: راتبا عشرة دنانير وأثبت أربعة غلمان نصارى، ونسبهم للإسلام في جملة المستخدمين في الركاب، ولم يخدموا لا في الليل، ولا في النهار بما مبلغه سبعة دنانير، ومن السكر خمسة عشر رطلا، ومن عسل النحل: عشرة أرطال، ومن قلب الفستق: ثلاثة أرقال، وقلب البندق: خمسة أرطال، وقلب اللوز: أربعة أرطال، وورد مربى: رطلان، زيت طيب: عشرة أرطال، شيرج: خمسة أرطال، زيت حار: ثلاثون رطلا، خل: ثلاث جرار، أرز: نصف ويبة، سماق: أربعة أرطال، حصرم وكشك، وحب رمّان، وقراصيا بالسوية: اثنا عشر رطلا، سدر وأشنا: ويبة، ومن الكيزان: عشرون شربة عزيزية وثلجية واحدة، ومن الشمع ست شمعات منهنّ: اثنتان منويات، وأربعة رطليات، والمسانهة في بكور الغرّة برسم الخاصة: خمسة دنانير، وخمسة رباعية، وعشرة قراريط جدد، وبرسم ولده: دينار ورباعي، وثلاثة قراريط، وخروف مقموم، وخمسة أرؤس، وربع قنطار خبز برماذق، وصحن أرز بلبن وسكر، ومن السماط بالقصر في اليوم المذكور خروف شواء، وزبادي، وجام حلوى والخبز، وقطعة منفوخ، ومن القمح: ثلثمائة أردب، ومن الشعير: مائة وخمسون أردبا. وفي المواليد الأربعة: أربع صواني فطرة، وكسوة الشتاء، برسمه خاصة منديل حريري وشقة ديبقيّ حرير وشقة ديباج، ورداء أطلس، وشقة ديباج داري، وشقتان سقلاطون إحداهما اسكندرانية وشقتان عتابيّ وشقتان خز مغربيّ، وشقتان اسكندرانيّ، وشقتان دمياطيّ، وشقة طلي مرش، وفوطة خاص. وبرسم ولده: شقة سقلاطون داري، وشقة عتابيّ داري، وشقة خز مغربيّ، وشقتان دمياطيّ، وشقتان اسكندرانيّ، وشقة طلي وفوطة. وبرسم من عنده: منديلا كم أحدهما خزائنيّ خاص، ونصفي أردية ديبقي، وشقة سقلاطون داري وشقة عتابيّ، وشقة سوسيّ، وشقة دمياطيّ، وشقتان اسكندرانيّ، وفوطة، وبرسمه أيضا في عيد الفطر: طيفوران، فطرة مشورة، ومائة حبة بوري، وبدلة مذهبة مكملة، ولولده: بدلة حرير، وبرسم من عنده حلة مذهبة، وفي عيد النحر: رسمه مثل عيد الفطر، ويزيد عنه هبة مائة دينار، ولولده: مثل عيد الفطر وزيادة عشرة دنانير، ويساق إليه من الغنم ما لم يكن باسمه. وفي موسم فتح الخليج: أربعون دينارا، وصينية فطرة، وطيفور خاص من القصر، وخروف شواء، وحام حلواء، وبرسم ولده: خمسة دنانير، ولخاصه في النوروز: ثلاثون دينارا، وشقة ديبقي حريري، وشقة لاذ ومعجر حريري، ومنديل كم حريري، وفوطة، ومائة بطيخة، وسبعمائة حبة رمان، وأربعة عناقيد موز، وفرد بسر وثلاثة أقفاص تمر قوصيّ، وقفصان سفرجل، وثلاث بكالي هريسة، واحدة بدجاج، وأخرى بلحم ضان،

ديوان النظر

والثالثة بلحم بقريّ، وأربعون رطلا خبز برماذق، ولولده: خمسة دنانير وحوائج النوروز بما تقدّم ذكره، وبرسم الغيطاس: خمسمائة حبة ترنج ونارنج وليمون مركب، وخمسة عشر طنّ قصب، وعشر حبات بوري، وباسمه في عيد الغدير من السماط بالقصر مثل عيد النحر، وله هبة عن رسم الخلع من المجلس المأمونيّ، يعني مجلس الوزارة ثلاثون دينارا، ولولده خمسة دنانير، ومن تكون هذه رسومه في أيّ وجه تنصرف أمواله، والذي باسم أخيه نظير ذلك، وكذلك صهره في ديوان الوزارة وابن أخيه في الديوان التاجيّ، ووجوه الأموال من كل جهة واصلة إليهم، والأمانة مصروفة عنهم. وقد اختصر المملوك فيما ذكر، والذي باسمه أكثر، وإذا أمر بكشف ذلك من الدواوين تبين صحة قول المملوك، وعلم أنه ممن يتجنب قول المحال، ولا يرضاه لنفسه سيما أن رفعه إلى المقام الكريم، وشنع ذلك بكثرة القول فيهم، وعرّض بالقبض عليهم، وأوجب على نفسه أنه يثبت في جهاتهم من الأموال التي تخرج عن هذا الإنعام ما يجده حاضرا مدخورا عند من يعرفه مائة ألف دينار، فلم يسمع كلامه إلى أن ظهر الراهب في الأيام الآمرية، فوجد هو وغيره الفرصة فيهم، وكثر الوقائع عليهم، فقبض عليهم عن آخرهم، ومن يعرفهم، وأخذ منهم الجملة الكبيرة، ثم بعد ذلك عادوا إلى خدمهم بما كان من أسمائهم، وتجدّد من جاههم، وانتقامهم من أعدائهم أكثر مما كان أوّلا، انتهى. فانظر أعزك الله إلى سعة أحوال الدولة من معلوم رجل واحد من كتاب دواوينها، يتبين لك بما تقدّم ذكره في هذه المرافعة من عظم الشأن وكثر العطاء، ما يكون دليلا على باقي أحوال الدولة. ديوان النظر قال ابن الطوير: أما دواوين الأموال، فإنّ أجلّها من يتولى النظر عليهم، وله العزل، والولاية، ومن يده عرض الأوراق في أوقات معروفة على الخليفة أو الوزير، ولم ير فيه نصرانيّ، إلّا الأحزم، ولم يتوصل إليه إلّا بالضمان، وله الاعتقال بكل مكان يتعلق بنوّاب الدولة، وله الجلوس بالمرتبة، والمسند، وبين يديه حاجب من أمراء الدولة، وتخرج له الدواة بغير كرسي، وهو يندب المترسلين لطلب الحساب، والحث على طلب الأموال، ومطالبة أرباب الدولة، ولا يعترض فيما يقصده من أحد من الدولة. ديوان التحقيق هو ديوان مقتضاه المقابلة على الدواوين، وكان لا يتولاه إلّا كاتب خبير، وله الخلع المرتبة، والحاجب، ويلحق برأس الديوان يعني متولي النظر، ويفتقر إليه في أكثر الأوقات. وقال ابن المأمون: وفي هذه السنة يعني سنة إحدى وخمسمائة: فتح ديوان المجلس،

ديوان الجيوش والرواتب

قال: ولما كثرت الأموال عند ابن أبي الليث صاحب الديوان، رغب في التبجح على الأفضل بن أمير الجيوش ينهضه، ويسأله أن يشاهده قبل حمله، وذكر أنه سبعمائة ألف دينار خارجا عن نفقات الرجال، فجعلت الدنانير في صناديق بجانب، والدراهم في صناديق بجانب، وقام ابن أبي الليث بين الصفين، فلما شاهد الأفضل بن أمير الجيوش ذلك، قال لابن أبي الليث: يا شيخ تفرّحني بالمال؟ وتربة أمير الجيوش إن بلغني أن بئرا معطلة، أو أرضا بائرة، أو بلدا خراب، لأضربنّ عنقك، فقال: وحق نعمتك لقد حاشا الله أيامك أن يكون فيها بلد خراب، أو بئر معطلة، أو أرض بور، فأبى أن يكشف عما ذكر انتهى. وقتل ابن أبي الليث في سنة ثمان عشرة وخمسمائة. ديوان الجيوش والرواتب قال ابن الطوير: أما الخدمة في ديوان الجيوش، فتنقسم قسمين: الأوّل ديوان الجيش، وفيه مستوف أصيل ولا يكون إلّا مسلما، وله مرتبة على غيره لجلوسه بين يدي الخليفة داخل عتبة باب المجلس، وله الطرّاحة، والمسند، وبين يديه الحاجب، وترد عليه أمور الأجناد، له العرض والحلي والثياب. ولهذا الديوان خازنان برسم رفع الشواهد، وإذا عرض أحد الأجناد، ورضي به عرض دوابه، فلا يثبت له إلّا الفرس الجيد من ذكور الخيل، وإناثها، ولا يترك لأحد منهم برذون ولا بغل، وإن كان عندهم البراذين والبغال، وليس لهم تغيير أحد من الأجناد إلّا بمرسوم، وكذلك إقطاعهم، ويكون بين يدي هذا المستوفي: نقباء الأمراء ينهون إليه متجدّدات الأجناد من الحياة والموت والمرض والصحة، وكان قد فسح للأجناد في مقايضة بعضهم بعضا في الإقطاع بالتوقيعات بغير علامة، بل بتخريج صاحب ديوان المجلس، ومن هذا الديوان تعمل أوراق أرباب الجرايات، وما كان لأمير، وإن علا قدره بلد مقور إلّا نادرا. وأما القسم الثاني من هذا الديوان: فهو ديوان الرواتب، ويشتمل على أسماء كل مرتزق، وجار، وجارية، وفيه كاتب أصيل بطرّاحة، وفيه من المعينين والمبيضين نحو عشرة أنفس والتعريفات واردة عليه من كل عمل باستمرار من هو مستمرّ، ومباشرة من استجدّ، وموت من مات ليوجب استحقاقه على النظام المستقيم. وفي هذا الديوان عدّة عروض، العرض الأوّل: يشتمل على راتب الوزير، وهو في الشهر خمسة آلاف دينار، ومن يليه من ولد، وأخ من ثلثمائة دينار إلى مائتي دينار، ولم يقرّر لولد وزير خمسمائة دينار سوى شجاع بن شاور، المنعوت: بالكامل، حواشيهم على مقتضى عدّتهم، من خمسمائة إلى أربعمائة إلى ثلثمائة خارجا عن الإقطاعات. العرض الثاني حواشي الخليفة، وأوّلهم: الأستاذون المحنكون على رتبهم، وجواري

خدمهم التي لا يباشرها سواهم، فزمام القصر، وصاحب بيت المال، وحامل الرسالة، وصاحب الدفتر، ومشاد التاج، وزمام الأشراق الأقارب، وصاحب المجلس لكل واحد منهم: مائة دينار في كل شهر، ومن دونهم ينقص عشرة دنانير حتى يكون آخرهم من له في كل شهر عشرة دنانير، وتزيد عدّتهم على ألف نفس، ولطبيبي الخاص لكل واحد: خمسون دينارا، ولمن دونهما من الأطباء برسم المقيمين بالقصر، لكل واحد عشرة دنانير. العرض الثالث: يتضمن أرباب الرتب بحضرة الخليفة، فأوّله كاتب الدست الشريف، وجارية: مائة وخمسون دينارا، ولكل واحد من كتابه ثلاثون دينارا، ثم صاحب الباب وجارية: مائة وعشرون دينارا، ثم حامل السيف وحامل الرمح لكل منهما: سبعون دينارا وبقية الأزمّة على العساكر والسودان: من خمسين إلى أربعين دينارا إلى ثلاثين دينارا. العرض الرابع: يشتمل على المستقرّ لقاضي القضاة، ومن يلي قاضي القضاة: مائة دينار، وداعي الدعاة: مائة دينار، ولكل من قرّاء الحضرة: عشرون دينارا إلى خمسة عشر إلى عشرة، والخطباء الجوامع: من عشرين دينارا إلى عشرة، وللشعراء من عشرين دينارا إلى عشرة دنانير. العرض الخامس: يشتمل على أرباب الدواوين، ومن يجري مجراهم، وأوّلهم: من يتولى ديوان النظر وجاريه: سبعون دينارا، وديوان التحقيق جاريه: خمسون دينارا، وديوان المجلس: أربعون دينارا، وصاحب دفتر المجلس: خمسة وثلاثون دينارا، وكاتبه: خمسة دنانير، وديوان لجيوش وجاريه: أربعون دينارا، والموقع بالقلم الجليل: ثلاثون دينارا، ولجميع أصحاب الدواوين الجاري فيها المعاملات لكل واحد: عشرون دينارا، ولكل معين: من عشرة دنانير إلى سبعة إلى خمسة دنانير. العرض السادس: يشتمل على المستخدمين بالقاهرة ومصر لكل احد من المستخدمين في ولاية القاهرة، وولاية مصر في الشهر: خمسون دينارا، والحماة بالإهراء، والمناخات والجوالي والبساتين، والأملاك وغيرها لكل منهم: من عشرين دينارا إلى خمسة عشر إلى عشرة إلى خمسة دنانير. العرض السابع: الفرّاشون بالقصور برسم خدمها وتنظيفها خارجا وداخلا ونصب الستائر المحتاج إليها، وخدمة المناظر الخارجة عن القصر، فمنهم خاص برسم خدمة الخليفة، وعدّتهم: خمسة عشر رجلا منهم: صاحب المائدة، وحامي المطابخ: من ثلاثين دينارا إلى ما حولها، ولهم رسوم متميزة، ويقربون من الخليفة في الأسمطة التي يجلس عليها، ويليهم الرشاشون داخل القصر وخارجه، ولهم عرفاء، ويتولى أمرهم أستاذ من خواص الخليفة وعدّتهم: نحو الثلاثمائة رجل، وجار بهم: من عشرة دنانير إلى خمسة دنانير.

ديوان الإنشاء والمكاتبات

العرض الثامن: صبيان الركاب، وعدّتهم: تزيد على ألفي رجل، ومقدّموهم أصحاب ركاب الخليفة، وعدّتهم: اثنا عشر مقدّما، منهم: مقدّم المقدّمين، وهو صاحب الركاب اليمين، ولكل من هؤلاء المقدّمين في كل شهر: خمسون دينارا، ولهم نقباء من جهة المذكورين يعرفونهم وهم مقرّرون جوقا على قدر جواريهم، جوقة لكل منهم: خمسة عشر دينارا، وجوقة لكل منهم: عشرة دنانير، وجوقة لكل منهم: خمسة دنانير، ومنهم من ينتدب في الخدم السلطانية، ويكون لهم نصيب في الأعمال التي يدخلونها، وهم الذين يحملون الملحقات لركوب الخليفة في المواسم وغيرها. وأوّل من قرّر العطاء لغلمانه، وخدمه، وأولادهم الذكور والإناث، ولنسائهم، وقرّر لهم أيضا الكسوة: العزيز «1» بالله نزار بن المعز. ديوان الإنشاء والمكاتبات وكان لا يتولاه إلّا أجل كتاب البلاغة، ويخاطب: بالشيخ الأجل، ويقال له: كاتب الدست الشريف، ويسلم المكاتبات الواردة مختومة، فيعرضها على الخليفة من بعده، وهو الذي يأمر بتنزيلها، والإجابة عنها للكتاب، والخليفة يستشيره في أكثر أموره، ولا يحجب عنه متى قصد المثول بين يديه، وهذا أمر لا يصل إليه غيره، وربما بات عند الخليفة ليالي وكان جاريه: مائة وعشرين دينارا في الشهر، وهو أوّل أرباب الإقطاعات، وأرباب الكسوة، والرسوم والملاطفات ولا سبيل أن يدخل إلى ديوانه بالقصر، ولا يجتمع بكتابه أحد إلّا الخواص، وله حاجب من الأمراء الشيوخ، وفرّاشون وله المرتبة الهائلة، والمخادّ، والمسند، والدواة لكنها بغير كرسيّ، وهي من أخص الدوى، ويحملها أستاذ من أستاذي الخليفة. التوقيع بالقلم الدقيق في المظالم وكان لا بدّ للخليفة من جليس يذاكره ما يحتاج إليه من كتاب الله، وتجويد الخط، وأخبار الأنبياء، والخلفاء، فهو يجتمع به في أكثر الأيام، ومعه أستاذ من المحنكين مؤهل لذلك، فيكون الأستاذ ثالثهما، ويقرأ على الخليفة ملخص السير، ويكرّر عليه: ذكر مكارم الأخلاق، وله بذلك رتبة عظيمة تلحق برتبة كاتب الدست، ويكون صحبته للجلوس دواة محلاة، فإذا فرغ من المجالسة، ألقي في الدواة كاغد: فيه عشرة دنانير، وقرطاس: فيه

التوقيع بالقلم الجليل

ثلاثة مثاقيل ندّ مثلث خاص ليتبخر به عند دخوله على الخليفة ثاني مرة، وله منصب التوقيع بالقلم الدقيق، وله طرّاحة، ومسند، وفرّاش يقدّم إليه ما يوقع عليه، وله موضع من حقوق ديوان المكاتبات، لا يدخل إليه أحد إلّا بإذن، وهو يلي صاحب ديوان المكاتبات في الرسوم، والكساوي وغيرها. التوقيع بالقلم الجليل وهي رتبة جليلة، ويقال لها: الخدمة الصغرى، ولها الطرّاحة، والمسند بغير حاجب، بل الفرّاش لترتيب ما يوقع فيه. مجلس النظر في المظالم كانت الدولة إذا خلت من وزير صاحب سيف، جلس صاحب الباب في باب الذهب «1» بالقصر، وبين يديه النقباء والحجاب، فينادي المنادي بين يديه: يا أرباب الظلامات، فيحضرون، فمن كانت ظلامته مشافهة أرسلت إلى الولاة والقضاة رسالة بكشفها، ومن تظلم ممن ليس من أهل البلدين أحضر قصة بأمره، فيتسلمها الحاجب منه، فإذا جمعها أحضرها إلى الموقع بالقلم الدقيق، فيوقع عليها، ثم تحمل إلى الموقع بالقلم الجليل، فيبسط ما أشار إليه الموقع الأوّل، ثم تحمل في خريطة إلى الخليفة، فيوقع عليها، ثم تخرج في الخريطة إلى الحاجب، فيقف على باب القصر، ويسلم كل توقيع لصاحبه، فإن كان وزيره صاحب سيف: جلس للمظالم بنفسه، وقبالته: قاضي القضاة، ومن جانبيه شاهدان معتبران، ومن جانب الوزير: الموقع بالقلم الدقيق، ويليه: صاحب ديوان المال، وبين يديه صاحب الباب واسفهسلار العساكر، وبين أيديهما النوّاب، والحجاب على طبقاتهم، ويكون الجلوس بالقصر في مجلس المظالم في يومين من الأسبوع، وكان الخليفة إذا رفعت إليه القصة، وقع عليها: يعتد ذلك إن شاء الله تعالى، ويوقع في الجانب الأيمن منها، يوقع بذلك، فتخرج إلى صاحب ديوان المجلس، فيوقع عليها جليلا، ويخلي مكان العلامة فيعلم عليها الخليفة وتثبت، وكانت علامتهم أبدا: الحمد لله رب العالمين، وكان الخليفة يوقع في المسامحة، والتسويغ والتحبيس: قد أنعمنا بذلك، وقد أمضينا ذلك، وكان إذا أراد أن يعلم ذلك الشيء الذي أنهي وقع ليخرج الحال في ذلك، فإذا أحضر إليه إخراج الحال، علم عليه فإن كان حينئذ وزير وقع الخليفة بخطه، وزيرنا السيد الأجل وذكر نعته المعروف به أمتعنا الله ببقائه يتقدّم بنجاز ذلك إن شاء الله تعالى، فيكتب الوزير تحت خط

رتب الأمراء

الخليفة: يمتثل أمر مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ويثبت في الدواوين. رتب الأمراء كان أجل خدم الأمراء: أرباب السيوف، خدم الباب، ويقال لمتولي هذه الخدمة: صاحب الباب، وينعت أوّلا بالمعظم، وأوّل من خدم بها: المعظم خمرتاش في أيام الخليفة الحافظ، وكان من العقلاء، وناب عن الحافظ في مرضه، فلما عوفي أراده على الوزارة، فامتنع، وله نائب يقال له: النائب، وتسمى الخدمة فيها: بالنيابة الشريفة ومقتضاها أنها مميزة، ولا يليها إلّا أعيان العدول، وأرباب العمائم، وينعت أبدا بعدي الملك، وهو الذي يتلقى الرسل الواصلة من الدول، ومعه نوّاب الباب في خدمته، ويحفظهم ينزلهم بالأماكن المعدّة لهم، ويقدّمهم للسلاح على الخليفة، والوزير مع صاحب الباب، فيكون صاحب الباب يمينا، وهو يسار، ويتولى افتقادهم، والحث على ضيافتهم، ولا يمكن من التقصير في حقوقهم، واجتماع الناس بهم، والاطلاع على ما جاؤوا فيه، ولا من ينقل الأخبار إليهم، ويلي رتبة صاحب الباب، الإسفهسلار، وهو زمام كل زمام، وإليه أمور الأجناد، ثم يليه حامل سيف الخليفة أيام الركوب بالمظلة واليتيمة، ثم من يزم طائفتي الحافظية، والآمرية، وهما وجه الأجناد، وهؤلاء أرباب الأطواق، ويليهم: أرباب القصب، والعماريات، وهي الأعلام، ثم زي الطوائف، ثم من يترشح لذلك من الأماثل وكانت الدولة لا تسند ذلك إلّا إلى أرباب الشجاعة، والنجدة، ولهذا دخل فيه أخلاط الناس من الأرمن والروم وغيرهم، وعلى ذلك كان عملهم لا للزينة والتباهي. قاضي القضاة وكان من عادة الدولة، أنه إذا كان وزير: رب سيف، فإنه يقلد القضاء رجلا نيابة عنه، وهذا إنما حدث من عهد أمير الجيوش بدر الجماليّ، وإذا كان الخليفة مستبدّا قلد القضاء رجلا، ونعته بقاضي القضاة، وتكون رتبته أجل رتب أرباب العمائم، وأرباب الأقلام، ويكون في بعض الأوقات داعيا، فيقال له حينئذ: قاضي القضاة، وداعي الدعاة ولا يخرج شيء من الأمور الدينية عنه، ويجلس السبت والثلاثاء، بزيادة جامع عمرو بن العاص بمصر على طرّاحة ومسند حرير. فلما ولي ابن عقيل القضاء، رفع المرتبة والمسند، وجلس على طرّاحات السامان، فاستمرّ هذا الرسم ويجلس الشهود حواليه يمنة ويسرة بحسب تاريخ عدالتهم، وبين يديه خمسة من الحجاب اثنان بين يديه، واثنان على باب المقصورة، وواحد ينفذ الخصوم إليه، وله أربعة من الموقعين بين يديه: اثنان يقابلان اثنين، وله كرسيّ الدواة، وهي دواة محلاة

قاعة الفضة

بالفضة تحمل إليه من خزائن القصور، ولها حامل بجامكية «1» في الشهر على الدولة، ويقدّم له من الإصطبلات برسم ركوبه على الدوام: بغلة شهباء، وهو مخصوص بهذا اللون من البغال دون أرباب الدولة، وعليها من خزانة السروج، سرج محلي ثقيل وراء دفتر فضة، ومكان الجلد حرير، وتأتيه في المواسم الأطواق، ويخلع عليه الخلع المذهبة بلا طبل، ولا بوق إلّا إذا ولي الدعوة مع الحكم، فإنّ للدعوة في خلعها الطبل، والبوق، والبنود الخاص وهي نظير البنود التي يشرّف بها الوزير صاحب السيف، وإذا كان للحكم خاصة كان حواليه القرّاء رجالة، وبين يديه المؤذنون يعلنون بذكر الخليفة، والوزير إن كان، ثم ويحمل بنوّاب الباب والحجاب، ولا يتقدّم عليه أحد في محضر هو حاضره من رب سيف وقلم، ولا يحضر لأملاك ولا جنازة إلا بإذن، ولا سبيل إلى قيامه لأحد، وهو في مجلس الحكم ولا يعدّل شاهد إلّا بأمره، ويجلس بالقصر في يومي الاثنين والخميس، أوّل النهار للسلام على الخليفة، ونوّابه لا يفترون عن الأحكام، ويحضر إليه وكيل بيت المال، وكان له النظر في ديوان الضرب لضبط ما يضرب من الدنانير فكان يحضر مباشرة التغليق بنفسه، ويختم عليه، ويحضر لفتحه، وكان القاضي لا يصرف إلّا بجنحة، ولا يعدّل أحد إلّا بتزكية عشرين شاهدا: عشرة من مصر، وعشرة من القاهرة، ورضي الشهود به، ولا يحتمي أحد على الشرع ومن فعل ذلك أدب. قاعة الفضة وهي من جملة قاعات القصر. قاعة السدرة كانت بجوار المدرسة، والتربة الصالحية، واشتراها قاضي القضاة: شمس الدين محمد بن ابراهيم بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور المقدسيّ الحنبليّ، مدرس الحنابلة بالمدرسة الصالحية: بألف وخمسة وتسعين دينارا في رابع شهر ربيع الآخر: سنة ستين وستمائة من كمال الدين ظافر بن الفقيه نصر وكيل بيت المال، ثم باعها شمس الدين المذكور للملك الظاهر بيبرس في حادي عشري ربيع الآخر المذكور، وكان يتوصل إليها من باب البحر. قاعة الخيم كانت شرقيّ قاعة السدرة، وقد دخلت قاعة السدرة، وقاعة الخيم في مكان المدرسة الظاهرية العتيقة.

المناظر الثلاث

المناظر الثلاث استجدّهن الوزير المأمون البطائحي، وزير الخليفة الآمر بأحكام الله: إحداهن بين باب الذهب، وباب البحر والأخرى: على قوس باب الذهب، ومنظرة ثالثة، وكان يقال لها: الزاهرة، والفاخرة، والناضرة، وكان يجلس الخليفة في إحداها لعرض العساكر يوم عيد الغدير، ويقف الوزير في قوس باب الذهب. قصر الشوك «1» قال ابن عبد الظاهر كان منزلا لبني عذرة قبل القاهرة يعرف: بقصر الشوك، وهو الآن أحد أبواب القصر انتهى، والعامّة تقول: قصر الشوق، وأدركت مكانه دارا استجدّت بعد الدولة الفاطمية، هدمها الأمير جمال الدين يوسف الإستادار في سنة إحدى عشرة وثمانمائة، لينشئها دارا، فمات قبل ذلك، وموضعه اليوم بالقرب من دار الضرب فيما بينه، وبين المارستان العتيق. قصر أولاد الشيخ هذا المكان من جملة القصر الكبير، وكان قاعة، فسكنها الوزير الصاحب الأمير الكبير: معين الدين حسين بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه في أيام الملك الصالح: نجم الدين أيوب، فعرف به، وأدركت هذا المكان خطا يعرف: بالقصر يتوصل إليه من زقاق تجاه حمام بيسري، وفيه عدّة دور منها: دار الطواشي سابق الدين، ومدرسته المعروفة بالمدرسة السابقية، وكان يتوصل إليه من الركن المخلق أيضا من الباب المظلم تجاه سور سعيد السعداء بالمعروف قديما: بباب الريح، ثم عرف: بقصر ابن الشيخ، وعرف في زمننا: بباب القصر إلى أن هدمه جمال الدين الإستادار كما يأتي إن شاء الله تعالى. قصر الزمرّد هو من جملة القصر الكبير، وعرف أخيرا: بقصر قوصون، ثم عرف في زمننا: بقصر الحجازية، وقيل له: قصر الزمرّد لأنه كان بجوار: باب الزمرد، أحد أبواب القصر، ووجد به في سنة بضع وسبعين وسبعمائة تحت التراب عمودان عظيمان من الرخام الأبيض، فعمل لهما ابن عابد رئيس الحراريق السلطانية أساقيل، وجرّهما إلى المدرسة التي أنشأها الملك الأشرف شعبان بن حسين تجاه: الطبلخاناة من قلعة الجبل، وأدركنا لجرّ هذين العمودين

الركن المخلق

أوقاتا في أيام تجمع الناس فيها من كل أوب لمشاهدة ذلك، ولهجوا بذكرهما زمنا، وقالوا فيهما شعرا، وغناء كثيرا، وعملوا نموذجات من ثياب الحرير، وتطريز المناديل عرفت بجرّ العمود، وكانت الأنفس حينئذ منبسطة، والقلوب خالية من الهموم وللناس إقبال على اللهو لكثرة نعمهم، وطول فراغهم، وكان العمودان المذكوران، مما ارتدم من أنقاض القصر فسبحان الوارث. الركن المخلق «1» موضعه الآن: تجاه حوض الجامع الأقمر على يمنة من أراد الدخول إلى المسجد المعروف الآن: بمعبد موسى «2» وقيل له: الركن المخلق لأنه ظهر في: سنة ستين وستمائة في هذا الموضع حجر مكتوب عليه: هذا مسجد موسى عليه السلام، فخلق بالزعفران، وسمي من ذلك اليوم بالركن المخلق، وأخبرني الأمير الوزير أبو المعالي يلبغا السالميّ، أنه قرأ في الأسطر المكتوبة: بأسكفة باب الجامع الأقمر كلاما من جملته، والحوانيت التي بالركن المخوّق: بواو بعد الخاء، فرأيت بعد ذلك في الأمالي للقالي، وقال أبو عبيدة عن أبي عمر، والخوقاء: الصحراء التي لا ماء بها، ويقال: الواسعة وأخوق: واسع، فلعله سمي: المخوّق بمعنى الاتساع، فكان ركنا متسعا، وفي بناء واسع أو يكون المخلق باللام من قولهم قدح مخلق بضم الميم، وفتح الخاء، وتشديد اللّام، وفتحها أي: مستو أملس، وكل ما لين وملس، فقد خلق، فكل مملس مخلق، وسمته العامة بعد ذلك: الركن المخلق عندما خلقوه بالزعفران، والله أعلم. السقيفة «3» وكان من جملة القصر الكبير موضع يعرف: بالسقيفة يقف عنده المتظلمون، وكانت عادة الخليفة أن يجلس هناك كل ليلة لمن يأتيه من المتظلمين، فإذا ظلم أحد وقف تحت السقيفة، وقال بصوت عال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله عليّ وليّ الله، فيسمعه الخليفة، فيأمر بإحضاره إليه، أو يفوّض أمره إلى الوزير أو القاضي أو الوالي، ومن غريب ما وقع أن

الموفق بن الخلال: لما كان يتحدّث في أمور الدواوين أيام الخليفة الحافظ لدين الله، وخرج من انتدب بعد انحطاط النيل من العدول، والنصارى الكتاب إلى الأعمال لتحرير ما شمله الريّ، وزرع من الأراضي وكتابة المكلفات، فخرج إلى بعض النواحي من يمسحها من شادّ، وناظر، وعدول، وتأخر الكاتب النصرانيّ، ثم لحقهم وأراد التعدية إلى الناحية، فحمله ضامن تلك المعدّية إلى البرّ، وطلب منه أجرة التعدية، فنفر فيه النصرانيّ ووسبّه، وقال: أنا ماسح هذه البلدة، وتريد مني حق التعدية، فقال له الضامن: إن كان لي زرع خذه، وقلع لجام بغلة النصرانيّ، وألقاه في معدّيته، فلم يجد النصراني بدّا من دفع الأجرة إليه، حين أخذ لجام بغلته، فلما تمم مساحة البلد، وبيض مكلفة المساحة ليحملها إلى دواوين الباب، وكانت عادتهم حينئذ، كتب الجملة بزيادة عشرين فدّانا ترك بياضا في بعض الأوراق، وقابل العدول على المكلفة، وأخذ الخطوط عليها بالصحة، ثم كتب في البياض الذي تركه: أرض اللجام باسم ضامن المعدّية عشرين فدانا، قطيعة كل فدّان: أربعة دنانير، عن ذلك ثمانون دينارا، وحمل المكلفة إلى ديوان الأصل وكانت العادة إذا مضى من السنة الخراجية أربعة أشهر ندب من الجند من فيه حماسة، وشدّة، ومن الكتاب العدول، وكاتب نصرانيّ، فيخرجون إلى سائر الأعمال لاستخراج ثلث الخراج على ما تشهد به المكلفات المذكورة فينفق في الأجناد، فإنه لم يكن حينئذ للأجناد إقطاعات، كما هو الآن، وكان من العادة أن يخرج إلى كل ناحية ممن ذكر من لم يكن خرج وقت المساحة، بل ينتدب قوم سواهم، فلما خرج الشادّ والكاتب والعدول لاستخراج ثلث مال الناحية استدعوا أرباب الزرع على ما تشهد به المكلفة، ومن جملتهم ضامن المعدّية، فلما حضر: ألزم بستة وعشرين دينارا وثلثي دينار عن نظير ثلث المال الثمانين دينارا التي تشهد بها المكلفة، عن خراج أرض اللجام فأنكر الضامن أن تكون له زراعة بالناحية، وصدّقه أهل البلد، فلم يقبل الشادّ ذلك، وكان عسوفا، وأمر به فضرب بالمقارع واحتج بخط العدول على المكلفة، وما زال به حتى باع معدّيته وغيرها، وأورد ثلث المال الثابت في المكلفة وسار إلى القاهرة، فوقف تحت السقيفة، وأعلن بما تقدّم ذكره، فأمر الخليفة الحافظ بإحضاره، فلما مثل بحضرته قص عليه ظلامته مشافهة، وحكى له ما اتفق منه في حق النصرانيّ، وما كاده به، فأحضر ابن الخلال، وجميع أرباب الدواوين، وأحضرت المكلفات التي عملت للناحية المذكورة في عدّة سنين ماضية، وتصفحت بين يديه سنة سنة، فلم يوجد لأرض اللجام ذكر البتة، فحينئذ أمر الخليفة الحافظ: بإحضار ذلك النصرانيّ، وسمر في مركب وأقام له من يطعمه ويسقيه، وتقدّم بأن يطاف به سائر الأعمال، وينادى عليه، ففعل ذلك، وأمر بكف أيدي النصرانية كلها عن الخدم في سائر المملكة، فتعطلوا مدّة إلى أن ساءت أحوالهم. وكان الحافظ مغرما بعلم النجوم وله عدّة من المنجمين من جملتهم: شخص صار إليه عدّة من أكابر كتاب النصارى، ودفعوا إليه جملة من المال، ومعهم رجل منهم يعرف:

دار الضرب

بالأخرم بن أبي زكريا، وسألوه أن يذكر للحافظ في أحكام تلك السنة حلية هذا الرجل، فإنه إن أقامه في تدبير دولته زاد النيل، ونما الارتفاع، وزكت الزروع، ونتجت الأغنام، ودرّت الضروع، وتضاعفت الأسماك، وورد التجار، وجرت قوانين المملكة على أجمل الأوضاع، فطمع ذلك المنجم في كثرة ما عاينه من الذهب وعمل ما قرّره النصارى معه، فلما رأى الحافظ ذلك تعلقت نفسه بمشاهدة تلك الصفة، فأمر بإحضار الكتاب من النصارى، صار يتصفح وجوههم من غير أن يطلع أحدا على ما يريده، وهم يؤخرون الأخرم عن الحضور إليه قصدا منهم، وخشية أن يفطن بمكرهم إلى أن اشتدّ إلزامهم بإحضار سائر من بقي منهم، فأحضروه بعد أن وضعوا من قدره، فلما رآه الحافظ: رأى فيه الصفات التي عينها منجمه، فاستدناه إليه، وقربه وآل أمره إلى أن ولّاه أمير الدواوين، فأعاد كتاب النصارى أوفر ما كانوا عليه، وشرعوا في التجبر، وبالغوا في إظهار الفخر، وتظاهروا بالملابس العظيمة، وركبوا البغلات الرائعة، والخيول المسوّمة بالسروج المحلاة، واللجم الثقيلة، وضايقوا المسلمين في أرزاقهم واستولوا على الأحباس الدينية، الأوقاف الشرعية، واتخذوا العبيد والمماليك، والجواري من المسلمين والمسلمات، وصودر بعض كتاب المسلمين، فألجأته الضرورة إلى بيع أولاده وبناته، فيقال: إنه اشتراهم بعض النصارى، وفي ذلك يقول ابن الخلال: إذا حكم النصارى في الفروج ... وغالوا بالبغال وبالسروج وذلت دولة الإسلام طرّا ... وصار الأمر في أيدي العلوج فقل للأعور الدجال هذا ... زمانك إن عزمت على الخروج وموضع السقيفة فيما بين درب السلامي، وبين خزانة البنود يتوصل إليه من تجاه البئر التي قدّام دار كانت تعرف: بقاعة ابن كتيلة، ثم استولى عليها جمال الدين الإستادار، وجعلها مسكنا لأخيه ناصر الدين الخطيب وغير بابها. دار الضرب «1» هذا المكان الذي هو الآن: دار الضرب من بعض القصر، فكان خزانة بجوار الإيوان الكبير سجن بها الخليفة الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معدّ، ذلك أنّ الآمر لما قتل في يوم الثلاثاء: رابع عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين خمسمائة، قام العادل برغش، وهزار الملوك جوامرد «2» ، وكانا أخص غلمان الآمر بالأمير عبد المجيد، ونصباه خليفة، ونعتاه بالحافظ لدين الله، وهو

خزائن السلاح

يومئذ أكبر الأقارب سنا، وذكر أن الآمر، قال قبل أن يقتل بأسبوع عن نفسة المسكين المقتول بالسكين، وإنه أشار إلى أن بعض جهاته حامل منه، وأنه رأى أنها ستلذ ذكرا، وهو الخليفة من بعده، وأن كفالته للأمير عبد المجيد، فجلس على أنه كافل للمذكور، وندب هزار الملوك للوزارة، وخلع عليه، فلم ترض الأجناد به، وثاروا بين القصرين، وكبيرهم رضوان بن ولخشي، وقاموا بأبي عليّ بن الأفضل الملقب: بكتيفات، وقالوا: لا نرضى إلّا أن يصرف هزار الملوك وتفوّض الوزارة لأحمد بن الأفضل في سادس عشرة، فكان أوّل ما بدأ به أن أحاط على الخليفة الحافظ، وسجنه بالقاعة المذكورة، وقيده، وهمّ بخلعه، فلم يتأت له ذلك، وكان إماميا، فأبطل ذكر الحافظ من الخطبة، وصار يدعو للقائم المنتظر، ونقش على السكة: الله الصمد الإمام محمد، فلما قتل في يوم الثلاثاء سادس عشر المحرّم سنة ست وعشرين وخمسمائة بالميدان خارج باب الفتوح، سارع صبيان الخاص الذين تولوا قتله إلى الحافظ، وأخرجوه من الخزانة المذكورة وفكوا عنه قيده، وكان كبيرهم: يانس «1» ، وأجلسوه في الشباك على منصب الخلافة، وطيف برأس أحمد بن الأفضل، وخلع على: يانس خلع الوزارة، وما زالت الخلافة في يد الحافظ، حتى مات ليلة الخميس لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين، وخمسمائة عن: سبع وستين سنة منها: خليفة من حين قتل ابن الأفضل: ثمان عشرة سنة، وأربعة أشهر وأيام. خزائن السلاح كانت بالإيوان الكبير الذي تقدّم ذكره في صدر الشباك الذي يجلس فيه الخليفة تحت القبة التي هدمت في سنة سبع وثمانين وسبعمائة كما تقدّم، وخزائن السلاح المذكورة هي الآن باقية بجوار دار الضرب خلف المشهد الحسينيّ، وعقد الإيوان باق، وقد تشعث. المارستان العتيق «2» قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وسبعين وخمسمائة في تاسع ذي القعدة: أمر السلطان يعني صلاح الدين يوسف بن أيوب بفتح: مارستان للمرضى والضعفاء، فاختير له مكان بالقصر، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة، مبلغها مائتا دينار، وغلات جهاتها الفيوم، واستخدم له أطباء، وطبائعيين، وجرايحيين، ومشارف، وعاملا، وخداما،

التربة المعزية

ووجد الناس به رفقا، وإليه مستروحا، وبه نفعا، وكذلك بمصر أمر: بفتح مارستانها القديم وأفرد برسمه من ديوان الأحباس ما تقدير ارتفاعه: عشرون دينارا، واستخدم له طبيب، وعامل ومشارف، وارتفق به الضعفاء، وكثر بسبب ذلك الدعاء. وقال ابن عبد الظاهر: كان قاعة بناها العزيز بالله في سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وقيل: إن القرآن مكتوب في حيطانها، ومن خواصها أنه لا يدخلها ثمل لطلسم بها، ولما قيل ذلك لصلاح الدين رحمه الله قال: هذا يصلح أن يكون مارستانا، وسألت مباشريه عن ذلك، فقالوا: إنه صحيح، وكان قديما المارستان، فيما بلغني القشاشين، وأظنه المكان المعروف: بدار الديلم انتهى، والقشاشين المذكورة تعرف اليوم: بالخرّاطين المسلوك فيها إلى الخيميين، والجامع الأزهر. التربة المعزية كان من جملة القصر الكبير: التربة المعزية، وفيها دفن المعز لدين الله، آباءه الذين أحضرهم في توابيت معه من بلاد المغرب، وهم الإمام المهدي عبيد الله، وابنه القائم بأمر الله محمد، وابنه الإمام المنصور بنصر الله إسماعيل، واستقرّت مدفنا يدفن فيه الخلفاء، وأولادهم، ونساءهم، وكانت تعرف: بتربة الزعفران، وهو مكان كبير من جملتها الموضع الذي يعرف اليوم: بخط الزراكشة العتيق، ومن هناك بابها، ولما انشأ الأمير: جهاركس الخليليّ خانه المعروف به في الخط المذكور، أخرج ما شاء الله من عظامهم، فألقيت في المزابل على كيمان البرقية، ويمتدّ من هناك من حيث المدرسة البديرية خلف المدارس الصالحية النجمية، وبها إلى اليوم بقايا من قبورهم، وكان لهذه التربة عوايد ورسوم منها: أن الخليفة كلما ركب بمظلة، وعاد إلى القصر لا بدّ أن يدخل إلى زيارة آبائه بهذه التربة، وكذلك لا بدّ أن يدخل في يوم الجمعة دائما، وفي عيدي الفطر والأضحى مع صدقات ورسوم تفرّق. قال ابن المأمون: وفي هذا الشهر يعني شوّالا سنة ست عشرة وخمسمائة، تنبه ذكر الطائفة النزارية، وتقرّر بين يدي الخليفة الآمر بأحكام الله أن يسير رسول إلى صاحب الموق بعد أن جمعوا الفقهاء من الإسماعيلية، والإمامية، وقال لهم الوزير المأمون البطائحيّ ما لكم من الحجة في الرد على هؤلاء الخارجين على الإسماعيلية؟ فقال كل منهم: لم يكن لنزار إمامة ومن اعتقد هذا، فقد خرج عن المذهب، وضلّ، ووجب قتله، وذكروا حجتهم، فكتب الكتاب، ووصلت كتب من خواص الدولة تتضمن أن القوم قويت شوكتهم، واشتدّت في البلاد طمعتهم، وأنهم سيروا الآن ثلاثة آلاف برسم النجوى وبرسم المؤمنين الذين تنزل الرسل عندهم، ويختفون في محلهم، فتقدّم الوزير بالفحص عنهم، والاحتراز التام على الخليفة في ركوبه، ومنتزهاته، وحفظ الدور والأسواق، ولم يزل البحث في طلبهم إلى أن

القصر النافعي

وجدوا، فاعترفوا بأن خمسة منهم هم الرسل الواصلون بالمال فصلبوا. وأما المال وهو ألفا دينار، فإنّ الخليفة أبى قبوله، وأمر أن ينفق في السودان عبيد الشراء، وأحضر من بيت المال نظير المبلغ، وتقدّم بأن يصاغ به قنديلان من ذهب، وقنديلان من فضة، وأن يحمل منها قنديل ذهب، وقنديل فضة إلى مشهد الحسين بثغر عسقلان، وقنديل إلى التربة المقدّسة تربة الأئمة بالقصر، وأمر الوزير المأمون: بإطلاق ألفي دينار من ماله، وتقدّم بأن يصاغ بها قنديل ذهب، وسلسلة فضة برسم المشهد العسقلانيّ، وأن يصاغ على المصحف الذي بخط أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بالجامع العتيق بمصر من فوق الفضة ذهب، وأطلق حاصل الصناديق التي تشتمل على مال النجاوي برسم الصدقات عشرة آلاف درهم تفرّق في الجوامع الثلاثة: الأزهر بالقاهرة، والعتيق بمصر، وجامع القرافة، وعلى فقراء المؤمنين على أبواب القصور، وأطلق من الاهراء ألفي أردب قمحا، وتصدّق على عدّة من الجهات بجملة كثيرة، واشتريت عدّة جوار من الحجر، وكتب عتقهن للوقت، وأطلق سراحهن، وقال في كتاب الذخائر: إنّ الأتراك طلبوا من المستنصر نفقة في أيام الشدّة، فماطلهم وإنهم هجموا على التربة المدفون فيها أجداده، فأخذوا ما فيها من قناديل الذهب وكانت قيمة ذلك، مع ما اجتمع إليه من الآلات الموجودة هناك مثل المداخن، والمجامر وحلي المحاريب وغير ذلك خمسين ألف دينار. القصر النافعيّ «1» قال ابن عبد الظاهر: القصر النافعيّ قرب التربة يقرب من جهة السبع خوخ كان فيه عجائز من عجائز القصر وأقارب الأشراف انتهى. وموضع هذا القصر اليوم فندق المهمندار الذي يدق فيه الذهب، وما في قبليه من خان منجك، ودار خواجا عبد العزيز المجاورة للمسجد الذي بحذاء خان منجك، وما بجوار دار خواجا من الزقاق المعروف: بدرب الحبشيّ، وكان حدّ هذا القصر الغربيّ ينتهي إلى الفندق الذي بالخيميين المعروف قديما: بخان منكورس، ويعرف اليوم: بخان القاضي، واشترى بعض هذا القصر لما بيع بعد زوال الدولة، الأمير ناصر الدين عثمان بن سنقر الكامليّ المهمندار الذي يعرف: بفندق المهمندار بعد أن كان اصطبلا له، واشترى بعضه الأمير حسام الدين لاجين الإيدمري المعروف: بالدر قيل دوادار الملك الظاهر بيبرس، وعمّره اصطبلا، ودارا، وهي الدار التي تعرف اليوم: بخواجا عبد العزيز على باب درب الحبشي، ثم عمل الإصطبل الخان الذي يعرف اليوم: بخان منجك، وابتنى الناس في مكان درب

الخزائن التي كانت بالقصر

الحبشيّ الدور، وزال أثر القصر، فلم يبق منه شيء البتة. الخزائن التي كانت بالقصر وكانت بالقصر الكبير عدّة خزائن منها: خزانة الكتب، وخزانة البنود، وخزائن السلاح، وخزائن الدرق، وخزائن السروج، وخزانة الفرش، وخزانة الكسوات، وخزانة الأدم، وخزائن الشراب، وخزنة التوابل، وخزائن الخيم، ودار التعبية، وخزائن دار أفتكين، ودار الفطرة، ودار العلم، وخزانة الجوهر والطيب، وكان الخليفة يمضي إلى موضع من هذه الخزائن، وفي كل خزانة دكة عليها طرّاحة، ولها فرّاش يخدمها، وينظفها طول السنة، وله جار في كل شهر، فيطوفها كلها في السنة. خزانة الكتب «1» قال المسبحيّ: وذكر عند العزيز بالله، كتاب العين للخليل بن أحمد، فأمر خزان دفاتره، فأخرجوا من خزانته نيفا وثلاثين نسخة من كتاب العين، منها نسخة بخط الخليل بن أحمد، وحمل إليه رجل نسخة من كتاب تاريخ الطبري: اشتراها بمائة دينار، فأمر العزيز الخزان، فأخرجوا من الخزانة ما ينيف عن عشرين نسخة من تاريخ الطبريّ، منها نسخة بخطه. وذكر عنده كتاب: الجمهرة لابن دريد، فأخرج من الخزانة مائة نسخة منها، وقال في كتاب الذخائر: عدّة الخزائن التي برسم الكتب في سائر العلوم بالقصر: أربعون خزانة، خزانة من جملتها ثمانية عشر ألف كتاب من العلوم القديمة، وإن الموجود فيها من جملة الكتب المخرجة في شدّة المستنصر ألفان وأربعمائة ختمة قرآن في ربعات بخطوط منسوبة زائدة الحسن محلاة بذهب وفضة، وغيرهما، وإنّ جميع ذلك كله ذهب فيما أخذه الأتراك في واجباتهم ببعض قيمته، ولم يبق في خزائن القصر البرانية منه شيء بالجملة دون خزائن القصر الداخلة التي لا يتوصل إليها، ووجدت صناديق مملوءة أقلاما مبرية من براية ابن مقلة، وابن البوّاب وغيرهما. قال: وكنت بمصر في العشر الأول من محرّم سنة إحدى وستين وأربعمائة، فرأيت فيها خمسة وعشرين جملا موقرة كتبا محمولة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن

جعفر «1» المغربيّ، فسألت عنها، فعرفت أنّ الوزير أخذها من خزائن القصر هو، والخطير ابن الموفق في الدين بإيجاب وجبت لهما عما يستحقانه، وغلمانهما من ديوان الجبليين، وإن حصة الوزير أبي الفرج منها قوّمت عليه من جاري مماليكه، وغلمانه بخمسة آلاف دينار، وذكر لي من له خبرة بالكتب أنها تبلغ أكثر من مائة ألف دينار، ونهب جميعها من داره يوم انهزم ناصر الدولة بن حمدان من مصر في صفر من السنة المذكورة مع غيرها، مما نهب من دور من سار معه من الوزير أبي الفرج، وابن أبي كدينة، وغيرهما هذا سوى ما كان في خزائن دار العلم بالقاهرة، وسوى ما صار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترق بالإسكندرية، ثم انتقل بعد مقتله إلى المغرب، وسوى ما ظفرت به لواتة محمولا مع ما صار إليه بالابتياع، والغصب في بحر النيل إلى الاسكندرية في سنة إحدى وستين وأربعمائة، ومما بعدها من الكتب الجليلة المقدار، المعدومة المثل في سائر الأمصار صحة، وحسن خط، وتجليد، وغرابة التي أخذ جلودها عبيدهم، وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم، وأحرق ورقها تأوّلا منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز الله أنصاره، وإنّ فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم سوى ما غرق، وتلف، وحمل إلى سائر الأقطار، وبقي منها ما لم يحرق، وسفت عليه الرياح التراب، فصار تلالا باقية إلى اليوم في نواحي آثار تعرف: بتلال الكتب. وقال ابن الطوير: خزانة الكتب كانت في أحد مجالس المارستان اليوم يعني: المارستان العتيق، فيجيء الخليفة راكبا، ويترجل على الدكة المنصوبة، ويجلس عليها، ويحضر إليه من يتولاها، وكان في ذلك الوقت الجليس بن عبد القويّ، فيحضر إليه المصاحف بالخطوط المنسوبة، وغير ذلك مما يقترحه من الكتب، فإن عنّ له أخذ شيء منها أخذه، ثم يعيده، وتحتوي هذه الخزانة على عدّة رفوف في دور ذلك المجلس العظيم، والرفوف مقطعة بحواجز، وعلى كل حاجز باب مقفل بمفصلات، وقفل وفيها من أصناف الكتب ما يزيد على مائتي ألف كتاب من المجلدات، ويسير من المجرّدات، فمنها الفقه على سائر المذاهب، والنحو، واللغة، وكتب الحديث والتواريخ، وسير الملوك، والنجامة، والروحانيات، والكيمياء من كل صنف النسخ، ومنها النواقص التي ما تممت كل ذلك بورقة مترجمة ملصقة على كل باب خزانة، وما فيها من المصاحف الكريمة في مكان فوقها، وفيها من الدروج بخط ابن مقلة، ونظائره كابن البوّاب وغيره، وتولى بيعها ابن صورة في أيام الملك الناصر صلاح الدين، فإذا أراد الخليفة الانفصال مشى فيها مشية لنظرها، وفيها ناسخان، وفرّاشان صاحب المرتبة. وآخر، فيعطى الشاهد عشرين دينارا،

خزانة الكسوات

ويخرج إلى غيرها، وقال ابن أبي طي بعد ما ذكر استيلاء صلاح الدين على القصر، ومن جملة ما باعوه: خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا، ويقال: إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر، ومن عجائبها: أنه كان فيها ألف، ومائتا نسخة من تاريخ الطبريّ إلى غير ذلك، ويقال: إنها كانت تشتمل على ألف وستمائة ألف كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة أشياء كثيرة انتهى، ومما يؤيد ذلك أن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ: لما أنشأ المدرسة الفاضلية بالقاهرة، جعل فيها من كتب القصر مائة ألف كتاب مجلد، وباع ابن صورة دلال الكتب منها جملة في مدّة أعوام، فلو كانت كلها مائة ألف لما فضل عن القاضي الفاضل منها شيء، وذكر ابن أبي واصل: أن خزانة الكتب كانت تزيد على مائة وعشرين ألف مجلد. خزانة الكسوات قال ابن أبي طي: وعمل يعني لمعز الدين الله دارا، وسماها: دار الكسوة كان يفصل فيها من جميع أنواع الثياب والبز، ويكسو بها الناس على اختلاف أصنافهم كسوة الشتاء والصيف، وكانت لأولاد الناس، ونسائهم كذلك وجعل ذلك رسما يتوارثونه في الأعقاب، وكتب بذلك كتبا، وسمى هذا الموضع: خزانة الكسوة، وقال عند ذكر انقراض الدولة. ومن أخبارهم: أنهم كانوا يخرجون من خزائن الكسوة إلى جميع خدمهم وحواشيهم، ومن يلوذ بهم من صغير وكبير، ورفيع، وحقير كسوات الصيف والشتاء من العمامة إلى السراويل، وما دونه من الملابس والمنديل من فاخر الثياب، ونفيس الملبوس، ويقومون لهم بجميع ما يحتاجون إليه من نفيس المطعومات والمشروبات، وسمعت من يقول: إنه حضر كسا القصر التي تخرج في الصيف والشتاء، فكان مقدارها ستمائة ألف دينار وزيادة، وكانت خلعهم على الأمراء الثياب الديبقيّ، والعمائم بالطراز الذهب، وكان طراز الذهب والعمامة من خمسمائة دينار، ويخلع على أكابر الأمراء الأطواق والأسورة والسيوف المحلاة، وكان يخلع على الوزير عوضا عن الطوق عقد جوهر. وقال ابن المأمون: وجلس الأجلّ يعني الوزير المأمون في مجلس الوزارة لتنفيذ الأمور، وعرض المطالعات، وحضر الكتاب، ومن جملتهم ابن أبي الليث كاتب الدفتر، ومعه ما كان أمر به من عمل جرائد الكسوة للشتاء بحكم حلوله، وأوان تفرقتها، فكان ما اشتمل عليه المنفق فيها لسنة ست عشرة وخمسمائة: من الأصناف أربعة عشر ألفا وثلثمائة وخمس قطع، وإنّ أكثر ما أنفق عن مثل ذلك في الأيام الأفضلية في طول مدّتها لسنة ثلاث عشرة، وخمسمائة: ثمانية آلاف وسبعمائة وخمس وسبعون قطعة، يكون الزائد عنها بحكم ما رسم به في منفق سنة، ست عشرة: خمسة آلاف وستمائة وأربعا وثلاثين قطعا، ووصلت الكسوة المختصة بالعيد في آخر الشهر، وقد تضاعفت عما كانت عليه في الأيام

الأفضلية لهذا الموسم، وهي تشتمل على ذهوب وسلف دون العشرين ألف دينار، وهو عندهم الموسم الكبير، ويسمى: بعيد الحلل، لأنّ الحلل فيه تعمّ الجماعة، وفي غيره للأعيان خاصة، فأحضر الأمير: افتخار الدولة مقدّم خزانة الكسوة الخاص ليتسلم ما يختص بالخليفة، وهو برسم الموكب: بدلة خاص جليلة مذهبة، ثوبها موشح مجاوم مذايل عدّتها باللفافتين إحدى عشرة قطعة، السلف عنها مائة وستة وسبعون دينارا ونصف، ومن الذهب العالي المغزول: ثلثمائة وسبعون وخمسون مثقالا ونصف، كل مثقال أجرة غزله ثمن دينار، ومن الذهب العراقي: ألفان وتسعمائة وأربع وتسعون قصبة. تفصيل ذلك: شاشية طميم السلف: ديناران، وسبعون قصبة ذهبا عراقيا منديل بعمود ذهب السلف: سبعون وألفان ومائتان وخمسون قصبة ذهبا عراقيا، فإن كان الذهب نظير المصريّ، كان الذي يرقم فيه: ثلثمائة وخمسة وعشرين مثقالا، لأنّ كل مثقال نظير تسع قصبات ذهبا عراقيا وسط سرب بطانة للمنديل السلف: عشرة دنانير وسبعون قصبة ذهبا عراقيا ثوب موشح مجاوم مطرّف السلف: خمسون دينارا وثلثمائة وأحد وخمسون مثقالا ونصف ذهبا عاليا، أجرة كل مثقال ثمن دينار، تكون جملة مبلغه، وقيمة ذهبه: ثلثمائة وأربعة وتسعين دينارا ونصفا، ثوب ديبقيّ حريريّ وسلطانيّ السلف: اثنا عشر دينارا، غلالة ديبقيّ حريريّ السلف: عشرون دينارا، منديل كم أوّل مذهب السلف: خمسة دنانير ومائتان وأربع قصبات ذهبا عراقيا، منديل كم ثان حريريّ السلف: خمسة دنانير، حجرة السلف: أربعة دنانير، عرضيّ مذهب السلف: خمسة دنانير وخمسة عشر مثقالا ذهبا عاليا، عرضي لفافة للتخت دينار واحد ونصف، بدلة ثانية برسم الجلوس على السّماط عدّتها باللفافتين، عشر قطع السلف: مائة وأربعة عشر دينارا، ومن الذهب العالي خمسة وخمسون مثقالا، ومن الذهب العراقيّ: سبعمائة وأربعون قصبة. تفصيل ذلك: شاشية طميم السلف: ديناران، وسبعون قصبة ذهبا عراقيا، منديل السلف: ستون دينارا، وستمائة قصبة ذهبا عراقيا، شقة وكم السلف: ستة عشر دينارا، وخمسة وخمسون مثقالا ذهبا عاليا، أجرة كل مثقال ثمن دينار شقة ديبقيّ حريريّ وسلطانيّ: اثنا عشر دينارا، شقة ديبقيّ غلالة ثمانية دنانير، منديل الكمّ الحريريّ: خمسة دنانير، حجرة أربعة دنانير، عرضي خمسة دنانير، عرضي برسم التخت دينار واحد ونصف، وهذه البدلة لم تكن فيما تقدّم في أيام الأفضل لأنه لم يكن ثم سماط يجلس عليه الخليفة، فإنه كان قد نقل ما يعمل في القصور من الأسمطة، والدواوين إلى داره، فصاره يعمل هناك، ما هو برسم الأجل أبي الفضل: جعفر أخي الخليفة الآمر بدلة مذهبة مبلغها: تسعون دينارا ونصف، وخمسة وعشرون مثقالا ذهبا عاليا، وأربعمائة وسبعون قصبة ذهبا عراقيا، تفصيل ذلك: منديل السلف: عشرة دنانير، شقة غلالة ديبقيّ السلف: ثمانية دنانير، حجرة: ثلاثة دنانير وثلث، عرضي ديبقيّ: ثلاثة دنانير، الجهة العالية بالدار الجديدة التي يقوم بخدمتها

جوهر: حلة مذهبة موشح مجاوم مذايل مطرّف عدّتها: خمس عشرة قطعة سلفها: ستة آلاف وثلثمائة وثلاثون قصبة، تفصيل ذلك: مذهب مكلف موشح مجاوم السلف: خمسة عشر دينارا، وستمائة وستون قصبة، سداسيّ مذهب السلف: ثمانية عشر دينارا، ومائتا قصبة معجر أوّل مذهب موشح مجاوم مطرّف السلف: خمسون دينارا، وألف وتسعمائة قصبة. معجز ثان حريريّ السلف: خمسة وثلاثون دينارا ونصف، رداء حريريّ أوّل السلف: عشرة دنانير ونصف، رداء حريريّ ثان، السلف: تسعة دنانير، دراعة موشح مجاوم مذايل مذهبة السلف: خمسة وتسعون دينارا، ومن الذهب العراقيّ ألفان وستمائة وخمس وخمسون قصبة، شقة ديبقيّ حريريّ وسطاني السلف: عشرون دينارا ونصف، شقة ديبقيّ بغير رقم برسم عجز التفصيل: ثلاثة دنانير، ملاءة ديبقيّ السلف: أربعة وعشرون دينارا وستمائة قصبة، منديل كم أوّل السلف: ستة دنانير، ومائة وستون قصبة، منديل كم ثان السلف: خمسة دنانير، ومائة وستون قصبة منديل كم ثالث السلف: خمسة دنانير، حجرة: ثلاثة دنانير، عرضي ديبقيّ: ثلاثة دنانير، جهة مكنون القاضي بمثل ذلك على الشرح، والعدّة جهة مرشد: حلة مذهبة عدّتها، أربع عشرة قطعة السلف: مئة وأحد وأربعون دينارا، ومن الذهب العراقيّ: ألف وستمائة وتسع وثمانون قصبة، جهة عنبر مثل ذلك. السيدة جهة ظل: مثل ذلك، جهة منجب: مثل ذلك، الأمير أبو القاسم عبد الصمد: بدلة مذهبة، الأمير داود مثله، السيدة العمة حلة مذهبة، السيدة العابدة العمة مثل ذلك، الموالي الجلساء من بني الأعمام، وهم أبو الميمون بن عبد المجيد، والأمير أبو اليسر ابن الأمير محسن، والأمير أبو عليّ ابن الأمير جعفر، والأمير حيدرة ابن الأمير عبد المجيد، والأمير موسى ابن الأمير عبد الله، والأمير أبو عبد الله ابن الأمير داود لكل منهم: بدلة مذهبة، البنون والبنات من بني الأعمام غير الجلساء لكل منهم: بدلة حريريّ، ست سيدات لكل منهنّ حلة حريريّ، جهة المولى أبي الفضل جعفر التي يقوم بخدمتها ريحان حلة مذهبة، جهة المولى عبد الصمد حلة حريري، ما يختص بالدار الجيوشية والمظفرية فعلى ما كان بأسمائهم، المستخدمات لخزانة الكسوة الخاص زين الخزان المقدّمة: حلة مذهبة، ست خزان لكل منهنّ حلة حريريّ، عشر وقافات لكل منهنّ كذلك، المعلمة مقدّمة المائدة كذلك، رايات مقدّمة خزانة الشراب كذلك، المستخدمات من أرباب الصنائع من القصوريات، وممن انضاف إليهنّ من الأفضليات مائة وسبعون حلة مذهبة وحريريّ على التفصيل المتقدّم، المستخدمات عند الجهات العالية، جهة جوهر عشرون حلة مذهبة وحريريّ، وكذلك المستخدمات عند مكنون الأمراء. الأستاذون المحنكون: الأمير الثقة زمام القصور: بدلة مذهبة، الأمير نسيب الدولة مرشد متولي الدفتر كذلك، الأمير خاصة الدولة ريحان متولي بيت المال كذلك، الأمير عظيم الدولة، وسيفها حامل المظلة كذلك، الأمير صارم الدولة صاف متولي الستر كذلك.

وفيّ الدولة إسعاف متولي المائدة مثله، الأمير افتخار الدولة جندب بدلة مذهبة، نظير البدلة المختصة بالأمير الثقة ولكل من غير هؤلاء المذكورين: حلة حريريّ أربع قطع ولفافة فوطة، مختار الدولة ظل بدلة حريريّ، ستة أستاذين في خزانة الكسوة الخاص عند الأمير افتخار الدولة جندب لكل منهم بدلة مذهبة، جوهر زمام الدار الجديدة بدلة حريريّ، تاج الملك أمين بيت المال مثله، مفلح برسم الخدمة في المجلس مثله، مكنون متولي خدمة الجهة العالية مثله، فنون متولي خدمة التربة مثله، مرشد الخاصي مثله، النوّاب عن الأمير الثقة في زمان القصور، وعدّتهم أربعة لكل منهم بدلة حريريّ خسرواني، العظمي مقدّم خزانة الشراب، ورفيقه لكل منهما بدلة. كذلك الصقالبة أرباب المداب، وعدّتهم أربعة لكل منهم: بدلة حريريّ وشقة وفوطة، نائب الستر مثل ذلك. الأستاذون برسم خدمة المظلة، وعدّتهم خمسة لكل منهم: منديل سوسيّ، وشقة دمياطيّ، وشقة اسكندرانيّ، وفوطة، الأستاذون الشدّادون برسم الدواب، وعدّتهم ستة كذلك، ما حمل برسم السيد الأجل المأمون يعني الوزير: بدلة خاصة مذهبة كبيرة موكبية عدّتها: إحدى عشرة، وما هو برسم جهاته وبرسم أولاده: الأجل تاج الرياسة، وتاج الخلافة، وسعد الملك محمود، وشرف الخلافة جمال الملك موسى، وهو صاحب التاريخ نظير ما كان باسم أولاد الأفضل بن أمير الجيوش، وهم: حسن، وحسين، وأحمد الأجل المؤتمن سلطان الملوك يعني أخا الوزير عن تقدمة العساكر، وزم الأزمّة وبرسم الجهة المختصة به، وركن الدولة عزا الملوكأ بو الفضل جعفر عن حمل السيف الشريف خارجا عما له من حماية خزانة الكسوات، وصناديق النفقات، وما يحمل أيضا للخزائن المأمونية مما ينفق منها على من يحسن في الرأي من الحاشية المأمونية: ثلاثون بدلة. الشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست الشريف: بدلة مذهبة عدّتها خمس قطع وكمّ وعرضي، الأمير فخر الخلافة حسام الملك متولي حجبية الباب: بدلة مذهبة، كذلك القاضي ثقة الملك ابن النائب في الحكم: بدلة مذهبة عدّتها أربع قطع وكمّ وعرضي، الشيخ الداعي وليّ الدولة بن أبي الحقيق: بدلة مذهبة، الأمير الشريف أبو عليّ أحمد بن عقيل نقيب الأشراف «1» : بدلة حريري ثلاث قطع وفوطة، الشريف أنس الدولة متولي ديوان الإنشاء بدلة كذلك، ديوان المكاتبات الشيخ أبو الرضى ابن الشيخ الأجل أبي الحسن النائب عن والده في الديوان المذكور: بدلة مذهبة عدّتها ثلاث قطع وكمّ، أبو المكارم: هبة الله أخوه بدلة مذهبة ثلاث قطع وفوطة، أبو محمد حسن أخوهما كذلك أخوهم أبو الفتح بدلة حريريّ قطعتان وفوطة، الشيخ أبو الفضل يحيى بن سعيد الندميّ

منشئ ما يصدر عن ديوان المكاتبات، ومحرّر ما يؤمر به من المهمات: بدلة مذهبة عدّتها ثلاث قطع وكم ومزنر، أبو سعيد الكاتب: بدلة حريريّ، أبو الفضل الكاتب كذلك، الحاج موسى المعين في الإلصاق كذلك. وأما الكتاب بديوان الإنشاء فلم يتفق وجود الحساب الذي فيه أسماؤهم، فيذكروا، ومن القياس أن يكونوا قريبا من ذلك، الشيخ وليّ الدولة أبو البركات متولي ديوان المجلس والخاص: بدلة مذهبة عدّتها خمس قطع وكم وعرضي، ولامرأته حلة مذهبة. الشيخ أبو الفضائل هبة الله بن أبي الليث متولي الدفتر، وما جمع إليه بدلة، أبو المجد ولده بدلة حريريّ، عدى الملك أبو البركات متولي دار الضيافة: بدلة مذهبة، وبعده الضيوف الواردون إلى الدولة جميعهم، منهم من له بدلة مذهبة ومنهم من له بدلة حريريّ، وكذلك من يتفق حضوره من الرسل على هذا الحكم. مقدّمو الركاب: عفيف الدولة مقبل بدلة مذهبة، القائد موفق والقائد تميم مثل ذلك، أربعة من المقدّمين برسم الشكيمة لكل منهم: بدلة حريري الروّاض عدّتهم ثلاثة لكل منهم: بدلة حريري، الخاص من الفرّاشين، وهم اثنان وعشرون رجلا منهم أربعة مميزون لكل منهم: بدلة مذهبة، وبقيتهم لكل واحد بدلة حريريّ. الأطباء: الشديد أبو الحسن عليّ بن أبي الشديد: بدلة حريري، أبو الفضل النسطوري بدلة حريري، وكذلك الفئة المستخدمون برسم الحمام، وهم ثمانية مقدّمهم: بدلة مذهبة، وبقيتهم لكل واحد بدلة حريريّ، والي القاهرة، ووالي مصر لكل منهما بدلة مذهبة. المستخدمون في المواكب: الأمير كوكب الدولة حامل الرمح الشريف وراء الموكب، والدرقة المعزية: بدلة حريريّ، حاملا الرمحين المعزية أيضا أمام الموكب بغير درق لكل منهما: منديل وشقة وفوطة، وهؤلاء الثلاثة رماح ما هي عربية بل هي خشوت قدم بها المعز من المغرب، حاملا لواء الحمد المختصان بالخليفة عن يمينه ويساره لكل منهما بدلة، متولي بغل الموكب الذي يحمل عليه جميع العدّة المغربية بدلة حريري، متولي حمل المظلة كذلك، عشرة نفر من صبيان الخاص برسم حمل العشرة رماح العربية المغشاة بالديباج وراء الموكب لكل منهم: منديل وشقة وفوطة، حامل السبع وراء الموكب: بدلة حريري. المقدّمون من صبيان الخاص، وهم عشرون لكل منهم: بدلة، عرفاء الفرّاشين الذين ينحطون عن فرّاشي الخاص، وفرّاشي المجلس، وفرّاشي خزائن الكسوة الخاص لكل منهم: بدلة حريري، الفرّاشون في خزائن الكسوات المستخدمون بالإيوان، وهم الذين يشدّون ألوية الحمد بين يدي الخليفة ليلة الموسم فإنها لا تشدّ إلّا بين يديه، ويبدأ هو باللف عليها بيده على سبيل البركة، ويكمل المستخدمون بقية شدّها، وما سوى ذلك من القضب الفضة، وألوية الوزارة، وغيرها، وعدّتهم: سبعة لكل منهم: منديل سوسي، وشقتان

اسكندرانيّ. المستخدمون برسم حمل القضب الفضة، ولوائي الوزارة أربعة عشر كذلك، مشارف خزانة الطيب، وكانت من الخدم الجليلة، وكان بها أعلام الجوهر التي يركب بها الخليفة في الأعياد، ويستدعى منها عند الحاجة، ويعاد إليها عند الغنى عنها، وكذلك السيف والثلاثة رماح المعزية، مشارف خزائن السروج بدلة حريري، مشارف خزائن الفرش، وكاتب بيت المال، ومشارف خزائن الشراب، ومشارف خزائن الكتب كل منهم: بدلة حريري، وبركات الأدمي والمستخدمون بالدولة بالباب، وسنان الدولة مز الكركنديّ عن زم الرهجية، والمبيت على أبواب القصور وكانت من الخدم الجليلة، والصبيان الحجرية المشدّون بلواء الموكب بعد المقرّبين، وعدّتهم عشرون لكل منهم الكسوة في الشتاء، والعيدين وغيرهما، وعدّة الذين يقبضون الكسوة في العيدين من الفرّاشين أكثر من صبيان الركاب، وذلك أنهم يتولون الأسمطة، ويقفون في تقدمتها، وينفرد عنهم المستخدمون في الركاب بما لهم من المتحصل في المخلفات في العيدين، وهو ما مبلغه ستة آلاف دينار ما لأحد معهم فيها نصيب، وكان يكتب في كل كسوة هي برسم وجوه الدولة رقعة من ديوان الانشاء. فمما كتب به من إنشاء ابن الصيرفيّ مقترنة بكسوة عيد الفطر من سنة: خمس وثلاثين وخمسمائة، ولم يزل أمير المؤمنين منعما بالرغائب، موليا إحسانه كل حاضر من أوليائه، وغائب مجزلا حظهم من منائحه ومواهبه، موصلا إليهم من الحباء ما يقصر شكرهم عن حقه وواجبه، وإنك أيها الأمير لأولاهم من ذلك بجسيمه، وأحراهم باستنشاق نسيمه، وأخلقهم بالجزء الأوفى منه عند فضه وتقسيمه، إذ كنت في سماء المسابقة بدرا، وفي جرائد المناصحة صدرا، وممن أخلص في الطاعة سرّا وجهرا، وحظي في خدمة أمير المؤمنين بما عطر له وصوفا وسير له ذكرا، ولما أقبل هذا العيد السعيد، والعادة فيه أن يحسن الناس هيآتهم ويأخذوا عند كل مسجد زينتهم، ومن وظائف كرم أمير المؤمنين تشريف أوليائه وخدمه فيه، وفي المواسم التي تجاريه، بكسوات على حسب منازلهم تجمع بين الشرف والجمال، ولا يبقى بعدها مطمع للآمال، وكنت من أخص الأمراء المقدّمين. قال: ووصلت الكسوة المختصة بغرّة شهر رمضان، وجمعتيه برسم الخليفة للغرّة بدلة كبيرة موكبية مكملة مذهبة، وبرسم الجامع الأزهر للجمعة الأولى من الشهر: بدلة موكبية حريريّ مكملة منديلها وطيلسانها بياض، وبرسم الجامع الأنور للجمعة الثانية بدلة منديلها وطيلسانها شعري، وما هو برسم أخي الخليفة للغرّة خاصة بدلة مذهبة، ويرسم له مع جهات الخليفة أربع حلل مذهبات، وبرسم الوزير للغرّة بدلة مذهبة مكملة موكبية، وبرسم الجمعتين بدلتان حريري، ولم يكن لغير الخليفة، وأخيه الوزير في ذلك شيء فيذكر، ووصلت الكسوة المختصة بفتح الخليج، وهي برسم الخليفة تختان ضمنهما بدلتان إحداهما: منديلها وطيلسانها طميم برسم المضيّ، والأخرى جميعها حريريّ، برسم العود، وكذلك ما يختص بإخوته، وجهاته بدلتان مذهبتان وأربع حلل مذهبة، وبرسم الوزير بدلة

موكبية مذهبة في تخت، وبرسم أولاده الثلاثة: ثلاث بدلات مذهبة، وبرسم جهته حلة مذهبة في تخت وبقية ما يخص المستخدمين، وابن أبي الردّاد في تخوت كل تخت: عدّة بدلات، وحضر متولي الدفتر، واستأذن على ما يحمل برسم الخليفة، وما يفرّق ويفصل برسم الخلع، وما يخرج من حاصل الخزائن عن الواصل، وهو ما يفصل برسم الخاص من الغلمان برسم: سبعمائة قباء وخمسمائة وشقين سقلاطون داري، وبرسم رؤساء العشاريات من الشقق الدمياطيّ، والمناديل السوسيّ، والفوط الحرير الحمر، وبرسم النواتية التي برسم الخاص من العشارية من الشقق الإسكندرانيّ، والكلوتات، وقد تقدّم تفصيل الكسوات جميعها، وعددها وأسماء المستمرّين لقبضها. وقال في كتاب الذخائر: وحدّثني من أثق به عن ابن عبد العزيز أنه قال: قوّمنا ما أخرج من خزائن القصر يعني في سني الشدّة أيام المستنصر، من سائر ألوان الخسرواني، ما يزيد على خمسين ألف قطعة أكثرها مذهب، وسألت ابن عبد العزيز، فقال: أخرج من الخزائن مما حرّرت قيمته على يدي، وبحضرتي أكثر من ألف قطعة. وحدّثني أبو الفضل يحيى بن دينار البغداديّ: أحد أصحاب الدواوين بالحضرة أن الذي تولى أبو سعيد النهاوندي المعروف: بالمعتمد بيعه خاصة من مخرج القصر دون غيره من الأمناء في مدّة يسيرة: ثمانية عشر ألف قطعة من بلور، ويحكم منها ما يساوي الألف دينار إلى عشرة دنانير ونيف، وعشرون ألف قطعة خسرواني. وحدّثني عميد الملك أبو الحسن عليّ بن عبد الكريم فخر الوزراء بن عبد الحاكم، أن ناصر الدولة أرسل يطالب المستنصر بما بقي لغلمانه، فذكر أنه لم يبق عنده شيء إلّا ملابسه، فأخرج ثمانمائة بدلة من ثيابه بجميع آلاتها كاملة فقوّمت وحملت إليه. وقال ابن الطوير: الخدمة في خزائن الكسوات لها رتبة عظيمة في المباشرات، وهما خزانتان، فالظاهرة يتولاها خاصة أكبر حواشي الخليفة إمّا أستاذ أو غيره، وفيها من الحواصل ما يدل على إسباغ نعم الله تعالى على من يشاء من خلقه من الملابس الشروب، والخاص الديبقيّ الملوّنة، رجالية ونسائية، والديباج الملوّنة، والسقلاطون وإليها يحمل ما يستعمل في دار الطراز بتنيس ودمياط وإسكندرية من خاص المستعمل وبها صاحب المقص، وهو مقدّم الخياطين، ولأصحابه مكان لخياطتهم، والتفصيل يعمل على مقدار الأوامر وما تدعو الحاجة إليه، ثم ينقل إلى خزانة الكسوة الباطنة ما هو خاص للباس الخليفة، ويتولاها امرأة تنعت: بزين الخزان أبدا، وبين يديها ثلاثون جارية، فلا يغير الخليفة أبدا ثيابه إلّا عندها، ولباسه خافيا الثياب الدارية وسعة أكمامها سعة نصف أكمام الظاهر، وليس في جهة من جهاته ثياب أصلا، ولا يلبس إلّا من هذه الخزانة، وكان برسم هذه الخزانة بستان من أملاك الخليفة على شاطىء الخليج يعني أبدا فيه النسرين، والياسمين

خزائن الجوهر والطيب والطرائف

فيحمل في كل يوم منه شيء في الصيف والشتاء، لا ينقطع البتة برسم الثياب والصناديق، فإذا كان أوان التفرقة الصيفية أو الشتوية شدّ لمن تقدّم ذكره من أولاد الخليفة، وجهاته وأقاربه، وأرباب الرواتب والرسوم من كل صنف شدّة على ترتيب الفروض من شقق الديباج الملوّن، والسقلاطون إلى السوسيّ، والإسكندرانيّ على مقدار الفصول من الزمان، ما يقرب من مائتي شدّة، فالخواص في العراضي الديبقي، ودونهم في أوطية حرير، ودونهم في فوط إسكندرية، ويدخل في ذلك: كتاب ديواني الإنشاء، والمكاتبات دون غيرهم من الكتاب على مقدارهم، وذلك يخرج من الجواري في الشهر المطلقات. وقال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة بعد وفاة العاضد: وكشف حاصل الخزائن الخاصة بالقصر، فقيل: إن الموجود فيها: مائة صندوق كسوة فاخرة من موشى، ومرصع، وعقود ثمينة، وذخائر فخمة، وجواهر نفيسة، وغير ذلك من ذخائر عظيمة الخطر، وكان الكاشف بهاء الدين قراقوش. خزائن الجوهر والطيب والطرائف قال ابن المأمون: وكان بها الأعلام والجوهر التي يركب بها الخليفة في الأعياد ويستدعى منها عند الحاجة، ويعاد إليها عند الغنى عنها، وكذلك السيف الخاص، والثلاثة رماح المعزية، وقال في كتاب الذخائر والتحف: وذكر بعض شيوخ دار الجوهر بمصر: أنه استدعى يوما هو وغيره من الجوهريين من أهل الخبرة بقيمة الجوهر إلى بعض خزائن القصر يعني في أيام الشدّة زمن المستنصر، فأخرج صندوق كيل منه: سبعة أمداد زمرّد قيمتها، على الأقل: ثلثمائة ألف دينار، وكان هناك جالسا فخر العرب بن حمدان، وابن سنان، وابن أبي كدينة، وبعض المخالفين فقال بعض من حضر من الوزراء المعطلين للجوهريين: كم قيمة هذا الزمرّد؟ فقالوا: إنما نعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجودا، ومثل هذا لا قيمة له، ولا مثل! فاغتاظ، وقال ابن أبي كدينة: فخر العرب كثير المؤنة، وعليه خرج، فالتفت إلى كتاب الجيش، وبيت المال، فقال: يحسب عليه فيه خمسمائة دينار، فكتب ذلك، وقبضه وأخرج عقد جوهر قيمته على الأقل: من ثمانين ألف دينار فصاعدا، فتحرّيا فيه، فقال: يكتب بألفي دينار، وتشاغلوا بنظر ما سواه، وانقطع سلكه فتناثر حبّه، فأخذوا واحد منهم واحدة، فجعلها في جيبه، وأخذ ابن أبي كدينة أخرى، وأخذ فخر العرب بعض الحب، وباقي المخالفين التقطوا ما بقي منه، وغاض كأن لم يكن، وأخذ ما كان أنفذه: الصليحي من نفيس الدرّ الرفيع الرائع وكيله على ما ذكر سبع ويبات، وأخذوا ألفا ومائتي خاتم ذهبا وفضة فصوصها من سائر أنواع الجوهر المختلف الألوان والقيم والأثمان، والأنواع مما كان لأجداده وله، وصار إليه من وجوه دولته منها ثلاثة خواتم ذهب مربعة عليها ثلاثة فصوص أحدها زمرّذ، والاثنان ياقوت سماقيّ، ورمّانيّ بيعت باثني عشر ألف دينار بعد ذلك.

وأحضر خريطة «1» فيها نحو ويبة جوهر، وأحضر الخبراء من الجوهريين، وتقدّم إليهم بقيمتها، فذكروا أن لا قيمة لها، ولا يشتري مثلها إلّا الملوك، فقوّمت: بعشرين ألف دينار، فدخل جوهر الكاتب المعروف: بالمختار عز الملك إلى المستنصر، وأعلمه أن هذا الجوهر اشتراه جدّه: بسبعمائة ألف دينار واسترخصه، فتقدّم بإنفاقه في الأتراك، فقبض كل واحد منهم جزء بقيمة الوقت، وفرّق عليهم. قال: فأمّا ما أخذ مما في خزائن البلور، والمحكم والمينا المجرى بالذهب والمجرود، والبغدادي والخيار، والمدهون، والخلنج، والعينيّ، والدهيميّ، والآمديّ، وخزائن الفرش والبسط، والستور، والتعاليق فلا يحصى كثرة. وحدّثني من أثق به من المستخدمين في بيت المال: أنه أخرج يوما في جملة ما أخرج من خزائن القصر عدّة صناديق، وإنّ واحدا منها فتح، فوجد فيه على مثال كيزان الفقاع من صافي البلور المنقوش والمجرود شيء كثير، وإنّ جميعها مملوء من ذلك وغيره، وحدثني من أثق به أنه رأى: قدح بلور بيع مجرودا بمائتين وعشرين دينارا، ورأى خردادي بلور بيع: بثلاثمائة وستين دينارا، وكوز بلور بيع: بمائتين وعشرة دنانير، ورأى صحون مينا كثيرة تباع من: المائة دينار إلى ما دونها. وحدّثني من أثق بقوله أنه رأى بطرابلس قطعتين من البلور الساذج، الغاية في النقاء، وحسن الصنعة إحداهما خردادي، والأخرى باطية مكتوب على جانب كل واحدة منهما: اسم العزيز بالله، تسع الباطية سبعة أرطال بالمصري ماء، والخردادي تسعة، وإنه عرضهما على جلال الملك أبي الحسن عليّ بن عمار، فدفع فيهما: ثمانمائة دينار، فامتنع من بيعهما، وكان اشتراهما من مصر من جملة ما أخرج من الخزائن، وإن الذي تولى بيعه: أبو سعيد النهاندي من مخرج القصر دون غيره من الأمناء في مديدة يسيرة، ثمانية عشر ألف قطعة من بلور، ويحكم منها ما يساوي: الألف دينار إلى عشرة دنانير. وأخرج من صواني الذهب المجراة بالمينا، وغير المجراة المنقوشة بسائر أنواع النقوش المملوء جميعها من سائر أنواعه، وألوانه، وأجناسه شيء كثير جدّا، ووجد فيما وجد غلف خيار مبطنة بالحرير محلاة بالذهب مختلفة الأشكال خالية مما فيها من الأواني عدّتها: سبعة عشر ألف غلاف؛ كان في كل قطعة إما بلور مجرود أو محكم أو ما يشاكله، ووجد أكثر من مائة كأس باد زهر، ونصب، وأشباهها، على أكثرها اسم هارون الرشيد وغيره. ووجد في خزائن القصر عدّة صناديق كثيرة مملوءة سكاكين مذهبة، ومفضضة بنصب

مختلفة من سائر الجواهر وصناديق كثيرة مملوءة من أنواع الدوى المربعة، والمدوّرة والصغار، والكبار المعمولة من الذهب والفضة والصندل والعود، والأبنوس الزنجيّ، والعاج، وسائر أنواع الخشب المحلاة بالجوهر، والذهب والفضة، وسائر الأنواع الغريبة، والصنعة المعجزة الدقيقة بجميع آلاتها فيها ما يساوي: الألف دينار، والأكثر والأقل سوى ما عليها من الجواهر، وصناديق مملوءة مشارب ذهب وفضة مخرقة بالسواد صغار، وكبار مصنوعة بأحسن ما يكون من الصنعة، وعدّة أزيار «1» صينيّ كبار، مختلفة الألوان مملوءة: كافورا قيصوريا، وعدّة من جماجم «2» العنبر الشحريّ، ونوافج المسك التبتي، وقواريره وشجر العود وقطعه. ووجد للسيدة رشيدة ابنة المعز حين ماتت في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة: ما قيمته ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار من جملته: ثلاثون ثوب خز مقطوع واثنا عشر ألفا من الثياب المصمت ألوانا، ومائة قاطرميز مملوءة كافورا قيصوريا، ومما وجد لها معممات بجواهرها من أيام المعز، وبيت هرون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، وكان من ولي من الخلفاء ينتظرون وفاتها، فلم يقض ذلك إلّا للمستنصر بالله، فحازه في خزانته. ووجد لعبدة بنت المعز: أيضا وماتت في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ما لا يحصى. حدّثني بعض خزان القصر: أن خزائن السيدة عبدة، ومقاصيرها وصناديقها، وما يجب أن يختم عليه ذهب من الشمع في خواتيمه على الصحة والمشاهدة أربعون رطلا بالمصريّ وإنّ بطائق المتاع الموجود كتبت: في ثلاثين رزمة ورق، ومما وجد لها أيضا: أربعمائة قمطرة «3» ، وألف وثلثمائة قطعة مينا فضة مخرّقة زنة كل مينا: عشرة آلاف درهم، وأربعمائة سيف محلى بالذهب، وثلاثون ألف شقة صقلية، ومن الجوهر ما لا يحدّ كثرة، وزمرذ كيله: أردب واحد، وأن سيد الوزراء أبا محمد البازوري وجد في موجوداتها: طستا وإبريقا، فلفرط استحسانه لهما، سأل المستنصر فيهما، فوهبهما له، ووجد مدهن ياقوت أحمر وزنه: سبعة وعشرون مثقالا، وأخرج أيضا: تسعون طستا وتسعون إبريقا من صافي البلور، ووجد في القصر خزائن مملوءة من سائر أنواع الصيني منها: أجاجين صيني كبار محلاة، كل إجانة منها على ثلاثة أرجل على صورة الوحوش، والسباع قيمة كل قطعة منها: ألف دينار، معمولة لغسل الثياب، ووجد عدّة أقفاص مملوءة ببيض صينيّ معمول على هيئة البيض في خلقته، وبياضه يجعل فيها ماء البيض النيمبرشت يوم الفصاد، ووجد حصير ذهب وزنها: ثمانية عشر رطلا ذكر أن الحصير التي جليت عليها: بوران بنت الحسن بن سهل

على المأمون، وأخرج ثمان وعشرون صينية مينا مجرابا لذهب بكعوب، كان أرسلها ملك الروم إلى العزيز بالله، قوّمت كل صينية منها: بثلاثة آلاف دينار، أنفذ جميعها إلى ناصر الدولة. ووجد عدّة صناديق مملوءة مرائي حديد من صيني، ومن زجاج المينا لا يحصى ما فيها كثرة، جميعها محلى بالذهب المشبك والفضة، ومنها المكلل بالجوهر في غلف الكيمخت، وسائر أنواع الحرير والخيزران وغيره، مضبب بالذهب والفضة، ولها المقابض من العقيق وغيره، وأخرج من المظال وقضبها الفضة والذهب شيء كثير، وأخرج من خزائن الفضة ما يقارب: الألف درهم من الآلات المصنوعة من الفضة المجراة بالذهب فيها: ما زنة القطعة الواحدة منه، خمسة آلاف درهم، الغريبة النقش والصنعة التي تساوي خمسة دراهم بدينار، وإنّ جميعه بيع كل عشرين درهما بدينار، سوى ما أخذ من العشاريات الموكبية، وأعمدة الخيام، وقضب المظال والمتحوقات، والأعلام والقناديل، والصناديق، والتوقات، والروّازين والسروج واللجم والمناطق التي للعماريات، والقباب وغيرها مثل ذلك وأضعافه. وأخرج من الشطرنج والنرد المعمولة من سائر أنواع الجوهر، والذهب، والفضة، والعاج والآبنوس برقاع الحرير، والمذهب ما لا يحدّ كثرة ونفاسة، وأخرج آلات فضة وزنها: ثلثمائة ألف ونيف، وأربعون ألف درهم تساوي ستة دراهم بدينار، وأخرج أقفاص مملوءة من سائر آلات مصوغة مجراة بالذهب عدّتها أربعمائة قفص كبار، سبكت جميعها، وفرّقت على المخالفين، وأخرجت أربعة آلاف نرجسية مجوّفة بالذهب، يعمل فيها النرجس، وألفا بنفسجية كذلك، وأخرج من خزانة الطرائف: ستة وثلاثون ألف قطعة من محكم وبلور، وقوّم السكاكين بأقل القيم، فجاءت قيمتها على ذلك: ستة وثلاثين ألف دينار وأخرج من تماثيل العنبر: اثنان وعشرون ألف قطعة، أقل تمثال منها وزنه: اثنا عشر منا، وأكبره يجاوز ذلك، ومن تماثيل الخليفة ما لا يحدّ، من جملتها ثمانمائة بطيخة كافور. وأخرجت الكلوتة «1» المرصعة بالجوهر، وكانت من غريب ما في القصر، ونفيسه، ذكر أن قيمتها: ثلاثون ألف دينار، ومائة ألف دينار، قوّمت: بثمانين ألف دينار، وكان وزن ما فيها من الجوهر: سبعة عشر رطلا اقتسمها فخر العرب، وتاج الملوك، فصار إلى فخر العرب منها قطعة بلخش وزنها: ثلاثة وعشرون مثقالا، وصار إلى تاج الدين مما وقع إليه حبات درّ، كل حبة: ثلاثة مثاقيل، عدّتها مائة حبة فلما كانت هزيمتهم من مصر نهبت،

وأخرج من خزائن الطيب: خمسة صواري عود هندي، كل واحد من تسعة أذرع إلى عشرة أذرع، وكافور قيصوري زنة كل حبة: من خمسة مثاقيل إلى ما دونها، وقطع عنبر وزن القطعة: ثلاثة آلاف مثقال، وأخرج متارد صيني محمولة على ثلاثة أرجل ملء كل وعاء منها: مائتا رطل من الطعام، وعدّة قطع شب وباد زهر منها: جام سعته ثلاثة أشبار ونصف، وعمقه شبر، مليح الصنعة، وقاطرميز بلور فيه: صور ثابتة تسع سبعة عشر رطلا، وبلوجة بلور مجرود تسع عشرين رطلا، وقصرية نصب كبيرة جدّا، وطابع ندّ فيه ألف مثقال، كان فخر الدولة أبو الحسن عليّ بن ركن الدولة بن بويه الديلميّ عمله مكتوب في وسطه فخر الدولة شمس الملة، وأبيات منها: ومن يكن شمس أهل الأرض قاطبة ... فندّه طابع من ألف مثقال وطاوس ذهب مرصع بنفيس الجوهر، عيناه من ياقوت أحمر، وريشه من الزجاج المينا المجري بالذهب على ألوان ريش الطاوس، وديك من الذهب له عرف مفروق كأكبر ما يكون من أعراف الديوك من الياقت الأحمر مرصع بسائر الدر، والجوهر، وعيناه ياقوت، وغزال مرصع بنفيس الدر والجوهر، وبطنه أبيض، قد نظم من در رائع، ومجمع سكارج من بلور تخرج منه وتعود فيه، فتحته أربعة أشبار، مليح الصنعة في غلاف خيزران، وبطيخة من الكافور في شباك ذهب مرصعة وزنها خالصة سبعون مثقالا من كافور، وقطعة عنبر تسمى: الخروف وزنها سوى ما يمسكها من الذهب: ثمانون منا، وبطيخة كافور أيضا وجد ما عليها من الذهب: ثلاثة آلاف مثقال، ومائدة نصب كبيرة واسعة قوائمها منها، وبيضة بلخش وزنها: سبعة وعشرون مثقالا أشدّ صفاء من الياقوت الأحمر، وقاطر ميز بلور مليح التقدير، يسع مروقتين قوّم في المخرج: بثمانمائة دينار دفع إلى تاج الملوك فيه بعد ذلك ألفا دينار، فامتنع من بيعه، مائدة جزع يقعد عليها جماعة، قوائمها مخروطة منها، ونخلة ذهب مكللة بالجوهر، وبديع الدرّ في إجانة ذهب تجمع الطلع والبلح، والرطب بشكله، ولونه وعلى صفته، وهيأته من الجواهر لا قيمة لها، وكوز زير بلور يحمل عشرة أرطال ماء، ودارج مرصع بنفيس الجوهر لا قيمة له، ومزيرة مكللة بحب لؤلؤ نفيس، وقبة العشاريّ، وكارته وكسوة رحله الذي استعمله عليّ بن أحمد الجرجراي، وفيه مائة ألف وسبعة وستون ألفا، وسبعمائة درهم نقرة، وأطلق للصناع عن أجرة صياغته، وثمن ذهب للطلاء: ألفان وتسعمائة دينار، وكان سعر الفضة حينئذ: كل مائة درهم بستة دنانير وربع، سعر ستة عشر درهما بدينار، وأخرج العشاريّ الفضي الذي استعمله عليّ بن أحمد لأمّ المستنصر، وكان فيه مائة ألف، وعشرون ألف درهم نقرة، وصرف أجرة صياغة، وطلاء ألفان وأربعمائة دينار، وكسوة بمال جليل، وأخرج جميع كسا العشاريات التي برسم البرية والبحرية، وعدّتها، ومناطقها ورؤوس منحرفات وأهلة، وصفريات وكانت أربعمائة ألف دينار لستة

خزائن الفرش والأمتعة

وثلاثين عشاريا، وعدّة مياكيم فضة فيها ما وزنه مائة وتسعة أرطال فضة، وأخرج بستان أرضه فضة مخرقة مذهبة وطينة ندّ، وأشجاره فضة مذهبة مصوغة وأثماره عنبر، وغيره وزنه ثلثمائة وستة أرطال، وبطيخة كافور وزنها ستة عشر ألف مثقال، وقطع ياقوت أزرق زنة كل قطعة: سبعون درهما، قطع زمرّذ زنة كل قطعة ثمانون درهما، ونصاب مرآة من زمرّذ له طول وثخن كل ذلك أخذه المخالفون. خزائن الفرش والأمتعة قال في كتاب الذخائر: وحدّثني من أثق به عن ابن عبد العزيز الأنماطيّ قال: قوّمنا ما أخرج من خزائن القصر من سائر الخسرواني، ما يزيد على خمسين ألف قطعة أكثرها مذهب، وسألت ابن عبد العزيز، فقال: أخرج من الخزائن ما حرّرت قيمته على يدي وبحضرتي أكثر من مائة ألف قطعة، وأخرج مرتبة خسرواني حمراء بيعت: بثلاثة آلاف وخمسمائة دينار، ومرتبة قلموني بيعت: بألفين وأربعمائة دينار، وثلاثون سندسية بيعت كل واحدة منها: بثلاثين دينارا، ونيف وعشرون ألف قطعة خسرواني في هدبه لم يقطع منها شيء، وكانت قيمة العرض المبيع بأقل القيم، وأبرز الأثمان في مدّة خمسة عشر يوما من صفر سنة ستين وأربعمائة سوى ما نهب وسرق ثلاثون ألف ألف دينار قبض جميعها الجند، والأتراك ليس لأحد منهم درهم واحد قبضه عن استحقاق. وحدّثني الأمير أبو الحسن عليّ بن الحسن أحد مقدّمي الخيميين بالقصر: أنّ الفرّاشين دخلوا إلى بعض خزائن الفرش لما اشتدّت مطالبة المارقيّ للمستنصر بالمال إلى الخزانة المعروفة: بخزانة الرفوف، وسميت بذلك لكثرة رفوفها، لكل رف منها سلم مفرد، فأنزلوا منها ألفي عدل شقق طميم بهدبها من سائر أنواع الخسرواني وغيره لم تستعمل بعد، وجميع ما فيها مذهب معمول بسائر الأشكال، والصور، وأنهم فتحوا عدلا منها، فوجدوا ما فيه أجلة معمولة للفيلة من خسرواني أحمر مذهب كأحسن ما يكون من العمل، وموضع نزول أفخاذ الفيل، ورجليه ساذجة بغير ذهب. وأخرج من بعض الخزائن ثلاثة آلاف قطعة خسرواني أحمر مطرّز بأبيض في هدبها لم يفصل من كسا بيوت كاملة بجميع آلاتها ومقاطعها، وكل بيت يشتمل على مسانده، ومخادّه، ومساوره، ومراتبه، وبسطه وعتبه مقاطعه وستوره، وكل ما يحتاج إليه فيه. قال: وأخرج من خزائن الفرش من البيوت الكاملة الفرش من القلمونيّ والديبقيّ من سائر ألوانه، وأنواعه المخمل، والخسرواني، والديباج الملكيّ، والخز وسائر الحرير من جميع ألوانه وأنواعه ما لا يحصى كثرة، ولا يعرف قدره نفاسة، وأخرج من الحصر، والأنخاخ السامان المطرّزة بالذهب والفضة وغير المطرّزة من المخرمة، والطيور والفيلة المصوّرة بسائر أنواع الصور شيء كثير، والتمس بعض الأتراك من المستنصر مقرمة يعني

خزائن السلاح

ستارة سندس أخضر مذهبة، فأخرج عدل منها مكتوب عليه: مائة وثمانية وثمانون من جملة أعداد أعدال، فيها من المتاع، ووجد من الستور الحرير المنسوجة بالذهب على اختلاف ألوانها وأطوالها عدّة مئين تقارب الألف فيها: صور الدول وملوكها، والمشاهير فيها مكتوب على صورة كل واحد اسمه ومدّة أيامه وشرح حاله. وأخرج من خزائن الفرش أربعة آلاف رزمة خسروانيّ مذهب في كل رزمة فرش مجلس ببسطه وتعاليقه، وسائر آلاته منسوجة في خيط واحد باقية على حالها لم تمس، وصار إلى فخر العرب مقطع من الحرير الأزرق التستريّ القرقوبيّ غريب الصنعة منسوج بالذهب، وسائر ألوان الحرير، كان المعز لدين الله أمر بعمله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، فيه صورة أقاليم الأرض وجبالها، وبحارها، ومدنها، وأنهارها، ومسالكها شبه جغرافيا، وفيه صورة مكة والمدينة مبينة للناظر مكتوب على كل مدينة، وجبل وبلد ونهر، وبحر، وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير، وفي آخره مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقا إلى حرم الله، وإشهارا لمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، والنفقة عليه: اثنان وعشرون ألف دينار، وصار إلى تاج الملوك: بيت أرمنيّ أحمر منسوج بالذهب، عمل للمتوكل على الله لا مثل له ولا قيمة، وبساط خسروانيّ دفع إليه فيه ألف دينار، فامتنع من بيعه. وقال ابن الطوير: خزانة الفرش، وهي قريبة من باب الملك يحضر إليها الخليفة من غير جلوس، ويطوف فيها ويستخبر عن أحوالها، ويأمر بإدامة الاستعمال، وكان من حقوقها استعمال السامان في أماكن خارجها بالقاهرة ومصر، ويعطي مستخدمها: خمسة عشر دينارا يعني يوم يطوف بها الخليفة. خزائن السلاح قال في كتاب الذخائر: فأما خزائن السيوف، والآلات، والسلاح فإنّ بعضها أخذ، وقسم بين العشرة الثائرين على المستنصر، وهم ناصر الدولة بن حمدان، وأخواه، وبلد كوس، وابن سبكتكين، وسلام عليك، وشاور بن حسين. حتى صار ذو الفقار: إلى تاج الملوك، وصمصامة عمرو بن معدي كرب، وسيف عبد الله بن وهب الراسيّ، وسيف كافور، وسيف المعز، وسيف أبي المعز إلى: الأعز بن سنان، ودرع المعز لدين الله، وكانت تساوي ألف دينار، وسيف الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، ودرقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وسيف جعفر الصادق رضي الله عنه، ومن الخود والدروع، والتخافيف، والسيوف المحلاة بالذهب، والفضة، والسيوف الحديدية، وصناديق النصول، وجعاب السهام الخلنج، وصناديق القسيّ، ورزم الرماح الزان الخطية، وشدات القسا الطوال والزرد والبيض مئين ألوف، وكان كل صنف منها مفردا عشرات ألوف.

خزائن السروج

وقال ابن الطوير: خزانة السلاح يدخل إليها الخليفة، ويطوفها قبل جلوسه على السرير هناك، ويتأمّل حواصلها من الكراغندات المدفونة بالزرد المغشاة بالديباج المحكمة الصناعة، والجواشن المبطنة المذهبة، والزرديات السابلة برءوسها، والخود المحلاة بالفضة وكذلك أكثر الزرديات، والسيوف على اختلافها من العربيات، والقلجوريات، والرماح القنا، والقنطاريات المدهونة والمذهبة، والأسنة البرصانية، والقسيّ لرماية اليد المنسوبة إلى صناعها مثل الخطوط المنسوبة إلى أربابها، فيحضر إليه منها ما يجرّبه، ويتأمّل النشاب، وكانت نصوله مثلثة الأركان على اختلافها، ثم قسيّ الرجل والركاب، وقسيّ اللولب الذي زنة نصله: خمسة أرطال، ويرمى من كل سهم بين يديه، فينظر كيف مجراه، والنشاب الذي يقال له: الجراد، وطوله: شبر يرمى به عن قسيّ في مجار معمولة برسمه، فلا يدري به الفارس أو الراجل إلّا وقد نفذ، فإذا فرغ من نظر ذلك كله، خرج من خزانة الدرق، وكانت في المكان الذي هو خان مسرور، وهي برسم الاستعمالات للأساطيل من الكبورة الخرجية، والخود الجلودية إلى غير ذلك، فيعطي مستخدمها: خمسة وعشرون دينارا، ويخلع على متقدّم الاستعمالات جوكانية مزيد حريرا، وعمامة لطيفة. خزائن السروج قال في كتاب الذخائر: أخرج فيما أخرج: صناديق سروج محلاة بفضة مجراة بسواد ممسوحة وجد على صندوق منها: الثامن والتسعون والثلاثمائة، وعدّة ما فيها زيادة على أربعة آلاف سرج، وأخرج المستنصر من خزائن السروج: خمسة آلاف سرج كان أبو سعد إبراهيم بن سهل التستريّ دخرها له فيها، وتقدّم بحفظها كل سرج منها يساوي: من سبعة آلاف دينار إلى ألف، وأكثرها عال سبك جميعها، وفرّق في الأتراك كان برسم ركابه منها أربعة آلاف سرج، وأخذ من خزائن السيدة والدته: أربعة آلاف سرج مثلها، ودونها صنع بها مثل ذلك. وقال ابن الطوير: خزانة السروج تحتوي على ما لا يحتوي عليه مملكة من الممالك، وهي قاعة كبيرة بدورها مصطبة علوها ذراعان، ومجالسها كذلك، وعلى تلك المصطبة متكآت مخلصة الجانبين على كل متكأ ثلاثة سروج متطابقة، وفوقه في الحائط وتد مدهون مضروب في الحائط قبل تبييضه، وهو بارز بروزا متكئا عليه المركبات الحلي على لجم تلك السروج الثلاثة من الذهب خاصة أو الفضة خاصة أو الذهب، والفضة، وقلائدها وأطواقها لأعناق الخيل، وهي لخاص الخليفة، وأرباب الرتب ما يزيد على ألف سرج، ومنها لجام هو الخاص ومنها الوسط، ومنها الدون، وهي خيار غيرها برسم العواري لأرباب الرتب والخدم، ومنها ما هو قريب من الخاص فيكون عند المستخدم بشداده الدائم، وجاريه على الخليفة ما دام مستخدما، والعلف مطلق من الأهراء وأما الصاغة: فإنّ فيها منهم ومن المركبين والخرّازين عددا جمادا ثمين لا يفترون عن العمل، وكل مجلس

خزائن الخيم

مضبوط بعدد متكآته، وما عليها من السروج، والأوتاد واللجم، وكل مجلس لذلك عند مستخدميه في العرض، فلا يختل عليهم منها شيء، وكذلك وسط قاعدتها بعدّة متوالية أيضا، والشدّادون مطلوبون بالنقائص منها أيام المواسم وهم يحضرونها أو قيمتها فيعرض ويركب، ويحضر إليها الخليفة، ويطوفها من غير جلوس، ويعطي حاميها للتفرقة في المستخدمين عشرين دينارا. ويقال: إنّ الحافظ لدين الله عرضت له فيها حاجة، فجاء إليها مع الحامي، فوجد الشاهد غير حاضر وختمه عليها، فرجع إلى مكانه، وقال: لا يفك ختم العدل إلّا هو، ونحن نعود في وقت حضوره انتهى. وكان الخليفة الآمر بأحكام الله تحدّثه نفسه بالسفر إلى المشرق والغارة على بغداد، فأعدّ لذلك شروجا مجوّفة القرابيص، وبطنها بصفائح من قصدير ليجعل فيها الماء، وجعل لها فما فيه صفارة، فإذا دعت الحاجة إلى الماء شرب منه الفارس، وكان كل سرج منها يسع سبعة أرطال ماء، وعمل عدّة مخال للخيل من ديباج، وقال في ذلك: دع اللوم عني لست مني بموثق ... فلا بدّ لي من صدمة المتحقّق وأسقي جيادي من فرات ودجلة ... وأجمع شمل الدين بعد التفرّق وأوّل من ركب المتصرّفين في دولته من يخوله بالمراكب الذهب في المواسم: العزيز بالله نزار بن المعز. خزائن الخيم قال في كتاب الذخائر: وأخبرني سماء الرؤساء أبو الحسن عليّ بن أحمد بن مدبر وزير ناصر الدولة قال: أخرج فيما أخرج من خزائن القصر عدّة لم تحص من أعدال الخيم، والمضارب، والفازات، والمسطحات، والجركاوات، والحصون، والقصور، والشراعات، والمشارع، والفساطيط المعمولة من الديبقيّ، والمخمل والخسرانيّ، والديباج الملكيّ، والأرمنيّ، والبهنساويّ، والكردوانيّ والجيد من الحلبيّ، وما أشبه ذلك من سائر ألوانه، وأنواعه، ومن السندس والطميم أيضا منها المفيل، والمسبع، والمخيل، والمطوّس والمطير، وغير ذلك من سائر الوحوش، والطير والآدميين من سائر الأشكال، والصور البديعة الرائعة، ومنها الساذج والمنقوش في ظاهره بغرائب النقوش بجميع آلاتها من الأعمدة الملبسة أنابيب الفضة، والثياب المذهبة، وغير المذهبة من سائر أنواعها، وألوانها، والصفريات الفضة على أقدارها، والحبال الملبسة القطن، والحرير، والأوتاد، وسائر ما يحتاج إليه من جميع آلاتها وعدّتها المبطن جميعها بالديبقيّ الطميم المذهب، والخسروانيّ المذهب، وثياب الحرير الصينيّ، والتستريّ، والمضبب، والرجيح، والشرفيّ، والشعريّ،

والديباج والمريش، وسائر أنواع الحرير من سائر الألوان، وأنواعها كبارا وصغارا منها ما يحمل خرقه، وأوتاده، وعمده، وسائر عدّته على عشرين بعيرا، ودون ذلك، وفوقه. فالمسطح بيت مربع له أربع حيطان، وسقف بستة أعمدة منها عمودان للحائط الواحد المرفوع للدخول والخروج، والخيمة ظهرها حائط مربع وسقيفتها إلى الباب حائط مربع، وأركانها شوارك من الجانبين على قدر القائم، وفيها أربعة أعمدة اثنان في الباب واثنان في وسطها، وكلما زادت زاد عمدها وسقفها، لها حدان مشروكان من الجانبين، والشراع حائط في الظهر مسقف على الرأس بعمودين من أيّ موضع دارت الشمس حوّل إلى ناحية الشمس، والمشرعة فيه مثل المظلة على عمود واحد تامّ، وشراع سابل خلفها من أيّ موضع دارت الشمس أدير، والقبة على حالها. وحدّثني أبو الحسن عليّ بن الحسن الخيميّ قال: أخرجنا في جملة ما أخرج من خزائن القصر أيام المارقين حين اشتدّت المطالبة على السلطان: فسطاطا كبيرا أكبر ما يكون يسمى: المدورة الكبيرة يقوم على فرد عمود طوله: خمسة وستون ذراعا بالكبير، ودائر فلكته: عشرون ذراعا، وقطرها: ستة أذرع وثلثا ذراع، ودائره خمسمائة ذراع، وعدّة قطع خرقه: أربع وستون قطعة كل قطعة منها تحزم في عدل واحد يجمع بعضه إلى بعض بعرى وشراريب حتى ينصب، يحمل خرقه وحباله، وعدّته على: مائة جمل، وفي صفريته المعمولة من الفضة ثلاثة قناطير مصرية يحملها من داخل قضبان حديد من سائر نواحيها، تمتلىء ماء من راوية جمل قد صوّر في رفرفه كل صورة حيوان في الأرض، وكل عقد مليح، وشكل ظريف، وفيه باذهنج طوله: ثلاثون ذراعا. في أعلاه، كان أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن البازوري أمر بعمله أيام وزارته، فعمله الصناع، وعدّتهم: مائة وخمسون صانعا في مدّة تسع سنين، واشتملت النفقة عليه على ثلاثين ألف دينار، وكان عمله على مثال القاتول «1» الذي كان العزيز بالله أمر بعمله أيام خلافته إلّا أن هذا أعلى عمودا منه، وأوسع، وأعظم، وأحسن، وكان الخليفة أنفذ إلى متملك الروم في طلب عمودين للفسطاط طول كل واحد منهما: سبعون ذراعا بعد أن غرم عليهما ألف دينار أحدهما في هذا الفسطاط بعد أن قطع منه خمسة أذرع، والآخر حمله ناصر الدولة بن حمدان حين خرج على الخليفة المستنصر بالله إلى الاسكندرية، وما أدري ما فعل به. قال: وأقمنا مدّة طويلة في تفصيل بعضه من بعض، وتقطيعه خرقا وشققا قوّمت على المذكورين بأقل القيم، وتفرّق في الآفاق، وقال لي أيضا: أخرجنا مسطحا قلمونيا مخملا موجها من جانبيه، عمل بتنيس للعزيز بالله يسمى: دار البطيخ، وسطه بكنيس على ستة

أعمدة، أربعة منها في أركان الكنيس، وفي أربعة الأركان أربع قباب، ومن القبة إلى القبة رواق دائر عليه، والقباب دونه، وفي كل قبة أربعة أعمدة ذول كل عمود من أعمدة الكنيس ثمانية عشر ذراعا، وكذلك طول قائم القباب، وفعلنا به مثل ما فعلنا في الأوّل. وقال لي: أخرجنا مسطحا عمل للظاهر لإعزاز دين الله: بتنيس ذهب في ذهب طميم، قائم على عمود له: ست صفاري بلور، وستة أعمدة فضة أنفق عليه أربعة عشر ألف دينار، ومسطحا ديبقيا كبيرا مذهبا بدوائر كردواني منقوش، وأخرجنا قصورا تحيط بالخيام بشرفات من المخمل والقلمونيّ، والديبقيّ «1» ، والديباج الخسروانيّ، والحرير من سائر أنواعه، وألوانه المذهبة المنقوشة بحياضها، ودككها، ومصاطبها، وقدورها، وزجاجها، وسائر عددها. وأخرجنا من الخيام الكردواني شيئا كثيرا، وأخرجنا خيمة كبيرة مدوّرة كردوانيّ مليحة النقش والصنعة، عدّتها قطع كثيرة طول عمودها خمسة وثلاثون ذراعا فعلنا بجميعها مثل ما فعلنا بالأوّل، وأخرج في جملتها الفسطاط الكبير المعروف بالمدوّرة الكبيرة المتولي عمله بحلب أبو الحسن عليّ بن أحمد المعروف بابن الأيسر في سني نيف وأربعين وأربعمائة المنفق على خرقه، ونقشه وعمله، وعدّته ثلاثون ألف دينار الذي عموده أثول ما يكون من صواري درامين الروم البنادقة أربعون ذراعا، ودائر فلكة عوده أربعة وعشرون شبرا، ويحمل على سبعين جملا، ووزن صفريته الفضة قنطاران سوى أنابيب عمده، ويتولى إتقان عمده، ونصبه مائتا رجل من فرّاش ومعين، وهو شبيه بالقاتول العزيزيّ، وسمي بالقاتول: لأنه ما نصب قط إلّا، وقتل رجلا أو رجلين ممن يتولى إتقانه من فرّاش وغيره. قال: ووجد في خزائن مملوءة من سائر أنواع الصواني المدهونة ببغداد المذهبة التي حشيت، كل واحدة منها بما دونها في السعة إلى ما سعته دون الدرهم، ومن سائر أنواع الأطباق الخلع الرازي في هذه السعة، وفوق ذلك ودونه قد حشيت بطونها بما دونها في السعة، إلى ما سعته دون الدينار، ومن الموائد القوائمية الصغار، والكبار ألوف، ومن موائد الكرم، وما أشبهها شيء كثير، ومن الجفان الحور الواسعة التي قد عملت مقابضها من الفضة، وحليت بأنواع الحلي التي لا يقدر الجمل القويّ على حمل جفنتين منها، لعظمها تساوي الواحدة منها: مائة دينار، وفوقها، ودونها شيء كثير، ووجد من الدكك، والمحاريب، والأسرّة العود، والصندل، والعاج والأبنوس، والبقم شيء كثير مليح الصنعة. وقال ابن ميسر: وعمل الأفضل بن أمير الجيوش خيمة سماها: خيمة الفرح اشتملت على:

خزانة الشراب

ألف ألف وأربعمائة ألف ذراع، وقائمها ارتفاعه خمسون ذراعا بذراع العمل، صرف عليها: عشرة آلاف دينار، ومدحها جماعة من الشعراء. خزانة الشراب قال ابن المأمون: ولم يكن في الإيوان فيما تقدّم شراب حلو، بل إنها قرّرت لاستقبال النظر المأمونيّ، وأطلق لها من السكر: مائة وخمسة عشر قنطارا، وبرسم الورد المربى خمسة عشر قنطارا، وأما ما يستعمل بالكافوريّ من الحلو الفانيذ والحامض، فالمبلغ في ذلك على ما حصره شاهده في السنة: ستة آلاف وخمسمائة دينار، وما يحمل للكافوريّ أيضا برسم كرك الماورد ما يستدعيه متولي الشراب. وقال ابن الطوير: خزانة الشراب، وهي أحد مجالسه أيضا يعني القاعة التي هي الآن: المارستان العتيق، فإذا جلس الخليفة على السرير عرض عليه ما فيها حاميها، وهو من كبار الأستاذين وشاهدها، فيحضر إليه فرّاشوها بين يدي مستخدمها من عيون الأصناف العالية من المعاجين العجيبة في الصينيّ، والطيافير الخلنج، فيذوق ذلك شاهدها بحضرته، ويستخبر عن أحوالها بحضور أطباء الخاص، وفيها من الآلات، والأزياء الصينيّ، والبرابي عدّة عظيمة للورد، والبنفسج، والمرسين، وأصناف الأدية من الراوند الصيني، وما يجري مجراه، مما لا يقدر أحد على مثله إلّا هناك، وما يدخل في الأدوية من آلات العطر إلى ذلك، ويسأل عن الدرياق الفاروق، ويأمرهم بتحصيل أصنافه ليستدرك عمله قبل انقطاع الحاصل منه، ويؤكد في ذلك تأكيدا عظيما، ويستأذن على ما يطلق منها برقاع أطباء الخاص للجهات، وحواشي القصر، فيأذن في ذلك، ويعطي الحامي للتفرقة في الجماعة: ثلاثين دينارا. خزانة التوابل وقال ابن المأمون: فأما التوابل العالي منها والدون، فإنها جملة كثيرة، ولم يقع لي شاهد بها، بل إنني اجتمعت بأحد من كان مستخدما في خزانة التوابل، فذكر أنها تشتمل على: خمسين ألف دينار في السنة، وذلك خارج عما يحمل من البقولات، وهي باب مفرد مع المستخدم في الكافوري، والذي استقرّ إطلاقه على حكم الاستيمار من الجرايات المختصة بالقصور، والرواتب المستجدّة، والمطلق من الطيب، ويذكر الطراز، وما يبتاع من الثغور، ويستعمل بها وغير ذلك. فأوّلها: جراية القصور، وما يطلق لها من بيت المال إدرارا لاستقبال النظر المأمونيّ: ستة آلاف وثلثمائة وثلاثة وأربعون دينارا، تفصيله: منديل الكم الخاص الآمري في الشهر: ثلاثة آلاف دينار، عن مائة دينار كل يوم أربع جمع الحمام في كل جمعة: مائة دينار

أربعمائة دينار، وبرمس الإخوة والأخوات، والسيدة الملكة، والسيدات، والأمير أبي عليّ، وإخوته، والموالي، والمستخدمات، ومن استجدّ من الأفضليات ألفان وتسعمائة وثلاثة وأربعون دينارا، ولم يكن للقصور في الأيام الأفضلية من الطيب راتب فيذكر، بل كان إذا وصلت الهدية والجاوي من البلاد اليمنية تحمل برمّتها إلى الإيوان، فينقل منها بعد ذلك للأفضل، والطيب المطلق للخليفة من جملتها فانفسخ هذا الحكم. وصار المرتب من الطيب مياومة، ومشاهرة على ما يأتي ذكره ما هو برسم الخاص الشريف في كل شهر ندّ مثلث: ثلاثون مثقالا، عود صيفيّ: مائة وخمسة دراهم، كافور قديم: خمسة عشر درهما، عنبر خام: عشرة مثاقيل، زعفران: عشرون درهما، ماء ورد: ثلاثون رطلا، برسم بخور المجلس الشريف في كل شهر في أيام السلام، ندّ مثلث: عشرة مثاقيل، عود صيفي: عشرون درهما، كافور قديم: ثمانية دراهم، زعفران شعر: عشرة دراهم، ما هو برسم بخور الحمام في كل ليلة جمعة عن أربع جمع في الشهر، ندّ مثلث: أربعة مثاقيل، عود صيفي: عشرة مثاقيل، ما هو برسم السيدات، والجهات، والأخوة في كل شهر: ندّ مثلث خمسة وثلاثون مثقالا، عود صيفي: مائة وعشرون درهما، زعفران شعر: خمسون درهما، عنبر خام: عشرون مثقالا، كافور قديم: عشرون درهما، مسك: خمسة عشر مثقالا، ماء ورد: أربعون رطلا، ما هو برسم المائدة الشريفة ما تستلمه المعلمة مسك خمسة عشر مثقالا، ماء ورد: خمسة عشر رطلا، ما هو برسم خزانة الشراب الخاص مسك: ثلاثة مثاقيل، ندّ ثلث سبعة مثاقيل، عود صيفي: خمسة وثلاثون درهما، ماء ورد: عشرون رطلا، ما هو برسم بخور المواكب الستة، وهي الجمعتان الكائنتان في شهر رمضان، برسم الجامعين بالقاهرة يعني الجامع الأزهر، والجامع الحاكمي، والعيدان، وغيد الغدير، وأوّل السنة بالجوامع والمصلى، ندّ خاص جملة كثيرة لم تتحقق فتذكر، ولم يكن للغرّتين غرّة السنة، وغرّة شهر رمضان، وفتح الخليج بخور فيذكر، وعدّة المبخرين في المواكب ستة: ثلاثة عن اليمين، وثلاثة عن الشمال، وكل منهم مشدود الوسط، وفي كمه فحم برسم تعجيل المدخنة، والمداخن فضة، وحامل الدرج الفضة الذي فيه البخور أحد مقدّمي بيت المال، وهو فيما بين المبخرين طول الطريق، ويضع بيده البخور في المدخنة، وإذا مات أحد هؤلاء المبخرين لا يخدم عوضا عنه إلّا من يتبرّع بمدخنة فضة، لأنّ لهم رسوما كثيرة في المواسم مع قربهم في المواكب من الخليفة، ومن الوقت الذي يتبرّع فيه بالمدخنة يرجع في حاصل بيت المال، وإذا توفي حاملها لا ترجع لورثته، وعدّة ما يبخر في الجوامع والمصلى غير هؤلاء في مداخن كبار، في صواني فضة: ثلاث صوان، في المحراب إحداهنّ، وعن يمين المنبر، وشماله اثنتان، وفي الموضع الذي يجلس فيه الخليفة إلى أن تقام الصلاة صينية رابعة. وأما البخور المطلق برسم المأمون فهو في كل شهر: ندّ مثلث: خمسة عشر مثقالا،

عود صيفيّ: ستون درهما، عنبر خام: ستة مثاقيل، كافور: ثمانية دراهم، زعفران شعر: عشرة دراهم، ماء ورد: خمسة عشر رطلا ومنها مقرّر الحلوى، والفستق، ومما استجدّ ما يعمل في الإيوان برسم الخاص في كل يوم من الحلوى: اثنا عشر جاما رطبة ويابسة نصفين وزن كل جام من الرطب: عشرة أرطال، ومن اليابس: ثمانية أرطال، ومقرّر الخشكنانج «1» والبسندود «2» في كل ليلة على الاستمرار برسم الخاص الآمريّ، والمأمونيّ: قنطار واحد سكر، ومثقالان مسك وديناران برسم المؤن لعمل خشكنانج وبسندود في قعبان وسلال صفصاف، ويحمل ثلثا ذلك إلى القصر والثلث إلى الدار المأمونية. قال وجرت مفاوضة بين متولي بيت المال، ودار الفطرة بسبب الأصناف، ومن جملتها: الفستق، وقلة وجوده وتزايد سعره إلى أن بلغ رطل ونصف: بدينار، وقد وقف منه لأرباب الرسوم ما حصل شكواهم بسببه، فجاوبه متولي الديوان، بأن قال: ما تمّ موجب الإنفاق لما هو راتب من الديوان، وطالعا المقام العالي بأنه لما رسم لهما: ذكرا جميع ما اشتمل عليه ما هو مستقرّ الإنفاق من قلب الفستق والذي يطلق من الخزائن من قلب الفستق إدرارا مستقرّا بغير استدعاء، ولا توقيع مياومة، كل يوم حسابا في الشهر التام عن ثلاثين يوما خمسمائة وخمسة وثمانون رطلا، وفي الشهر الناقص عن تسعة وعشرين يوما خمسمائة وخمسة وستون رطلا حسابا عن كل: يوم تسعة عشر رطلا ونصف من ذلك ما يستلمه الصناع الحلاويون، والمستخدمون بالإيوان مما يصنع به خاص خارجا عما يصنع بالمطابخ الآمرية عن اثني عشر جام حلوى خاص وزنها: مائة وثمانية أرطال منها: رطب ستون رطلا، ويابس وغيره: ثمانية وأربعون رطلا مما يحمل في يومه وساعته، منها ما يحمل مختوما برسم المائدتين الآمريتين بالباذهنج «3» ، والدار الجديدة اللتين ما يحضرهما إلّا من كبرت منزلته، وعظمت وجاهته جامان رطبا ويابسا، وما يفرّق في العوالي من الموالي، والجهات على أوضاع مختلفة تسع جامات، وما يحمل إلى الدار المأمونية برسم المائدة بالداردون السماط: جام واحد. تتمة المياومة المذكورة ما يتسلمه الشاهد، والمشارف على المطابخ الآمرية، مما يصنع فيها برسم الجامات الحلوى، وغيره مما يكون على المدورة في الأسمطة المستمرّة بقاعة الذهب في أيام السلام، وفي أيام الركوبات، وحلول الركاب بالمناظر أربعة أرطال،

وما يتسلمه الحاج مقبل الفرّاش برسم المائدة المأمونية، مما يوصله لزمام الدار دون المطابخ الرجالية رطلان الحكم الثاني يطلق مشاهرة بغير توقيع، ولا استدعاء بأسماء كبراء الجهات، والمستخدمين من الأصحاب، والحواشي في الخدم المميزة، وهو في الشهر ثلاثة عشر رطلا، والديوان شاهد بأسماء أربابه، وما يطلق من هذه الخزائن السعيدة بالاستدعاءات والمطالعات، ويوقع عليه بالإطلاق من هذا الصنف في كل سنة على ما يأتي ذكره، وما يستدعى برسم التوسعة في الراتب عند تحويل الركاب العالي إلى اللؤلؤة مدّة أيام النيل المبارك في كل يوم رطلان، وما يستدعى برسم الصيام مدّة تسعة وخمسين يوما رجب وشعبان حسابا عن كل يوم: رطلان مائة وثمانية عشر رطلا وما يستدعى لما يصنع بدار الفطرة في كل ليلة برسم الخاص خشكنانج لطيفة، وبسندود، وجوارشات، ونواطف، ويحمل في سلال صفصاف لوقته، عن مدّة أوّلها مستهل رجب، وآخرها سلخ رمضان عن تسعة وثمانين يوما مائة وثمانية وسبعون رطلا، لكل ليلة: رطلان، ويسمى ذلك: بالتعبية، وما يستدعيه صاحب بيت المال، ومتولي الديوان. فيما يصنع بالإيوان الشريف برسم الموالد الشريفة الأربعة: النبويّ، والعلويّ، والفاطميّ، والآمريّ مما هو برسم الخاص، والموالي، والجهات بالقصور الزاهرة، والدار المأمونية، والأصحاب، والحواشي خارجا عما يطلق مما يصنع بدر الوكالة، ويفرّق على الشهود، والمتصدّرين والفقراء، والمساكين مما يكون حسابه من غير هذه الخزائن عشرون رطلا قلب فستق حسابا لكل يوم مؤبد منها: خمسة أرطال. ما يستدعى برسم ليالي الوقود الأربع الكائنات في رجب وشعبان، مما يعمل بالإيوان برسم الخاصيين، والقصور خاصة: عشرون رطلا لكل ليلة خمسة أرطل. وأما ما ينصرف في الأسمطة، والليالي المذكورات في الجامع الأزهر بالقاهرة، والجامع الظاهريّ بالقرافة فالحكم في ذلك يخرج عن هذه الخزائن، ويرجع إلى مشارف الدار السعيدة، وكذلك ما يستدعيه المستخدمون في المطابخ الآمرية من التوسعة من هذا الصنف المذكور في جملة غيره برسم الأسمطة لمدّة تسعة وعشرين يوما من شهر رمضان وسلخه لأسماط فيه، وفي الأعياد جميعها بقاعة الذهب، وما يستدعيه النائب برسم ضيافة من يصرف من الأمراء في الخدم الكبار، ويعود إلى الباب، ومن يرد إليه من جميع الضيوف، وما يستدعيه المستخدمون في دار الفطرة برسم فتح الخليج، وهي الجملتان الكبيرتان، فجميع ذلك لم يكن في هذه الخزائن محاسبته، ولا ذكر جملته، والمعاملة فيه مع مشارف الدار السعيدة، وأما: ما يطلق من هذا الصنف من هذه الخزائن في هذه الولائم، والأفراح، وإرسال الأنعام فهو شيء لم تتحقق أوقاته، ولا مبلغ استدعائه، أنهى المملوكان ذلك، والمجلس فضل السموّ، والقدرة فيما يأمر به إن شاء الله تعالى.

دار التعبية

دار التعبية قال ابن المأمون: دار التعبية كانت في الأيام الأفضلية تشتمل على مبلغ يسير، فانتهى الأمر فيها إلى عشرة دنانير كل يوم خارجا عما هو موظف على البساتين السلطانية، وهو النرجس والنينوفران الأصفر، والأحمر، والنخل الموقوف برسم الخاص، وما يصل إليه من الفيوم، وثغر الإسكندرية، ومن جملتها تعبية للجهات، والخاص والسيدات، ولدار الوزارة، وتعبية المناظر في الركوبات إلى الجمع في شهر رمضان خارجا عن تعبية الحمامات، وما يحمل كل يوم من الزهرة، وبرسم خزانة الكسوة الخاص، وبرسم المائدة، وتفرقة الثمرة الصيفية في كل سنة على الجهات، والأمراء، والمستخدمين، والحواشي، والأصحاب، وما يحمل لدار الوزارة، والضيوف وحاشية دار الوزارة. خزانة الأدم قال: وأما الراتب من عند بركات الأدميّ، فإنه في كل شهر ثمانون زوجا أو طية من ذلك، برسم الخاص: ثلاثون زوجا، برسم الجهات: أربعون زوجا، برسم الوزارة: عشرة أزواج خارجا عن السباعيات، فإنها تستدعى من خزانة الكسوة، وفي كل موسم تكون مذهبة. خزائن دار أفتكين «1» قال ابن الطوير: وكانت لهم دار كبرى يسكنها: نصر الدولة أفتكين الذي رافق نزار بن المستنصر بالإسكندرية جعلوها: برسم الخزن، فقيل: خزائن دار أفتكين، وتحتوي على أصناف عديدة من الشمع المحمول من الإسكندرية وغيرها، وجميع القلوب المأكولة من الفستق وغيره، والأعسال على اختلاف أصنافها، والسكر، والقند، والشيرج، والزيت، فيخرج من هذه الخزائن بيد حاميها، وهو من الأستاذين المميزين ومشارفها، وهو من المعدّلين راتب المطابخ: خاصا وعامّا أو لأيام، ينفق منها للمستخدمين، ثم لأرباب التوقيعات من الجهات، وأرباب الرسوم في كل شهر من أرباب الرتب حتى لا يخرج عما يحتاجونه فيها إلا اللحم، والخضراوات، فهي أبدا معمورة بذلك انتهى. خبر نزار وأفتكين: لما مات الخليفة المستنصر بالله أبو تميم معدّ بن الإمام الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور: في ليلة الخميس الثامن عشر من ذي الحجة سنة

سبع وثمانين وأربعمائة، بادر الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي إلى القصر، وأجلس: أبا القاسم أحمد بن المستنصر في منصب الخلافة، ولقبه: بالمستعلي بالله، وسير إلى الأمير نزار، والأمير عبد الله، والأمير إسماعيل: أولاد المستنصر فجاؤوا إليه، فإذا أخوهم أحمد، وهو أصغرهم قد جلس على سرير الخلافة، فامتعضوا لذلك، وشق عليهم. وأمرهم الأفضل بتقبيل الأرض، وقال لهم: قبلوا الأرض لمولانا المستعلي بالله، وبايعوه فهو الذي نص عليه الإمام المستنصر قبل وفاته بالخلافة من بعده، فامتنعوا من ذلك، وقال كل منهم: إن أباه قد وعده بالخلافة، وقال نزار: لو قطعت ما بايعت من هو أصغر مني سنا، وخط والدي عندي بأني وليّ عهده، وأنا أحضره، وخرج مسرعا ليحضر الخط، فمضى لا يدري به أحد، وتوجه إلى الاسكندرية. فلما أبطأ مجيئه بعث الأفضل إليه ليحضر بالخط، فلم يعلم له خبرا. فانزعج لذلك انزعاجا عظيما، وكانت نفرة نزار من الأفضل لأمور منها: أنه خرج يوما فإذا بالأفضل قد دخل من باب القصر، وهو راكب، فصاح به نزار: انزل يا أرمنيّ الجنس «1» ، فحقدها عليه، وصار كل منهما يكره الآخر، ومنها: أنّ الأفضل: كان يعارض نزارا في أيام أبيه، ويستخف به، ويضع من حواشيه، وأسبابه، ويبطش بغلمانه، فلما مات المستنصر خافه، لأنه كان رجلا كبيرا، وله حاشية، وأعوان، فقدّم لذلك أحمد بن المستنصر بعد ما اجتمع بالأمراء وخوّفهم من نزار، وما زال بهم حتى وافقوه على الإعراض عنه، وكان من جملتهم: محمود بن مصال، فسير خفية إلى نزار، وأعلمه بما كان من اتفاق الأفضل مع الأمراء على إقامة أخيه أحمد، وإدارته لهم عنه، فاستعدّ إلى المسير إلى الاسكندرية هو وابن مصال، فلما فارق الأفضل، ليحضر إليه بخط أبيه، خرج من القصر متنكرا، وسار هو وابن مصال إلى الاسكندرية، وبها الأمير نصر الدولة أفتكين أحد مماليك أمير الجيوش بدر الجمالي، ودخلا عليه ليلا وأعلماه بما كان من الأفضل، وتراميا عليه، ووعده نزار بأن يجعله وزيرا مكان الأفضل، فقبلهما أتمّ قبول، وبايع نزارا، وأحضر أهل الثغر لمبايعته فبايعوه، ونعته بالمصطفى لدين الله، فبلغ ذلك الأفضل، فأخذ يتجهز لمحاربتهم وخرج في آخر المحرّم سنة ثمان وثمانين بعسكره، وسار إلى الاسكندرية، فبرز إليه نزار وأفتكين، وكانت بين الفريقين عدّة حروب شديدة انكسر فيها الأفضل، ورجع بمن معه منهزما إلى القاهرة، فقوي نزار وأفتكين، وصار إليهما كثير من العرب، واشتدّ أمر نزار، وعظم واستولى على بلاد الوجه البحريّ، وأخذ الأفضل يتجهز ثانيا إلى المسير لمحاربة نزار، ودس إلى أكابر العربان، ووجوه أصحاب نزار وأفتكين، وصاروا إلى الاسكندرية، فنزل الأفضل إليها، وحاصرها حصارا شديدا، وألحّ في مقاتلتهم، وبعث إلى أكابر أصحاب نزار، ووعدهم.

خزانة البنود

فلما كان في ذي القعدة وقد اشتدّ البلاء من الحصار جمع ابن مصال ماله، وفرّ في البحر إلى جهة بلاد المغرب، ففت ذلك في عضد نزار وتبين فيه الانكسار، واشتدّ الأفضل، وتكاثرت جموعه، فبعث نزار وأفتكين إليه يطلبان الأمان منه، فأمنهما ودخل الاسكندرية، وقبض على نزار وأفتكين، وبعث بهما إلى القاهرة، فأما نزار: فإنه قتل في القصر بأن أقيم بين حائطين بنيا عليه فمات بينهما، وأما أفتكين، فإنه قتله الأفضل بعد قدومه، ودار أفتكين هذه كانت خارج القصر وموضعها الآن حيث مدرسة القاضي الفاضل، وآدره بدرب ملوخيا. خزانة البنود «1» البنود: هي الرايات والأعلام، ويشبه أن تكون هي التي يقال لها في زمننا: العصائب السلطانية، وكانت خزانة البنود ملاصقة للقصر الكبير، ومن حقوقه فيما بين قصر الشوك، وباب العيد بناها: الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله، وكان فيها ثلاثة آلاف صانع مبرزين في سائر الصنائع، وكانت أيام الظاهر هذا سكونا وطمأنينة، وكان مشتغلا بالأكل والشرب، والنزه، وسماع الأغاني. وفي زمانه تأنق أهل مصر والقاهرة في اتخاذ الأغاني والرقاصات، وبلغ من ذلك المبالغ العجيبة، واتخذت له حجرة المماليك، وكانوا يعلمونهم فيها أنواع العلوم وأنواع آلة الحرب، وصنوف حيلها من الرماية، والمطاعنة، والمسابقة وغير ذلك. وقال في كتاب الذخائر والتحف: ولما وهب السلطان يعني الخليفة المستنصر لسعد الدولة المعروف بسلام عليك ما في خزانة البنود من جميع المتاع والآلات، وغير ذلك في اليوم السادس من صفر سنة إحدى وستين وأربعمائة، حمل جميعه ليلا، وكان فيما وجد سعد الدولة فيها ألفا وتسعمائة درقة إلى ما سوى ذلك من آلات الحرب وما سواه، وغير ذلك من القضب الفضة والذهب والبنود، وما سواه، وفي خلال ذلك سقط من بعض الفرّاشين: مقط شمع موقد نارا، فصادف هناك أعدال كتان، ومتاعا كثيرا، فاحترق جميعه، وكانت لتلك غلبة عظيمة، وخوف شديد فيما يليها من القصر، ودور العامّة والأسواق. وأعلمني من له خبرة بما كان في خزانة البنود أن مبلغ ما كان فيها من سائر الآلات، والأمتعة، والذخائر لا يعرف له قيمة عظما، وإنّ المنفق فيها كل سنة: من سبعين ألف دينار إلى ثمانين ألف دينار من وقت دخول القائد جوهر، وبناء القصر من سنة ثمان وخمسين

وثلثمائة إلى هذا الوقت، وذلك زائد عن مائة سنة، وإنّ جميعه باق فيها على الأيام لم يتغير، وإنّ جميعه احترق حتى لم يبق منه باقية، ولا أثر، وإنه احترق في هذه الليلة من قربات النفط عشرات ألوف، ومن زراقات النفط أمثالها، فأما الدرق والسيوف والرماح والنشاب، فلا تحصى بوجه، ولا سبب مع ما فيها من قضب الفضة، وثيابها المذهبة وغيرها، والبنود المجملة، وسروج ولجم وثياب الفرحية المصبغات والبنادين، وغيرها بعد أن أخذوا ما قدروا عليه، حتى لواء الحمد «1» ، وسائر البنود، وجميع العلامات، والألوية. وحدّثني من أثق به أيضا: أنه احترق فيها من السيوف عشرات ألوف، وما لا يحصى كثرة، وإن السلطان بعد ذلك بمدّة طويلة احتاج إلى إخراج شيء من السلاح لبعض مهماته، فأخرج من خزانة واحدة مما بقي وسلم خمسة عشر ألف سيف مجوهرة سوى غيرها. حدّثني بجميعه الأجل: عظيم الدولة متولي الستر الشريف انتهى. وجعلت خزانة البنود بعد هذا الحريق حبسا، وفيها يقول القاضي المهذب بن الزبير لما اعتقل بها، وكتب بها للكامل بن شاور: أيا صاحبي سجن الخزانة خليا ... نسيم الصبا يرسل إلى كبدي نفحا وقولا لضوء الصبح هل أنت عائد ... إلى نصري أم لا أرى بعدها صبحا ولا تيأسا من رحمة الله أن أرى ... سريعا بفضل الكامل العفو والصفحا وقال: أيا صاحبي سجن الخزانة خليا ... من الصبح ما يبدو سناه لناظري فو الله ما أدري أطرفي ساهر ... على طول هذا الليل أم غير ساهر وما لي من أشكو إليه إذا كما ... سوى ملك الدنيا شجاع بن شاور واستثمرت سجنا للأمراء، والوزراء، والأعيان إلى أن زالت الدولة، فاتخذها ملوك بني أيوب أيضا سجنا، تعتقل فيه الأمراء والمماليك. ومن غريب ما وقع بها أن الوزير: أحمد بن عليّ الجرجرائي «2» : لما توفي طلب الوزارة: الحسن بن عليّ الأنباري: فأجيب إليها، فتعجل من سوء التدبير قبل تمامه ما فوّته مراده، وضيع ماله ونفسه، وذلك أنه كان قد نبغ في أيام الحاكم بأمر الله أخوان يهوديان:

بتصرّف أحدهما في التجارة، والآخر في الصرف، وبيع ما يحمله التجار من العراق. وهما: أبو سعد إبراهيم، وأبو نصر هارون ابنا سهل التستريّ، واشتهر من أمرهما في البيوع وإظهار ما يحصل عندهما من الودائع الخفية لمن يفقد من التجار في القرب والبعد، ما ينشأ به جميل الذكر في الآفاق، فاتسع حالهما لذلك، واستخدم الخليفة الظاهر لإعزار دين الله: أبا سعد إبراهيم بن سهل التستريّ في ابتياع ما يحتاج إليه من صنوف الأمتعة، وتقدّم عنده، فباع له جارية سوداء، فتحظى بها الظاهر، وأولدها: ابنه المستنصر، فرعت لأبي سعد ذلك، فلما أفضت الخلافة إلى المستنصر ولدها قدّمت: أبا سعد، وتخصصت به في خدمتها. فلما مات الوزير الجرجرائي، وتكلم ابن الأنباري في الوزارة قصده أبو نصر أخو أبي سعد، فجبهه أحد أصحابه بكلام مؤلم، فظنّ أبو نصر أن الوزير ابن الأنباري إذا بلغه ذلك ينكر على غلامه، ويعتذر إليه، فجاء منه خلاف ما ظنه، وبلغه عنه أضعاف ما سمعه من الغلام، فشكا ذلك إلى أخيه أبي سعد، وأعلمه بأنّ الوزير متغير النية لهما، فلم يفتر أبو سعد عن ابن الأنباريّ، وأغرى به أمّ المستنصر مولاته، فتحدّثت مع ابنها الخليفة المستنصر في أمره حتى عزله عن الوزارة فسعى أبو سعد عند أمّ المستنصر: لأبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحيّ في الوزارة، فاستوزره المستنصر، وتولى أبو سعد الإشراف عليه، وصار الوزير الفلاحيّ منقادا لأبي سعد تحت حكمه، وأخذ الفلاحي يعمل على ابن الأنباري ويغري به، ويصنع عليه ديونا، ويذكر عنه ما يوجب الغضب عليه، حتى تمّ له ما يريد، فقبض عليه، وخرّج عليه من الدواوين أموالا كثيرة، مما كان يتولاه قديما، وألزمه بحملها، ونوّع له أصناف العذاب، واستصفى أمواله، وهو معتقل بخزانة البنود، ثم قتله في يوم الاثنين الخامس من المحرّم سنة أربعين وأربعمائة بها، فاتفق أن الفلاحي لما صرف عن الوزارة، اعتقل بخزانة البنود حيث كان ابن الأنباري، قم قتل بها، وحفر له ليدفن، فظهر في الحفر رأس ابن الأنباري قبل أن يمضي فيه القتل، فقال لا إله إلّا الله: هذا رأس ابن الأنباري أنا قتلته، ودفنته ههنا وأنشد: رب لحد قد صار لحدا مرارا ... ضاحكا من تزاحم الأضداد «1» فقتل، ودفن في تلك الحفرة مع ابن الأنباري، فعدّ ذلك من غرائب الاتفاق. ثم إن خزانة البنود جعلت منازل للأسرى من الفرنج المأسورين من البلاد الشامية أيام

كانت محاربة المسلمين لهم، فأنزل بها الملك الناصر محمد بن قلاون: الأسارى بعد حضوره من الكرك، وأبطل السجن بها، فلم يزالوا فيها بأهاليهم، وأولادهم في أيام السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، فصار لهم فيها أفعال قبيحة، وأمور منكرة شنيعة من التجاهر: ببيع الخمر، والتظاهر بالزنا واللياطة، وحماية من يدخل إليها من أرباب الديون، وأصحاب الجرائم وغيرهم، فلا يقدر أحد، ولو جلّ على أخذ من صار إليهم واحتمى بهم. والسلطان يغضي عنهم لما يرى في ذلك من مراعاة المصلحة، والسياسة التي اقتضاها الحال من مهادنة ملوك الفرنج، وكان يسكن بالقرب منها الأمير الحاج آل ملك الجوكندار، ويبلغه ما يفعله الفرنج من العظائم الشنيعة، فلا يقدر على منعهم، وفحش أمرهم، فرفع الخبر إلى السلطان، وأكثر من شكايتهم غير مرّة والسلطان يتغافل عن ذلك إلى أن كثرت مفاوضة الحاج آل ملك للسلطان في أمرهم، فقال له السلطان: أتنقل أنت عنهم يا أمير؟ فلم يسعه إلّا الإعراض عن ذلك، وعمّر داره التي بالحسينية، والإصطبل، والجامع المعروف: بآل ملك والحمام والفندق، وانتقل من داره التي كان فيها بجوار خزانة البنود، وسكن بالحسينية إلى أن مات السلطان الملك الناصر في أخريات سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وتنقل الملك في أولاده إلى أن جلس الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاون، وضرب شورى على من يكون نائب السلطنة بالديار المصرية يدبر أحوال المملكة، كما كانت العادة في ذلك مدّة الدلة التركية، فأشير بتولية الأمير: بدر الدين جنكل بن البابا، فتنصل من ذلك، وأبى قبوله، فعرضت النيابة على الأمير الحاج آل مالك فاستبشر وقال: لي شروط أشرطها على السلطان، فإن أجابني إليها فعلت ما يرسم به. وهي أن لا يفعل شيء في المملكة إلا برأيي، وأن يمنع الناس من شرب الخمر، ويقام منار الشرع، ولا يعترض على أمر من الأمور، فأجيب إلى ما سأل، وأحضرت التشاريف، فأفيضت عليه بالجامع من قلعة الجبل في يوم الجمعة الثاني عشر من المحرّم سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وأصبح يوم السبت جالسا في دار النيابة من القلعة، وحكم بين الناس، وأوّل ما بدأ به: أن أمر والي القاهرة بالنزول إلى خزانة البنود، وأن يحتاط على جميع ما فيها من الخمر والفواحش، ويخرج الأسرى منها، ويهدمها حتى يجعلها دكا، ويسوّي بها الأرض، فنزل إليها ومعه الحاجب في عدّة وافرة، وهجموا على من فيها، وهم آمنون، وأحاطوا بسائر ما تشتمل عليه، وقد اجتمع من العامّة والغوغاء، ما لا يقع عليه حصر، فأراقوا منها خمورا كثيرة تتجاوز الحدّ في الكثرة، وأخرج من كان فيها من النساء البغايا، وغيرهنّ من الشباب، وأرباب الفساد، وقبض على الفرنج والأرمن، وهدمها حتى

دار الفطرة

لم يبق لها أثر، ونودي في الناس، فحكروها وبنوا فيها الدور والطواحين على ما هي علي الآن، وأمر بالأسرى، فأنزلوا بالقرب من المشهد النفيسيّ، بجوار كيمان مصرفهم هناك إلى الآن، وأنزل من كان منهم أيضا بقلعة الجبل، فأسكنوا معهم وطهر الله تلك الأرض منهم، وأراح العباد من شرّهم، فإنها كانت شرّ بقعة من بقاع الأرض يباع فيها لحم الخنزير على الوضم، كما يباع لحم الضأن، ويعصر فيها من الخمور في كل سنة ما لا يستطيع أحد حصره، حتى يقال: إنه كان يعصر بها في كل سنة: اثنان وثلاثون ألف جرّة خمر، ويباع فيها الخمر نحو: اثني عشر رطلا بدرهم إلى غير ذلك من سائر أنواع الفسوق. دار الفطرة «1» قال ابن الطوير: دار الفطرة خارج القصر، بناها: العزيز بالله، وهو أوّل من بناها، وقرّر فيها ما يعمل مما يحمل إلى الناس في العيد، وهي قبالة باب الديلم من القصر الذي يدخل منه إلى المشهد الحسينيّ، ويكون مبدأ الاستعمال فيها، وتحصيل جميع أصنافها من السكر والعسل، والقلوب، والزعفران، والطيب، والدقيق لاستقبال النصف الثاني من شهر رجب كل سنة ليلا ونهارا، من الخشكنانج والبسندود، وأصناف الفانيذ الذي يقال له: كعب الغزال، والبرماورد، والفستق، وهو شوابير مثال الصنج، والمستخدمون يرفعون ذلك إلى أماكن وسيعة مصونة فيحصل منه في الحاصل شيء عظيم هائل، بيد مائة صانع للعلاويين مقدّم، وللخشكانيين آخر، ثم يندب لها مائة فرّاش لحمل طيافير للتفرقة على أرباب الرسوم خارجا عمن هو مرتب لخدمتها من الفرّاشين الذين يحفظون رسومها ومواعينها الحاصلة بالدائم، وعدّتهم: خمسة فيحضر إليها الخليفة، والوزير معه، ولا يصحبه في غيرها من الخزائن لأنها خارج القصر، وكلها للتفرقة فيجلس على سريره بها، ويجلس الوزير على كرسي ملين على عادته في النصف الثاني من شهر رمضان، ويدخل معه قوم من الخواص، ثم يشاهد ما فيها من تلك الحواصل المعمولة المعباة مثل الجبال من كل صنف، فيفرّقها من ربع قنطار إلى عشرة أرطال إلى رطل واحد، وهو أقلها. ثم ينصرف الخليفة والوزير بعد أن ينعم على مستخدميها بستين دينارا، ثم يحضر إلى حاميها ومشارفها الأدعية «2» المعمولة المخرجة من دفتر المجلس، كل دعو لتفريق فريق من خاص، وغيره حتى لا يبقى أحد من أرباب الرسوم إلّا واسمه وارد في دعو من تلك الأدعية، ويندب صاحب الديوان الكتاب المسلمين في الديوان، فيسيرهم إلى مستخدميها، فيسلم كل كاتب دعوا أو دعوين أو ثلاثة على كثرة ما يحتويه وقلته، ويؤمر بالتفرقة من ذلك

اليوم، فيقدمون أبدا مائتي طيفور من العالي والوسط والدون، فيحملها الفرّاشون برقاع من كتاب الأدعية باسم صاحب ذلك الطيفور علا، أو دنا، وينزل اسم الفرّاش بالدعو، أو عريفه حتى لا يضيع منها شيء، ولا يختلط، ولا يزال الفرّاشون يخرجون بالطيافير ملأى ويدخلون بها فارغة، فبمقدار ما تحمل المائة الأولى عبيت المائة الثانية، فلا يفتر ذلك طول التفرقة، فأجل الطيافير ما عدد خشكنانه مائة حبة، ثم إلى سبعين وخمسين، ويكون على صاحب المائة طرحة فوق قوّارته، ثم إلى خمسين ثم إلى ثلاث وثلاثين، ثم إلى خمس وعشرين، ثم إلى عشرين، ونسبة منثور كل واحد على عدد خشكنانه، ثم العبيد السودان بغير طيافير، كل طائفة يتسلمه لها عرفاؤها في أفراد الخواص، لكل طائفة على مقدارها الثلاثة الأفراد والخمسة والسبعة إلى العشرة فلا يزالون كذلك إلى أن ينقضي شهر رمضان، ولا يفوت أحدا شيء من ذلك ويتهاداه الناس في جميع الإقليم. قال: وما ينفق في دار الفطرة فيما يفرّق على الناس منها: سبعة آلاف دينار. وقال ابن عبد الظاهر: دار الفطرة بالقاهرة قبالة مشهد الإمام الحسين عليه السلام، وهي الفندق الذي بناه الأمير سيف الدين بهادر الآن في سنة: ست وخمسين وستمائة، أوّل من رتبها الإمام العزيز بالله، وهو أوّل من سنّها، وكانت الفطرة قبل أن ينتقل الأفضل إلى مصر تعمل بالإيوان، وتفرّق منه، وعند ما تحوّل إلى مصر نقل الدواوين من القصر إليها، واستجدّ لها مكانا قبالة دار الملك بإيواني المكاتبات، والانشاء، فإنهما كانا بقرب الدار ويتوصل إليهما من القاعة الكبرى التي فيها جلوسه، ثم استجدّ للفطرة دارا عملت بعد ذلك وراقة، وهي الآن دار الأمير عز الدين الأفرم بمصر قبالة: دار الوكالة، وعملت بها الفطرة مدّة، وفرّق منها إلّا ما يخص الخليفة والجهات والسيدات والمستخدمات، والأستاذين، فإنه كان يعمل بالإيوان على العادة. ولما توفي الأفضل، وعادت الدواوين إلى مواضعها أنهى: خاصة الدولة ريحان، وكان يتولى بيت المال، إنّ المكان بالإيان يضيق بالفطرة، فأمره المأمون أن يجمع المهندسين، ويقطع قطعة من اصطبل الطارمة، يبنيه دار الفطرة، فأنشأ الدار المذكورة قبالة مشهد الحسين، والباب الذي بمشهد الحسين يعرف: بباب الديلم، وصار يعمل بها ما استجدّ من رسوم المواليد والوقودات، وعقد لها جملتان إحداهما: وجدت فسطرت، وهي عشرة آلاف دينار خارجا عن جواري المستخدمين، والجملة الثانية: فصلت فيها الأصناف، وشرحها: دقيق ألف حملة، سكر: سبعمائة قنطار، قلب فستق: ستة قناطير، قلب لوز: ثمانية قناطير، قلب بندق: أربعة قناطير، تمر: أربعمائة إردب، زبيب: ثلثمائة أردب، خل: ثلاثة قناطير، عسل نحل: خمسة عشر قنطارا، شيرج: مائتا قنطار، حطب: ألف ومائتا حملة، سمسم أردبان، آنيسون أردبان، زيت طيب برسم الوقود ثلاثون قنطارا، ماء ورد خمسون رطلا، مسك خمس نوافج، كافور قديم عشرة مثاقيل، زعفران مطحون مائة

المشهد الحسيني

وخمسون درهما، وبيد الوكيل برسم المواعين والبيض والسقائين، وغير ذلك من المؤن على ما يحاسب به، وبرفع المحازيم خمسمائة دينار. ووجدت بخط ابن ساكن قال: كان المرتب في دار الفطرة، ولها ما يذكر، وهو زيت طيب برسم القناديل خمسة عشر قنطارا: مقاطع سكندري برسم القوارات: ثلثمائة مقطع، طيافير جدد: برسم السماط ثلثمائة طيفور، شمع برسم السماط، وتوديع الأمراء ثلاثون قنطارا، أجرة الصناع ثلثمائة دينار، جاري الحامي: مائة وعشرون دينارا، جاري العامل، والمشارف مائة وثمانون دينارا، وشقة ديبقيّ، بياض حريري، ومنديل ديبقي كبير حيري، وشقة سقلاطون أندلسي يلبسها قدّام الفطرة يوم حملها ليفرّق طيافير الفطرة على الأمراء، وأرباب الرسومات، وعلى طبقات الناس حتى يعمّ الكبير والصغير، والضعيف والقوي، ويبدأ بها من أوّل رجب إلى آخر رمضان. ذكر ما اختص من صفة الطيافير: الأعلى منها: طيفور فيه مائة حبة خشكنانج وزنها مائة رطل، وخمسة عشر قطعة حلاوة زنتها مائة رطل، سكر سليمانيّ، وغيره عشرة أرطال، قلوبات ستة أرطال، بسندود عشرون حبة، كعك وزبيب وتمر قنطار، جملة الطيفور ثلاثة قناطير وثلث إلى ما دون ذلك على قدر الطبقات إلى عشر حبات. وقال ابن أبي طيّ: وعمل المعز لدين الله دارا سماها: دار الفطرة، فكان يعمل فيها من الخشكنانج، والحلواء، والبسندود، والفانيذ، والكعك والتمر والبندق شيء كثير من أوّل رجب إلى نصف رمضان، فيفرّق جميع ذلك في جميع الناس الخاص والعام على قدر منازلهم في أوان لا تستعاد، وكان قبل ليلة العيد يفرّق على الأمراء الخيول بالمراكب الذهب، والخلع النفيسة، والطراز الذهب، والثياب برسم النساء. المشهد الحسينيّ قال الفاضل محمد بن عليّ بن يوسف بن ميسر: وفي شعبان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، خرج الأفضل بن أمير الجيوش بعساكر جمة إلى بيت المقدس، وبه: سكان وابلغازي ابنا ارتق في جماعة من أقاربهما، ورجالهما وعساكر كثيرة من الأتراك، فراسلهما الأفضل يلتمس منهما تسليم القدس إليه بغير حرب، فلم يجيباه لذلك، فقاتل البلد، ونصب عليها المجانيق، وهدم منها جانبا، فلم يجدا بدّا من الإذعان له، وسلّماه إليه، فخلع عليهما، وأطلقهما، وعاد في عساكره، وقد ملك القدس، فدخل عسقلان. وكان بها مكان دارس فيه رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما فأخرجه وعطره، وحمله في سفط إلى أجلّ دار بها، وعمّر المشهد، فلما تكامل، حمل الأفضل الرأس الشريف على صدره وسعى به ماشيا إلى أن أحله في مقرّه، وقيل: إنّ المشهد

بعسقلان بناه: أمير الجيوش بدر الجماليّ، وكمله ابنه الأفضل وكان حمل الرأس إلى القاهرة من عسقلان، ووصوله إليها في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان الذي وصل بالرأس من عسقلان: الأمير سيف المملكة تميم واليها كان، والقاضي المؤتمن بن مسكين مشارفها، وحصل في القصر يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة المذكور. ويذكر أنّ هذا الرأس الشريف لما أخرج من المشهد بعسقلان وجد دمه لم يجف، وله ريح كريح المسك، فقدم به الأستاذ مكنون في عشاري «1» من عشاريات الخدمة، وأنزل به إلى الكافوري، ثم حمل في السرداب إلى قصر الزمرّذ، ثم دفن عند قبة الديلم بباب دهليز الخدمة، فكان كل من يدخل الخدمة يقبل الأرض أمام القبر، وكانوا ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر الإبل والبقر والغنم، ويكثرون النوح والبكاء، ويسبون من قتل الحسين، ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم. وقال ابن عبد الظاهر: مشهد الإمام الحسين صلوات الله عليه، قد ذكرنا أن طلائع بن رزيك المنعوت بالصالح، كان قد قصد نقل الرأس الشريف من عسقلان لما خاف عليها من الفرنج، وبنى جامعه خارج باب زويلة ليدفنه به، ويفوز بهذا الفخار، فغلبه أهل القصر على ذلك، وقالوا: لا يكون ذلك إلّا عندنا، فعمدوا إلى هذا المكان، وبنوه له، ونقلوا الرخام إليه، وذلك في خلافة الفائز على يد طلائع في سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وسمعت من يحكي حكاية يستدل بها على بعض شرف هذا الرأس الكريم المبارك، وهي أن السلطان الملك الناصر رحمه الله، لما أخذ هذا القصر وشى إليه بخادم له قدر في الدولة المصرية، وكان زمام القصر، وقيل له: إنه يعرف الأموال التي بالقصر والدفائن، فأخذ وسئل، فلم يجب بشيء، وتجاهل، فأمر صلاح الدين نوّابه بتعذيبه، فأخذه متولي العقوبة، وجعل على رأسه خنافس وشدّ عليها قرمزية، وقيل: إن هذه أشدّ العقوبات، وإنّ الإنسان لا يطيق الصبر عليها ساعة إلّا تنقب دماغه وتقتله ففعل ذلك به مرارا، وهو لا يتأوّه، وتوجد الخنافس ميتة، فعجب من ذلك، وأحضره، وقال له: هذا سرّ فيك، ولا بدّ أن تعرّفني به؟ فقال: والله ما سبب هذا إلا أني لما وصلت رأس الإمام الحسين حماتها، قال: وأيّ سرّ أعظم من هذا وراجع في شأنه فعفا عنه. ولما ملك السلطان الملك الناصر جعل به حلقة تدريس وفقهاء، وفوّضها للفقيه البهاء الدمشقيّ، وكان يجلس للتدريس عند المحراب الذي الضريح خلفه، فلما وزر معين الدين

حسين بن شيخ الشيوخ بن حمويه، وردّ إليه أمر هذا المشهد بعد إخوته، جمع من أوقاته ما بنى به إيوان التدريس الآن، وبيوت الفقهاء العلوية خاصة، واحترق هذا المشهد في الأيام الصالحية في سنة بضع وأربعين وستمائة، وكان الأمير جمال الدين بن يعمور نائبا عن الملك الصالح في القاهرة، وسببه أن أحد خزان الشمع دخل ليأخذ شيئا، فسقطت منه شعلة، فوقف الأمير جمال الدين المذكور بنفسه حتى طفىء وأنشدته حينئذ فقلت: قالوا تعصب للحسين ولم يزل ... بالنفس للهول المخوف معرّضا حتى انضوى ضوء الحرق وأصبح ال ... مسودّ من تلك المخاوف أبيضا أرضى الإله بما أتى فكأنه ... بين الأنام بفعله موسى الرضى قال: ولحفظة الآثار، وأصحاب الحديث، ونقلة الأخبار ما إذا طولع وقف منه على المسطور، وعلم منه ما هو غير المشهور، وإنما هذه البركات مشاهدة مرئية، وهي بصحة الدعوى ملية، والعمل بالنية. وقال في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم، ومن جملة مبانيه الميضأة قريب مشهد الإمام الحسين بالقاهرة والمسجد والساقية، ووقف عليها أراضي قريب الخندق في ظاهر القاهرة، ووقفها دارّ جار، والانتفاع بهذه المثوبة عظيم، ولما هدم المكان الذي بنى موضعه مئذنة وجد فيه شيء من طلسم لم يعلم لأيّ شيء هو، فيه اسم الظاهر بن الحاكم، واسم أمّه رصد. خبر الحسين: هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، أبو عبد الله، وأمّه فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع، وقيل: سنة ثلاث، وعق عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم سابعه بكبش، وحلق رأسه، وأمر أن يتصدّق بزنته فضة، وقال: أروني ابني ما سميتموه؟ فقال عليّ بن أبي طالب: حربا، فقال: بل هو حسين وكان أشبه الناس بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما كان أسفل من صدره، وكان فاضلا دينا كثير الصوم والصلاة والحج، وقتل يوم الجمعة لعشر خلون من المحرّم يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين من الهجرة بموضع يقال له: كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة، ويعرف الموضع أيضا: بالطف، قتله سنان بن أنس اليحصبي «1» ، وقيل: قتله رجل من مذحج، وقيل: قتله شمر بن ذي الجوشن، وكان أبرص، وأجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحيّ من حمير، حزّ رأسه، وأتى عبيد الله بن زياد، وقال: أوقر ركابي فضة وذهبا ... إني قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أمّا وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا وقيل: قتله عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وكان الأمير على الخيل التي أخرجها عبيد الله بن زياد إلى قتل الحسين، وأمّر عليهم: عمرو بن سعد، ووعده أن يوليه الريّ إن ظفر بالحسين وقتله. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما يرى النائم نصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين لم أزل ألتقطه منذ اليوم، فوجدته قد قتل في ذلك اليوم، وهذا البيت زعموا قديما لا يدرى قائله: أترجو أمّه قتلت حسينا ... شفاعة جدّه يوم الحساب وقتل مع الحسين: سبعة عشر رجلا كلهم من ولد فاطمة، وقد قتل معه من أهل بيته، وإخوته ثلاثة وعشرون رجلا. وكان سبب قتله أنه لما مات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في سنة ستين، وردت بيعة اليزيد على الوليد بن عقبة بالمدينة، ليأخذ البيعة على أهلها، فأرسل إلى الحسين بن عليّ، وإلى عبد الله بن الزبير ليلا فأتى بهما، فقال: بايعا، فقالا: مثلنا لا يبايع سرّا، ولكنا نبايع على رؤوس الناس إذا أصبحنا، فرجعا إلى بيوتهما، وخرجا من ليلهما إلى مكة، وذلك ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب، فأقام الحسين بمكة شعبان ورمضان وشوّالا وذو القعدة، وخرج يوم التروية يريد الكوفة، وبكتب أهل العراق. فلما بلغ عبيد الله بن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين بن تميم «1» التميمي صاحب شرطته، فنزل القادسية، ونظم الخيل ما بينها، وبين جبل لعلع، فبلغ الحسين الحاجز له عن البلاد فكتب إلى أهل الكوفة، يعرّفهم بقدومه مع قيس بن مسهر، فظفر به الحصين، وبعث به إلى ابن زياد فقتله، وأقبل الحسين يسير نحو الكوفة، فأتاه خبر قتل مسلم بن عقيل، وخبر قتل أخيه من الرضاعة «2» ، فقام حتى أعلم الناس بذلك وقال: قد خذلنا شيعتنا، فمن أحب أن يتصرف، فليتصرف، فليس عليه ذمام منا فتفرّقوا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة وسار، فأدركته الخيل، وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميميّ. ونزل الحسين، فوقفوا تجاهه وذلك في نحر الظهيرة، فسقى الحسين الخيل، وحضرت صلاة الظهر، فأذن مؤذنه وخرج، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنها

معذرة إلى الله، وإليكم إني لم آتكم، حتى أتتني كتبكم ورسلكم، أن أقدم علينا، فليس لنا إمام، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى، وقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه فسكتوا، وقال للمؤذن: أقم، فأقام وقال الحسين للحرّ: أتريد أن تصلي أنت بأصحابك؟ قال: بل صلّ أنت، ونصلي بصلاتك، فصلى بهم، ودخل فاجتمع إليه أصحابه وانصرف الحرّ إلى مكانه، ثم صلى بهم العصر، واستقبلهم فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم السائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم، فقال الحرّ: إنا والله ما ندري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر، فأخرج خرجين مملوءين صحفا، فنشرها بين أيديهم، فقال الحرّ: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم أمر أصحابه لينصرفوا فركبوا، فمنعهم الحرّ من ذلك، فقال له الحسين: ثكلتك أمّك ما تريد، فقال له: والله لو كان غيرك من العرب يقولها، ما تركت ذكر أمّه بالثكل كائنا من كان، والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما نقدر عليه، فقال له الحسين: ما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى ابن زيادة، وترادّ الكلام، فقال له الحرّ: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أدخلك الكوفة، فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة، ولا تزول إلى المدينة، حتى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد، أو إلى ابن زياد، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، والحرّ يسايره. فلما كان يوم الجمعة الثالث من المحرّم سنة إحدى وستين، قدم عمرو بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف، وبعث إلى الحسين رسولا يسأله ما الذي جاء به، فقال: كتب إليّ أهل مصر كم هذا أن أقدم عليهم، فإذا كرهوني، فأنا أنصرف عنهم، فكتب عمرو إلى ابن زياد يعرّفه ذلك، فكتب إليه أن يعرض على الحسين بيعة يزيد، فإن فعل رأينا فيه رأينا، وإلّا نمنعه، ومن معه الماء، فأرسل عمرو بن سعد خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة، وحالوا بين الحسين، وبين الماء، وذلك قبل قتله بثلاثة أيام، ونادى مناد: يا حسين ألا تنظر الماء لا ترى منه قطرة حتى تموت عطشا، ثم التقى الحسين بعمرو بن سعد مرارا، فكتب عمرو بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: أما بعد، فإنّ الله قد أطفأ الثائرة، وجمع الكلمة، وقد أعطاني الحسين أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه، أو أن تسيره إلى أيّ ثغر من الثغور شاء، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين، فيضع يده في يده، وفي هذا الكم رضى، وللأمّة صلاح.

فقال ابن زياد لشمر بن ذي الجوشن: اخرج بهذا الكتاب إلى عمرو فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم، وإن أبوا، فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له، وأطع وإن أبى فأنت الأمير عليه، وعلى الناس، واضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. وكتب إلى عمرو بن سعد: أمّا بعد، فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه، ولا لتنميه، ولا لتطاوله ولا لتقعد له عندي شافعا أنظر، فإنّ نزل حسين وأصحابه على الحكم، واستسلموا فابعث بهم إليّ سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم، وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل الحسين، فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنه عاق شاق قاطع ظلوم، فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت، فاعتزل جندنا، وخل بين شمر وبين العسكر والسلام. فلما أتاه الكتاب ركب والناس معه بعد العصر، فأرسل إليهم الحسين: ما لكم؟ فقالوا: جاء أمر الأمير بكذا، فاستمهلهم إلى غدوة، فلما أمسوا، قام الحسين ومن معه الليل كله يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون، فلما صلى عمرو بن سعد الغداة يوم السبت، وقيل: يوم الجمعة يوم عاشوراء، خرج فيمن معه، وعبىء الحسين أصحابه، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا، وأربعون راجلا، وركب ومعه مصحف بين يديه وضعه أمامه، واقتتل أصحابه بين يديه، وأخذ عمرو بن سعد سهما، فرمى به، وقال: اشهدوا أنّي أوّل من رمى الناس، وحمل أصحابه فصرعوا رجالا، وأحاطوا بالحسين من كل جانب، وهم يقاتلون قتالا شديدا، حتى انتصف النهار، ولا يقدرون يأتونهم إلّا من وجه واحد، وحمل شمر حتى بلغ فسطاط الحسين، وحضر وقت الصلاة، فسأل الحسين أن يكفوا عن القتال حتى يصلي، ففعلوا، ثم اقتتلوا بعد الظهر أشدّ قتال، ووصل إلى الحسين، وقد صرعت أصحابه، ومكث طويلا من النهار، كلما انتهى إليه رجل من الناس رجع عنه، وكره أن يتولى قتله. فأقبل عليه رجل من كندة يقال له: مالك فضربه على رأسه بالسيف، قطع البرنس وأدماه، فأخذ الحسين دمه بيده، فصبه في الأرض ثم قال: اللهمّ إن كنت حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم من هؤلاء الظالمين، واشتدّ عطشه، فدنا ليشرب فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع في فمه، فتلقى الدم بيده، ورمى به إلى السماء، ثم قال بعد حمد الله والثناء عليه: اللهمّ إني أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك، اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا، ولا تبقى منهم أحدا، فأقبل شمر في نحو عشرة إلى منزل الحسين، وحالوا بينه وبين رحله، وأقدم عليه وهو يحمل عليهم، وقد بقي في ثلاثة، ومكث طويلا من النهار ولو شاءوا أن يقتلوه لقتلوه، ولكنهم كان يتقي

بعضهم ببعض، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء. فنادى شمر في الناس: ويحكم؟ ما تنتظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمّكم! فحملوا عليه من كل جانب، فضرب زرعة بن شريك التميمي كفه الأيسر، وضرب عاتقه، وهو يقوم ويكبو، فحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس النخعيّ، فطعنه بالرمح، فوقع وقال لخولي بن يزيد الأصبحيّ: احتز رأسه، فأرعد وضعف، فنزل عليه، وذبحه، وأخذ رأسه، فدفعه إلى خولي، وسلب الحسين ما كان عليه حتى سراويله، ومال الناس، فانتهبوا ثقله ومتاعه، وما على النساء. ووجد بالحسين: ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وأربعون ضربة، ونادى عمرو بن سعد في أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه، فانتدى عشر فداسوا الحسين بخيولهم، حتى رضوا ظهره وصدره، وكان عدّة من قتل معه: اثنين وسبعين رجلا، ومن أصحاب عمرو بن سعد: ثمانية وثمانين رجلا غير الجرحى، ودفن أهل الغاضرية من بني أسد الحسين بعد قتله بيوم وبعد أن أخذ عمرو بن سعد رأسه، ورؤوس أصحابه وبعث بها إلى ابن زياد، فأحضر الرءوس بين يديه، وجعل ينكث بقضيب ثنايا الحسين، وزيد بن أرقم حاضر، وأقام ابن سعد بعد قتل الحسين يومين، ثم رحل إلى الكوفة، ومعه ثياب الحسين وإخوانه، ومن كان معه من الصبيان، وعليّ بن الحسين مريض، فأدخلهم على زياد، ولما مرّت زينب بالحسين صريعا صاحت: يا محمداه هذا حسين بالعراء! مزمل بالدماء! مقطع الأعضاء! يا محمد بناتك سبايا، وذريتك مقتلة فأبكت كل عدوّ وصديق، وطيف برأسه بالكوفة على خشبة، ثم أرسل بها إلى يزيد بن معاوية، وأرسل النساء والصبيان، وفي عنق عليّ بن الحسين ويديه الغل، وحملوا على الأقتاب، فدخل بعض بني أمة على يزيد، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين، فقد أمكنك الله من عدوّ الله، وعدوّك قد قتل، ووجه برأسه إليك، فلم يلبث إلّا أياما حتى جيء برأس الحسين، فوضع بين يدي يزيد في طشت، فأمر الغلام فرفع الثوب الذي كان عليه، فحين رآه خمر وجهه بكمه كأنه شمّ منه رائحة، وقال: الحمد لله الذي كفانا المؤنة بغير مؤنة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأ الله، قالت ريّا حاضنة يزيد، فدنوت منه، فنظرت إليه وبه ردغ من حناء، والذي أذهب نفسه، وهو قادر على أن يغفر له، لقد رأيته يقرع ثناياه بقضيب في يده، ويقول أبياتا من شعر ابن الزبعري، ومكث الرأس مصلوبا بدمشق ثلاثة أيام، ثم أنزل في خزائن السلاح، حتى ولي سليمان بن عبد الملك الملك، فبعث إليه، فجيء به، وقد محل، وبقي عظما أبيض، فجعله في سفط، وطيبه وجعل عليه ثوبا، ودفنه في مقابر المسلمين. فلما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى خازن بيت السلاح أن وجه إليّ برأس الحسين ابن عليّ، فكتب إليه: إنّ سليمان أخذه وجعله في سفط، وصلى عليه، ودفنه، فلما دخلت

ما كان يعمل في يوم عاشوراء

المسودّة سألوا عن موضع الرأس الكريمة الشريفة، فنبشوه وأخذوه، والله أعلم ما صنع به. وقال السريّ: لما قتل الحسين بن عليّ بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرتها، وعن عطاء في قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ [الدخان/ 29] قال: بكاؤها حمرة أطرافها. وعن عليّ بن مسهر قال: حدّثتني جدّتي قالت: كنت أيام الحسين جارية شابة، فكانت السماء أياما كأنها علقة. وعن الزهري بلغني: أنه لم يقلب حجر من أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين إلّا وجد تحته دم عبيط. ويقال: إنّ الدنيا أظلمت يوم قتل ثلاثا، ولم يمس أحد من زعفرانهم شيئا، فجعله على وجهه إلّا احترق وأنهم أصابوا إبلا في عسكر الحسين يوم قتل، فنحروها وطبخوها فصارت مثل العلقم، فما استطاعوا أن يسيغوا منها شيئا، وروي: أن السماء أمطرت دما، فأصبح كل شيء لهم ملآن دما. ما كان يعمل في يوم عاشوراء قال ابن زولاق في كتاب سيرة المعز لدين الله في يوم عاشوراء من سنة ثلاث وستين وثلثمائة، انصرف خلق من الشيعة، وأشياعهم إلى المشهدين: قبر كلثوم ونفيسة، ومعهم جماعة من فرسان المغاربة، ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين عليه السلام، وكسروا أواني السقائين في الأسواق، وشققوا الروايا، وسبوا من ينفق في هذا اليوم، ونزلوا حتى بلغوا مسجد الريح، وثارت عليهم جماعة من رعية أسفل، فخرج أبو محمد الحسين بن عمار، وكان يسكن هناك في دار محمد بن أبي بكر، وأغلق الدرب، ومنع الفريقين، ورجع الجميع، فحسن موقع ذلك عند المعز، ولولا ذلك لعظمت الفتنة، لأنّ الناس قد غلقوا الدكاكين وأبواب الدور، وعطلوا الأسواق، وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعز بمصر، وقد كانت مصر لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية، والكافورية في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم، وقبر نفيسه؟ وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة، وتتعلق السودان في الطرقات بالناس، ويقولون للرجل: من خالك؟ فإن قال: معاوية، أكرموه، وإن سكت لقي المكروه، وأخذت ثيابه، وما معه حتى كان كافور قد وكل بالصحراء ومنع الناس من الخروج. وقال المسبحيّ: وفي يوم عاشوراء، يعني من سنة ست وتسعين وثلثمائة جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق، وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة، ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد ثم جمع بعد هذا اليوم قاضي القضاة عبد العزيز من النعمان، سائر المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال لهم: لا تلزموا الناس أخذ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم، ولا تؤذوهم، ولا تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء، ثم اجتمع بعد ذلك طائفة منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد

الصلاة، وأنشدوا، وخرجوا على الشارع بجمعهم، وسبّوا السلف، فقبضوا على رجل، ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة، وزوجها صلّى الله عليه وسلّم، وقدّم الرجل بعد النداء، وضرب عنقه. وقال ابن المأمون: وفي يوم عاشوراء، يعني من سنة خمس عشرة وخمسمائة عبىء السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر، التي كان يسكنها الأفصل بن أمير الجيوش، وهو السماط المختص بعاشوراء، وهو يعبئ في غير المكان الجاري به العادة في الأعياد، ولا يعمل مدورة خشب بل سفرة كبيرة من أدم، والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس، وجميع الزبادي أجبان، وسلائط ومخللات، وجميع الخبز من شعير، وخرج الأفضل من باب فردالكم، وجلس على بساط صوف من غير مشورة، واستفتح المقرئون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم، وحمل السماط لهم، وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر السماط عدس أسود، ثم بعده عدس مصفى إلى آخر السماط، ثم رفع وقدّمت صحون جميعها عسل نحل. ولما كان يوم عاشوراء من سنة ست عشرة وخمسمائة جلس الخليفة الآمر بأحكام الله على باب الباذهنج يعني من القصر بعد قتل الأفضل وعود الأسمطة إلى القصر على كرسيّ جريد بغير مخدّة متلثما هو وجميع حاشيته، فسلم عليه الوزير المأمون وجميع الأمراء الكبار، والصغار بالقيراميز، وأذن للقاضي، والداعي، والأشراف، والأمراء بالسلام عليه، وهم بغير مناديل ملثمون حفاة، وعبىء السماط في غير موضعه المعتاد، وجميع ما عليه خبز الشعير والحواضر على ما كان في الأيام الأفضلية، وتقدّم إلى والي مصر والقاهرة بأن لا يمكنا أحدا من جمع ولا قراءة مصرع الحسين، وخرج الرسم المطلق للمتصدّرين والقرّاء الخاص، والوعاظ، والشعراء، وغيرهم على ما جرت به عادتهم. قال: وفي ليلة عاشوراء من سنة سبع عشرة وخمسمائة: اعتمد الأجل الوزير المأمون على السنة الأفضلية من المضيّ فيها إلى التربة الجيوشية، وحضور جميع المتصدّرين، والوعاظ، وقرّاء القرآن إلى آخر الليل، وعوده إلى داره، واعتمد في صبيحة الليلة المذكورة مثل ذلك، وجلس الخليفة على الأرض متلثما يرى به الحزن، وحضر من شرف بالسلام عليه، والجلوس على السماط بما جرت به العادة. قال ابن الطوير: إذا كان اليوم العاشر من المحرّم: احتجب الخليفة عن الناس فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة، والشهود، وقد غيروا زيهم فيكونون كما هم اليوم، ثم صاروا إلى المشهد الحسينيّ، وكان قبل ذلك يعمل في الجامع الأزهر، فإذا جلسوا فيه، ومن معهم من قرّاء الحضرة، والمتصدّرين في الجوامع جاء الوزير، فجلس صدرا، والقاضي والداعي من جانبيه، والقرّاء يقرءون نوبة بنوبة، وينشد قوم من الشعراء غير شعراء الخليفة شعرا

ذكر أبواب القصر الكبير الشرقي

يرثون به أهل البيت عليهم السلام، فإن كان الوزير رافضيا تغالوا، وإن كان سنيا اقتصدوا، ولا يزالون كذلك إلى أن تمضي ثلاث ساعات، فيستدعون إلى القصر بنقباء الرسائل، فيركب الوزير، وهو بمنديل صغير إلى داره، ويدخل قاضي القضاة والداعي، ومن معهما إلى باب الذهب، فيجدون الدهاليز قد فرشت مصاطبها بالحصر بدل البسط، وينصب في الأماكن الخالية من المصاطب دكك لتلحق بالمصاطب لتفرش، ويجدون صاحب الباب جالسا هناك، فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم، فيقرأ القرّاء وينشد المنشدون أيضا ثم يفرش عليهم سماط الحزن مقدار ألف زبدية من العدس، والملوحات، والمخللات، والأجبان والألبان الساذجة والأعسال النحل، والفطير والخبز المغير لونه، فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب، وصاحب المائدة، وأدخل الناس للأكل منه، فيدخل القاضي والداعي، ويجلس صاحب الباب نيابة عن الوزير، والمذكوران إلى جانبه، وفي الناس من لا يدخل، ولا يلزم أحد بذلك، فإذا فرغ القوم انفصلوا إلى أماكنهم ركبانا بذلك الزي الذي ظهروا فيه، وطاف النوّاح بالقاهرة ذلك اليوم، وأغلق البياعون حوانيتهم إلى جواز العصر، فيفتح الناس بعد ذلك أو يتصرّفون. ذكر أبواب القصر الكبير الشرقي وكان لهذا القصر الكبير الشرقيّ تسعة أبواب أكبرها وأجلها: باب الذهب، ثم باب البحر، ثم باب الريح، ثم باب الزمرّذ، ثم باب العيد، ثم باب قصر الشوك، ثم باب الديلم، ثم باب تربة الزعفران، ثم باب الزهومة. باب الذهب «1» : وهو باب القصر الذي تدخل منه العساكر، وجميع أهل الدولة في يومي الاثنين والخميس للموكب المقدّم ذكره بقاعة الذهب. قال ابن أبي طيء عن المعز لدين الله: أنه لما خرج من بلاد المغرب أخرج أموالا كانت له ببلاد المغرب، وأمر بسبكها أرحية كأرحية الطواحين، وأمر بها حين دخل إلى مصر فألقيت على باب قصره، وهي التي كان الناس يسمونها: الحشرات، ولم تزل على باب القصر إلى أن كان زمن الغلاء في أيام الخليفة المستنصر بالله، فلما ضاق بالناس الأمر أذن لهم أن يبردوا منها بمبارد، فاتخذ الناس مبارد حادّة وغرّهم الطمع، حتى ذهبوا بأكثرها، فأمر بحمل الباقي إلى القصر فلم تر بعد ذلك. وقال ابن ميسر: إن المعز لما قدم إلى القاهرة كان معه مائة جمل عليها الطواحين من الذهب، وقال غيره: كانت خمسمائة جمل على كل جمل: ثلاثة أرحية ذهبا، وإنه عمل

عضادتي الباب من تلك الأرحية واحدة فوق أخرى، فسمي: باب الذهب. جلوس الخليفة في الموالد بالمنظرة علو باب الذهب: قال ابن المأمون في أخبار سنة ست عشرة وخمسمائة: وفي الثاني عشر من المحرّم، كان المولد الآمريّ، واتفق كونه في هذا الشهر يوم الخميس، وكان قد تقرّر أن يعمل أربعون صينية خشكنانج، وحلوى وكعك، وأطلق برسم المشاهد المحتوية على الضرائح الشريفة لكل مشهد سكر وعسل ولوز ودقيق وشيرج، وتقدّم بأن يعمل خمسمائة رطل حلوى، وتفرّق على المتصدّرين، والقرّاء والفقراء للمتصدّرين، ومن معهم في صحون، وللفقراء على أرغفة السميذ، ثم حضر في الليلة المذكورة القاضي والداعي، والشهود، وجميع المتصدّرين وقرّاء الحضرة، وفتحت الطاقات التي قبليّ باب الذهب، وجلس الخليفة وسلموا عليه، ثم خرج متولي بيت المال بصندوق مختوم، ضمنه عينا مائة دينار، وألف وثمانمائة وعشرون درهما برسم أهل القرافة، وساكنيها وغيرهم، وفرّقت الصواني بعد ما حمل منها للخاص، وزمام القصر ومتولي الدفتر خاصة وإلى دار الوزارة، والأجلاء الأخوة، والأولاد، وكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب، والقاضي والداعي، ومفتي الدولة ومتولي دار العلم، والمقرئين الخاص، وأئمة الجوامع بالقاهرة ومصر، وبقية الأشراف. قال: وخرج الآمر، يعني في سنة سبع عشرة وخمسمائة بإطلاق ما يخص المولد الآمريّ برسم المشاهد الشريفة من سكر وعسل وشيرج ودقيق، وما يصنع مما يفرّق على المساكين بالجامعين الأزهر بالقاهرة، والعتيق بمصر، وبالقرافة خمسة قناطير حلوى وألف رطل دقيق، وما يعمل بدار الفطرة، ويحمل للأعيان، والمستخدمين من بعد القصور، والدار المأمونية صينية خشكنانج، وحضر القاضي والداعي، والمستخدمون بدار العيد، والشهود في عشية اليوم المذكور، وقطع سلوك الطريق بين القصرين، وجلس الخليفة في المنظرة، وقبلوا الأرض بين يديه، والمقرئون الخاص جميعهم يقرءون القرآن وتقدّم الخطيب، وخطب خطبة وسع القول فيها، وذكر الخليفة والوزير، ثم حضر من أنشد، وذكر فضيلة الشهر والمولود فيه، ثم خرج متولي بيت المال، ومعه صندوق من مال النجاوي خاصة مما يفرّق على الحكم المتقدّم ذكره. قال: واستهلّ ربيع الأوّل، ونبدأ بما شرّف به الشهر المذكور، وهو ذكر مولد سيد الأوّلين والآخرين محمد صلّى الله عليه وسلّم لثلاث عشرة منه، وأطلق ما هو برسم الصدقات من مال النجاوي خاصة ستة آلاف درهم، ومن الأصناف من دار الفطرة أربعون صينية فطرة، ومن الخزائن برسم المتولين، والسدنة للمشاهد الشريفة التي بين الجبل والقرافة التي فيها أعضاء آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولوز عسل، وشيرج لكل مشهد، وما يتولى تفرقته: سنا الملك ابن ميسر أربعمائة رطل حلاوة، وألف رطل خبز. قال: وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الوالد الأربعة: النبويّ، والعلويّ،

والفاطميّ، والإمام الحاضر، وما يهتمّ به، وقدم العهد به حتى نسي ذكرها، فأخذ الأستاذون يجدّدون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله، ويردّدون الحديث معه فيها، ويحسنون له معارضة الوزير بسببها، وإعادتها، وإقامة الجواري والرسوم فيها، فأجاب إلى ذلك، وعمل ما ذكر. وقال ابن الطوير: ذكر جلوس الخليفة في الموالد الستة في تواريخ مختلفة، وما يطلق فيها، وهي مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ومولد فاطمة عليها السلام، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد الخليفة الحاضر، ويكون هذا الجلوس في المنظرة التي هي أنزل المناظر، وأقرب إلى الأرض قبالة دار فخر الدين جهاركس، والفندق المستجدّ، فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل، تقدّم بأن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطارا من السكر اليابس حلواء يابسة من طرائفها، وتعبى في ثلثمائة صينية من النحاس، وهو مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فتفرّق تلك الصواني في أرباب الرسوم من أرباب الرتب، وكل صينية في قوارة من أوّل النهار إلى ظهره. فأوّل أرباب الرسوم قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة، ويدخل في ذلك القرّاء بالحضرة، والخطباء والمتصدّرون بالجوامع بالقاهرة، وقومة المشاهد، ولا يخرج ذلك مما يتعلق بهذا الجانب بدعو يخرج من دفتر المجلس كما قدّمناه، فإذا صلى الظهر ركب قاضي القضاة، والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر، ومعهم أرباب تفرقة الصواني، فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعي قاضي القضاة، ومن معه فإن كانت الدعوة مضافة إليه، وإلّا حضر الداعي معه بنقباء الرسائل، فيركبون ويسيرون إلى أن يصلوا إلى آخر المضيق من السيوفيين قبل الابتداء بالسلوك بين القصرين، فيقفون هناك، وقد سلكت الطريق على السالكين من الركن المخلق، ومن سويقة أمير الجيوش عند الحوض هناك، وكنست الطريق فيما بين ذلك، ورشت بالماء رشا خفيفا، وفرش تحت المنظرة المذكورة بالرمل الأصفر. ثم يستدعى صاحب الباب من دار الوزارة، ووالي القاهرة ماض، وعائد لحفظ ذلك اليوم من الازدحام على نظر الخليفة، فيكون بروز صاحب الباب من الركن المخلق هو وقت استدعاء القاضي ومن معه من مكان وقوفهم، فيقربون من المنظرة، يترجلون قبل الوصول إليها بخطوات، فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانية بسمت وتشوّف لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات، فيظهر منها وجهه، وما عليه من المنديل، وعلى رأسه عدّة من الأستاذين المحنكين، وغيرهم من الخواص منهم، ويفتح بعض الأستاذين طاقة، ويخرج منها رأسه ويده اليمنى في كمه، ويشير به قائلا: أمير المؤمنين يردّ عليكم السلام، فيسلم بقاضي القضاة أوّلا بنعوته وبصاحب الباب بعده كذلك، وبالجماعة الباقية جملة جملة

من غير تعيين أحد، فيستفتح قرّاء الحضرة بالقراءة ويكونون قياما في الصدر وجوههم للحاضرين، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقدّم خطيب الجامع الأنور المعروف بجامع الحاكم، فيخطب كما يخطب فوق المنبر إلى أن يصل إلى ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: وإنّ هذا يوم مولده إلى ما منّ الله به على ملة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يؤخر ويقدّم خطيب الجامع الأزهر، فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك، والقرّاء في خلال خطابة الخطباء يقرءون. فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الأستاذ رأسه، ويده في كمه من طاقته، وردّ على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاغتان، فتنفض الناس ويجري أمر الموالد الخمسة الباقية على هذا النظام إلى حين فراغها على عدّتها من غير زيادة ولا نقص، انتهى. وهذا الباب صار بعد زوال الدولة الفاطمية يقابل دار الأمير فخر الدين جهاركس الصلاحيّ التي عرفت بعد ذلك بالدار القطبية، وهي الآن المارستان المنصوري، وصار موضع هذا الباب محراب مدرسة الظاهر ركن الدين بيبرس. باب البحر «1» : هو من إنشاء الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور، وهدم في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، وشوهد فيه أمر عجيب. قال جامع السيرة الظاهرية: لما كان يوم عاشوراء يعني من سنة اثنتين وسبعين وستمائة رسم بنقض علو أحد أبواب القصر المسمى بباب البحر، قبالة المدرسة دار الحديث الكاملية لأجل نقل عمدة فيه لبعض العمائر السلطانية، فظهر صندوق في حائط مبنيّ عليه، فللوقت أحضرت الشهود وجماعة كثيرة، وفتح الصندوق، فوجد فيه صورة من نحاس أصفر مفرغ على كرسيّ شبه الهرام، ارتفاعه قدر شبر له أربعة أرجل تحمل الكرسيّ، والصنم جالس متورّكا، وله يدان مرفوعتان ارتفاعا جيدا يحمل صحيفة دورها: قدر ثلاثة أشبار، وفي هذه الصحيفة أشكال ثابتة، وفي الوسط صورة رأس بغير جسد، ودائرة مكتوب كتابة بالقبطيّ، وبالقلفطيريات وإلى جانبها في الصحيفة شكل له قرنان يشبه شكل السنبلة، وإلى الجانب الآخر شكل آخر، وعلى رأسه صليب، والآخر في يده عكاز، وعلى رأسه صليب، وتحت أرجلهم أشكال طيور، وفوق رؤوس الأشكال كتابة، ووجد مع هذا الصنم في الصندوق لوح من ألواح الصبيان التي يكتبون فيها بالمكاتب مدهون وجهه الواحد أبيض، ووجهه الواحد أحمر، وفيه كتابة قد تكشط أكثرها من طول المدّة، وقد بلي اللوح وما بقيت الكتابة تلتئم، ولا الخط يفهم. وهذا نص ما فيه، وأخليت مكان كتابته التي تكشطت، وأمّا الوجه الأبيض: فهو

مكتوب بقلم الصحيفة القبطيّ، والمكتوب في الوجه الأحمر على هذه الصورة: السطر الأوّل بقي منه مكتوبا الإسكندر «1» ، السطر الثاني: الأرض وهبها له، السطر الثالث: وجرب لكل «2» ، السطر الرابع: أصحاب «3» ، السطر الخامس: وهو يحرس «4» ، السطر السادس: واحترازه بقوّة، السطر السابع: الملك مرجو، وأبواب السطر الثامن غير بيته سبعة «5» ، السطر التاسع: عالم حكيم عالم في عقله، السطر العاشر: وصفها فلا تفسد، السطر الحادي عشر: طارد كل سوء، والذي صاغها النساء، السطر الثاني: عشر سد أيضا كل آثار اسدية بيبرس، وهي أحد «6» ، السطر الثالث عشر: بيبرس ملك الزمان والحكمة كلمة الله عز وجل، هذا صورة ما وجد في اللوح مما بقي من الكتابة والبقية قد تكشط. وقيل: إنّ هذا اللوح بخط الخليفة الحاكم، وأعجب ما فيه اسم السلطان، وهو بيبرس، ولما شاهد السلطان ذلك: أمر بقراءته، فعرض على قرّاء الأقلام، فقرىء، وذلك بالقلم القبطيّ، ومضمونه طلسم عمل للظاهر بن الحاكم، واسم أمّه رصد، وفيه أسماء الملائكة، وعزائم ورقي وأسماء روحانية، وصور ملائكة أكثره حرس لديار مصر وثغورها، وصرف الأعداء عنها، وكفهم عن طروقهم إليها، وابتهال إلى الله تعالى بأقسام كثيرة لحماية الديار المصرية، وصونها من الأعداء، وحفظها من كل طارق من جميع الأجناس، وتضمن هذا الطلسم: كتابة بالقلفطيريات، وأوفاقا، وصورا، وخواص لا يعلمها إلّا الله تعالى، وحمل هذا الطلسم إلى السلطان، وبقي في ذخائره. قال: ورأيت في كتاب عتيق رث سماه مصنفه: وصية الإمام العزيز بالله، والد الإمام الحاكم بأمر الله لولده المذكور، وقد ذكر فيه الطلسمات التي على أبواب القصر، ومن جملتها: إنّ أوّل البروج: الحمل، وهو بيت المريخ وشرف الشمس، وله القوّة على جميع سلطان الفلك، لأنه صاحب السيف، واسفهسلارية العسكر بين يدي الشمس الملك، وله الأمر والحرب والسلطان والقوّة، والمستولي لقوّة روحانيته على مدينتنا، وقد أقمنا طلسما لساعته ويومه لقهر الأعداء، وذل المنافقين في مكان أحكمناه على إشرافه عليه، والحصن الجامع لقصر مجاور الأوّل باب بنيناه، هذا نص ما رأيته، انتهى. ولعل معنى كتابة بيبرس في هذا اللوح إشارة إلى أن هدم هذا الباب يكون على زمان بيبرس، فإنّ القوم كانت لهم معارف كثيرة، وعنايتهم بهذا الفنّ وافرة كبيرة، والله أعلم، وموضع باب البحر هذا اليوم يعرف: بباب قصر بشتاك، قبالة المدرسة الكاملية. باب الريح «7» : كان على ما أدركته تجاه سور سعيد السعداء على يمنة السالك من

الركن المخلق إلى رحبة باب العيد، وكان بابا مربعا، يسلك فيه من دهليز مستطيل مظلم إلى حيث المدرسة السابقية، ودار الطواشي سابق الدين، وقصر أمير السلاح، وينتهي إلى ما بين القصرين تجاه حمام البيسري، وعرف هذا الباب في الدولة الأيوبية: بباب قصر ابن الشيخ، وذلك أن الوزير: الصاحب معين الدين حسين بن شيخ الشيوخ، وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب: كان يسكن بالقصر الذي في داخل هذا الباب، ثم قيل له في زمننا: باب القصر، وكان على حاله، له عضادتان من حجارة، ويعلوه اسكفة حجر مكتوب فيها نقرا في الحجر عدّة أسطر، بالقلم الكوفيّ لم يتهيأ لي قراءة ما فيها، وكان دهليز هذا الباب عريضا يتجاوز عرضه فيما أقدّر: العشرة أذرع في طول كبير جدّا، ويعلو هذا الباب دور للسكنى تشرف على الطريق، وما زال على ذلك، إلى أن أنشأ الأمير الوزير المشير جمال الدين يوسف الإستادار مدرسته برحبة باب العيد، واغتصب لها أملاك الناس، وكان مما اغتصب ما بجوار المدرسة المذكورة من الحوانيت، والرباع التي فوقها، وما جاوز ذلك، وهدمها ليبنيها على ما يريد، فهدم هذا الباب في صفر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وبنى في مكانه، ومكان الدهليز المظلم الذي كان ينتهي بالسالك فيه من هذا الباب إلى المدرسة السابقية: هذه القيسارية الكبيرة ذات الحوانيت، والسقيفة والأبواب الجديدة، ودخل فيها بعض مما كان بجانبي هذا الباب من الحوانيت وعلوها، ولما هدم هذا الباب ظهر في داخل بنيانه شخص، وبلغني ذلك فسرت إلى الأمير المذكور، وكان بيني وبين صحبة، لأشاهد هذا الشخص المذكور، والتمست منه إحضاره، فأخبرني أنه أحضر إليه شخص من حجارة: قصير القامة إحدى عينيه أصغر من الأخرى، فقلت: لا بدّ لي من مشاهدته، فأمر بإحضاره الموكل بالعمارة، وأنا معه إذ ذاك في موضع الباب، وقد هدم ما كان فيها من البناء، فذكر أنه رماه بين أحجار العمارة، وأنه تكسر وصار فيما بينها، ولا يستطيع تمييزه منها، فأغلظ عليه وبالغ في الفحص عنه، فأعياهم إحضاره. فسألت الرجل حينئذ فقال لي: إنهم لما انتهوا في الهدم إلى حيث كان هذا الشخص إذا بدائرة فيها كتابة وبوسطها شخص قصير، صغير إحدى العينين من حجارة، وهذه كانت صفة جمال الدين فإنه كان قصير القامة، إحدى عينيه أصغر من الأخرى، ويشبه، والله أعلم، أن يكون قد عين في تلك الكتابة التي كانت حول الشخص، أنّ هذا الباب يهدمه من هذه صفته، كما وجد في باب البحر اسم بيبرس الذي هدم على يديه، وبأمره، وقد ظفر جمال الدين هذا بأموال عظيمة وجدها في داخل هذا القصر، لما أنشأ داره الأولى في الحدرة من داخل هذا الباب في سنة ست وتسعين وسبعمائة، وكان لكثرة هذا المال لا يستطيع كتمانه، ومن شدّة خوفه يومئذ من الظاهر برقوق أن يظهر عليه، لا يقدر أن يصرّح به، فكان يقول لأصحابه وخواصه: وجدت في هذا المكان سبعين قفة من حديد. أخبرني اثنان رئيسان من أعيان الدولة عنه: إنه قال لهما هذا القول، وكنت إذ ذاك أيام

عمارته لهذه القاعة أتردّد لشيخنا سراج الدين عمر بن الملقن رحمه الله تعالى بالمدرسة السابقية، وبها كان يسكن، فتعرّفت بجمال الدين منه، وكان يومئذ من عرض الجند، ويعرف: باستادار نحاس، فاشتهر هناك أنه وجد حال هدمه وعمارته القاعة، والرواق بالحدرة مكانا مبنيا تحت الأرض مبيض الحيطان، فيه مال فما كان عندي شك أنه من أموال خبايا الفاطميين، فإنه قد ذكر غير واحد من الإخباريين، أن السلطان صلاح الدين لما استولى على القصر بعد موت العاضد لم يظفر بشيء من الخبايا، وعاقب جماعة، فلم يوقفوه على أمرها. باب الزمرد «1» : سمي بذلك لأنه كان يتوصل منه إلى قصر الزمرذ، وموضعه الآن المدرسة الحجازية بخط رحبة باب العيد. باب العيد «2» : هذا الباب مكانه اليوم في داخل درب السلامي بخط رحبة باب العيد، وهو عقد محكم البناء ويعلوه قبة قد عملت مسجدا، وتحتها حانوت يسكنه سقّاء، ويقابله مصطبة، وأدركت العامّة، وهم يسمون هذه القبة بالقاهرة، ويزعمون أن الخليفة كان يجلس بها، ويرخي كمه فتأتي الناس وتقبله، وهذا غير صحيح، وقيل لهذا الباب: باب العيد، لأنّ الخليفة كان يخرج منه في يومي العيد إلى المصلى بظاهر باب النصر، فيخطب بعد أن يصلي بالناس صلاة العيد، كما ستقف عليه عند ذكر المصلى إن شاء الله تعالى، وفي سنة إحدى وستين وستمائة: بنى الملك الظاهر بيبرس خانا للسبيل بظاهر مدينة القدس، ونقل إليه باب العيد هذا، فعمله بابا له، وتم بناؤه في سنة اثنتين وستين. باب قصر الشوك «3» : وهو الذي كان يتوصل منه إلى قصر الشوك، وموضعه الآن تجاه حمام عرفت بحمام الإيدمريّ، ويقال لها اليوم: حمام يونس عند موقف المكارية، بجوار خزانة البنود على يمنة السالك منها إلى رحبة الإيدمريّ، وهو الآن زقاق ينتهي إلى بئر يسقى منها بالدلاء، ويتوصل من هناك إلى المارستان العتيق وغيره، وأدركت منه قطعة من جانبه الأيسر. باب الديلم «4» : وكان يدخل منه إلى المشهد الحسينيّ، وموضعه الآن درج ينزل منها

ذكر المنحر

إلى المشهد تجاه الفندق الذي كان دار الفطرة، ولم يبق لهذا الباب أثر البتة. باب تربة الزعفران «1» : مكانه الآن بجوار خان الخليلي من بحريه، مقابل فندق المهمندار الذي يدق فيه ورق الذهب، وقد بني بأعلاه طبقة، ورواق ولا يكاد يعرفه كثير من الناس، وعليه كتابة بالقلم الكوفيّ، وهذا الباب كان يتوصل منه إلى تربة القصر المذكورة فيما تقدّم. باب الزهومة «2» : كان في آخر ركن القصر، مقابل خزانة الدرق التي هي اليوم: خان مسرور، وقيل له: باب الزهومة لأن اللحوم وحوائج الطعام التي كانت تدخل إلى مطبخ القصر الذي للحوم إنما يدخل بها من هذا الباب. فقيل له: باب الزهومة يعني باب الزفر، وكان تجاهه أيضا درب السلسلة الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. وموضعه الآن: باب قاعة الحنابلة من المدارس الصالحية، تجاه فندق مسرور الصغير، ومن بعد باب الزهومة المذكور باب الذهب الذي تقدّم ذكره، فهذه أبواب القصر الكبير التسعة. ذكر المنحر «3» وكان بجوار هذا القصر الكبير: المنحر، وهو الموضع الذي اتخذه الخلفاء لنحر الأضاحي في عيد النحر، وعيد الغدير وكان تجاه رحبة باب العيد، وموضعه الآن يعرف: بالدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، وصار موضعه ما في داخل هذا الدرب من الدور والطاحون وغيرها، وظاهره تجاه رأس حارة برجوان يفصل بينه وبين حارة برجوان الحوانيت التي تقابل باب الحارة، ومن جملة المنحر الساحة العظيمة التي عملت لها خوند بركة أمّ السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين، البوّابة العظيمة بخط الركن المخلق بجوار قيسارية الجلود التي عمل فيها حوانيت الأساكفة، وكان الخليفة إذا صلى صلاة عيد النحر، وخطب ينحر بالمصلى، ثم يأتي المنحر المذكور، وخلفه المؤذنون يجهرون بالتكبير، ويرفعون أصواتهم كلما نحر الخليفة شيئا، وتكون الحربة في يد قاضي القضاة، وهو بجانب الخليفة ليناوله إياها إذا نحر، وأوّل من سنّ منهم إعطاء الضحايا، وتفرقتها في أولياء الدولة على قدر رتبهم: العزيز بالله نزار.

ما كان يعمل في عيد النحر: قال المسبحيّ: وفي يوم عرفة يعني من سنة ثمانين وثلثمائة حمل يانس صاحب الشرطة السماط، وحمل أيضا عليّ بن سعد المحتسب سماطا آخر، وركب العزيز بالله يوم النحر، فصلى وخطب على العادة، ثم نحر عدّة نوق بيده، وانصرف إلى قصره، فنصب السماط، والموائد، وأكل ونحر بين يديه، وأمر بتفرقة الضحايا على أهل الدولة، وذكر مثل ذلك في باقي السنين. وقال ابن المأمون في عيد النحر من سنة خمس عشرة وخمسمائة: وأمر بتفرقة عيد النحر، والهبة وجملة العين، ثلاثة آلاف وثلثمائة وسبعون دينارا، ومن الكسوات مائة قطعة، وسبع قطع برسم الأمراء المطوّقين، والأستاذين المحنكين، وكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب، وغيرهم من المستخدمين، وعدّة ما ذبح: ثلاثة أيام النحر في هذا العيد، وعيد الغدير: ألفان وخمسمائة وأحد وستون رأسا. تفصيله: نوق مائة وسبعة عشر رأسا، يقر أربعة وعشرون رأسا، جاموس عشرون رأسا، هذا الذي ينحره ويذبحه الخليفة بيده في المصلى والنحر، وباب الساباط، ويذبح الجزارون من الكباش ألفين وأربعمائة رأس، والذي اشتملت عليه نفقات الأسمطة في الأيام المذكورة خارجا عما يعمل بالدار المأمونية من الأسمطة، وخارجا عن أسمطة القصور عند الحرم، وخارجا عن القصور الحلواء، والقصور المنفوخ المصنوعة بدار الفطرة: ألف وثلثمائة وستة وعشرون دينارا، وربع وسدس دينار، ومن السكر برسم القصور، والقطع المنفوخ أربعة وعشرون قنطارا. تفصيله عن قصرين في أوّل يوم خاصة اثنا عشر قنطارا المنفوخ عن ثلاثة الأيام اثنا عشر قنطارا، وقال في سنة ست عشرة وخمسمائة: وحضر وقت تفرقة كسوة عيد النحر ووصل ما تأخر فيها بالطراز، وفرّقت الرسوم على من جرت عادته خارجا عما أمر به من تفرقة العين المختص بهذا العيد وأضحيته، وخارجا عما يفرّق على سبيل المناخ، ومن باب الساباط مذبوحا، ومنحورا ستمائة دينار وسبعة عشر دينارا، وفي التاسع من ذي الحجة، جلس الخليفة الآمر بأحكام الله على سرير الملك، وحضر الوزير، وأولاده وقاموا بما يجب من السلام، واستفتح المقرئون، وتقدّم حامل المظلة، وعرض ما جرت عادته من المظال الخمسة التي جميعها مذهب، وسلم الأمراء على طبقاتهم، وختم المقرئون، وعرضت الدواب جميعها، والعماريات والوحوش وعاد الخليفة إلى محله، فلما أسفر الصبح: خرج الخليفة، وسلم على من جرت عادته بالسلام عليه، ولم يخرج شيء عما جرت به العادة في الركوب والعود، وغير الخليفة ثيابه، ولبس ما يختص بالنحر، وهي البدلة الحمراء بالشدّة التي تسمى: بشدّة الوفار، والعلم الجوهر في وجهه بغير قضيب ملك في يده إلى أن دخل المنحر، وفرشت الملاءة الديبقيّ الحمراء وثلاث بطائن

مصبوغة حمر، ليتقي بها الدم مع كون كل من الجزارين، بيده مكبة صفاف مدهونة يلقي بها الدم عن الملاءة، وكبر المؤذنون، ونحر الخليفة أربعا وثلاثين ناقة، وقصد المسجد الذي آخر صف المنحر، وهو مغلق بالشروب والفاكهة المعبأة فيه بمقدار ما غسل يديه، ثم ركب من فوره، وجملة ما نحره، وذبحه الخليفة خاصة في المنحر، وباب الساباط دون الأجل الوزير المأمون، وأولاده، وإخوته في ثلاثة الأيام ما عدّته: ألف وتسعمائة وستة وأربعون رأسا. تفصيله: نوق مائة وثلاث عشرة ناقة، نحر منها في المصلى عقيب الخطبة، ناقة وهي التي تهدي وتطلب من آفاق الأرض للتبرّك بلحمها، ونحر في المناخ مائة ناقة، وهي التي يحمل منها للوزير، وأولاده وإخوته والأمراء، والضيوف، والأجناد، والعسكرية والمميزين من الراجل، وفي كل يوم يتصدّق منها على الضعفاء والمساكين بناقة واحدة، وفي اليوم الثالث من العيد تحمل ناقة منحورة للفقراء في القرافة، وينحر في باب الساباط ما يحمل إلى من حوته القصور، وإلى داره الوزارة، وإلى الأصحاب، والحواشي اثنتا عشرة ناقة، وثماني عشرة بقرة وخمس عشرة جاموسة، ومن الكباش ألف وثمانمائة رأس، ويتصدّق كل يوم في باب الساباط بسقط ما يذبح من النوق والبقر. وأما مبلغ المنصرف على الأسمطة في ثلاثة الأيام خارجا عن الأسمطة بالدار المأمونية، فألف وثلثمائة وستة وعشرون دينارا وربع وسدس دينار، ومن السكر برسم قصور الحلاوة، والقطع المنفوخ المصنوعة بدار الفطرة خارجا عن المطابخ ثمانية وأربعون قنطارا. وقال ابن الطوير: فإذا انقضى ذو القعدة، وأهلّ ذو الحجة، اهتمّ بالركوب في عيد النحر، وهو يوم عاشره، فيجري حاله كما جرى في عيد الفطر من الزي، والركوب إلى المصلى، ويكون لباس الخليفة فيه: الأحمر الموشح، ولا ينخرم منه شيء، وركوبه ثلاثة أيام متوالية، فأوّلها: يوم الخروج إلى المصلى والخطابة، كعيد الفطر، وثاني يوم وثالثه إلى المنحر، وهو المقابل لباب الريح الذي في ركن القصر المقابل لسور دار سعيد السعداء، الخانقاه «1» اليوم، وكان براحا خاليا لا عمارة فيه، فيخرج من هذا الباب الخليفة بنفسه، ويكون الوزير واقفا عليه، فيترجل ويدخل ماشيا بين يديه بقربه، هذا بعد انفصالهما من المصلى، ويكون قد قيّد إلى هذا المنحر أحد وثلاثون فصيلا وناقة أمام مصطبة مفروشة يطلع

عليها الخليفة والوزير، ثم أكابر الدولة، وهو بين الأستاذين المحنكين، فيقدّم الفرّاشون له إلى المصطبة رأسا، ويكون بيده حربة، من رأسها الذي لا سنان فيه ويد قاضي القضاة في أصل سنانها، فيجعله القاضي في نحر النحيرة، ويطعن بها الخليفة، وتجرّ من بين يديه، حتى يأتي على العدّة المذكورة، فأوّل نحيرة هي التي تقدّد، وتسير إلى داعي اليمن، وهو الملك فيه، فيفرّقها على المعتقدين من وزن نصف درهم إلى ربع درهم، ثم يعمل ثاني يوم كذلك فيكون عدد ما ينحر: سبعا وعشرين، ثم يعمل في اليوم الثالث كذلك وعدّة ما ينحر ثلاث وعشرون. هذا: وفي مدّة هذه الأيام الثلاثة يسير رسم الأضحية إلى أرباب الرتب والرسوم كما سيرت الغرّة في أوّل السنة من الدنانير بغير رباعية، ولا قراريط على مثال الغرّة من عشرة دنانير إلى دينار، وأما لحم الجزور، فإنه يفرّق في أرباب الرسوم للتبرّك في أطباق مع أدوان الفرّاشين، وأكثر ذلك تفرقة قاضي القضاة وداعي الدعاة للطلبة بدار العلم، والمتصدّرين بجوامع القاهرة، ونقباء المؤمنين بها من الشيعة للتبرّك، فإذا انقضى ذلك خلع الخليفة على الوزير ثيابه الحمر التي كانت عليه، ومنديلا آخر بغير السمة، والعقد المنظوم من القصر عند عود الخليفة من المنحر، فيركب الوزير من القصر بالخلع المذكورة شاقا القاهرة، فإذا خرج من باب زويلة انعطف على يمينه سالكا على الخليج، فيدخل من باب القنطرة إلى دار الوزارة، وبذلك انفصال عيد النحر. وقال ابن أبي طيّ: عدّة ما يذبح في هذا العيد في ثلاثة أيام النحر، وفي يوم عيد الغدير: ألفان وخمسمائة وأحد وستون رأسا، وتفصيله: نوق مائة وسبعة عشر رأسا، بقر أربعة وعشرون رأسا، جاموس عشرون رأسا، هذا الذي ينحره الخليفة، ويذبحه بيده في المصلى، والمنحر، وباب الساباط، ويذبح الجزارون بين يديه من الكباش ألفا وأربعمائة رأس. وقال ابن عبد الظاهر: كان الخليفة ينحر بالمنحر: مائة رأس، ويعود إلى خزانة الكسوة فيغير قماشه، ويتوجه إلى الميدان، وهو الخرنشف «1» بباب الساباط للنحر والذبح، ويعود بعد ذلك إلى الحمام ويغير ثيابه للجلوس على الأسمطة، وعدّة ما يذبحه ألف وسبعمائة وستة وأربعون رأسا: مائة وثلاث عشر ناقة والباقي بقر وغنم. قال ابن الطوير: وثمن الضحايا على ما تقرّر ما يقرب من ألفي دينار، وكانت تخرج المخلقات إلى الأعمال بشائر بركوب الخليفة في يوم عيد النحر.

فمما كتب به الأستاذ البارع أبو القسم عليّ بن منجيب بن سليمان الكاتب المعروف: بابن الصيرفيّ المنعوت: بتاج الرياسة، أما بعد: فالحمد لله الذي رفع منار الشرع، وحفظ نظامه ونشر راية هذا الدين، وأوجب إعظامه، وأطلع بخلافة أمير المؤمنين كواكب سعوده، وأظهر للمؤالف والمخالف عزة أحزابه وقوّة جنوده، وجعل فرعه ساميا ناميا، وأصله ثابتا راسخا، وشرّفه على الأديان بأسرها وكان لعراها فاصما ولأحكامها ناسخا، يحمده أمير المؤمنين أن الزم طاعته الخليقة، وجعل كراماته الأسباب الجديرة بالإمارة الخليقة، ويرغب إليه في الصلاة على جدّه محمد الذي حاز الفخار أجمعه، وضمن الجنة لمن آمن به واتبع النور الذي أنزل معه، ورفعه إلى أعلى منزلة تخير له منها المحل، وأرسله بالهدى ودين الحق، فزهق الباطل، وخمدت ناره واضمحل، صلى الله عليه، وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب خير الأمّة وإمامها، وحبر الملة وبدر تمامها، والموفي يومه في الطاعات على ماضي أمسه، ومن أقامه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المباهلة مقام نفسه، واختصه بأبعد غاية في سورة براءة، فنادى في الحج بأوّلها، ولم يكن غيره ينفذ نفاذه ولا يسدّ مكانه، لأنه قال: «لا يبلغ عني إلّا رجل من أهل بيتي» عملا في ذلك بما أمر الله به سبحانه، وعلى الأئمة من ذريتهما خلفاء الله في أرضه، والقائمين في سياسة خلقه بصريح الإيمان ومحضه، والمحكمين من أمر الدين ما لا وجه لحله، ولا سبيل إلى نقضه، وسلم عليهم أجمعين سلاما يتصل دوامه، ولا يخشى انصرامه، ومجد وكرّم، وشرّف وعظم، وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم الأحد عيد النحر من سنة ست وثلاثين وخمسمائة الذي تبلج فجره عن سيئات محصت، ونفوس من آثار الذنوب خلصت، ورحمة امتدّت ظلالها وانتشرت ومغفرة هنأت ونشرت، وكان من خبر هذا اليوم: أن أمير المؤمنين برز لكافة من بحضرته من أوليائه، متوجها لقضاء حق هذا العيد السعيد وأدائه، في عترة راسخة قواعدها متمكنة، وعساكر جمة تضيق عنها ظروف الأمكنة، ومواكب تتوالى كتوالي السيل، وتهاب هيبة مجيئه في الليل، بأسلحة تحسر لها الأبصار وتبرق وترتاع الأفئدة منها وتفرق، فمن مشرفيّ إذا ورد تورّد، ومن سمهريّ إذا قصد تقصد، ومن عمد إذا عمدت تبرّأت المغافر من ضمانها، ومن قسيّ إذا أرسلت بنانها وصلت إلى القلوب بغير استئذانها، ولم يزل سائرا في هدي الإمامة وأنوارها، وسكينة الخلافة ووقارها، إلى أن وصل إلى المصلى قدام المحراب، وأدّى الصلاة إذ لم يكن بينه وبين التقبيل حجاب، ثم علا المنبر فاستوى على ذروته، ثم هلل الله وكبر، وأثنى على عظمته وأحسن إلى الكافة بتبليغ موعظته، وتوجه إلى ما أعدّ من البدن فنحره تكميلا لقربته، وانتهى في ذلك إلى ما أمر الله عز وجل، وعاد إلى قصوره المكرّمة، ومنازله المقدّسة، قد رضي الله عمله، وشكر فعله وتقبله، أعلمك أمير المؤمنين بذلك، لتشكر الله على النعمة فيه، وتذيعه قبلك على الرسم مما تجاريه، فاعلم هذا، واعمل به إن شاء الله تعالى.

ذكر دار الوزارة الكبرى

ذكر دار الوزارة الكبرى وكان بجوار هذا القصر الكبير الشرقيّ تجاه رحبة باب العيد، دار الوزارة الكبرى، ويقال لها: الدار الأفضلية والدار السلطانية. قال ابن عبد الظاهر: دار الوزارة بناها: بدر الجماليّ أمير الجيوش، ثم لم يزل يسكنها من يلي إمرة الجيوش إلى أن انتقل الأمر عن المصريين، وصار إلى بني أيوب، فاستقرّ سكن الملك الكامل بقلعة الجبل خارج القاهرة، وسكنها السلطان الملك الصالح ولده، ثم أرصدت دار الوزارة لمن يرد من الملوك، ورسل الخليفة إلى هذا الوقت، وكانت دار الوزارة قديما تعرف بدار القباب، وأضافها الأفضل إلى دور بني هريسة، وعمرها دارا وسماها دار الوزارة، انتهى. والذي تدل عليه كتب ابتياعات الأملاك القديمة التي بتلك الخطة أنها من بناء الأفضل، لا من عمارة أبيه بدر، والدار التي عمرها أمير الجيوش بدر هي داره: بحارة برجوان التي قيل لها دار المظفر، وما زال وزراء الدولة الفاطمية أرباب السيوف من عهد الأفضل بن أمير الجيوش يسكنون بدار الوزارة هذه إلى أن زالت الدولة فاستقرّ بها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وابنه من بعده: الملك العزيز عثمان، ثم ابنه الملك المنصور، ثم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، ثم ابنه الملك الكامل، وصاروا يسمونها الدار السلطانية، وأوّل من انتقل عنها من الملوك، وسكن بالقلعة الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وجعلها منزلا للرسل، فلما ولي قطز سلطنة ديار مصر، وتلقب بالملك العادل في سنة سبع وخمسين وستمائة، وحضر إليه البحرية وفيهم بيبرس البندقداريّ، وقلاون الألفيّ من الشام، خرج الملك العادل قطز إلى لقائهم، وأنزل الأمير ركن الدين بيبرس بدار الوزارة، فلم يزل بها، حتى سافر صحبة قطز إلى الشام، وقتله وعاد إلى مصر فتسلطن، وسكن بقلعة الجبل. وفي سنة ثلاث وتسعين وستمائة، لما قتل الأشرف خليل بن قلاون في واقعة بيدرا «1» ، ثم قتل بيدرا، وأجلس الملك الناصر محمد علي تخت الملك، وثارت الأشرفية من المماليك على الأمراء، وقتل من قتل منهم، خاف بقية الأمراء من شرّ المماليك الأشرفية، فقبض منهم على نحو الستمائة مملوك، وأنزل بهم من القلعة، وأسكن منهم نحو: الثلاثمائة بدار الوزارة، وأسكن منهم كثير في مناظر الكبش، وأجريت عليهم الرواتب، ومنعوا من الركوب إلى أن كان من أمرهم ما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب.

ولما كانت سنة سبعمائة: أخذ الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري نائب السلطنة في أيام الملك المنصور حسام الدين لاجين: قطعة من دار الوزارة، فبنى بها الربع المقابل خانقاه سعيد السعداء، ثم بنى المدرسة المعروفة: بالقراسنقرية، ومكتب الأيتام، فلما كانت دولة البرجية بنى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير: الخانقاه الركنية، والرباط بجانبها من جملة دار الوزارة، وذلك في سنة تسع وسبعمائة، ثم استولى الناس على ما بقي من دار الوزارة، وبنوا فيها، فمن حقوقها الربع تجاه الخانقاه الصلاحية دار سعيد السعداء، والمدرسة القراسنقرية، وخانقاه ركن الدين بيبرس، وما بجوارها من دار قزمان ودار الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الوزير، المعروفة: بدار خوند طولوباي الناصرية، جهة الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون، وحمام الأعسر التي بجانبها، والحمام المجاور لها، وما وراء هذه الأماكن من الآدر وغيرها. وهي الفرن والطاحون التي قبليّ المدرسة القراسنقرية، ومن الآدر والخربة التي قبليّ ربع قراسنقر، وما جاور باب سرّ المدرسة القراسنقرية من الآدر، وخربة أخرى هناك، والدار الكبرى المعروفة بدار الأمير سيف الدين برلغي الصغير صهر الملكك المظفر بيبرس الجاشنكير المعروفة اليوم: بدار الغزاوي، وفيها السرداب الذي كان رزيك بن الصالح رزيك فتحه في أيام وزارته من دار الوزارة إلى سعيد السعداء، وهو باق إلى الآن في صدر قاعتها، وذكر أنّ فيه حية عظيمة، ومن حقوق دار الوزارة المناخ المجاور لهذه القاعة، وكان على دار الوزارة: سور مبنيّ بالحجارة وقد بقي الآن منه قطعة في حدّ دار الوزارة الغربيّ، وفي حدّها القبليّ، وهو الجدار الذي فيه باب الطاحون والساقية تجاه باب سعيد السعداء من الزقاق الذي يعرف اليوم: بخرائب تتر، ومنه قطعة في حدّها الشرقيّ عند باب الحمام، والمستوقد بباب الجوّانية، وكان بدار الوزارة هذا الشباك الكبير المعمول من الحديد في القبة التي دفن تحتها بيبرس الجاشنكير من خانقاهه، وهو الشباك الذي يقرأ فيه القرّاء، وكان موضوعا في دار الخلافة ببغداد يجلس فيه الخلفاء من بني العباس. فلما استولى الأمير أبو الحرث البساسيري «1» على بغداد، وخطب فيها للخليفة المستنصر بالله الفاطميّ أربعين جمعة، وانتهب قصر الخلافة، وصار الخليفة القائم بأمر الله العباسيّ إلى عانة، وسير البساسيريّ الأموال، والتحف من بغداد إلى المستنصر بالله بمصر في سنة سبع وأربعين وأربعمائة: كان من جملة ما بعث به منديل الخليفة القائم بأمر الله الذي عممه بيده في قالب من رخام، قد وضع فيه كما هو حتى لا تتغير شدّته، ومع هذا المنديل رداءه، والشباك الذي كان يجلس فيه، ويتكئ عليه، فاحتفظ بذلك إلى أن عمرت دار الوزارة على يد الأفضل بن أمير الجيوش، فجعل هذا الشباك بها، يجلس فيه الوزير،

ذكر رتبة الوزارة، وهيئة خلعهم، ومقدار جاريهم، وما يتعلق بذلك

ويتكئ عليه، وما زال بها إلى أن عمر الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الخانقاه الركنية، وأخذ من دار الوزارة أنقاضا منها هذا الشباك، فجعله في القبة، وهو شباك جليل، وأما العمامة والرداء: فما زالا بالقصر حتى مات العاضد، وتملك السلطان صلاح الدين ديار مصر، فسيرهما في جملة ما بعث من مصر إلى الخليفة المستضيء بالله العباسيّ ببغداد، ومعهما الكتاب الذي كتبه الخليفة القائم على نفسه، وأشهد عليه العدول فيه أنه لا حق لبني العباس، ولا له من جملتهم في الخلافة مع وجود بني فاطمة الزهراء عليها السلام. وكان البساسيريّ ألزمه حتى أشهد على نفسه بذلك، وبعث بالأشهاد إلى مصر، فأنفذه صلاح الدين إلى بغداد مع ما سير به من التحف التي كانت بالقصر، وأخبرني شيخ معمر: يعرف بالشيخ عليّ السعوديّ ولد في سنة سبع وسبعمائة قال: رأيت مرّة، وقد سقط من ظهر الرباط المجاور لخانقا هبيبرس من جملة ما بقي من سور دار الوزارة جانب، ظهرت منه علبة فيها رأس إنسان كبير، وعندي أن هذا الرأس من جملة رؤوس الأمراء البرقية الذين قتلهم ضرغام في أيام وزارته للعاضد بعد شاور، فإنه كان عمل الحيلة عليهم بدار الوزارة، وصار يستدعي واحدا بعد واحد إلى خزانة بالدار، ويوهم أنه يخلع عليهم، فإذا صار واحد منهم في الخزانة قتل، وقطع رأسه، وذلك في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وكانت دار الوزارة في الدولة الفاطمية تشتمل على عدّة قاعات، ومساكن وبستان وغيره، وكان فيها مائة وعشرون مقسما للماء الذي يجري في بركها، ومطابخها ونحو ذلك. ذكر رتبة الوزارة، وهيئة خلعهم، ومقدار جاريهم، وما يتعلق بذلك أما المعز لدين الله: أوّل الخلفاء الفاطميين بديار مصر، فإنه لم يوقع اسم الوزارة على أحد في أيامه، وأوّل من قيل له الوزير في الدولة الفاطمية، الوزير يعقوب بن كاس وزير العزيز بالله أبي منصور نزار بن المعز، وإليه تنسب الحارة الوزيرية، كما ستقف عليه، عند ذكر الحارات من هذا الكتاب، فلما مات ابن كاس، لم يستوزر العزيز بالله بعده أحدا، وإنما كان رجل يلي الوساطة، والسفارة، فاستقرّ في ذلك جماعة كثيرة بقية أيام العزيز، وسائر أيام ابنه أبي عليّ منصور الحاكم بأمر الله، ثم ولي الوزارة: أحمد بن عليّ الجرجرأيّ في أيام الظاهر أبي هاشم عليّ بن الحاكم، وما زال الوزراء من بعده واحدا بعد واحد، وهم أرباب أقلام حتى قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ. قال ابن الطوير: وكان من زيّ هؤلاء الوزراء، أنهم يلبسون المناديل الطبقيات بالأحناك تحت حلوقهم، مثل العدول الآن، وينفردون بلباس ثياب قصار، يقال لها: الذراريع، واحدها: ذراعة، وهي مشقوقة أمام وجهه إلى قريب من رأس الفؤاد بأزرار وعرى، ومنهم من تكون أزراره ممن ذهب مشبك، ومنهم من أزراره لؤلؤ، وهذه علامة الوزارة، ويحمل له الدواة المحلاة بالذهب، ويقف بين يديه الحجاب، وأمره نافذ في أرباب

السيوف من الأجناد وأرباب الأقلام، وكان آخرهم الوزير: ابن المغربيّ الذي قدم عليه أمير الجيوش بدر الجماليّ من عكا، ووزر للمستنصر: وزير سيف، ولم يتقدّمه في ذلك أحد، انتهى. وترتيب وزارته بأن تكون وزارته وزارة صاحب سيف بأن تكون الأمور كلها مردودة إليه، ومنه إلى الخليفة، دون سائر خدمه، فعقد له هذا العقد، وأنشئ له السجل، ونعت بالسيد الأجل أمير الجيوش، وهو النعت الذي كان لصاحب ولاية دمشق وأضيف إليه: كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين، وجعل القاضي والداعي نائبين عنه، ومقلدين من قبله. وكتب له في سجله، وقد قلدك أمير المؤمنين: جميع جوامع تدبيره، وناط بك النظر في كل ما وراء سريره، فباشر ما قلدك أمير المؤمنين من ذلك مدبرا للبلاد، ومصلحا للفساد، ومدمرا أهل العناد، وخلع عليه بالعقد المنظوم بالجوهر مكان الطوق، وزيد له الحنك مع الذؤابة المرخاة، والطيلسان المقوزريّ قاضي القضاة، وذلك في سنة سبع وستين وأربعمائة، فصارت الوزارة من حينئذ وزارة تفويض، ويقال لمتوليها: أمير الجيوش، وبطل اسم الوزارة، فلما قام شاهنشاه بن أمير الجيوش من بعد أبيه، ومات الخليفة المستنصر، ولقبه بالمستعلي، صار يقال له: الأفضل ومن بعده صار من يتولى هذه الرتبة يتلقب به أيضا. وأوّل من لقب بالملك منهم مضافا إلى بقية الألقاب: رضوان بن ولخشي، عندما وزر للحافظ لدين الله، فقيل له: السيد الأجل الملك الأفضل، وذلك في سنة ثلاثين وخمسمائة، وفعل ذلك من بعده، فتلقب طلائع بن رزيك: بالملك المنصور، وتلقب ابنه رزيك بن طلائع: بالملك العادل وتلقب شاور بالملك المنصور، وتلقب آخرهم: صلاح الدين يوسف بن أيوب بالملك الناصر، وصار وزير السيف من عهد أمير الجيوش بدر إلى آخر الدولة، هو سلطان مصر، وصاحب الحل والعقد، وإليه الحكم في الكافة من الأمراء والأجناد، والقضاة، والكتاب، وسائر الرعية، وهو الذي يولي أرباب المناصب الديوانية، والدينية، وصار حال الخليفة معه كما هو حال ملوك مصر من الأتراك إذا كان السلطان صغيرا والقائم بأمره من الأمراء، وهو الذي يتولى تدبير الأمور، كما كان الأمير يلبغا الخاصكيّ مع الأشرف شعبان، وكما أدركنا الأمير برقوق قبل سلطنته مع ولدي الأشرف، وكما كان الأمير أيتمش مع الملك الناصر فرج بعد موت الظاهر برقوق. قال ابن أبي طي: وكانت خلعهم يعني الخلفاء الفاطميين على الأمراء: الثياب الديبقيّ، والعمائم الصب بالطراز الذهب، وكان طراز الذهب، والعمامة من خمسمائة دينار، ويخلع على أكابر الأمراء: الأطواق الذهب، والأسورة والسيوف المحلاة، وكان يخلع على الوزير عوضا عن الطوق عقد جوهر.

قال ابن الطوير «1» : وخلع عليه، يعني على أمير الجيوش بدر الجماليّ بالعقد المنظوم بالجوهر مكان الطوق، وزيد له الحنك، مع الذؤابة المرخاة، والطيلسان المقوّر زي قاضي القضاة، وهذه الخلع تشابه خلع الوزراء، وأرباب الأقلام في زمننا هذا، غير أنه لقصور أحوال الدولة جعل عوض العقد الجوهر الذي كان للوزير، ويفك بخمسة آلاف مثقال ذهبا قلادة من عنبر مغشوش يقال لها: العنبرية، ويتميز بها الوزير خاصة، ويلبس أيضا: الطيلسان المقوّر، ويسمى اليوم: بالطرحة، ويشاركه فيها جميع أرباب العمائم، إذا خلع عليهم، فإنه تكون خلعهم بالطرحة، وترك أيضا اليوم من خلعة الوزير، وغيره الذؤابة المرخاة، وهي العذبة وصارت الآن من زي القضاة فقط، وهجرها الوزوراء، ويشبه، والله أعلم، أن يكون وضعها في الدولة الفاطمية للوزير في خلعه إشارة إلى أنه كبير أرباب السيوف، والأقلام، فإنه كان مع ذلك يتقلد بالسيف وكذلك ترك في الدولة التركية من خلع الوزارة تقليد السيف لأنه لا حكم له على أرباب السيوف، ولما قام الأفضل بن أمير الجيوش خلع أيضا عليه بالسيف والطيلسان المقوّر، وبعد الأفضل لم يخلع على أحد من الوزراء كذلك إلى أن قدم طلائع بن رزيك، ولقب بالملك الصالح عندما خلع عليه للوزارة، وجعل في خلعته السيف والطيلسان المقوّر. قال ابن المأمون: وفي يوم الجمعة ثانية، يعني ثاني ذي الحجة يعني سنة خمس عشرة وخمسمائة: خلع على القائد ابن فاتك البطائحي من الملابس الخاص الشريفة في فردكم مجلس الكعبة، وطوّق بطوق ذهب مرصع وسيف ذهب كذلك، وسلم على الخليفة الآمر بأحكام الله، وأمر الخليفة الأستاذين المحنكين بالخروج بين يديه وأن يركب من المكان الذي كان الأفضل بن أمير الجيوش يركب منه، ومشى في ركابه القوّاد على دعاة من تقدّمه وخرج بتشريف الوزارة يعني: من باب الذهب، ودخل من باب العيد راكبا، وجرى الحكم فيه على ما تقدّم للأفضل ووصل إلى داره، فضاعف الرسوم، وأطلق الهبات. ولما كان يوم الاثنين خامس ذي الحجة اجتمع أمراء الدولة لتقبيل الأرض بين يدي الخليفة الآمر على العادة التي قرّرها مستجدّة، واستدعى الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة، فلما حضر أمر بإحضار السجل للأجل الوزير المأمون من يده، فقبله وسلمه لزمام القصر، وأمر الخليفة الوزير المأمون بالجلوس عن يمينه، وقرىء السجل على باب المجلس، وهو أوّل سجل قرىء في هذا المكان، وكانت سجلات الوزراء قبل ذلك تقرأ بالإيوان، ورسم للشيخ أبي الحسن أن ينقل النسبة للأمراء، والمحنكين من الأمراء إلى المأموني للناس أجمع، ولم يكن أحد منهم ينتسب للأفضل، ولا لأمير الجيوش، وقدّمت الدواة للمأمون، فعلم في مجلس الخليفة، وتقدّمت الأمراء، والأجناد فقبلوا الأرض، وشكروا على هذا

الإحسان، وأمر الخليفة بإحضار الخلع لحاجب الحجاب حسام الملك، وطوّق بطوق ذهب، وسيف ذهب، ومنطقة ذهب، ثم أمر بالخلع للشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة باستمراره على ما بيده من كتابة الدست الشريف، وشرفه بالدخول إلى مجلس الخليفة، ثم استدعى الشيخ أبا البركات بن أبي الليث، وخلع عليه بدلة مذهبة، وكذلك أبو الرضى سالم ابن الشيخ أبي الحسن، وكذلك أبو المكارم أخوه، وأبو محمد أخوهما، ثم أبو الفضل بن الميدميّ، ووهبه دنانير كثيرة بحكم أنه الذي قرأ السجل، وخلع على الشيخ أبي الفضائل بن أبي الليث، صاحب دفتر المجلس، ثم استدعى عدي الملك سعيد بن عماد الضيف متولي أمور الضيافات، والرسل الواصلين إلى الحضرة من مجلس الأفضل، ولا يصل لعتبته أحد لا حاجب الحجاب، ولا غيره سوى عدي الملك هذا، فإنه كان يقف من داخل العتبة، وكانت هذه الخدمة في ذلك الوقت من أجل الخدم وأكبرها، ثم عادت من أهون الخدم، وأقلها، فعند ذلك قال القاضي أبو الفتح بن قادوس: يمدح الوزير المأمون عند مثوله بين يديه وقد زيد في نعوته: قالوا أتاه النعت وهو السيد ال ... مأمون حقا والأجلّ الأشرف ومغيث أمة أحمد ومجيرها ... ما زادنا شيئا على ما نعرف قال: ولما استمرّ حسن نظر المأمون للدولة، وجميل أفعاله، بلغ الخليفة الآمر بأحكام الله، فشكره وأثنى عليه فقال له المأمون: ثمّ كلام يحتاج إلى خلوة، فقال الخليفة: تكون في هذا الوقت، وأمر بخلوّ المجلس، فعند ذلك مثل بين يدي الخليفة، وقال له: يا مولانا امتثالنا الأمر صعب، ومخالفته أصعب، وما يتسع خلافه قدّام أمراء دولته، وهو في دست خلافته، ومنصب آبائه وأجداده، وما في قواي ما يرومه مني، ويكفيني هذا المقدار، وهيهات أن أقوم به والأمر كبير، فعند ذلك تغير الخليفة، وأقسم إن كان لي وزير غيرك، وهو في نفسي من أيام الأفضل، وهو مستمرّ على الاستعفاء، إلى أن بان له التغير في وجه الخليفة، وقال: ما اعتقدت أنك تخرج عن أمري، ولا تخالفني فقال له المؤمون عند ذلك: لي شروط، وأنا أذكرها، فقال له: مهما شئت اشترط، فقال له: قد كنت بالأمس مع الأفضل وكان قد اجتهد في النعوت، وحل المنطقة، فلم أفعل فقال الخليفة: علمت ذلك في وقته، قال: وكان أولاده يكتبون إليه بما يعلمه مولاي من كوني قد خنته في المال والأهل، وما كان والله العظيم ذلك مني يوما قط، ثم مع ذلك معاداة الأهل جميعا والأجناد، وأرباب الطيالس، والأقلام، وهو يعطيني كل رقعة تصل إليه منهم، وما سمع كلام أحد منهم فيّ، فعند ذلك، قال له الخليفة: فإذا كان فعل الأفضل معك ما ذكرته إيش يكون فعلي أنا، فقال المأمون: يعرّفني المولى ما يأمر به، فأمتثله بشرط أن لا يكون عليه زائد، فأوّل ما ابتدأ به أن قال: أريد الأموال لا تجبى إلا بالقصر ولا تصل الكسوات من الطراز والثغور إلّا إليه، ولا تفرّق إلّا منه، وتكون أسمطة الأعياد فيه، ويوسع في رواتب

القصور من كل صنف وزيادة رسم منديل الكمّ، فعند ذلك قال له المأمون: سمعا وطاعة، أما الكسوات والجباية من الأسمطة، فما تكون إلّا بالقصور، وأما توسعة الرواتب فما ثم من يخالف الأمر، وأما زيادة رسم منديل الكم، فقد كان الرسم في كل يوم ثلاثين دينارا، يكون في كل يوم مائة دينار، ومولانا سلام الله عليه يشاهد ما يعمل بعد ذلك في الركوبات، وأسمطة الأعياد، وغيرها في سائر الأيام، ففرح الخليفة، وعظمت مسرّته، ثم قال المأمون: أريد بهذا مسطورا بخط أمير المؤمنين، ويقسم لي فيه بآبائه الطاهرين أن لا يلتفت لحاسد، ولا مبغض، ومهما ذكر فيّ يطلعني عليه، ولا يأمر فيّ بأمر سرّا، ولا جهرا، يكون فيه ذهاب نفسي، وانحطاط قدري، وهذه الإيمان باقية إلى وقت وفاتي فإذا توفيت تكون لأولادي، ولمن أخلفه بعدي، فحضرت الدواة، وكتب ذلك جميعه، وأشهد الله تعالى في آخرها على نفسه، فعندما حصل الخط بيد المأمون وقف، وقبل الأرض، وجعله على رأسه، وكان الخط بالأيمان نسختين: إحداهما في قصبة فضة، قال: فلما قبض على المأمون في شهر رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة أنفذ الخليفة الآمر بأحكام الله يطلب الإيمان، فنفذ له التي في القصبة الفضة، فحرّقها لوقتها، وبقيت النسخة الأخرى عندي، فعدمت في الحركات التي جرت. وقال ابن ميسر: في حوادث سنة خمس عشرة وخمسمائة، وفيها: تشرّف القائد أبو عبد الله محمد ابن الأمير نور الدولة أبي شجاع فاتك ابن الأمير منجد الدولة أبي الحسن مختار المستنصري المعروف: بابن البطائحيّ في الخامس من ذي الحجة، وكان قبل ذلك عند الأفضل استاداره، وهو الذي قدّمه إلى هذه المرتبة، واستقرّت نعوته في سجله المقرّر على كافة الأمراء، والأجناد بالأجل المأمون، تاج الخلافة، عز الإسلام، فخر الأنام، نظام الدين والدنيا، ثم نعت بما كان ينعت به الأفضل، وهو السيد الأجل المأمون أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين. ولما كان يوم الثلاثاء التاسع من ذي الحجة، وهو يوم الهناء بعيد النحر، جلس المأمون في داره عند أذان الصبح، وجاء الناس لخدمته للهناء على طبقاتهم من أرباب السيوف، والأقلام، ثم الأمراء، والأستاذون المحنكون، والشعراء بعدهم، فركب إلى القصر، وأتى باب الذهب، فوجد المرتبة المختصة بالوزارة، وقد هيئت له في موضعها الجاري به العادة، وأغلق الباب الذي عندها على الرسم المعتاد لوزراء السيوف والأقلام، وهذا الباب يعرف: بباب السرداب، فعند ما شاهد الحال في المرتبة توقف عن الجلوس عليها، لأنها حالة لم يجر معه حديث فيها، ثم ألجأته الضرورة لأجل حضور الأمراء إلى الجلوس فجلس عليها، وجلس أولاده الثلاثة عن يمينه، وأخواه عن يساره، والأمراء المطوّقون خاصة دون غيرهم قيام بين يديه، فإنه لا يصل أحد إلى هذا المكان سواهم، فلم يكن بأسرع من أن فتح الباب، وخرج عدّة من الأستاذين المحنكين بسلام أمير المؤمنين،

وخرج إليه الأمير الثقة متولي الرسالة، وزمام القصور، فعند حضوره وقف له أولاد المأمون، وأخواه فطلع عند خروجه قبالة المرتبة، وقال أمير المؤمنين يردّ على السيد الأجل المأمون السلام، فوقف عند ذلك المأمون، وقبل الأرض، وعاد فجلس مكانه، وتأخر الأمير إلى أن نزل من المصطبة، وقبل الأرض، وقبل يد المأمون، ودخل من فوره من الباب، وأغلق الباب على حاله على ما كان عليه الأفضل، وكان الأفضل يقول: ما أزال أعدّ نفسي سلطانا حتى أجلس على تلك المرتبة، والباب يغلق في وجهي والدخان في أنفي، فإن الحمام كانت من حلف الباب في السرداب، ثم فتح الباب، وعاد الثقة، وأشار بالدخول إلى القصر فدخل إلى المكان الذي هيئ له، وعاد لمجلس الوزارة، وبقي الأمراء بالدهاليز إلى أن جلس الخليفة. واستفتح القرّاء، واستدعى المأمون، فحضر بين يديه وسلم عليه أولاده، وإخوته وأحلّ الأمراء على قدر طبقاتهم، أوّلهم: أرباب الأطواق، ويليهم أرباب العماريات، والأقصاب، ثم الضيوف والأشراف، ثم دخل ديوان المكاتبات وسلم بهم الشيخ أبو الحسن ابن أبي أسامة، ثم ديوان الإنشاء، وسلم بهم الشريف ابن أنس الدولة، ثم بقية الطالبيين من الأشراف، ثم سلم القاضي ابن الرسعنيّ بشهوده والداعي ابن عبد الحق بالمؤمنين، ثم سلم القائد مقبل مقدّم الركاب الآمري، بجميع المقدّمين الآمرية، ثم سلم بعدهم الشيخ أبو البركات بن أبي الليث متولي ديوان المملكة ثم دخل الأجناد من باب البحر، وسلم كل طائفة بمقدّمها، فلما انقضى ذلك دخل والي القاهرة، ووالي مصر وسلم كل منهما ببياض أهل البلدين. ثمّ دخل البطرك بالنصارى، وفيهم كتاب الدولة من النصارى، ورئيس اليهود، ومعه الكتاب من اليهود، ثم سلم المقربون، وقد قارب القصر، ودخل الشعراء على طبقاتهم، وأنشد كل منهم ما سمحت به قريحته. قال: فكان هذا رتبة الوزير المأمون، قال ابن المأمون: وأما ما قرّر للوزارة عينا في الشهر بغير إيجاب بل يقبض من بيت المال، فهو ثلاثة آلاف دينار. تفصيلها: ما هو على حكم النيابة في العلامة: ألف دينار، وما هو على حكم الراتب: ألف وخمسمائة دينار، وما هو عن مائة غلام برسم مجلسه، وخدمته لكل غلام: خمسة دنانير في الشهر، فأما الغلمان الركابية، وغيرهم من الفرّاشين والطباخين، فعلى حكم ما يرغب في إثباته، وفي السنة من الإقطاعات: خمسون ألف دينار منها: دهشور، وجزيرة الذهب، وبقية الجملة صفقات، ومن البساتين ثلاثة: بستان لأمير تميم، وبستانان بكوم أشفين. ومن القوت يعني القمح، ومن القضم يعني الشهير والبرسيم في السنة: عشرون ألف إردب قمحا وشعيرا، ومن الغنم برسم مطابخه، ساقه من المراحات ثمانية آلاف رأس، وأما

ذكر الحجر التي كانت برسم الصبيان الحجرية

الحيوان والأحطاب، وجميع التوابل العال منها والدون، فمهما استدعاه متولي المطابخ يطلق من دار أفتكين، وشون الأحطاب، وغير ذلك، وقد تقدّم مقرّر كسوة الوزارة في العيدين، وفصلي الشتاء والصيف، وموسم عيد الغدير وفتخ الخليج، وغير ذلك من غرّتي شهر رمضان، وأوّل العام وغيره، كما سيرد في موضعه من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى. وقد استقصيت سير الوزراء في كتابي الذي سميته تلقيح العقول، والآراء في تنقيح أخبار الجلة الوزراء. فانظره. ذكر الحجر «1» التي كانت برسم الصبيان الحجرية وكان بجوار دار الوزارة مكان كبير يعرف: بالحجر: جمع حجرة فيها الغلمان المختصون بالخلفاء، كما أدركنا بالقلعة البيوت التي كان يقال لها: الطباق، وكانت هذه الحجر من جانب حارة الجوّانية، وإلى حيث المسجد الذي يعرف: بمسجد القاصد تجاه باب الجامع الحاكميّ الذي يفضي إلى باب النصر، فمن حقوق هذه الحجر: دار الأمير بهادر اليوسفيّ السلاحدار الناصريّ، التي تجاور المسجد الكائن على يمنة من سلك من باب الجوّنية طالبا باب النصر، ومنها الحوض المجاور لهذه الدار، ودار الأمير أحمد قريب الملك الناصر محمد بن قلاون، والمسجد المعروف بالنخلة، وما بجواره من القاعتين اللتين تعرف إحداهما: بقاعة الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ، وما في جانبها إلى مسجد القاصد، وما وراء هذه الدور، وكان لهؤلاء الحجرية: إصطبل برسم دوابهم سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وما زالت هذه الحجر باقية بعد انقضاء دولة الخلفاء الفاطميين إلى ما بعد السبعمائة، فهدمت وابتنى الناس مكانها الأماكن المذكورة. قال ابن أبي طيّ: عن المعز لدين الله، وجعل كل ماهر في صنعة صانعا للخاص، وأفرد لهم مكانا برسمهم، وكذلك فعل بالكتاب والأفاضل، وشرط على ولاة الأعمال عرض أولاد الناس بأعمالهم، فمن كان ذا شهامة، وحسن خلقة أرسله ليخدم في الركاب، فسيروا إليه عالما من أولاد الناس، فأفرد لهم دورا، وسماها الحجر. وقال ابن الطوير: وكوتب الأفضل بن أمير الجيوش من عسقلان باجتماع الفرنج، فاهتمّ للتوجه إليها، فلم يبق ممكنا من مال وسلاح، وخيل ورجال واستناب أخاه المظفر:

أبا محمد جعفر بن أمير الجيوش بدر بين يدي الخليفة مكانه، وقصد استنفاذ الساحل من يد الفرنج، فوصل إلى عسقلان، وزحف عليها بذلك العسكر، فخذل من جهة عسكره، وهي نوبة النصة، وعلم أنّ السبب في ذلك من جنده، ولما غلب حرّق جميع ما كان معه من الآلات، وكان عند الفرنج شاعر منتجع إليهم فقال: يخاطب صنجل ملك الفرنج: نصرت بسيفك دين المسيح ... فلله درك من صنجل وما سمع الناس فيما رووه ... بأقبح من كسرة الأفضل فتوصل الأفضل إلى ذبح هذا الشاعر، ولم ينتفع بعد هذه النوبة أحد من الأجناد بالأفضل، وحظر عليهم النعوت ولم يسمع لأحد منهم كلمة، وأنشأ سبع حجر، واختار من أولاد الأجناد ثلاثة آلاف راجل، وقسمهم في الحجر، وجعل لكل مائة زمانا، ونقيبا، وزم الكل بأمير يقال له: الموفق، وأطلق لكل منهم ما يحتاج إليه من خيل وسلاح، وغيره. وعني بهؤلاء الأجناد، فكان إذا دهمه أمر مهمّ جهزهم إليه مع الزمام الأكبر. وقال ابن المأمون: وكان من جملة الحجرية الذين يحضرون السماط رجل يعرف بابن زحل، وكان يأكل خروفا كبيرا مشويا، ويستوفيه إلى آخره، ثم يقدّم له صحن كبير من القصور المعمولة بالسكرة، وجميع صنوف الحيوانات على اختلاف أجناسها، ما لم يعمل قط مثله من الأطعمة، فيأكل معظمه، وكان يقعد في طرف المدوّرة، حتى يكون بالقرب من نظر الخليفة، لا لميزته، وكان من الأجناد وأسر في أيام الأفضل، وقيده الفرنجيّ الذي أسره، وعذبه وطالت مدّته في الأسر، وكان فقيرا، فاتفق أن ذكر للفرنجيّ كثرة أكله، فأراد أن يمتحنه، فقال له: أحضر لي عجلا أكبر عجل عندكم آكله إلى آخره، فضحك منه الفرنجيّ، ونقص عقله وأتاه بعجل كبير، ويقال: بخنزير، فقال له: اذبحه واشوه وائتني معه بجرّة خل، ثم قال: إذا أكلته ما يكون لي عندك، فغلط الفرنجيّ، وقال له: أطلقك حتى تمضي إلى أهلك، فاستحلفه على ذلك، وغلظ عليه اليمين، وأحضر الفرنجيّ عدّة من أصحابه ليشاهدوا فعله، فلما استوفى العجل جميعه صلّب كل من الحاضرين على وجهه وتعجب من فعله، وأطلقه، فقال: أخاف من أن يعتقد أنني هربت فأرد إليكم، فأحضر الفرنجيّ من العربان من سلمه إليهم، ولم يشعر به إلّا بباب عسقلان، فطلع منها، وأعفي بعد ذلك من السفر، وبقي برسم الأسمطة. وقال ابن عبد الظاهر: الحجر قريب من باب النصر، وهو مكان كبير في صف دار الوزارة إلى جانبه باب القوس الذي يسمى: باب النصر قديما على يمنة الخارج من القاهرة، كان تربى فيه جماعة من الشباب يسمون: صبيان الحجر، يكونون في جهات متعدّدة، وهم يناهزون خمسة آلاف نسمة، ولكل حجرة اسم تعرف به، وهي المنصورة، والفتح والجديدة، وغير ذلك مفردة لهم، وعندهم سلاحهم، فإذا جرّوا خرج كل منهم لوقته لا

ذكر المناخ السعيد

يكون له ما يمنعه، وكانوا في ذلك على مثال الذؤابة، والأستار، وكانوا إذا سمى الرجل منهم: بعقل وشجاعة خرج من هناك إلى الأمرة، أو التقدمة مثل عليّ بن السلار، وغيره، ولا يأوي أحد منهم إلا بحجرته بفرسه، وعدّته وقماشه، وللصبيان الحجرية حجرة مفردة، عليهم أستاذون يبيتون عندهم، وخدّام برسمهم. ذكر المناخ السعيد وكان من وراء القصر الكبير فيما يلي ظهر دار الوزارة الكبرى والحجر: المناخ، وهو موضع برسم طواحين القمح التي تطحن جرايات القصور، وبرسم مخازن الأخشاب، والحديد ونحو ذلك. قال ابن الطوير: وأما المناخات ففيها من الحواصل، ما لا يحصره، إلّا القلم من الأخشاب، والحديد، والطواحين النجدية، والغشيمة، وآلات الأساطيل من الأسلحة المعمولة بيد الفرنج القاطنين فيه، والقنب، والكتان، والمنجنيقات المعدّة، والطواحين الدائرة برسم الجرايات المقدّم ذكرها، والزفت في المخازن الذي عليه الأتربة، ولا ينقطع إلّا بالمعاول، وقد أدركت هذه الدولة، يعني دولة بني أيوب منه شيئا كثيرا في هذا المكان انتفع به، وإليه يأوي الفرنج في بيوت برسمهم، وكانت عدّتهم كثيرة، ففيه من النجارين والجزارين، والدهانين والخبازين والخياطين، والفعلة، ومن العجانين، والطحانين في تلك الطواحين، والفرّانين في أفران الجرايات، وفي هذا المكان مادّة أكثر أهل الدولة، وحامية أمير من الأمراء ومشارفه من العدول، وفيه أيضا شاهد النفقات، وعامل يتولى التنفيذ مع المشارف، وعامل برسم نظم الحساب من تعلقاتهما بجار غير جواريهم، لأنّ أوقاتهم مستغرقة في مباشرة الإطلاقات وغيرها، وذكر ابن الطوير: أن المأمون بن البطائحيّ استجدّ طواحين برسم الرواتب. ذكر اصطبل الطارمة «1» الطارمة: بيت من خشب، وهو دخيل، وكان بجوار القصر الكبير، تجاه باب الديلم من شرقيّ الجامع الأزهر اصطبل. قال ابن الطوير: وكان لهم اصطبلان أحدهما يعرف بالطارمة يقابل قصر الشوك، والآخر بحارة زويلة يعرف بالجميزة.

وكان للخليفة الحاضر ما يقرب من ألف رأس في كل اصطبل، النصف من ذلك منها، ما هو برسم الخاص، ومنها ما يخرج برسم العواري لأرباب الرتب، والمستخدمين دائما، ومنها ما يخرج أيام المواسم، وهي التغيرات المتقدّم ذكر إرسالها لأرباب الرتب، والخدم، والمرتب لكل اصطبل منها لكل: ثلاثة أرؤس سائس واحد ملازم، ولكل واحد منها: شدّاد برسم تسييرها، وفي كل اصطبل بئر بساقية، تدور إلى أحواض، ومخازن فيها الشعير، والأقراط اليابسة المحمولة من البلاد إليها، ولكل عشرين رجلا من السّواس: عريف يلتزم دركهم بالضمان لأنهم الذين يتسلمون من خزائن السروج المركبات بالحلي، ويعيدونها إليها كما تقدّم ذكره في خزائن السروج ولكل من الاصطبلين: رائض كأمير أخور، ولهما ميرة، وجامكية متسعة، وللعرفاء على السّواس ميرة، وللجماعات الجرايات من القمح، والخبز خارجا عن الجامكيات، فإذا بقي لأيام المواسم التي يركب فيها الخليفة بالمظلة مدّة أسبوع أخرج إلى كل رائض في الإصطبل مع أستاذ مظلة ديبقيّ مركبة على قنطارية مدهونة، ويختص الرائض على ما يركبه الخليفة إما فرسين أو ثلاثة، وعليهما المركبات الحلي التي يركبها الخليفة، فيركبها الرائض بحائل بينه وبين السرج، ويركب الأستاذ بغلة مظلة، ويحمل تلك المظلة، ويسير في براح الاصطبل، وفيه سعة عظيمة مارّا، وعائدا وحولها البوق والطبل، فيكرّر ذلك عدّة دفعات في كل يوم مدّة ذلك الأسبوع، ليستقرّ ما يركبه الخليفة من الدواب على ذلك، ولا ينفر منه في حال الركوب عليه، فيعمل كذلك في كل اصطبل من الاصطبلين، والدواب البغلة التي تتهيأ، هي التي يركبها الخليفة، وصاحب المظلة يوم الموسم، ولا يختل ذلك. ويقال: إنه ما راثت دابة ولا بالت، والخليفة راكبها، ولا بغلة صاحب المظلة أيضا إلى حين نزولهما عنهما، وكان في الساحل بطريق مصر من القاهرة في البساتين المنسوبة إلى ملك صارم الدين حللبا: شونتان مملوءتان تبنا معبيتان كتعبيته في المراكب كالجبلين الشاهقين، ولهما مستخدمون حام، ومشارف، وعامل بجامكية جيدة تصل بذلك المراكب التبانة المؤهلة له، من موظف الأتبان بالبلاد الساحلية وغيرها، مما يدخل إليه في أيام النيل، ولها رؤساء، وأمرها جار في ديوان العمائر، والصناعة، والإنفاق منها بالتوقيعات السلطانية للاصطبلات المذكورة وغيرها من الأواسي الديوانية، وعوامل بساتين الملك، وإذا جرى بين المستخدمين خلف في الشنف التبن المعتبر، عادوا إلى قبضه بالوزن، فيكون الشنف التبن: ثلثمائة وستين رطلا بالمصريّ، نقيا وإذا أنفقوا دريسا قد تغيرت صورة قته كان عن القتة اثنا عشر رطلا، ولم يزل ذلك كذلك إلى آخر وقته، ومما يخبر عنهم أنهم لم يركبوا حصانا أدهم قط، ولا يرون إضافته إلى دوابهم بالاصطبلات، وقال ابن عبد الظاهر: اصطبل الطارمة: كان اصطبلا للخليفة، فلما زالت تلك الأيام اختط وبنى آدرا.

ذكر دار الضرب وما يتعلق بها

ذكر دار الضرب «1» وما يتعلق بها وكان بجوار خزانة الدرق التي هي اليوم: خان مسرور الكبير، دار الضرب، وموضعها حينئذ كان بالقشاشين التي تعرف اليوم: بالخرّاطين، وصار مكان دار الضرب اليوم: درب يعرف بدرب: الشمسيّ في وسط سوق السقطيين المهامزيين، وباب هذا الدرب: تجاه قيسارية العصفر، فإذا دخلت هذا الدرب، فما كان على يسارك من الدور فهو موضع دار الضرب، وبجوارها دار الوكالة الحافظية، فجعلت الحوانيت التي على يمنة من سلك من رأس الخرّاطين تجاه سوق العنبر طالبا الجامع الأزهر في ظهر دار الضرب، وأنشأ هذه الحوانيت، وما كان يعلوها من البيوت الأمير المعظم: خمرتاش الحافظيّ، وجعلها وقفا، وقال في كتاب وقفها: وحدّ هذه الحوانيت الغربيّ ينتهي إلى دار الضرب، وإلى دار الوكالة، وقد صارت هذه الحوانيت الآن من جملة أوقاف المدرسة الجمالية مما اغتصب من الأوقاف، وما زالت دار الضرب هذه في الدولة الفاطمية باقية إلى أن استبدّ السلطان صلاح الدين، فصارت دار الضرب حيث هي اليوم، كما تقدّم ذكره، وكان لدار الضرب المذكورة في أيامهم أعمال ويعمل بها دنانير الغرّة، ودنانير خميس العدس، ويتولاها قاضي القضاة لجلالة قدرها عندهم. قال ابن المأمون: وفي شوّال منها، وهي سنة ست عشرة وخمسمائة أمر الأجل ببناء دار الضرب بالقاهرة المحروسة لكونها مقرّ الخلافة وموطن الإمامة، فبنيت بالقشاقشين: قبالة المارستان، وسميت بالدار الآمرية، واستخدم لها العدول، وصار دينارها أعلى عيارا من جميع ما يضرب بجميع الأمصار، انتهى. وكانت دار الضرب المذكورة تجاه المارستان، فكان المارستان، بجوار خزانة الدرق، فما عن يمينك الآن إذا سلكت من رأس الخرّاطين، فهو موضع دار الضرب، ودار الوكالة هكذا إلى الحمام التي بالخرّاطين، وما وراءها، وما عن يسارك، فهو موضع المارستان. قال ابن عبد الظاهر: في أيام المأمون بن البطائحي وزير الآمر بأحكام الله بنيت دار الضرب في القشاشين قبالة المارستان الذي هناك وسميت بالدار الآمرية. دار العلم الجديدة «2» : وكان بجوار القصر الكبير الشرقيّ: دار في ظهر خزانة الدرق من باب تربة الزعفران لما أغلق الأفضل بن أمير الجيوش دار العلم التي كان الحاكم بأمر الله

فتحها في باب التبانين اقتضى الحال بعد قتله إعادة دار العلم، فامتنع الوزير المأمون من إعادتها في موضعها، فأشار الثقة زمام القصور بهذا الموضع، فعمل دار العلم في شهر ربيع الأوّل سنة سبع عشرة وخمسمائة، وولاها لأبي محمد حسن بن أدم، واستخدم فيها مقرئين ولم تزل دار العلم عامر حتى زالت الدولة الفاطمية. قال ابن عبد الظاهر: رأيت في بعض كتب الأملاك القديمة ما يدل على أنها قريبة من القصر النافعيّ، وكذا ذكر لي السيد الشريف الحلبيّ، أنها دار ابن أزدمر المجاورة لدار سكنى الآن، خلف فندق مسرور الكبير، وكذلك قال لي والدي رحمه الله، وقد بناها جمال الدين الإستادار الحلبيّ: دارا عظيمة غرم عليها مائة ألف، وأكثر من ذلك على ما ذكره، انتهى. وموضع دار العلم هذه دار كبيرة ذات زلاقة بجوار درب ابن عبد الظاهر قريبا من خان الخليلي، بخط الزراكشة العتيق. موسم أوّل العام: قال ابن المأمون، وأسفرت غرّة سنة سبع عشرة، وخمسمائة، وبادر المستخدمون في الخزائن، وصناديق الإنفاق بحمل ما يحضر بين يدي الخليفة من عين، وورق من ضرب السنة المستجدّة، ورسم جميع من يختص به من إخوته، وجهاته، وقرابته، وأرباب الصنائع، والمستخدمات، وجميع الأستاذين العوالي والأدوان، وثنوا بحمل ما يختص بالأجلّ المأمون، وأولاده، وإخوته، واستأذنوا على تفرقة ما يختص بالأجلّ المأمون، وأولاده، والأصحاب والحواشي والأمراء، والضيوف، والأجناد، فأمروا بتفرقته، والذي اشتمل عليه المبلغ في هذه السنة نظير ما كان قبلها، وجلس المأمون باكرا على السماط بداره، وفرّقت الرسوم على أرباب الخدم والمميزين من جميع أصنافه على ما تضمنته الأوراق، وحضرت التعاشير، والتشريفات، وزي الموكب إلى الدار المأمونية، وتسلم كل من المستخدمين المدارج بأسماء من شرف بالحجبة، ومصفات العساكر، وترتيب الأسمطة، وأصمد كل منهم إلى شغله، وتوجه لخدمته، ثم ركب الخليفة، واستدعى الوزير المأمون، ثم خرج من باب الذهب، وقد نشرت مظلته، وخدمت الرهجية، ورتب الموكب والجنائب، ومصفات العساكر عن يمينه وشماله، وجميع تجار البلدين من الجوهريين والصيارف، والصاغة، والبزازين، وغيرهم قد زينوا الطريق بما تقتضيه تجارة كل منهم، ومعاشه لطلب البركة بنظر الخليفة. وخرج من باب الفتوح، والعساكر فارسها وراجلها بتجملها وزيها، وأبواب حارات العبيد معلقة بالستور، ودخل من باب النصر والصدقات تعمّ المساكين، والرسوم تفرّق على المستقرّين إلى أن دخل من باب الذهب، فلقيه المقرئون بالقرآن الكريم في طول الدهاليز إلى أن دخل خزانة الكسوة الخاص، وغير ثياب الموكب بغيرها، وتوجه إلى تربة آبائه للترحيم على عادته، وبعد ذلك إلى ما رآه من قصوره على سبيل الراحة، وعبيت الأسمطة،

وجرى الحال فيها، وفي جلوس الخليفة، ومن جرت عادته، وتهيئة قصور الخلافة، وتفرقة الرسوم على ما هو مستقرّ. وتوجه الأجلّ المأمون إلى داره، فوجد الحال في الأسمطة على ما جرت به العادة والتوسعة فيها أكثر مما تقدّمها، وكذلك الهناء في صبيحة الموسم بالدار المأمونية والقصور، وحضر من جرت العادة بحضوره للهناء وبعدهم الشعراء على طبقاتهم، وعادت الأمور في أيام السلام، والركوبات، وترتيبها على المعهود، وأحضر كل من المستخدمين في الدواوين ما يتعلق بديوانه من التذاكر، والمطالعات مما تحتاج إليه الدولة في طول السنة، وينعم به ويتصدّق ويحمل إلى الحرمين الشريفين من كل صنف على ما فصل في التذاكر على يد المندوبين، ويحمل إلى الثغور ويخزن من سائر الأصناف ما يستعمل، ويباع في الثغور والبلاد والاستيمار وجريدة الأبواب، وتذكرة الطراز والتوقيع عليها. وقال ابن الطوير: فإذا كان العشر الأخير من ذي الحجة في كل سنة انتصب كل من المستخدمين بالأماكن لإخراج آلات الموكب من الأسلحة وغيرها، فيخرج من خزائن الأسلحة ما يحمله صبيان الركاب حول الخليفة من الأسلحة، وهو الصماصم المصقولة المذهبة، مكان السيوف المحدّبة، والدبابيس الكيمخت «1» الأحمر والأسود، ورؤوسها مدوّرة مضرّسة، واللتوت «2» كذلك ورؤوسها مستطيلة مضرّسة أيضا، وآلات يقال لها: المستوفيات، وهي عمد حديد من طول ذراعين مربة الأشكال بمقابض مدوّرة في أيديهم بعدّة معلومة من كل صنف، فيتسلمها نقباؤهم، وهي في ضمانهم، وعليهم إعادتها إلى الخزائن بعد تقضي الخدمة بها، ويخرج للطائفة من العبيد الأقوياء السودان الشباب، ويقال لهم: أرباب السلاح الصفر، وهم ثلثمائة عبد لكل واحد حربتان بأسنة مصقولة تحتها جلب فضة كل اثنتين في شرابة وثلثمائة درقة بكوامخ فضة، يتسلم ذلك عرفاؤهم على ما تقدّم، فيسلمونه للعبيد لكل واحد حربتان ودرقة. ثم يخرج من خزانة التجمل، وهي من حقوق خزائن السلاح القصب الفضة برسم تشريف الوزير، والأمراء أرباب الرتب، وأزمّة العساكر، والطوائف من الفارس، والراجل وهي رماح ملبسة بأنابيب الفضة المنقوشة بالذهب إلّا ذراعين منها، فيشدّ في ذلك الخالي من الأنابيب عدّة من المعاجر الشرب الملوّنة، ويترك أطرافها المرقومة مسبلة كالصناجق «3» ، وبرءوسها رمامين منفوخة فضة مذهبة وأهلة مجوّفة كذلك، وفيها جلاجل لها حس إذا

تحرّكت، وتكون عدّتها ما يقرب من مائة، ومن العماريات «1» ، وهي شبه الكخاوات «2» من الديباج الأحمر، وهو أجلها والأصفر والقرقوبيّ، والسقلاطون «3» مبطنة مضبوطة بزنانير حرير، وعلى دائر التربيع منها: مناطق بكوامخ فضة مسمورة في جلد نظير عدد القصب، فيسير من القصب عشرة، ومن العماريات مثلها من الحمر خاصة، ويخرج للوزير خاصة لواءان على رمحين طويلين ملبسين، بمثل تلك الأنابيب ونفس اللواء ملفوف غير منشور، وهذا التشريف يسير أمام الوزير، وهو للأمراء من ورائهم، ثم يسير للأمراء أرباب الرتب في الخدم، وأوّلهم صاحب الباب، وهو أجلهم خمس قصبات، وخمس عماريات، ويرسل لأسفهسلار العساكر أربع قصبات، وأربع عماريات من عدّة ألوان، ومن سواهما من الأمراء على قدر طبقاتهم: ثلاث ثلاث واثنتان اثنتان، وواحدة واحدة، ثم يخرج من البنود الخاص الديبقيّ المرقوم الملوّن برماح ملبسة بالأنابيب، وعلى رؤوسها الرمامين، والأهلة للوزير خاصة، ودون هذه البنود مما هو من الحرير على رماح غير ملبسة ورؤوسها ورمامينها من نحاس مجوّف مطليّ بالذهب، فتكون هذه أمام الأمراء المذكورين من تسعة إلى سبعة أذرع برأسها طلعة مصقولة، وهي من خشب القنطاريات داخلة في الطلعة، وعقبها حديد مدوّر أسفل، فهي في كف حاملها الأيمن، وهو يفتلها فيه فتلا متدارك الدوران، وفي يده اليسرى تشابه كبير يخطر بها، وعدّتها ستون مع ستين رجلا يسيرون رجالة في الموكب يسيرون يمنة ويسرة. ثم يخرج من النقارات «4» حمل عشرين بغلا على كل بغل ثلاث مثل نقارات الكوسات «5» بغير كوسات يقال لها طبول، فيتسلمها صناعها، ويسيرون في الموكب اثنين اثنين ولها حس مستحسن، وكان لها ميزة عندهم في التشريف، ثم يخرج لقوم متطوّعين بغير جار، ولا جراية تقرب عدّتهم من مائة رجل لكل واحد درقة من درق اللمط «6» ، وهي واسعة وسيف، ويسيرون أيضا رجالة في الموكب هذا وظيفة خزائن السلاح. ثم يحضر حامي خزائن السروج وهو من الأستاذين المحنكين إليها مع مشارفها، وهو من الشهود المعدّلين، فيخرج منها برسم خاص الخليفة من المركبات الحلي ما هو برسم

ركوبه، وما يجنب في موكبه مائة سرج، منها سبعون على سبعين حصانا، ومنها ثلاثون على ثلاثين بغلة كل مركب مصوغ من ذهب أو من ذهب وفضة، أو من ذهب منزل فيه المينا، أو من فضة منزلة بالمينا، وروادفها وقرابيسها من نسبتها، ومنها ما هو مرصع بالجواهر الفائقة، وفي أعناقها الأطواق الذهب، وقلائد العنبر، وربما يكون في أيدي وأرجل أكثرها خلاخل مسطوحة دائرة عليها، ومكان الجلد من السروج الديباج الأحمر والأصفر، وغيرهما من الألوان والسقلاطون المنقوش بألوان الحرير، قيمة كل دابة، وما عليها من العدّة ألف دينار، فيشرّف الوزير من هذه بعشرة حصن لركوبه وأولاده وإخوته، ومن يعز عليه من أقاربه، ويسلم ذلك لعرفاء الاصطبلات بالعرض عليهم من الجرائد التي هي ثابتة فيها بعلاماتها في أماكنها، وأعدادها، وعدد كل مركب منقوش عليه مثل: أوّل وثان وثالث إلى آخرها كما هو مسطور في الجرائد، فيعرف بذلك قطعة قطعة، ويسلمها العرفاء للشدّادين بضمان عرفائهم إلى أن تعود، وعليهم غرامة ما نقص منها، وإعادتها برمّتها. ثم يخرج من الخزائن المذكورة لأرباب الدواوين المرتبين في الخدم على مقاديرهم مركبات أيضا من الحليّ دون ما تقدّم ذكره، وما تقرب عدّته من ثلثمائة مركب على خيل وبغلات، وبغال يتسلمها العرفاء المتقدّم ذكرهم على الوجه المذكور، وينتدب حاجب يحضر على التفرقة لفلان، وفلان من أرباب الخدم سيفا وقلما، فيعرّف كل شدّاد صاحبه، فيحضر إليه بالقاهرة ومصر سحر يوم الركوب، ولهم من الركاب رسوم من دينار إلى نصف دينار إلى ثلث دينار، فإذا تكمل هذا الأمر، وسلم أيضا الجمالون بالمناخات أغشية العماريات، ويكون إراحة في ذلك كله إلى آخر الثامن والعشرين من ذي الحجة، وأصبح اليوم التاسع والعشرون من سلخه على رأي القوم، عزم الخليفة على الجلوس في الشباك لعرض دوابه الخاص المقدّم ذكرها، ويقال له: يوم عرض الخيل، فيستدعي الوزير بصاحب الرسالة، وهو من كبار الأستاذين المحنكين، وفصحائهم وعقلائهم ومحصليهم، فيمضي إلى استدعائه في هيئة المسرعين على حصان دهراج «1» امتثالا لأمر الخليفة بالإسراع على خلاف حركته المعتادة، فإذا عاد مثل بين يدي الخليفة، وأعلمه باستدعائه الوزير، فيخرج راكبا من مكانه في القصر ولا يركب أحد في القصر إلّا الخليفة، وينزل في السدلا «2» بدهليز باب الملك الذي فيه الشباك، وعليه من ظاهره للناس ستر، فيقف من جانبه الأيمن زمام القصر «3» ، ومن جانبه الأيسر صاحب بيت المال، وهما من الأستاذين المحنكين فيركب

الوزير من داره، وبين يديه الأمراء، فإذا وصل إلى باب القصر ترجل الأمراء، وهو راكب، ويكون دخوله في هذا اليوم من باب العيد، ولا يزال راكبا إلى أوّل باب من الدهاليز الطوال، فينزل هناك، ويمشي فيها، وحواليه حاشيته، وغلمانه وأصحابه، ومن يراه من أولاده، وأقاربه ويصل إلى الشباك فيجد تحته كرسيا كبيرا من كراسي البلق الجيد، فيجلس عليه، ورجلاه تطأ الأرض، فإذا استوى جالسا رفع كل أستاذ الستر من جانبه، فيرى الخليفة جالسا في المرتبة الهائلة، فيقف ويسلم ويخدم بيده إلى الأرض ثلاث مرات، ثم يؤمر بالجلوس على كرسيه، فيجلس ويستفتح القرّاء بالقراءة قبل كل شيء بآيات لائقة بذلك الحال، مقدار نصف ساعة، ثم يسمر الأمراء، ويسرع في عرض الخيل، والبغال الخاص المقدّم ذكرها دابة دابة، وهي هادئة كالعرائس بأيدي شدّاديها إلى أن يكمل عرضها، فيقرأ القرّاء لختم ذلك الجلوس، ويرخي الأستاذان الستر، فيقدّم الوزير ويدخل إليه، ويقبل يديه ورجليه وينصرف عنه إلى داره، فيركب من مكان نزوله، والأمراء بين يديه لوداعه إلى داره ركبانا ومشاة، إلى قريب المكان فإذا صلى الخليفة الظهر بعد انفضاض ما تقدّم، جلس لعرض ما يلبسه في عيد تلك الليلة، وهو يوم افتتاح العام بخزائن الكسوات الخاص، ويكون لباسه فيه البياض غير الموشح فيعين على منديل خاص وبدلة، فأما المنديل: فيسلم الشادّ التاج الشريف، ويقال له شدّة الوقار «1» ، وهو من الأستاذين المحنكين، وله ميزة لممارسة ما يعلو تاج الخليفة فيشدّها شدّة غريبة لا يعرفها سواه، شكل الإهليلجة، ثم يحضر إليه اليتيمة، وهي جوهرة عظيمة لا يعرف لها قيمة فتنظم هي وحواليها ما دونها من الجواهر، وهي موضوعة في الحافر، وهو شكل الهلال من ياقوت أحمر ليس له مثال في الدنيا، فتنظم على خرقة حرير أحسن وضع، ويخيطها شادّ التاج بخياطة خفيفة ممكنة، فتكون بأعلى جبهة الخليفة. ويقال: إنّ زنة الجوهرة سبعة دراهم، وزنة الحافر: أحد عشر مثقالا، وبدائرها قصبة زمرّذ ذبابي «2» له قدر عظيم ثم يؤمر بشدّ المظلة التي تشابهها تلك البدلة المحضرة بين يديه، وهي مناسبة للثياب، ولها عندهم جلالة لكونها تعلو رأس الخليفة، وهي اثنا عشر شوزكا «3» عرض سفل كل شوزك شبر، وطوله ثلاثة أذرع وثلث، وآخر الشورك من فوق دقيق جدّا، فيجتمع ما بين الشوازك في رأس عودها بدائره، وهو قنطارية من الزان ملبسة بأنابيب الذهب، وفي آخر أنبوبة تلي الرأس من جسمه،

فلكة «1» بارزة مقدار عرض إبهام فيشدّ آخر الشوارك في حلقة من ذهب، ويترك متسعا في رأس الرمح، وهو مفروض فتلقى تلك الفلكة، فتمنع المظلة من الحدور في العمود المذكور ولها أضلاع من خشب الخلنج مربعات مكسوّة بوزن الذهب على عدد الشوارك خفاف في الوزن طولها طول الشوارك، وفيها خطاطيف لطاف، وحلق يمسك بعضها بعضا، وهي تنضم وتنفتح على طريقة شوكات الكيزان، ولها رأس شبه الرمانة، ويعلوه رمانة صغيرة، كلها ذهب مرصع بجوهر يظهر للعيان، ولها رفرف دائر يفتحها من نسبتها عرضه أكثر من شبر ونصف، وسفل الرمانة فاصل يكون مقداره ثلاث أصابع، فإذا أدخلت الحلقة الذهب الجامعة لآخر شوارك المظلة في رأس العمود ركبت الرمانة عليها، ولفت في عرض ديبقيّ مذهب، فلا يكشفها منه إلا حاملها عند تسليمها إليه أوّل وقت الركوبة. ثم يؤمر بشدّ لواءي الحمد المختصين بالخليفة، وهما رمحان طويلان ملبسان بمثل أنابيب عمود المظلة إلى حدّ نصفهما، وهما من الحرير الأبيض المرقوم بالذهب، وغير منشورين بل ملفوفين على جسم الرمحين، فيشدّان ليخرجا بخروج المظلة إلى أميرين من حاشية الخليفة، برسم حملهما ويخرج إحدى وعشرون راية لطاف من الحرير المرقوم ملوّنة بكتابة تخالف ألوانها من غيره. ونص كتابتها: نصر من الله وفتح قريب، على رماح مقوّمة من القنا المنتقى، طول كل راية ذراعان في عرض ذراع ونصف في كل واحدة ثلاث طرازات، فتسلم لأحد وعشرين رجلا من فرسان صبيان الخاص «2» ، ولهم بشارة عود الخليفة سالما عشرون دينارا، ثم يخرج رمحان رؤوسهما أهلة من ذهب صامتة في كل واحد سبع من ديباج أحمر وأصفر، وفي فمه طارة مستديرة يدخل فيها الريح، فينفتحان فيظهر شكلهما، ويتسلمهما فارسان من صبيان الخاص، فيكونان أمام الرايات، ثم يخرج السيف الخاص، وهو من صاعقة وقعت على ما يقال، وجلبته ذهب مرصعة بالجوهر في خريطة مرقومة بالذهب لا يظهر إلا رأسه، ليسلم إلى حامله، وهو أمير عظيم القدر، وهذه عندهم رتبة جليلة المقدار، وهو أكبر حامل، ثم يخرج الرمح وهو رمح لطيف في غلاف منظوم من اللؤلؤ، وله سنان مختصر بحلية ذهب، ودرقة بكوامخ ذهب فيها سعة منسوبة إلى حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في غشاء من حرير لتخرج إلى حاملها، وهو أمير مميز، ولهذه الخدمة وصاحبها عندهم جلالة. ثم تشعر الناس بطريق الموكب، وسلوكه لا يتعدّى دورتين إحداهما كبرى، والأخرى

صغرى، أما الكبرى: فمن باب القصر إلى باب النصر مارّا إلى حوض عز الملك نبا، ومسجده هناك، وهو أقصاها ثم ينعطف على يساره طالبا باب الفتوح إلى القصر، والأخرى إذا خرج من باب النصر سار حافا بالسور، ودخل من باب الفتوح، فيعلم الناس بسلوك إحداهما، فيشيرون إذا ركب الخليفة فيها من غير تبديل للموكب ولا تشويش، ولا اختلال، فلا يصبح الصبح من يوم الركوب إلّا وقد اجتمع من بالقاهرة ومصر من أرباب الرتب وأرباب التميزات من أرباب السيوف، والأقلام قياما بين القصرين، وكان براحا واسعا خاليا من البناء الذي فيه اليوم، فيسع القوم لانتظار الخليفة، ويبكر الأمراء إلى الوزير إلى داره، فيركب إلى القصر من غير استدعاء لأنها خدمة لازمة للخليفة، فيسير أمامه تشريفه المقدّم ذكره، والأمراء بين يديه ركبانا ومشاة، وأمامه أولاده وإخوته وكل منهم مرخي الذؤابة بلا حنك، وهو في أبهة عظيمة من الثياب الفاخرة، والمنديل، وهو بالحنك، ويتقلد بالسيف المذهب، فإذا وصل القصر ترجل قبله أهله في أخص مكان لا يصل الأمراء إليه، ودخل من باب القصر، وهو راكب دون الحاضرين إلى دهليز يقال له دهليز العمود، فيترجل على مصطبة هناك، ويمشي بقية الدهليز إلى القاعة فيدخل مقطع الوزارة هو وأولاده وإخوته، وخواص حاشيته، ويجلس الأمراء بالقاعة على دكك معدّة لذلك مكسوّة في الصيف بالحصر السامان، وفي الشتاء بالبسط الجهرمية المحفورة، فإذا أدخلت الدابة لركوب الخليفة وأسندت إلى الكرسيّ الذي يركب عليه من باب المجلس، أخرجت المظلة إلى حاملها، فيكشفها مما هي ملفوفة فيه غير مطوية، فيتسلمها بإعانة أربعة من الصقالبة «1» برسم خدمتها، فيركزها في آلة حديد متخذة شكل القرن وهو مشدود في ركاب حاملها الأيمن بقوّة وتأكيد، فيمسك العمود بحاجز فوق يده، فيبقى وهو منتصف واقف ولم يذكر قط أنها اضطربت في ريح عاصف، ثم يخرج بالسيف، فيتسلمه حامله فإذا تسلمه أرخيت ذؤابته ما دام حاملا له، ثم تخرج الدواة، فتسلم لحاملها، وهو من الأستاذين المحنكين. وكان الوزراء حملوها لقوم من الشهود المعدّلين، وهي الدواة التي كانت من أعاجيب الزمان، وهي في نفسها من الذهب، وحليتها مرجان، وهي ملفوفة في منديل شرب بياض مذهب، وقد قال فيها بعض الشعر: يخاطب الخليفة التي صنعت حلية المرجان في وقته وهذا من أغرب ما يكون ذكر ذلك في بيتين وهما: ألين لداود الحديد كرامة ... فقدّر منه السرد كيف يريد ولأن لك المرجان وهو حجارة ... ومقطعه صعب المرام شديد فيخرج الوزير، ومن كان معه من المقطع، وتنضم إليه الأمراء، ويقفون إلى جانب

الراية، فيرفع صاحب المجلس الستر فيخرج من كان عند الخليفة للخدمة منهم، وفي إثرهم يبرز الخليفة بالهيئة للشروح حالها في لباسه الثياب المعروضة عليه، والمنديل الحامل لليتيمة بأعلى جبهته، وهو محنك مرخي الذؤابة مما يلي جانيه الأيسر، ويتقلد بالسيف المغربي وبيده قضيب الملك، وهو طول شبر ونصف من عود مكسوّ بالذهب المرصع بالدرر والجوهر، فيسلم على الوزير قوم مرتبون لذلك، وعلى أهله على الأمراء بعدهم، ثم يخرج أولئك أوّلا فأوّلا، والوزير يخرج بعد الأمراء فيركب ويقف قبالة باب القصر بهيئته. ويخرج الخليفة وحواليه الأستاذون ودابته ماشية على بسط مفروشة خيفة من زلقها على الرخام، فإذا قارب الباب، وظهر وجهه ضرب رجل ببوق لطيف من ذهب معوج الرأس يقال له: الغربية، بصوت عجيب يخالف أصوات البوقات، فإذا سمع ذلك ضربت الأبواق في الموكب، ونشرت المظلة، وبرز الخليفة من الباب، ووقف وقفة يسيرة بمقدار ركوب الأستاذين المحنكين وغيرهم من أرباب الرتب الذين كانوا بالقاعة للخدمة، وسار الخليفة وعلى يساره صاحب المظلة، وهو يبالغ أن لا يزول عنها ظلها، ثم يكتنف الخليفة مقدّمو صبيان الركاب منهم، اثنان في الشكيمة، واثنان في عنق الدابة من الجانبين، واثنان في ركابه فالأيمن مقدّم المقدّمين، وهو صاحب المقرعة التي يتناولها، ويناولها، وهو المؤدّي عن الخليفة مدّة ركوبه الأوامر، والنواهي، ويسير الموكب بالحث. فأوّله الأمراء وأولادهم، وأخلاط بعض العسكر الأماثل إلى أرباب القصر إلى أرباب الأطواق إلى الأستاذين المحنكين إلى حامل اللوائين من الجانبين إلى حامل الدواة، وهي بينه وبين قربوس السرج إلى صاحب السيف، وهما في الجانب الأيسر كل واحد ممن تقدّم ذكره بين عشرة إلى عشرين من أصحابه، ويحجبه أهل الوزير المقدّم ذكرهم من الجانب الأيمن بعد الأستاذين المحنكين، ثم يأتي الخليفة، وحواليه صبيان الركاب المذكورة، تفرقة السلاح فيهم، وهم أكثر من ألف رجل، وعليهم المناديل الطبقيات، ويتقلدون بالسيوف، وأوساطهم مشدودة بمناديل، وفي أيديهم السلاح مشهور، وهم من جانبي الخليفة كالجناحين المادّين وبينهما فرجة لوجه الفرس ليس فيها أحد، وبالقرب من رأس الصقلبيان الحاملان للمذبتين، وهما مرفوعتان كالنخلتين لما يسقط من طائر وغيره، وهو سائر على تؤدة، ورفق وفي طول الموكب من أوّله إلى آخره والي القاهرة مارّ وعائد، يفسح الطرقات ويسير الركبان فيلقي في عوده الإسفهسلار كذلك مارا وعائدا لحث الأجناد في الحركة والإنكار على المزاحمين المعترضين، ويلقي في عوده صاحب الباب، ومروره في زمرة الخليفة إلى أن يصل إلى الإسفهسلار، فيعود لترتيب الموكب، وحراسة طرقات الخليفة، وفي يد كل منهم دبوس، وهو راكب خير دوابه وأسرعها، هذا لمن أمام الموكب، ثم يسير خلف دابة الخليفة قوم من صبيان

الركاب لحفظ أعقابه، ثم عشرة يحملون عشرة سيوف في خرائط ديباج أحمر وأصفر بشراريب غزيرة يقال لها: سيوف الدم برسم ضرب الأعناق ثم يسير بعدهم صبيان السلاح الصغير، أرباب الفرنجيات المقدّم ذكرهم. ثم يأتي الوزير في هيبة، وفي ركابه من أصحابه قوم يقال لهم: صبيان الزرد من أقوياء الأجناد يختارهم لنفسه ما مقداره خمسمائة رجل من جانبيه بفرجة لطيفة أمامه، دون فرجة الخليفة، وكأنه على وفز من حراسة الخليفة، ويجتهد أن لا يغيب عن نظره، وخلفه الطبول والصنوج والصفافير، وهو مع عدّة كثيرة تدوي بأصواتها وحسّها الدنيا، ثم يأتي حامل الرمح المقدّم ذكره ودرقته حمراء. ثم طوائف الراجل من الركابية والجيوشية، وقبلهما المصامدة، ثم الفرنجية، ثم الوزيرية زمرة زمرة في عدّة وافرة تزيد على أربعة آلاف في الوقت الحاضر، وهم أضعاف ذلك، ثم أصحاب الرايات والسبعين، ثم طوائف العساكر من الآمرية والحجرية الكبار، والحافظية، والحجرية الصغار المنقولين، والأفضلية والجيوشية، ثم الأتراك المصطنعون، ثم الديلم، ثم الأكراد، ثم الغز المصطنعة، وقد كان تقدّم هؤلاء الفرسان عدّة وافرة من المترجلة أرباب قسيّ اليد، وقسيّ الرجل في أكثر من خمسمائة، وهم المعدّون للأساطيل، ويكون من الفرسان المقدّم ذكرهم ما يزيد على ثلاثة آلاف، وهذا كله بعض من كل. فإذا انتهى الموكب إلى المكان المحدود، عادوا على أدراجهم، ويدخلون من باب الفتوح، ويقفون بين القصرين بعد الرجوع، كما كانوا قبله، فإذا وصل الخليفة إلى الجامع الأقمر بالقماحين اليوم وقف وقفة بجملته في موكبه، وانفرج الموكب للوزير، فيتحرّك مسرعا ليصير أمام الخليفة، حتى يدخل بين يديه فيمرّ الخليفة، ويسكع «1» له سكعة ظاهرة، فيشير الخليفة للسلام عليه إشارة خفية، وهذه أعظم مكارمة تصدر عن الخليفة، ولا تكون إلّا للوزير صاحب السيف، وسبقه إلى دخول باب القصر راكبا على عادته إلى موضعه، ويكون الأمراء، قد نزلوا قبله لأنهم في أوائل الموكب، فإذا وصل الخليفة إلى باب القصر، ودخله ترجل الوزير، ودخل قبله الأستاذون المحنكون، وأحدقوا به، والوزير أمام وجه الفرس مكان ترجله إلى الكرسيّ الذي ركب منه، فينزل عليه ويدخل إلى مكانه بعد خدمة المذكورين له، فيخرج الوزير، ويركب من مكانه الجاري به على عادته، والأمراء بين يديه، وأقاربه حواليه، فيركبون من أماكنهم ويسيرون صحبته إلى داره، فيدخل وينزل أيضا إلى مكانه على كرسيّ فتخدمه الجماعة بالوداع، ويتفرّق الناس إلى أماكنهم.

ذكر ما كان يضرب في خميس العدس من خراريب الذهب

فيجدون قد أحضر إليهم الغرّة «1» ، وهو أنه يقدّم الخليفة بأن يضرب بدار الضرب في العشر الآخر من ذي الحجة بتاريخ السنة التي ركب أوّلها في هذا اليوم جملة من الدنانير والرباعية والدراهم المدوّرة المقسقلة، فيحمل إلى الوزير منها ثلثمائة وستون دينارا، وثلثمائة وستون رباعيا وثلثمائة وستون قيراطا، وإلى أولاده، وإخوته من كل صنف من ذلك خمسون، وإلى أرباب الرتب من أصحاب السيوف، والأقلام من عشرة دنانير، وعشر رباعيات، وعشرة قراريط إلى دينار واحد، ورباعيّ واحد، وقيراط واحد، فيقبلون ذلك على حكم البرمكية من مبلغ الخليفة قال: ومبلغ الغرّة التي ينعم بها في أوّل العام المقدّم ذكره من الدنانير والرباعيات والقراريط ما يربط من ثلاثة آلاف دينار، والله تعالى أعلم. ذكر ما كان يضرب في خميس العدس من خراريب الذهب قال ابن المأمون: وأحضر الأجل المأمون كاتب الدفتر، وأمره بالكشف عما كان يضرب برسم خميس العدس من الخراريب الذهب، وهو خمسمائة دينار عن عشرين ألف خروبة، واستدعى كاتب بيت المال، ووقع له بإطلاق ألف دينار، وأمره بإحضار مشارف «2» دار الضرب، وسلمها إليه، فاعتمد ذلك، وضربت عشرون ألف خروبة وأحصرها، فأمر بحملها إلى الخليفة، فسير الخليفة منها إلى المأمون ثلثمائة دينار، وذكر أنها لم تضرب في مدّة خلافة الحافظ لدين الله غير سنة واحدة، ثم بطل حكمها، ونسي ذكرها. قال: وصار ما يضرب باسم الخليفة يعني الآمر بأحكام الله في ستة مواضع: القاهرة، ومصر، وقوص، وعسقلان، وصور، والإسكندرية. وقال ابن عبد الظاهر: خميس العدس كان يضرب فيه خمسمائة، تعمل عشرة آلاف خروبة، كان الأفضل بن أمير الجيوش يحمل منها للخليفة مائتي دينار، والبقية برسمه، ثم جعلت في الأيام المأمونية ألف دينار، وربما زادت أو نقصت يسيرا، وقد تقدّم أنّ قاضي القضاة كان يتولى عيار دار الضرب، ويحضر التغليق بنفسه، ويختم عليه ويحضر للموعد الآخر لفتحه. ذكر دار الوكالة الآمرية كانت دار الوكالة المذكورة، بجانب دار الضرب، وموضعها الآن على يمنة السالك

ذكر مصلى العيد

من رأس الخرّاطين إلى سوق الخيميين، والجامع الأزهر. قال ابن المأمون: في شوّال سنة ست عشرة وخمسمائة، ثم أنشأ، يعني المأمون بن البطائحيّ، وزير الخليفة الآمر بأحكام الله دار الوكالة بالقاهرة المحروسة، لمن يصل من العراقيين والشاميين وغيرهما من التجار، ولم يسبق إلى ذلك. ذكر مصلى العيد وكان في شرقيّ القصر الكبير مصلى العيد من خارج باب النصر، وهذا المصلى بناه القائد جوهر لأجل صلاة العيد في شهر رمضان سنة: ثمان وخمسين وثلثمائة، ثم جدّده العزيز بالله، وبقي بقي إلى الآن بعض هذا المصلى، واتخذ في جانب منه موضع مصلى الأموات اليوم. ذكر هيئة صلاة العيد وما يتعلق بها قال ابن زولاق: وركب المعز لدين الله، يوم الفطر لصلاة العيد إلى مصلى القاهرة التي بناها القائد جوهر، وكان محمد بن أحمد بن الأدرع الحسنيّ، قد بكر وجلس في المصلى تحت القبة في موضع، فجاء الخدم وأقاموه، وأقعدوا موضعه أبا جعفر مسلما، وأقعدوه هو دونه، وكان أبو جعفر مسلم، خلف المعز عن يمينه، وهو يصلي وأقبل المعز في زيه وبنوده وقبابه، وصلى بالناس صلاة العيد تامّة طويلة، قرأ في الأولى بأمّ الكتاب، وهل أتاك حديث الغاشية، ثم كبر بعد القراءة، وركع فأطال، وسجد فأطال، أنا سبحت خلفه في كل ركعة، وفي كل سجدة نيفا وثلاثين تسبيحة. وكان القاضي النعمان بن محمد يبلغ عنه التكبير، وقرأ في الثانية بأمّ الكتاب، وسورة والضحى، ثم كبر أيضا بعد القراءة، وهي صلاة جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وأطال أيضا في الثانية الركوع والسجود، أنا سبحت خلفه نيفا وثلاثين تسبيحة في كل ركعة، وفي كل سجدة، وجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة، وأنكر جماعات يتوسمون بالعلم قراءة قبل التكبير لقلة علمهم، وتقصيرهم في العلوم. حدّثنا محمد بن أحمد قال: حدّثنا عمر بن شيبة، ثنا عبد الله، ورجاء عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليّ عليه السلام: أنه كان يقرأ في صلاة العيد قبل التكبير، فلما فرغ المعز من الصلاة، صعد المنبر وسلم على الناس يمينا وشمالا، ثم ستر بالسترين اللذين كانا على المنبر، فخطب وراءهما على رسمه، وكان في أعلى درجة من المنبر وسادة ديباج مثقل، فجلس عليها بين الخطبتين، واستفتح الخطبة: ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان معه على المنبر القائد جوهر، وعمار بن جعفر، وشفيع صاحب المظلة، ثم قال: الله أكبر الله أكبر واستفتح بذلك، وخطب وأبلغ، وأبكى الناس، وكانت خطبة بخشوع

وخضوع، فلما فرغ من خطبته، انصرف في عساكره وخلفه أولاده الأربعة بالجواشن والخود على الخيل بأحسن زيّ، وساروا بين يديه بالفيلين، فلما حضر في قصره أحضر الناس، فأكلوا وقدّمت إليهم السمط، ونشطهم إلى الطعام، وعتب على من تأخر، وهدّد من بلغه عنه صيام العيد. وقال المسبحيّ في حوادث آخر يوم من رمضان: سنة ثمانين وثلثمائة، وبقيت مصاطب ما بين القصور والمصلى الجديدة ظاهر باب النصر عليها المؤذنون، حتى يتصل التكبير من المصلى إلى القصر، وفيه تقدّم أمر القاضي محمد بن النعمان، بإحضار المتفقهة والمؤمنين يعني الشيعة، وأمرهم بالجلوس يوم العيد على هذه المصاطب ولم يزل يرتب الناس، وكتب رقاعا فيها أسماء الناس، فكانت تخرج رقعة رقعة، فيجلس الناس على مصطبة مصطبة بالترتيب. وفي يوم العيد: ركب العزيز بالله لصلاة العيد، وبين يديه الجنائب، والقباب الديباج بالحليّ والعسكر في زيه من الأتراك، والديلم والعزيزية، والإخشيدية، والكافورية، وأهل العراق بالديباج المثقل والسيوف، والمناطق الذهب، وعلى الجنائب السروج الذهب بالجوهر، والسروج بالعنبر، وبين يديه الفيلة عليها الرجالة بالسلاح، والزرّاقة، وخرج بالمظلة الثقيلة بالجوهر، وبيده قضيب جدّه عليه السلام، فصلى على رسمه وانصرف. وقال ابن المأمون: ولما توفي أمير الجيوش بدر الجماليّ، وانتقل الأمر إلى ولده: الأفضل بن أمير الجيوش جرى على سنن والده في صلاة العيد، ويقف في قوس باب داره الذي عند باب النصر يعني: دار الوزارة فلما سكن بمصر صار يطلع من مصر باكرا، ويقف على باب داره على الحالة الأولى، حتى تستحق الصلاة، فيدخل من باب العيد إلى الإيوان، ويصلي به القاضي ابن الرسعنيّ، ثم يجلس بعد الصلاة على المرتبة إلى أن تنقضي الخطبة فيدخل من باب الملك، ويسلم على الخليفة، بحيث لا يراه أحد غيره، ثم يخلع عليه، ويتوجه إلى داره بمصر، فيكون السماط بها مدى الأعياد، فلما قتل الأفضل، واستقرّ بعده المأمون بن البطائحيّ في الوزارة قال: هذا نقص في حق العيد، ولا يعلم السبب في كون الخليفة لا يظهر، فقال له الخليفة الآمر بأحكام الله: فما تراه أنت؟ فقال: يجلس مولانا في المنظرة التي استجدّت بين باب الذهب، وباب البحر، فإذا جلس مولانا في المنظرة، وفتحت الطاقات، وقف المملوك بين يديه في قوس باب الذهب، وتجوز العساكر فارسها وراجلها، وتشملها بركة نظر مولانا إليها، فإذا حان وقت الصلاة توجه المملوك بالموكب والزيّ وجميع الأمراء والأجناد، واجتاز بأبواب القصر، ودخل الإيوان، فاستحسن ذلك منه، واستصوب رأيه، وبالغ في شكره، ثم عاد المأمون إلى مجلسه، وأمر بتفرقة كسوة العيد والهبات، يعني في عيد النحر، سنة خمس عشرة وخمسمائة، وجملة العين: ثلاثة

آلاف وثلثمائة دينار وسبعة دنانير ومن الكسوات: مائة قطعة وسبع قطع برسم الأمراء المطوّقين، والأستاذين المحنكين، وكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب وغيرهم. قال: ووصلت الكسوة المختصة بالعيد في آخر شهر رمضان يعني من سنة ست عشرة وخمسمائة وهي تشتمل على دون العشرين ألف دينار، وهو عندهم الموسم الكبير، ويسمى بعيد الحلل، لأنّ الحلل فيه تعم الجماعة، وفي غيره للأعيان خاصة، وقد تقدّم تفصيلها عند ذكر خزانة الكسوة من هذا الكتاب. قال: ولما كان في التاسع والعشرين من شهر رمضان، خرجت الأوامر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئين والمؤذنين في كل ليلة برسم السحور بحكم أنها ليلة ختم الشهر، وحضر المأمون في آخر النهار إلى القصر للفطور مع الخليفة، والحضور على الأسمطة على العادة وحضر إخوته وعمومته، وجميع الجلساء، وحضر المقرئون والمؤذنون، وسلّموا على عادتهم وجلسوا تحت الروشن» ، وحمل من عند معظم الجهات والسيدات، والمميزات من أهل القصور بلاحي وموكبيات مملوءة ماء ملفوفة في عراضي ديبقي، وجعلت أمام المذكورين، ليشملها بركة ختم القرآن، واستفتح المقرئون من الحمد إلى خاتمة القرآن تلاوة، وتطريبا ثم وقف بعد ذلك من خطب فأسمع، ودعا فأبلغ، ورفع الفرّاشون ما أعدّوه برسم الجهات، ثم كبر المؤذنون، وهللوا، وأخذوا في الصوفيات إلى أن نثر عليهم من الروشن دراهم ودنانير ورباعيات، وقدّمت جفان القطائف على الرسم مع الحلوى، فجروا على عادتهم، وملأوا أكمامهم، ثم خرج أستاذ من باب الدار الجليلة بخلع خلعها على الخطيب وغيره، ودراهم تفرّق على الطائفتين من المقرئين والمؤذنين، ورسم أن تحمل الفطرة إلى قاعة الذهب، وأن تكون التعبية في مجلس الملك، وتعبى الطيافير المشورة الكبار من السرير إلى باب المجلس، وتعبى من باب المجلس إلى ثلثي القاعة سماطا واحدا مثل سماط الطعام، ويكون جميعه سدا واحدا من حلاوة الموسم، ويزين بالقطع المنفوخ، فامتثل الأمر، وحضر الخليفة إلى الإيوان، واستدعى المأمون، وأولاده وإخوته، وعرضت المظال المذهبة المحاومة، وكان المقرئون يلوّحون عند ذكرها بالآيات التي في سورة النحل والله جعل لكم مما خلق ظلالا إلى آخرها. وجلس الخليفة ورفعت الستور، واستفتح المقرئون، وجدّد المأمون السلام عليه، وجلس على المرتبة عن يمينه، وسلم الأمراء جميعهم على حكم منازلهم لا يتعدّى أحد منهم مكانه والنوّاب جميعهم يستدعونهم بنعوتهم، وترتيب وقوفهم، وسلم الرسل الواصلون من جميع الأقاليم، ووقفوا في آخر الإيوان، وختم المقرئون، وسلموا، وخدمت الرهجية، وتقدّم متولي كل اصطبل من الروّاض وغيرهم يقبل الأرض، ويقف ودخلت الدواب من باب

الديلم والمستخدمون في الركاب بالمناديل يتسلمونها من الشدّادين ويدورون بها حول الإيوان، ودواب المظلة متميزة عن غيرها يتسلمها الأستاذون، والمستخدمون في الركاب ويعلون بها إلى قريب من الشباك الذي فيه الخليفة، وكلما عرض دواب اصطبل قبل الأرض متوليه. وانصرف. وتقدّم متولي غيره على حكمه إلى أن يعرض جميع ما أحضروه، وهو ما يزيد على ألف فارس خارجا عن البغال وما تأخر من العشاريات والحجور والمهارة، ولما عرضت الدواب أبطلت الرهجية، وعاد استفتاح المقرئين، وكانوا محسنين فيما ينتزعونه من القرآن الكريم، مما يوافق الحال، مثل الآية من آل عمران: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ إلى آخرها، ثم بعدها: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ، إلى آخرها. وعرضت الوحوش بالأجلة الديباج والديبقيّ بقباب الذهب، والمناطق، والأهلة وبعدها النجب، والبخاتي بالأقتاب الملبسة بالديبقيّ الملوّن المرقوم، وعرض السلاح، وآلات الموكب جميعها، ونصبت الكسوات على باب العيد، وضربت طول الليل وحملت الفطرة الخاص التي يفطر عليها الخليفة بأصناف الجوارشات بالمسك، والعود والكافور والزعفران والتمور المصبغة التي يستخرج ما فيها، وتحشى بالطيب وغيره، وتسدّ، وتختم وسلمت للمستخدمين في القصور، وعبيت في مواعين الذهب المكللة بالجواهر، وخرجت الأعلام والبنود. وركب المأمون، فلما حصل بقاعة الذهب أخذ في مشاهدة السماط من سرير الملك إلى آخرها، وخرج الخليفة لوقته من الباذهنج، وطلع إلى سرير ملكه، وبين يديه الصواني المقدّم ذكرها، واستدعى بالمأمون، فجلس عن يمينه بعد أداء حق السلام، وأمر بإحضار الأمراء المميزين والقاضي والداعي والضيوف، وسلم كل منهم على حكم ميزته، وقدمت الرسل، وشرّفوا بتقبيل الأرض والمقرئون يتلون، والمؤذنون يهللون ويكبرون، وكشفت القوّارات الشرب المذهبات، عما هو بين يدي الخليفة فبدأ وكبر، وأخذ بيده تمرة، فأفطر عليها، وناول مثلها الوزير، فأظهر الفطر عليها، وأخذ الخليفة في أن يستعمل من جميع ما حضر، ويناول وزيره منه، وهو يقبله ويجعله في كمه، وتقدّمت الأجلاء إخوة الوزير وأولاده من تحت السرير، وهو يناولهم من يده، فيجعلونه في أكمامهم بعد تقبيله، وأخذ كل من الحاضرين كذلك، ويومئ بالفطور ويجعله في كمه على سبيل البركة، فمن كان رأيه الفطور أفطر، ومن لم يكن رأيه أومأ، وجعله في كمه لا ينتقد على أحد فعله. ثم قال المأمون بعد ذلك: ما على من يأخذ من هذا المكان نقيصة بل له به الشرف والميزة، ومدّ يده، وأخذ من الطيفور الذي كان بين يديه عود نبات، وجعله في كمه بعد تقبيله، وأشار إلى الأمراء، فاعتمد كل من الحاضرين ذلك وملأوا أكمامهم، ودخل الناس، فأخذوا جميع ذلك، ثم خرج الوزير إلى داره والجماعة في ركابه، فوجد التعبية فيها من

صدر المجلس إلى آخره على ما أمر به، ولم يعدم مما كان بالقصر غير الصواني الخاص، فجلس على مرتبته والأجلاء أولاده، واستدعى بالعوالي من الأمراء، والقاضي والداعي، والضيوف، فحضروا وشرّفوا بجلوسهم معه، وحصل من مسرّتهم بذلك ما بسطهم، ورفعوا اليسير مما حضر على سبيل الشرف، ثم انصرفوا وحضرت الطوائف، والرسل على طبقاتهم إلى أن حمل جميع ما كان بالدار بأسره، وانقضى حكم الفطور. وعاد للتنفيذ في غيره، وضربت الطبول، والأبواق على أبواب القصور، والدار المأمونية، وأحضرت التغايير، وفرّقت على أربابها من الأجناد والمستخدمين، وخرجت أزمة العساكر فارسها وراجلها، وندب الحاجب الذي بيده الدعوة لترتيب صفوفها من باب القصر إلى المصلى، ثم حضر إلى الدار المأمونية الشيوخ المميزون، وجلس المأمون في مجلسه وأولاده بهيئة العيد وزينته، ورفعت الستور، وابتدأ المقرئون، وسلم متولي الباب والشيوخ، ولم يدخل المجلس غير كاتب الدست، ومتولي الحجبة، وبالغ كل منهما في زيه وملبوسه، وجروا على رسمهم في تقبيل الأرض وعتبة المجلس، ووصل إلى الدار المأمونية التجمل الخاص الذي برسم الخليفة جميعه، القصب الفضة والأعلام والمنجوقات، والعقبات والعماريات، ولواء الوزارة لركوب الخليفة بالمظلة بالطميم، والمراكيب الذهب المرصعة بالجواهر، وغير ذلك من التجملات. وركب المأمون من داره وجميع التشاريف الخاص بين يديه، وخدمت الرهجية، ومن جملتهم الغربية وهي أبواق لطاف عجيبة غريبة الشكل تضرب كل وقت يركب فيه الخليفة ولا تضرب قدّام الوزير إلّا في المواسم خاصة وفي أيام الخلع عليه والأمراء مصطفون عن يمينه، وعن شماله، ويليهم إخوته وبعدهم أولاده، ودخل إلى الإيوان، وجلس على المرتبة المختصة به، وعن يمينه جميع الأجلاء والمميزون وقوف أمامه، ومن انحط عنهم من باب الملك إلى الإيوان قيام، ويخرج خاصة الدولة ريحان إلى المصلى بالفرش الخاص، وآلات الصلاة، وعلق المحراب بالشروب المذهبة، وفرش فيه ثلاث سجادات متراكبة، وأعلاها السجادة اللطيفة التي كانت عندهم معظمة، وهي قطعة من حصير ذكر أنها من جملة حصير: لجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، يصلي عليها، وفرش الأرض جميعها بالحصر المحاريب، ثم علق على جانبي المنبر، وفرش جميع درجه، وجعل أعلاه المخادّ التي يجلس عليها الخليفة، وعلق اللواءان عليه، وقعد تحت القبة خاصة الدولة ريحان والقاضي وأطلق البخور. ولم يفتح من أبوابه إلّا باب واحد، وهو الذي يدخل منه الخليفة، ويقعد الداعي في الدهليز ونقباء المؤمنين بين يديه، وكذلك الأمراء، والأشراف، والشيوخ، والشهود، ومن سواهم من أرباب الحرف ولا يمكن من الدخول إلّا من يعرفه الداعي، ويكون في ضمانه،

واستفتحت الصلاة، وأقبل الخليفة من قصوره بغاية زيه، والعلم الجوهر في منديله، وقضيب الملك بيده، وبنو عمه، وإخوته وأستاذوه في ركابه، وتلقاه المقرئون عند وصوله والخواص، واستدعى بالمأمون، فتقدّم بمفرده، وقبل الأرض، وأخذ السيف والرمح من مقدّمي خزائن الكسوة، والرهجية تخدم، وحمل لواء الحمد بين يديه إلى أن خرج من باب العيد، فوجد المظلة قد نشرت عن يمينه، والذي بيده المدعو في ترتيب الحجبة لمن شرّف بها، لا يتعدّى أحد حكمه، وسائر المواكب بالجنائب الخاص، وخيل التخافيف، ومصفات العساكر والطوائف جميعها بزيها، وراياتها وراء الموكب إلى أن وصل إلى قريب المصلى، والعماريات والزرافات، وقد شدّ على الفيلة بالأسرّة مملوءة رجالا مشيكة بالسلاح لا يتبين منهم إلّا الأحداق، وبأيديهم السيوف المجرّدة، والدرق الحديد الصيني، والعساكر قد اجتمعت وترادفت صفوفا من الجانبين إلى باب المصلى، والنظارة قد ملأت الفضاء لمشاهدة ما لم يبلغوه، والموكب سائر بهم، وقد أحاط بالخليفة والوزير صبيان الخاص، وبعدهم الأجناد بالدروع المسبلة، والزرديات بالمغافر ملثمة، والبروك الحديد بالصماصم والدبابيس. ولما طلع الموكب من ربوة المصلى ترجل متولي الباب، والحجاب ووقف الخليفة بجمعه بالمظلة إلى أن اجتاز المأمون راكبا بمن حول ركابه، وردّ الخليفة السلام عليه بكمه، وصار أمامه، وترجل الأمراء المميزون والأستاذون المحنكون بعدهم، وجميع الأجلاء، وصار كل منهم يبدأ بالسلام على الوزير، ثم على الخليفة إلى أن صار الجميع في ركابه، ولم يدخل من باب المصلى راكبا غير الوزير خاصة، ثم ترجل على بابه الثاني إلى أن وصل الخليفة إليه فاستدعى به، سلم وأخذ الشكيمة بيده إلى أن ترجل الخليفة في الدهليز الآخر، وقصد المحراب والمؤذنون يكبرون قدّامه، واستفتح الخليفة في المحراب وسامته فيه: وزيره والقاضي، والداعي عن يمينه وشماله ليوصلوا التكبير لجماعة المؤذنين من الجانبين، ويتصل منهم التكبير إلى مؤذني مصلى الرجال والنساء الخارجين عن المصلى الكبير، وكاتب الدست وأهله، ومتولي ديوان الإنشاء يصلون تحت عقد المنبر، ولا يمكن غيرهم أن يكون معهم. ولما قضى الخليفة الصلاة، وهي ركعتان قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب، وهل أتاك حديث الغاشية، وكبر سبع تكبيرات، وركع وسجد، وفي الثانية بالفاتحة، وسورة والشمس وضحاها، وكبر خمس تكبيرات، وهذه سنة الجميع ومن ينوب عنهم في صلاة العيدين على الاستمرار وسلم، وخرج من المحراب، وعطف عن يمينه، والحرص عليه شديد ولا يصل إليه إلّا من كان خصيصا به، وصعد المنبر بالخشوع والسكينة، وجميع من بالمصلى والتربة لا يسأم نظره ويكثرون من الدعاء له، ولما حصل في أعلى المنبر أشار إلى المأمون، فقبل الأرض وسارع في الطلوع إليه، وأدّى ما يجب من سلامه، وتعظيم مقامه، ووقف بأعلى

درجة، وأشار إلى القاضي، فتقدّم وقبل كل درجة إلى أن يصل إلى الدرجة الثالثة، وقف عندها، وأخرج الدعو من كمه، وقبله ووضعه على رأسه، وأعلى بما تضمنه وهو ما جرت به العادة من تسمية يوم العيد، وسنته والدعاء للدولة. وكانت الحال في أيام وزراء الأقلام والسيوف إذا حصل الخليفة في أعلى المنبر بقي الوزير مع غيره، وأشار الخليفة إلى القاضي، فيقبل الأرض، ويطلع إلى الدرجة الثالثة ويخرج الدعو من كمه ويقبله، ويضعه على رأسه، ويذكر يوم العيد، وسنته والدعاء للدولة، ثم يستدعي بالوزير بعد ذلك فيصعد بعد القاضي، فراعى الخليفة ذلك الأمر في حق الوزير، فجعل الإشارة منه إليه أوّلا، ورفعه عن أن يكون مأمورا مثل غيره، وجعلها له ميزة على غيره ممن تقدّمه، واستمرّت فيما بعد، واستفتح الخليفة بالتكبير الجاري به العادة في الفطر، والخطبتين إلى آخرهما، وكبر المؤذنون، ورفع اللواءان، وترجل كل أحد من موضعه كما كان ركوبه، وصار الجميع في ركاب الخليفة، وجرى الأمر في رجوعه على ما تقدّم شرحه، ومضى إلى تربة آبائه، وهي سنتهم في كل ركبة بمظلة، وفي كل يوم جمعة مع صدقات، ورسوم تفرّق. وأمّا الوزير المأمون فإنه توجه وخرج من باب العيد، والأمراء بين يديه إلى أن وصل إلى باب الذهب، فدخل منه بعد أن أمر ولده الأكبر بالوصول إلى داره والجلوس على سماط العيد على عادته، ولما دخل المأمون بقاعة الذهب وجد السروع قد وقع من المستخدمين بتعبية السماط، فأمر بتفرقة الرسوم على أربابها، وهو ما يحمل إلى مجلس الوزارة برسم الحاشية، ولكل من حاشية أولاده وإخوته، وكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب، ومتولي الديوان، وكاتب الدفتر، والنائب لكل منهم رسم يصرف قبل جلوس الخليفة، وعند انقضاء الأسمطة لغير المذكورين على قدر منزلة كل منهم، ثم حضر أبو الفضائل ابن أبي الليث، واستأذن على طيافير الفطرة الكبار التي في مجلس الخليفة فأمره الوزير بأن يعتمد في تفرقتها على ما كان يعتمده في الأيام الأفضلية، وهو لكل من يصعد المنبر مع الخليفة طيفور. فلما أخذ الخليفة راحة بعد مضيه إلى التربة جلس على السرير، وبين يديه المائدة اللطيفة الذهب بالمينا، معبأة بالزبادي الذهب، واستدعى الوزير واصطف الناس من المدورة إلى آخر السماط من الجانبين على طبقاتهم، ورفعت الستور، واستفتح المقرئون، ووفيّ الدولة إسعاف متولي المائدة مشدود الوسط، ومقدّم خزانة الشراب، بيده شربة في مرفع ذهب، وغطاء مرصعين بالجوهر والياقوت، ومتولي خزائن الإنفاق بيده خريطة مملوءة دنانير لمن يقف يطلب صدقة، وإنعاما فيؤمر بما يدفع إليه، وتفرقة الرسوم الجاري بها العادة، ولعبت المنافقون، والتحسارية، وتناوب القرّاء، والمنشدون، وأرخيت الستور وعبىء السماط ثانيا على ما كان عليه أوّلا.

ثم رفعت الستور، وجلس على المدورة والسماط من جرت العبادة به، وفرّقت الدنانير على المقرئين، والمنشدين والتحسارية والمنافقين، ومن هو معروف بكثرة الأكل، ونهبت قصور الخلافة، وفرّق من الأصناف ما جرت به العادة، وأرخيت الستور، وأحضر متولي خزانة الكسوة الخاص للخليفة: بدلة إلى أعلى السرير حسبما كان أمره، فلبسها وخلع الثياب التي كانت عليه على الوزير بعد ما بالغ في شكره، والثناء عليه، وتوجه إلى داره، فوصل إليه من الخليفة الصواني الخاص المكللة معبأة على ما كانت بين يديه، وغيرها من الموائد، وكذلك إلى أولاده وإخوته صينية صينية، ولكاتب الدست، ومتولي حجبة الباب مثل ذلك ويكبر الوزير بجلوسه في داره معلنا، وتسارع الناس على طبقاتهم بالعيد، والخلع وبما جرى في صعود المنبر، وحضر الشعراء، وأسنيت لهم الجوائز، وجرى الحال يومئذ في جلوس الخليفة، وفي السلام لجميع الشيوخ والقضاة والشهود والأمراء، والكتاب، ومقدّمي الركاب والمتصدّرين بالجوامع، والفقهاء، والقاهريين، والمصريين، واليهود برئيسهم، والنصارى ببطريقهم على ما جرت به عادتهم، وختم المقرئون، وقدمت الشعراء على طبقاتهم إلى آخرهم وجدّد لكل من الحاضرين سلامه، وانكفأ الخليفة إلى الباذهنج لأداء فريضة الصلاة والراحة بمقدار ما عبيت المائدة الخاص، واستحضر المأمون، وأولاده وإخوته على عادتهم، واستدعى من شرّف بحضور المائدة، وهم الشيخ أبو الحسن كاتب الدست، وأبو الرضى سالم ابنه، ومتولى حجبة الباب، وظهير الدين الكنانيّ على ما كان عليه الحال قبل الصيام، وانقضى حكم العيد. وقال ابن الطوير: إذا قرب آخر العشر الآخر من شهر رمضان خرج الزي من أماكنه، على ما وصفنا في ركوب أوّل العام، ولكن فيه زيادات يأتي ذكرها، ويركب في مستهلّ شوّال بعد تمام شهر رمضان، وعدّته عندهم أبدا ثلاثون يوما، فإذا تهيأت الأمور من الخليفة، والوزير والأمراء، وأرباب الرتب على ما تقدّم، وصار الوزير بجماعته إلى باب القصر، ركب الخليفة بهيئة الخلافة من المظلة واليتيمة والآلات المقدّم ذكرها، ولباسه في هذا اليوم الثياب البياض الموشحة المحومة، وهي أجل لباسهم، والمظلة كذلك، فإنها أبدا تابعة لثيابه كيف كانت الثياب، ويكون خروجه من باب العيد إلى المصلى، والزيادة ظاهرة في هذا اليوم في العساكر، وقد انتظم القوم له صفين من باب القصر إلى باب المصلى، ويكون صاحب بيت المال قد تقدّم على الرسم، لفرش المصلى، فيفرش الطرّاحات على رسمها في المحراب مطابقة، ويعلق سترين يمنة ويسرة في الأيمن: البسملة والفاتحة، وسبح اسم ربك الأعلى، وفي الأيسر: مثل ذلك، وهل أتاك حديث الغاشية، ثم يركز في جانب المصلى لواءين مشدودين على رمحين ملبسين بأنابيب الفضة، وهما مستوران مرخيان، فيدخل الخليفة من شرقيّ المصلى إلى مكان يستريح فيه دقيقة، ثم يخرج محفوظا، كما يحفظ في جامع القاهرة، فيصير إلى المحراب، ويصلي صلاة العيد،

بالتكبيرات المسنونة، والوزير وراءه والقاضي، ويقرأ في كل ركعة، ما هو مرقوم في السترين فإذا فرغ وسلم صعد المنبر للخطابة العيدية يوم الفطر، فإذا جلس في الذروة وهناك طرّاحة سامان أو ديبقيّ على قدرها وباقية يستر بياض على مقداره في تقطيع درجه، وهو مضبوط لا يتغير، فيراه أهل ذلك الجمع جالسا في الذروة ويكون قد وقف أسفل المنبر الوزير، وقاضي القضاة، وصاحب «1» الباب إسفهسلار العساكر، وصاحب السيف وصاحب الرسالة، وزمام القصر، وصاحب دفتر «2» المجلس، وصاحب المظلة، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب بيت المال، وحامل الرمح، ونقيب الأشراف الطالبيين، ووجه الوزير إليه فيشير إليه فيصعد، ويقرب وقوفه منه، ويكون وجهه موازيا رجليه، فيقبلهما بحيث يراه العالم، ثم يقوم ويقف على يمينه، فإذا وقف أشار إلى قاضي القضاة، فيصعد إلى سابع درجة، ويتطلع إليه صاغيا لما يقول، فيشير إليه فيخرج من كمه مدرجا قد أحضر إليه أمس من ديوان الإنشاء بعد عرضه على الخليفة والوزير، فيعلن بقراءة مضمونه. ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم: ثبت بمن شرّف بصعوده المنبر الشريف في يوم كذا، وهو عيد الفطر من سنة كذا من عبيد أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين بعد صعود السيد الأجل، ونعوته المقرّرة ودعائه المحرّر، فإن أراد الخليفة أن يشرّف أحدا من أولاد الوزير، وإخوته استدعاه القاضي بالنعت المذكور، ثم يتلو ذلك ذكر القاضي وهو القارئ، فلا يتسع له أن يقول عن نفسه نعوته ولا دعاءه، بل يقول: المملوك فلان بن فلان، وقرأه مرّة القاضي ابن أبي عقيل. فلما وصل إلى اسمه قال: العبد الذليل المعترف بالصنع الجميل في المقام الجليل أحمد بن عبد الرحمن بن أبي عقيل، فاستحسن ذلك منه، ثم حذا حذوه الأعز بن سلامة، وقد استقضى في آخر الوقت، فقال المملوك في محل الكرامة الذي عليه من الولاء أصدق علامة: حسن بن عليّ بن سلامة، ثم يستدعي من ذكرنا وقوفهم على باب المنبر بنعوتهم، وذكر خدمهم ودعائهم على الترتيب، فإذا طلع الجماعة وكل منهم يعرف مقامه في المنبر يمنة ويسرة أشار الوزير إليهم، فأخذ هو من كل جانب بيده نصيبا من اللواء الذي بجانبه، فيستر الخليفة، ويسترون وينادى في الناس بأن ينصتوا، فيخطب الخليفة من المسطور على العادة، وهي خطبة بليغة موافقة لذلك اليوم، فإذا فرغ ألقى كل من في يده من اللواء شيء خارج المنبر، فينكشفون وينزلون أوّلا فأوّلا، الأقرب فالأقرب إلى القهقرى فإذا خلا المنبر منهم، قام الخليفة هابطا، ودخل إلى المكان الذي خرج منه، فلبث يسيرا وركب في زيه

المفخم وعاد من طريقه بعينها إلى إن يصل إلى قريب القصر، فيتقدّمه الوزير كما شرحنا، ثم يدخل من باب العيد، فيجلس في الشباك، وقد نصب منه إلى فسقية كانت في وسط الإيوان مقدار عشرين قصبة سماط من الخشكنان والبسندود والبرماورد «1» مثل الجبل الشاهق، وفيه القطعة وزنها من ربع قنطار إلى رطل، فيدخل ذلك الجمع إليه، ويفطر منه من يفطر، وينقل منه من ينقل، ويباح ولا يحجر عليه، ولا مانع دونه، فيمرّ ذلك بأيدي الناس وليس هو مما يعتدّ به ولا يعبئ مما يفرّق للناس، ويحمل إلى دورهم، ويعمل في هذا اليوم سماط من الطعام في القاعة يحضر عليه الخليفة والوزير، فإذا انقضى ذو القعدة، وهلّ هلال ذي الحجة، اهتمّ بركوب عيد النحر، فيجري حاله كما جرى في عيد الفطر من الزي والركوب إلى المصلى، ويكون لباس الخليفة فيه الأحمر الموشح، ولا ينخرم منه شيء، انتهى. وصعد مرّة الخليفة الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد المنبر يوم عيد، فوقف الشريف ابن أنس الدولة بإزائه، وقال مشيرا إلى الحاضرين: خشوعا فإنّ الله هذا مقامه ... وهمسا فهذا وجهه وكلامه وهذا الذي في كل وقت بروزه ... تحياته من ربنا وسلامه فضرب الحافظ الجانب الأيسر من المنبر، فرقي إليه زمام القصر، فقال له: قل للشريف حسبك، قضيب حاجتك، ولم يدعه يقول شيئا آخر، وكانت تكبت المخلقات بركوب أمير المؤمنين لصلاة العيد، ويبعث بها إلى الأعمال. فمما كتب به من إنشاء ابن الصيرفي: أمّا بعد، فالحمد لله الذي رفع بأمير المؤمنين، عماد الإيمان، وثبت قواعده وأعز بخلافته معتقده، وأذل بمعابته معانده، وأظهر من نوره مان انبسط في الآفاق، وزال معه الإظلام، ونسخ به ما تقدّمه من الملل، فقال: إنّ الدين عند الله الإسلام، وجعل المعتصم بحبله مفضلا على من يفاخره، ويباهيه وأوجب دخول الجنة، وخلودها لمن عمل بأوامره ونواهيه، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه الذي اصطفى له الدين وبعثه إلى الأقربين والأبعدين، وأيده في الإرشاد حتى صار العاصي مطيعا، ودخل الناس في التوحيد فرادى وجميعا، وغدوا بعروته الوثقى متمسكين، وأنزل عليه قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين، وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إمام الأمّة، وكاشف الغمة، وأوجه الشفعاء لشيعته يوم العرض، ومن الإخلاص في ولائه قيام بحق وأداء فرض، وعلى الأئمة من ذريتهما سادة البرية، والعادلين في القضية، والعاملين بالسيرة المرضية، وسلم وكرم،

ذكر القصر الصغير الغربي

وشرّف وعظم وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم الثلاثاء: عيد الفطر من سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وقد كان من قيام أمير المؤمنين بحقه وأدائه، وجريه في ذلك على عادته، وعادة من قبله من آبائه، ما ينبئك به، ويطلعك على مستوره عنك ومغيبه، وذلك أن دنس ثوب الليل لما بيضه الصباح، وعاد المحرّم المحظور بما أطلقه المحلل المباح، توجهت عساكر أمير المؤمنين من مظانها إلى بابه، وأفطرت بين يديه بعد ما حازته من أجر الصيام وثوابه، ثم انثنت إلى مصافها في الهيئات، التي يقصر عنها تجريد الصفات، وتغني مهابتها عن تجريد المرهفات، وتشهد أسلحتها وعددها بالتنافس في الهمم، وتلق مواضيها في أغمادها شوقا إلى الطلى والقمم، وقد امتلأت الأرض بازدحام الرجل والخيل، وثار العجاج فلم ير أغرب من اجتماع النهار والليل، وبرز أمير المؤمنين من قصوره، وظهر للأبصار على أنه محتجب بضيائه ونوره، وتوجه إلى المصلى في هدي جدّه وأبيه، والوقار الذي ارتفع فيه عن النظير والشبيه، ولما انتهى إليه قصد المحراب واستقبله، وأدّى الصلاة على وضع رضيه الله وتقبله، وأجرى أمرها على أفضل المعهود، ووفاها حقها من القراءة والتكبير والركوع والسجود، وانتهى إلى المنبر، فعلا وكبر الله، وهلله على ما أولاه، وذكر الثواب على إخراج الفطرة وبشر به، وإنّ المسارعة إليه من وسائل المحافظة على الخير وقربه، ووعظ وعظا ينتفع قابله في عاجلته ومنقلبه، ثم عاد إلى قصوره الزاهرة مشمولا بالوقاية، مكنوفا بالكفاية، منتهيا في إرشاد عبيده، ورعاياه أقصى الغاية، أعلمك أمير المؤمنين خبر هذا اليوم، لتعلم منه ما تسكن إليه وتعلن بتلاوته على الكافة ليشتركوا في معرفته، ويشكروا الله عليه، فاعلم هذا، واعمل به إن شاء الله تعالى. وكان من أهل برقة طائفة تعرف بصبيان الخف لها إقطاعات وجرايات، وكسوات ورسوم فإذا ركب الخليفة في العيدين مدّوا حبلين مسطوحين من أعلى باب النصر إلى الأرض حبلا عن يمين الباب، وحبلا عن شماله، فإذا عاد الخليفة من المصلى، نزل على الحبلين طائفة من هؤلاء على أشكال خيل من خشب، مدهون وفي أيديهم رايات، وخلف كل واحد منهم رديف، وتحت رجليه آخر معلق بيديه ورجليه، ويعملون أعمالا تذهل العقول، ويركب منهم جماعة في الموكب على خيول، فيركضون وهم يتقلبون عليها، ويخرج الواحد منهم من تحت إبط الفرس، وهو يركض، ويعود يركب من الجانب الآخر، ويعود، وهو على حاله لا يتوقف، ولا يسقط منه شيء إلى الأرض، ومنهم من يقف على ظهر الحصان، فيركض به، وهو واقف. ذكر القصر الصغير الغربي وكان تجاه القصر الكبير الشرقيّ الذي تقدّم ذكره في غريبه قصر آخر صغير يعرف بالقصر الغربي، ومكانه الآن حيث المارستان المنصوري، وما في صفّه من المدارس، ودار الأمير بيسري، وباب قبو الخرنشف، وربع الملك الكامل المطل على سوق الدجاجين اليوم المعروف قديما بالتبانين، وما يجاوره من الدرب المعروف اليوم بدرب الخضيري تجاه

الجامع الأقمر، وما وراء هذه الأماكن إلى الخليج، وكان هذا القصر الغربيّ يعرف أيضا بقصر البحر والذي بناه العزيز بالله نزار بن المعز. قال المسبحي: ولم يبن مثله في شرق، ولا في غرب. وقال ابن أبي طيّ في أخبار سنة سبع وخمسين وأربعمائة، ففيها تمم الخليفة المستنصر بناء القصر الغربيّ، وسكنه، وغرم عليه ألفي ألف دينار وكان ابتداء بنيانه في سنة خمسين وأربعمائة، وكان سبب بنائه أنه غرم على أن يجعله منزلا للخليفة القائم بأمر الله صاحب بغداد، ويجمع بني العباس إليه، ويجعله كالمجلس لهم، فخانه أمله، وتممه في هذه السنة، وجعله لنفسه وسكنه. وقال ابن ميسر: إن ست الملك أخت الحاكم كانت أكبر من أخيها الحاكم، وإنّ والدها العزيز بالله كان قد أفردها بسكنى القصر الغربيّ، وجعل لها طائفة برسمها كانوا يسمون: بالقصرية، وهذا يدلك على أنّ القصر الغربيّ كان قد بنى قبل المستنصر، وهو الصحيح، وكان هذا القصر يشتمل أيضا على عدّة أماكن: الميدان: وكان بجوار القصر الغربيّ، ومن حقوقه الميدان، ويعرف هذا الميدان اليوم بالخرنشف واصطبل القطبية. البستان الكافوري: وكان من حقوق القصر الصغير الغربيّ: البستان الكافوريّ، وكان بستانا أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج بن جف الإخشيد أمير مصر، وكان مطلا على الخليج، فاعتنى به الإخشيد، وجعل له أبوابا من حديد، وكان ينزل به، ويقيم فيه الأيام، واهتمّ بشأنه من بعد الإخشيد ابناه: الأمير أبو القاسم أونوجور بن الإخشيد، والأمير أبو الحسن عليّ بن الإخشيد في أيام إمهارتهما بعد أبيهما، فلما استبدّ من بعدهما الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيديّ بإمارة مصر كان كثيرا ما يتنزه به، ويواصل الركوب إلى الميدان الذي كان فيه وكانت خيوله بهذا الميدان. فلما قدم القائد جوهر من المغرب بجيوش مولاه المعز لدين الله لأخذ ديار مصر، أناخ بجوار هذا البستان، وجعله من جملة القاهرة، وكان منتزها للخلفاء الفاطميين مدّة أيامهم، وكانوا يتوصلون إليه من سراديب مبنية تحت الأرض، ينزلون إليها من القصر الكبير الشرقيّ، ويسيرون فيها بالدواب إلى البستان الكافوريّ، ومناظر اللؤلؤة، بحيث لا تراهم الأعين، وما زال البستان عامرا إلى أن زالت الدولة، فحكر وبنى فيه في سنة إحدى وخمسين وستمائة، كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، عند ذكر الحارات والخطط من هذا الكتاب، وأما الأقباء والسراديب، فإنها عملت أسربة للمراحيض، وهي باقية إلى يومنا هذا تصب في الخليج.

أبواب القصر الغربي

القاعة: وكان من جملة القصر الغربيّ قاعة كبيرة هي الآن المارستان المنصوري، حيث المرضى، كانت سكن ست الملك أخت الحاكم بأمر الله، وكانت أحوالها متسعة جدّا. قال في كتاب الذخائر والتحف: وأهدت السيدة الشريفة ست الملك أخت الحاكم بأمر الله إلى أخيها يوم الثلاثاء التاسع من شعبان سنة سبع وثمان وثلثمائة: هدايا من جملتها: ثلاثون فرسا بمركبها ذهبا، منها: مركب واحد مرصع، ومركب من حجر البلور وعشرون بغلة بسروحها ولحمها، وخمسون خادما منهم عشرة صقالبة، ومائة تخت من أنواع الثياب، وفاخرها، وتاج مرصع بنفيس الجوهر، وبديعه وشاشية مرصعة، وأسفاط كثيرة من طيب من سائر أنواعه، وبستان من الفضة مزروع من أنواع الشجر. قال: وخلفت حين ماتت في مستهل جمادى الآخرة من سنة خمس وعشرين وأربعمائة ما لا يحصى كثرة، وكان إقطاعها في كل سنة يغل خمسين ألف دينار، ووجد لها بعد وفاتها ثمانية آلاف جارية منها بنيات ألف وخمسمائة، وكانت سمحة نبيلة كريمة الأخلاق والفعل، وكان في جملة موجودها نيف وثلاثون زيرا صينيا مملوءا جميعها مسكا مسحوقا، ووجد لها جوهر نفيس من جملته قطعة ياقوت ذكر أن فيها عشرة مثاقيل. قال المسبحيّ: ولدت بالمغرب في ذي القعدة سنة خمس وثلثمائة، ولما زالت الدولة عرفت هذه الدار: بالأمير فخر الدين جهاركس «1» موسك ثم بالملك المفضل قطب الدين «2» بن الملك العادل، فلما كان في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثمانين وستمائة، شرع الملك المنصور قلاون الألفي في بنائها مارستانا، ومدرسة وتربة، وتولى عمارتها الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ، مدبر الممالك، ويقال: إن ذرع هذه الدار عشرة آلاف وستمائة ذراع. أبواب القصر الغربيّ كان لهذا القصر عدّة أبواب: منها: باب الساباط، وباب التبانين، وباب الزمرّذ. باب الساباط: هذا الباب موضعه الآن باب سرّ المارستان المنصوري الذي يخرج منه الآن إلى الخرنشف وكان من الرسم، أن يذبح في باب الساباط المذكور، مدّة أيام النحر، وفي عيد الغدير عدّة ذبائح تفرّق على سبيل الشرف. قال ابن المأمون: في سنة ست عشرة وخمسمائة، وجملة ما نحره الخليفة الآمر بأحكام الله، وذبحه خاصة في المنحر، وباب الساباط دون المأمون، وأولاده وإخوته في ثلاثة الأيام: ألف وسبعمائة وستة وأربعون رأسا، فذكر ما كان بالمنحر قال: وفي باب

ذكر دار العلم

الساباط مما يحمل إلى من حوته القصور، وإلى دار الوزارة، والأصحاب والحواشي اثنتا عشرة ناقة، وثمانية عشر رأس بقر، وخمسة عشر رأس جاموس، ومن الكباش: ألف وثمانمائة رأس، ويتصدّق كل يوم في باب الساباط بسقط ما يذبح من النوق والبقر. وقال ابن عبد الظاهر: كان في القصر باب يعرف بباب الساباط، كان الخليفة في العبيد يخرج منه إلى الميدان، وهو الخرنشف الآن لينحر فيه الضحايا. باب التبانين: هذا الباب، مكان باب الخرنشف الآن، وجعل في موضعه دار العلم التي بناها الحاكم الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى. باب الزمرّذ: كان موضع اصطبل القطبية قريبا من باب البستان الكافوريّ الموجود الآن. ذكر دار العلم وكان بجوار القصر الغربيّ من بحريه دار العلم، ويدخل إليها من باب التبانين الذي هو الآن يعرف: بقبو الخرنشف، وصار مكان دار العلم الآن، الدار المعروفة: بدار الخضيري الكائنة بدرب الخضيري المقابل للجامع الأقمر ودار العلم هذه، اتخذها الحاكم بأمر الله، فاستمرّت إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش. قال الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله المسبحيّ: وفي يوم السبت هذا يعني العاشر من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة: فتحت الدار الملقبة بدار الحكمة بالقاهرة، وجلس فيها الفقهاء، وحملت الكتب إليها من خزائن القصور المعمورة ودخل الناس إليها، ونسخ كل من التمس نسخ شيء مما فيها مما التمسه، وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها، وجلس فيها القرّاء والمنجمون، وأصحاب النحو واللغة، والأطباء بعد أن فرشت هذه الدار، وزخرفت وعلقت على جميع أبوابها وممرّاتها الستور، وأقيم قوّام وخدّام وفرّاشون، وغيرهم وسموا بخدمتها، وحصل في هذه الدار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم، والآداب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله مجتمعا لأحد قط من الملوك. وأباح ذلك كله لسائر الناس، على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب، والنظر فيها فكان ذلك من المحاسن المأثورة أيضا، التي لم يسمع بمثلها من إجراء الرزق السنيّ، لمن رسم له بالجلوس فيها، والخدمة لها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على طبقاتهم، فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر، والأقلام، والورق والمحابر، وهي الدار المعروفة بمختار الصقلبيّ. قال: وفي سنة ثلاث وأربعمائة: أحضر جماعة من دار العلم من أهل الحساب

والمنطق وجماعة من الفقهاء منهم: عبد الغنيّ بن سعيد، وجماعة من الأطباء إلى حضرة الحاكم بأمر الله، وكانت كل طائفة تحضر على انفرادها للمناظرة بين يديه، ثم خلع على الجميع ووصلهم، ووقف الحاكم بأمر الله أماكن في فسطاط مصر على عدّة مواضع، وضمنها كتابا ثبت على قاضي القضاة: مالك بن سعيد، وقد ذكر عند ذكر الجامع الأزهر، وقال فيه: وقد ذكر دار العلم، ويكون العشر وثمن العشر لدار الحكمة لما يحتاج إليه في كل سنة من العين المغربيّ: مائتان وسبعة وخمسون دينارا، من ذلك الثمن الحصر العبدانيّ، وغيرها لهذه الدار عشرة دنانير، ومن ذلك لورق الكاتب يعني الناسخ تسعون دينارا، ومن ذلك للخازن بها ثمانية وأربعون دينارا، ومن ذلك لثمن الماء اثنا عشر دينارا، ومن ذلك للفرّاش خمسة عشر دينارا، ومن ذلك للورق والحبر، والأقلام لمن ينظر فيها من الفقهاء اثنا عشر دينارا، ومن ذلك لمرمّة الستارة: دينار واحد، ومن ذلك لمرمة ما عسى أن يتقطع من الكتب وما عساه أن يسقط من ورقها: اثنا عشر دينارا، ومن ذلك لثمن لبود للفرش في الشتاء خمسة دنانير، ومن ذلك لثمن طنافس في الشتاء أربعة دنانير. وقال ابن المأمون: وفي هذا الشهر يعني شهر ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة جرت نوبة القصار، وهي طويلة، وأوّلها من الأيام الأفضلية، وكان فيهم رجلان يسمى أحدهما: بركات، والآخر: حميد بن مكيّ الإطفيحيّ القصار، مع جماعة يعرفون بالبديعية، وهم على الإسلام والمذاهب الثلاثة المشهورة، وكانوا يجتمعون في دار العلم بالقاهرة، فاعتمد بركات من جملتهم أن استفسد عقول جماعة، وأخرجهم عن الصواب، وكان ذلك في أيام الأفضل فأمر للوقت بغلق دار العلم، والقبض على المذكور، فهرب، وكان من جملة من استفسد عقله بركات المذكور: أستاذان من القصر. فلما طلب بركات المذكور، واستتر دقق الأستاذان الحيلة إلى أن دخلاه عندهما في زيّ جارية اشترياها، وقاما بحقه، وجميع ما يحتاج إليه، وصار أهله يدخلون إليه في بعض الأوقات، فمرض بركات عند الأستاذين، فحارا في أمره ومداواته، وتعذر عليهما إحضار طبيب له، واشتدّ مرضه، ومات، فأعملا الحيلة، وعرّفا زمام القصر، أنّ إحدى عجائزهما قد توفيت، وأن عجائزهما يغسلنها على عادة القصور، ويشيعنها إلى تربة النعمان بالقرافة، وكتبا عدّة من يخرج، ففسح لهما في العدّة، وأخذا في غسله، وألبساه ما أخذاه من أهله، وهو ثياب معلمة، وشاشية ومنديل، وطيلسان مقوّر، وأدرجوه في الديبقيّ، وتوجه مع التابوت الأستاذان المشار إليهما، فلما قطعوا به بعض الطريق أرادا تكميل الأجر له على قدر عقولهما، فقالا للحمالين: هو رجل تربيته عندنا فنادوا عليه: نداء الرجال، واكتموا الحال، وهذه أربعة دنانير لكم، فسرّ الحمالون بذلك، فلما عادوا إلى صاحب الدكان عرّفوه بما جرى، وقاسموه الدنانير، فخافت نفسه، وعلم أنها قضية لا تخفى، فمضى بهم إلى الوالي، وشرح له القضية فأودعهم في الاعتقال، وأخذ الذهب منهم، وكتب مطالعة بالحال.

فمن أوّل ما سمع القائد أبو عبد الله بن فاتك الذي قيل له بعد ذلك: المأمون بالقضية، وكان مدبر الأمور في الأيام الأفضلية قال: هو بركات المطلوب، وأمر بإحضار الأستاذين والكشف عن القضية، وإحضار الحمالين، والكشف عن القبر بحضورهم، فإذا تحققوه أمرهم بلعنه، فمن أجاب إلى ذلك منهم أطلقوه، ومن أبى أحضروه، فحققوا معرفته، فمنهم من بصق في وجهه، وتبرّأ منه، ومنهم من همّ بتقبيله، ولم يتبرّأ منه، فجلس الأفضل واستدعى الوالي والسياف، واستدعى من كان تحت الحوطة من أصحابه، فكل من تبرّأ منه، ولعنه أطلق سبيله، وبقي من الجماعة ممن لم يتبرّأ منه: خمسة نفر وصبيّ لم يبلغ الحلم، فأمر بضرب رقابهم، وطلب الأستاذين، فلم يقدر عليهما، وقال للصبيّ: من لفظه تبرّأ منه، وأنعم عليك، وأطلق سبيلك فقال له: الله يطالبك إن لم تلحقني بهم، فإني مشاهد ما هم فيه، وأخذ بسيفه على الأفضل، فأمر بضرب عنقه، فلما توفي الأفضل أمر الخليفة الآمر بأحكام الله: وزيره المأمون بن البطائحيّ باتخاذ دار العلم، وأفسد عقل أستاذ وخياط، وجماعة، وادّعى الربوبية فحضر الداعي ابن عبد الحقيق إلى الوزير المأمون، وعرّفه بأنّ هذا قد تعرّف بطرف من علم الكلام، على مذهب أبي الحسن الأشعريّ، ثم انسلخ عن الإسلام، وسلك طريق الحلاج في التمويه فاستهوى من ضعف عقله، وقلة بصيرته، فإنّ الحلاج في أوّل أمره كان يدّعي أنه: داعية المهديّ، ثم ادّعى أنه المهديّ ثم ادّعى الإلهية، وأنّ الجنّ تخدمه، وأنه أحيى عدّة من الطيور، وكان هذا القصار شيعيّ الدين، وجرت له أمور في الأيام الأفضلية، ونفي دفعة واعتقل أخرى، ثم هرب بعد ذلك، ثم حضر وصار يواصل طلوع الجبل، واستصحب من استهواء من أصحابه، فإذا أبعد قال لبعضهم بعد أن يصلي ركعتين: نطلب شيئا تأكله أصحابنا فيمضي، ولا يلبث دون أن يعود، ومعه ما كان أعدّه مع بعض خاصته الذين يطلعون على باطنه، فكانوا يهابونه ويعظمونه حتى أنهم يخافون الإثم في تأمّل صورته، فلا ينفكون مطرقين بين يديه، وكان قصيرا دميم الخلقة، وادّعى مع ذلك الربوبية وكان ممن اختص بحميد رجل خياط وخصيّ، فرسم المأمون بالقبض على المذكور، وعلى جميع أصحابه فهرب الخياط، وطلب فلم يوجد، ونودي عليه وبذل لمن يحضر به مال، فلم يقدر عليه، واعتقل القصار وأصحابه، وقرّروا فلم يقرّوا بشيء من حاله، وبعد أيام تماوت في الحبس. فلما استؤمر عليه أمر بدفنه، فلما حمل ليدفن ظهر أنه حيّ، فأعيد إلى الاعتقال، وبقي كل من لم يتبرّأ منه معتقلا ما خلى الخصيّ، فإنه لم يتبرّأ منه، وذكر أن القتل لا يصل إليه فأمر بقطع لسانه، ورمى قدّامه، وهو مصرّ على ما في نفسه، فأخرج القصار، والخصيّ، ومن لم يتبرّأ منه من أصحابه فصلبوا على الخشب، وضربوا بالنشاب، فماتوا لوقتهم، ثم نودي على الخياط ثانيا، فاحضر وفعل به ما فعل بأصحابه بعد أن قيل له: ها أنت تنظره، فلم يتبرّأ منه، وصلب إلى جانبه.

وذكر أن بعض أصحاب هذا القصار ممن لم يعرف أنه كان يشتري الكافور، ويرميه بالقرب من خشبته التي هو مصلوب عليها، فيستقبل رائحته من سلك تلك الطريق ويقصد بذلك أن يربط عقول من كان القصار قد أضله، فأمر المأمون أن يحطوا عن الخشب، وأن تخلط رممهم ويدفنوا متفرّقين، حتى لا يعرف قبر القصار من قبورهم، وكان قتلهم في سنة سبع عشرة وخمسمائة، وابتداء هذه القضية سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. قال: وكان الشريف عبد الله يحدّث عن صديق له مأمول القول: إنه أخبره أنه لما شاع خبر هذا القصار، وما ظهر منه أراد أن يمتحنه، فتسبب إلى أن خالطه، وصار في جملة أصحابه، ومن يعظمه ويطلع معه إلى الجبل، فأفسد عقله، وغير معتقده، وأخرجه عن الإسلام، وأنه لامه على ذلك، وردعه فحدّثه بعجائب منها أنه قال: والله ما من الجماعة الذين يطلعون معه إلى الجبل أحد إلّا ويسأله، ويستدعيه ما يريد على سبيل الامتحان فيحضره إليه لوقته، وإنّ بيده سكينا لا تقطع إلّا بيده، وإذا أمسك طائرا، وقبضه أحد من الحاضرين يدفع السكين التي معه له، ويقول له: اذبحه، فلا تمشي في يده، فيأخذها هو ويذبحه بها ويجري دمه، ثم يعود ويمسكه بيده، ويسرّحه فيطير، ويقول: إنّ الحديد لا يعمل فيه، ويوسع القول فيما يشاهده منه، ويسمعه، فلما اعتقل القصار بقي هذا الرجل مصرّا على اعتقاده، فلما قتل وخرج إليه وشاهده، وتحقق موته علم أن ما كان فيه سحر، وزور وإفك، فتصدّق بجملة من ماله، وعاد إلى مذهبه، وصحّ معتقده. وقال ابن عبد الظاهر: دار العلم كان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطلها، وهي بجوار باب التبانين، وهي متصلة بالقصر الصغير، وفيها مدفون الداعي: المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الأعجميّ، وكان لإبطالها أمور سببها اجتماع الناس، والخوض في المذاهب والخوف من الاجتماع على المذهب النزاريّ، ولم يزل الخدّام يتوصلون إلى الخليفة الآمر بأحكام الله، حتى تحدّث في ذلك مع الوزير المأمون فقال: أين تكون هذه الدار؟ فقال بعض الخدّام: تكون بالدار التي كانت أوّلا، فقال المأمون: هذا لا يكون لأنه باب صار من جملة أبواب القصر، وبرسم الحوائج، ولا يمكن الاجتماع ولا يؤمن من غريب يتحصل به، فأشار كل من الأستاذين بشيء، فأشار بعضهم أن تكون في بيت المال القديم، فقال المأمون: يا سبحان الله قد منعنا أن تكون متاخمة للقصر الكبير الذي هو سكن الخليفة نجعلها ملاصقة؟ فقال الثقة زمام القصور: في جواري موضع ليس ملاصقا للقصر، ولا مخالطا له يجوز أن يعمر، ويكون دار العلم، فأجاب المأمون إلى ذلك وقال: بشرط أن يكون متوليها رجلا دينا، والداعي الناظر فيها، ويقام فيها متصدّرون برسم قراءة القرآن، فاستخدم فيها أبو محمد حسن بن آدم، فتولاها، وشرط عليه ما تقدّم ذكره، واستخدم فيها مقرئون.

ذكر دار الضيافة

ذكر دار الضيافة خرّج مالك في الموطأ: عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان إبراهيم عليه السلام أوّل من ضيّف الضيف، وأوّل من اتخذ دار ضيافة الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة سبع عشرة، وأعدّ فيها الدقيق والسمن والعسل وغيره، وجعل بين مكة والمدينة من يحمل المنقطعين من ماء إلى ماء حتى يوصلهم إلى البلد، فلما استخلف عثمان بن عفان رضي الله عنه، أقام الضيافة لأبناء السبيل، والمتعبدين في المسجد وأوّل من بنى دار الضيافة بمصر للناس: عثمان بن قيس بن أبي العاص السهميّ، أحد من شهد فتح مصر من الصحابة، وكان ميدان القصر الغربيّ الذي هو الآن الخرنشف دار الضيافة بحارة برجوان «1» ، وكانت هذه الدار أوّلا تعرف: بدار الأستاذ برجوان، وفيها كان يسكن حيث الموضع المعروف بحارة برجوان، ثم لما قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ في أيام الخليفة المستنصر من عكا، واستبدّ بأمر الدولة أنشأ هناك دارا عظيمة، وسكنها ولم يسكن بدار الديباج التي كانت دار الوزارة القديمة. فلما مات أمير الجيوش بدر، واستولى سلطنة ديار مصر ابنه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش، وأنشأ دار القباب التي عرفت: بدار الوزارة الكبرى قريبا من رحبة باب العيد، أقرّ أخاه أبا محمد جعفرا المنعوت: بالمظفر ابن أمير الجيوش، بدار أمير الجيوش من حارة برجوان، فعرفت: بدار المظفر، وما زال بها حتى مات، وقبر بها، وإلى اليوم قبره بها، وتسميه العامّة: جعفرا الصادق. ولما مات المظفر اتخذت داره المذكورة دار ضيافة برسم الرسل الواردين من الملوك، واستمرّت كذلك إلى أن انقرضت الدولة، فأنزل بها السلطان صلاح الدين أولاد العاضد إلى أن نقلهم إلى قلعة الجبل، الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب. فلما كان في سنة تسع وسبعين وستمائة، تقدّم أمر الملك المنصور قلاون لوكيل بيت المال القاضي: مجد الدين عيسى بن الخشاب ببيع دار المظفر، فباع القاعة الكبرى، وما هو من حقوقها، وبيعت دار المظفر الصغرى، وهدمها الناس، وبنوا في مكانها دورا، وموضعها الآن دار قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسيّ الحنفيّ، وما بجوارها إلى الدار التي بها سكنى اليوم، وهي من حقوق دار المظفر الصغرى، على ما في كتبها القديمة، ولما أنشأ قاضي القضاة شمس الدين المذكور داره: في سنة سبع أو سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، ظهر من تحت الأرض عند حفر الأساس حجر عظيم، قيل: إنه عتبة دار المظفر الكبرى، وكان إذ

ذكر اصطبل الحجرية

ذاك الأمير جهاركس الخليليّ يتولى عمارة مدرسة الملك الظاهر برقوق، التي في خط بين القصرين، فلما بلغه خبر هذا الحجر بعث إليه، وأمر بجرّه إلى العمارة، فعمل عتبة باب المزمّلة، التي للمدرسة وكان من وراء هذه الدار، رحبة الأفيال أدركتها ساحة ثم عمر فيها. قال ابن الطوير: الخدمة المعروفة: بالنيابة للقاء المرسلين، وهي خدمة جليلة يقال لمتوليها النائب، وينعت بعدي الملك، وهو ينوب عن صاحب الباب في لقاء الرسل الوافدين على مسافة، وإنزال كل واحدة في دار تصلح له، ويقيم له من يقوم بخدمته، وله نظير في دار الضيافة، وهو يسمى اليوم بمهمندار، ويرتب لهم ما يحتاجون إليه، ولا يمكن أحدا من الاجتماع بهم، ويذكر صاحب الباب بهم، ويبالغ في نجاز ما وصلوا فيه، وهو الذي يسلم بهم أبدا عند الخليفة والوزير، وينفذ بهم، ويستأذن عليهم، ويدخل الرسول وصاحب الباب قابض على يده اليمنى، والنائب بيده اليسرى، فيحفظ ما يقولون، وما يقال لهم، ويجتهد في انفصالهم على أحسن الوجوه، وبين يديه من الفرّاشين المقدّم ذكرهم عدّة لإعانته وإذا غاب أقام عنه نائبا إلى أن يعود وله من الجاري خمسون دينارا في كل شهر، وفي اليوم نصف قنطار خبز، وقد يهدي إليه المرسلون طرفا فلا يتناولها إلّا بإذن، انتهى. وفي هذه الدولة التركية يقال لمتولي هذه الوظيفة: مهمندار، ولا يليها عندهم إلّا صاحب سيف من الأمراء العشراوات، وكانت في الدولة الفاطمية على ما ذكره ابن الطوير: لا يليها إلّا أعيان العدول، وأرباب العمائم، وينعت أبدا بعدي الملك، وأصل هذه الكلمة الفارسية: مهمان دار (ومعناها ملتقى الضيوف) . ذكر اصطبل الحجريّة وكان بجوار دار الضيافة: اصطبل الصبيان الحجرية المقدّم ذكرهم، وموضع هذا الاصطبل اليوم يعرف: بخان الوراقة داخل باب الفتوح القديم، بسوق المرحلين، على يسرة من أراد الخروج من باب الفتوح القديم، تجاه زيادة الجامع الحاكميّ، ومن حقوق هذا الاصطبل أيضا الموضع الذي فيه الآن القيسارية المعروفة بقيسارية الست التي هي اليوم تجاه المدرسة الصيرمية، والجملون الصغير، وكانت بهذه الإصطبل خيول الصبيان الحجرية إحدى طوائف العساكر في زمن الخلفاء الفاطميين. ذكر مطبخ القصر وكان بجوار القصر الغربيّ قبالة باب الزهومة من القصر الكبير: مطبخ القصر، وموضعه الآن: الصاغة تجاه المدارس الصالحية، ولما كانت مطبخا، كان يخرج إليه من باب الزهومة، وذكر ابن عبد الظاهر: أنه كان يخرج من المطبخ المذكورة مدّة شهر رمضان: ألف ومائتا قدر من جميع ألوان الطعام، تفرّق كل يوم على أرباب الرسوم والضعفاء.

درب السلسلة: وكان بجوار مطبخ القصر: درب السلسلة، قال ابن الطوير: ويبيت خارج باب القصر في كل ليلة خمسون فارسا، فإذا أذن بالعشاء الآخرة داخل القاعة، وصلى الإمام الراتب بها بالمقيمين فيها من الأستاذين وغيرهم وقف على باب القصر أمير يقال له: سنان الدولة بن الكركنديّ، فإذا علم بفراغ الصلاة، أمر بضرب النوبات من الطبل والبوق، ولوائقهما من عدّة وافرة بطرائق مستحسنة مدّة ساعة زمانية، ثم يخرج بعد ذلك أستاذ برسم هذه الخدمة، فيقول أمير المؤمنين يردّ على سنان الدولة السلام، فيصقع «1» ويغرس حربة على الباب ثم يرفعها بيده، فإذا رفعها أغلق الباب، وسار حوالي القصر سبع دورات، فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البياتين والفرّاشين المقدّم ذكرهم، وانصرف المؤذنون إلى خزانتهم هناك، وترمي السلسلة عند المضيق آخر بين القصرين من جانب السيوفيين، فينقطع المار من ذلك المكان إلى أن تضرب النوبة سحرا قرب الفجر، فتنصرف الناس من هناك بارتفاع السلسلة. وقال ابن عبد الظاهر: درب السلسلة الذي هو الآن إلى جانب السيوفيين كانت عنده سلسلة منه إلى قبالته، تعلق كل يوم من الظهر، حتى لا يعبر راكب تحت القصر، وهذا الدرب يعرف: بسنان الدولة بن الكركنديّ، وهذا الدرب هو المختص بالتقفيزة، وهذه التقفزية أمرها مستظرف، لا من قبل الحسن، بل من قبل التعجب من العقول. ولها خمسة أوقات، وهي: ليالي العيدين، وغرّة السنة، وغرّة شهر رمضان ويوم فتح الخليج، وهو: أنه يقف راكبا في وسط الزلاقة «2» التي لباب الذهب، قبالة الدار القطبية، فيخرج إليه السلام من الخليفة، ثم يخدم الرهجية، ثم يصعد على كندرة باب الزهومة، وقدّامه دواب المظلة يمنة ويسرة، والرهجية تخدم وأرباب الضوء، ومستخدمو الطرق على السلسلة، فإذا كان الطرف وصلوا إليه، واجتمعت الرهجية كلهم، وركب فرسا وعليه ثياب حسنة، وكشف عن راياته، وأخذ بيده رمحا، واجتمعت الرهجية حوله، ويعبر مشورا، وأولئك خلفه بالصراخ والصياح بشعار الإمام، ثم يسير بذاك الجمع وخيل المظلة إلى أبواب القصر، فيقف عند كل باب تخدم الرهجية إلى أن يعودوا إلى باب الذهب، ثم إلى دار الوزارة للهناء، فلم يزالوا كذلك إلى ولاية ابن الكركندي فبطلت هذه السنة في الأيام الآمرية، وصاحب التقفيزة: ممن واصل آباؤه صحبة المعز لدين الله من بلاد المغرب فكانت هذه سنتهم.

ذكر الدار المأمونية

ذكر الدار المأمونية وكان بجوار درب السلسلة الدار المأمونية، وهي المدرسة السيوفية، وكانت هذه الدار سكن المأمون ابن البطائحي، وعرفت قديما، بقوام الدولة حبوب، ثمجدّدها المأمون محمد ابن فاتك. المأمون البطائحي: هو أبو عبد الله محمد ابن الأمير نور الدولة أبي شجاع فاتك بن الأمير منجد الدولة أبي الحسن مختار المستنصري، اتصل بخدمة الأفضل بن أمير الجيوش في شهر شوّال سنة إحدى وخمسمائة، عند ما تغير على تاج المعالي المختار الذي كان اصطنعه، وفخم أمره وسلم إليه خزائن أمواله، وكسواته، وسلم ما كان بيده من الخدمة لمحمد بن فاتك، فتصرّف فيها، وقرّر له الأفضل ما كان باسم مختار من العين خاصة دون الإقطاع، وهو مائة دينار في كل شهر، وثلاثون دينارا عن جاري الخزائن مضافا إلى الأصناف الراتبة مياومة ومشاهرة ومسانهة فحسن عند الأفضل موقع خدمته، فاعتمد عليه وسلم له جميع أموره، وصرّفه في كل أحواله. فلما كثر عليه الشغل استعان بأخويه أبي تراب حيدرة، وأبي الفضل جعفر، فأطلق الأفضل لهما ما وسع به عليهما من المياومة والمشاهرة والمسانهة، ونعته الأفضل بالقائد، فصار يخاطب بالقائد، ويكاتب به، وصار عنده بمنزلة الأستادار «1» ، فلما قتل الأفضل ليلة عيد الفطر من سنة خمس عشرة وخمسمائة، قام القائد أبو عبد الله بن فاتك لخدمة الخليفة الآمر بأحكام الله وأطلعه على أموال الأفضل، وبالغ في مناصحته، حتى لقد اتهم أنه هو الذي دبر في قتل الأفضل بإشارة الخليفة، فخلع عليه الآمر في مستهل ذي القعدة، بمجلس اللعبة من القصر، وهو المجلس الذي يجلس فيه الخليفة، ولم يخلع قبله على أحد فيه، وحل المنطقة من وسطه، وخلع على ولده، وحل منطقته، وخلع على إخوته، واستمرّ تنفيذ الأمور إليه إلى أن استهل ذو الحجة، ففي يوم الجمعة ثانية، خلع عليه من الملابس الخاص في فرد كمّ مجلس اللعبة طوق ذهب مرصع، وسيف ذهب كذلك، وسلم على الخليفة، وتقدّم الأمر للأمراء، وكافة الأستاذين المحنكين بالخروج بين يديه، وأن يركب من المكان الذي كان الأفضل يركب منه، ومشى في ركابه القوّاد، على عادة من تقدّمه، وخرج بتشريف الوزارة، ودخل من باب العيد راكبا، ووصل إلى داره، فضاعف الرسوم، وأطلق الهبات. فلما كان يوم الاثنين خامسه اجتمع الأمراء بين يدي الخليفة، وأحضر السجل في لفافة خاص مذهبة، فسلمه الخليفة له من يده فقبله، وسلمه لزمام القصر، فأمره الخليفة

بالجلوس إلى جانبه عن يمينه، وقرىء السجل على باب المجلس، وهو أوّل سجل قرىء هناك، وكانت سجلات الوزراء قبل ذلك تقرأ بالإيوان، ورسم للشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست أن ينقل نسبة الأمراء، والمحنكين من الآمريّ إلى المأمونيّ، وكذا الناس أجمع، ولم يكن أحد ينتسب إلى الأفضل، ولا لأمير الجيوش، وقدّمت له الدواة، فعلم في مجلس الخليفة، ونعت بالسيد الأجل، المأمون تاج الخلافة ووجيه الملك، فخر الصنائع، ذخر أمير المؤمنين، عز الإسلام، فخر الأنام، نظام الدين، أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، وكان يجلس بداره في يومي الأحد والأربعاء للراحة والنفقة في العسكر البساطية إلى الظهر، ثم يرفع النفقة، ويحط السماط، ويجلس بعد العصر، والكتاب بين يديه، فينفق في الراجل إلى آخر النهار، وفي يوم الجمعة يطلق للمقرئين بحضرته خمسة دنانير، ولكل من هو مستمرّ القراءة على بابه من الضعفاء، والأجراء مما هو ثابت بأسمائهم: خمسمائة درهم، ولبقية الضعفاء والمساكين: خمسمائة درهم أخرى. فإذا توجه يوم الجمعة إلى القرافة يكون المبلغ المذكور مستقرّا لأربابه، ولم يزل إلى ليلة السبت الرابع من رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، فقبض الآمر المذكور عليه، وعلى إخوته الخمسة «1» مع ثلاثين رجلا من خواصه وأهله، واعتقله ثم صلبه مع إخوته في سنة اثنتين وعشرين. قيل: إن سبب القبض عليه ما بلغ الآمر عنه أنه بعث إلى الأمير جعفر بن المستعلي يغريه بقتل أخيه، ليقيمه مكانه في الخلافة، وكان الذي بلّغ الآمر ذلك الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة، وبلغه أيضا عنه أنه: سير نجيب الدولة أبا الحسن إلى اليمن ليضرب سكة عليها، الإمام المختار محمد بن نزار، وذكر عنه أنه سمّ شيئا، ودفعه لقصاد الخليفة، فنمّ عليه القصاد. وكان مولد المأمون في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وكان من ذوي الآراء، والمعرفة التامّة بتدبير الدول كريما واسع الصدر سفاكا للدماء، كثير التحرّز والتطلع إلى معرفة أحوال الناس من العامّة والجند، فكثر الوشاة في أيامه. حبس المعونة: وكان بجوار الدار المأمونية حبس المعونة، وموضعه اليوم: قيسارية العنبر. قال ابن المأمون في سنة سبع عشرة وخمسمائة: تقدّم أمر المأمون إلى الواليين بمصر والقاهرة بإحضار عرفاء السقائين وأخذ الحج على المتعيشين منهم بالقاهرة بحضورهم، متى

ذكر الحسبة ودار العيار

دعت الحاجة إليهم ليلا ونهارا، وكذلك يعتمد في القربيين، وأن يبيتوا على باب كل معونة، ومعهم عشرة من الفعلة بالطوارىء والمساحي، وأن يقوما لهم بالعشاء من أموالهما بحكم فقرهم، انتهى. وكان حبس المعونة هذا يسجن فيه أرباب الجرائم، كما هو اليوم السجن المعروف: بخزانة شمائل، وأما الأمراء، والأعيان، فيسجنون: بخزانة البنود، كما تقدّم، ولم يزل هذا الموضع سجنا مدّة الدولة الفاطمية، ومدّة دولة بني أيوب إلى أن عمره: الملك المنصور قلاون قيسارية، أسكن فيها العنبرانيين في سنة ثمانين وستمائة. ذكر الحسبة «1» ودار العيار وكان بجوار حبس المعونة: دكة الحسبة، ومكانها اليوم يعرف: بالإبازرة، ومكسر الحطب بجوار سوق القصارين والفحامين. قال ابن الطوير: وأما الحسبة، فإنّ من تسند إليه لا يكون إلّا من وجوه المسلمين وأعيان المعدّلين لأنها خدمة دينية، وله استخدام النوّاب عنه بالقاهرة ومصر، وجميع أعمال الدولة، كنوّاب الحكم، وله الجلوس بجامعي القاهرة ومصر يوما بعد يوم، ويطوف نوّابه على أرباب الحرف، والمعايش ويأمر نوّابه بالختم على قدور الهرّاسين، ونظر لحمهم ومعرفة من جزاره، وكذلك الطباخون ويتتبعون الطرقات، ويمنعون من المضايقة فيها، ويلزمون رؤساء المراكب أن لا يحملوا أكثر من وسق السلامة، وكذلك مع الحمالين على البهائم ويأمرون السقائين بتغطية الروايا بالأكسية، ولهم عيار: وهو أربعة وعشرون دلوا، كل دلو: أربعون رطلا، وأن يلبسوا السراويلات القصيرة الضابطة لعوراتهم، وهي زرق، وينذرون معلمي المكاتب بأن لا يضربوا الصبيان ضربا مبرّحا، ولا في مقتل، وكذلك معلمو العلوم بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس، ويقفون على من يكون سيء المعاملة، فينهونه بالردع والأدب، وينظرون المكاييل والموازين، وللمحتسب النظر في دار العيار، ويخلع عليه ويقرأ سجله بمصر والقاهرة على المنبر، ولا يحال بينه، وبين مصلحة إذا رآها، والولاة تشدّ معه إذا احتاج إلى ذلك وجاريه: ثلاثون دينارا في كل شهر، انتهى. وكان للعيار: مكان يعرف بدار العيار تعير فيه الموازين بأسرها، وجميع الصنج، وكان ينفق على هذه الدار من الديوان السلطانيّ، فيما تحتاج إليه من الأصناف كالنحاس والحديد والخشب والزجاج، وغير ذلك من الآلات، وأجر الصناع والمشارفين ونحوهم،

ويحضر المحتسب أو نائبه إلى هذه الدار ليعير المعمول فيها بحضوره، فإن صح ذلك أمضاه، وإلّا أمر بإعادة عمله، حتى يصح، وكان بهذه الدار أمثلة يصحح بها العيار، فلا تباع الصنج، والموازين والأكيال، إلّا بهذه الدار، ويحضر جميع الباعة إلى هذه الدار باستدعاء المحتسب لهم، ومعهم موازينهم، وصنجهم ومكاييلهم، فتعير في كل قليل، فإن وجد فيها الناقص استهلك، وأخذ من صاحبه لهذه الدار، وألزم بشراء نظيره، مما هو محرّر بهذه الدار، والقيام بثمنه، ثم سومح الناس وصار يلزم من يظهر في ميزانه أو صنجه خلل بإصلاح ما فيها من فساط فقط، والقيام بأجرته فقط، وما زالت هذه الدار باقية جميع الدولة الفاطمية. فلما استولى صلاح الدين على السلطنة أقرّ هذه الدار، وجعلها وقفا على سور القاهرة مع كان جاريا في أوقاف السور من الرباع والنواحي الجارية في ديوان الأسوار، وما زالت هذه الدار باقية. اصطبل الجميزة: وكان بجوار القصر الغربيّ من قبليه اصطبل الجميزة من جانب باب الساباط الذي هو الآن: باب سرّ المارستان المنصوريّ، وقيل له: اصطبل الجميزة من أجل أنه كان في وسطه شجرة جميز كبيرة، وكان موضع هذا الاصطبل، تجاه من يخرج من باب الساباط، فينزل من الحدرة التي هي الآن تجاه باب سرّ المارستان المتوصل منها إلى حارة زويلة، ويمتدّ فيما حاذاه يسارك، إذا وقفت بأوّل هذه الحدرة، حيث الطاحون الكبيرة التي هي الآن في أوقاف المارستان، وما وراءها ويحاذيها إلى الموضع المعروف اليوم: بالبندقانيين، وكانت بئره تعرف: ببئر زويلة، وعليها ساقية تنقل الماء لشرب الخيول، وموضع هذا البئر اليوم: قيسارية تعرف بقيسارية يونس تجاه درب الأنجب، وقد شاهدت هذه البئر، لما أنشأ الأمير يونس الدوا دار هذه القيسارية والربع علوها، فرأيت بئرا كبيرة جدّا، وقد عقد على فوهتها عقد ركب فوقه بعض القيسارية، وترك منها شيء، ومنها الآن الناس تسقي بالدلاء، وما زال هذا الاصطبل باقيا إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية، فحكر وبنى في مكانه الآدار التي هي موجودة الآن، وحكره جار في أوقاف الصلاح الأزبكيّ، وقد تقدّم ذكر هذا الاصطبل عند ذكر اصطبل الطارمة، فانظر رسومه هناك. دار الديباج «1» : وكان بجوار اصطبل الطارمة من غربيه: دار الديباج، وهي حيث المدرسة الصاحبية بسويقة الصاحب وما جاورها من جانبها، وما خلفها إلى الوزيرية، وكانت هي: دار الوزارة القديمة، وأوّل من أنشأها: الوزير يعقوب بن يونس بن كاس وزير العزيز بالله، ثم سكنها الوزير الناصر للدين قاضي القضاة، وداعي الدعاة علم المجد أبو

محمد الحسن بن عليّ بن عبد الرحمن البازوريّ، وما زالت سكن الوزراء إلى أن قدم أمير الجيوش بدر الجماليّ من عكا، ووزره المستنصر، وصار وزيرا مستبدّا، فأنشأ داره: بحارة برجوان، وسكنها وسكن من بعده ابنه الأفضل ابن أمير الجيوش بدار القباب التي عرفت: بدار الوزارة الكبرى، وصارت هذه الدار تعرف: بدار الديباج، لأنه يعمل فيها الحرير الديباج، ويتولاها الأماثل والأعيان. فمن وليها أبو سعيد بن قرقة الطبيب متولي خزائن السلاح، وخزائن السروج والصناعات، فلما انقرضت الدولة الفاطمية بنى الناس في مكان دار الديباج المدرسة السيفية، وما وراءها من المواضع التي تعرف أماكنها اليوم: بدرب الحريريّ، وما جاور هذا الدرب إلى المدرسة الصاحبية، وما بجوارها وما هو في ظهرها، فصار يعرف خط دار الديباج في زمننا بخط سويقة الصاحب. الأهراء السلطانية «1» : وكانت أهراء الغلال السلطانية في دولة الخلفاء الفاطميين حيث المواضع التي فيها الآن خزانة شمائل، وما وراءها إلى قرب الحارة الوزيرية. قال ابن الطوير: وأما الأهراء فإنها كانت في عدّة أماكن بالقاهرة وهي اليوم: اصطبلات ومناخات، وكانت تحتوي على ثلثمائة ألف أردب من الغلات، وأكثر من ذلك. وكان فيها مخازن يسمى أحدها: بغداي، وآخر: الفول، وآخر: القرافة، ولها الحماة من الأمراء والمشارفين من العدول، والمراكب واصلة إليها بأصناف الغلات إلى ساحل مصر، وساحل المقس، والحمالون يحملون ذلك إليها بالرسائل على يد رؤساء المراكب، وأمنائها من كل ناحية سلطانية، وأكثر ذلك من الوجه القبليّ، ومنها إطلاق الأقوات لأرباب الرتب والخدم وأرباب الصدقات، وأرباب الجوامع، والمساجد، وجرايات العبيد السودان بتعريفات، وما ينفق في الطواحين برسم خاص الخليفة، وهي طواحين مدارها سفل، وطواحينها علو حتى لا تقارب زبل الدواب، ويحمل دقيقها للخاص، وما يختص بالجهات في خرائط من شقق حلبية. ومن الأهراء تخرج جرايات رجال الأسطول، وفيها ما هو قديم يقطع بالمساحي، ويخلط في بعض الجرايات بالجديد بجرايات المذكورين وجرايات السودان، ومنها ما يستدعي بدار الضيافة لإخباز الرسل، ومن يتبعهم، وما يعمل من القمح برسم الكعك لزاد الأسطول، فلا يفتر مستخدموها من دخل وخرج ولهم جامكية مميزة، وجرايات برسم أقواتهم، وشعير لدوابهم وما يقبض من الواصلين بالغلال إلّا ما يماثل العيون المختومة معهم، وإلّا ذرّي، وطلب العجز بالنسبة.

وذكر ابن المأمون: أن غلّات الوجه القبليّ، كانت تحمل إلى الأهراء، وأما الأعمال البحرية، والبحيرة والجزيرتان والغربية والكفور، والأعمال الشرقية، فيحمل منها اليسير، ويحمل باقيها إلى الإسكندرية، ودمياط وتنيس ليسير إلى ثغر عسقلان، وثغر صور، وإنه كان يسير إليهما في كل سنة مائة وعشرون ألف أردب، منها العسقلان خمسون ألفا، ولصور: سبعون ألفا، فيصير هناك ذخيرة، ويباع منها عند الغنى عنها. قال: وكان متحصل الديوان في كل سنة ألف ألف أردب. وذكر جامع السيرة البازورية: أن المتجر كان يقام به للديوان من الغلة، وأن الوزير أبا محمد البازوريّ قال للخليفة المستنصر: وهو يومئذ يتقلّد وظيفة قاضي القضاة، وقد قصر النيل في سنة أربع وأربعين وأربعمائة ولم يكن بالمخازن السلطانية غلال، فاشتدّت المسغبة بأمير المؤمنين: إنّ المتجر الذي يقام بالغلة فيه أو في مضرّة على المسلمين، وربما أقحط السعر من مشتراها، ولا يمكن بيعها، فتتغير في المخازن وتتلف، وإنه يقام متجر لا كلفة فيه على الناس، ويفيد أضعاف فائدة الغلة، ولا يخشى عليه من تغير في المخازن، ولا انحطاط سعر، وهو الصابون والخشب والحديد، والرصاص، والعسل، وما أشبه ذلك، فأمضى الخليفة ما رآه، واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس وتوسعوا.

ذكر المناظر التي كانت للخلفاء الفاطميين، ومواضع نزههم ما كان لهم فيها من أمور جميلة

ذكر المناظر التي كانت للخلفاء الفاطميين، ومواضع نزههم ما كان لهم فيها من أمور جميلة وكان للخلفاء الفاطميين: مناظر كثيرة بالقاهرة ومصر، والروضة، والقرافة، وبركة الحبش، وظواهر القاهرة، وكانت لهم عدّة منتزهات أيضا فمن مناظرهم التي بالقاهرة: منظرة الجامع الأزهر، ومنظرة اللؤلؤة على الخليج، ومنظرة الدكة، ومنظرة المقس، ومنظرة باب الفتوح، ومنظرة البعل، ومنظرة التاج، والخمس وجوه، ومنظرة الصناعة بمصر، ودار الملك، ومنازل العز، والهودج بالروضة، ومنظرة بركة الحبش، والأندلس بالقرافة وقبة الهواء، ومنظرة السكرة، وكان من منتزهاتهم كسر خليج أبي المنجا، وقصر الورد بالخرقانية، وبركة الجب. منظرة الجامع الأزهر: وكان بجوار الجامع الأزهر من قبليه: منظرة تشرف على الجامع الأزهر يجلس الخليفة فيها لمشاهدة ليالي الوقود. ذكر ليالي الوقود «1» : قال المسبحيّ في حوادث شهر رجب من سنة ثمانين وثلثمائة: وفيه خرج الناس في لياليه على رسمهم في ليالي الجمع، وليلة النصف إلى جامع القاهرة يعني الجامع الأزهر عوضا عن القرافة، وزيد فيه في الوقيد على حافات الجامع، وحول صحنه التنانير، والقناديل، والشمع على الرسم في كل سنة، والأطعمة، والحلوى والبخور في مجامر الذهب والفضة، وطيف بها، وحضر القاضي محمد بن النعمان في ليلة النصف بالمقصورة، ومعه شهوده ووجوه البلد، وقدّمت إليه سلال الحلوى والطعام، وجلس بين يديه القرّاء، وغيرهم والمنشدون، والناحة وأقام إلى نصف الليل، وانصرف إلى داره بعد أن قدّم إلى من معه أطعمة من عنده وبخرهم. وقال في شعبان وكان الناس في كل ليلة جمعة، وليلة النصف على مثل ما كانوا عليه في رجب، وأزيد، وفي ليلة النصف من شعبان: كان الناس جمع عظيم بجامع القاهرة من الفقهاء، والقرّاء، والمنشدين، وحضر القاضي محمد بن النعمان في جميع شهوده، ووجوه

البلد، ووقدت التنانير والمصابيح على سطح الجامع، ودور صحنه، ووضع الشمع على المقصورة وفي مجالس العلماء، وحمل إليهم العزيز بالله بالأطعمة، والحلوى والبخور، فكان جمعا عظيما. قال: وفي شهر رجب سنة اثنتين وأربعمائة: قطع الرسم الجاري من الخبز، والحلوى الذي يقام في هذه الثلاثة الأشهر لمن يبيت بجامع القاهرة في ليالي الجمع، والأنصاف وحضر قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ «1» إلى جامع القاهرة ليلة النصف من رجب، واجتمع الناس بالقرافة على ما جرت به رسومهم من كثرة اللعب والمزاح. روى الفاكهيّ في كتاب مكة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يصيح في أهل مكة، ويقول: يا أهل مكة أوقدوا ليلة هلال المحرّم فأوضحوا فجاجكم لحاج بيت الله، واحرسوهم ليلة هلال المحرّم، حتى يصبحوا، وكان الأمر على ذلك بمكة في هذه الليلة، حتى كانت ولاية عبد الله بن محمد بن داود على مكة، فأمر الناس أن يوقدوا ليلة هلال رجب، فيحرسوا عمار أهل اليمن، ففعلوا ذلك في ولايته، ثم تركوه بعد. وفي ليلة النصف من رجب سنة خمس عشرة وأربعمائة: حضر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله، ومعه السيدات، وخدم الخاصة وغيرهم، وسائر العامّة والرعايا، فجلس الخليفة في المنظرة، وكان في ليلة شعبان أيضا اجتماع لم يشهد مثله من أيام العزيز بالله، وأوقدت المساجد كلها أحسن وقيد، وكان مشهدا عظيما بعد عهد الناس بمثله، لأنّ الحاكم بأمر الله كان أبطل ذلك، فانقطع عمله. وقال ابن المأمون: ولما كانت ليلة مستهل رجب، يعني من سنة ست عشرة وخمسمائة عملت الأسمطة الجاري بها العادة، وجلس الخليفة الآمر بأحكام الله عليها، والأجلّ المأمون الوزير، ومن جرت عادته بين يديه، وأظهر الخليفة من المسرّة والانشراح، ما لم تجريه عادته، وبالغ في شكره وزيره، وإطرائه وقال: قد أعدت لدولتي بهجتها، وجدّدت فيها من المحاسن ما لم يكن، وقد أخذت الأيام نصيبها من ذلك، وبقيت الليالي وقد كان بها مواسم قد زال حكمها، وكان فيها توسعة وبرّ ونفقات، وهي ليالي الوقود الأربع، وقد آن وقتهنّ فأشتهي نظرهنّ، فامتثل الأمر وتقدّم بأن يحمل إلى القاضي خمسون دينارا يصرفها في ثمن الشمع. وأن يعتمد الركوب في الأربع الليالي وهي: ليلة مستهل رجب، وليلة نصفه، وليلة مستهل شعبان، وليلة نصفه، وأن يتقدّم إلى جميع الشهود بأن يركبوا صحبته، وأن يطلق

للجوامع والمساجد توسعة في الزيت برسم الوقود، ويتقدّم إلى متولي بيت المال بأن يهتمّ برسم هذه الليالي من أصناف الحلاوات مما يجب برسم القصور، ودار الوزارة خاصة. وقال في سنة سبع عشرة وخمسمائة: وفي الليلة التي صبيحتها مستهل رجب، حضر القاضي أبو الحجاب يوسف بن أيوب المغربيّ، ووقع له بما استجدّ إطلاقه في العام الماضي، وهو خمسون دينارا من بيت المال، لابتياع الشمع برسم أوّل ليلة من رجب، واستدعى ما هو برسم التعبيتين، إحداهما: للمقصورة، والأخرى: للدار المأمونية بحكم الصيام من مستهل رجب إلى سلخ رمضان ما يصنع في دار الفطرة خشكنانج صغير وبسندود في كل يوم قنطار سكر ومثقالان مسكا، وديناران مؤنة. وكان يطلق في أربع ليالي الوقود برسم الجوامع الستة: الأزهر والأقمر والأنور بالقاهرة، والطولونيّ، والعتيق بمصر، وجامع القرافة، والمشاهد التي تضمنت الأعضاء الشريفة، وبعض المساجد التي لأربابها وجاهة جملة كبيرة من الزيت الطيب، ويختص بجامع راشدة، وجامع ساحل الغلة بمصر والجامع بالمقس يسير قال: ولقد حدّثني القاضي المكين بن حيدرة، وهو من أعيان الشهود أنّ من جملة الخدم التي كانت بيده مشارفة الجامع العتيق، وأن القومة بأجمعهم كانوا يجتمعون قبل ليلة الوقود بمدّة إلى أن يكملوا ثمانية عشر ألف فتيلة، وأنّ المطلق برسمه خاصة في كل ليلة برسم وقوده: أحد عشر قنطارا ونصف قنطار زيت طيب. وذكر ركوب القاضي والشهود في الليلة المذكورة على جاري العادة. قال: وتوجه الوزير المأمون يوم الجمعة ثاني الشهر بموكبه إلى مشهد السيدة نفيسة، وما بعده من المشاهد، ثم إلى جامع القرافة، وبعده إلى الجامع العتيق بمصر، وقد عمّ معروفه جميع الضعفاء، وقومة المساجد والمشاهد، وصلى الجمعة وعند انقضاء الصلاة، احضر إليه الشريف الخطيب المصحف الذي بخط أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فوقع بإطلاق ألف دينار من ماله، وأن يصاغ عليه فوق حلية الفضة حلية ذهب، وكتب عليه اسمه، وفي الخامس عشر من الشهر المذكور ليلة الوقود جرى الحال في ركوب القاضي، وشهوده على الترتيب الذي تقدّم في أوّل الشهر، ولما وصل إلى الجامع وجده قد عبىء في الرواق الذي عن يمين الخارج منه سماط كعك، وخشكنانج، وحلوى، فجلس عليه بشهود، ونهبه الفقراء، والمساكين، وتوجه بعده إلى ما سواه من جامع القرافة وغيره، فوجد في رواق الجامع المذكور سماطا مثل السماط المذكور، فاعتمد فيه على ما ذكره، وله أيضا رسم صدقة في هذا النصف للفقراء، وأهل الربط، مما يفرّقه القاضي عشرة دنانير يفرّقها القاضي. وقال ابن الطوير: إذا مضى النصف من جمادى الآخرة، وكان عدده عندهم تسعة

وعشرين يوما، أمر أن يسبك في خزائن دار أفتكين: ستون شمعة وزن كل شمعة منها: سدس قنطار بالمصريّ، وحملت إلى دار قاضي القضاة لركوب ليلة مستهل رجب، فإذا كان بعد صلاة العصر من ذلك اليوم اهتمّ الشهود أيضا، فمنهم من يركب بثلاث شمعات إلى اثنتين إلى واحدة، ويمضي أهل مصر منهم إلى القاهرة، فيصلون المغرب في الجوامع والمساجد، ثم ينتظرون ركوب القاضي، فيركب من داره بهيئته، وأمامه الشمع المحمول إليه موقودا مع المندوبين لذلك من الفرّاشين من الطبقة السفلى، من كل جانب: ثلاثون شمعة، وبينهما المؤذنون بالجوامع يذكرون الله تعالى، ويدعون للخليفة والوزير، بترتيب مقدّر محفوظ، ويندب في حجبته: ثلاثة من نوّاب الباب، وعشرة من الحجاب، خارجا عن حجاب الحكم المستقرّين، وعدّتهم: خمسة في زيّ الأمراء، وفي ركابه القرّاء يطرّبون بالقراءة والشهود وراءه على الترتيب في جلوسهم بمجلس الحكم، الأقدم فالأقدم، وحوالي كل واحد ما له من شمع، فيشقون من أوّل شارع فيه دار القاضي إلى بين القصرين، وقد اجتمع من العالم في وقت جوازهم ما لا يحصى كثرة رجالا ونساء، وصبيانا بحيث لا يعرف الرئيس من المرؤوس، وهو مارّ إلى أن يأتي هو والشهود باب الزمرّذ من أبواب القصر في الرحبة الوسيعة تحت المنظرة العالية في السعة العظيمة من الرحبة المذكورة، وهي التي تقابل درب قراصيا، فيحضر صاحب الباب، ووالي القاهرة والقرّاء، والخطباء كما شرحنا في المواليد الستة ويترجلون تحتها ريثما يجلس الخليفة فيها، وبين يديه شمع ويبين شخصه، ويحضر بين يديه الخطباء الثلاثة، ويخطبون كالمواليد، ويذكرون استهلال رجب، وأن هذا الركوب علامته. ثم يسلم الأستاذ من الطاقة الأخرى استفتاحا وانصرافا كما ذكرنا، ثم يركب الناس إلى دار الوزارة، فيدخل القاضي والشهود إلى الوزير، فيجلس لهم في مجلسه ويسلمون عليه، ويخطب الخطباء أيضا بأخف من مقام الخليفة، ويدعون له ويخرجون عنه، فيشق القاضي والجماعة القاهرة، وينزل على باب كل جامع بها، ويصلي ركعتين، ثم يخرج من باب زويلة طالبا مصر بغير نظام ووالي القاهرة في خدمته اليوم مستكثرا من الأعوان، والحفظة في الطرقات إلى جامع ابن طولون، فيدخل القاضي إليه للصلاة، فيجد والي مصر عنده للقاء القوم وخدمتهم، فيدخل المشاهد التي في طريقه أيضا، فإذا وصل إلى باب مصر ترتب كما ترتب في القاهرة، وسار شاقا الشارع الأعظم إلى باب الجامع من الزيادة التي يحكم فيها، فيوقد له التنور الفضة الذي كان معلقا فيه، وكان مليحا في شكله، وتعليقه غير منافر في الطول والعرض واسع التدوير فيه عشر مناطق في كل منطقة: مائة وعشرون بزاقة، وفيه سروات بارزة مثل النخيل في كل واحدة عدّة بزاقات تقرب عدّة ذلك من ثلثمائة، ومعلق بدائر سفله: مائة قنديل نجومية، ويخرج له الحاكم فإن كان ساكنا بمصر استقرّ بها وإن كان ساكنا بالقاهرة وقف له والي القاهرة بجامع ابن طولون، فيودّعه والي مصر، ويسير معه والي

القاهرة إلى داره، فإذا مضى من رجب أربعة عشر يوما: ركب ليلة الخامس عشر كذلك، وفيه زيارة طلوعه بعد صلاته بجامع مصر إلى القرافة ليصلي في جامعها، والناس يجتمعون له لينظروه، ومن معه في كل مكان، ولا يملون من ذلك فإذا انقضت هذه الليلة: استدعى منه الشمع ليكمل بعضه، حتى يركب به في أوّل شعبان، ونصفه على الهيئة المذكورة والأسواق معمورة بالحلواء، ويتفرّغ الناس لذلك هذه الأربع الليالي. منظرة للؤلؤة: وكان للخلفاء الفاطميين، منظرة تعرف: بقصر اللؤلؤة، وبمنظرة اللؤلؤة على الخليج بالقرب من باب القنطرة، وكان قصرا من أحسن القصور، وأعظمها زخرفة، وهو أحد منتزهات الدنيا المذكورة، فإنه كان يشرف من شرقيه على البستان الكافوريّ، ويطل من غربيه على الخليج، وكان غربيّ الخليج، إذ ذاك ليس فيه من المباني شيء، وإنما كان فيه بساتين عظيمة، وبركة تعرف ببطن البقرة، فيرى الجالس في قصر اللؤلؤة جميع أرض الطبالة «1» ، وسائر أرض اللوق «2» ، وما هو من قبليها، ويرى بحر النيل من وراء البساتين. قال ابن ميسر: هذه المنظرة بناها العزيز بالله، ولما ولي برجوان الحاكم بأمر الله بعد أمين الدولة بن عمار الكتاميّ: سكن بمنظرة اللؤلؤة في جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وثلثمائة، إلى أن قتل، وفي السادس والعشرين من ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة: أمر الحاكم بأمر الله بهدم اللؤلؤة، ونهبها، فهدمت، ونهبت وبيع ما فيها. وقال المسبحيّ: وفي سادس عشري ربيع الآخر، يعني سنة اثنتين وأربعمائة: أمر الحاكم بأمر الله بهدم الموضع المعروف: باللؤلؤة على الخليج موازاة المقس، وأمر بنهب أنقاضه، فنهبت كلها، ثم قبض على من وجد عنده شيء من نهب أنقاض اللؤلؤة واعتقلوا. وقال ابن المأمون: ولما وقع الاهتمام بسكن اللؤلؤة، والمقام فيها مدّة النيل على الحكم الأوّل يعني قبل وزارة أمير الجيوش بدر وابنه الأفضل، أمر بإزالة ما لم تكن العادة جارية به من مضايقها بالبناء، ولما بدت زيادة النيل، وعوّل الخليفة الآمر بأحكام الله على السكن باللؤلؤة أمر الأجلّ الوزير المأمون: بأخذ جماعة الفرّاشين الموقوفين برسم خدمتها بالمبيت بها على سبيل الحراسة لا على سبيل السكن بها، وعندما بلغ النيل: ستة عشر ذراعا أمر بإخراج الخيم. وعندما قارب النيل الوفاء: تحوّل الخليفة في الليل من قصوره بجميع جهاته وإخوته،

وأعمامه، والسيدات كرائمه، وعماته إلى اللؤلؤة، وتحوّل المأمون إلى دار الذهب، وأسكن الشيخ أبا الحسن محمد بن أبي أسامة الغزالة على شاطىء الخليج، وسكن حسام الملك: حاجب الباب داره على الخليج، وأمر متولي المعونة أن يكشف الآدر المطلة على الخليج قبليّ اللؤلؤة، ولا يمكن أحدا من السكن في شيء منها إلّا من كان له ملك، ومن كان ساكنا بالأجرة ينقل، ويقام بالأجرة لرب الملك ليسكن بها حواشي الخليفة مدّة سنة، وقرّر من التوسعة في النفقات، وما يكون برسم المستخدمين في المبيتات ما يختص برواتب القصور مدّة المقام في اللؤلؤة في أيام النيل مياومة من الغنم والحيوان، وجميع الأصناف، وهي جملة كبيرة وأمر متولي الباب أن يندب في كل يوم خروف شواء، وقنطار خبز، وكذلك جميع الدروب من يحرسها، ويطلق لهم برسم الغداء مثل ذلك، وتكون نوبة دائرة بينهم، وبقية مستخدمي الركاب ملازمون لأبواب القصر على رسمهم، وفي يومي الركوب يجتمعون للخدمة إلّا من هو في نوبته فيما رسم له، وأمر متولي زمام المماليك الخاص أن يكونوا بأجمعهم، حيث يكون الخليفة، وفي الليل يبيت منهم عدّة برسم الخدمة تحت اللؤلؤة، ولهم في كل يوم مثل ما تقدّم، والرهجية تقسم قسمين أحدهما: على أبواب القصور، والآخر: على أبواب اللؤلؤة، وأصحاب الضوء مثل ذلك، وقرّر للجماعة المقدّم ذكرها في الليل عن رسم المبيت، وعن ثمن الوقود ما يخرج إليهم مختوما بأسماء كل منهم ويعرضهم متولي الباب في كل ليلة بنفسه عند رواحه وعوده، وكذلكما يختص بدار الذهب من الحرس عليها من باب سعادة، ومن باب الخوخة، ولهم رسوم كما تقدّم لغيرهم والمتفرّجون يخرجون كل ليلة للنزهة عليهم، ويقيمون إلى بعض الليل حتى ينصرفوا من غير خروج في شيء من ذلك عما يوجبه الشرع، وفي يومي السلام يمضي الخليفة من قصوره، بحيث لا يراه، إلّا أستاذوه وخواصه إلى قاعة الذهب من القصر الكبير الشرقيّ، ويحضر الوزير على عادته إليه، فيكون السلام بها على مستمرّ العادة، والأسمطة بها في يومي الاثنين والخميس، وتكون الركوبات من اللؤلؤة في يومي السبت والثلاثاء إلى المنتزهات. وقال في سنة سبع عشرة وخمسمائة، ولما جرى النيل، وبلغ خمسة عشر ذراعا: أمر بإخراج الخيام، والمضارب الديبقيّ، والديباج وتحوّل الخليفة الآمر بأحكام الله إلى اللؤلؤة بحاشيته وأطلقت التوسعة في كل يوم لما يخص الخاص، والجهات والأستاذين من جميع الأصناف، وانضاف إليها ما يطلق كل ليلة عينا وورقا، وأطعمة للبياتين بالنوبة برسم الحرس بالنهار، والشهر في طول الليل من باب القنطرة بما دار إلى مسجد الليمونة من التزين من صبيان الخاص والركاب، والرهجية والسودان، والحجاب كل طائفة بنقيبها والعرض من متولي الباب واقع بالعدّة في طرفي كل ليلة، ولا يمكن بعضهم بعضا من المنام والرهجية تخدم على الدوام، وتحوّل الوزير المأمون إلى دار الذهب، وى 4 لقت التوسعة، والحال في إطلاق الأسمطة لهم في الليل والنهار مستمرّ.

وقال ابن عبد الظاهر «1» : المنظرة المعروفة باللؤلؤة على برّ الخليج بناها: الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم يعني بعدما هدمها أبوه الحاكم، وكانت معدّة لنزهة الخلفاء، وكان التوصل إليها من القصر يعني القصر الغربيّ، من باب مراد، وأظنه فيما ذكر لي: علم الدين بن مماتي الوراق، لأنه شاهد في كتب دار ابن كوخيا التيقة أنه بابها، وكان عادة الخلفاء أن يقيموا بها أيام النيل، ولما حصل التوهم من النزارية، والحشيشية قبل تصرّفهم لا سيما لصغر سنّ الخليفة، وقلة حواشيه، أمر بسدّ باب مراد المذكور الذي يتوصل منه إلى الكافوريّ، وإلى اللؤلؤة، وأسكن في بعضها فرّاشين لحفظها، فإن كان في صبيحة كسر الخليج استؤذن الأفضل ابن أمير الجيوش في فتح باب مراد الذي يتوصل منه إلى اللؤلؤة وغيرها، فيفتح ويروح الخليفة ليتفرّج هو وأهله من النساء، ثم يعود، ويسدّ الباب هذا إلى آخر أيام الأفضل، فلما راجع الوزير المأمون في ذلك سارع إليه، فأصلحت وأزيل ما كان أنشئ قبالتها على ما سيذكر في مكانه إن شاء الله تعالى. ومات بقصر اللؤلؤة من خلفاء الفاطميين: الآمر بأحكام الله، والحافظ لدين الله، والفائز، وحملوا إلى القصر الكبير الشرقيّ من السراديب. ولما قدم نجم الدين أيوب بن شادي من الشام على ولده: صلاح الدين يوسف، وخرج الخليفة العاضد لدين الله إلى لقائه بصحراء الهليلج بآخر الحسينية عند مسجد تبر «2» ، أنزل بمنظرة اللؤلؤة، فسكنها حتى مات في سنة سبع وستين وخمسمائة، واتفق أن حضر يوما عنده الفقيه نجم الدين عمارة اليمنيّ، والرضى أبو سالم يحيى الأحدب بن أبي حصيبة الشاعر في قصر اللؤلؤة بعد موت الخليفة العاضد، فأنشد ابن أبي حصيبة نجم الدين أيوب فقال: يا مالك الأرض لا أرضى له طرفا ... منها وما كان منها لم يكن طرفا قد عجل الله هذي الدار تسكنها ... وقد أعدّ لك الجنات والغرفا تشرّفت بك عمن كان يسكنها ... فالبس بها العزّ ولتلبس بك الشرفا كانوا بها صدقا والدار لؤلؤة ... وأنت لؤلؤة صارت لها صدفا فقال الفقيه عمارة يرد عليه: أثمت يا من هجا السادات والخلفا ... وقلت ما قلته في ثلبهم سخفا جعلتهم صدفا حلوا بلؤلؤة ... والعرف ما زال سكنى اللؤلؤ الصدفا

وإنما هي دار حل جوهرهم ... فيها وشف فأسناها الذي وصفا فقال لؤلؤة عجبا ببهجتها ... وكونها حوت الأشراف والشرفا فهم بسكناهم الآيات إذ سكنوا ... فيها ومن قبلها قد أسكنوا الصحفا والجوهر الفرد نور ليس يعرفه ... من البرية إلا كل من عرفا لولا تجسمهم فيه لكان على ... ضعف البصائر للأبصار مختطفا فالكلب يا كلب أسنى منك مكرمة ... لأن فيه حفاظا دائما ووفا فلله درّ عمارة لقد قام بحق الوفاء، ووفى بحسن الحفاظ، كما هي عادته، لا جرم أنه قتل في واجب من يهوي كما هي سنة المحبين فالله يرحمه ويتجاوز عنه. منظرة الغزالة «1» : وكان بجوار منظرة اللؤلؤة منظرة تعرف: بالغزالة على شاطىء الخليج تقابل حمام ابن قرقة وقد خربت هذه المنظرة أيضا، وموضعها الآن تجاه باب جامع ابن المغربيّ الذي من ناحية الخليج، وقد خربت أيضا حمام ابن قرقة، وصار موضعها فندقا بجوار حمام السلطان التي هناك يعرف بفندق عماد، وموضع منظرة الغزالة اليوم ربع يعرف بربع غزالة إلى جانب قنطرة الموسكيّ في الحدّ الشرقيّ، وكان يسكن بهذه المنظرة الأمير أبو القاسم بن المستنصر والد الحافظ لدين الله، ثم سكنها أبو الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست، وكان بعد ذلك ينزلها من يتولى الخدمة في الطراز أيام الخلفاء. قال ابن المأمون: لما ذكر تحوّل الخليفة الأمر بأحكام الله إلى اللؤلؤة: وأسكن الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست الغزالة التي على شاطىء الخليج، ولم يسكن أحد فيها قبله ممن يجري مجراه ولا كانت إلّا سكن الأمير أبي القاسم ولد المستنصر، ولد الإمام الحافظ. قال: وأما ما يذكره الطرّاز، فالحكم فيه مثل الاستيمار والشائع فيها أنها كانت تشتمل في الأيام الأفضلية على أحد وثلاثين ألف دينار، فمن ذلك السلف خاصة خمسة عشر ألف دينار قيمة الذهب العراقيّ، والمصريّ ستة عشر ألف دينار، ثم اشتملت في الأيام المأمونية على ثلاثة وأربعين ألف دينار، وتضاعفت في الأيام الآمرية. وقال ابن الطوير: الخدمة في الطراز، وينعت بالطراز الشريف، ولا يتولاه إلّا أعيان المستخدمين من أرباب العمائم والسيوف، وله اختصاص بالخليفة دون كافة المستخدمين، ومقامه بدمياط، وتنيس وغيرهما وجارية أمير الجواري، وبين يديه من المندوبين مائة رجل لتنفيذ الاستعمالات بالقرى، وله عشاريّ دتماس مجرّد معه، وثلاثة مراكب من الدكاسات،

ولها رؤساء، ونواتية لا يبرحون ونفقاتهم جارية من مال الديون، فإذا وصل بالاستعمالات الخاصة التي منها المظلة، وبدلتها والبدنة واللباس الخاص الجمعيّ، وغيره هيئ بكرامة عظيمة، وندب له دابة من مراكيب الخليفة لا تزال تحته حتى يعود إلى خدمته وينزل في الغزالة على شاطىء الخليج، وكانت من المناظر السلطانية، وجدّدها شعاع بن شاور، ولو كان لصاحب الطراز في القاهرة عشرة دور، لا يمكن من نزوله إلّا بالغزالة، وتجري عليه الضيافة كالغرباء الواردين على الدولة، فيمتثل بين يدي الخليفة بعد حمل الأسفاط المشدودة على تلك الكساوي العظيمة، ويعرض جيع ما معه، وهو ينبه على شيء فشيء بيد فراشي الخاص في دار الخليفة مكان سكنه، ولهذا حرمة عظيمة، ولا سيما إذا وافق استعماله غرضهم. فإذا انقضى عرض ذلك بالمدرج الذي يحضر سلم لمستخدم الكسوات، وخلع عليه بين يدي الخليفة باطنا ولا يخلع على أحد كذلك سواه، ثم ينكفئ إلى مكانه، وله في بعض الأوقات التي لا يتسع له الانفصال نائب يصل عنه بذلك غير غريب منه، ولا يمكن أن يكون إلّا ولدا أو أخا، فإن الرتبة عظيمة، والمطلق له من الجامكية في الشهر سبعون دينارا، ولهذا النائب: عشرون دينارا، لأنه يتولى عنه إذا وصل بنفسه، ويقوم إذا غاب في الاستعمال مقامه ومن أدواته أنه إذا عبىء ذلك في الأسفاط: استدعى والي ذلك المكان ليشاهد عند ذلك، ويكوعن الناس كلهم قياما لحلول نفس المظلة، وما يليها من خاص الخليفة في مجلس دار الطراز، وهو جالس في مرتبته، والوالي واقف على رأسه خدمة لذلك، وهذا من رسوم خدمته وميزتها. دار الذهب: وكان بجوار الغزالة: دار الذهب، وموضعها الآن على يسرة الخارج من باب الخوخة، فيما بينه وبين باب سعادة، وكانت مطلة على الخليج في مكانها اليوم دار تعرف: ببهادر الأعسر، وبقي منها عقد بجوار دار الأعسر يعرف الآن: بقبو الذهب من خطة بين السورين. قال ابن المأمون: لما ذكر تحوّل الخليفة الآمر بأحكام الله إلى اللؤلؤة: ثم أحضر الوزير المأمون وكيله أبا البركات محمد بن عثمان، وأمره أن يمضي إلى داري الفلك والذهب اللتين على شاطىء الخليج، فالدار الأولى التي من حيز باب الخوخة بناها فلك الملك، وذكر أنه من الأستاذين الحاكمية ولم تكن تعرف إلّا بدار الفلك، ولما بنى الأفضل ابن أمير الجيوش، الدار الملاصقة لها التي من حيز باب سعادة، وسماها دار الذهب غلب الاسم على الدارين، ويصلح ما فسد منهما، ويضيف إليهما دار الشابورة، وذكر أن هذه الدار لم تسمّ بهذا الاسم إلّا لأن جزءا منها بيع في أيام الشدّة في زمن المستنصر بشابورة. قال: وعندما قارب النيل أقاربه، تحوّل الخليفة في الليل من قصوره بجميع جهاته وإخوته وأعمامه والسيدات كرائمه، وعماته إلى اللؤلؤة، وتحوّل الأجل المأمون بالأجلاء

ذكر ما كان يعمل يوم فتح الخليج

أولاده، إلى دار الذهب، وما أضيف إليها. وقال ابن عبد الظاهر: دار الذهب بناها: الأفضل بن أمير الجيوش، وكانت عادة الأفضل أن يستريح بها إذا كان الخليفة باللؤلؤة يكون هو بدار الذهب وكذلك كان المأمون من بعده، وكان حرس دار الذهب يسلم للوزيرية من باب سعادة يسلم لهم، ومن باب الخوخة للمصامدة أرباب الشعور، وصبيان الخاص، وكان المقرّر لهم في كل يوم سماطين، أحدهما بقاعة الفلك للمماليك الخاص، والحاشية، وأرباب الرسوم، والآخر على باب الدار برسم المصامدة حتى أنه من اجتاز ورأى أنه يجلس معهم على السماط لا يمنع، والضعفاء، والصعاليك يقعدون بعدهم، وفي أوّل الليل بمثل ذلك، ولكل منهم رسم لجميع من يبيت من أرباب الضوء إلى الأعلى. منظرة السكرة: وكان من جملة مناظر الخلفاء، منظرة تعرف بمنظرة السكرة في برّ الخليج الغربيّ يجلس فيها الخليفة يوم فتح الخليج، وكان لها بستان عظيم بناها العزيز بالله بن المعز، وقد دثرت هذه المنظرة، ويشبه أن يكون موضعها في المكان الذي يقال له اليوم: المريس قريبا من قنطرة السدّ، وكانت السكرة من جنات الدنيا المزخرفة، وفيها عدّة أماكن معدّة لنزول الوزير، وغيره من الأستاذين. ذكر ما كان يعمل يوم فتح الخليج «1» قال ابن زولاق في كتاب سيرة المعز لدين الله: وفي ذي القعدة، يعني من سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وهي السنة التي قدم فيها الخليفة المعز لدين الله إلى القاهرة من بلاد المغرب، ركب المعز لدين الله عليه السلام، لكسر خليج القنطرة، فكسر بين يديه، ثم سار على شاطىء النيل، حتى بلغ إلى بني وائل، ومرّ على سطح الجرف في موكب عظيم وخلفه وجوه أهل الدولة، ومعه أبو جعفر أحمد بن نصر يسير معه، ويعرّفه بالمواضع التي يجتاز عليها، ونجعت له الرعية بالدعاء، ثم عطف على بركة الحبش، ثم على الصحراء على الخندق الذي حفره القائد جوهر، ومرّ على قبر كافور وعلى قبر عبد الله بن أحمد بن طباطبا الحسنيّ وعرّفه، ثم عاد إلى قصره. وذكر الأمير المسبحيّ في تاريخه الكبير: ركوب العزيز بالله بن المعز، وركوب الحاكم بأمر الله بن العزيز، وركوب الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم في كل سنة لفتح الخليج.

وقال ابن المأمون: في سنة ست عشرة وخمسمائة، وعندما بلغ النيل ستة عشر ذراعا أمر بإخراج الخيم، وأن يضرب الثوب الكبير الأفضليّ المعروف بالقاتول، وهو أعظم ما في الحاصل بأربعة دهاليز وأربع قاعات خارجا عن القاعة الكبيرة، ومساحته على ما ذكر: ألف ألف ذراع، وأربعمائة ذراع بالذراع الكبير خارجا عن القاعة الكبيرة، منه ارتفاعه: خمسون ذراعا، ولما كمل استعماله في أيام الأفضل، ونصب تأذى منه جماعة، ومات رجلان، فسمي: بالقاتول لأجل ذلك، وما زال لا يضرب إلّا بحضور المهندسين، وتنصب له أساقيل عدّة بأخشاب كثيرة، والمستخدمون يكرهون ضربه، ويرغبون في ضرب أحد الثوبين الجيوشيين، وإن كانا عظيمين، إلّا أنهما لا يصلان بجملتهما إلى مقايسته، ولا مؤنته، ولا صنعته. وأقام هذا الثوب في الاستعمال عدّة سنين مع جمع الصناع عليه، وما يضرب منه سوى القاعة الكبيرة لا غير، وأربعة الدهاليز، وبعض السرادق الذي هو سور عليه لضيق المكان الذي يضرب فيه، وكونه لا يسعه بجملته. قال: ووصلت كسوة موسم فتح الخليج، وهي ما يختص بالخليفة، وأخيه، وبعض جهاته والوزير. فأما ما يختص بالخليفة خاصة: فبدلة شرحها بدنة طميم منديل سلفه: مائة وعشرون دينارا، وأحد طرفيه ثلاثة عشر ذراعا ذهبا عراقيا دمجا لوحا واحدا، والثاني ثلاثة أذرع سلفه أربعة وعشرون دينارا، ثوب طميم سلفه: خمسون دينارا، والذهب الذي في الثوب والمنديل والحنك ألف دينار، وخمسة دنانير، فتكون جملتها بالسلف: ألف دينار، ومائة وخمسة وسبعين دينارا، شاشية طميم للسلف: ديناران وسبعون قصبة ذهبا عراقيا، فتكون جملة سلفها، وقيمة ذهبها ثمانية دنانير، منديل سلام سلفه: ديناران، وسبعون قصبة قيمته كذلك، وسط برسم المنديل بخوص ذهب سلفه اثنا عشر دينارا وسبعون قصبة قيمة ذلك عشرون دينارا، شقة ديبقيّ وسطانيّ حريريّ السلف: اثنا عشر دينارا، غلالة ديبقي حريريّ السلف: عشرة دنانير، منديل كم ثان حريري: خمسة دنانير، حجره: أربعة دنانير، عرضيّ لفافة خاص: خمسة دنانير وستة عشر مثقالا ذهبا مصريا، فتكون سلفه وذهبه: خمسة وعشرين دينارا، عرضي ثان برسم تغطية التخت: دينار واحد ونصف، تخت ثان ضمنه: بدلة خاص حريريّ برسم العود من السكرة شرحها منديل حريريّ سلفه: ستون دينارا، وسط شرب رسمه اثنا عشر دينارا، شقة ديبقيّ: وكم وعشرون دينارا، شقة وسطاني اثنا عشر دينارا، غلالة: خمسة عشر دينارا، وغلالة: عشرة دنانير، منديل سلام ديناران، منديل كم خمسة دنانير، منديل كم ثان أيضا خمسة دنانير، شاشية حريريّ ديناران، حجره أربعة دنانير، عرضي لفافة خمسة دنانير، عرضي ثان برسم لفافة التخت دينار واحد ونصف.

قال: ورأيت شاهدا أن قيمة كل حلة من هذه الحلل، وسلفها إذا كانت حريريّ ثلثمائة وستة دنانير، وإذا كانت مذهبة ألف دينار، واختصر ما باسم أبي الفضل جعفر أخي الخليفة وأربع جهات. وأما ما يختص بالوزير: فبدلة مذهبة شرحها منديل سلفه سبعون دينارا، وخمسمائة وسبعون قصبة عراقي جملة سلفه وذهبه: مائة وأربعة عشر دينارا، شقة ديبقيّ وكم السلف ستة عشر دينارا وثمانية وعشرون مثقالا ذهبا عاليا تكون جملة ذلك خمسين دينارا، تصف شقة ديبقيّ وسطانيّ اثنا عشر دينارا ونصف، شقة وسطانيّ برسم العود ثلاثة دنانير، غلالة ديبقيّ سبعة دنانير ونصف، شقة برسم الغلالة ديناران ونصف، منديل كم سبعة دنانير واثنا عشر مثقالا ذهبا، تكون قيمته تسعة عشر دينارا، حجره ثلاثة دنانير، عرضي أربعة دنانير وأحد عشر مثقالا تكون سلفه وذهبه سبعة عشر دينارا. ثم ذكر بعد ذلك ما يكون لجهة الوزير، وما يكون برسم صبيان الحمام، وما يفصل برسم المماليك الخاص: صبيان الرايات، والرماح خمسمائة، شقة سقلاطون داري تكون قيمتها: سبعمائة وخمسين، قباء يحمل منها برسم غلمان الوزير مائة قباء، ويفرّق جميع ذلك. قال: ولم يكن لأحد من الأصحاب، والحواشي وغيرهم في هذا الموسم شيء فيذكر، بل لهم من الهبات العين والرسوم الخارجة عن ذلك ما يأتي ذكره في موضعه، وفي صبيحة هذا الموسم خلع على ابن أبي الردّاد، وعلى رؤساء المراكب، وغيرهم، وحمل إلى المقياس برسم المبيت، وركوب الخليفة بتجمله، ومواكبه إلى السكرة ما فصله، وبينه مما يطول ذكره. وقال: في سنة سبع عشرة وخمسمائة، ولما جرى النيل، وبلغ خمسة عشر ذراعا، أمر بإخراج الخيام والمضارب الديبقيّ، والديباج وتحوّل الخليفة إلى اللؤلؤة بحاشيته، وتحوّل المأمون إلى دار الذهب، ووصلت كسوة الموسم المذكور من الطراز وإن كانت يسيرة العدّة فهي كثيرة القيمة، ولم تكن للعموم من الحاشية، والمستخدمين بل للخليفة خاصة، وإخوته وأربع من خواص جهاته، والوزير وأولاده، وابن أبي الردّاد، فلما وفى النيل ستة عشر ذراعا ركب الخليفة، والوزير إلى الصناعة بمصر «1» العشريات بين أيديهما، ثم عدّيا في إحداها إلى المقياس «2» ، وصليا ونزل الثقة صدقة بن أبي الردّاد

منزلته، وخلّق العمود «1» ، ودعا الخليفة على فوره، وركب البحر في العشاري الفضيّ، والوزير صحبته، والرهجية تخدم برّا وبحرا، والعساكر طول البرّ قبالته إلى أن وصل إلى المقس، ورتب الموكب، وقدم العشاري بالخليفة الآمر بأحكام الله، والوزير المأمون، وسار الموكب، والرهجية تخدم، والصدقات، والرسوم تفرّق، ودخل من باب القنطرة، وقصد باب العيد، واعتمد ما جرت به العادة من تقديم الوزير، وترجله في ركابه إلى أن دخل من باب العيد إلى قصره، وتقدّم بالخلع على ابن أبي الردّاد: بدلة مذهبة، وثوب ديبقيّ حريريّ، وطيلسان مقوّر، وبياض مذهب، وشقة سقلاطون، وشقة تحتانيّ، وشقة خز، وشقة ديبقيّ، وأربعة أكياس دراهم، ونشرت قدّامه الأعلام الخاص الديبقيّ المحاومة بالألوان المختلفة التي لا ترى إلّا قدّامه لأنها من جملة تجمل الخليفة، وأطلق له برسم المبيت من البخور والشموع، والأغنام، والحلاوات كثير. قال: وهيئت المقصورة في منظرة السكرة برسم راحة الخليفة، وتغيير ثيابه وقد وقعت المبالغة في تعليقها، وفرشها وتعبيتها، وقدّم بين يديه الصواني الذهب التي وقع التناهي فيها من همم الجهات من أشكال الصور الآدمية، والوحشية من الفيلة، والزرافات، ونحوها المعمولة من الذهب والفضة والعنبر والمرسين «2» المشدود والمظفور عليها المكلل باللؤلؤ، والياقوت والزبرجد من الصور الوحشية ما يشبه الفيلة. جميعها عنبر معجون كخلفة الفيل، وناباه فضة، وعيناه جوهرتان كبيرتان في كل منهما مسمار ذهب مجرى سواده وعليه سرير منجور من عود بمتكآت فضة وذهب، وعليه عدّة من الرجال ركبان، وعليهم اللبوس تشبه الزرديات وعلى رؤوسهم الخود، وبأيديهم السيوف المجرّدة، والدرق وجميع ذلك فضة، ثم صور السباع منجورة من عود، وعيناه ياقوتتان حمراوان، وهو على فريسته، وبقية الوحوش، وأصناف تشدّ من المرسين المكلل باللؤلؤ شبه الفاكهة. قال: ومن جملة ما وقع الاهتمام به في هذا الموسم ما صار يستعمل في الطراز، وإن لم يتقدّم نظيره للولائم التي تتخذ برسم تغطية الصواني عدّة من عراضي ديبقيّ، ثم قوّارات شرب تكون من تحت العراضي على الصواني مفتح كل قوّارة منهنّ دون أربعة أشبار سلف كل واحدة منهنّ خمسة عشر دينارا، ورقم في كل منهنّ سجف ذهب عراقيّ ثمنه: من أربعين إلى ثلاثين دينارا، تكون الواحدة بخمسين دينارا، ويستعمل أيضا برسم الطرح من فوق القوّارات الإسكندرانيّ التي تشدّ على الموائد التي تحمل من عند كل جهة قوّارات ديبقيّ مقصور من كل لون محاومة بالرقم الحريريّ، مفتح كل قوّارة أربعة أذرع يكون الثمن عن كل واحدة: أربعين دينارا، ولقد بيعت عدّة من القوّارات الشرب، فسارع التجار

العراقيون إلى شرائها، ونهاية ما بلغ ثمن كل واحدة منهن: ستة عشر دينارا، وسافروا بها إلى البلاد، فلم يبع لهم منها سوى اثنتين، وعادوا بالبقية إلى الديار المصرية في سنة ست وثمانين وخمسمائة وحفظوا منهنّ شيئا عن السوق، فلم يحفظ لهم رأس مالهنّ. قال: وكان ما تقدّم من الزبادي في الطيافير من الصيني إلى آخر أيام الأفضل بن أمير الجيوش، وأيام المأمون، وإنما استجدّت الأواني الذهب في أواخر الأيام الآمرية والذي يعبئ بين يديه الخليفة قوائمية ضمنها: عدّة من الطيافير المحمولة بالمرافع الفضة برسم الأطباق الحارة، وليس في المواسم مائدة بغير سماط للأمراء، ويجلس عليها الخليفة غير هذا الموسم، وإن كان يجري مجرى الأعياد، وله البخور مطلق مثلها، وينفرد بالجلوس معه الجلساء المميزون والمستخدمون، وعند كمال تعبيتها، وبخورها جلس الخليفة عليها عن يمينه: وزيره، وعن يساره: أخوه، ومن شرّف بحضوره، وفي آخرها فرّق منها ما جرت به العادة على سبيل البركة. وقال: في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، ووصلت الكسوة المختصة بفتح الخليج وهي برسم الخليفة، تختان ضمنهما بدلتان إحداهما منديلها، وثوبها طميم برسم المضيّ، والأخرى جميعها حريريّ برسم العود، وكذلك ما يخص إخوته وجهاته: بدلتان مذهبتان، وأربع حلل مذهبة، وبرسم الوزير بدلة موكبية مذهبة في تخت، وبرسم أولاده الثلاثة ثلاث بدلات مذهبة، وبرسم جهته حلة مذهبة في تخت، وهؤلاء المميزون لكل منهم تخت، وبقية ما يخص المستخدمين وابن أبي الردّاد في تخوت كل تخت فيه: عدّة بدلات، وحضر متولي الدفتر واستأذن على ما يحمل، برسم الخليفة، وما يفرّق، وما يفصل برسم الخلع، وما يخرج من حاصل الخزائن غير الواصل، وهو ما يفصل برسم الغلمان الخاص عن سبعمائة قباء: خمسمائة، وشقتان سقلاطون داري وبرسم رؤساء العشاريّ من الشقق الدمياطيّ والمناديل السوسيّ، والفوط الحرير الأحمر، وبرسم النواتية التي برسم الخاص من العشارية من الشقق الإسكندرانيّ، والكلوتات فوقع بإنفاق جميع ذلك، وتفصيل ما يجب منه، ثم ابتيع ذلك بمطالعة ثانية برسم ما هو مستمرّ العموم من النقد العين والورق للموسم المذكورة، وهو من العين: أربعة آلاف وخمسمائة دينار ومن الورق: خمسة عشر ألف درهم، فوقع بإطلاق ذلك. وذكر تفصيل الكسوات والهبات بأسماء أربابها وحضر متولي المائدة الآمرية بمطالعة يستدعي ما جرت به العادة في هذا الموسم من الحيوان، والضأن، والبقر، وغير ذلك من الأصناف برسم التفرقة، والأسمطة، وحضر متولي دار التعبية يستدعي ما يبتاع به الثمرة والزهرة، وهيئة المتعينين لتعبية السكرة لأجل حلول الركاب بها، ومقامه فيها، وتعبية جميع مقاصيرها التي برسم الأستاذين، والأصحاب، والحواشي، وهو: مائة دينار، فوقع

بإطلاقها، وفي العاشر من الشهر المذكور يعني شهر رجب، وفي النيل: ستة عشر ذراعا، فتوجه المأمون إلى صناعة العمائر بمصر، ورميت العشاريات بين يديه وقد حدّدت وزينت جميعها بالستور الديبقيّ الملوّنة، والكوامخ «1» ، والأهلة الذهب والفضة، وشمل الإنعام أرباب الرسوم على عادتهم، وعدّى في إحدى العشاريات إلى المقياس، وخلّق العمود بما جرت به عادتهم من الطيب وفرّقت رسوم الإطلاق، وانكفأ إلى دار الذهب، وأمر بإطلاق ما يخص المبيت في المقياس بجميع الشهود والمتصدّرين، وهي العشرات من الخبز: عشرة قناطير، وعشرة خراف شوي، وعشر جامات حلوى، وعشر شمعات وأوّل من يحضر المبيت: الشريف الخطيب سيد المقرّبين، وإمام المتصدّرين، وله وللجماعة من الدراهم التي تفرّق أوفى نصيب. قال: وخرج الخليفة بزي الخلافة، ووقارها وناموسها بالثياب الطميم التي تذهل الأبصار والمنديل بالشدّة العربية التي ينفرد بلباسها في الأعياد، والمواسم خاصة لا على الدوام، وكانت تسمى عندهم: شدّة الوقار مرصعة بغالي الياقوت والزمرذ والجوهر، وعند لباسها تخفق لها الأعلام، ويتجنب الكلام، ويهاب ولا يكون سلام قريب منه، وخليل غير الوزير إلّا بتقبيل الأرض من بعيد من غير دنوّ، ثم بين يديه من مقدّمي خزائنه من يحمل سيفه، ورمحه المرصعين بأفخر ما يكون ثم المذاب التي كل منها عمودها ذهب، وينفرد بحملها الصقالبة، ويمشي بين الصفين المرتبين راجلا على بسط حرير فرشت له، وكل من الصفين يتناهى في مواصلة تقبيل الأرض إلى أن وصل إلى مجلس خلافته، وصعد على الكرسي المغشى بالديباج المنصوب رسم ركوبه، وقد صفّت الروّاض، وأزمّة الاصطبلات خيل المظلة بعد أن أزالت الأغشية الحرير، والشقق الديبقيّ المذهبة عن السروج، وبقيت كما وصفها الله تعالى في كتابه، فقدّم إليه ما وقع اختياره عليه، وأمر بأن يجنب البقية في الموكب بين يديه. ولما علا ما قدّم إليه استفتح مقرئو الحضرة، وتسلم جميع مقدّمي الركاب ركابه، والروّاض الشكيمة، وزال حكم الأستاذين المستخدمين في الركاب، وعادت الموالي والأقارب إلى محالهم، واستدعي بالوزير بجميع نعوته فواصل تقبيل الأرض إلى أن قبل ركابه، وشرّفه بتقبيل يده بحكم خلوّها من قضيب الملك في هذه المواسم، ولما أدّى ما يجب من فرض السلام، أخذ السيف من الأمير افتخار الدولة أحد الأمراء الأستاذين المميزين المحنكين متولي خزانة الكسوة الخاص، وسلّمه بعد أن قبّله لأخيه الذي يتولى حمله في الموكب بعد أن أرخيت عذبته تشريفا له مدّة حمله خاصة، وترفع بعد ذلك، وشدّ

وسطه بالمنطقة الذهب تأدّبا وتعظيما لما معه، وسلم الرمح والدرقة لمن يتولى حملهما بلواء الموكب. ولم يكن للخدمة المذكورة عذبة مرخاة، ولا منطقة، واستدعى ركوب الوزير وأولاده من عند باب قاعة الذهب، وخرج الخليفة من القاعة المذكورة إلى أوّل دهليز، فتلقته جماعة صبيان ركابه العشرة المقدّمين أرباب الميمنة والميسرة، وصبيان وراء صبيان الرسائل، وصبيان السلام كل منهم في الخدمة المعينة لا يخرج عنها لسواها، وجميعهم بالمناديل الشروب المعلمة، وبأوساطهم العراض الديبقيّ المقصورة، وليس الجميع عبيدا بشراء ولا سودان، بل مولدة، وأولاد أعيان، وأهل فهم ولسان، ثم احتاط بركابه بعدهم من هو على غير زيهم بل بالقنابيز المفرّجة، والمناديل السوسيّ، وهم المتولون لحمل السلاح الخاص الذي لا يكون إلّا في موكبه خاصة على الاستمرار من الصواري، والفرنجيات والدبابيس، واللتوت، والصماصم بالدرق الصينيّ، واليمنيّ بالكوامخ الفضة، والذهب، ويحصل الاستدعاء من صبيان السلام في مسافة الدهاليز لكل من هو مستخدم في الموكب ركوبه من محل حجبته، إلى أن خرج الخليفة من باب الذهب، وقد ضربت الغربية، وأبواق السلام واجتمع الرهج من كل مكان، ونشرت المظلة، فاجتمع إليها الزويلية بالعدد الغريبة، وظلل بها، وسارت بسيره، والقرآن الكريم عن يمينه ويساره، والحجرية الصبيان المنشدون، واجتمع الموكب بجملته على ما ذكر أوّلا، والترتيب أمامه لمتولي الباب وحجابه، وتلوه لمتولي الستر، وكل منهم على حكم المدارج التي وصلت إليه لا سبيل إلى الخروج عما رسم فيها، وسار بجملة موكبه على ترتيب أوضاعه، بين حصنين مانعين من طوارق عساكره فارسها، وراجلها كل طائفة يقدمها زمامها، وقد ازدحموا في المصفات بالعدد المذهبة الحربية، والآلات المانعة المضيئة وليس بينهم طريق لسالك، وقد زين لهم جميع ما يكون أمامهم من الطرق جميعها حوانيتها، وآدرها، وجميع مساكنها، وأبواب حاراتها، بأنواع من الستور، والديباج والديبقيّ على اختلاف أجناسها، ثم بأصناف السلاح وملأت النظارة الفجاج والبطاح، والوها والربا، والصدقات، والرسوم تعمّ أهل الجانبين من أرباب الجوامع والمساجد، وبوّابي الأبواب، والسقائين، والفقراء، والمساكين في طول الطريق إلى أن أظل على الخيام المنصوبة. فوقف بموكبه، واستدعى الوزير بعده من مقدّمي ركابه، فاجتاز راكبا بمفرده، وجمع حاشيته بسلاحهم رجالة في ركابه بعد أن بالغ في الإيماء بتقبيل الأرض أمامه، فردّ عليه بكمه السلام. وعاد الخليفة في سيره بالموكب بعد أن حصل الوزير أمامه، وترجل جميع من شرّف بحجبته في ركابه، وآخرهم متولي حمل سيفه، ورمحه وصبيان السلام يستدعون كل منهم إلى تقبيل الأرض بجميع نعوته إكبارا له، وتمييزا واحتاطوا بركابه، ووصل إلى المضارب في الحرس الشديد على أبوابها، وسرادقاتها من كل جانب، وقد تبين وجاهة من حصل بها،

ومكن من الدخول إليها، وترجل الوزير في الدهليز الثالث من دهاليزها، وتقدّم إلى الخليفة، وأخذ شكيمة الفرس من يد الروّاض، وشق به الخيام التي جمعت جمع الصور الآدمية والوحشية، وقد فرشت جميعها بالبسط الجهرمية والأندلسية إلى أن وصل إلى القاعة الكبرى فيها، وترجل على سرير خلافته، وجلس في محل عظمته، وأجلس وزيره على الكرسيّ الذي أعدّ له، واحتاط به المستخدمون من جملة السلاح المنتصب جميعه، وحجبوا العيون عن النظر إليه وصف بين يديه الأمراء والضيوف، والمشرّفون بحجبته، وختم المقرئون القرآن العظيم، وقدّم عدي الملك النائب: شعراء المجلس على طبقاتهم، وعند انقضاء خدمة آخرهم عادت المستخدمون، والروّاض مقدّمة ما أمروا به من الدواب، فعلاه الخليفة والوزير يمسك الشكيمة بيده، وانتظم موكبا عظيما والقرّاء عوض الرهجية، والجماعة في ركابه رجالة على حكم ما كانوا عليه أوّلا، وصعد من القاعة التي في دهاليز الباب القبليّ منها، فخرج منه، وانفصلت خدمة جميع الأمراء والضيوف من ركابه بأحسن وداع من تقبيل الأرض. وصعد الخليفة ووزيره، وأولاده وإخوته والأصحاب والحواشي إلى السكرة، وهي من جنات الدنيا المزخرفة، وتلقاه أخوه بعظمة سلامه، وتقبيل الأرض بين يديه، وجلس لوقته، وفتحت الطاقات التي في المنظرة، وعن يمينه وزيره، وعن يساره أخوه جالسان، واعتمد الناس جميعهم عند مشاهدته تقبيل الأرض له، وإدامة النظر نحوه، والمستخدمون جميعهم على السدّ مشدودي الأوساط واقفين عليه. فلما أمرهم الوزير أن يكسروه: قبلوا الأرض جميعا، وانصرفوا عنه، وتولته الفعلة في البساتين السلطانية بالفتح من الحانيين، والقرآن والتكبير من الجانب الغربيّ، حيث الخليفة والرهج واللعب من الجانب الشرقيّ، ولما كمل فتحه: انحدرت العشاريات عن آخرها اللطيف منها يقدم الكبير، والجميع مزينة بالذهب والفضة، والستور المرقومة، ورؤساؤهم وخدّامهم بالكسوات الجميلة، وبعد ذلك غلقت الطاقات، وحلّ الخليفة بالمقصورة التي لراحته، وكذلك الوزير، وأولاده وإخوته، وجميع الأمراء الأستاذين، والأصحاب والحواشي واستدعي للوقت والي مصر من البرّ الشرقيّ، وخلع عليه بدلة منديلها وثوبها مذهبان، وثوبان عتابيّ وسقلاطون، وقبّل الأرض من تحت المنظرة، وعدّى في البحر إلى حفظ مكانه. ثم استدعي بعده حامي البساتين ومشارفها، فخلع عليهما بدلتين حريريّ وثوبين سقلاطون، وعتابيّ، ثم متولي ديوان العمائر كذلك، ثم مقدّمي الرؤساء كذلك، واعتمد كل من سلم إليه الإثباتات المشتملة على أصناف الأنعام من العين والورق، وصواني الفطرة والموائد التي يهتمّ بها جميع الجهات، والخراف المشوية، والجامات الحلواء، تفرقة ذلك

على ما رسم، وهو شامل غير مخصص من أخي الخليفة، والوزير إلى الأصحاب والحواشي من أرباب السيوف والأقلام، ثم الأمراء المستخدمين والضيوف المميزين من الأجناد، وغيرهم من الأدوان ممن يتعلق به خدمة تختص بالموسم من البحارة، وأرباب اللعب وغيرهم، وعبيت الأسمطة في المسطحات المنصوبة لها بالجانب من الباب الغربيّ، من الخيام. وأمر الوزير أخاه: بالمضيّ إليها والجلوس عليها، فتوجه وبين يديه متولي حجبة الباب، ونوّابه والمعروفية، والحجاب واستدعت الأمراء والضيوف بالسقاة من خيامهم، وأجلس كل منهم على السماط في موضعه على عادتهم، وتلاهم العساكر على طبقاتهم، ولم يمنع حضورهم ما يسير لكل منهم من جميع ما ذكر على حكم ميزته. ولما انقضى حكم الأسمطة المختصة بالأمراء الكبار، عاد أخو الوزير إلى حيث مقرّ الخلافة، وبقي متولي الباب جالسا لأسمطة العبيد، وجميع المستخدمين من الراجل والسودان، وعبيت المائدة الخاص بالسكرة التي ما يحضرها إلّا العوالي الخاص المستخدمون في الخدم الكبار، ويجمع له حالتان حضوره في أشرف مقام. وجلوسه في محل يحصل له به حرمة، وذمام. وجلس الخليفة عليها، وأخوه على شماله، ووزيره على يمينه بعد أن أدّى كل منهما ما يجب من سلامه وتعظيمه، وحضر أولاد الوزير، وإخوته والشيخ أبو الحسن: كاتب الدست، وابنه سالم، ومن الأستاذين المحنكين أرباب الخدم، وجرى الحال في المائدة الشريفة على ما هو مألوف، وفرّق من جملتها لكل من أرباب الخدم الذين لم يحضروا عليها، ما هو لكل منهم على سبيل الشرف، وتميز في ذلك اليوم خاصة ما يختص بالقاضي وشهوده، والداعي وابن خاله الذين يخصصون عن سواهم بمقامهم دون غيرهم في قاعة الخيمة الكبرى، أمام سرير الخلافة المنصوب مدّة النهار، مع ما يحمل إليهم من الموائد، وغيرها مما هو بأسمائهم في الإثباتات مذكور ولما تكامل وضع المائدة، وانقضى حكمها قبل كل من الحاضرين الأرض، وانصرف بعد أن استصحب منها ما تقتضيه نفسه على حكم الشرف والبركة. ويقضي بعد ذلك الفرائض الواجبة في وقتها، ولا بدّ من راحة بعدها وحضر مقدّما الركاب، وحاسبا كاتب الدفتر على ما معهما برسم تفرقة الرسوم، والصدقات في مسافة الطريق فكمل لهما على ما بقي معهما مثل ما كان أوّلا، ولما استحق العود عاد كل من المستخدمين إلى شغلة من ترتيب الموكب، ومصفات العساكر، وترتيب من يشرّف بالحضرة من الأمراء والضيوف، وفرّقت الصواني الخاص التي تكون بين يدي الخليفة مدّة النهار، الجامعة للثروة من كل جهة والزينة من كل معنى، والغرابة من كل صنف، وقد جمعت ملاذ جميع الحواس، والعدّة منها يسيرة، وليس ذلك لتقصير من هم الجهات التي تتنوّع فيها

بالغرائب بل للتعب الشديد عليها، ثم لضيق الزمان، لأنّ كلا منها لا مندوحة أن يكون فيه زهرة وثمرة، وطول المكث كذلك يتلف ما فيها، وإذا شملت مع قلتها من له الوجاهة العالية من أخي الخليفة، والوزير لم يكن له غير صينية واحدة، وأخذ كل من الحاشية أهبة تجمله لموضع ميزته، وغير الخليفة ثيابه بما يقتضيه الموكب، وهو بدلة حريريّ، بشدّة الوقار، وعلم الجوهر، وسير إلى الوزير صحبة مقدّم خزانة الكسوة الخاص على يد المستخدمين عنده من الأستاذين من جملة بدلات الجمع التي يتوجه منها إلى زيه، ما يؤمر به من السعي إليه بدلة مكملة حريريّ ومنديلها بياض بالشدّة الدانية غير العربية. ولما لبس ما سير إليه وحضر بين يديه لشكر نعمته، أمره بركوب أخيه في إحدى العشريات، فامتثل أمره، وتوجه صحبته من السكرة بجميع خواصه وحواشيه، وفتح لهم الباب الذي هو منها بشاطئ الخليج، وقدّم له إحدى العشاريات الموكبية، وفيها مقدّم رياسة البحرية، فركب فيها بجمعه، والوزير واقف راجل على شاطىء الخليج خدمة له إلى أن انحدرت العشاريات جميعها قدّامه، ومراكب اللعب بغير أحد من أرباب الرهج، والمستخدمون في البرّين يمنعون من يقاربه، والمتفرّجون لا يصدّهم ويردّهم ما يحل بهم بل يرمون أنفسهم من على الدواب، ويسيرون بسيره. وعاد الوزير إلى السكرة، فلما شاهد الخليفة الدواب الخاص التي برسم ركوبه، أمره بما وقع عليه اختياره منها، وعلاه فاحتاط بركابه، مقدّمو الركاب واستفتح القرّاء وخرج من باب السكرة ودخل من باب الخليفة القبليّ وشق قاعتها على سرير مملكته وخص بالسلام فيها شيوخ الكتاب العوالي، والقاضي والداعي، ومن معهما، ولهم بذلك ميزة عظيمة يختصون بها دون غيرهم، وخرج منها إلى البستان المعروف. بنزار، وسار في ميدانه، وجميعه من الجانبين سور معقود من شجر نارنج أصولها مفترقة، وفروعها مجتمعة، وظللت الطريق، وعليها من الثمرة التي أخرجها من وقته إلى هذا اليوم وقد خرجت بهجتها عن المعتاد، وحصل عليها ثمرة سنتين إحداهما انتهت، والأخرى في الابتداء، وهو بهيئته وزيه وترتيب عساكره وأمرائه، وخرج من الباب بعد أن عمّ من له رسم بإنعامه، وعاد الرهج والموكب على ما كان عليه. فلما وصل إلى السدّ الذي على بركة الحبش كسر بين يديه. وقال في كتاب الذخائر: إن مما أخرج من القصر في سنة إحدى وستين وأربعمائة في خلافة المستنصر قبة العشاريّ وقاربه، وكسوة رحله، وهو مما استعمله الوزير أحمد بن عليّ الجرجراي في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان فيه مائة ألف وسبعة وستون ألفا وسبعمائة درهم فضة نقرة، وإن المطلق لصناع الصاغة عن أجرة ذلك، وفي ثمن لطلائه خاصة، ألفان وسبعمائة دينار، وعمل أبو سهل التستريّ لوالدة المستنصر عشاريا يعرف بالفضيّ وحلي رواقة بفضة تقديرها مائة ألف وثلاثون ألف درهم، ولزم ذلك أجرة الصناعة، ولطلاء

بعضه: ألفان وأربعمائة دينار، واستعمل كسوة برسمه بمال جليل، وأنفق على العشاريات التي برسم النزه البحرية التي عدّتها ستة وثلاثون عشاريا بالتقدير بجميع آلاتها، وكساها وحلاها من مناطق، ورؤوس منجوقات، وأهلة وصفريات، وغير ذلك: أربعمائة ألف دينار. وقال ابن الطوير: إذا أذن الله سبحانه وتعالى بزيادة النيل المبارك: طالع ابن أبي الردّاد بما استقرّ عليه أذرع القاع في اليوم الخامس والعشرين من بؤونة «1» ، وأرخه بما يوافقه من أيام الشهور العربيّ، فعلم ذلك من مطالعته وأخرجت إلى ديوان المكاتبات، فنزلت في السير المرتب بأصل القاع، والزيادة بعد ذلك في كل يوم، تؤرخ بيومه من الشهر العربيّ، ما وافقه من أيام الشهر القبطيّ لا يزال كذلك، وهو محافظ على كتمان ذلك لا يعلم به أحد قبل الخليفة، وبعده الوزير، فإذا انتهى في ذراع الوفاء، وهو السادس عشر إلى أن يبقى منه أصبع أو أصبعان وعلم ذلك من مطالعته. أمر أن يحمل إلى المقياس في تلك الليلة من المطابخ: عشرة قناطير من الخبز السميذ وعشرة من الخراف المشوية، وعشرة من الجامات الحلواء، وعشر شمعات، ويؤمر بالمبيت في تلك الليلة بالمقياس فيحضر إليه قرّاء الحضرة، والمتصدّرون بالجوامع بالقاهرة ومصر، ومن يجري مجراهم، فيستعملون ذلك ويقدون الشمع عليهم من العشاء الآخرة، وهم يتلون القرآن برفق، ويطرّبون بمكان التطريب، فيختمون الختمة الشريفة ويكون هذا الاجتماع في جامع المقياس، فيوفي الماء ستة عشر ذراعا في تلك الليلة، ولوفاء النيل عندهم قدر عظيم، ويبتهجون به ابتهاجا زائدا، وذلك لأنه عمارة الديار، وبه التئام الخلق على فضل الله، فيحسن عند الخليفة موقعه، ويهتمّ بأمره اهتماما عظيما أكثر من كل المواسم، فإذا أصبح الصبح من هذا اليوم، وحضرت مطالعة ابن أبي الردّاد إليه بالوفاء، ركب إلى المقياس لتخليقه، فيستدعي الوزير على العادة، فيحضر إلى القصر، فيركب الخليفة بزيّ أيام الركوب من غير مظلة، ولا ما يجري مجراها بل في هيئة عظيمة من الثياب، والوزير تابعه في الجمع الهائل على ترتيب الموكب، ويخرج شاقا من باب زويلة، وسالكا الشارع إلى آخر الركن من بستان عباس المعروف اليوم: بسيف الإسلام، فيعطف سالكا على جامع ابن طولون، والجسر الأعظم بين الركنين إلى الساحل بمصر إلى الطريق المسلوكة على طرف الخشابين الشرقيّ على دار الفاضل إلى باب الصاغة بجوارها، وله دهليز مادّ بمصاطب مفروشة بالحصر العبدانيّ بسطا وتأزيرا، فيشقها والوزير تابعه، فيخرج منها منعطفا على الصناعة الأخرى، وكانت برسم المكس إلى السيوفيين، ثم على منازل العز التي هي اليوم مدرسة، ثم إلى دار الملك فيدخل من الباب المقابل لسلوكه، فيترجل الوزير عنده للدخول بين يديه

ماشيا إلى المكان المعدّ له، ويكون قد حمل أمس ذلك اليوم من القصر البيت المتخذ للعشاريّ الخاص، وهو بيت مثمن من عاج وأبنوس عرض كل جزء ثلاثة أذرع، وطوله قامة رجل تامّ، فيجمع بين الأجزاء الثمانية، فيصير بيتا دوره أربعة وعشرون ذراعا وعليه قبة من خشب محكم الصناعة، وهو بقبته ملبس بصفائح الفضة، والذهب، فيتسلمه رئيس العشاريات الخاص ويركبه على العشاريّ المختص بالخليفة، ويجعل باكر ذلك اليوم الذي يركب فيه الخليفة على الباب الذي يخرج منه للركوب إلى المقياس. فإذا استقرّ الخليفة بالمنظرة بدار الملك التي يخرج من بابها إلى العشاريّ، وأسند إليه استدعى الوزير من مكانه، فيحضر إليه ويخرج بين يديه إلى أن يركب في العشاريّ، فيدخل البيت المذهب وحده، ومعه من الأستاذين المحنكين من يأمره من ثلاثة إلى أربعة، ثم يطلع في العشاريّ خواص الخليفة خاصة ورسم الوزير اثنان أو ثلاثة من خواصه، وليس في العشاريّ من هو جالس سوى الخليفة باطنا، والوزير ظاهرا في رواق من باب البيت الذي هو بعرانيس من الجانبين قائمة مخروطة من أخف الخشب، وهي مدهونة مذهبة وعليها من جانبيها ستور معمولة برسمها على قدرها. فإذا اجتمع في العشاريّ من جرت عادته بالاجتماع اندفع من باب القنطرة طالبا باب المقياس العالي على الدرج التي يعلوها النيل، فيدخل الوزير، ومعه الأستاذون بين يدي الخليفة إلى الفسقية، فيصلي هو والوزير ركعات كل واحد بمفرده، فإذا فرغ من صلاته أحضرت الآلة التي فيها الزعفران والمسك، فيديفها «1» بيده بآلة، ويتناولها صاحب بيت المال، فيناولها لابن أبي الردّاد، فيلقي نفسه في الفسقية، وعليه غلالته، وعمامته، والعمود قريب من درج الفسقية، فيتعلق فيه برجليه، ويده اليسرى، ويخلقه بيده اليمنى، وقرّاء الحضرة من الجانب الآخر يقرءون القرآن نوبة بنوبة، ثم يخرج على فوره راكبا في العشاري المذكور، وهو بالخيار إما أن يعود إلى دار الملك، ويركب منها عائدا إلى القاهرة، أو ينحدر في العشاريّ إلى المقس فيتبعه الموكب إلى القاهرة، ويكون في البحر في ذلك اليوم ألف قرقورة «2» مشحونة بالعالم، فرحا بوفاء النيل، وبنظر الخليفة. فإذا استقرّ بالقصر اهتمّ بركوب فتح الخليج، وفيه همة عظيمة ظاهرة للابتهاج بذلك، ثم يصير ابن أبي الردّاد باكر ثاني ذلك اليوم إلى القصر بالإيوان الكبير الذي في الشباك إلى باب الملك بجواره، فيجد خلعة معبأة هناك، فيؤمر بلبسها ويخرج من باب العيد شاقا بها بين القصرين من أوّله قصدا لإشاعة ذلك، فإنّ ذلك من علامة وفاء النيل، ولأهل البلاد إلى ذلك تطلع، وتكون خلعة مذهبة، وكان من العدول المحنكين، فيشرّف في الخلعة

بالطيلسان «1» المقوّر، ويندب له من التغييرات، ولمن يريده خمس تغييرات مركبات بالحلي، ويحمل أمامه على أربع بغال مع أربعة من مستخدمي بيت المال، أربعة أكياس في كل كيس خمسمائة درهم ظاهرة في أكفهم وبصحبته أقاربه، وبنو عمه وأصدقاؤه، ويندب له الطبل والبوق، ويكتنف به عدّة كثيرة من المتصرّفين الرجالة، فيخرج من باب العيد، ويركب إحدى التغييرات، وهي أميزها، وشرّف أمامه بجملين من النقارات التي قدّمنا ذكرها يعني في ركوب أوّل العام من زيّ الموكب، فيسير شاقا القاهرة، والأبواق تضرب أمامه كبارا وصغارا، والبطل وراءه مثل الأمراء، وينزل على كل باب يدخل منه الخليفة، ويخرج من باب القصر فيقبله ويركب. وهكذا يعمل كل من يخلع عليه من كبير، وصغير من الأمراء المطوّقين إلى من دونهم سيفا وقلما، ويخرج من باب زويلة طالبا مصر من الشارع الأعظم إلى مسجد عبد الله إلى دار الأنماط «2» ، جائزا على الجامع إلى شاطىء البحر، فيعدّي إلى المقياس بخلعه، وأكياسه، وهذه الأكياس معدّة لأرباب الرسوم عليه في خلعه ولنفسه، ولبني عمه بتقرير من أوّل الزمان، فإذا انقضى هذا الشأن، شرع في الركوب إلى فتح الخليج ثاني يوم، وقد كان وقع الاهتمام به، منذ دخلت زيادة النيل ذراع الوفاء اهتماما عظيما، فيعمل في بيت المال من التماثيل شكل الوحوش من الغزلان، والسباع، والفيلة، والزرافات: عدّة وافرة، منها ما هو ملبس بالعنبر، ومنها ما هو ملبس بالصندل، ثم شكل التفاح، والأترج اللطيف، والوحوش مفسرة الأعين والأعضاء بالذهب إلى غير ذلك. ثم تخرج الخيمة التي يقال لها القاتول لأنّ فرّاشا سقط من أعلى عمودها فمات، فسميت بلك، وطوله سبعون ذراعا، وأعلاه صفرية فضة تسع راوية ماء، وعليه الفلكة التي كانت في الإيوان إلى قريب الوقت، ثم يعمل في أوّل العمود شقة دائرة، ثم أوسع منها، ويتوالى ذلك إلى إحدى عشرة شقة، فتصير سعة الخيمة، ما يزيد على فدّانين مستديرة، وتنصب في برّ الخليج الغربيّ على حافته مكان بستان الحليّ اليوم، وكانت ثمّ منظرة يقال لها السكرة برسم جلوس الخليفة لفتح الخليج في مثل هذا اليوم، وينصب أرباب الرتب من الأمراء من بحريّ تلك لخيمة الكبرى خياما كثيرة، ويتمايزون فيها على قدر هممهم وضربهم إياها في الأماكن الأقرب فالأقرب على قدر رتبهم، فإذا تمّ ذلك وعزم الخليفة على الركوب ثالث يوم التخليق أو رابعه أخرج كل من المستخدمين في المواضع المقدّم ذكرها في ركوب أوّل العام: آلات الموكب على عادته، ويزاد فيه إخراج أربعين بوقا عشرة من الذهب،

وثلاثون من الفضة، ويكون بوّاقوها ركبانا، وأرباب الأبواق النحاس مشاة، ومن الطبول الكبار التي مكان خشبها فضة عشرة. فإذا حضر الوزير إلى باب القصر، خرج الخليفة في هيئة عظيمة، وهمة عالية، وقد تضاعفت هم الأجناد في ذلك اليوم فارسها وراجلها، ويخرج زيّ الخليفة من المظلة، والسيف والرمح والألوية، والدواة، وغير ذلك من الأستاذين المحنكين، ويركب في ذلك اليوم من الأقارب المقيمين بالقصر: عشرون أو ثلاثون، وهم بالنوبة في كل سنة فيتقدّمون إلى المنظرة في مكان لهم صحبة أستاذين لخدمتهم، وحفظهم، ويكون قد لف عمود الخيمة الكبرى المشار إليها إما بديباج أبيض، أو أحمر، أو أصفر من أعلاه إلى أسفله، وينصب مسندا إليه سرير الملك، ويغشى بقرقوبيّ وعرانيسه ذهب ظاهرة. فيخرج الخليفة للرّكوب، ويركب فيخرج من باب القصر، وعليه ثوب يقال له: البدنة وهو كله ذهب وحرير مرقوم، والمظلة من شكله، ولا يلبس هذا الثوب في غير هذا اليوم، ويسير بالموكب الهائل شاقا القاهرة من الطريق التي ركب منها لتخليق المقياس، إلّا أنه لا يدخل طرق مصر من الخشابين، بل خارجها من طريق الساحل، فإذا جاز على جامع ابن طولون، وجد قد ربط من رأس المنارة من مكان العشاريّ النحاس حبل طويل قويّ، موضوع آخره في الطريق، وفيه قوم يقال لهم: التحتبارية واحد في زيّ فارس على شكل فرس وفي يده رمح، وبكتفه درقة، فينحدر على بكرة، وفي رجليه آخر ممسكها، وهو يتقلب في الهواء بطنا وظهرا، حتى يصل إلى الأرض، ويكون قاضي القضاة، وأعيان الشهود جلوسا في باب الجامع من هذه الجهة، فإذا وازاهم الخليفة وكانوا قد ركبوا، وقف لهم وقفة، فيسلم على القاضي، ثم يدخل، فيقبل الرجل التي من جانبه لا غير، ويدخل بالشهود في الفرجة أمام وجه الدابة بمقدار قصبة المساحة، فيسلم عليهم ويرجعون إلى دوابهم، فيركبون، ويكون قد نصب لهم بالقرب من الخيمة الكبرى: خيمتان، إحداهما ديباج أحمر، والأخرى ديبقي أبيض بصفاري فضة لكل واحدة فيتم الخليفة بهيئته إلى أن يدخل من باب الخيمة، ويكون الوزير قد تقدّمه على العادة ليخدمه، فيجده راجلا على باب الخيمة، فيمشي بين يديه إلى سرير الملك، فينزل ويجلس على المرتبة المنصوبة فيه، ويحيط به الأستاذون المحنكون والأمراء المطوّقون بعدهم، ويوضع للوزير الكرسيّ الجاري به عادته، فيجلس عليه، ورجلاه تحك الأرض ويقف أرباب الرتب صافين من ناحية سرير الملك إلى ناحية الخيمة، والقرّاء يقرءون القرآن ساعة زمانية، فإذا ختموا قراءتهم، استأذن صاحب الباب على حضور الشعراء للخدمة بما يطلق هذا اليوم، فيؤمر بتقديمهم واحدا بعد واحد، ولهم منازل على مقدار أقدارهم، فالواحد يتقدّم الواحد بخطوة في الإنشاد، وهو أمر معروف عند مستخدم يقال له النائب، وتقدّم شاعر يقال له ابن جبر، وأنشأ قصيدة منها: فتح الخليج فسال منه الماء ... وعلت عليه الراية البيضاء

فصفت موارده لنا فكأنه ... كف الإمام فعرفها الإعطاء فانتقد الناس عليه في قوله، فسال منه الماء، وقالوا: أيّ شيء يخرج من البحر غير الماء، فضيع ما قاله بعد هذا المطلع، وتقدّم شاعر يقال له مسعود الدولة بن جرير، وأنشد: ما زال هذا السدّ ينظر فتحه ... إذن الخليفة بالنوال المرسل حتى إذا برز الإمام بوجهه ... وسطا عليه كل حامل معول فجرى كأن قد ديف فيه عنبر ... يعلوه كافور بطيب المندل فانتقدوا عليه أيضا قوله في البيت الثاني، وقالوا: أهلك وجه الإمام بسطوات المعاول عليه، وإن كان قصد فتح السدّ بالمعاول، لكنه ما نظمه إلا قلقا، ثم تقدّم له شاعر شاهد يقال له: كافي الدولة أبو العباس أحمد، وأنشد قصيدة شهد له جماعة منهم القاضي الأثير بن سنان، فإنه عملها بحضوره بديها: لمن اجتماع الخلق في ذا المشهد ... للنيل أم لك يا ابن بنت محمد أم لاجتماعكما معا في موطن ... وافيتما فيه لأصدق موعد ليس اجتماع الخلق إلّا للذي ... حاز الفضيلة منكما في المولد شكروا لكلّ منكما لوفائه ... بالسعي لكن ميلهم للأجود ولمن ذا اعتمد الوفاء ففعله ... بالقصد ليس له كمن لم يقصد هذا يفي ويعود ينقص تارة ... وتسدّ أنت النقص إن لم يردد وقواه إن بلغ النهاية قصرت ... وإذا بلغت إلى النهاية تبتدي فالآن قد ضاقت مسالك سعيه ... بالسدّ فهو به بحال مقيد فإذا أردت صلاحه فافتح «1» ... ليرى جنابا مخصبا وترى ندي وأمر بفصد العرق منه فما شكا ... جسم فصيح الجسم إن لم يقصد واسلم إلى أمثال يومك هذا ... في عيش مغبوط وعز مخلد فأمر له على الفور بخمسين دينارا، وخلع عليه، وزيد في جاريه، ثم يقوم الخليفة عن السرير راكبا، والوزير بين يديه حتى يطلع على المنظرة المعروفة بالسكرة، وقد فرشت بالفرش المعدّة لها، فيجلس فيها، ويتهيأ أيضا للوزير مكان يجلس فيه، ويحيط بالسدّ حامي البساتين ومشارفها لأنه من حقوق خدمتهما، فتفتح إحدى طاقات المنظرة، ويطل منها الخليفة على الخليج، وطاقة تقاربها يتطلع منها أستاذ من الخواص، ويشير بالفتح، فيفتح بأيدي عمال البساتين بالمعاول ويخدم بالطبل والبوق من البرّين. فإذا اعتدل الماء في الخليج، دخلت العشاريات اللطاف، ويقال لها السماويات وكأنها

خدم بين يدي العشاريّ الذهبيّ المقدّم ذكره، ثم العشاريات الخاص الكبار، وهي ستة: الذهبيّ المذكور والفضيّ، والأحمر، والأصفر، واللازوردي، والصقلي، وكان أنشأه نجار من رأساء الصناعة صقليّ، وزاد فيه على الإنشاء المعتاد، فنسب إليه، وهذه العشاريات لا تخرج عن خاص الخليفة في أيام النيل، وتحوّله إلى اللؤلؤة للفرجة، وسارت في الخليج، وعلى بيت كل منهما الستور الديبقيّ الملوّنة، وبرءوسها وفي أعناقها الأهلة، وقلائد من الخرز، فتسند إلى البرّ الذي فيه المنظرة الجالس فيها الخليفة، فإذا استقرّ جلوس الخليفة، والوزير بالمنظرة، ودخل قاضي القضاة، والشهود الخيمة الديبقي البيضاء، وصلت المائدة من القصر في الجانب الغربيّ من الخليج على رؤوس الفرّاشين صحبة صاحب المائدة، وعدّتها مائة شدّة في الطيافير الواسعة، وعليها القوّارات الحرير، وفوقها الطرّاحات، ولها رواء عظيم ومسك فاتح، فتوضع في خيمة واسعة منصوبة لذلك ويحمل للوزير ما هو مستقرّ له بعادة جارية، ومن صواني التماثيل المذكورة: ثلاث صوان، ويخصص منها أيضا لأولاده، وإخوته خارجا عن ذلك إكراما وافتقادا، ويحمل إلى قاضي القضاة، والشهود شدّة من الطعام الخاص من غير تماثيل توقيرا للشرع، ويحمل إلى كل أمير في خيمته شدّة طعام، وصينية تماثيل، ويصل بمن ذلك إلى الناس شيء كثير، ولا يزالون كذلك إلى أن يؤذن بالظهر، فيصلون ويقيمون إلى العصر، فإذا أذن به صلى، وركب الموكب كله لانتظار ركوب الخليفة. فيركب لابسا غير البدنة بل بهيئته، والمظلة مناسبة لثيابه التي عليه، واليتيمة والترتيب بأجمعه على حاله، ويسير في البرّ الغربيّ من الخليج شاقا البساتين هناك، حتى يدخل من باب القنطرة إلى القصر، والوزير تابعه على الرسم المعتاد، ويمرّ فيه لقوم أحسن الأيام، ويمضي الوزير إلى داره مخدوما على العادة. وقال في كتاب الذخائر والتحف: إنّ المستعمل من الفضة قبة العشاري المعروف بالمقدّم، وقاربه وكسوة رحله في سنة ست وثلاثين وأربعمائة في وزارة عليّ بن أحمد الجرجرائي: مائة ألف وسبعة، وستون ألفا، وسبعمائة درهم نقرة، وإنّ المطلق للصناع عن أجرة الصناعة، وفي ثمن ذهب لطلائه خاصة: ألفان وتسعمائة دينار وسبعون، وكانت الفضة في ذلك الوقت، كل مائة درهم: بستة دنانير وربع، سعر ستة عشر درهما بدينار. ولما تولى أبو سعيد سهل التستريّ الوساطة سنة ست وثلاثين وأربعمائة، استعمل لأمّ المستنصر عشاريا يعرف: بالفضيّ وحلّي رواقه بفضة تقديرها: مائة ألف وثلاثون ألف درهم، ولزم ذلك أجرة الصناعة، ولطلاء بعضه: ألفان وأربعمائة دينار، سوى كسوة له بمال جليل، والمنفق على ستة وثلاثين عشاريا برسم النزه البحرية، لآلاتها وحلاها من مناطق، ورؤوس منجوقات وأهله وصفريات وغير ذلك: أربعمائة ألف دينار، وكانت العادة عندهم

إذا حصل وفاء النيل أن يكتب إلى العمال. فمما كتب من إنشاء تاج الرياسة أبي القاسم عليّ بن منجب بن سليمان الصيرفي «1» : أمّا بعد: فإن أحق ما أوجبت به التهنئة والبشرى، وغدت المسارّ منتشرة تتوالى وتترى، وكان من اللطائف التي غمرت بالمنة العظمى، والنعمة الجسيمة الكبرى، ما استدعى الشكر لموجد العالم وخالقه، وظلت النعمة به عامّة لصامت الحيوان وناطقه، وتلك الموهبة بوفاء النيل المبارك الذي يسره الله تعالى، وله الحمد يوم كذا، فإن هذه العطية تؤدّي إلى خصب البلاد وعمارتها، وشمول المصالح وغزارتها، وتفضي بتضاعف المنافع والخيرات، وتكاثر الأرزاق، والأقوات ويتساهم الفائدة فيها جميع العباد، وتنتهي البركة بها إلى كل دان وناء وكل حاضر وباد، فأذع هذه النعمة قبلك، وانشرها في كل من يتدبر عملك، وحثهم على مواصلة الشكر لهذه الألطاف الشاملة لهم، ولك، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى. وكتب أيضا: إن أولى ما تضاعف به الابتهاج والجذل، وانفتح فيه الرجاء، واتسع الأمل، ما عمّ نفقه صامت الحيوان وناطقه، وأحدث لكل أحد اغتباطا لزمه، وآلى أن لا يفارقه، وذلك ما منّ الله به من وفاء النيل المبارك الذي تحيى به كل أرض موات، وتكتسى بعد اقشعرارها حلة النبات ويكون سببا لتوافر الأقوات، فإنه وفى المقدار الذي يحتاج إليه، فلتذع هذه المنة في القاضي والداني، لتستعمل الكافة بينهم ضروب البشائر والتهاني إن شاء الله تعالى. وكتب أيضا: من لطف الله الواجب حمده، اللازم شكره وفضله، الذي لا يمل بشره، ولا يسأم ذكره، ومنّه، الذي استبشر به الأنام، وتضاعف فيه الإنعام، ومثل الله الحياة به في قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ [يونس/ 24] أمر النيل المبارك الذي يعمّ النجود والتهائم، وتنتفع به الخلائق، وترتع فيما يظهره البهائم، وقد توجه إليك بهذا الكتاب بهذه البشرى فلان، فأجره على رسمه في إظهاره مجملا، وإيصاله إلى رسمه مكملا، وإذاعة هذه النعمة على الكافة ليتساهموا الاغتباط بها، ويبالغوا في الشكر لله سبحانه وتعالى بمقتضاها، وعلى حسبها فاعلم ذلك، واعمل به إن شاء الله تعالى. منظرة الدكة: وكان من جملة مناظر الخلفاء الفاطميين، منظرة تعرف: بالدكة لها بستان عظيم بجوار المقس فيما بينه، وبين أراضي اللوق، وما زالت باقية، حتى زالت الدولة، وحكر مكان البستان، وصار خطة تعرف إلى اليوم بخط الدكة، فخربت المنظرة، وزال أثرها.

قال ابن عبد الظاهر: الدكة بالمقس، كانت بستانا، وكان الخليفة إذا ركب من كسر الخليج من السكرة بمظلته يسير في البرّ الغربيّ، ومضارب الناس والأمراء، وخيمهم عن يمينه وشماله إلى أن يصل إلى هذا البستان المعروف بالدكة: وقد غلقت أبوابه ودهاليزه، فيدخل إليه بمفرده، ويسقي منه الفرس الذي تحته، وهي قضية، ذكر المؤرخ للسيرة المأمونية: أنهم كانوا يعتمدونها إلى آخر وقت، ولم يعلم سببها، ثم يخرج ويسير إلى أن يقف على الترعة الآتي ذكرها، ويدخل من باب القنطرة، وينزل إلى القصر، والدكة الآن: آدر وحارات شهرتها تغني عن وصفها، فسبحان من لا يتغير. وقال ابن الطوير عن الظاهر لإعزاز دين الله أبي هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله: كان بمنظرة يقال لها: الدكة بساحل المقس يعني أنه مات بها. منظرة المقس «1» : وكان من جملة مناظرهم أيضا: منظرة بجوار جامع المقس الذي تسميه العامّة اليوم: جامع المقسي، وكانت هذه المنظرة بحري الجامع المذكور، وهي مطلة على النيل الأعظم، وكان حينئذ ساحل النيل بالمقس وكانت هذه المنظرة: معدّة لنزول الخليفة بها عند تجهيز الأسطول إلى غزو الفرنج، فتحضر رؤساء المراكب بالشواني، وهي مزينة بأنواع العدد، والسلاح، ويلعبون بها في النيل حيث الآن الخليج الناصري تجاه الجامع وما وراء الخليج من غربيه. قال ابن المأمون: وذكر تجهيز العساكر في البرّ، عند ورود كتب صاحبي دمشق وحلب في سنة سبع عشرة وخمسمائة، ما يحث على غزو الفرنج، ومسيرها مع حسام الملك، وركب الخليفة الآمر بأحكام الله، وتوجه إلى الجامع بالمقس، وجلس بالمنظرة في أعلاه، واستدعى مقدّم الأسطول الثاني، وخلع عليه، وانحدرت الأساطيل مشحونة بالرجال، والعدد، والآلات، والأسلحة، واعتمد ما جرت العادة به من الإنعام عليهم، وعاد الخليفة إلى البستان المعروف بالبعل إلى آخر النهار، وتوجه إلى قصره بعد تفرقة جميع الرسوم، والصدقات والهبات الجاري بها العادة في الركوبات. وقال ابن الطوير: فإذا تكملت النفقة، وتجهزت المراكب، وتهيأت للسفر ركب الخليفة والوزير إلى ساحل المقس، وكان هناك على شاطىء البحر بالجامع، منظرة يجلس فيها الخليفة برسم وداعه يعني الأسطول، ولقائه إذا عاد، فإذا جلس هو والوزير للوداع، جاءت القوّاد بالمراكب من مصر إلى هناك للحركات في البحر بين يديه وهي مزينة

بأسلحتها، ولبوسها، وفيها المنجنيقات تلعب فتنحدر وتقلع بالمجاذيف كما يفعل في لقاء العدوّ بالبحر الملح، ويحضر بين يدي الخليفة المقدّم والرئيس، فيوصيهما، ويدعو للجماعة بالنصرة والسلامة، ويعطي المقدّم مائة دينار، والرئيس: عشرين دينارا، وتنحدر إلى دمياط، وتخرج إلى البحر الملح، فيكون لها ببلاد العدوّ صيب وهيبة، فإذا وقع لهم مركب لا يسألون عما فيه سوى الصغار والرجال والنساء، والسلاح وما عدا ذلك فللأسطول. واتفق مرّة أن قدّم على الأسطول سيف الملك الجمل، فكسب بطشة عظيمة فيها ألف وخمسمائة شخص، بعد أن بعث عليهم بالقتال، وقتل منهم نحوا من مائة وعشرين رجلا، وحضر إلى القاهرة، ففرح الخليفة، وركب إلى المقس، وجلس بالمنظرة للقائهم، وأطلقوا الأسرى بين يديه تحت المنظرة من جانب البرّ فاستدعيت الجمال لركوبهم، وشق بهم القاهرة ومصر، وهم كل اثنين على جمل، ظهر الظهر، وعاد الخليفة إلى القصر فجلس في إحدى مناظره لنظرهم في جوازهم، فلما عادوا بهم من مصر صاروا بهم إلى المناخات، فصح منهم ألف رجل، فانضافوا إلى من في المناخ، وأمّا النساء والصبيان فإنهم دخلوا بهم إلى القصر بعد أن حمل منهم للوزير نصيب وافر، وأخذ الجهات، والأقارب بقيتهنّ، فيستخدمونهنّ، ويعلمونهنّ الصنائع، ويتولى الأستاذون تربية الصبيان، وتعليمهم الخط والرماية، ويقال لهم: الترابي، ومن استريب به من الأسرى، ونبه عليه بقوّة أوقع به، والشيخ الذي لا ينتفع به يمضي فيه حكم السيف بمكان يقال له: بئر المنامة في الخراب قريب مصر، ولم يسمع على الدولة قط أنها فادت أسيرا بمال، ولا بأسير مثله، وهذه الحال في كل سنة آخذة في الزيادة لا النقص، وقدّم على الأسطول مرّة أمير يقال له: حرب بن فور، صاحب الحاجب لؤلؤ، فكسب بطشة حصل فيها: خمسمائة رجل، انتهى. وقد خربت هذه المنظرة، وكان موضعها برج كبير صار يعرف في الدولة الأيوبية بقلعة المقس مشرف على النيل، فلما جدّد الصاحب الوزير شمس الدين عبد الله المقسي جامع المقس على ما هو عليه الآن في سنة سبعين وسبعمائة، هدم هذا البرج، وجعل مكانه جنينة شرقيّ الجامع، وتحدّث الناس أنه وجد فيه مالا، والله أعلم. منظرة البعل: وكان من مناظرهم بظاهر القاهرة منظرة في بستان أنيق يعرف: بالبعل أنشأه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ، وموضع هذا البستان إلى اليوم يعرف بالبعل، وصارت أرضه مزرعة في جانب الخليج الغربيّ، بحريّ أرض الطبالة في كوم الريش، مقابل قناطر الأزر، وقد خربت المنظرة وبقي منها آثار أدركتها، يعطن بها الكتان تدل على عظمها، وجلالتها في حال عمارتها، وكانت منظرة البعل من أجلّ منتزهاتهم، وكان لهم بها أوقات عميمة المبرّات جليلة الخيرات.

قال ابن المأمون: فأمّا يوم السبت والثلاثاء فيكون ركوب الوزير من داره بالرهجية، ويتوجه إلى القصر، فيركب الخليفة إلى ضواحي القاهرة للنزهة في مثل الروضة، والمشتهي، ودار الملك، والتاج، والبعل، وقبة الهواء، والخمسة وجوه، والبستان الكبير، وكان لكل منظرة منهنّ فرش معلوم مستقرّ فيها من الأيام الأفضلية للصيف والشتاء، وتفرّق الرسوم ويسلم لمقدّمي الركاب اليمين والشمال لكل واحد عشرون دينارا، وخمسون رباعيا، ولتالي مقدّم الركاب اليمين مائة كاغدة في كل كاغدة ثلاثة دراهم، ومائة كاغدة في كل كاغدة درهمان، ولتالي مقدّم الشمال مثل ذلك، فأمّا الدنانير، فلكل باب يخرج منه من البلد دينار، ولكل باب يدخل منه دينار، ولكل جامع يجتاز عليه دينار، ما خلا جامع مصر، فإن رسمه خمسة دنانير، ولكل مسجد يجتاز عليه رباعيّ، ولكل من يقف ويتلو القرآن: كاغدة، والفقراء والمساكين من الرجال والنساء، لكل من يقف كاغدة، ولكل من يركب الخليفة ديناران، ويكون مع هذا متولي صناديق الإنفاق يحجب الخليفة وبيده خريطة ديباج فيها خمسمائة دينار لما عساه يؤمر به. فإذا حصل في إحدى المناظر المذكورة، فرّق من العين ما مبلغه: سبعة وخمسون دينارا، ومن الرباعية: مائة وستة وثمانون دينارا للحواشي، والأستاذين وأصحاب الدواوين والشعراء، والمؤذنين، والمقرئين، والمنجمين وغيرهم، ومن الخزاف الشواء: خمسون رأسا منها طبقان حارّة مكملة مشورة، برسم المائدة الخاص مضافا لما يحضر من القصور من الموائد الخاص، والحلاوات وطبق واحد، برسم مائدة الوزير، وبقية ذلك بأسماء أربابه، ورأسا بقر برسم الهرائس، فإذا جلس الخليفة على المائدة استدعى الوزير، وخواصه، ومن جرت العادة بجلوسه معه، ومن تأخر عن المائدة، ممن جرت عادته بحضورها حمل إليه من بين يدي الخليفة على سبيل التشريف، وعند عود الخليفة إلى القصر يحاسب متولي الدفتر مقدّمي الركاب على ما أنفق عليه في مسافة الطريق من جامع، ومسجد وباب ودابة. وأمّا تفرقة الصدقات فهم فيها على حكم الأمانة، قال: وإذا وقع الركوب إلى الميادين جرى الحال فيها على الرسم المستقرّ من الإنعام ويؤمر متولي خزائن الخاص، وصناديق الإنفاق أن يكون معه خريطة في السرج ديباج تسمى خريطة الموكب فيها ألف دينار معدّة لمن يؤمر بالإنعام عليه في حال الركوب. منظرة التاج: هي من جملة المناظر التي كانت الخلفاء تنزلها للنزهة بناها الأفضل بن أمير الجيوش وكان لها فرش معدّ لها للشتاء والصيف، وقد خربت، ولم يبق لها سوى أثر كوم، توجد تحته الحجارة الكبار وما حول هذا الكوم، صار مزارع من جملة أراضي منية الشيرج.

قال ابن عبد الظاهر: وأمّا التاج فكان حوله البساتين عدّة، وأعظم ما كان حوله: قبة الهواء، وبعدها الخمس وجوه التي هي باقية. منظرة الخمس وجوه: كانت أيضا من مناظرهم التي يتنزهون فيها، وهي من إنشاء الأفضل بن أمير الجيوش وكان لها فرش معدّ لها، وبقي منها آثار بناء جليل على بئر متسعة، كان بها: خمسة أوجه من المحال الخشب التي تنقل الماء لسقي البستان، العظيم الوصف البديع الزيّ، البهيج الهيئة، والعامّة تقول التاج، والسبع وجوه إلى الآن وموضعها إلى وقتنا هذا من أعظم متفرّجات القاهرة، وينبت هناك في أيام النيل عندما يعمّ تلك الأراضي البشنين فتفتن رؤيته، وتبهج النفوس نضارته، وزينته، فإذا نضب ماء النيل، زرعت تلك البسطة قرطا، وكتانا يقصر الوصف عن تعداد حسنه، وأدركت حول الخمس وجوه: غروسا من نخل، وغيره تشبه أن تكون من بقايا البستان القديم، وقد تلاشت الآن، ثم إنّ السلطان الملك المؤيد شيخ المحموديّ الظاهريّ جدّد عمارة منظرة: فوق الخمس وجوه، ابتدأ بناءها في يوم الاثنين أوّل شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة. منظرة باب الفتوح: وكان للخلفاء الفاطميين منظرة خارج باب الفتوح، وكان يومئذ خرج عن باب الفتوح براحا فيما بين الباب، وبين البساتين الجيوشية، وكانت هذه المنظرة معدّة لجلوس الخليفة فيها عند عرض العساكر، ووداعها إذا سارت في البرّ إلى البلاد الشامية. قال ابن المأمون: وفي هذا الشهر يعني المحرّم سنة سبع عشرة وخمسمائة، وصلت رسل ظهير الدين طفدكين صاحب دمشق، وآق سنقر صاحب حلب، بكتب إلى الخليفة الآمر بأحكام الله، وإلى الوزير المأمون إلى القصر، فاستدعوا لتقبيل الأرض كما جرت العادة من إظهار التجمل، وكان مضمون الكتب بعد التصدير، والتعظيم، والسؤال، والضراعة أنّ الأخبار تظافرت بقلة الفرنج بالأعمال الفلسطينية، والثغور الساحلية، وأنّ الفرصة قد أمكنت فيهم، والله قد أذن بهلاكهم، وأنهم ينتظرون إنعام الدولة العلوية، وعوايد أفضالها، ويستنصرون بقوّتها، ويحثون على نصرة الإسلام، وقطع دابر الكفر وتجهيز العساكر المنصورة، والأساطيل المظفرة، والمساعدة على التوجه نحوهم لئلا يتواصل مددهم، وتعود إلى القوّة شوكتهم، فقوي العزم على النفقة في العساكر فارسها وراجلها، وتجريدها، وتقدّم إلى الأزمّة بإحضار الرجال الأقوياء، وابتدئ بالنفقة في الفرسان بين يدي الخليفة في قاعة الذهب، وأحضر الوزانون، وصناديق المال وأفرغت الأكياس على البساط، واستمرّ الحال بعد ذلك في الدار المأمونية. وتردّد الرأي فيمن يتقدّم، فوقع الاتفاق على حسام الملك البرني، وأحضر مقدّم الأساطيل الثانية، لأن الأساطيل توجهت في الغزو وخلع عليه، وأمر بأن ينزل إلى الصناعتين

بمصر والجزيرة، وينفق في أربعين شينيا «1» ، ويكمل نفقاتها وعددها، ويكون التوجه بها صحبة العسكر، وأنفق في عشرين من الأمراء للتوجه صحبته، فكملت النفقة في الفارس والراجل، وفي الأمراء السائرين، وفي الأطباء، والمؤذنين والقرّاء، وندب من الحجاب عدّة، وجعل لكل منهم خدمة، فمنهم من يتولى خزانة الخيام، وسير معه من حاصل الخزائن برسم ضعفاء العسكر، ومن لا يقدر على خيمة خيم، ومنهم حاجب على خزائن السلاح، وأنفق في عدّة من كتاب ديوان الجيش لعرض العساكر، وفي كتاب العربان: وأحضر مقدّمو الحراسين بالخفار، وتقدّم إليها بأنه من تأخر عن العرض بعسقلان، وقبض النفقة، فلا واجب له، ولا إقطاع، وكتبت الكتب إلى المستخدمين بالثغور الثلاثة: الإسكندرية، ودمياط، وعسقلان بإطلاق، وابتياع ما يستدعي برسم الأسمطة على ثغر عسقلان للعساكر والعربان من الأصناف، والغلال. ووقع الاهتمام بنجاز أمر الرسل الواصلين، وكتبت الأجوبة عن كتبهم، وجهز المال والخلع المذهبات، والأطواق، والسيوف، والمناطق الذهب، والخيل بالمراكب الحلي الثقال، وغير ذلك من التجملات، وخلع على الرسل، وأطلق لهم التغيير، وسلمت إليهم الكتب، والتذاكر وتوجهوا صحبة العسكر. وركب الخليفة الآمر بأحكام الله إلى باب الفتوح، ونظر بالمنظرة، واستدعى حسام الملك، وخلع عليه بدلة جليلة مذهبة، وطوّقه بطوق ذهب، وقلده ومنطقه بمثل ذلك، ثم قال الوزير المأمون للأمراء: بحيث يسمع الخليفة، هذا الأمير مقدّمكم، ومقدّم العساكر كلها، وما وعد به أنجزته، وما قرّره أمضيته، فقبلوا الأرض، وخرجوا من بين يديه، وسلم متولي بيت المال، وخزائن الكسوة لحسام الملك الكتب بما ضمنته الصناديق من المال، وأعدال الكسوات، وحملت قدّامه، وفتحت طاقات المنظرة، فلما شاهد العساكر الخليفة قبلوا الأرض، فأشار إليهم بالتوجه، فساروا بأجمعهم، وركب الخليفة، وتوجه إلى الجامع بالمقس، وجلس بالمنظرة، واستدعى مقدّم الأسطول، وخلع عليه، وانحدرت الأساطيل مشحونة بالرجال والعدّة. منظرة الصناعة: وكان من جملة مناظر الخلفاء منظرة بالصناعة في الساحل القديم من مصر يجلس بها الخليفة تارة حتى تقدّم له العشاريات، فيركبها ويسير للمقياس، حتى يخلق بين يديه عند الوفاء، وكان بهذه الصناعة ديوان العمائر. وأنشأ هذه المنظرة، والصناعة التي هي فيها: الوزير المأمون، لم تزل إلى آخر الدولة، ودهليزها مادّ بمصاطب مفروشة بالحصر العبداني بسطا وتأزيرا، وقد خربت هذه

الصناعة والمنظرة، وصار موضعهما الآن بستانا كان يعرف ببستان ابن كيسان، ويعرف في زمننا هذا الذي نحن فيه الآن ببستان الطواشي، وهو بأوّل مراغة مصر، تجاه غيط الجرف على يسرة من يسلك من المراغة يريد الكيارة، وباب مصر. قال ابن المأمون: وكانت جميع مراكب الأساطيل ما تنشأ إلّا بالصناعة التي بالجزيرة، فأنكر الوزير المأمون ذلك، وأمر بأن يكون إنشاء الشواني، وغيرها من المراكب النيلة الديوانية بالصناعة بمصر، وأضاف إليها دار الزبيب، وأنشأ المنظرة بها واسمه باق إلى الآن عليها، وقصد بذلك أن يكون حلول الخليفة يوم تقدمة الأساطيل، ورميها بالمنظرة المذكورة وأن يكون ما ينشأ من الجراني، والشلنديات في الصناعة بالجزيرة. قال: ولما وفى النيل ستة عشر ذراعا ركب الخليفة والوزير إلى الصناعة بمصر، ورميت العشاريات بين أيديهما، ثم عدّيا في إحداها إلى المقياس. وقال ابن الطوير: الخدمة في ديوان الجهاد، ويقال له: ديوان العمائر، وكان محله بصناعة الإنشاء بمصر للأسطول والمراكب الحاملة للغلات السلطانية، والأحطاب وغيرها، وكانت تزيد على خمسين عشاريا، ويليها عشرون ديماسا «1» ، منها عشرة برسم خاص الخليفة أيام الخليج وغيرها، ولكل منها رئيس، ونواتيّ «2» لا يبرحون ينفق فيهم من مال هذا الديوان، وبقية العشاريات الدواميس «3» برسم ولاة الأعمال المميزة، فهي تجرّ لهم، وينفق في رؤسائها ورجالها أينما كانوا من مال هذا الديوان، وتقيم مع أحدهم مدّة مقامه، فإذا صرف عاد فيه، وخرج المتولي الجديد في العشاري المرسي بالصناعة، ولا يخرج إلا بتوقيع بإطلاقه، والإنفاق فيه، وللمشارفين بالأعمال عشاريات دون هذه، وفي هذا الديوان برسم خدمة ما يجري في الأساطيل نائبان من قبل مقدّم الأسطول، وفيه من الحواصل لعمارة المراكب شيء كثير، وإذا لم يف ارتفاعه بما يحتاج إليه استدعى له من بيت المال يسدّ خلله. قال: وكان من أهم أمورهم احتفالهم بالأساطيل والأجناد، ومواصلة إنشاء المراكب بمصر والإسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات، والمسطحات «4» إلى بلاد الساحل حين كانت بأيديهم مثل صور وعكا وعسقلان، وكانت جريدة قوّاده أكثر من خمسة آلاف مدوّنة منهم عشرة أعيان تصل جامكية كل منهم إلى عشرين دينارا، ثم إلى خمسة عشر، ثم إلى عشرة دنانير، ثم إلى ثمانية، ثم إلى دينارين، وهي أقلها، ولهم إقطاعات

تعرف: بأبواب الغزاة بما فيه من النطرون فيصل دينارهم بالمناسبة إلى نصف دينار وحواليه، ويعين من هؤلاء القوّاد العشرة من يقع الإجماع عليه لرئاسة الأسطول المتوجه للغزو، فيكون معه الفانوس، وكلهم يهتدون به، ويقلعون بإقلاعه، ويرسون بإرسائه، ويقدّم على الأسطول أمير كبير من أعيان الأمراء، وأقواهم جنانا، ويتولى النفقة فيهم للغزو الخليفة بنفسه بحضور الوزير، فإذا أراد النفقة فيما تعين من عدّة المراكب السائرة. وكانت آخر وقت تزيد على خمسة وسبعين شينيا، وعشر مسطحات، وعشر حمالة، فيتقدّم إلى النقباء بإحضار الرجال، ويسمع بذلك من هو خارج مصر والقاهرة، فيدخل إليها ولهم المشاهرة والجرايات المتقرّرة مدّة أيام السفر، وهم معروفون عند عشرين نقيبا، ولا يعترض أحد أحدا إلّا من رغب في ذلك من نفسه، فإذا اجتمعت العدّة المغلقة للمراكب المطلوبة أعلم المقدّم بذلك الوزير، فطالع الخليفة بالحال، وفرز يوم للنفقة، فحضر الوزير بالاستدعاء على العادة، فيجلس الخليفة على هيئته في مجلس، ويجلس الوزير في مكانه، ويحضر صاحبا ديوان الجيش، وهما المستوفي وهو أميرهما، ويجلس داخل عتبة المجلس، وهذه رتبة له مميزة، وكاتب الجيش الأصل، ويجلس بجانبه تحت العتبة على حصر مفروشة بالقاعة، ولا يخلو المستوفي أن يكون عدلا أو من أعيان الكتاب المسلمين، وأما كاتب الجيش: فيهوديّ في الأغلب، ويفرش أمام المجلس أنطاع تصب عليها الدراهم، ويحضر الوزانون ببيت المال لذلك، فإذا تهيأ الإنفاق أدخل القابضون مائة مائة، ويقفون في آخر الوقوف بين يدي الخليفة من جانب واحد نقابة نقابة، وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة، ويستدعى مستوفي الجيش من تلك الأوراق واحدا واحدا، فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الخالي، فإذا تكمل عشرة رجال: وزن الوزانون لهم النفقة، وكانت لكل واحد خمسة دنانير صرف، كل دينار ستة وثلاثون درهما، فيستلمها النقيب، وتكتبت بيده وباسمه، وتمضي النفقة كذلك إلى آخرها، فإذا تمّ ذلك اليوم، ركب الوزير من بين يدي الخليفة، وانفض ذلك الجمع، فيحمل من عند الخليفة مائدة يقال لها: غداء الوزير، هي سبع مجيفات أوساط إحداها بلحم دجاج وفستق، والبقية من شواء، وهي مكمورة بالأزهار، فتكون هذه عدّة أيام تارة متوالية، وتارة متفرّقة، فإذا تكملت النفقة، وتجهزت المراكب، وتهيؤت للسفر: ركب الخليفة والوزير إلى ساحل المقس، وذكر ابن أبي طي: أنّ المعز لدين الله، أنشأ ستمائة مركب، لم ير مثلها في البحر على مدينة وعمل دار صناعة بالمقس. دار الملك: وكان من جملة مناظرهم: دار الملك بمصر، وهي من إنشاء الأفضل بن أمير الجيوش ابتدأ في بنائها وإنشائها في سنة إحدى وخمسمائة، فلما كملت تحوّل إليها من دار القباب بالقاهرة، وسكنها، وحوّل إليها الدواوين من القصر، فصارت بها، وجعل فيها الأسمطة، واتخذ بها مجلسا سماه: مجلس العطايا، كان يجلس فيه، فلما قتل الأفضل

صارت دار الملك هذه من جملة منتزهات الخلفاء، وكان بها بستان عظيم، وما زالت عظيمة إلى أن انقرضت الدولة، فجعلها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب دار متجر، ثم عملت في أيام الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري: دار وكالة، وموضع دار الملك: ما وراء حبة الخرّوب، بجوار المدرسة المعزي، وبقي منها جدار يجلس تحته بياعو الحناء. قال ابن المأمون: ومن جملة ما قرّره القائد أبو عبد الله من تعظيم المملكة، وتفخيم أمر السلطنة أنّ المجلس الذي يجلس فيه الأفضل بدار الملك يسمى: مجلس العطايا، فقال القائد: مجلس يدعى بهذا الاسم ما يشاهد فيه دينار؟ يدفع لمن يسأل، وأمر بتفصيل ثمان ظروف ديباج أطلس، من كل لون اثنين، وجعل في سبعة منها خمسة وثلاثين ألف دينار وفي كل ظرف: خمسة آلاف دينار سكب، وبطاقة بوزنه، وعدده، وشرّابة حرير كبيرة من ذلك ستة ظروف دنانير بالسوية عن اليمين والشمال في مجلس العطايا الذي برسم الجلوس، وعند مرتبة الأفضل بقاعة اللؤلؤة: ظرفان، أحدهما دنانير، والآخر دراهم جدد، فالذي في اللؤلؤة برسم ما يستدعيه الأفضل إذا كان عند الحرم، وأمّا الذي في مجلس العطايا، فإنّ جميع الشعراء لم يكن لهم في الأيام الأفضلية، ولا فيما قبلها على الشعر جار وإنما كان لهم إذا اتفق طرب السلطان، واستحسانه لشعر من أنشد منهم ما يسهله الله على حكم الجائزة، فرأى القائد أن يكون ذلك من بين يديه من الظروف، وكذلك من يتضرّع ويسأل في طلب صدقة، أو ينعم عليه ابتداء بغير سؤال، يخرج ذلك من الظروف. وإذا انصرف الحاضرون، نزل القائد المبلغ بخطه في البطاقة، ويكتب عليه الأفضل بخطه: صح، ويعاد إلى الظرف، ويختم عليه، فلما استهلّ رجب من سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وجلس الأفضل في مجلس العطايا على عادته، وحضر الأجلّ المظفر أخوه للهناء، وجلس بين يديه، وشاهد الظروف والقائد، وولده، وأخوه قيام على رأسه، وتقدّمت الشعراء على طبقاتهم، أمر لكل منهم بجائزة، وشاع خبر الظروف وكثر القول فيها، واستعظم أمرها، وضوعف مبلغها، واتسع هذا الإنعام بالصدقات الجاري بها العادة في مثل هذا الشهر لفقهاء مصر، والرباطات بالقرافة وفقرائها. وقال ابن الطوير: وقد ذكر ركوب الخليفة في أوّل العام وحضور العزّة، وينقطع الركوب بعد هذا اليوم الذي هو أوّل العام، فيركبون في آحاد الأيام إلى أن يكمل شهر ولا يتعدّى ذلك يومي السبت والثلاثاء، فإذا عزم الخليفة على الركوب في أحد هذه الأيام أعلم بذلك، وعلامته إنفاق الأسلحة في صبيان الركاب من خزانة السلاح خاصة دون ما سواها، وأكثر ذلك إلى مصر، ويركب الوزير صحبته من ورائه على أخصر من النظام المتقدّم يعني في ركوب أوّل العام، وأقل جمع، فيخرج شاقا القاهرة وشوارعها على الجامع الطولونيّ

منازل العز

على المشاهد إلى درب الصفاء، ويقال له: الشارع الأعظم إلى دار الأنماط إلى الجامع العتيق، فإذا وصل إلى بابه، وجد الشريف الخطيب قد وقف على مصطبة بجانبه فيها محراب مفروشة بحصر معلق عليها سجادة، وفي يده المصحف المنسوب خطه إلى عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وهو من حاصله فإذا وازاه وقف في موضعه، وناوله المصحف من يده، فيتسمله منه، ويقبله ويتبرّك به مرارا، ويعطيه صاحب الخريطة المرسومة للصلات: ثلاثين دينارا، وهي رسمه متى اجتاز به، فيوصلها الشريف إلى مشارف الجامع، فيكون نصيبهما منها خمسة عشر دينارا، والباقي للقومة والمؤذنين دون غيرهم. ويسير إلى أن يصل دار الملك، فينزلها والوزير معه ومنذ يخرج من باب القصر إلى أن يصل إلى دار الملك لا يمرّ بمسجد إلا أعطى قيمة من الخريطة دينارا، فلا يزال بدار الملك نهاره فتأتيه المائدة من القصر، وعدّتها: خمسون شدّة على رؤوس الفرّاشين مع صاحب المائدة، وهو أستاذ جليل غير محنك، وكل شدّة فيها: طيفور فيها الأواني الخاص، وفيها من الأطعمة الخاص من كل نوع شهيّ، وكل صنف من المطاعم العالية، ولها رواء، ورائحة المسك فائحة منها، وعلى كل شدّة طرحهة حرير تعلو القوّارة التي هي الشدّة، فيحمل إلى الوزير منها جزء وافر، ولمن صحبه وللأمراء، ولكافة الحاضرين في الخدمة، ويصل منها إلى الناس بمصر ممن بعضهم بعضا شيء كثير، ولا يزال إلى أن يؤذن عليه بالعصر، فيصلي ويتحرّك إلى العود إلى القاهرة، والناس في طريقه لنظره، فيركب وزيه في هذه الأيام أنه يلبس الثياب المذهبة البياض، والملوّنة والمنديل من النسبة، وهو مشدود شدّة مفردة عن شدّات الناس، وذؤابته مرخاة من جانبه الأيسر، ويتقلد بالسيف العربي المجوهر بغير حنك، ولا مظلة، ولا يتيمة، فإنّ ذلك في أوقات مخصومة، ولا يمرّ أيضا بمسجد في سلوكه في هذه الطريق بالساحل إلّا، ويعطي قيّمه دينارا أيضا، كما جرى في الرواح، وينعطف من باب الخرق، ويدخل من باب زويلة شاقا القاهرة حتى يدخل القصر، فيكون ذلك من المحرّم إلى شهر رمضان، إمّا أربع مرّات أو خمس مرّات، ومن شعر الأسعد أسعد بن مهذب بن زكريا بن أبي مليح مما في دار الملك هذه: حللت بدار الملك والنيل آخذ ... بأطرافها والموج يوسعها ضربا فخيلته قد غار لما وطئتها ... عليها فأضحى عند ذاك لها خربا منازل العز بنتها السيدة تغريد أمّ العزيز بالله بن المعز، ولم يكن بمصر أحسن منها، وكانت مطلة على النيل لا يحجبها شيء عن نظره، وما زال الخلفاء من بعد المعز يتداولونها، وكانت معدّة لنزهتهم، وكان بجوارها حمام، ولها منها باب وموضعها الآن مدرسة تعرف: بالمدرسة التقوية منسوبة للملك المظفر تقيّ الدين عمرو بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي.

الهودج: وكان من منتزهاتهم العظيمة البناء العجيبة البديعة الزي بناء في جزيرة الفسطاط التي تعرف اليوم: بالروضة، يقال له: الهودج، بناه الخليفة الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية التي غلب عليه حبها بجوار البستان المختار، وكان يتردد إليه كثيرا، وقتل وهو متوجه إليه وما زال منتزها للخلفاء من بعده. قال ابن سعيد في كتاب المحلى بالأشعار: قال القرطبيّ «1» في تاريخه: تذاكر الناس في حديث البدوية، وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطال، وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك. والاختصار منه أن يقال: إنّ الآمر كان قد بلي بعشق الجواري العربيات، وصارت له عيون بالبوادي، فبلغه أن جارية بالصعيد من أكمل العرب، وأظرفهم شاعرة جميلة، فيقال: إنه تزيا بزيّ بداة الأعراب وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيّها، وبات هناك في ضائقة، وتحيل حتى عاينها هنالك، فما ملك صبره ورجع إلى مقرّ ملكه، وأرسل إلى أهلها يخطبها، وتزوّجها، فلما وصلت صعب عليها مفارقة ما اعتادته، وأحبت أن تسرّح طرفها في الفضاء، ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج، وكان غريب الشكل على شط النيل، وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها، ربيت معه يعرف: بابن مياح، فكتبت إليه من قصر الآمر: يا ابن مياح إليك المشتكي ... مالك من بعد قد ملكا كنت في حيي مطاعا آمرا ... نائلا ما شئت منكم مدركا فأنا الآن بقصر مرصد ... لا أرى إلّا خبيثا ممسكا كم تثنينا كأغصان اللوا ... حيث لا نخشى علينا دركا فأجابها: بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتى علا واحتبكا بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منا المشتكى مالك الأمر إليه أشتكي ... مالك وهو الذي قد ملكا قال: وللناس في طلب ابن مياح، واختفائه أخبار تطول، وكان من عرب طيّ في قصر الآمر: طراد بن مهلهل السنبسي فبلغته هذه القضية، فقال: ألا بلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال

قطعت الأليفين عن ألفة ... بها سمر الحيّ بين الرجال كذا كان آباؤك الأكرمون ... سالت فقل لي جواب السؤال فقال الخليفة الآمر: لما بلغته الأبيات، جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله، وطلب في أحياء العرب، فلم يوجد، فقالت العرب: ما أخسر صفقة طراد، باع أبيات الحيّ بثلاثة أبيات، وكان بالإسكندرية: مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد له مروءة عظيمة، ويحتذى أفعال البرامكة، وللشعراء فيه أمداح كثيرة مدحه ظافر الحدّاد، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما. وكان له بستان يتفرّج فيه به جرن كبير من رخام، وهو قطعة واحدة وينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره، وكان يجد في نفسه برؤيته زيادة على أهل التنعم، والمباهاة في عصره، فوشى به للبدوية محبوبة الآمر، فسألت الخليفة الآمر في حمل الجرن إليها، فأرسل إلى ابن حديد بإحضار الجرن، فلم يجد بدّا من حمله من البستان، فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج، فقلق ابن حديد، وصارت في قلبه حرارة من أخذ الجرن، فأخذ يخدم البدوية، ومن يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحدّ في الكثرة حتى قالت البدوية: هذا الرجل أخجلنا بكثرة تحفه، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا، فلما قيل له هذا القول عنها قال: ما لي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها، وطول حياتها في عزّ ردّد الفسقية التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامها من نعمتهم تردّ إلى مكانها، فتعجبت من ذلك، وردّتها عليه، فقيل له: حصلت في حدّ أن خيّرتك البدوية في جميع المطالب، فنزلت همتك إلى قطعة حجر، فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلّب في أخذ ذلك الحجر من مكانه، وقد بلغها الله أملها، وكان هذا المكين قضاء الإسكندرية، ونظرها في أيام الآمر. وبلغ من علوّ همته، وعظم مروءته أنّ سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون بن البطائحيّ: لما قلده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية في سنة سبع عشرة وخمسمائة، وأضاف إليه الأعمال البحرية، ووصل إلى الثغر، ووصف له الطبيب دهن شمع بحضور القاضي المذكور، فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضيّ إلى داره لإحضار دهن شمع. فما كان أكثر من مسافة الطريق إلا أن أحضر حقا مختوما فكّ عنه، فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مداف بلور فيه: ثلاثة بيوت، كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر، بيت دهن بمسك، وبيت دهن بكافور، وبيت دهن بعنبر طيب، ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته، فعندما أحضره الرسول، تعجب المؤتمن والحاضرون من علوّ همته، فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر أنعامه، وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه، فكان جواب المؤتمن قد قبلته منك لا لحاجة إليه، ولا لنظر في قيمته بل لإظهار هذه الهمة، وإذاعتها، وذكر أن قيمة هذا المداف، وما عليه: خمسمائة دينار، فانظر رحمك الله، إلى من يكون دهن الشمع عنده في

إناء قيمته: خمسمائة دينار ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه البتة، فماذا تكون ثيابه، وحليّ نسائه، وفرش داره، وغير ذلك من التجملات، وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية، ومن قاضي الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة؟ وما نسبة أعيان الدولة، وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة، وأبهتها إلّا يسير حقير. وما زال الخليفة الآمر يتردّد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة يريد الهودج، وقد كمن له عدّة من النزارية في فرن عند رأس الجسر من ناحية الروضة، فوثبوا عليه، وأثخنوه بالجراحة حتى هلك، وحمل في العشاريّ إلى اللؤلؤة، فمات بها، وقيل: قبل أن يصل إليها، وقد خرب هذا الهودج، وجهل مكانه من الروضة، ولله عاقبة الأمور. قصر القرافة: وكان لهم بالقرافة قصر بنته: السيدة تغريد أم العزيز بالله بن المعز في سنة: ست وستين وثلثمائة، على يد الحسين بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب هو، والحمام الذي في غربيه، وبنت البئر، والبستان وجامع القرافة، وكان هذا القصر نزهة من النزه من أحسن الآثار في إتقان بنيانه وصحة أركانه، وله منظرة مليحة كبيرة محمولة على قبو مادّ تجوز المارّة من تحته، ويقيل المسافرون في أيام القيظ هناك، ويركب الراكب إليه على زلاقة، وكان كأحسن ما يكون من البناء، وتحته حوض لسقي الدواب يوم الحلول فيه، وكان مكانه بالقرب من مسجد الفتح. ولما كان في سنة عشرين وأربعمائة جدّده الخليفة الآمر، وعمل تحته مصطبة للصوفية وكان يجلس في الطاق بأعلى القصر ويرقص أهل الطريقة من الصوفية، والمجامر بالألوية موضوعة بين أيديهم والشموع الكثيرة تزهر، وقد بسط تحتهم حصر من فوقها بسط، ومدّت لهم الأسمطة التي عليها كل نوع لذيذ ولون شهيّ من الأطعمة، والحلوى أصنافا مصنفة، فاتفق أن تواجد الشيخ أبو عبد الله بن الجوهريّ الواعظ، ومزق مرقعته، وفرّقت على العادة خرقا، وسأل الشيخ أبو إسحاق إبراهيم المعروف بالقارح المقري خرقة منها، ووضعها في رأسه، فلما فرغ التمزيق، قال الخليفة الآمر بأحكام الله: من طاق بالمنظرة يا شيخ أبا إسحاق، قال: لبيك يا مولانا، قال: أين خرقتي؟ فقال مجيبا له في الحال: ها هي على رأسي يا أمير المؤمنين، فاستحسن الآمر ذلك، وأعجبه موقعه فأمر في الساعة، والوقت فأحضر من خزائن الكسوات ألف نصفية، ففرّقت على الحاضرين، وعلى فقراء القرافة، ونثر عليهم متولي بيت المال من الطاق ألف دينار، فتخاطفها الحاضرون، وتعاهد المغربلون الأرض التي هناك أياما لأخذ ما يواريه التراب، وما برح قصر الأندلس بالقرافة، حتى زالت الدولة، فهدم في شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة.

المنظرة ببركة الحبش «1» : وكانت لهم منظرة تشرف على بركة الحبش، قال الشريف أبو عبد الله محمد الجواني في كتاب النقط على الخطط: إن الخليفة الآمر بأحكام الله بنى على المنظرة التي يقال لها بئر دكة الخركة منظرة من خشب مدهونة فيها طاقات، تشرف على خضرة بركة الحبش، وصوّر فيها الشعراء كل شاعر وبلده، واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح، وذكر الخركاه، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر، وبجانب صورة كل منهم رف لطيف مذهب، فلما دخل الآمر، وقرأ الأشعار أمر أن يحط على كل رف، صرّة مختومة فيها: خمسون دينارا، وأن يدخل كل شاعر، ويأخذ صرّته بيده، ففعلوا ذلك، وأخذوا صررهم، وكانوا عدّة شعراء. البساتين: وكان للخلفاء عدّة بساتين يتنزهون بها: منها البساتين الجيوشية، وهما بستانان كبيران أحدهما من عند زقاق الكحل، خارج باب الفتوح إلى المطرية، والآخر يمتدّ من خارج باب القنطرة إلى الخنذق، وكان لهما شأن عظيم، ومن شدّة غرام الأفضل بالبستان الذي كان يجاور بستان البعل، عمل له سورا مثل سور القاهرة، وعمل فيه بحرا كبيرا، وقبة عشاري تحمل ثمانية أرادب، وبنى في وسط البحر منظرة محمولة على أربع عواميد من أحسن الرخام، وحفها بشجر النارنج، فكان نارنجها لا يقطع حتى يتساقط وسلط على هذا البحر أربع سواق، وجعل له معبرا من نحاس مخروط زنته قنطار، وكان يملأ في عدّة أيام، وجلب إليه من الطيور المسموعة شيئا كثيرا، واستخدم للحمام الذي كان به عدّة مطيرين، وعمر به أبراجا عدّة للحمام والطيور المسموعة، وسرّح فيه كثيرا من الطاوس، وكان البستانان اللذان على يسار الخارج من باب الفتوح بينهما بستان الخندق، لكل منهما أربعة أبواب من الأربع جهات على كل منها عدّة من الأرمن، وجميع الدهاليز مؤزرة بالحصر العبدانيّ، وعلى أبوابها سلاسل كثيرة من حديد، ولا يدخل منها إلّا السلطان، وأولاده وأقاربه. قال ابن عبد الظاهر: واتفقت جماعة على أن الذي يشتمل عليه مبيعهما في السنة من زهر وثمر: نيف وثلاثون ألف دينار، وإنها لا تقوم بمؤنهما على حكم اليقين لا الشك، وكان الحاصل بالبستان الكبير، والمحسن إلى آخر الأيام الآمرية، وهي سنة: أربع وعشرين وخمسمائة: ثمانمائة، وأحد عشر رأسا من البقر، ومن الجمال: مائة وثلاثة رؤوس، ومن العمال وغيرهم ألف رجل.

وذكر أنّ الذي دار سور البساتين من سنط، وجميز، وأثل من أوّل حدّهما الشرقيّ، وهو ركن بركة الأرمن مع حدّهما البحريّ والغربي جميعا إلى آخر زقاق الكحل في هذه المسافة الطويلة: سبعة عشر ألف ألف، ومائتا شجرة، وبقي قبليهما جميعا لم يحصن. وإنّ السنط تغصن حتى لحق بالجميز في العظم، وإنّ معظم قرظه يسقط إلى الطريق، فيأخذه الناس، وبعد ذلك يباع بأربعمائة دينار، وكان به كل ثمرة لها دويرة مفردة، وعليها سياج، وفيها نخل منقوش في ألواح عليها برسم الخاص لا تجني إلّا بحضور المشارف، وكان فيهما ليمون تفاحيّ يوكل بقشرة بغير سكر، وأقام هذان البستانان بيد الورثة الجيوشية مع البلاد التي لهم مدّة أيام الوزير المأمون، لم تخرج عنهم، وكشف ذلك في أيام الخليفة الحافظ، فكان فيهما ستمائة رأس من البقر، وثمانون جملا، وقوّم ما عليهما من الأثل والجميز، فكانت قيمته: مائتي ألف دينار، وطلب الأمير شرف الدين وكانت له حرمة عظيمة من الخليفة الحافظ قطع شجرة واحدة من سنط فأبى عليه، فتشفع إليه، وقوّمت بسبعين دينارا، فرسم الخليفة إن كانت وسط البستان تقطع، وإلا فلا، ولما جرى في آخر أيام الحافظ ما جرى من الخلف ذبحت أبقاره، وجماله، ونهب ما فيه من الآلات والأنقاض، ولم يبق إلّا الجميز والسنط والأثل لعدم من يشتريه، انتهى. وكان هذان البستانان من جملة الحبس «1» الجيوشيّ، وهو أن أمير الجيوش بدر الجماليّ حبس عدّة بلاد وغيرها، منها في البرّ الشرقيّ بناحية بهتيت، والأميرية، والمنية، وفي البرّ الغربيّ ناحية سفط «2» ونهيا ووسيم مع هذين البستانين المذكورين على عقبة، فاستأجر هذا الحبس الوزير مدّة سنين بأجرة يسيرة، وصار يزرع في الشرقيّ منه، الكتان ومنه ما تبلغ قطيعته ثلاثة دنانير ونصفا وربعا عن كل فدّان فيتناولون فيه ربحا جزيلا لأنفسهم، فلما بعد العهد انقرضت أعقابه، ولم يبق من ذرّيته سوى امرأة كبيرة، فأفتح الفقهاء بأن هذا الحبس باطل، فصار للديوان السلطانيّ يتصرّف فيه، ويحمل متحصله مع أموال بيت المال وتلاشت البساتين، وبنى في أماكنها ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وبنى العزيز بالله بستانا بناحية سردوس. قبة الهواء: وكان من أحسن منتزهات الخلفاء الفاطميين، قبة الهواء، وهي مستشرف بهج بديع، فيما بين التاج، والخمس وجوه يحيط به عدّة بساتين، لكل بستان منها: اسم، ولهذه القبة فرش معدّة في الشتاء، والصيف ويركب إليها الخليفة في أيام الركوبات التي هي يوم السبت والثلاثاء.

بحر أبي المنجا «1» : وكان من منتزهات الخلفاء، يوم فتح بحر أبي المنجا، قال ابن المأمون: وكان الماء لا يصل إلى الشرقية إلّا من السردوسيّ، ومن الصماصم، ومن المواضع البعيدة، فكان أكثرها يشرق في أكثر السنين، وكان أبو المنجا اليهوديّ مشارف الأعمال المذكورة، فتضرّر المزارعون إليه، وسألوا في فتح ترعة يصل الماء منها في ابتدائه إليهم، فابتدأ بحفر خليج أبي المنجا في يوم الثلاثاء السادس من شعبان سنة ست وخمسمائة، وركب الأفضل بن أمير الجيوش ضحى، وصحبته القائد أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ، وجميع إخوته والعساكر تحاذيه في البرّ وجمعت شيوخ البلاد وأولادها، وركبوا في المراكب، ومعهم حزم البوص «2» في البحر، وصار العشاريّ، والمراكب تتبعها إلى أن رماها الموج إلى الموضع الذي حفروا فيه البحر، وأقام الحفر فيه سنتين، وفي كل سنة تتبين الفائدة فيه، ويتضاعف من ارتفاع البلاد، ما يهوّن الغرامة عليه. ولما عرض على الأفضل جملة ما أنفق فيه استعظمه وقال: غرمنا هذا المال جميعه، والاسم لأبي المنجا، فغير اسمه، ودعي بالبحر الأفضليّ، فلم يتم ذلك، ولم يعرف إلّا بأبي المنجا ثم جرى بين أبي المنجا، وبين ابن أبي الليث، صاحب الديوان بسبب الذي أنفق خطوب أدت إلى اعتقال أبي المنجا عدّة سنين، ثم نفي إلى الإسكندرية بعد أن كادت نفسه تتلف، ولم يزل القائد أبو عبد الله بن فاتك، يتلطف بحاله إلى تضاعف من عبرة البلاد ما سهل أمر النفقة فيه. ورأيت بخط ابن عبد الظاهر، وهذا أبو المنجا هو جدّ بني صفير الحكماء اليهود، والذين أسلموا منهم، ولما طال اعتقال أبي المنجا في الإسكندرية في مكان بمفرده مضيقا عليه، تحيل في تحصيل مصحف، وكتب ختمة، وكتب في آخرها: كتبها أبو المنجا اليهوديّ، وبعثها إلى السوق ليبعها، فقامت قيامة أهل الثغر، وطولع بأمره إلى الخليفة، فأخرج. وقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: طلب الخلاص بالقتل، فأدّب، وأطلق سبيله. وقيل: إنه كان في محبسه حية عظيمة، فأحضر إليه في بعض الأيام لبن، فرأى الحية، وقد شربت منه، ودخلت حجرها، فصار في كل يوم يحضر لها لبنا، فتخرج وتشرب منه، وتدخل مكانها، ولم تؤذه.

ولما ولي المأمون البطائحيّ وزارة الآمر بأحكام الله بعد الأفضل بن أمير الجيوش، تحدّث الآمر معه في رؤية فتح هذا الخليج، وأن يكون له يوم كخليج القاهرة، فندب الآمر معه عدي الملك أبا البركات بن عثمان وكيله، وأمره بأن يبني على مكان السدّ منظرة متسعة، تكون من بحريّ السدّ، وسرّع في عمارتها بعد كمال النيل، وما زال يوم فتح سدّ هذا البحر يوما مشهودا إلى أن زالت الدولة الفاطمية. فلما استولى بنو أيوب من بعدهم على مملكة مصر، أجروا الحال فيه على ما كان، قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وسبعين وخمسمائة: وركب السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لفتح بحر أبي المنجا، وعاد. وقال: وفي سنة تسعين وخمسمائة، كسر بحر أبي المنجا بعد أن تأخر كسره عن عيد الصليب بسبعة أيام، وكان ذلك لقصور النيل في هذه السنة، ولم يباشر السلطان الملك العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين بنفسه، وركب أخوه شرف الدين يعقوب الطواشي لكسره، وبدت في هذا اليوم من مخايل القبوط ما يوجبه سوء الأفعال من المجاهرة بالمنكرات، والإعلان بالفواحش، وقد أفرط هذا الأمر، واشترك فيه الآمر والمأمور، ولم ينسلخ شهر رمضان، إلّا وقد شهد ما لم يشهده رمضان قبله في الإسلام وبدا عقاب الله في الماء الذي كانت المعاصي على ظهره، فإنّ المراكب كان يركب فيها في رمضان الرجال والنساء مختلطين، مكشفات الوجوه، وأيدي الرجال تنال منها ما تنال في الخلوات، والطبول، والعيدان مرتفعات الأصوات، والصنجات، واستنابوا في الليل عن الخمر بالماء، والجلاب ظاهرا، وقيل: إنهم شربوا الخمر مستورا، وقربت المراكب بعضها من بعض، وعجز المنكر عن الإنكار إلّا بقلبه، ورفع الأمر إلى السلطان، فندب حاجبه في بعض الليالي، ففرّق منهم من وجده في الحالة الحاضرة، ثم عادوا بعد عوده، وذكر أنه وجد في بعض المعادي خمرا فأراقه. ولما استهل شوّال وهو مطموع فيه تضاعف هذا المنكر، وفشت هذه الفاحشة، ونسأل الله العفو والعافية عن الكبائر، والتجاوز عما تسقط فيه المعاذر. وقال: في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة: كسر بحر أبي المنجا، وباشر العزيز كسره، وزاد النيل فيه أصبعا، وهي الأصبع الثامنة عشرة من ثماني عشر ذراعا، وهذا الحدّ يسمى عند أهل مصر: اللجة الكبرى، وقد تلاشى في زمننا أمر الاجتماع في يوم فتح سدّ بحر أبي المنجا، وقلّ الاحتفال به لشغل الناس بهتمّ المعيشة. قصر الورد بالخاقانية: وكان من أيام منتزهات الخلفاء يوم قصر الورد بناحية الخاقانية، وهي قرية من قرى قليوب «1» ، كانت من خاص الخليفة، وبها جنان كثيرة

للخليفة، وكانت من أحسن المنتزهات المصرية وكان بها عدّة دويرات يزرع فيها الورد، فيسير إليها الخليفة يوما، ويصنع له فيها قصر عظيم من الورد، ويخدم بضيافة عظيمة. قال ابن الطوير عن الخليفة الآمر بأحكام الله: وعمل له بالخاقانية وكانت من خاص الخليفة، قصر من ورد فسار إليها يوما، وخدم بضيافة عظيمة، فلما استقرّ هناك، خرج إليه أمير يقال له: حسام الملك من الأمراء الذين كانوا مع المؤتمن أخي المأمون البطائحيّ، وتخاذلوا عنه، فوصل إلى الخاقانية، وهو لابس لأمة حربه والتمس المثول بين يديه يعني الخليفة، فاستقلّ ما جاء به في ذلك الوقت، مما ينافي ما فيه الخليفة من الراحة، والنزهة وحيل بينه وبين مقصوده، فقال لجماعة من حواشي الخليفة: أنتم منافقون على الخليفة إن لم أصل إليه، فإنه يعاقبكم بذلك، فأطلعوا الخليفة على أمره، وحليته بالسلاح، وقوله فأمر بإحضاره، فلما وقعت عينه عليه قال: يا مولانا، لمن تركت أعداءك؟ يعني الوزير المأمون البطائحيّ، وأخاه، وكان الآمر قد قبض عليهما، واعتقلهما هذا والعهد قريب غير بعيد أأمنت الغدر؟ فما أجابه إلّا وهو على الرهاويج من الخيل، فلم تمض ساعة إلّا، وهو بالقصر، فمضى إلى مكان اعتقال المأمون وأخيه، فزادهما وثاقا وحراسة، وفي أثناء ذلك، وصل ابن نجيب الدولة الذي كان سيره المأمون في وزارته إلى اليمن، لتحقيق نسبه أنه ولد من جارية نزار بن المستنصر، لما خرجت من القصر، وهي به حامل ويدعو إليه بقية الناس، وأحضر إلى القاهرة على جمل مشوّه، فأدخل خزانة البنود، وقتل هو والمأمون، وجماعة في تلك الليلة، وصلبوا ظاهر القاهرة. بركة الجب: هي بظاهر القاهرة من بحريها، وتسميها العامّة في زمننا هذا الذي نحن فيه: بركة الحاج لنزول الحجاج بها عند مسيرهم من القاهرة إلى الحج في كل سنة، ونزولهم عند العود بها، ومنها يدخلون إلى القاهرة ومن الناس من يقول: جب يوسف، وهو خطأ، وإنما هي أرض جب عميرة، وعميرة هذا هو: ابن تميم بن جزء التجيبي من بني القرناء، نسبت هذه الأرض إليه، فقيل لها: أرض جب عميرة، ذكره ابن يونس، وكان من عادة الخليفة المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر بن الحاكم في كل سنة أن يركب على النجب مع النساء، والحشم إلى رجب عميرة هذا، وهو موضع نزهة بهيئة أنه خارج إلى الحج على سبيل اللعب والمجانة، وربما حمل معه الخمر في الروايا عوضا عن الماء، ويسقيه من معه، وأنشده مرّة الشريف أبو الحسن عليّ بن الحسين بن حيدرة العقيليّ في يوم عرفة: قم فانحر الراح يوم النحر بالماء ... ولا تضح ضحى إلّا بصهباء وادرك حجيج الندامى قبل نفرهم ... إلى منى قصفهم مع كل هيفاء وعج على مكة الروحاء مبتكرا ... فطف بها حول ركن العود والنائي

قال ابن دحية: فخرج في ساعته بروايا الخمر تزجي بنغمات حداة الملاهي وتساق، حتى أناخ بعين شمس في كبكبة من الفساق، فأقام بها سوق الفسوق على ساق، وفي ذلك العام أخذه الله تعالى، وأهل مصر بالسنين، حتى بيع في أيامه الرغيف: بالثمن الثمين، وعاد ماء النيل بعد عذوبته كالفسلين، ولم يبق بشاطئيه أحد بعد أن كانا محفوفين بحور عين. وقال ابن ميسر: فلما كان في جمادى الآخرة من سنة: أربع وخمسين وأربعمائة، خرج المستنصر على عادته إلى بركة الجب، فاتفق أن بعض الأتراك جرّد سيفا في سكر منه على بعض عبيد الشراء، فاجتمع عليه طائفة من العبيد وقتلوه، فاجتمع الأتراك بالمستنصر، وقالوا: إن كان هذا عن رضاك، فالسمع والطاعة، وإن كان عن غير رضاك، فلا نرضى بذلك، فأنكر المستنصر ما وقع، وتبرّأ مما فعله العبيد، فتجمع الأتراك لحرب العبيد، وبرز بعضهم إلى بعض، وكان بين الفريقين قتال شديد على كوم شريك، انهزم فيه العبيد، وقتل منهم عدد كثير، وكانت أمّ المستنصر تعين العبيد، وتمدّهم بالأموال والأسلحة، فاتفق في بعض الأيام أن بعض الأتراك ظفر بشيء مما تبعث به أمّ المستنصر إلى العبيد، فأعلم بذلك أصحابه، وقد قويت شوكتهم بانهزام العبيد، فاجتمعوا بأسرهم، ودخلوا على المستنصر وخاطبوه في ذلك، وأغلظوا في القول، وجهروا بما لا ينبغي، وصار السيف قائما، والحروب متتابعة إلى أن كان من خراب مصر بالغلاء والفتن، ما كان، وكان من قبل المستنصر يتردّدون إلى بركة الجب. قال المسبحيّ: ولاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة أربع وثمانين وثلثمائة، عرض العزيز بالله عساكره بظاهر القاهرة، عند سطح الجب فنصب له مضرب ديباج روميّ، فيه ألف ثوب بصفرية فضة، ونصبت له فازة مثقل، وقبة مثقل بالجوهر، وضرب لابنه الأمير أبي عليّ منصور مضرب آخر، وعرضت العساكر، وكان عدّتها مائة عسكري، وأقبلت أسارى الروم، وعدّتهم مائتان وخمسون، فطيف بهم، وكان يوما عظيما حسنا لم تزل العساكر تسير بين يديه من ضحوة النهار إلى صلاة المغرب، وما زالت بركة الجب منتزها للخلفاء والملوك من بني أيوب، وكان السلطان صلاح الدين يبرز إليها للصيد، ويقيم فيها الأيام، وفعل ذلك الملوك من بعده، واعتنى بها الملك الناصر محمد بن قلاون، وبنى بها أحواشا وميدانا كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وبركة الجب، وما يليها في درك بني صبرة، وهم ينسبون إلى صبرة ابن بطيح بن مغالة بن عجان بن عنب بن الكليب بن أبي عمرو بن دمية بن جدس بن أريش بن أراش بن جزيلة بن لخم، فهم أحد بطون لخم، وفيهم بنو جذام بن صبرة بن بصرة بن غنم بن غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام أخي لخم. المشتهى: وكان من مواضعهم التي أعدّت للنزهة المشتهى.

ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادا، ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم

ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادا، ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة: أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم أوّل العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أوّل رجب، وليلة نصفه، وليلة أوّل شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرّة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات. موسم رأس السنة: وكان للخلفاء الفاطميين اعتناء بليلة أوّل المحرّم في كل عام لأنها أوّل ليالي السنة وابتداء أوقاتها، وكان من رسومهم في ليلة رأس السنة أن يعمل بمطبخ القصر عدّة كثيرة من الخراف المقموم والكثير من الرءوس المقموم، وتفرّق على جميع أرباب الرتب، وأصحاب الدواوين من العوالي والأدوان أرباب السيوف والأقلام مع جفان اللبن، والخبز، وأنواع الحلواء، فيعمّ ذلك سائر الناس من خاص الخليفة، وجهاته والأستاذين المحنكين إلى أرباب الضوء، وهم المشاعلية، ويتنقل ذلك في أيدي أهل القاهرة ومصر. موسم أوّل العام: وكان لهم بأوّل العام عناية كبيرة فيه، يركب الخليفة بزيه المفخم، وهيئته العظيمة كما تقدّم، ويفرّق فيه دنانير الغرّة التي مرّ ذكرها عند ذكر دار الضرب، ويفرّق من السماط الذي يعمل بالقصر لأعيان أرباب الخدم من أرباب السيوف، والأقلام بتقرير مرتب، خرفان شواء، وزبادي طعام وجامات حلواء، وخبر وقطع منفوخة من سكر، وأرز بلبن، وسكر، فيتناول الناس من ذلك ما يجل وصفه، ويتبسطون بما يصل إليهم من دنانير الغرّة من رسوم الركوب كما شرح فيما تقدّم. يوم عاشوراء «1» : كانوا يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق، ويعمل فيه السماط

العظيم المسمى: سماط الحزن، وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسينيّ، فانظره. وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير، فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء، يوم سرور، يوسعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في المطاعم، ويصنعون الحلاوات، ويتخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون، ويدخلون الحمام جريا على عادة أهل الشام التي سنّها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان، ليرغموا بذلك آناف شيعة عليّ بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء، وحزن فيه على الحسين بن عليّ، لأنه قتل فيه، وقد أدركنا بقايا مما عمله بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء، يوم سرور، وتبسط وكلا الفعلين غير جيد، والصواب ترك ذلك، والاقتداء بفعل السلف فقط. وما أحسن قول أبي الحسين الجزار الشاعر يخاطب الشريف شهاب الدين ناظر الأهراء، وكتب بها إليه ليلة عاشوراء عند ما أخر عنه ما كان من جاريه في الأهراء: قل لشهاب الدين ذي الفضل الندي ... والسيد بن السيد بن السيد أقسم بالفرد العليّ الصمد ... إن لم يبادر لنجاز موعدي لأحضرنّ للهناء في غد ... مكحل العينين مخضوب اليد يعرّض للشريف: يما يرمي به الأشراف من التشيع، وإنه إذا جاء بهيئة السرور في يوم عاشوراء، غاظه ذلك لأنه من أفعال الغضب، وهو من أحسن ما سمعته في التعريض فلله دره. عيد النصر: وهو السادس عشر من المحرّم عمله: الخليفة الحافظ لدين الله، لأنه اليوم الذي ظهر فيه من محبسه، ويفعل فيه ما يفعل في الأعياد من الخطبة، والصلاة، والزينة، والتوسعة في النفقة، وكتب فيه أبو القاسم عليّ بن الصيرفيّ إلى بعض الخطباء: عيد النصر، وهو أفضل الأعياد، وأسناها وأعلاها، وأدلها على تقصير الواصف إذا بلغ وتناهى، ونحن نأمرك أن تبرز في يوم الأحد السادس عشر من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة على الهيئة التي جرت العادة بمثلها في الأعياد، وتوعد بأن تقرأ على الناس الخطبة التي سيرناها إليك قرين هذا الأمر بشرح هذا اليوم وتفصيله، وذكر ما خصه الله به من تشريفه وتفضيله، وتعتمد في ذلك ما جرى الرسم فيه كل يعيد، وتنتهي فيه إلى الغاية التي ليس عليها مزيد، فاعلم هذا، واعمل به إن شاء الله تعالى. المواليد الستة: كانت مواسم جليلة عمل الناس فيها، ميزان من ذهب، وفضة وخشكنانج، وحلواء كما مرّ ذلك. ليالي الوقود الأربع: كانت من أبهج الليالي، وأحسنها، يحشر الناس لمشاهدتها من كل أوب، وتصل إلى الناس فيها أنواع من البرّ، وتعظم فيها ميزة أهل الجوامع والمشاهد، فانظره في موضعه تجده.

موسم شهر رمضان: وكان لهم في شهر رمضان عدّة أنواع من البرّ منها: كشف المساجد، قال الشريف الجوّاني في كتاب النقط: كان القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام، طافوا يوما على المشاهد، والمساجد بالقاهرة ومصر، فيبدأون بجامع المقس، ثم بجوامع القاهرة، ثم بالمشاهد، ثم بالقرافة، ثم بجامع مصر، ثم بمشهد الرأس لنظر حصر ذلك، وقناديله، وعمارته، وإزالة شعثه، وكان أكثر الناس ممن يلوذ بباب الحكم، والشهود، والطفيليون يتعينون لذلك اليوم، والطواف مع القاضي لحضور السماط. إبطال المسكرات: قال ابن المأمون: وكانت العادة جارية من الأيام الأفضلية في آخر جمادى الآخرة من كل سنة: أن تغلق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة ومصر، وتختم ويحذر من بيع الخمر، فرأى الوزير المأمون لما ولي الوزارة بعد الأفضل بن أمير الجيوش، أن يكون ذلك في سائر أعمال الدولة، فكتب به إلى جميع ولاة الأعمال، وأن ينادى بأنه من تعرّض لبيع شيء من المسكرات، أو لشرائها سرّا، أو جهرا فقد عرّض نفسه لتلافها وبرئت الذمّة من هلاكها. ومنها غرّة رمضان: وكان في أوّل يوم من شهر رمضان، يرسل لجميع الأمراء، وغيرهم من أرباب الرتب والخدم لكل واحد طبق، ولكل واحد من أولاده، ونسائه طبق فيه حلواء، وبوسطه صرّة من ذهب، فيعم ذلك سائر أهل الدولة، ويقال لذلك غرّة رمضان. ومنها ركوب الخليفة في أوّل شهر رمضان: قال ابن الطوير: فإذا انقضى شعبان اهتمّ بركوب أوّل شهر رمضان، وهو يقوم مقام الرؤية، عند المتشيعين، فيجري أمره في اللباس والآلات، والأسلحة، والعرض والركوب والترتيب، والموكب والطريق المسلوكة، كما وصفناه في أوّل العام لا يختلّ بوجه، ويكتب إلى الولاة، والنوّاب والأعمال بمساطير مخلقة يذكر فيها ركوب الخليفة. ومنها سماط شهر رمضان: وقد تقدّم ذكر السماط في قاعة الذهب من القصر. سحور الخليفة: قال ابن المأمون: وقد ذكر أسمطة رمضان، وجلوس الخليفة بعد ذلك في الروشن إلى وقت السحور، والمقرئون تحته يتلون عشرا، ويطرّبون بحيث يشاهدهم الخليفة، ثم حضر بعدهم المؤذنون، وأخذوا في التكبير، وذكر فضائل السحور، وختموا بالدعاء، وقدّمت المخادّ للوعاظ، فذكروا فضائل الشهر، ومدح الخليفة والصوفيات، وقام كل من الجماعة للرقص، ولم يزالوا إلى أن انقضى من الليل أكثر من نصفه، فحضر بين يدي الخليفة أستاذ بما أنعم به عليهم، وعلى الفرّاشين، وأحضرت جفان

القطائف، جرار الجلاب برسمهم، فأكلوا، وملأوا أكمامهم، وفضل عنهم ما تخطفه الفرّاشون، ثم جلس الخليفة في السدلا التي كان بها عند الفطور، وبين يديه المائدة معبأة جميعها من جميع الحيوان وغيره، والقعبة «1» الكبيرة الخاص مملوءة أوساطه بالهمة المعروفة، وحضر الجلساء، واستعمل كل منهم ما اقتدر عليه، وأومأ الخليفة بأن يستعمل من القعبة، فيفرّق الفرّاشون عليهم أجمعين وكل من تناول شيئا قام، وقبل الأرض، وأخذ منه على سبيل البركة لأولاده، وأهله لأنّ ذلك كان مستفاضا عندهم غير معيب على فاعله، ثم قدّمت الصحون الصينيّ مملوءة قطائف، فأخذ منها الجماعة الكفاية. وقام الخليفة، وجلس بالباذهنج، وبين يديه السحورات المطيبات من لبئين رطب ومخض، وعدّة أنواع عصارات وافطلوات وسويق ناعم، وجريش جميع ذلك بقلوبات وموز، ثم يكون بين يديه صينية ذهب مملوءة سفوفا، وحضر الجلساء، وأخذ كل منهم في تقبيل الأرض، والسؤال بما ينعم عليه منه، فتناوله المستخدمون، والأستاذون وفرّقوه، فأخذه القوم في أكمامهم، ثم سلم الجميع وانصرفوا. ومنها الختم في آخر رمضان: وكان يعمل في التاسع والعشرين منه. قال ابن المأمون: ولما كان التاسع والعشرون من شهر رمضان، خرج الأمر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئين، والمؤذنين في كل ليلة برسم السحور بحكم أنها ليلة ختم الشهر، وحضر الأجل الوزير المأمون في آخر النهار إلى القصر للفطور مع الخليفة، والحضور على الأسمطة على العادة، وحضر إخوته، وعمومته، وجميع الجلساء، وحضر المقرئون، والمؤذنون، وسلموا على عادتهم وجلسوا تحت الروشن، وحمل من عند معظم الجهات، والسيدات والمميزات من أهل القصور ثلاجي «2» ، وموكبيات مملوءة ملفوفة في عراضي «3» ديبقيّ، وجعلها أمام المذكورين، لتشملها بركة ختم القرآن الكريم، واستفتح المقرئون من الحمد إلى خاتمة القرآن تلاوة وتطريبا، ثم وقف بعد ذلك من خطب، فأسمع ودعا، فأبلغ ورفع الفرّاشون ما أعدّوه برسم الجهات، ثم كبر المؤذنون، وهللوا وأخذوا في الصوفيات إلى أن نثر عليهم من الروشن دنانير، ودراهم ورباعيات، وقدّمت جفان القطائف على الرسم مع البسندود، والحلواء فجروا على عادتهم، وملأوا أكمامهم، ثم خرج أستاذ من باب الدار الجديدة، بخلع خلعها على الخطيب، وغيره ودراهم تفرّق على الطائفتين من المقرئين والمؤذنين.

ذكر مذاهبهم في أول الشهور

ذكر مذاهبهم في أوّل الشهور اعلم أن القوم كانوا شيعة، ثم غلوا حتى عدوّا من غلاة أهل الرفض، وللشيعة في أثناء الشهور عمل، أحسن ما رأيت فيه. ما حكاه أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتيّ في كتاب الآثار العافية عن القرون الخالية قال: وفي سنين من الهجرة نجمت ناجمة لأجل أخذهم بالتأويل إلى اليهود والنصارى، فإذا لهم جداول وحسبانات يستخرجون بها شهورهم، ويعرفون منها صيامهم، والمسلمون مضطرّون إلى رؤية الهلال، وتفقد ما اكتساه القمر من النور وجدوهم شاكين في ذلك مختلفين فيه، مقلدين بعضهم بعضا في عمل رؤية الهلال بطريق الزيجات، فرجعوا إلى أصحاب علم الهيئة، فألفوا زيجاتهم مفتتحة بمعرفة أوائل ما يراد من شهور العرب بصنوف الحسبانات، فظنوا أنها معمولة لرؤية الأهلة، فأخذوا بعضها، ونسبوه إلى جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وزعموا أنه سرّ من أسرار النبوّة، وتلك الحسبانات مبنية على حركات التدبير الوسطى دون المعدّلة أو معمولة على سنة القمر التي هي: ثلثمائة وأربعة، وخمسون يوما وخمس يوم، وسدس يوم، وأن ستة أشهر من السنة تامة، وستة أشهر ناقصة، وإن كل ناقص منها، فهو تال لتامّ، فلما قصدوا استخراج الصوم والفطر بها، خرجت قبل الواجب بيوم في أغلب الأحوال، فأوّلوا قوله عليه السلام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وقالوا: معنى صوموا لرؤيته: أي صوموا اليوم الذي يرى في عشيته، كما يقال: تهيؤا لاستقباله، فيقدّم التهيؤ على الاستقبال، قال: ورمضان لا ينقص عن ثلاثين يوما أبدا. قافلة الحج: قال في كتاب الذخائر والتحف: إن المنفق على الموسم كان في كل سنة تسافر فيها القافلة: مائة ألف وعشرين ألف دينار منها: ثمن الطيب، والحلواء والشمع راتبا في كل سنة: عشرة آلاف دينار، ومنها: نفقة الوفد الواصلين إلى الحضرة: أربعون ألف دينار، ومنها في ثمن الحمايات، والصدقات، وأجرة الجمال، ومعونة من يسير من العسكرية، وكبير الموسم، وخدم القافلة، وحفر الآبار، وغير ذلك: ستون ألف دينار، وإنّ النفقة كانت في أيام الوزير البازوريّ: قد زادت في كل سنة، وبلغت إلى مائتي ألف دينار، ولم تبلغ النفقة على الموسم مثل ذلك في دولة من الدول. موسم عيد الفطر: وكان لهم في موسم عيد الفطر عدّة وجوه من الخيرات منها: تفرقة الفطرة، وتفرقة الكسوة، وعمل السماط، وركوب الخليفة لصلاة العيد، وقد تقدّم ذكر ذلك كله فيما سبق. عيد النحر: فيه تفرقة الرسوم من الذهب والفضة، وتفرقة الكسوة لأرباب الخدم من

ذكر النوروز

أهل السيف والقلم، وفيه ركوب الخليفة لصلاة العيد، وفيه تفرقة الأضاحي، كما مرّ ذلك مبينا في موضعه من هذا الكتاب. عيد الغدير «1» : فيه تزويج الأيامى، وفيه الكسوة، وتفرقة الهبات لكبراء الدولة، ورؤسائها وشيوخها وأمرائها، وضيوفها والأستاذين المحنكين، والمميزين، وفيه النحر أيضا، وتفرقة النحائر على أرباب الرسوم، وعتق الرقاب، وغير ذلك كما سبق بيانه فيما تقدّم. كسوة الشتاء والصيف: وكان لهم في كل من فصلي الشتاء، والصيف، كسوة تفرّق على أهل الدولة وعلى أولادهم، ونسائهم وقد مرّ ذكر ذلك. موسم فتح الخليج «2» : وكانت لهم في موسم فتح الخليج وجوه من البرّ منها: الركوب لتخليق المقياس، ومبيت القرّاء بجامع المقياس، وتشريف ابن أبي الردّاد بالخلع وغيرها، وركوب الخليفة إلى فتح الخليج، وتفرقة الرسوم على أرباب الدولة من الكسوة، والعين والمآكل والتحف، وقد تقدّم تفصيل ذلك. ذكر النوروز وكان النوروز القبطيّ في أيامهم من جملة المواسم، فتتعطل فيه الأسواق، ويقلّ فيه سعي الناس في الطرقات، وتفرّق فيه الكسوة لرجال أهل الدولة، وأولادهم ونسائهم والرسوم من المال، وحوائج النوروز. قال ابن زولاق: وفي هذه السنة، يعني سنة ثلاث وستين وثلثمائة، منع المعز لدين الله من وقود النيران ليلة النوروز في السكك، ومن صب الماء يوم النوروز. وقال: في سنة أربع وستين وثلثمائة: وفي يوم النوروز زاد اللعب بالماء ووقود النيران، وطاف أهل الأسواق، وعملوا فيلة، وخرجوا إلى القاهرة بلعبهم، ولعبوا ثلاثة أيام، وأظهروا السماجات والحلي في الأسواق، ثم أمر المعز بالنداء بالكشف، وأن لا توقد نار ولا يصب ماء، وأخذ قوم، فحبسوا وأخذ قوم، فطيف بهم على الجمال. وقال ابن ميسر: في حوادث سنة ست عشرة وخمسمائة: وفيها أراد الآمر بأحكام الله أن يحضر إلى دار الملك في النوروز الكائن في جمادى الآخرة في المراكب على ما كان عليه الأفضل بن أمير الجيوش، فأعاد المأمون عليه أنه لا يمكن، فإنّ الأفضل لا يجري مجراه مجرى الخليفة، وحمل إليه من الثياب الفاخرة برسم النوروز للجهات، ما له قيمة جليلة.

وقال ابن المأمون: وحل موسم النوروز في التاسع من رجب سنة سبع عشرة وخمسمائة، ووصلت الكسوة المختصة به من الطراز، وثغر الإسكندرية مع ما يبتاع من المذابّ المذهبة والحريري والسوادج، وأطلق جميع ما هو مستقرّ من الكسوات الرجالية، والنسائية، والعين والورق وجميع الأصناف المختصة بالموسم على اختلافها بتفصيلها، وأسماء أربابها، وأصناف النوروز البطيخ والرّمان وعراجين الموز، وأفراد البسر، وأقفاص التمر القوصيّ، وأقفاص السفرجل، وبكل الهريسة المعمولة من لحم الدجاج، ولحم الضأن، ولحم البقر من كل لون بكلة مع خبز برّ مارق. قال: وأحضر كاتب الدفتر: الإثبابات بما جرت العادة به من إطلاق العين والورق، والكسوات على اختلافها في يوم النوروز، وغير ذلك من جميع الأصناف، وهو أربعة آلاف دينار، وخمسة عشر ألف درهم فضة، والكسوات عدّة كثيرة من شفق ديبقيّ مذهبات، وحريريات، ومعاجر «1» وعصائب مشاومات ملوّنات، وشفق لاذ مذهب وحريريّ، ومشفع وفوط، ديبقيّ حريريّ. فأما العين والورق، والكسوات فذلك لا يخرج عمن تحوزه القصور، ودار الوزارة، والشيوخ والأصحاب والحواشي والمستخدمون، ورؤساء العشاريات، وبحارتها، ولم يكن لأحد من الأمراء على اختلاف درجاتهم في ذلك نصيب، وأما الأصناف من البطيخ والرمّان والبسر والتمر والسفرجل والعناب، والهرائس على اختلافها فيشمل ذلك جميع من تقدّم ذكرهم، ويشكرهم في ذلك جميع الأمراء أرباب الأطواق، والأقصاب وسائر الأماثل، وقد تقدّم شرح ذلك، فوقع الوزير المأمون على جميع ذلك بالإنفاق. وقال القاضي الفاضل في تعليق المتجدّدات لسنة أربع وثمانين وخمسمائة: يوم الثلاثاء أربع عشر رجب يوم النوروز القبطيّ، وهو مستهل «2» توت، وتوت أوّل سنتهم، وقد كان بمصر في الأيام الماضية، والدولة الخالية يعني دولة الخلفاء الفاطميين من مواسم بطالاتهم، ومواقيت ضلالاتهم، فكانت المنكرات ظاهرة فيه، والفواحش صريحة في يومه ويركب فيه أمير موسوم: بأمير النوروز، ومعه جمع كثير، ويتسلط على الناس في طلب رسم رتبه على دور الأكابر بالجمل الكبار، ويكتب مناشير، ويندب مترسمين، كل ذلك يخرج مخرج الطير، ويقنع بالميسور من الهبات، ويتجمع المؤنثون، والفاسقات تحت قصر اللؤلؤة بحيث يشاهدهم الخليفة، وبأيديهم الملاهي، وترفع الأصوات، وتشرب الخمر والمزر شربا ظاهرا بينهم، وفي الطرقات، ويتراش الناس بالماء، وبالماء والخمر، وبالماء ممزوجا بالأقدار، فإن غلط مستور، وخرج من داره لقيه من يرشه، ويفسد ثيابه، ويستخف

بحرمته، فإما فدى نفسه، وإما فضح، ولم يجر الحال في هذا النوروز على هذا، ولكن قد رش الماء في الحارات، وأحيى المنكر في الدور أرباب الخسارات. وقال: في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة: وجرى الأمر في النوروز على العادة من رش الماء، واستجدّ فيه هذا العام التراجم بالبيض، والتصافع بالأنطاع، وانقطع الناس عن التصرّف، ومن ظفر به في الطريق رش بمياه نجسة وخرق به. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: إنّ أوّل من اتخذ النوروز: جمشيد، ويقال في اسمه أيضا: جمشاد أحد ملوك الفرس الأول، ومعناه: اليوم الجديد، وللفرس فيه آراء، وأعمال على مصطلحهم غير أنه في غير هذا اليوم. وقد صنف عليّ بن حميرة الأصفهانيّ كتابا مفيدا في أعياد الفرس. وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: كان اليوم الذي ردّ الله فيه إلى سليمان بن داود خاتمه يوم النوروز، فجاءت إليه الشياطين بالتحف، وكانت تحفة الخطاطيف أن جاءت بالماء في مناقيرها فرشته بين يدي سليمان، فاتخذ الناس رش الماء من ذلك اليوم. وعن مقاتل بن سليمان «1» قال: سمي ذلك اليوم: نيروزا، وذلك أنه وافق هذا اليوم الذي يسمونه النيروز، فكانت الملوك تتيمن بذلك اليوم، واتخذوه عيدا، وكانوا يرشون الماء في ذلك اليوم، ويهدون كفعل الخطاف، ويتيمنون بذلك، ولله درّ القائل: كيف ابتهاجك بالنوروز يا سكني ... وكل ما فيه يحكيني وأحكيه فناره كلهيب النار في كبدي ... وماؤه كتوالي دمعتي فيه وقال آخر: نورز الناس ونورز ... ت ولكن بدموعي وذكت نارهم والن ... ار ما بين ضلوعي وقال غيره: ولما أتى النوروز يا غاية المنى ... وأنت على الإعراض والهجر والصدّ بعثت بنار الشوق ليلا إلى الحشى ... فنورزت صبحا بالدموع على الخدّ الميلاد: وهو اليوم الذي ولد فيه عبد الله، ورسوله المسيح عيسى ابن مريم صلّى الله عليه وسلّم، والنصارى تتخذ ليلة يوم الميلاد عيدا، وتعمله قبط مصر في التاسع والعشرين من كيهك «2» ،

وما برح لأهل مصر به اعتناء، وكان من رسوم الدولة الفاطمية فيه: تفرقة الجامات المملوءة من الحلاوات القاهرية، والتمارد التي فيها السمك، وقرابات الجلاب، وطيافير الزلابية، والبوري، فيشمل ذلك أرباب الدولة أصحاب السيوف، والأقلام بتقرير معلوم على ما ذكره ابن المأمون في تاريخه. الغطاس: ومن مواسم النصارى بمصر عمل الغطاس في اليوم الحادي عشر من طوبة «1» . قال المسعوديّ في مروج الذهب: ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها، لا ينام الناس فيها، وهي ليلة إحدى عشرة من طوبة ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلثمائة ليلة الغطاس بمصر، والإخشيد محمد بن طفج في داره المعروفة بالمختار في الجزيرة الراكبة على النيل، والنيل مطيف بها، وقد أمر فأسرج من جانب الجزيرة، وجانب الفسطاط ألف مشعل غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع، وقد حضر النيل في تلك الليلة: مئو ألوف من الناس من المسلمين والنصارى منهم: في الزواريق، ومنهم في الدور الدانية من النيل، ومنهم على الشطوط لا يتناكرون كل ما يمكنهم إظهاره من المآكل، والمشارب، وآلات الذهب والفضة، والجواهر والملاهي والعزف والقصف، وهي أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورا، ولا تغلق فيها الدروب، ويغطس أكثرهم في النيل، ويزعمون أنّ ذلك أمان من المرض، ونشرة للداء. وقال المسبحيّ: في سنة ثمان وثمانين وثلثمائة: كان غطاس النصارى، فضربت الخيام والمضارب، والأشرعة في عدّة مواضع على شاطىء النيل، فنصبت أسرّة للرئيس فهد ابن إبراهيم النصرانيّ كاتب الأستاذ برجوان، وأوقدت له الشموع والمشاعل، وحضر المغنون، والملهون، وجلس مع أهله يشرب إلى أن كان وقت الغطاس، فغطس وانصرف. وقال: في سنة خمس عشرة وأربعمائة، وفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة كان غطاس النصارى، فجرى الرسم من الناس في شراء الفواكه، والضأن وغيره، ونزل أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم لقصر جدّه العزيز بالله بمصر، لنظر الغطاس، ومعه الحرم، ونودي أن لا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم إلى البحر في الليل، وضرب بدر الدولة الخادم الأسود متولي الشرطتين خيمة عند الجسر، وجلس فيها، وأمر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بأن توقد المشاعل والنار في الليل، فكان وقيدا كثيرا، وحضر الرهبان والقسوس بالصلبان، والنيران، فقسسوا هناك طويلا إلى أن غطسوا. وقال ابن المأمون: إنه كان من رسوم الدولة أنه يفرّق على سائر أهل الدولة الترنج

والنارنج والليمون المراكبي، وأطنان القصب، والسمك والبوري برسوم مقرّرة لكل واحد من أرباب السيوف والأقلام. خميس العهد: ويسميه أهل مصر من العامّة: خميس العدس، ويعمله نصارى مصر قبل الفصح بثلاثة أيام ويتهادون فيه، وكان من جملة رسوم الدولة الفاطمية في خميس العدس ضرب خمسمائة دينار ذهبا، عشرة آلاف خرّوبة، وتفرقتها على جميع أرباب الرسوم كما تقدّم. أيام الركوبات: وكان الخليفة يركب في كل يوم سبت وثلاثاء إلى منتزهاته بالبساتين، والتاج، وقبّة الهواء والخمس وجوه، وبستان البعل، ودار الملك، ومنازل العز، والروضة، فيعمّ الناس في هذه الأيام من الصدقات أنواع ما بين ذهب، ومآكل، وأشربة، وحلاوات، وغير ذلك كما تقدّم بيانه في موضعه من هذا الكتاب. صلاة الجمعة: وكان الخليفة يركب في كل سنة ثلاث ركبات لصلاة الجمعة بالناس في جامع القاهرة الذي يعرف بالجامع الأزهر مرّة، وفي جامع الخطبة المعروف: بالجامع الحاكميّ مرّة، وفي جامع عمرو بن العاص بمصر أخرى، فينال الناس منه في هذه الجمع الثلاث، رسوم وهبات وصدقات، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى عند ذكر الجامع الأزهر. ولله در الفقيه عمارة «1» اليمني فقد ضمن مرثيته أهل القصر جملا مما ذكر، وهي القصيدة التي قال ابن سعد فيها، ولم يسمع فيما يكتب في دولة بعد انقراضها أحسن منها: رميت يا دهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حسن الحلي بالعطل سعيت في منهج الرأي العثور فإن ... قدرت من عثرات الدهر فاستقل جدعت ما رنك الأقنى فأنفك لا ... ينفك ما بين قرع السنّ والخجل هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... سعيت مهلا أما تمشي على مهل لهفي ولهف بني الآمال قاطبة ... على فجيعتها في أكرم الدول قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم ما أربى على الأمل قوم عرفت بهم كسب الألوف ومن ... كمالها أنها جاءت ولم أسل وكنت من وزراء الدست حين سما ... رأس الحصان يهاديه على الكفل ونلت من عظماء الجيش مكرمة ... وخلة حرست من عارض الخلل

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصرت في عذلي بالله در ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفين والجمل وقل لأهليهما والله ما التحمت ... فيكم جراحي ولا قرحي بمندمل ماذا عسى كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي هل كان في الأمر شيء غير قسمة ما ... ملكتموا بين حكم السبي والنفل وقد حصلتم عليها واسم جدّكم ... محمد وأبوكم غير منتقل مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوقود وكانت قبلة القبل فملت عنها بوجهي خوف منتقد ... من الأعادي ووجه الودّ لم يمل أسلت من أسفي دمعي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السبل أبكي على ما تراءت من مكارمكم ... حال الزمان عليها وهي لم تحل دار الضيافة كانت أنس وافدكم ... واليوم أوحش من رسم ومن طلل وفطرة الصوم إذ أضحت مكارمكم ... تشكو من الدهر حيفا غير محتمل وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورث منها جدد عندهم وبلي وموسم كان في يوم الخليج لكم ... يأتي تجملكم فيه على الجمل وأوّل العام والعيدين كم لكم ... فيهنّ من وبل جود ليس بالوشل والأرض تهتز في يوم الغدير كما ... يهتز ما بين قصريكم من الأسل والخيل تعرض في وشي وفي شية ... مثل العرائس في حلي وفي حلل ولا حملتم قرى الأضياف من سعة الأط ... باق إلا على الأكتاف والعجل وما خصصتم ببرّ أهل ملتكم ... حتى عممتم به الأقصى من الملل كانت رواتبكم للذمتين ولل ... ضيف المقيم وللطاري من الرسل ثم الطراز بتنيس الذي عظمت ... منه الصلات لأهل الأرض والدول وللجوامع من إحسانكم نعم ... لمن تصدّر في علم وفي عمل وربما عادت الدنيا فمعقلها ... منكم وأضحت بكم محلولة العقل والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم ... ولا نجا من عذاب الله غير ولي ولا سقى الماء من حرّ ومن ظمأ ... من كف خير البرايا خاتم الرسل ولا رأى جنة الله التي خلقت ... من خان عهد الإمام العاضد ابن علي أئمتي وهداتي والذخيرة لي ... إذا ارتهنت بما قدّمت من عملي تالله لم أوفهم في المدح حقهم ... لأنّ فضلهم كالوا بل الهطل ولو تضاعفت الأقوال واتسعت ... ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل باب النجاة هم دنيا وآخرة ... وحبهم فهو أصل الدين والعمل نور الهدى ومصابيح الدجى ومحل ... الغيث إن ربت الأنواء في المحل

أئمة خلقوة نورا فنورهم ... من محض خالص نور الله لم يغل والله ما زلت عن حبي لهم أبدا ... ما أخر الله لي في مدّة الأجل وبسبب هذه القصيدة قتل عمارة رحمه الله، وتمحلت له الذنوب، انتهى ما ذكره رحمه الله تعالى.

ذكر ما كان من أمر القصرين، والمناظر بعد زوال الدولة الفاطمية

ذكر ما كان من أمر القصرين، والمناظر بعد زوال الدولة الفاطمية ولما مات العاضد لدين الله في يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة، احتاط الطواشي «1» قراقوش على أهل العاضد، وأولاده، فكانت عدّة الأشراف في القصور: مائة وثلاثين، والأطفال خمسة وسبعين، وجعلهم في مكان أفرد لهم خارج القصر، وجمع عمومته، وعشيرته في إيوان بالقصر، واحترز عليهم، وفرّق بين الرجال والنساء لئلا يتناسلوا، وليكون ذلك أسرع لانقراضهم. وتسلم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب القصر، بما فيه من الخزائن والدواوين، وغيرها من الأموال والنفائس، وكانت عظيمة الوصف، واستعرض من فيه من الجواري والعبيد، فأطلق من كان حرّا، ووهب واستخدم باقيهم، وأطلق البيع في كل جديد، وعتيق، فاستمرّ البيع فيما وجد بالقصر، عشر سنين، وأخلى القصور من سكانها، وأغلق أبوابها، ثم ملكها أمراءه، وضرب الألواح على ما كان للخلفاء وأتباعهم من الدور والرباع، وأقطع خواصه منها، وباع بعضها. ثم قسم القصور، فأعطى القصر الكبير: للأمراء فسكنوا فيه، وأسكن أباه نجم الدين أيوب بن شادي في قصر اللؤلؤة على الخليج، وأخذ أصحابه دور من كان ينسب إلى الدولة الفاطمية، فكان الرجل إذا استحسن دارا أخرج منها سكانها، ونزل بها. قال القاضي الفاضل: وفي ثالث عشريه يعني ربيعا الآخر سنة سبع وستين: كشف حاصل الخزائن الخاصة بالقصر، فقيل: إن الموجود فيه مائة صندوق كسوة فاخرة من موشح، ومرصع وعقود ثمينة، ودخائر فخمة، وجواهر نفيسة، وغير ذلك من ذخائر جمة الخطر، وكان الكاشف بهاء الدين قراقوش، وبيان، وأخليت أمكنة من القصر الغربيّ سكن بها الأمير موسك والأمير أبو الهيجاء السمنيّ، وغيره من الغزو، ملئت المناظر المصونة عن الناظر، والمنتزهات التي لم يخطر ابتذالها في الخاطر، فسبحان

مظهر العجائب، ومحدثها، ووارث الأرض ومورثها. قال: ومقدار ما يحدس أنه خرج من القصر ما بين دينار ودرهم، ومصاغ وجوهر، ونحاس، وملبوس، وأثاث، وقماش، وسلاح ما لا يقي به ملك الأكاسرة، ولا تتصوّره الخواطر الحاضرة، ولا يشتمل على مثله الممالك العامرة، ولا يقدر على حسابه إلّا من يقدر على حساب الخلق في الآخرة. وقال الحافظ جمال الدين يوسف اليغموريّ: وجدت بخط المهذب أبي طالب محمد ابن عليّ بن الخيميّ، حدّثني الأمير عضد الدين مرهف بن مجد الدين سويد الدولة بن منقذ: أن القصر أغلق على ثمانية عشر ألف نسمة عشرة آلاف شريف وشريفة، وثمانية آلاف عبد، وخادم وأمة ومولدة وتربية. وقال ابن عبد الظاهر عن القصر لما أخذه صلاح الدين، وأخرج من به كان فيه اثنا عشر ألف نسمة ليس فيهم فحل، إلّا الخليفة، وأهله، وأولاده ولما أخرجوا منه، أسكنوا في دار المظفر، وقبض أيضا صلاح الدين على الأمير داود بن العاضد، وكان وليّ العهد وينعت بالحامد لله، واعتقل معه جميع إخوته الأمير أبو الأمانة جبريل، وأبو الفتح، وابنه أبو القاسم، وسليمان بن داود، وعبد الظاهر حيدرة بن العاضد، وعبد الوهاب بن إبراهيم ابن العاضد، وإسماعيل بن العاضد، وجعفر بن أبي الظاهر بن جبريل، وعبد الظاهر بن أبي الفتوح بن جبريل بن الحافظ، وجماعة من بني أعمامه، فلم يزالوا في الاعتقال بدار الأفضل من حارة برجوان إلى أن انتقل الملك الكامل محمد بن العادل بن أبي بكر بن أيوب من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل، فنقل معه ولد العاضد وإخوته وأولاد عمه، واعتقلهم بالقلعة، وبهامات العاضد، واستمرّ البقية حتى انقرضت الدولة الأيوبية، وملك الأتراك إلى أن تسلطن الملك الظاهر: ركن الدين بيبرس البندقداريّ. فلما كان في سنة ستين وستمائة: أشهد على من بقي منهم، وهم كمال الدين إسماعيل بن العاضد وعماد الدين أبو القاسم ابن الأمير أبي الفتوح بن العاضد، وبدر الدين عبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد أن جميع المواضع التي قبليّ المدارس الصالحية من القصر الكبير، والموضع المعروف: بالتربة ظاهرا وباطنا بخط الخوخ السبع، وجميع الموضع المعروف بالقصر اليافعيّ، بالخط المذكور، وجميع الموضع المعروف بسكن أولاد شيخ الشيوخ، وغيرهم من القصر الشارع بابه قبالة دار الحديث النبويّ الكاملية، وجميع الموضع المعروف بالقصر الغربيّ، وجميع الموضع المعروف: بدار الفطرة بخط المشهد الحسينيّ، وجميع الموضع المعروف: بدار الضيافة بحارة برجوان، وجميع الموضع: المعروف باللؤلؤة، وجميع قصر الزمرّذ، وجميع البستان الكافوريّ: ملك لبيت المال المولويّ السلطانيّ الملكيّ الظاهريّ من وجه صحيح شرعيّ لا رجعة لهم فيه، ولا لواحد

منهم في ذلك ولا في شيء منه، ولا مثوبة بسبب يد، ولا ملك، ولا وجه من الوجوه كلها، خلا ما في ذلك من مسجد لله تبارك وتعالى أو مدفن لآبائهم، وورخ ذلك الإشهاد بثالث عشر ربيع الأوّل سنة ستين وستمائة، وأثبت على قاضي القضاة الصاحب تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعزّ الشافعي رحمه الله تعالى. وتقرّر مع المذكورين أن مهما كان قبضوه من أثمان بعض الأماكن المذكورة التي عاقد عليها وكلاؤهم، واتصلوا إليه يحاسبوا به من جملة ما يحرز ثمنه عند وكيل بيت المال، وقبضت أيدي المذكورين عن التصرّف في الأماكن المذكورة وغيرها، ورسم ببيعها فباعها وكيل بيت المال كمال الدين ظافر أوّلا فأوّلا، ونقضت شيئا شيئا، وبنى في أماكنها ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. واشترى قاعة السدرة بجوار المدرسة، والتربة الصالحية قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم «1» بن عبد الواحد بن عليّ بن مسرور المقدسيّ الحنبليّ، مدرس الحنابلة بالمدرسة الصالحية: بألف وخمسة وسبعين دينارا في رابع جمادى الآخرة سنة ستين وستمائة من كمال الدين ظافر بن الفقيه نصر وكيل بيت المال، ثم باعها المذكور للملك الظاهر بيبرس في حادي عشري جمادى الآخرة المذكورة، وقاعة السدرة هذه، قد صارت هي، وقاعة الخيم أصل المدرسة الظاهرية الركنية البيبرسية البندقدارية. قال القاضي الفاضل: وفي يوم الاثنين سادس شهر رجب، يعني من سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ظهر تسحب رجلين من المعتقلين في القصر أحدهما من أقارب المستنصر، والآخر من أقارب الحافظ، وأكبرهما سنا كان معتقلا بالإيوان حدث به مرض، وأثخن فيه، ففك حديده، ونقل إلى القصر الغربيّ في أوائل سنة ثلاث وثمانين، واستمرّ لما به، ولم يستقل من المرض، وطلب ففقد، واسمه: موسى بن عبد الرحمن أبي حمزة بن حيدرة بن أبي الحسن أخي الحافظ، واسم الآخر: موسى بن عبد الرحمن بن أبي محمد بن أبي اليسر بن محسن بن المستنصر، وكان طفلا في وقت الكائنة بأهله، وأقام بالقصر الغربيّ مع من أسر به إلى أن كبر وشب. قال: وذكر أن القصر الغربيّ قد استولى عليه الخراب، وعلا على جدرانه التشعث، والهدم، وإنه يجاور اصطبلات فيها جماعة من المفسدين، وربما تسلق إليه للتطرّق للنساء المعتقلات، والمتسلق منه إذا قويت نفسه على التسحب لم تكن عقلته في القصر المذكور مانعة من التسحب.

قال: وعدد من بقي من هذه الذرية بدار المظفر والقصر الغربيّ والإيوان: مائتان واثنان وخمسون شخصا، ذكور ثمانية وتسعون، وإناث مائة وأربعة وخمسون، تفصيله المقيمون بدار المظفر: أحد وثلاثون ذكور، أحد عشر كلهم أولاد العاضد لصلبه، أناث عشرون: بنات العاضد خمسة، إخوته أربع، جهات العاضد أربع، بنات الحافظ ثلاث، جهات يوسف ابنه وجبريل ابن عمه أربع، المعتلقون بالإيوان خمسة وخمسون رجلا منهم الأمير أبو الظاهر بن جبريل بن الحافظ، المقيمون بالقصر الغربيّ: مائة وستة وستون شخصا ذكور اثنان وثلاثون، أكبرهم: عمره عشرون سنة، وأصغرهم عمره سبع عشرة سنة، إناث: مائة وأربع، وثلاثون: بنات أربع وستون، أخوات وعمات وزوجات سبعون. قال: وفي جمادي الآخرة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، كانت عدّة من في دار المظفر بحارة برجوان، والقصر الغربيّ، والإيوان من أولاد العاضد، وأقاربه، ومن معهم مضافا إليهم ثلثمائة واثنتين وسبعين نفسا. دار المظفر، أحرار ومماليك: مائة وست وستون نفسا، القصر الغربيّ: أحرار مائة وأربعون نفسا، الإيوان: تسعة وسبعون رجلا بالغون، وأما منازل العز، فاشتراها الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي في نصف شعبان سنة: ست وستين وخمسمائة، وجعلها مدرسة للفقهاء الشافعية، واشترى الروضة، وجعلها وقفا على المدرسة المذكورة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث وأوله: «ذكر حارات القاهرة وظواهرها»

الجزء الثالث

الجزء الثالث ذكر حارات القاهرة وظواهرها بسم الله الرّحمن الرّحيم قال ابن سيده: والحارة كلّ محلّة دنت منازلها، قال: والمحلّة منزل القوم. وبالقاهرة وظواهرها عدّة حارات وهى: حارة بهاء الدين: هذه الحارة كانت قديما خارج باب الفتوح الذي وضعه القائد جوهر «1» عند ما اختطّ أساس القاهرة من الطوب النيء، وقد بقي من هذا الباب عقدة برأس حارة بهاء الدين «2» ، وصارت هذه الحارة اليوم من داخل باب الفتوح الذي وضعه أمير الجيوش بدر «3» الجمالي، وهو الموجود الآن. وحدّ هذه الحارة عرضا من خطّ باب الفتوح «4» الآن إلى خطّ حارة الورّاقة بسوق المرحلين، وحدّها طولا فيما وراء ذلك إلى خطّ باب القنطرة. وكانت هذه الحارة تعرف بحارة الريحانية والوزيرية «5» وهما طائفتان من طوائف عسكر الخلفاء الفاطميين، فإنّ بها كانت مساكنهم، وكان فيها لهاتين الطائفتين دور عظيمة وحوانيت عديدة؛ وقيل لها أيضا بين الحارتين، واتصلت العمارة إلى السور ولم تزل الريحانية والوزيرية بهذه الحارة إلى أن كانت واقعة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالعبيد.

ذكر واقعة العبيد

ذكر واقعة العبيد «1» وسببها أنّ مؤتمن الخلافة جوهرا أحد الأستاذين المحنّكين بالقصر تحدّث في إزالة صلاح الدين يوسف بن أيوب من وزارة الخليفة العاضد لدين الله عندما ضايق أهل القصر وشدّد عليهم واستبدّ بأمور الدولة وأضعف جانب الخلافة وقبض على أكابر أهل الدولة، فصار مع جوهر عدّة من الأمراء المصريين والجند. واتفق رأيهم أن يبعثوا إلى الفرنج ببلاد الساحل يستدعونهم إلى القاهرة، حتّى إذا خرج صلاح الدين لقتالهم بعسكر ثاروا وهم بالقاهرة، واجتمعوا مع الفرنج على إخراجه من مصر. فسيروا رجلا إلى الفرنج وجعلوا كتبهم التي معه في نعل، وحفظت بالجلد مخافة أن يفطن بها، فسار الرجل إلى البئر البيضاء قريبا من بلبيس «2» ، فإذا بعض أصحاب «3» صلاح الدين هناك، فأنكر أمر الرجل من أجل أنّه جعل النعلين في يده، ورآهما وليس فيهما أثر المشي، والرجل رثّ الهيئة؛ فارتاب وأخذ النعلين وشقّهما، فوجد الكتب ببطنهما، فحمل الرجل والكتب إلى صلاح الدين، فتتبّع خطوط الكتب حتّى عرفت، فإذا الذي كتبها من اليهود الكتّاب، فأمر بقتله، فاعتصم بالإسلام وأسلم، وحدّثه الخبر. فبلغ ذلك مؤتمن الخلافة، فاستشعر الشرّ وخاف على نفسه، ولزم القصر وامتنع من الخروج منه، فأعرض صلاح الدين عن ذلك جملة، وطال الأمد؛ فظنّ الخصيّ أنه قد أهمل أمره، وشرع يخرج من القصر. وكانت له منظرة بناها بناحية الخرقانية في بستان، فخرج إليها في جماعة. وبلغ ذلك صلاح الدين، فأنهض إليه عدّة هجموا عليه وقتلوه في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة، واحتزوا رأسه وأتوا بها إلى صلاح الدين، فاشتهر ذلك بالقاهرة وأشيع، فغضب العسكر «4» المصريّ، وثاروا بأجمعهم في سادس عشريّة، وقد انضمّ إليهم عالم عظيم من الأمراء والعامّة حتّى صاروا ما ينيف على خمسين ألفا، وساروا إلى دار الوزارة- وفيها يومئذ ساكنا بها صلاح الدين- وقد استعدّوا بالأسلحة، فبادر شمس الدولة فخر الدين توران شاه أخو صلاح الدين، وصرخ في عساكر الغزّ، وركب صلاح الدين وقد اجتمع إليه طوائف من أهله وأقاربه وجميع الغزّ ورتبهم، ووقفت الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية والطائفة الفرحية وغيرهم من الطوائف السودانية ومن انضمّ إليهم بين القصرين، فثارت الحروب بينهم وبين صلاح الدين، واشتدّ الأمر وعظم الخطب حتّى لم يبق إلا هزيمة صلاح الدين وأصحابه. فعند ذلك أمر توران شاه بالحملة على

السودان، فقتل فيها أحد مقدّميهم، فانكفّ بأسهم قليلا، وعظمت حملة الغزّ عليهم، فانكسروا إلى باب الذهب، ثمّ إلى باب الزهومة «1» ، وقتل حينئذ عدّة من الأمراء المصريين وكثير ممّن عداهم. وكان العاضد في هذه الوقعة يشرف من المنظرة، فلمّا رأى أهل القصر كسرة السودان وعساكر مصر رموا على الغزّ من أعلى القصر بالنشّاب والحجارة حتّى أنكوا فيهم، وكفّوهم عن القتال، وكادوا ينهزمون؛ فأمر حينئذ صلاح الدين النفّاطين بإحراق المنظرة، فأحضر شمس الدولة النفّاطين وأخذوا في تطييب قارورة النفط وصوّبوا بها على المنظرة التي فيها العاضد، فخاف العاضد على نفسه، وفتح باب المنظرة زعيم الخلافة أحد الأستاذين، وقال بصوت عال: أمير المؤمنين يسلّم على شمس الدولة ويقول: دونكم والعبيد الكلاب، أخرجوهم من بلادكم. فلمّا سمع السودان ذلك ضعفت قلوبهم وتخاذلوا، فحمل عليهم الغزّ فانكسروا، وركب القوم أقفيتهم إلى أن وصلوا إلى السيوفيين «2» ، فقتل منهم كثير وأسر منهم كثير وامتنعوا هناك على الغزّ بمكان، فأحرق عليهم. وكان في دار الأرمن التي كانت قريبا من بين القصرين خلق عظيم من الأرمن كلّهم رماة لهم جار «3» في الدولة يجري عليهم، فعند ما قرب منهم الغزّ رموهم عن يد واحدة حتّى امتنعوا عن أن يسيروا إلى العبيد، فأحرق شمس الدولة دارهم حتّى هلكوا حرقا وقتلا، ومرّوا إلى العبيد، فصاروا كلّما دخلوا مكانا أحرق عليهم وقتلوا فيه إلى أن وصلوا إلى باب زويلة، فإذا هو مغلوق، فحصروا هناك واستمرّ فيهم القتل مدّة يومين. ثمّ بلغهم أنّ صلاح الدين أحرق المنصورة «4» التي كانت أعظم حاراتهم، وأخذت عليهم أفواه السكك «5» ، فأيقنوا أنّهم قد أخذوا لا محالة، فصاحوا الأمان، فأمنوا- وذلك يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة- وفتح لهم باب زويلة، فخرجوا إلى الجيزة، فعدا عليهم شمس الدولة في العسكر وقد قووا بأموال المهزومين وأسلحتهم، وحكّموا فيهم السيف حتى لم يبق منهم إلا الشريد؛ وتلاشى من هذه الواقعة أمر العاضد. وكان من غرائب الاتّفاقات أن الدولة الفاطمية كان الذي افتتح لها بلاد مصر وبنى القاهرة جوهر القائد؛ والذي كان سببا في إزالة الدولة وخراب القاهرة جوهر المنعوت بمؤتمن الخلافة هذا. ثمّ لما استبدّ صلاح الدين يوسف بسلطنة الديار المصريّة بعد موت

الخليفة العاضد «1» لدين الله سكن هذه الحارة الأمير الطواشيّ الخصيّ بهاء الدين قراقوش بن عبد الله الأسدي فعرفت به. حارة برجوان: منسوبة إلى الأستاذ أبي الفتوح برجوان الخادم، وكان خصيّا أبيض تامّ الخلقة، ربّي في دار الخليفة العزيز «2» بالله، وولاه أمر القصور. فلمّا حضرته الوفاة وصّاه على ابنه الأمير أبي عليّ منصور، فلمّا مات العزيز بالله أقيم ابنه منصور «3» في الخلافة من بعده، وقام بتدبير الدولة أبو محمد الحسن بن عمّار الكتامي، فدبّر الأمور وبرجوان يناكده فيما يصدر عنه ويختصّ بطوائف من العسكر دونه إلى أن أفسد أمر ابن عمّار، فنظر برجوان في تدبير الأمور يوم الجمعة لثلاث بقين من رمضان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وصار الواسطة بين الحاكم وبين الناس، فأمر بجمع الغلمان ونهاهم عن التعرّض لأحد من الكتاميين والمغاربة، ووجّه إلى دار ابن عمّار، فمنع الناس عنها بعد أن كانوا قد أحاطوا بها وانتهبوا منها، وأمر أن يجرى لأصحاب الرسوم الرواتب جميع ما كان ابن عمّار قطعه، وأجرى لابن عمّار ما كان يجرى له في أيام العزيز بالله من الجرايات لنفسه ولأهله وحرمه، ومبلغ ذلك من اللحم والتوابل خمسمائة دينار في كلّ شهر يزيد عن ذلك أو ينقص عنه على قدر الأسعار، مع ما كان له من الفاكهة؛ وهو في كلّ يوم سلّة بدينار، وعشرة أرطال شمع بدينار ونصف، وحمل بلح. وجعل كاتبه أبا العلاء فهد بن إبراهيم النصراني، يوقّع عنه وينظر في قصص الرافعين وظلاماتهم، فجلس لذلك في القصر وصار يطالعه بجميع ما يحتاج إليه، ورتّب الغلمان في القصر وأمرهم بملازمة الخدمة وتفقّد أحوالهم، وأزال علل أولياء الدولة، وتفقّد أمور الناس وأزال ضروراتهم، ومنع الناس كافة من الترجّل له؛ فكان الناس يلقونه في داره، فإذا تكامل لقاؤهم ركبوا بين يديه إلى القصر ما عدا الحسين بن جوهر والقاضي ابن النعمان فقط، فإنهما كانا يتقدّمانه من دورهما إلى القصر حتّى أنّه لقّب كاتبه فهدا بالرئيس، فصار يخاطب بذلك ويكاتب به. وكان برجوان يجلس في دهاليز القصر، ويجلس الرئيس فهد بالدهليز الأول يوقّع وينظر ويطالع برجوان ما يحتاج إليه ممّا يطالع به الحاكم، فيخرج الأمر بما يكون العمل به. وترقّت أحوال برجوان إلى أن بلغ النهاية، فقصر عن الخدمة، وتشاغل بلذّاته، وأقبل على سماع الغناء وأكثر من الطرب؛ وكان شديد المحبّة في الغناء، فكان المغنّون من الرجال والنساء يحضرون داره فيكون معهم كأحدهم، ثمّ يجلس في داره حتّى يمضي صدر النهار

ويتكامل جميع أهل الدولة وأرباب الأشغال على بابه، فيخرج راكبا ويمضي إلى القصر، فيمشي من الأمور ما يختار بغير مشاورة. فلما تزايد الأمر وكثر استبداده تحرّد له الحاكم، ونقم عليه أشياء من تجرّئه عليه ومعاملته له بالإذلال وعدم الامتثال، منها أنّه استدعاه يوما وهو راكب معه، فصار إليه وقد ثنى رجله على عنق فرسه وصار باطن قدمه وفيه الخفّ قبالة وجه الحاكم، ونحو ذلك من سوء الأدب. فلما كان يوم الخميس سادس عشري شهر ربيع الآخر سنة تسعين وثلاثمائة، أنفذ إليه الحاكم عشيّة للركوب معه إلى المقياس «1» ، فجاء بعد ما تباطأ، وقد ضاق الوقت، فلم يكن بأسرع من خروج عقيق الخادم باكيا يصيح: قتل مولاي. وكان هذا الخادم عينا لبرجوان في القصر، فاضطرب الناس، وأشرف عليهم الحاكم، وقام زيدان صاحب «2» المظلّة فصاح بهم: من كان في الطاعة فلينصرف إلى منزله ويبكر إلى القصر المعمور. فانصرف الجميع. فكان من خبر قتل برجوان أنّه لما دخل إلى القصر كان الحاكم في بستان يعرف بدويرة التين والعنّاب ومعه زيدان، فوافاه برجوان بها وهو قائم، فسلّم ووقف، فسار الحاكم إلى أن خرج من باب الدويرة فوثب زيدان على برجوان وضربه بسكّين كانت معه في عنقه، وابتدره قوم كانوا قد أعدّوا للفتك به، فأثخنوه جراحة بالخناجر، واحتزّوا رأسه ودفنوه هناك. ثمّ إنّ الحاكم أحضر إليه الرئيس، فهدأ بعد العشاء الأخيرة وقال له: أنت كابني، وأمّنه وطمّنه، فكانت مدّة نظر برجوان في الوساطة سنتين وثمانية أشهر تنقص يوما واحدا، ووجد الحاكم في تركته مائة منديل يعني عمامة، كلّها شروب ملوّنة معمّمة على مائة شاشية، وألف سراويل دبيقية «3» بألف تكّة حرير أرمنيّ، ومن الثياب المخيطة والصحاح «4» والحليّ والمصاغ والطيب والفرش والصياغات الذهب والفضّة ما لا يحصى كثرة، ومن العين ثلاثة وثلاثين ألف دينار، ومن الخيل الركابيّة مائة وخمسين فرسا وخمسين بغلة، ومن بغال النقل ودواب الغلمان نحو ثلثمائة رأس، ومائة وخمسين سرجا، منها عشرون ذهبا؛ ومن الكتب شيء كثير. وحمل لجاريته من مصر إلى القاهرة رحل على ثمانين حمارا. قال ابن خلكان: وبرجوان بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الجيم والواو وبعد

الألف نون هكذا وجدته مقيّدا بخطّ بعض الفضلاء. وقال ابن عبد الظاهر: ويسمى الوزغ، سماه به الحاكم. حارة زويلة: قال ابن عبد «1» الظاهر: لما نزل القائد جوهر بالقاهرة اختطت كلّ قبيلة خطة عرفت بها، فزويلة بنت الحارة المعروفة بها والبئر التي تعرف ببئر زويلة في المكان الذي يعمل فيه الآن الروايا، والبابان «2» المعروفان ببابي زويلة. وقال ياقوت: زويلة بفتح الزاي وكسر الواو وياء ساكنة وفتح اللام: أربعة مواضع: الأوّل زويلة السودان وهي قصبة أعمال فزّان «3» في جنوب إفريقية مدينة كثيرة النخل والزرع. الثاني زويلة المهديّة، بلد كالربض للمهديّة اختطّه عبد الله الملقّب بالمهدي وأسكنه الرعيّة، وسكن هو بالمهديّة التي استجدّها، فكانت دكاكين الرعية وأمتعتهم بالمهديّة، ومنازلهم وحرمهم بزويلة، فكانوا يظلّون بالنهار في المهدية ويبيتون ليلا بزويلة. وزعم المهديّ أنه فعل بهم ذلك ليأمن غائلتهم، قال: أحول بينهم وبين أموالهم ليلا وبينهم وبين نسائهم نهارا. الثالث باب زويلة بالقاهرة من جهة الفسطاط الرابع حارة زويلة محلّة كبيرة بالقاهرة بينها وبين باب زويلة عدّة محال، سمّيت بذلك لأنّ جوهرا غلام المعزّ لما اختطّ محلّه بالقاهرة أنزل أهل زويلة «4» بهذا المكان فتسمّى بهم. الحارة المحمودية «5» : الصواب في هذه الحارة أن يقال حارة المحمودية على الإضافة، فإنّها عرفت بطائفة من طوائف عسكر الدولة الفاطمية كان يقال لها الطائفة المحمودية، وقد ذكرها المسبّحي «6» في تاريخه مرارا قال: في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وفيها اقتتلت الطائفة المحمودية واليانسية. واشتبه أمر هذه الحارة على ابن عبد الظاهر، فلم يعرف نسبتها لمن وقال: لا أعلم في الدولة المصريّة من اسمه محمود إلا ركن الإسلام محمود بن أخت الصالح بن رزّيك صاحب التربة بالقرافة، اللهم إلا أن يكون محمود بن مصال الملكيّ الوزير. فقد ذكر ابن القفطيّ أنّ اسمه محمود، ومحمود صاحب المسجد بالقرافة، وكان في زمان السّري ابن الحكم قبل ذلك. وهذا وهم آخر، فإنّ ابن

مصال الوزير اسمه سليمان، وينعت بنجم الدين. ووقعت في هذه الحارة نكتة، قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة أربع وتسعين وخمسمائة، والسلطان يومئذ بمصر الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين، وكان في شعبان قد تتابع أهل مصر والقاهرة في إظهار المنكرات وترك الإنكار لها وإباحة أهل الأمر والنهي فعلها، وتفاحش الأمر فيها إلى أن غلا سعر العنب لكثرة من يعصره، وأقيمت طاحون بالمحموديّة لطحن حشيشة للبزر، وأفردت برسمه، وحميت بيوت المزر، وأقيمت عليها الضرائب الثقيلة؛ فمنها ما انتهى أمره في كلّ يوم إلى ستّة عشر دينارا، ومنع المزر «1» البيوتي ليتوفر الشراء من مواضع الحمي، وحملت أواني الخمر على رؤوس الأشهاد وفي الأسواق من غير منكر، وظهر من عاجل عقوبة الله تعالى وقوف زيادة «2» النيل عن معتادها وزيادة سعر الغلّة في وقت ميسورها. حارة الجودرية: هذه الحارة عرفت أيضا بالطائفة الجودرية إحدى طوائف العسكر في أيام الحاكم بأمر الله على ما ذكره المسبّحي، وقال ابن عبد الظاهر: الجودريّة منسوبة إلى جماعة تعرف بالجودريّة اختطّوها وكانوا أربعمائة، منهم أبو عليّ منصور الجودريّ الذي كان في أيام العزيز بالله، وزادت مكانته في الأيام الحاكمية، فأضيفت إليه مع الأحباس «3» الحسبة «4» وسوق الرقيق والسواحل وغير ذلك، ولها حكاية سمعت جماعة يحكونها، وهي أنّها كانت سكن اليهود، والمعروفة بهم؛ فبلغ الخليفة الحاكم أنّهم يجتمعون بها في أوقات خلواتهم ويغنّون: وأمّة قد ضلّوا ودينهم معتلّ ... قال لهم نبيّهم: نعم الإدام الخلّ ويسخرون من هذا القول ويتعرّضون إلى ما لا ينبغي سماعه، فأتى إلى أبوابها وسدّها عليهم ليلا وأحرقها، فإلى هذا الوقت لا يبيت بها يهوديّ ولا يسكنها أبدا. وقد كان في الأيام العزيزيّة جودر الصقلبيّ، أيضا ضرب عنقه ونهب ماله في سنة ستّ وثمانين وثلثمائة. حارة الوزيرية: هي أيضا تنسب إلى طائفة يقال لها الوزيرية من جملة طوائف العسكر، وكانت أوّلا تعرف بحارة بستان المصمودي وعرفت أيضا بحارة الأكراد. قال ابن عبد الظاهر: الوزيرية منسوبة إلى الوزير يعقوب «5» بن يوسف بن كلّس؛ وقال ابن الصيرفيّ

والطائفة المنعوتة بالوزيرية إلى الآن منسوبة إليه، يعني الوزير يعقوب بن يوسف بن كلّس أبو الفرج. كان يهوديا من أهل بغداد، فخرج منها إلى بلاد الشام ونزل بمدينة الرملة، وأقام بها فصار فيها وكيلا للتجّار بها، واجتمع في قبله مال عجز عن أدائه، ففرّ إلى مصر في أيّام كافور الإخشيديّ، فتعلّق بخدمته. ووثب إليه بالمتجر، فباع إليه أمتعة أحيل بثمنها على ضياع مصر، فكثر لذلك تردّده على الريف، وعرف أخبار القرى؛ وكان صاحب حيل ودهاء ومكر ومعرفة مع ذكاء مفرط وفطنة، فمهر في معرفة الضياع حتّى كان إذا سئل عن أمر غلالها ومبلغ ارتفاعها وسائر أحوالها الظاهرة والباطنة أتى من ذلك بالغرض، فكثرت أمواله واتسعت أحواله، وأعجب به كافور لما خبر فيه من الفطنة وحسن السياسة فقال: لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا. فلمّا بلغه هذا عن كافور تاقت نفسه إلى الولاية وأحضر من علّمه شرائع الإسلام سرا، فلمّا كان في شعبان سنة ستّ وخمسين وثلثمائة دخل إلى الجامع بمصر وصلّى صلاة الصبح، وركب إلى كافور ومعه محمد بن عبد الله بن الخازن في خلق كثير، فخلع عليه كافور، ونزل إلى داره ومعه جمع كثير، وركب إليه أهل الدولة يهنئونه، ولم يتأخّر عن الحضور إليه أحد، فغصّ بمكانه الوزير أبو الفضل جعفر «1» بن الفرات، وقلق بسببه، وأخذ في التدبير عليه، ونصب الحبائل له حتّى خافه يعقوب، فخرج من مصر فارّا منه يريد بلاد المغرب في شوّال سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وقد مات كافور، فلحق بالمعزّ لدين الله أبي تميم معدّ، فوقع منه موقعا حسنا، وشاهد منه معرفة وتدبيرا، فلم يزل في خدمته حتّى قدم من المغرب إلى القاهرة في شهر رمضان سنة اثنين وستّين وثلثمائة، فقلّده في رابع عشر المحرّم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة الخراج وجميع وجوه الأموال والحسبة والسواحل والأعشار والجوالي «2» والأحباس والمواريث والشرطتين وجميع ما يضاف إلى ذلك وما يطرأ في مصر وسائر الأعمال. وأشرك معه في ذلك كله عسلوج بن الحسن، وكتب لهما سجلا بذلك قرىء في يوم الجمعة على منبر جامع أحمد بن طولون فقبضت أيدي سائر العمّال والمتضمّنين، وجلس يعقوب وعسلوج في دار الإمارة في جامع أحمد بن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأموال، وحضر الناس للقبالات، وطالبا بالبقايا من الأموال ممّا على الناس من المالكين والمتقبّلين والعمّال، واستقصيا في الطلب، ونظرا في المظالم، فتوفّرت الأموال وزيد في الضياع، وتزايد الناس وتكاشفوا، أو امتنعا أن يأخذا إلا دينارا معزيا «3» ، فاتضّع الدينار الراضي «4» وانحطّ ونقص من صرفه أكثر من ربع

دينار، فخسر الناس كثيرا من أموالهم في الدينار الأبيض والدينار الراضي، وكان صرف المعّزيّ خمسة عشر درهما ونصفا واشتدّ الاستخراج، فكان يستخرج في اليوم نيّف وخمسون ألف دينار معزّية، واستخرج في يوم واحد مائة وعشرون ألف دينار معزّية، وحصل في يوم واحد من مال تنّيس ودمياط الأشمونين أكثر من مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار، وهذا شيء لم يسمع قطّ بمثله في بلد. فاستمرّ الأمر على ذلك إلى المحرّم سنة خمس وستّين وثلثمائة. فتشاغل يعقوب عن حضور ديوان الخراج، وانفرد بالنظر في أمور المعزّ لدين الله في قصره وفي الدور الموافق عليها، وبعد ذلك بقليل مات «1» المعزّ لدين الله في شهر ربيع الآخر منها وقام من بعده في الخلافة ابنه العزيز بالله أبو منصور نزار «2» ، ففوّض ليعقوب النظر في سائر أموره وجعله وزيرا له في أوّل المحرّم سنة سبع وستّين وثلثمائة. وفي شهر رمضان سنة ثمان وستّين لقبه بالوزير الأجلّ، وأمر أن لا يخاطبه أحد ولا يكاتبه إلّا به، وخلع عليه وحمل ورسم له في محرّم سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة أن يبدأ له في مكاتباته باسمه على عنوانات الكتب النافذة عنه، وخرج توقيع العزيز بذلك. وفي هذه السنة اعتقل في القصر، وردّ الأمر إلى خير بن القاسم، فأقام معتقلا عدّة شهور ثم أطلق في سنة أربع وسبعين وحمل على عدّة خيول، وقرىء سجلّ بردّه إلى تدبير الدولة. ووهبه خمسمائة غلام من الناشئة وألف غلام من المغاربة ملّكه العزيز رقابهم، فكان يعقوب أوّل وزراء الخلفاء الفاطميين بديار مصر. فدبّر أمور مصر والشام والحرمين وبلاد المغرب وأعمال هذه الأقاليم كلّها من الرجال والأموال والقضاء والتدبر، وعمل له إقطاعا في كلّ سنة بمصر والشام مبلغها ثلثمائة ألف دينار، واتسعت دائرته وعظمت مكانته حتّى كتب اسمه على الطرز «3» ، وفي الكتب، وكان يجلس كلّ يوم في داره يأمر وينهي ولا ترفع إليه رقعة إلا وقّع فيها، ولا يسأل في حاجة إلا قضاها، ورتب في داره الحجّاب نوبا، وأجلسهم على مراتب وألبسهم الديباج، وقلّدهم السيوف، وجعل لهم المناطق «4» ، ورتب فرسين في داره للنوبة لا تبرح واقفة بسروجها ولجمها، لهم برد «5» ، ونصب في داره الدواوين، فجعل ديوانا للعزيزية فيه عدّة كتّاب، وديوانا للجيش فيه عدّة كتاب، وديوانا للأموال فيه عدّة كتّاب، وعدّة جهابذة «6» ، وديوانا للخراج، وديوانا

للسجلات والإنشاء، وديوانا للمستغلّات «1» ، وأقام على هذه الدواوين زمانا، وجعل في داره خزانة للكسوة وخزانة للمال وخزانة للدفاتر وخزانة للأشربة، وعمل على كلّ خزانة ناظرا، وكان يجلس عنده في كلّ يوم الأطبّاء لينظروا في حال الغلمان ومن يحتاج منهم إلى علاج أو إعطاء دواء، ورتّب في داره الكتّاب والأطبّاء يقفون بين يديه، وجعل فيها العلماء والأدباء والشعراء والفقهاء والمتكلّمين وأرباب الصنائع، لكلّ طائفة مكان مفرد، وأجرى على كلّ واحد منهم الأرزاق، وألّف كتبا في الفقه والقراءات، ونصب له مجلسا في داره يحضره في كلّ يوم ثلاثاء، ويحضر إليه الفقهاء والمتكلّمون وأهل الجدل يتناظرون بين يديه. من تأليفه: كتاب في القراءات وكتاب في الأديان- وهو كتاب الفقه واختصره- وكتاب في آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب في علم الأبدان وصلاحها في ألف ورقة، وكتاب في الفقه ممّا سمعه من الإمام المعزّ لدين الله والإمام العزيز «2» بالله. وكان يجلس في يوم الجمعة أيضا ويقرأ مصنّفاته على الناس بنفسه، وفي حضرته القضاة والفقهاء والقرّاء وأصحاب الحديث والنّحاة والشهود، فإذا فرغ من قراءة ما يقرأ من مصنّفاته قام الشعراء ينشدون مدائحهم فيه. وكان في داره عدّة كتّاب ينسخون القرآن الكريم والفقه والطبّ وكتب الأدب وغيرها من العلوم، فإذا فرغوا من نسخها قوبلت وضبطت، وجعل في داره قرّاء وأئمة يصلّون في مسجد داره، وأقام بداره عدّة مطابخ لنفسه ولجلسائه ولغلمانه وحواشيه، وكان ينصب مائدة لخاصّته يأكل هو وخواصّه من أهل العلم ووجوه كتّابه وخواصّ غلمانه ومن يستدعيه عليها، وينصب عدّة موائد لبقيّة الحجّاب والكتّاب والحواشي. وكان إذا جلس يقرأ كتابه في الفقه الذي سمعه من المعزّ والعزيز لا يمنع أحد من مجلسه، فيجتمع عنده الخاص والعامّ، ورتّب عند العزيز بالله جماعة لا يخاطبون إلا بالقائد، وأنشأ عدّة مساجد ومساكن بمصر والقاهرة، وكان يقيم في شهر رمضان الأطعمة للفقهاء ووجوه الناس وأهل الستر والتعفّف ولجماعة كثيرة من الفقراء، وكان إذا فرغ الفقهاء والوجوه من الأكل معه يطاف عليهم بالطّيب. ومرض مرّة من علّة أصابت يده، فقال فيه عبد الله بن محمد بن أبي الجرع: يد الوزير هي الدنيا فإن ألمت ... رأيت في كلّ شيء ذلك الألما تأمّل الملك وانظر فرط علّته ... من أجله واسأل القرطاس والقلما وشاهد البيض في الأغماد حائمة ... إلى العدا وكثيرا ما روين دما وأنفس الناس بالشكوى قد اتّصلت ... كأنّما أشعرت من أجله سقما هل ينهض المجد إلا أن يؤيّده ... ساق يقدّم في إنهاضه قدما لولا العزيز وآراء الوزير معا ... تحيّفتنا خطوب تشعب الأمما

فقل لهذا وهذا أنتما شرف ... لا أوهن الله ركنيه ولا انهدما كلاكما لم يزل في الصالحات يدا ... مبسوطة ولسانا ناطقا وفما ولا أصابكما أحداث دهركما ... ولا طوى لكما ما عشتما علما ولا انمحت عنك يا مولاي عافية ... فقد محوت بما أوليتني العدما وكان الناس يفتون بكتابه في الفقه، ودرّس فيه الفقهاء بجامع مصر، وأجرى العزيز بالله لجماعة فقهاء يحضرون مجلس الوزير أرزاقا في كلّ شهر تكفيهم، وكان للوزير مجلس في داره للنظر في رقاع المرافعين والمتظلّمين، ويوقع بيده في الرقاع، ويخاطب الخصوم بنفسه. وأراد العزيز بالله أن يسافر إلى الشام في زمن ابتداء الفاكهة، فأمر الوزير أن يأخذ الأهبة لذلك فقال: يا مولاي؛ لكلّ سفر أهبة على مقداره، فما الغرض من السفر؟ فقال: إنّي أريد التفرّج بدمشق لأكل القراصيا «1» . فقال: السمع والطاعة. وخرج فاستدعى جميع أرباب الحمام وسألهم عمّا بدمشق من طيور مصر، وأسماء من هي عنده، وكانت مائة ونيّفا وعشرين طائرا، ثمّ التمس من طيور دمشق التي هي في مصر عدّة، فأحضرها وكتب إلى نائبه بدمشق يقول: إنّ بدمشق كذا وكذا طائرا، وعرّفه أسماء من هي عنده، وأمره بإحضارها إليه جميعها، وأن يصيب من القراصيا في كلّ كاغدة «2» ، ويشدّها على كلّ طائر منها ويسرّحها في يوم واحد، فلم يمض إلا ثلاثة أيّام أو أربعة حتّى وصلت الحمائم كلّها ولم يتأخر منها إلا نحو عشر، وعلى جناحها القراصيا، فاستخرجها من الكواغد، وعملها في طبق من ذهب، وغطّاها وبعث بها إلى العزيز بالله مع خادم، وركب إليه وقدّم ذلك وقال: يا أمير المؤمنين قد حضّرنا قبالك القراصيا ههنا، فإن أغناك هذا القدر وإلا استدعينا شيئا آخر، فعجب العزيز بالوزير وقال: مثلك يخدم الملوك يا وزير؛ واتفق أنه سابق العزيز بين الطيور، فسبق طائر الوزير يعقوب طائر العزيز، فشقّ ذلك على العزيز، ووجد أعداء الوزير سبيلا إلى الطعن فيه، فكتبوا إلى العزيز أنه قد اختار من كلّ صنف أعلاه ولم يترك لأمير المؤمنين إلا أدناه حتّى الحمام، فبلغ ذلك الوزير فكتب إلى العزيز: قل لأمير المؤمنين الذي ... له العلى والمثل الثاقب طائرك السابق لكنّه ... لم يأت إلّا وله حاجب فأعجب العزيز ذلك وأعرض عما وشي به، ولم يزل على حال رفيعة وكلمة نافذة إلى أن ابتدأت به علّته يوم الأحد الحادي والعشرين من شوّال سنة ثمانين وثلثمائة، ونزل إليه العزيز بالله يعوده، وقال له: وددت أنّك تباع فابتاعك بمالي أو تفدى فأفديك بولدي، فهل من حاجة توصي بها يا يعقوب؟ فبكى وقبّل يده وقال: أمّا فيما يخصّني فأنت

أرعى «1» بحقّي من أن أسترعيك إياه وأرأف على من أن أوصيك به، ولكنّي أنصح لك فيما يتعلّق بك وبدولتك سالم الروم «2» ما سالموك، واقنع من الحمدانية بالدعوة والشكر «3» ، ولا تبق على مفرج بن دعقل «4» إن عرضت لك فيه فرصة. وانصرف العزيز فأخذته السكتة، وكان في سياق الموت يقول: لا يغلب الله غالب، ثمّ قضى نحبه ليلة الأحد لخمس خلون من ذي الحجّة، فأرسل العزيز بالله إلى داره الكفن والحنوط، وتولّى غسله القاضي محمد بن النعمان وقال: كنت والله اغسل لحيته وأنا أرفق به خوفا أن يفتح عينه في وجهي. وكفّن في خمسين ثوبا، ثلاثين مثقلا، يعني: منسوجا بالذهب، ووشي مذهبا، وشرب ديبقي مذهبا، وحقّة كافورا، وقارورتي مسك وخمسين منا ماء ورد؛ وبلغت قيمة الكفن والحنوط عشرة آلاف «5» دينار. وخرج مختار الصقلبيّ وعليّ بن عمر العدّاس والرجال بين أيديهم ينادون لا يتكلّم أحد ولا ينطق، وقد اجتمع الناس فيما بين القصر ودار الوزير التي عرفت بدار الديباج، ثمّ خرج العزيز من القصر على بغلة والناس يمشون بين يديه وخلفه بغير مظلّة والحزن ظاهر عليه حتّى وصل إلى داره، فنزل وصلّى عليه، وقد طرح على تابوته ثوب مثقل، ووقف حتّى دفن بالقبّة التي كان بناها وهو يبكي، ثمّ انصرف. وسمع العزيز وهو يقول: واطول أسفي عليك يا وزير، والله لو قدرت أفديك بجميع ما أملك لفعلت. وأمر بإجراء غلمانه على عادتهم، وعتق جميع مماليكه، وأقام ثلاثا لا يأكل على مائدته ولا يحضرها من عادته الحضور، وعمل على قبره ثوبان مثقلان، وأقام الناس عند قبره شهرا، وغدا الشعراء إلى قبره، فرثاه مائة شاعر أجيزوا كلّهم، وبلغ العزيز أنّ عليه ستّة عشر ألف دينار دينا، فأرسل بها إلى قبره فوضعت عليه وفرّقت على أرباب الديون، وألزم القرّاء بالمقام على قبره، وأجرى عليهم الطعام، وكانت الموائد تحضر إلى قبره كلّ يوم مدّة شهر، يحضر نساء الخاصّة كلّ يوم ومعهنّ نساء العامّة، فتقوم الجواري بأقداح الفضّة والبلّور وملاعق الفضّة فيسقين النساء الأشربة والسويق «6» بالسكّر، ولم تتأخّر نائحة ولا لاعبة عن حضور القبر مدّة الشهر، وخلّف أملاكا وضياعا قياسير «7» ورباعا وعينا وورقا وأواني ذهبا وفضّة وجوهرا وعنبرا وطيبا وثيابا وفرشا ومصاحف وكتبا وجواري وعبيدا وخيلا وبغالا ونوقا وحمرا وإبلا

وغلالا وخزائن ما بين أشربة وأطعمة قوّمت بأربعة آلاف ألف دينار سوى ما جهّز به ابنته وهو ما قيمته مائتا ألف دينار، وخلّف ثمانمائة حظيّة سوى جواري الخدمة، فلم يتعرّض العزيز لشيء ممّا يملكه أهله وجواريه وغلمانه، وأمر بحفظ جهاز ابنته إلى أن زوّجها وأجرى لمن في داره كلّ شهر ستمائة دينار للنفقة سوى الكسوة والجرايات وما يحمل إليهم من الأطعمة من القصر، وأمر بنقل ما خلّفه إلى القصر، فلمّا تمّ له من يوم وفاته شهر قطع الأمير منصور بن العزيز جميع مستغلّاته، وأقرّ العزيز جميع ما فعله الوزير وما ولّاه من العمّال على حاله، وأجرى الرسوم التي كان يجريها، وأقرّ غلمانه على حالهم وقال: هؤلاء صنائعي. وكانت عدّة غلمان الوزير أربعة آلاف غلام عرفوا بالطائفة الوزيريّة، وزاد العزيز أرزاقهم عمّا كانت عليه، وأدناهم، وإليهم تنسب الوزيريّة، فإنّها كانت مساكنهم. واتّفق أنّ الوزير عمّر قبّة أنفق عليها خمسة عشر ألف دينار، وآخر ما قال: لقد طال أمر هذه القبّة، ما هذه قبّة، هذه تربة. فكانت كذلك، ودفن تحتها، وموضع قبره اليوم المدرسة الصاحبيّة، واتّفق أنّه وجد في داره رقعة مكتوب فيها: احذروا من حوادث الأزمان ... وتوقّوا طوارق الحدثان قد أمنتم ريب الزمان ونمتم ... ربّ خوف مكمن في الأمان فلمّا قرأها قال: لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، ولم يلبث بعدها إلا أياما يسيرة، ومرض فمات. حارة الباطلية: عرفت بطائفة يقال لهم الباطلية، قال ابن عبد الظاهر: وكان المعزّ لما قسم العطاء في الناس جاءت طائفة فسألت عطاء فقيل لها: افرغ ما كان حاضرا، ولم يبق شيء؛ فقالوا: رحنا نحن في الباطل، فسمّوا الباطليّة، وعرفت هذه الحارة بهم. وفي سنة ثلاث وستّين وستّمائة احترقت حارة الباطليّة عند ما كثر الحريق في القاهرة ومصر، واتّهم النصارى بفعل ذلك، فجمعهم الملك الظاهر بيبرس، وحملت لهم الأحطاب الكثيرة والحلفاء، وقدّموا ليحرقوا بالنار، فتشفّع لهم الأمير فارس الدين أقطاي أتابك «1» العساكر على أن يلتزموا بالأموال التي احترقت وأن يحملوا إلى بيت المال خمسين ألف دينار فتركوا. وجرى في ذلك ما تستحسن حكايته، وهو أنّه قد جمع مع النصارى سائر اليهود، وركب السلطان ليحرقهم بظاهر القاهرة، وقد اجتمع الناس من كلّ مكان للتشفّي بحريقهم لما نالهم من البلاء فيما دهوا به من حريق الأماكن لا سيّما الباطليّة، فإنّها أتت النار عليها حتّى حرقت بأسرها. فلمّا حضر السلطان وقدم اليهود والنصارى ليحرقوا برز ابن الكازروني اليهوديّ- وكان صيرفيا- وقال للسلطان: سألتك بالله لا تحرقنا مع هؤلاء الكلاب الملاعين

أعدائنا وأعدائكم، احرقنا ناحية وحدنا؛ فضحك السلطان والأمراء، وحينئذ تقرّر الأمر على ما ذكر، فندب لاستخراج المال منهم الأمير سيف الدين بلبان المهراني، فاستخلص بعض ذلك في عدّة سنين، وتطاول الحال، فدخل كتّاب الأمراء مع مخادعيهم وتحيّلوا في إبطال ما بقي، فبطل في أيام السعيد «1» بن الظاهر. وكان سبب فعل النصارى لهذا الحريق حنقهم لمّا أخذ الظاهر من الفرنج أرسوف وقيسارية وطرابلس ويافا وأنطاكية. وما زالت الباطلية خرابا، والناس تضرب بحريقها المثل لمن يشرب الماء كثيرا فيقولون: كأنّ في باطنه حريق الباطليّة. ولما عمر الطواشي بهادر المقدّم داره بالباطليّة عمر فيها مواضع بعد سنة خمس وثمانين وسبعمائة. حارة الروم: قال ابن عبد الظاهر: واختطّت الروم حارتين: حارة الروم الآن وحارة الروم الجوّانية، فلمّا ثقل ذلك عليهم قالوا: الجوّانية لا غير. والورّاقون إلى هذا الوقت يكتبون حارة الروم السفلى وحارة الروم العليا المعروفة اليوم بالجوّانية. وفي سابع عشر ذي الحجّة سنة تسع وتسعين وثلثمائة أمر الخليفة الحاكم بأمر الله بهدم حارة الروم فهدمت ونهبت. حارة الديلم: عرفت بذلك لنزول الديلم الواصلين مع هفتكين «2» الشرابي حين قدم ومعه أولاد مولاه معزّ الدولة البويهي وجماعة من الدّيلم والأتراك في سنة ثمان وستّين وثلثمائة، فسكنوا بها فعرفت بهم. وهفتكين هذا يقال له الفتكين أبو منصور التركيّ الشرابيّ غلام معزّ الدولة أحمد بن بويه. ترقّى في الخدم حتّى غلب في بغداد على عزّ الدولة مختار بن معزّ الدولة، وكان فيه شجاعة وثبات في الحرب. فلمّا سارت الأتراك من بغداد لحرب الديلم جرى بينهم قتال عظيم اشتهر فيه هفتكين إلّا أنّ أصحابه انهزموا عنه وصار في طائفة قليلة، فولّى بمن معه من الأتراك وهم نحو الأربعمائة، فسار إلى الرحبة «3» وأخذ منها على البرّ إلى أن قرب من حوشبة إحدى قرى الشام، وقد وقع في قلوب العربان منه مهابة، فخرج إليه ظالم بن مرهوب «4» العقيلي من بعلبك، وبعث إلى أبي محمود إبراهيم بن جعفر أمير «5» دمشق من قبل الخليفة المعزّ لدين الله يعلمه بقدومه هفتكين من بغداد لإقامة الخطبة العباسيّة، وخوّفه منه، فأنفذ إليه عسكرا وسار إلى ناحية حوشبة يريد هفتكين، وسار بشارة الخادم من قبل أبي المعالي بن حمدان عونا لهفتكين فردّ ظالم إلى بعلبك من غير حرب، وسار بشارة بهفتكين إلى حمص، فحمل إليه أبو المعالي وتلقّاه وأكرمه. وكان قد ثار

بدمشق جماعة من أهل الدّعارة والفساد وحاربوا عمّال السلطان واشتدّ أمرهم، وكان كبيرهم يعرف بابن الماورد، فلمّا بلغهم خبر هفتكين بعثوا إليه من دمشق إلى حمص يستدعونه، ووعدوه بالقيام معه على عساكر المعزّ وإخراجهم من دمشق ليلي عليهم، فوقع ذلك منه بالموافقة، وسار حتّى نزل بثنية العقاب «1» لأيام بقيت من شعبان سنة أربع وستّين وثلثمائة فبلغ عسكر المعزّ خبر الفرنج وأنّهم قد قصدوا طرابلس، فساروا بأجمعهم إلى لقاء العدوّ، ونزل هفتكين على دمشق من غير حرب، فأقام أياما ثم سار يريد محاربة ظالم، ففرّ منه، ودخل هفتكين بعلبكّ، فطرقه العدوّ من الروم والفرنج وانتهبوا بعلبك وأحرقوا، وذلك في شهر رمضان، وانتشروا في أعمال بعلبك والبقاع يقتلون ويأسرون ويحرقون، وقصدوا دمشق وقد التحق بها هفتكين، فخرج إليهم أهل دمشق وسألوهم الكفّ عن البلد، والتزموا بمال، فخرج إليهم هفتكين وأهدى إليهم، وتكلّم معهم في أنه لا يستطيع جباية المال لقوّة ابن الماورد وأصحابه، وأمر ملك الروم به، فقبض عليه وقيّده، وعاد فجبى المال من دمشق بالعنف، وحمل إلى ملك الروم ثلاثين ألف دينار، ورحل إلى بيروت ثمّ إلى طرابلس، فتمكن هفتكين من دمشق، وأقام بها الدعوة لأبي بكر عبد الكريم الطائع بن المطيع العباسيّ، وسيّر إلى العرب السرايا، فظفرت وعادت إليه بعده بمن أسرته من رجال العرب فقتلهم صبرا. وكان قد تخوّف من المعزّ، فكاتب «2» القرامطة يستدعيهم من الأحساء للقدوم عليه لمحاربة عساكر المعزّ، وما زال بهم حتّى وافوا دمشق في سنة خمس وستّين، ونزلوا على ظاهرها ومعهم كثير من أصحاب هفتكين الذين كانوا قد تشتتوا في البلاد، فقوي بهم، ولقي القرامطة «3» ، وحمل إليهم وسرّ بهم، فأقاموا على دمشق أياما، ثمّ رحلوا نحو الرّملة وبها أبو محمود فلحق بيافا، ونزل القرامطة الرملة ونصبوا القتال على يافا حتّى كلّ الفريقان وسئموا جميعا من طول الحرب، وسار هفتكين على الساحل ونزل صيدا، وبها ظالم بن مرهوب العقيليّ وابن الشيخ من قبل المعزّ، فقاتلهم قتالا شديدا انهزم منه ظالم إلى صور، وقتل بين الفريقين نحو أربعة آلاف رجل، فقطع أيدي القتلى من عسكر المعزّ وسيّرها إلى دمشق، فطيف بها، ثمّ سار عن صيدا يريد عكّا وبها عسكر المعزّ، وكان قد مات المعزّ في ربيع الآخر سنة 365 هـ، وقام من بعده ابنه العزيز بالله، وسيّر جوهرا القائد في عسكر عظيم إلى قتال هفتكين والقرامطة، فبلغ ذلك القرامطة وهم على الرملة ووصل الخبر بمسيره إلى هفتكين وهو على عكّا، فخاف القرامطة وفرّوا عنها، فنزلها جوهر، وسار من القرامطة إلى

الأحساء التي هي بلادهم جماعة وتأخّر عدّة، وسار هفتكين من عكّا إلى طبريّة وقد علم بمسير القرامطة وتأخّر بعضهم، فاجتمع بهم في طبرية واستعدّ للقاء جوهر، وجمع الأقوات من بلاد حوران والثنية، وأدخلها إلى دمشق وسار إليها، فتحصن بها، ونزل جوهر على ظاهر دمشق لثمان بقين من ذي القعدة فبنى على معسكره سورا، وحفر خندقا عظيما، وجعل له أبوابا، وجمع هفتكين الناس للقتال. وكان قد بقي بعد ابن الماورد رجل يعرف بقسّام التراب، وصار في عدّة وافرة من الدعّار، فأعانه هفتكين وقوّاه وأمدّه بالسلاح وغيره، ووقعت بينهم وبين جوهر حروب عظيمة طويلة إلى يوم الحادي عشر من ربيع الأوّل سنة ستّ وستين وثلاثمائة، فاختلّ أمر هفتكين وهمّ بالفرار، ثمّ إنه استظهر ووردت الأخبار بقدوم الحسن بن أحمد القرمطيّ إلى دمشق، فطلب جوهر الصلح «1» على أن يرحل عن دمشق من غير أن يتبعه أحد، وذلك أنه رأى أمواله قد قلّت وهلك كثير ممّا كان في عسكره حتّى صار أكثر عسكره رجّالة وأعوزهم العلف، وخشي قدوم القرامطة، فأجابه هفتكين، وقد عظم فرحه واشتدّ سروره، فرحل في ثالث جمادى الأولى وجدّ في المسير وقد قرب القرامطة؛ فأناخ بطبريّة، فبلغ ذلك القرمطي فقصده، وقد سار عنها إلى الرملة فبعث إليه بسرية كانت لها مع جوهر وقعة قتل فيها جماعة من العرب، وأدركه القرمطي، وسار في أثره هفتكين فمات الحسن بن أحمد القرمطي بالرملة، وقام من بعده بأمر القرامطة ابن عمّه جعفر، ففسد ما بينه وبين هفتكين، ورجع عن الرملة إلى الأحساء، وناصب هفتكين القتال، وألح فيه على جوهر حتّى انهزم عنه وسار إلى عسقلان وقد غنم هفتكين ممّا كان معه شيئا يجلّ عن الوصف، ونزل على البلد محاصرا لها. وبلغ ذلك العزيز، فاستعدّ للمسير إلى بلاد الشام، فلما طال الأمر على جوهر راسل هفتكين حتّى يقرّر الصلح على مال يحمله إليه وأن يخرج من تحت سيف هفتكين، فعلق سيفه على باب عسقلان، وخرج جوهر ومن معه من تحته وساروا إلى القاهرة، فوجد العزيز قد برز يريد المسير، فسار معه، وكان مدّة قتال هفتكين لجوهر على ظاهر الرملة وفي عسقلان سبعة عشر شهرا. وسار العزيز بالله حتّى نزل الرملة، وكان هفتكين بطبريّة، فسار إلى لقاء العزيز ومعه أبو إسحاق وأبو طاهر أخو عز الدولة ابن بختيار بن أحمد بن بويه وأبو اللحاد مر زبان «2» عز الدولة ابن بختيار بن عز الدولة ابن بويه، فحاربوه، فلم يكن غير ساعة حتّى هزمت عساكر العزيز عساكر هفتكين وملكوه في يوم الخميس لسبع بقين من المحرّم سنة ثمان وستّين وثلثمائة، واستأمن أبو إسحاق ومرزبان بن بختيار وقتل أبو طاهر أخو عز الدولة ابن بختيار، وأخذ أكثر أصحابه أسرى، وطلب هفتكين في القتلى فلم يوجد.

وكان قد فرّ وقت الهزيمة على فرس بمفرده، فأخذه بعض العرب أسيرا، فقدم به على مفرّج «1» بن دعقل بن الجراح الطائيّ وعمامته في عنقه، فبعث به إلى العزيز، فأمر به فشهر في العسكر، وطيف به على جمل، فأخذ الناس يلطمونه ويهزّون لحيته حتى رأى في نفسه العبر، ثم سار العزيز بهفتكين والأسرى إلى القاهرة، فاصطنعه ومن معه، وأحسن إليه غاية الإحسان، وأنزله في دار وواصله بالعطاء والخلع حتّى قال: لقد احتشمت من ركوبي مع مولانا العزيز بالله وتطوّفي إليه بما غمرني من فضله وإحسانه. فلما بلغ ذلك العزيز قال لعمه حيدرة: يا عمّ؛ والله إني أحبّ أن أرى النعم عند الناس ظاهرة، وأرى عليهم الذهب والفضة والجوهر ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار، وأن يكون ذلك كلّه من عندي. وبلغ العزيز أنّ الناس من العامّة يقولون: ما هذا التركيّ؟ فأمر به فشهّر في أجمل حال، ولمّا رجع من تطوّفه وهب له مالا جزيلا، وخلع عليه وأمر سائر الأولياء بأن يدعوه إلى دورهم، فما منهم إلا من عمل له دعوة، وقدم إليه وقاد بين يديه الخيول، ثمّ إن العزيز قال له بعد ذلك: كيف رأيت دعوات أصحابنا؟ فقال: يا مولانا، حسنة في الغاية وما فيهم إلا من أنعم وأكرم. فصار يركب للصيد والتفرّج، وجمع إليه العزيز بالله أصحابه من الأتراك والديلم، واستحجبه واختصّ به، وما زال على ذلك إلى أن توفّي في سنة اثنين وسبعين وثلثمائة، فاتّهم العزيز وزيره يعقوب بن كلّس أنه سمّه لأنّ هفتكين كان يترفّع عليه، فاعتقله مدّة ثمّ أخرجه. حارة الأتراك: هذه الحارة تجاه الجامع الأزهر، وتعرف اليوم بدرب الأتراك، وكان نافذا إلى حارة الديلم، والورّاقون القدماء تارة يفردونها من حارة الديلم، وتارة يضيفونها اليها ويجعلونها من حقوقها، فيقولون تارة: حارة الديلم والأتراك، وتارة يقولون: حارتي الديلم والأتراك، وقيل لها حارة الأتراك لأنّ هفتكين لما غلب ببغداد سار معه من جنسه أربعمائة من الأتراك، وتلاحق به عند ورود القرامطة عليه بدمشق عدّة من أصحابه، فلما جمع لحرب العزيز بالله كان أصحابه ما بين ترك وديلم، فلما قبض عليه العزيز ودخل به إلى القاهرة في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وستّين وثلثمائة كما تقدّم نزل الديلم مع أصحابهم في موضع حارة الديلم، ونزل هفتكين بأتراكه في هذا المكان، فصار يعرف بحارة الأتراك. وكانت مختلطة بحارة الديلم لأنهما أهل دعوة واحدة، إلا أنّ كلّ جنس على حدة لتخالفهما في الجنسيّة ثم قيل بعد ذلك درب الأتراك.

ذكر أبي عبد الله الشيعي

حارة كتامة «1» : هذه الحارة مجاورة لحارة الباطليّة، وقد صارت الآن من جملتها. كانت منازل كتامة بها عند ما قدموا من المغرب مع القائد جوهر، ثمّ مع العزيز، وموضع هذه الحارة اليوم حمام كواي وما جاورها مما وراء مدرسة ابن الغنام حيث الموضع المعروف بدرب ابن الأعسر إلى رأس الباطلية، وكانت كتامة هي أصل دولة الخلفاء الفاطميين. ذكر أبي عبد الله الشيعي هو الحسن «2» بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي من أهل صنعاء اليمن، ولي الحسبة في بعض أعمال بغداد، ثمّ سار إلى ابن حوشب «3» باليمن، وصار من كبار أصحابه، وكان له علم وفهم وعنده دهاء ومكر، فورد على ابن حوشب موت الحلوانيّ داعي المغرب ورفيقه، فقال لأبي عبد الله الشيعي: إنّ أرض كتامة من بلاد المغرب قد خرّبها الحلوانيّ وأبو سفيان، وقد ماتا، وليس لها غيرك؛ فبادر فإنّها موطّأة ممهّدة لك. فخرج من اليمن إلى مكّة، وقد زوّده ابن حوشب بمال، فسأل عن حجّاج كتامة فأرشد إليهم واجتمع بهم، وأخفى عنهم قصده، وذلك أنه جلس قريبا منهم فسمعهم يتحدّثون بفضائل آل البيت فحدّثهم في ذلك وأطال، ثمّ نهض ليقوم فسألوه أن يأذن لهم في زيارته فأذن لهم، فصاروا يتردّدون إليه لما رأوا من علمه وعقله، ثمّ إنهم سألوه أين يقصد؟ فقال: أريد مصر، فسرّوا بصحبته، ورحلوا من مكّة وهو لا يخبرهم شيئا من خبره وما هو عليه من القصد. وشاهدوا منه عبادة وورعا وتحرّجا وزهادة، فقويت رغبتهم فيه واشتملوا على محبّته واجتمعوا على اعتقاده، وساروا بأسرهم خدما له. وهو في أثناء ذلك يستخبرهم عن بلادهم ويعلم أحوالهم ويفحص عن قبائلهم وكيف طاعتهم للسلطان بإفريقية، فقالوا له: ليس له علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيام، قال: أفتحملون السلاح؟ قالوا: هو شغلنا. وما برح حتّى عرف جميع ما هم عليه. فلمّا وصلوا إلى مصر أخذ يودّعهم، فشقّ عليهم فراقه وسألوه عن حاجته بمصر فقال: ما لي بها من حاجة، إلا أنّي أطلب التعليم بها. قالوا: فأمّا إذا كنت تقصد هذا فإنّ بلادنا أنفع لك وأطوع لأمرك، ونحن أعرف بحقّك؛ وما زالوا به حتّى أجابهم إلى المسير معهم، فساروا به إلى أن قاربوا بلادهم، وخرج إلى لقائهم أصحابهم، وكان عندهم حسّ كبير من التشيّع واعتقاد عظيم في محبّة أهل البيت كما قرّره الحلوانيّ، فعرّفهم القوم خبر

أبي عبد الله، فقاموا بحقّ تعظيمه وإجلاله، ورغبوا في نزوله عندهم، واقترعوا فيمن يضيفه، ثمّ ارتحلوا إلى أرض كتامة فوصلوا إليها منتصف الربيع الأوّل سنة ثمان «1» وثمانين ومائتين، فما منهم إلا من سأله أن يكون منزله عنده، فلم «2» يوافق أحدا منهم وقال: أين يكون فجّ الأخبار؟ فعجبوا من ذلك ولم يكونوا قطّ ذكروه له منذ صحبوه «3» فدلّوه عليه، فقصده وقال: إذا حللنا به صرنا نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم؛ فرضوا جميعا بذلك. وسار إلى جيل ايلحان «4» وفيه فج الأخيار، فقال هذا فج الأخيار وما سمّي إلا بكم، ولقد جاء في الآثار «5» للمهديّ هجرة ينبو بها عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان، قوم اسمهم مشتقّ من الكتمان، ولخروجكم في هذا الفجّ سمّي فجّ الأخيار، فتسامعت به القبائل وأتته البربر من كلّ مكان، وعظم أمره حتى أنّ كتامة اقتتلت عليه مع قبائل البربر، وهو لا يذكر اسم المهدي ولا يعرّج عليه، فبلغ خبره إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية، فقال أبو عبد الله لكتامة: أنا صاحب النذر «6» الذي قال لكم أبو سفيان والحلوانيّ، فازدادت محبّتهم له وعظم أمره فيهم، وأتته القبائل من كلّ مكان، وسار إلى مدينة تاصروق «7» ، وجمع الخيل وصيّر أمرها للحسن بن هارون كبير كتامة، وخرج للحرب فظفر وغنم، وعمل على تاصروق خندقا، فرجعت إليه قبائل من البربر وحاربوه فظفر بهم، وصارت إليه أموالهم، ووالى الغزو فيهم حتّى استقام له أمرهم، فسار وأخذ مدائن «8» عدّة، فبعث إليه ابن الأغلب بعساكر كانت له معهم حروب عظيمة وخطوب عديدة وأنباء كثيرة آلت إلى غلب أبي عبد الله وانتشار أصحابه من كتامة في البلاد، فصار يقول: المهديّ يخرج في هذه الأيام ويملك الأرض، فيا طوبى لمن هاجر إليّ وأطاعني. وأخذ يغري الناس بابن الأغلب «9» ، ويذكر كرامات المهدي وما يفتح الله له، ويعدهم بأنّهم يملكون الأرض كلّها. وسير إلى عبيد الله بن محمد «10» رجالا من كتامة ليخبروه بما فتح الله له وأنه ينتظره، فوافوا عبيد الله بسلمية من أرض حمص، وكان قد اشتهر بها وطلبه الخليفة المكتفي، ففرّ

منه بابنه أبي القاسم وسار إلى مصر، وكان لهما قصص مع النوشزيّ «1» عامل مصر حتّى خلصا منه ولحقا ببلاد المغرب. وبلغ ابن الأغلب زيادة الله خبره مسير عبيد الله، فأزكى له العيون وأقام له الأعوان حتّى قبض عليه بسلجماسة، وكان عليها اليسع بن مدرار، وحبس بها هو وابنه أبو القاسم. وبلغ ذلك أبا عبد الله وقد عظم أمره، فسار وضايق زيادة الله بن الأغلب، وأخذ مدائنه شيئا بعد شيء، وصار فيما ينيف على مائتي ألف، وألحّ على القيروان حتّى فرّ زيادة الله إلى مصر، وملكها أبو عبد الله، ثم سار إلى رفادة فدخلها أوّل رجب سنة ست وتسعين ومائتين، وفرّق الدور على كتامة وبعث العمال إلى البلاد، وجمع الأموال ولم يخطب باسم أحد. فلما دخل شهر رمضان سار من رفّادة «2» فاهتزّ لرحيله المغرب بأسره وخافته زنانة وغيرها، وبعثوا إليه بطاعتهم، وسار إلى سلجماسة «3» ، ففرّ منه اليسع بن مدرار واليها، ودخل البلد فأخرج عبيد الله وابنه من السجن وقال: هذا المهديّ الذي كنت أدعوكم إليه. وأركبه هو وابنه ومشى بسائر رؤساء القبائل بين أيديهما وهو يقول: هذا مولاكم ويبكي من شدّة الفرح حتى وصل إلى فسطاط «4» ضرب له، فأنزل فيه وبعث في طلب اليسع فأدركه، وحمل إليه فضربه بالسياط وقتله، ثمّ سار المهدي إلى رفادة فصار بها في آخر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين. ولما تمكّن قتل أبا عبد الله وأخاه في يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين، فكان هذا ابتداء أمر الخلفاء الفاطميين، وما زالت كتامة هي أهل الدولة مدّة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة معدّ المعز لدين الله ابن المنصور، وبهم أخذ ديار مصر لما سيّرهم إليها مع القائد جوهر «5» في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وهم أيضا كانوا أكابر من قدم معه من الغرب في سنة اثنين وستّين وثلثمائة. فلما كان في أيّام ولده العزيز «6» بالله نزار اصطنع الدّيلم والأتراك، وقدّمهم وجعلهم خاصّته، فتنافسوا وصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز «7» بالله، وقام من بعده أبو عليّ المنصور الملقّب بالحاكم بأمر الله، فقدّم

ابن عمار «1» الكتامي وولّاه الوساطة وهي في معنى رتبة الوزارة، فاستبدّ بأمور الدولة وقدّم كتامة وأعطاهم، وحطّ من الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز، فاجتمعوا إلى برجوان «2» وكان صقلبيا وقد تاقت نفسه إلى الولاية فأغرى المصطنعة بابن عمّار حتّى وضعوا منه، واعتزل عن الأمر، وتقلّد برجوان الوساطة، فاستخدم الغلمان المصطنعين في القصر، وزاد في عطاياهم وقوّاهم، ثمّ قتل الحاكم ابن عمّار وكثيرا من رجال دولة أبيه وجدّه، فضعفت كتامة وقويت الغلمان. فلما مات الحاكم «3» وقام من بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله علي، أكثر من اللهو ومال إلى الأتراك والمشارقة، فانحطّ جانب كتامة، وما زال ينقص قدرهم ويتلاشى أمرهم حتّى ملك المستنصر «4» بعد أبيه الظاهر، فاستكثرت أمّه من العبيد حتّى يقال إنهم بلغوا نحوا من خمسين ألف أسود، واستكثر هو من الأتراك، وتنافس كلّ منهما مع الآخر فكانت الحرب التي آلت إلى خراب مصر وزوال بهجتها إلى أن قدم «5» أمير الجيوش بدر الجمالي «6» من عكّا وقتل رجال الدولة وأقام له جندا وعسكرا من الأرمن، فصار من حينئذ معظم الجيش الأرمن، وذهبت كتامة وصاروا من جملة الرعيّة بعد ما كانوا وجوه الدولة وأكابر أهلها. حارة الصالحية: عرفت بغلمان الصالح طلائع «7» بن رزبك، وهي موضعان: الصالحيّة الكبرى والصالحيّة الصغرى، وموضعهما فيما بين المشهد الحسيني ورحبة الأيدمري وبين البرقيّة، وكانت من الحارات العظيمة، وقد خربت الآن وباقيها متداع إلى الخراب. قال ابن عبد الظاهر: الحارة الصالحية منسوبة إلى الصالح طلائع بن رزيك، لأنّ غلمانه كانوا يسكنونها، وهي مكانان، وللصالح دار بحارة الديلم كانت سكنه قبل الوزارة، وهي باقية إلى الآن وبها بعض ذرّيته، والمكان المعروف بخوخة الصالح نسبة إليه. حارة البرقية: هذه الحارة عرفت بطائفة من طوائف العسكر في الدولة الفاطمية، يقال

ذكر الأمراء البرقية ووزارة ضرغام

لها الطائفة البرقية، ذكرها المسبّحي «1» . قال ابن عبد الظاهر: ولما نزل بالقاهرة- يعني المعزّ لدين الله- اختطّت كلّ طائفة خطة عرفت بها، قال: واختطت جماعة من أهل برقة الحارة المعروفة بالبرقية، انتهى. وإلى هذه الحارة تنسب الأمراء البرقية. ذكر الأمراء البرقيّة ووزارة ضرغام وذلك أنّ الصالح طلائع بن رزيك كان قد أنشأ في وزارته أمراء يقال لهم البرقيّة، وجعل ضرغاما مقدّمهم، فترقّى حتّى صار صاحب الباب، وطمع في شاور السعدي لما ولي الوزارة بعد رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، فجمع رفقته وتخوّف شاور منه، وصار العسكر فرقتين: فرقة مع ضرغام وفرقة مع شاور. فلمّا كان بعد تسعة أشهر من وزارة شاور ثار ضرغام في رمضان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وصاح على شاور فأخرجه من القاهرة، وقتل ولده الأكبر المسمّى بطيّئ، وبقي شجاع المنعوت بالكامل، وخرج شاور من القاهرة يريد الشام كما فعل الوزير رضوان بن ولخشي فإنه كان رفيقا له في تلك الكرّة، واستقرّ ضرغام في وزارة «2» الخليفة العاضد لدين الله بعد شاور، وتلقّب بالملك المنصور، فشكر الناس سيرته، فإنه كان فارس عصره، وكان كاتبا جميل الصورة فكه المحاضرة عاقلا كريما لا يضع كرمه إلا في سمعة ترفعه أو مداراة تنفعه إلا أنه كان أذنا مستحيلا على أصحابه، وإذا ظنّ في أحد شرّا جعل الشكّ يقينا، وعجّل له العقوبة. وغلب عليه مع ذلك في وزارته أخواه ناصر الدين همام وفخر الدين حسام، وأخذ يتنكّر لرفقته البرقيّة الذين قاموا بنصرته وأعانوه على إخراج شاور وتقليده للوزارة من أجل أنه بلغه عنهم أنّهم يحسدونه ويضعون منه، وأنّ منهم من كاتب شاور وحثّه على القدوم إلى القاهرة ووعده بالمعاونة له، فأظلم الجوّ بينه وبينهم، وتجرّد للإيقاع بهم على عادته في أسرع العقوبة، وأحضرهم إليه في دار الوزارة ليلا وقتلهم بالسيف صبرا وهم: صبح بن شاهنشاه، والطهر مرتفع المعروف بالجلواص، وعين الزمان، وعلي بن الزبد، وأسد الفازي وأقاربهم وهم نحو من سبعين أميرا سوى اتباعهم، فذهبت لذلك رجال الدولة واختلّت أحوالها وضعفت بذهاب أكابرها وفقد أصحاب الرأي والتدبير، وقصد الفرنج ديار مصر فخرج إليهم همام أخو ضرغام، وانهزم منهم، وقتل منهم عدّة، ونزلوا على حصن بلبيس «3» ، وملكوا بعض السور، ثمّ ساروا وعاد همام عودا رديئا، فبعث به ضرغام إلى الإسكندرية وبها الأمير مرتفع الجلواص، فأخذه العرب وقاده همام إلى أخيه، فضرب عنقه وصلبه على باب زويلة، فما هو إلا أن قدم رسل الفرنج على ضرغام في طلب مال الهدنة المقرّر في كلّ سنة- وهو ثلاثة

وثلاثون ألف دينار- وإذا بالخبر قد ورد بقدوم شاور من الشام ومعه أسد الدين شير كوه في كثير من الغزّ، فأزعجه ذلك، وأصبح الناس يوم التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وخمسمائة خائفين على أنفسهم وأموالهم، فجمعوا الأقوات والماء وتحوّلوا من مساكنهم، وخرج همام بالعسكر أوّل يوم من جمادى الآخرة، فسار إلى بلبيس وكانت له وقعة مع شاور انهزم فيها، وصار إلى شاور وأصحابه جميع ما كان مع عسكر همام، وأسروا عدّة، ونزل شاور بمن معه إلى التاج ظاهر القاهرة في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، فجمع ضرغام الناس، وضمّ إليه الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية بداخل القاهرة، وشاور مقيم بالتاج مدّة أيام- وطوالعه من العربان- فطارد عسكر ضرغام بأرض الطبّالة خارج القاهرة، ثمّ سار شاور ونزل بالمقس، فخرج إليه عسكر ضرغام، وحاربوه فانهزم هزيمة قبيحة، وسار إلى بركة الحبش، ونزل بالشرف الذي يعرف اليوم بالرصد، وملك مدينة مصر، وأقام بها أياما، فأخذ ضرغام مال الأيتام الذي كان بمودع الحكم، فكرهه الناس واستعجزوه، ومالوا مع شاور، فتنكّر منهم ضرغام وتحدّث بإيقاع العقوبة بهم فزاد بغضهم له، ونزل شاور في أرض اللوق خارج باب زويلة، وطارد رجال ضرغام وقد خلت المنصورة والهلالية، وثبت أهل اليانسية بها، وزحف إلى باب سعادة وباب القنطرة، وطرح النار في اللؤلؤة وما حولها من الدور، وعظمت الحروب بينه وبين أصحاب ضرغام، وفني كثير من الطائفة الريحانية، فبعثوا إلى شاور ووعدوه بأنّهم عون له، فانحلّ أمر ضرغام، فأرسل العاضد إلى الرماة يأمرهم بالكفّ عن الرمي، فخرج الرجال إلى شاور وصاروا من جملته وفترت همة أهل القاهرة، وأخذ كلّ منهم يعمل الحيلة في الخروج إلى شاور، فأمر ضرغام بضرب الأبواق لتجتمع الناس فضربت الأبواق والطبول ما شاء الله من فوق الأسوار فلم يخرج إليه أحد، وانفكّ عنه الناس، فسار إلى باب الذهب «1» من أبواب القصر ومعه خمسمائة فارس، فوقف وطلب من الخليفة أن يشرف عليه من الطاق، وتضرّع إليه وأقسم عليه بآبائه فلم يجبه أحد، واستمرّ واقفا إلى العصر والناس تنحلّ عنه حتّى بقي في نحو ثلاثين فارسا، فوردت عليه رقعة فيها خذ نفسك وانج بها، وإذا بالأبواق والطبول قد دخلت من باب القنطرة «2» ومعها عساكر شاور، فمرّ ضرغام إلى باب زويلة، فصاح الناس عليه ولعنوه، وتخطّفوا من معه، وأدركه القوم فأردوه عن فرسه قريبا من الجسر الأعظم فيما بين القاهرة ومصر «3» ، واحتزوا رأسه في سلخ جمادى الآخرة، وفرّ منهم أخوه إلى جهة المطريّة

فأدركه الطلب «1» ، وقتل عند مسجد تبر خارج القاهرة، وقتل أخوه الآخر عند بركة الفيل، فصار حينئذ ضرغام ملقى يومين، ثمّ حمل إلى القرافة ودفن بها، وكانت وزارته تسعة أشهر، وكان من أجلّ أعيان الأمراء وأشجع فرسانهم وأجودهم لعبا بالكرة وأشدّهم رميا بالسهام، ويكتب مع ذلك كتابة ابن مقلة وينظم الموشّحات الجيدة، ولمّا جيء برأسه إلى شاور رفع إلى قفاه وطيف به، فقال الفقيه عمارة: أرى جنك «2» الوزارة صار سيفا ... يحزّ بحدّه جيد الرقاب كأنّك رائد البلوى وإلا ... بشير بالمنيّة والمصاب فكان كما قال عمارة فإن البلايا والمنايا من حينئذ تتابعت على دولة الخلفاء الفاطميين حتّى لم يبق منهم عين تطرف ولله عاقبة الأمور. حارة العطوفية: هذه الحارة تنسب إلى طائفة من طوائف العسكر يقال لها العطوفية، وقال ابن عبد الظاهر: العطوفية منسوبة لعطوف أحد خدّام القصر وهو عطوف غلام الطويلة، وكان قد خدم ستّ الملك أخت الحاكم، قال: وسكنت- يعني الطائفة الجيوشية- بحارة العطوفية بالقاهرة، ولله درّ الأديب إبراهيم المعمار إذ يقول مواليا يشتمل على ذكر حارات بالقاهرة وفيها تورية: في الجودرية رأيت صورة هلالية ... للباطليّة تميل لا للعطوفيّة لها من اللؤلؤة ثغرين منشيّه ... إن حرّكوا وجهها بنت الحسينيّة وكانت العطوفية من أجلّ مساكن القاهرة، وفيها من الدور العظيمة والحمامات والأسواق والمساجد ما لا يدخل تحت حصر، وقد خربت كلّها وبيعت أنقاضها وبيوتها ومنازلها، وأضحت أوحش من وتدعير في قاع. وعطوف هذا كان خادما أسود قتله الحاكم بجماعة من الأتراك وقفوا له في دهليز القصر واحتزّوا رأسه في يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من صفر سنة إحدى وأربعمائة قاله المسبّحي. حارة الجوّانية «3» : كان يقال لهذه الحارة أوّلا حارة الروم «4» الجوّانية، ثمّ ثقل على الألسنة ذلك فقال الناس الجوانية، وكان أيضا يقال لها حارة الروم العليا المعروفة بالجوّانية. وقال المسبّحي: وقد ذكر ما كتبه أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الأمانات في

سنة خمس وتسعين وثلثمائة فذكر أنه كتب أمانا للعرافة الجوّانية، فدلّ أنّه كان من جملة الطوائف «1» قوم يعرفون بالجوّانية، قال ابن عبد الظاهر: قال لي مؤلّفه القاضي زين الدين وفقه الله: إن الجوّانية منسوبة للأشراف الجوّانيين منهم الشريف النسابة الجوّاني. قال مؤلّفه رحمه الله: فعلى هذا يكون بفتح الجيم، فإن الجوّاني بفتح الجيم وتشديد الواو وفتحها وبعد الواو ألف ساكنة ثمّ نون نسبة إلى جوّان- على وزن حرّان- وهي قرية من عمل مدينة طيبة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وعلى القول الأوّل تكون الجوّانية بفتح الجيم أيضا مع فتح الواو وتشديدها، فإن أهل مصر يقولون: لما خرج عن المدينة أو الدار برّا، ولمّا دخل جوّا بضم الجيم- وهو خطأ- ولهذا كان الورّاقون يكتبون حارة الروم البرّانية لأنها من خارج القصر، ويكتبون حارة الروم الجوّانية لأنّها من داخل القاهرة، ولا يصار إليها إلا بعد المرور على القصر. وكان موضعها إذ ذاك من وراء القصر خلف دار الوزارة والحجر «2» ، فكأنها في داخل البلد، ولذلك أصل. قال ابن سيده في مادة (ج و) من كتاب المحكم: وجوّا البيت داخله، لفظة شاميّة، فتعيّن فتح الجيم من الجوّانية ولا عبرة بما تقوله العامّة من ضمّها. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّاني ابن الحسن بن محمد الجواني ابن عبيد الله الجواني بن حسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقيل لمحمد بن عبد الله الجوّانيّ بسبب ضيعة من ضياع المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام يقال لها الجوّانية، وكانت تسمّى البصرة الصغرى لخيراتها وغلالها، لا يطلب شيء إلا وجد بها، وهي قريبة من صرار «3» ضيعة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الرضى. وكانت الجوّانية ضيعة لعبيد الله، فتوفي عنها فورثها بعده ولده وأزواجه، فاشترى محمد الجوّانيّ ولده بما حصل له بالميراث الباقي من الورثة، فحصلت له كاملة، فعرف بها فقيل: الجوّاني. قال: ولم تزل أجداد مؤلّفه ببغداد إلى حين قدوم ولده أسعد النحويّ مع أبيه من بغداد إلى مصر، ومولده بالموصل في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. حارة البستان: ويقال لها حارة بستان المصموديّ وحارة الأكراد أيضا، وهي الآن من جملة الوزيرية التي تقدّم ذكرها. حارة المرتاحية: هذه الحارة عرفت بالطائفة المرتاحية إحدى طوائف العسكر. قال ابن عبد الظاهر: خطّ باب القنطرة يعرف في كتب الأملاك القديمة بالمرتاحية. حارة الفرحية: بالحاء المهملة كانت سكن الطائفة الفرحية، وهي بجوار حارة

المرتاحية، فإلى يومنا هذا فيما بين سويقة أمير الجيوش وباب القنطرة زقاق يعرف بدرب الفرحية، والفرحية كانت طائفة من جملة عبيد الشراء، وكانت عبيد الشراء عدّة طوائف وهم: الفرحية والحسينية والميمونية ينسبون إلى ميمون وهو أحد الخدّام. حارة فرج بالجيم: كانت تعرف قديما بدرب النميري، ثمّ عرفت بالأمير جمال الدين فرج من أمراء بني أيوب. وهي الآن داخلة في درب الطفل من خط قصر الشوك. حارة قائد القوّاد: هذه الحارة تعرف الآن بدرب ملوخيا «1» ، وكانت أوّلا تعرف بحارة قائد القوّاد، لأن حسين بن جوهر الملقّب قائد القوّاد كان يسكن بها فعرفت به. وهو حسين بن القائد جوهر أبو عبد الله الملقّب بقائد القوّاد. لما مات أبوه جوهر القائد خلع العزيز بالله عليه وجعله في رتبة أبيه ولقّبه بالقائد بن القائد، ولم يتعرّض لشيء مما تركه جوهر، فلمّا مات العزيز وقام من بعده ابنه الحاكم استدناه ثم إنه قلّده البريد والإنشاء في شوّال سنة ستّ وثمانين وثلثمائة، وخلع عليه وحمله على فرس بموكب، وقاد بين يديه عدّة أفراس، وحمل معه ثيابا كثيرة. فاستخلف أبا منصور بشر بن عبيد الله بن سورين الكاتب النصرانيّ على كتابة الإنشاء، واستخلف على أخذ رقاع الناس وتوقيعاتهم أمير الدولة الموصلي. ولما تقلّد برجوان النظر في تدبير الأمور وجلس للوساطة بعد ابن عمّار. كان الكافة يلقونه في داره ويركبون جميعا بين يديه من داره إلى القصر ما خلا القائد الحسين ومحمد بن النعمان القاضي، فإنهما كانا يسلّمان عليه بالقصر فقط. فلما قتل الحاكم الأستاذ «2» برجوان كما تقدّم خلع على القائد حسين لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة تسعين وثلثمائة ثوبا أحمر وعمامة زرقاء مذهّبة، وقلّده سيفا محلّى بذهب، وحمله على فرس بسرج ولجام من ذهب، وقاد بين يديه ثلاثة أفراس بمراكبها، وحمل معه خمسين ثوبا صحاحا من كلّ نوع، وردّ إليه التوقيعات والنظر في أمور الناس وتدبير المملكة كما كان برجوان، ولم يطلق عليه اسم وزير، فكان يبكّر إلى القصر ومعه خليفته الرئيس أبو العلاء فهد بن إبراهيم النصراني- كاتب برجوان- فينظران في الأمور ثمّ يدخلان وينهيان الحال إلى الخليفة، فيكون القائد جالسا وفهد من خلفه قائما. ومنع القائد الناس أن يلقوه في الطريق أو يركبوا إليه في داره وأنّ من كان له حاجة فليبلغه إياها بالقصر، ومنع الناس من مخاطبته في الرقاع بسيدنا، وأمر أن لا يخاطب ولا يكاتب إلا بالقائد فقط، وتشدّد في ذلك لخوفه من غيرة الحاكم، حتّى أنّه رأى جماعة من القوّاد الأتراك قياما على الطريق ينتظرونه، فأمسك عنان فرسه ووقف وقال لهم: كلّنا عبيد مولانا صلوات الله عليه

ومماليكه، ولست والله أبرح من موضعي أو تنصرفوا عنّي ولا يلقاني أحد إلا في القصر، فانصرفوا وأقام بعد ذلك خدما من الصقالبة «1» الطرّادين على الطريق بالنوبة لمنع الناس المجيء إلى داره ومن لقائه إلا في القصر، وأمر أبا الفتوح مسعود الصقلبي صاحب الستر «2» أن يوصل الناس بأسرهم إلى الحاكم وأن لا يمنع أحدا عنه. فلمّا كان في سابع عشر جمادى الآخرة قرىء سجل على سائر المنابر بتلقيب القائد حسين بقائد القوّاد وخلع عليه، وما زال إلى يوم الجمعة سابع شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، فاجتمع سائر أهل الدولة في القصر بعد ما طلبوا، وخرج الأمر إليهم أن لا يقام لأحد، وخرج خادم من عند الخليفة فأسرّ إلى صاحب الستر كلاما، فصاح: صالح بن عليّ، فقام صالح بن عليّ الرودباذي متقلّد ديوان الشام، فأخذ صاحب الستر بيده وهو لا يعلم هو ولا أحد ما يراد به، فأدخل إلى بيت المال وأخرج وعليه درّاعة مصمتة وعمامة مذهّبة ومعه مسعود، فأجلسه بحضرة قائد القوّاد، وأخرج سجلا قرأه ابن عبد السميع الخطيب، فإذا فيه ردّ سائر الأمور التي ينظر فيها قائد القوّاد حسين بن جوهر إليه. فعند ما سمع من السجل ذكره قام وقبّل الأرض. فلما انتهت قراءة السجلّ قام قائد القوّاد وقبّل خدّ صالح وهنأه. وانصرف، فكان يركب إلى القصر ويحضر الأسمطة «3» إلى اليوم الثالث من شوّال أمره الحاكم أن يلزم داره هو وصهره قاضي القضاة عبد العزيز بن النعمان وأن لا يركباهما وسائر أولادهما، فلبسا الصوف، ومنع الناس من الاجتماع بهما، وصاروا يجلسون على حصر. فلمّا كان في تاسع عشر ذي القعدة عفا عنهما الحاكم، وأذن لهما في الركوب، فركبا إلى القصر بزيّهما من غير حلق شعر ولا تغيير حال الحزن، فلمّا كان في حادي عشر جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة قبض على عبد العزيز بن النعمان، وطلب حسين بن جوهر ففرّ هو وابنه في جماعة، وكثر الصياح بدار عبد العزيز، وغلقت حوانيت القاهرة وأسواقها، فأفرج عنه ونودي أن لا يغلق أحد فردّ حسين بعد ثلاثة أيام بابنيه، وتمثلوا «4» بحضرة الحاكم، فعفا عنهم وأمرهم بالمسير إلى دورهم بعد أن خلع على حسين وعلى صهره عبد العزيز وعلى أولادهما، وكتب لهما أمانان، ثمّ أعيد عبد العزيز في شهر رمضان إلى ما كان يتقلّده من النظر في المظالم، ثم ردّ الحاكم في شهر ربيع الأوّل سنة أربعمائة على حسين بن جوهر وأولاده وصهره عبد العزيز ما كان لهم من الإقطاعات وقرىء لهم سجل بذلك.

فلمّا كان ليلة التاسع من ذي القعدة فرّ حسين بأولاده وصهره وجميع أموالهم وسلاحهم، فسيّر الحاكم الخيل في طلبهم نحو دجوة «1» فلم يدركهم وأوقع الحوطة على سائر دورهم، وجعلت للديوان المفرد، وهو ديوان أحدثه الحاكم يتعلّق بما يقبض من أموال من يسخط عليه، وحمل سائر ما وجد لهم بعد ما ضبط، وخرجت العساكر في طلب حسين ومن معه، وأشيع أنّه قد صار إلى بني قرّة بالبحيرة، فأنفدت إليه الكتب بتأمينه واستدعائه إلى الحضور، فأعاد الجواب بأنه لا يدخل ما دام أبو نصر ابن عبدون النصرانيّ الملقّب بالكافي ينظر في الوساطة ويوقّع عن الخليفة، فإنّي أحسنت إليه أيام نظري فسعى بي إلى أمير المؤمنين ونال منّي كلّ منال، ولا أعود أبدا وهو وزير. فصرف ابن عبدون في رابع المحرّم سنة إحدى وأربعمائة، وقدم حسين بن جوهر ومعه عبد العزيز بن النعمان وسائر من خرج معهما، فخرج جميع أهل الدولة إلى لقائه وتلقّته الخلع فأفيضت عليه وعلى أولاده وصهره، وقيّد بين أيديهم الدواب، فلمّا وصلوا إلى باب القاهرة ترجّلوا ومشوا ومشى الناس بأسرهم إلى القصر فصاروا بحضرة الحاكم، ثمّ خرجوا وقد عفا عنهم، وأذن لحسين أن يكاتب بقائد القوّاد ويكون اسمه تاليا للقبه، وأن يخاطب بذلك. وانصرف إلى داره فكان يوما عظيما، وحمل إليه جميع ما قبض له من مال وعقار وغيره، وأنعم عليه وواصل الركوب هو وعبد العزيز بن النعمان إلى القصر، ثم قبض عليه وعلى عبد العزيز واعتقلا ثلاثة أيام، ثمّ حلفا أنّهما لا يغيبان عن الحضرة، وأشهدا على أنفسهما بذلك، وأفرج عنهما، وحلف لهما الحاكم في أمان كتبه لهما. فلما كان في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة ركب حسين وعبد العزيز على رسمهما إلى القصر، فلمّا خرج للسلام على الناس قيل للحسين وعبد العزيز وأبي علي أخي الفضل: اجلسوا لأمر تريده الحضرة منكم، فجلس الثلاثة، وانصرف الناس فقبض عليهم وقتلوا «2» في وقت واحد، وأحيط بأموالهم وضياعهم ودورهم، وأخذت الأمانات والسجلات التي كتبت لهم. واستدعي أولاد عبد العزيز «3» بن النعمان وأولاد حسين «4» بن جوهر ووعدوا بالجميل وخلع عليهم، وجملوا والله يفعل ما يشاء.

حارة الأمراء: ويقال لها أيضا حارة الأمراء الأشراف الأقارب، وموضعها يعرف بدرب شمس «1» الدولة، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. حارة الطوارق: ويقال لها أيضا حارة صبيان الطوارق، وهم من جملة طوائف العسكر، كانوا معدّين لحمل الطوارق. وموضع هذه الحارة في طريق من سلك من الرقيق سوق الخلعيين داخل باب زويلة طالبا الباطلية بالزقاق الطويل الضيّق الذي يقال له اليوم حلق الجمل السالك إلى درب أرقطاي. حارة الشرابية: عرفت بذلك لأنّها كانت موضع سكن الغلمان الشرابية إحدى طوائف العسكر، وكانت فيما بين الباطلية وحارة الطوارق. حارة الدميري وحارة الشاميين: هما من جملة العطوفية «2» . حارة المهاجرين: وموضعها الآن من جملة المكان الذي يعرف بالرقيق المعدّ لسوق الخلعيين بجوار باب زويلة، وكان بعد ذلك سوق الخشّابين، ثمّ هو الآن سوق الخلعيين. وموضع هذه الحارة بجوار الخوخة «3» التي كانت تعرف بالشيخ السعيد بن فشيرة النصرانيّ الكاتب. وهي الخوخة التي يسلك إليها من الزقاق المقابل لحمام الفاضل المعدّ لدخول النساء، ويتوصل منها إلى درب كوز الزير بحارة الروم، وقد صارت هذه الحارة تعرف بدرب ابن المجندار، وسيأتي ذكره إن شاء الله. حارة العدوية: قال ابن عبد الظاهر: العدوية هي من باب الخشيبة إلى أوّل حارة زويلة عند حمّام الحسام الجلدكي الآن منسوبة لجماعة عدويين نزلوا هناك، وهذا المكان اليوم هو عبارة عن الموضع الذي تلقاه عند خروجك من زقاق حمّام خشيبة الذي يتوصّل إليه من سوق باب الزهومة، فإذا انتهيت إلى آخر هذا الزقاق وأخذت على يمينك صرت في حارة العدويّة. وموضعها الآن من فندق بلال المغيثي إلى باب سر المارستان، وتدخل في العدوية رحبة بيبرس التي فيها الآن فندق الرخام، عن يمينك إذا خرجت في الرحبة المذكورة التي صارت الآن دربا إلى باب سرّ المارستان وما عن يسارك إلى حمّام الكريك وحمام الجوينيّ الذي تقول له العامّة الجهينيّ، وإلى سوق الزجاجيين. وكلّ هذه المواضع هي من حقوق العدويّة وكانت العدويّة قديما واقعة فيما بين الميدان الذي يعرف اليوم بالخرشتف «4» وحارة

زويلة وبين سقيفة العداس والصاغة القديمة التي صار موضعها الآن سوق الحريريين الشرابشيين برأس الوراقين وسوق الزجاجيين. حارة العيدانية: كانت تعرف أوّلا بحارة البديعيين، ثم قيل لها بعد ذلك الحبّانية من أجل البستان الذي يعرف بالحبانية الجاري في وقف الخانقاه الصلاحية «1» سعيد السعداء، ويتوصّل إلى هذه الحارة من تجاه قنطرة آق سنقر، وبعض دورها الآن يشرف على بستان الحبانية، وبعضها يطل على بركة الفيل. حارة الحمزيين: كانت أوّلا تعرف بالحبانية، ثمّ قيل لها حارة الحمزيين من أجل أن جماعة من الحمزيين نزلوا بها، منهم الحاج يوسف بن فاتن الحمزي، والحمزيون أيضا ينسبون إلى حمزة بن أدركة «2» الساري، خرج بخراسان في أيام هارون بن محمد الرشيد، فعاث وأفسد وفضّ جموع عيسى بن عليّ عامل خراسان، وقتل منهم خلقا، وانهزم عيسى إلى بابل، ثمّ غرق حمزة بواد في كرمان، فعرفت طائفته بالحمزية. وأخوه ضرغام بن فاتن بن ساعد الحمزيّ والحاج عوني الطحان ابن يونس بن فاتن الحمزي ورضوان بن يوسف بن فاتن الحمزيّ الحمامي وأخوه سالم بن يوسف بن فاتن الحمزيّ، وكان هؤلاء بعد سنة ستّمائة، وهذه الحارة خارج باب زويلة. ومن بلاد أفريقية قرية يقال لها حمزي ينسب إليها محمد بن حمد بن خلف القيسيّ الحمزيّ من أهل القرية وقاضيها، توفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، ولا يبعد أن تكون هذه الحارة نسبت إلى أهل قرية حمزة هذه لنزولهم بها كنزول بني سوس وكتامة وغيرهم في المواضع التي نسبت إليهم. حارة بني سوس: عرفت بطائفة من المصامدة يقال لهم بنو سوس كانوا يسكنون بها. حارة اليانسية: تعرف بطائفة من طوائف العسكر يقال لها اليانسية منسوبة لخادم خصيّ من خدّام العزيز بالله يقال له أبو الحسن يأنس الصقليّ، خلفه على القاهرة، فلما مات العزيز أقرّه ابنه الحاكم بأمر الله على خلافة القصور، وخلع عليه وحمله على فرسين، فلمّا كان في المحرم سنة ثمان وثمانين وثلثمائة سار لولاية برقة «3» بعد ما خلع عليه وأعطي خمسة آلاف دينار وعدّة من الخيل والثياب. قال ابن عبد الظاهر: اليانسية خارج باب زويلة أظنها منسوبة ليأنس وزير الحافظ لدين الله الملقب بأمير الجيوش سيف الإسلام ويعرف بيانس «4» الفاصد،

ذكر وزارة أبي الفتح ناصر الجيوش يأنس الأرمني

وكان أرمنيّ الجنس، وسمّي الفاصد لأنه فصد الأمير حسن بن الحافظ وتركه محلولا فصاده حتّى مات. وله خبر غريب في وفاته، كان الحافظ قد نقم عليه أشياء طلب قتله بها باطنا فقال لطبيبه: اكفني أمره بمأكل أو مشرب، فأبى الطبيب ذلك خوفا أن يصير عند الحافظ بهذه العين وربما قتله بها، والحافظ يحثّه على ذلك فاتّفق ليانس الوزير المذكور أنه مرض بزحير «1» ، وإن الحافظ خاطب الطبيب بذلك فقال: يا مولاي، قد أمكنتك الفرصة وبلغت مقصودك، ولو أنّ مولانا عادة في هذه المرضة اكتسب حسن أحدوثة، وهذه المرضة ليس دواؤه منها إلّا الدعة والسكون، ولا شيء أضرّ عليه من الانزعاج والحركة، فبمجرّد ما سمع بقصد مولانا له تحرّك واهتمّ بلقاء مولانا وانزعج، وفي ذلك تلاف نفسه. ففعل الخليفة ذلك وأطال الجلوس عنده فمات «2» . وهذا الخبر فيه أوهام منها أنه جعل اليانسية منسوبة ليانس الوزير، وقد كانت اليانسية قبل يانس هذا بمدّة طويلة، ومنها أنه ادّعى أن حسن بن الحافظ مات من فصادة، وليس كذلك، وإنما مات مسموما، ومنها أنه زعم أن يأنس تولّى فصده وليس كذلك، بل الذي تولى قتله بالسم أبو سعيد ابن فرقة، ومنها أن الذي نقم عليه الحافظ من الأمراء فخانه في ابنه حسن إنما هو الأمير المعظّم جلال الدين محمد المعروف بجلب راغب، وهذا نص الخبر فنزه بالك، والله تعالى أعلم. ذكر وزارة أبي الفتح ناصر الجيوش يأنس الأرمني وكان من خبر ذلك أن الخليفة الآمر بأحكام الله أبا عليّ منصورا لما قتله النزارية «3» في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة أقام هزبر الملوك جوامرد «4» العادل برغش الأمير أبا الميمون عبد المجيد في الخلافة كفيلا للحمل الذي تركه الآمر، ولقّب بالحافظ لدين الله، ولبس هزبر الملوك خلع الوزارة، فثار الجند وأقاموا أبا عليّ أحمد الملقّب بكتيفات ولدا لأفضل ابن أمير الجيوش في الوزارة، وقتل هزبر الملوك واستولى كتيفات على الآمر، وقبض على الحافظ وسجنه بالقصر مقيّدا إلى أن قتل كتيفات في المحرّم سنة ستّ وعشرين وخمسمائة. وبادر صبيان الخاص الذين تولّوا قتله إلى القصر، ودخلوا ومعهم الأمير يأنس متولّي الباب إلى الخزانة التي فيها الحافظ، وأخرجوه إلى الشبّاك وأجلسوه في منصب الخلافة وقالوا له: والله ما حرّكنا على هذا إلا الأمير يأنس، فجازاه الحافظ بأن فوّض إليه الوزارة في الحال، وخلع عليه فباشرها مباشرة جيّدة. وكان عاقلا مهابا متمسّكا

ذكر الأمير حسن بن الخليفة الحافظ

متحفّظا لقوانين الدولة، فلم يحدث شيئا ولا خرج عمّا يعيّنه الخليفة له إلا أنه بلغه عن أستاذ من خواصّ الخليفة شيء يكرهه فقبض عليه من القصر من غير مشاورة الخليفة، وضرب عنقه بخزانة «1» البنود، فاستوحش منه الخليفة وخشي من زيادة معناه. وكانت هذه الفعلة غلطة منه، ثمّ إنه خاف من صبيان الخاصّ أن يفتكوا به كما فتكوا بكتيفات، فتنكّر لهم، وتخوّفوه أيضا، فركب في خاصّته وأركب العسكر، وركب صبيان الخاص، فكانت بينهما وقعة قبالة باب التبّانين بين القصرين، قوي فيها يأنس، وقتل من صبيان الخاصّ ما يزيد على ثلثمائة رجل من أعيانهم، فيهم قتلة أبي عليّ كتيفات، وكانوا نحو الخمسمائة فارس، فانكسرت شوكتهم وضعف جانبهم، واشتدّ بأس يأنس وعظم شأنه، فثقل على الخليفة. وتحيّل منه فأحسّ بذلك، فأخذ كلّ منهما في التدبير على الآخر، فأعجل يأنس وقبض على حاشية الخليفة، ومنهم قاضي القضاة وداعي الدعاة أبو الفخر وأبو الفتح بن قادوس وقتلهما، فاشتدّ ذلك على الحافظ، ودعا طبيبه وقال: اكفني أمر يأنس! فيقال أنّه سمّه في ماء المستراح فانفتح دبره واتّسع حتّى ما بقي يقدر على الجلوس، فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين قد أمكنتك الفرصة وبلغت مقصودك، فلو أنّ مولانا عاده في هذه المرضة اكتسب حسن الأحدوثة، فإنّ هذا المرض ليس له دواء إلا الدّعة والسكون، ولا شيء عليه أضرّ من الحركة والانزعاج، وهو إذا سمع بقصد مولانا له تحرّك واهتمّ للقاء وانزعج، وفي ذلك تلاف نفسه. فنهض لعيادته، وعند ما بلغ ذلك يأنس قام ليلقاه ونزل عن الفراش وجلس بين يدي الخليفة، فأطال الخليفة جلوسه عنده وهو يحادثه، فلم يقم حتّى سقطت أمعاء يأنس، ومات من ليلته في سادس عشري ذي الحجة سنة ستّ وعشرين وخمسمائة، وكانت وزارته تسعة أشهر وأياما، وترك ولدين كفلهما الحافظ وأحسن إليهما. وكان يأنس هذا مولى أرمنيّا لباديس جدّ عبّاس الوزير، فأهداه إلى الأفضل بن أمير الجيوش، وترقّى في خدمته إلى أن تأمّر، ثمّ ولي الباب وهي أعظم رتب الأمراء، وكنّي بأبي الفتح، ولقّب بالأمير السعيد، ثم لمّا ولي الوزارة نعت بناصر الجيوش سيف الإسلام، وكان عظيم الهمّة بعيد الغور كثير الشرّ شديد الهيبة «2» . ذكر الأمير حسن بن الخليفة الحافظ ولمّا مات الوزير يأنس تولّى الخليفة الحافظ الأمور بنفسه، ولم يستوزر أحدا، وأحسن السيرة. فلمّا كان في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة عهد إلى ولده سليمان، وكان أسنّ أولاده وأحبّهم إليه، وأقامه مقام الوزير، فمات بعد شهرين من ولاية العهد، فجعل مكانه أخاه حيدرة في ولاية العهد، ونصّبه للنظر في المظالم، فشق ذلك على أخيه الأمير

حسن- وكان كثير المال متّسع الحال له عدّة بلاد ومواشي وحاشية وديوان» مفرد- فسعى في نقض ذلك بأن أوقع الفتنة بين الطائفة الجيوشية والطائفة الريحانية، وكانت الريحانية قويّة الشوكة مهابة مخوفة الجانب، فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين، وصاح الجند: يا حسن يا منصور، يا للحسينية؛ والتقى الفريقان فقتل بينهما ما يزيد على خمسة آلاف نفس، فكانت هذه الوقعة أوّل مصائب الدولة الفاطمية من فقد رجالها ونقص عساكرها، فلم يبق من الطائفة الريحانية إلا من نجا بنفسه من ناحية المقس «2» ، وألقى نفسه في بحر النيل. واستظهر الأمير حسن وقام بالأمر، وانضمّ إليه أوباش الناس ودعّارهم، ففرّق فيهم الزرد وسمّاهم صبيان الزرد، وجعلهم خاصّته، فاحتفوا به وصاروا لا يفارقونه، فإن ركب أحاطوا به، وإن نزل لازموا داره، فقامت قيامة الناس منهم. وشرع في تتبّع الأكابر، فقبض على ابن العسّاف وقتله، وقصد أباه الخليفة الحافظ وأخاه حيدرة بالضرر حتّى خافا منه وتغيّبا، فجدّ في طلب أخيه حيدرة، وهتك بأوباشه الذين اختارهم حرمة القصر، وخرق ناموسه، وسلّطهم يفتّشون القصر في طلب الخليفة الحافظ وابنه حيدرة، واشتدّ بأسهم، وحسّنوا له كلّ رذيلة، وجرّوه على الأذى، فلم يجد الحافظ بدّا من مداراة حسن وتلافي أمره عساه ينصلح، وكتب سجلا بولايته العهد وأرسله إليه فقرىء على الناس، فما زاده ذلك إلا جرأة عليه وإفسادا له، وشدّد في التضييق على أبيه وأخذ بأنفاسه. فبعث حينئذ الخليفة بالأستاذ ابن إسعاف إلى بلاد الصعيد ليجمع من يقدر عليه من الريحانيّة، فمضى واستصرخ الناس لنصرة الخليفة على ولده حسن، وجمع أمما لا يحصيها إلا الله، وسار بهم، فبلغ ذلك حسنا فزجّ عسكر اللقاء إسعاف، فالتقيا وكانت بينهما وقعة هبّت فيها ريح سوداء على عسكر إسعاف حتّى هزمتهم، وركبهم عسكر حسن فلم ينج منهم إلا القليل، وغرق أكثرهم في البحر وأخذ إسعاف أسيرا، فحمل إلى القاهرة على جمل وفي رأسه طرطور «3» لبد أحمر. فلمّا وصل بين القصرين رشق بالنشّاب حتّى هلك، ورمي من القصر الغربي بأستاذ آخر، فقتل، وقتل الأمير شرف الدين. فاشتدّ ذلك على الحافظ وخاف على نفسه؛ فكتب ورقة- وكاد ابنه بأن ألقى إليه تلك الورقة- وفيها: يا ولدي؛ أنت على كلّ حال ولدي، ولو عمل كلّ منّا لصاحبه ما يكره الآخر ما أراد أن يصيبه مكروه، ولا يحملني قلبي، وقد انتهى الأمر إلى أمراء الدولة وهم فلان وفلان، وقد شدّدت وطأتك عليهم وخافوك وهم معوّلون على قتلك، فخذ حذرك يا ولدي. فعند ما وقف حسن على الورقة غضب ولم يتأنّ، وبعث إلى أولئك، فلمّا صاروا إليه

أمر صبيان الزرد بقتلهم، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا عدّة من أعيان الأمراء، وأحاط بدورهم وأخذ سائر ما فيها، فاشتدّت المصيبة وعظمت الرزيّة، وتخوّف من بقي من الجند ونفروا منه، فإنّه كان جريئا مفسدا شديد الفحص عن أحوال الناس والاستقصاء لأخبارهم يريد إقلاب الدولة وتغييرها ليقدّم أوباشه، وأكثر من مصادرة الناس، وقتل قاضي القضاة أبا الثريّا نجم لأنه كان من خواصّ أبيه، وقتل جماعة من الأعيان، وردّ القضاء لابن ميسّر، وتفاقم أمره وعظم خطبه واشتدّت الوحشة بينه وبين الأمراء والأجناد، وهمّوا بخلع الحافظ ومحاربة ابنه حسن، وصاروا يدا واحدة، واجتمعوا بين القصرين وهم عشرة آلاف ما بين فارس وراجل، وسيّروا إلى الحافظ يشكون ما هم فيه من البلاء مع ابنه حسن ويطلبون منه أن يزيله من ولاية العهد، فعجز حسن عن مقاومتهم، فإنه لم يبق معه سوى الراجل من الطائفة الجيوشية ومن يقول بقولهم من الغزّ الغرباء، فتحيّر وخاف على نفسه، فالتجأ إلى القصر وصار إلى أبيه الحافظ، فما هو إلا أن تمكّن منه أبوه، فقبض عليه وقيّده وبعث إلى الأمراء يخبرهم بذلك، فأجمعوا على قتله، فردّ عليهم أنه قد صرفه عنهم ولا يمكّنه أبدا من التصرّف، ووعدهم بالزيادة في الأرزاق والإقطاعات وأن يكفّوا عن طلب قتله، فألحّوا في قتله وقالوا: إمّا نحن «1» وإمّا هو. اشتدّ طلبهم إياه حتّى أحضروا الأحطاب والنيران ليحرقوا القصر، وبالغوا في التجرّؤ على الخليفة فلم يجد بدّا من إجابتهم إلى قتله، وسألهم أن يمهلوه ثلاثا، فأناخوا بين القصرين، وأقاموا على حالهم حتّى تنقضي الثلاث، فما وسع الحافظ إلا أن استدعى طبيبيه وهما أبو منصور اليهوديّ وابن قرقة «2» النصرانيّ، وبدأ بأبي منصور وفاوضه في عمله سقية قاتله، فامتنع من ذلك وحلف بالتوراة أنه لا يعرف عمل شيء من ذلك، فتركه وأحضر ابن قرقة وكلّمه في هذا فقال: الساعة، ولا يتقطّع منها جسده، بل تفيض النفس لا غير. فأحضر السقية من يومه، فبعثها إلى حسن مع عدّة من الصقالبة، وما زالوا يكرهونه على شربها حتّى فعل، ومات في العشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، فبعث الحافظ إلى القوم سرّا يقول: قد كان ما أردتم، فامضوا إلى دوركم؛ فقالوا: لا بدّ أن يشاهده منّا من نثق به، وندبوا منهم أميرا معروفا بالجرأة والشرّ يقال له المعظّم جلال الدين محمد، ويعرف بجلب راغب الآمري، فدخل إلى القصر وصار جنب حسن، فإذا به قد سجّي بثوب، فكشف عن وجهه وأخرج من وسطه آلة من حديد، وغرزه بها في عدّة مواضع من بدنه إلى أن تيقّن أنه قد مات، وعاد إلى القوم وأخبرهم، فتفرّقوا.

وعند ما سكنت الدهماء حقد الحافظ لابن قرفة وقتله بخزانة البنود، وأنعم بجميع ما كان له على أبي منصور اليهودي، وجعله رئيس الأطباء، فهذا ما كان من خبر يأنس وكيفيّة موته وخبر حسن والخبر عن قتله. حارة المنتجبية: قال ابن عبد الظاهر: بلغني أنّ رجلا كان يتحجّب لشمس الدين قاضي زادة كان يقول: إنّ هذه الخطّة «1» منسوبة لجدّة منتجب الدولة. الحارة المنصورية: هذه الحارة كانت كبيرة متسعة جدا فيها عدّة مساكن السودان، فلمّا كانت واقعتهم في ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة كما تقدّم في ذكر حارة بهاء الدين، أمر صلاح الدين يوسف بن أيّوب بتخريب المنصورة هذه، وتعفية أثرها، فخرّبها خطلبا بن موسى الملقّب صارم الدين، وعملها بستانا. وكان للسودان بديار مصر شوكة وقوّة، فتبعهم صلاح الدين ببلاد الصعيد حتّى أفناهم بعد أن كان لهم بديار مصر في كلّ قرية ومحلّة وضيعة مكان مفرد لا يدخله وال ولا غيره احتراما لهم. وقد كانوا يزيدون على خمسين ألفا، وإذا ثاروا على وزير قتلوه، وكان الضرر بهم عظيما لامتداد أيديهم إلى أموال الناس وأهاليهم، فلمّا كثر بغيهم وزاد تعدّيهم أهلكهم الله بذنوبهم، وفي واقعة السودان وتخريب المنصورة وقتل مؤتمن الخلافة الذي تقدّم ذكره يقول العماد «2» الأصفهاني الكاتب يخاطب بهاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب: بالملك الناصر استنارت ... في عصرنا أوجه الفضائل يوسف مصر الذي إليه ... تشدّ آمالنا الرواحل رأيك في الدهر عن رزايا ... جلى مهماته الجلائل أجريت نيلين في ثراها ... نيل نجيع ونيل نائل كم كرم من نداك جار ... وكم دم من عداك سائل وكم معاد بلا معاد ... ومستطيل بغير طائل وحاسد كاسد المساعي ... وسائد نافق الوسائل أقررت عين الإسلام حتّى ... لم يبق فيها قذى لباطل وكيف يزهى بملك مصر ... من يستقلّ ذنبا لنائل وما نفيت السودان حتّى ... حكمت البيض في المقاتل صيّرت رحب الفضا مضيقا ... عليهم كفّة لجائل

وكلّ رأي منهم كرا ... وأرض مصر كلام واصل وقد خلت منهم المغاني ... وأقفرت منهم المنازل وما أصيبوا إلا بطلّ ... فكيف لو أمطروا بوابل؟ وقد تجلّى بالحقّ ما بال ... باطل في مصر كان عاجل والسود بالبيض قد تنحّوا ... فهي بواديهم نوازل مؤتمن القوم خان حتّى ... غالته من شرّه الغوائل عاملكم بالخنا «1» فأضحى ... ورأسه فوق رأس عامل «2» وحالف الذلّ بعد عزّ ... والدهر أحواله حوائل يا مخجل البحر بالأيادي ... قد آن أن تفتح السواحل نقدّس القدس من خباث ... أرجاس كفر غتم أراذل «3» وكان موضع المنصور على يمنة من سلك في الشارع خارج باب زويلة. قال ابن عبد الظاهر: كانت للسودان حارة تعرف بهم تسمّى المنصورة خرّبها صلاح الدين، وأخذها خطلبا، فعمرها بستانا وحوضا، وهي إلى جانب الباب الحديد، يعني الذي يعرف اليوم بالقوس عند رأس المنتجبية، فيما بينها وبين الهلالية، وقد حكر هذا البستان في الأيام الظاهرية وبعضها يعني المنصورة من جهة بركة الفيل إلى جانب بستان سيف الإسلام، ويسمّى الآن بحكر الغتمي، لأن الغتمي هذا كان شرع بستان سيف الإسلام فحكر في هذه الجهة، وهي الآن أحكار الديوان السلطاني، وحكر الغتمي الذي كان بستان سيف الإسلام يعرف اليوم بدرب ابن البابا تجاه البندقدارية بجوار حمّام الفارقاني قريب من صليبة جامع ابن طولون. حارة المصامدة: هذه الحارة عرفت بطائفة المصامدة أحد طوائف عساكر الخلفاء الفاطميين، واختطّت في وزارة المأمون «4» البطائحي وخلافة الآمر بأحكام الله بعد سنة خمس عشرة وخمسمائة. قال ابن عبد الظاهر: حارة المصامدة مقدّمهم عبد الله المصمودي. وكان المأمون البطائحي وزير الخليفة الآمر بأحكام الله قدّمه ونوّه بذكره وسلّم له أبوابه للمبيت عليها، وأضاف إليه جماعة من أصحابه، فلما استخلص المصامدة وقرّبهم سيّر أبا بكر المصمودي ليختار لهم حارة، فتوجّه بالجماعة إلى اليانسية بالشارع، فلم يجد بها مكانا، ووجدها تضيق عنهم، فسيّر المهندسين لاختيار حارة لهم، فاتفقوا على بناء حارة ظاهر باب الحديد على يمنة الخارج على شاطىء بركة الفيل، فقال: بل تكون على يسرة

الخارج والفسح قدّامها إلى بركة الفيل. فبنيت الحارة على يسرة الخارج من الباب المذكور، وبني بجانبها مسجد على زلاقة الباب المذكور، وبنى أبو بكر المصمودي مسجدا أيضا، وهذه فيما أعتقد هي الهلالية، وحذّر من بناء شيء قبالتها في الفضاء الذي بينها وبين بركة الفيل لانتفاع الناس، بها وصار ساحل بركة الفيل من المسجد قبالة هذه الحارة إلى آخر حصن دويرة مسعود إلى الباب الحديد، ولم يزل ذلك إلى بعض أيام الخليفة الحافظ لدين الله. قال: وبنى في صفّ هذه الحارة من قبليّها عدّة دور بحوانيت تحتها إلى أن اتّصل البناء بالمساجد الثلاثة الحاكميّة المعلّقة والقنطرة المعروفة بدار ابن طولون وبعدها بستان ذكر أنه كان في جملة قاعات الدار المذكورة. قال: وأظنّ المساجد هي التي قبالة حوض الجاولي، قال: وبنى المأمون ظاهره حوضا وأجرى الماء له وذلك قبالة مشهد محمد الأصغر ومشهد السيّدة سكينة. قال: وأظنّ هذا البستان هو الذي بنته شجر «1» الدرّ بستانا ودارا وحمّامات قريب من مشهد السيّدة نفيسة، قال: وأمر المأمون بالنداء في القاهرة مع مصر ثلاثة أيام بأنّ من كانت له دار في الخراب أو مكان يعمر، ومن عجز عن أن يعمره فليؤجّره من غير نقل شيء من أنقاضه، ومن تأخّر بعد ذلك فلا حقّ له في شيء منه ولا حكر يلزمه. وأباح تعمير ذلك جميعه بغير طلب بحقّ فيه، فطلب الناس كافة ما هو جار في الديوان السلطانيّ وغيره، وعمروه حتّى صار البلدان لا يتخلّلهما داثر ولا دارس، وبنى في الشارع يعني خارج باب زويلة من الباب الجديد إلى الجبل عرضا وهو القلعة الآن. قال: وكان الخراب استولى على تلك الأماكن في زمن المستنصر «2» في أيام وزارة البازوري حتّى أنه كان بنى حائطا يستر الخراب عن نظر الخليفة إذا توجّه من القاهرة إلى مصر، وبنى حائطا آخر عند جامع «3» ابن طولون. قال: وعمر ذلك حتّى صار المتعيّشون بالقاهرة والمستخدمون يصلّون العشاء الأخيرة بالقاهرة ويتوجّهون إلى مساكنهم في مصر لا يزالون في ضوء وسرج وسوق موقود إلى باب الصفا وهو المعاصر الآن، وذلك أنه يخرج من الباب الحديد الحاكمي على يمنة بركة الفيل إلى بستان سيف الإسلام وعدّة بساتين، وقبالة جميع ذلك حوانيت مسكونة عامرة بالمتعيّشين إلى مصر والمعاش مستمر الليل والنهار. حارة الهلالية: ذكر ابن عبد الظاهر أنّها على يسرة الخارج من الباب الحديد الحاكمي. حارة البيازرة: هذه الحارة خارج باب القنطرة على شاطىء الخليج من شرقيه فيما بين زقاق الكحل وباب القنطرة حيث المواضع التي تعرف اليوم ببركة جنادق والكدّاشين، وإلى

قريب من حارة بهاء الدين، واختطت هذه الحارة في الأيام الآمرية، وذلك أن زمام «1» البيازرة شكا ضيق دار الطيور بمصر، وسأل أن يفسح للبيازرة في عمارة حارة على شاطىء الخليج بظاهر القاهرة لحاجة الطيور والوحوش إلى الماء، فأذن له في ذلك، فاختطّوا هذه الحارة وجعلوا منازلهم مناظر على الخليج، وفي كلّ دار باب سرّ ينزل منه إلى الخليج واتّصل بنا هذه الحارة بزقاق الكحل، فعرفت بهم وسميت بحارة البيازرة، واحدهم بازيار «2» ، ثم إنّ المختار الصقلبي زمام القصر أنشأ بجوارها بستانا وبنى فيه منظرة عظيمة، وهذا البستان يعرف اليوم موضعه ببستان ابن صيرم خارج باب الفتوح، فلما كثرت العمائر في حارة البيازرة أمر الوزير المأمون بعمل الأقنة «3» لشيّ الطوب على شاطىء الخليج الكبير إلى حيث كان البستان الكبير الجيوشيّ الذي تقدّم ذكره في ذكر مناظر الخلفاء ومنتزهاتهم. حارة الحسينية: عرفت بطائفة من عبيد الشراء يقال لهم الحسينية. قال المسبّحي في حوادث سنة خمس وتسعين وثلثمائة: وأمر بعمل شونة «4» ممّا يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفاء فابتدىء بعملها في ذي الحجة سنة أربع وتسعين وثلثمائة إلى شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين، فخامر قلوب الناس من ذلك جزع شديد، وظنّ كلّ من يتعلّق بخدمة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أنّ هذه الشونة عملت لهم. ثمّ قويت الإشاعات وتحدّث العوام في الطرقات أنها للكتّاب وأصحاب الدواوين وأسبابهم، فاجتمع سائر الكتّاب وخرجوا بأجمعهم في خامس ربيع الأوّل ومعهم سائر المتصرّفين في الدواوين من المسلمين والنصارى إلى الرماحين بالقاهرة، ولم يزالوا يقبّلون الأرض حتّى وصلوا إلى القصر، فوقفوا على بابه يدعون ويتضرّعون ويضجّون ويسألون العفو عنهم، ومعهم رقعة قد كتبت عن جميعهم إلى أن دخلوا باب القصر الكبير وسألوا أن يعفى عنهم ولا يسمع فيهم قول ساع يسعى بهم، وسلّموا رقعتهم إلى قائد القوّاد الحسين بن جوهر، فأوصلها إلى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، فأجيبوا إلى ما سألوا، وخرج إليهم قائد القوّاد، فأمرهم بالانصراف والبكور لقراءة سجلّ بالعفو عنهم، فانصرفوا بعد العصر، وقرىء من الغد سجل كتب منه نسخة للمسلمين ونسخة للنصارى ونسخة لليهود بأمان لهم والعفو عنهم. وقال: في ربيع الآخر، واشتدّ خوف الناس من أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، فكتب ما شاء الله من الأمانات للغلمان الأتراك الخاصّة وزمامهم وأمرائهم من الحمدانية والكجورية والغلمان العرفان والمماليك وصبيان الدار وأصحاب الإقطاعات والمرتزقة والغلمان الحاكميّة القدم

على اختلاف أصنافهم، وكتب أمان الجماعة من خدم القصر الموسومين بخدمة الحضرة بعد ما تجمّعوا وصاروا إلى تربة للعزيز بالله وضجوا بالبكاء وكشفوا رؤوسهم، وكتبت سجلّات عدّة بأمانات للديلم والجبل والغلمان الشرابية والغلمان الريحانية والغلمان البشارية والغلمان المفرّقة العجم وغيرهم والنقباء والروم المرتزقة، وكتبت عدّة أمانات للزويليين والبنادين والطبّالين والبرقيين والعطوفيين وللعرافة الجوانية والجودرية «1» وللمظفرّية وللصنهاجيين ولعبيد الشراء الحسينية وللميمونية وللفرحية وأمان لمؤذني أبواب القصر وأمانات لسائر البيارزة والفهّادين والحجّالين وأمانات أخر لعدّة أقوام، كلّ ذلك بعد سؤالهم وتضرّعهم. وقال: في جمادى الآخرة وخرج أهل الأسواق على طبقاتهم كلّ يلتمس كتب أمان يكون لهم، فكتب فوق المائة سجل بأمان لأهل الأسواق على طبقاتهم نسخة واحدة، وكان يقرأ جميعها في القصر أبو عليّ أحمد بن عبد السميع العباسيّ، وتسلم أهل كل سوق ما كتب لهم، وهذه نسخة إحداها. بعد البسملة: هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي عليّ، الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، لأهل مسجد عبد الله، أنكم من الآمنين بأمان الله، الملك الحق المبين، وأمان جدّنا محمد خاتم النبيين، وأبينا عليّ خير الوصيين، وآبائنا الذريّة النبويّة المهديين، صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين، وأمان أمير المؤمنين على النفس والحال والدم والمال، لا خوف عليكم، ولا تمتدّ يد بسوء إليكم إلّا في حدّ يقام بواجبه، وحق يؤخذ بمستوجبه، فليوثق بذلك وليعوّل عليه إن شاء الله تعالى. وكتب في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة والحمد لله، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وعلى خير الوصيين، وعلى الأئمة المهديين ذرية النبوّة، وسلم تسليما كثيرا. وقال ابن عبد الظاهر: فأمّا الحارات التي من باب الفتوح ميمنة وميسرة للخارج منه، فالميمنة إلى الهليلجة، والميسرة إلى بركة الأرمن برسم الريحانية، وهي الحسينية الآن، وكانت برسم الريحانية الغزاوية والمولدة والعجمان وعبيد الشراء، وكانت ثمان حارات وهي: حارة حامد، بين الحارتين، المنشية الكبيرة، الحارة الكبيرة، الحارة الوسطى، سوق الكبير، الوزيرية «2» وللأجناد بظاهر القاهرة حارات وهي: حارة البيازرة والحسينية جميع ذلك سكن الريحانية وسكن الجيوشية والعطوفية بالقاهرة، وبظاهرها الهلالية والشوبك وحلب والحبانية والمأمونية وحارة الروم وحارة المصامدة والحارة الكبيرة والمنصورة الصغيرة واليانسية وحارة أبي بكر والمقس ورأس التبان والشارع. ولم يكن للأجناد في هذا الوجه غير حارة

عنتر للمؤمنين المترجلة، وكانت كل حارة من هذه بلدة كبيرة بالبزازين والعطارين والجزارين وغيرهم، والولاة لا يحكمون عليها، ولا يحكم فيها إلّا الأزمة ونوّابهم، وأعظم الجميع الحارة الحسينية التي هي آخر صف الميمنة إلى الهليلجة، وهي الحسينية الآن، لأنها كانت سكن الأرمن، فارسهم وراجلهم، وكان يجتمع بها قريب من سبعة آلاف نفس وأكثر من ذلك، وبها أسواق عدّة. وقال في موضع آخر: الحسينية منسوبة لجماعة من الأشراف الحسينيين، وكانوا في الأيام الكاملية قدموا من الحجاز، فنزلوا خارج باب النصر بهذه الأمكنة واستوطنوها، وبنوا بها مدابغ صنعوا بها الأديم المشبه بالطائفي، فسمّيت بالحسينية، ثم سكنها الأجناد بعد ذلك وابتنوا بها هذه الأبنية العظيمة، وهذا وهم، فإنه تقدّم أنّ جملة الطوائف في الأيام الحاكمية الطائفة الحسينية، وتقدّم فيما نقله ابن عبد الظاهر أيضا أنّ الحسينية كانت عدّة حارات، والأيام الكاملية، إنما كانت بعد الستمائة، وقد كانت الحسينية قبل ذلك بما ينيف عن مائتي سنة فتدبره. واعلم أنّ الحسينية شقتان، إحداهما ما خرج عن باب الفتوح، وطولها من خارج باب الفتوح إلى الخندق، وهذه الشقة هي التي كانت مساكن الجند في أيام الخلفاء الفاطميين، وبها كانت الحارات المذكورة. والشقة الأخرى ما خرج عن باب النصر وامتدّ في الطول إلى الريدانية، وهذه الشقة لم يكن بها في أيام الخلفاء الفاطميين سوى مصلى العيد تجاه باب النصر، وما بين المصلى إلى الريدانية فضاء لا بناء فيه، وكانت القوافل إذا برزت تريد الحج تنزل هناك، فلما كان بعد الخمسين وأربعمائة وقدم بدر الجمالي أمير الجيوش، وقام بتدبير أمر الدولة الخليفة المنتصر بالله، أنشأ بحري مصلى العيد خارج باب النصر تربة عظيمة، وفيها قبره هو وولده الأفضل ابن أمير الجيوش، وأبو عليّ كتيفات بن الأفضل وغيره، وهي باقية إلى يومنا هذا. ثم تتابع الناس في إنشاء الترب هناك حتى كثرت، ولم تزل هذه الشقة مواضع للترب، ومقابر أهل الحسينية والقاهرة إلى بعد السبعمائة، ولقد حدّثت عن المشيخة ممن أدرك، بأنّ ما بين مصلى الأموات التي خارج باب النصر وبين دار كهرداش التي تعرف اليوم بدار الحاجب؛ مكانا يعرف بالمراغة، معدّ لتمريغ الدّواب به، وأنّ ما في صف المصلى من بحريها الترب فقط، ولم تعمر هذه الشقة إلا في الدولة التركية، لا سيما لما تغلب التتر على ممالك الشرق والعراق، وجفل الناس إلى مصر، فنزلوا بهذه الشقة وبالشقة الأخرى، وعمروا بها المساكن، ونزل بها أيضا أمراء الدولة فصارت من أعظم عمائر مصر والقاهرة، واتخذ الأمراء بها من بحريها فيما بين الريدانية إلى الخندق مناخات الجمال، واصطبلات الخيل، ومن ورائها الأسواق والمساكن العظيمة في الكثرة، وصار أهلها يوصفون بالحسن، خصوصا لما قدمت الأويراتية.

ذكر قدوم الأويراتية

ذكر قدوم الأويراتية وكان من خبر هذه الطائفة: أنّ بيدو بن طرغاي بن هولاكو لما قتل في ذي الحجة، سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وقام في الملك من بعده على المغل الملك غازان محمود بن خر بنده بن إيغاني، تخوّف منه عدّة من المغل يعرفون بالأويراتية، وفرّوا عن بلاده إلى نواحي بغداد، فنزلوا هناك مع كبيرهم طرغاي، وجرت لهم خطوب آلت بهم إلى اللحاق بالفرات فأقاموا بها هنالك، وبعثوا إلى نائب حلب يستأذنوه في قطع الفرات ليعبروا إلى ممالك الشام، فأذن لهم، وعدّوا الفرات إلى مدينة بهنسا، فأكرمهم نائبا وقام لهم بما ينبغي من العلوفات والضيافات، وطولع الملك العادل زين الدين كتيفا، وهو يومئذ سلطان مصر والشام بأمرهم، فاستشار الأمراء فيما يعمل بهم، فاتفق الرأي على استدعاء أكابرهم إلى الديار المصرية، وتفريق باقيهم في البلاد الساحلية وغيرها من بلاد الشام، وخرج إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري، والأمير شمس الدين سنقر الأعسر إلى دمشق، فجهزا أكابر الأويراتية نحو الثلاثمائة للقدوم على السلطان، وفرّقا من بقي منهم بالبقاع العزيزة وبلاد الساحل، ولما قرب الجماعة من القاهرة، وخرج الأمراء بالعسكر إلى لقائهم، واجتمع الناس من كل مكان حتى امتلأ الفضاء للنظر إليهم، فكان لدخولهم يوم عظيم، وصاروا إلى قلعة الجبل، فأنعم السلطان على طرغاي مقدّمهم بإمرة طبلخانة، وعلى اللصوص بإمرة عشرة، وأعطى البقية تقادما في الحلقة واقطاعات، وأجرى عليهم الرواتب، وأنزلوا بالحسينية، وكانوا على غير الملة الإسلامية، فشق ذلك على الناس، وبلوامع ذلك منهم بأنواع من البلاء لسوء أخلاقهم ونفرة نفوسهم وشدّة جبروتهم، وكان إذ ذاك بالقاهرة ومصر غلاء كبير وفناء عظيم، فتضاعفت المضرّة واشتدّ الأمر على الناس، وقال في ذلك الأديب شمس الدين محمد بن دينار: ربنا اكشف عنا العذاب فإنّا ... قد تلفنا في الدولة المغلية جاءنا المغل والغلا فانصلقنا ... وانطبخنا في الدولة المغلية ولما دخل شهر رمضان من سنة خمس وتسعين وستمائة لم يصم أحد من الأويراتية، وقيل للسلطان ذلك، فأبى أن يكرههم على الإسلام، ومنع من معارضتهم ونهى أن يشوّش عليهم أحد، وأظهر العناية بهم، وكان مراده أن يجعلهم عونا له يتقوّى بهم، فبالغ في إكرامهم حتى أثر في قلوب إمراء الدولة منه احنا وخشوا إيقاعه بهم، فإن الأويراتية كانوا أهل جنس كتيفا، وكانوا مع ذلك صورا جميلة، فافتتن بهم الأمراء وتنافسوا في أولادهم من الذكور والإناث، واتخذوا منهم عدّة صيّروهم من جملة جندهم، وتعشّقوهم، فكان بعضهم يستنشد من صاحبه من اختص به وجعله محل شهوته، ثم ما قنع الأمراء ما كان منهم بمصر حتى أرسلوا إلى البلاد الشامية واستدعوا منهم طائفة كبيرة، فتكاثر نسلهم في القاهرة

واشتدّت الرغبة من الكافة في أولادهم على اختلاف الآراء في الإناث والذكور، فوقع التحاسد والتشاجر بين أهل الدولة إلى أن آل الأمر بسببهم وبأسباب أخر إلى خلع السلطان الملك العادل كتيفا من الملك، في صفر سنة ست وتسعين وستمائة. فلما قام في السلطنة من بعده الملك المنصور حسام الدين لاجين، قبض على طرغاي مقدّم الأويراتية، وعلى جماعة من أكابرهم، وبعث بهم إلى الإسكندرية فسجنهم بها وقتلهم، وفرّق جميع الأويراتية على الأمراء، فاستخدموهم وجعلوهم من جندهم، فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن والجمال البارع، وأدركنا من ذلك طرفا جيدا، وكان للناس في نكاح نسائهم رغبة، ولآخرين شغف بأولادهم، ولله در الشيخ تقيّ الدين السروجيّ إذ يقول من أبيات: يا ساعي الشوق الذي مذ جرى ... جرت دموعي فهي أعوانه خذ لي جوابا عن كتابي الذي ... إلى الحسينية عنوانه فهي كما قد قيل وادي الحمى ... وأهلها في الحسن غزلانه أمشي قليلا وانعطف يسرة ... يلقاك درب طال بنيانه واقصد بصدر الدرب ذاك الذي ... بحسنه تحسّن جيرانه سلم وقل يخشى مسن أي مسن ... اشت حديثا طال كتمانه وسل لي الوصل فإن قال بق ... فقل أوت قد طال هجرانه وما برحوا يوصفون بالزعارة والشجاعة، وكان يقال لهم البدورة، فيقال البدر فلان، والبدر فلان، ويعانون لباس الفتوّة وحمل السلاح، ويؤثر منهم حكايات كثيرة وأخبار جمة، وكانت الحسينية قد أربت في عمارتها على سائر اخطاط مصر والقاهرة، حتى لقد قال لي ثقة ممن أدركت من الشيخة: أنّه يعرف الحسينية عامرة بالأسواق والدور، وسائر شوارعها كافة بازدحام الناس، ومن الباعة والمارة وأرباب المعايش، وأصحاب اللهو والملعوب، فيما بين الريدانية، محطة المحمل يوم خروج الحاج من القاهرة، وإلى باب الفتوح، لا يستطيع الإنسان أن يمرّ في هذا الشارع الطويل العريض طول هذه المسافة الكبيرة إلّا بمشقة من الزحام، كما كنا نعرف شاعر بين القصرين فيما أدركنا. وما زال أمر الحسينية متماسكا إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة وما بعدها، فخربت حاراتها، ونقضت مبانيها، وبيع ما فيها من الأخشاب وغيرها، وباد أهلها، ثم حدث بها بعد سنة عشرين وثمانمائة آية من آيات الله تعالى، وذلك أنّ في أعوام بضع وستين وسبعمائة، بدا بناحية برج الزيات فيما بين المطرية وسر ياقوس فساد الأرضة التي من شأنها العبث في الكتب والثياب، فأكلت لشخص نحو ألف وخمسمائة قتة دريس، فكنّا لا نزال نتعجب من ذلك، ثم فشت هناك وشنع عبثها في سقوف الدور، وسرت حتى عاثت في أخشاب سقوف

ذكر اخطاط القاهرة وظواهرها

الحسينية وغلات أهلها وسائر أمتعتهم، حتى أتلفت شيئا كثيرا، وقويت حتى صارت تأكل الجدران، فبادر أهل تلك الجهة إلى هدم ما قد بقي من الدور، خوفا عليها من الأرضة شيئا بعد شيء حتى قاربوا باب الفتوح وباب النصر، وقد بقي منها اليوم قليل من كثير يخاف إن استمرّت أحوال الإقليم على ما هي عليه من الفساد أن تدثر وتمحى آثارها، كما دثر سواها، ولله در القائل: والله إن لم يداركها وقد رحلت ... بلمحة أو بلطف من لديه خفي ولم يجد بتلافيها على عجل ... ما أمرها صائر إلّا إلى تلف حارة حلب: هذه الحارة خارج باب زويلة، تعرف اليوم بزقاق حلب، وكانت قديما من جملة مساكن الأجناد. قال ياقوت في باب حلب: الأوّل حلب المدينة المشهورة بالشام، وهي قصبة نواحي قنسرين والعواصم اليوم، الثاني حلب الساجود من نواحي حلب أيضا الثالث كفر حلب من قراها أيضا، الرابع محلة بظاهر القاهرة بالشارع من جهة الفسطاط. والله تعالى أعلم. ذكر اخطاط القاهرة وظواهرها قد تقدّم ذكر ما يطلق عليه حارة من الأخطاط، ونريد أن نذكر من الخطط ما لا يطلق عليه اسم حارة ولا درب، وهي كثيرة، وكل قليل تتغير أسماؤها، ولا بدّ من إيراد ما تيسر منها. خط خان الوراقة: هذا الخط فيما بين حارة بهاء الدين وسويقة أمير الجيوش، وفي شرقيّة سوق المرجلين، وهو يشتمل على عدّة مساكن، وبه طاحون، وكان موضعه قديما اصطبل الصبيان الحجرية لموقف خيولهم كما تقدّم، فلما زالت الدولة الفاطمية اختط مواضع للسكنى وقد شمله الخراب. خط باب القنطرة: هذا الخط كان يعرف قديما بحارة المرتاحية وحارة الفرحية والرماحين، وكان ما بين الرماحين الذي يعرف اليوم بباب القوس، داخل باب القنطرة، وبين الخليج، فضاء لا عمارة فيه، بطول ما بين باب الرماحين إلى باب الخوخة، وإلى باب سعادة، وإلى باب الفرج، ولم يكن إذ ذاك على حافة الخليج عمائر البتة، وإنما العمائر من جانب الكافوري «1» وهي مناظر اللؤلؤة «2» وما جاورها من قبليها إلى باب الفرج، وتخرج

العامّة عصريات كل يوم إلى شاطيء الخليج الشرقي تحت المناظر للتفرّج، فإن بر الخليج الغربيّ كان فضاء ما بين بساتين وبرك، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وثمانين وخمسمائة: في شوّال قطع النيل الجسور واقتلع الشجر، وغرّق النواحي وهدم المساكن، وأتلف كثيرا من النساء والأطفال، وكثر الرخاء بمصر، فالقمح كل مائة أردب بثلاثين دينارا، والخبز البايت ستة أرطال بربع درهم، والرطب الأمهات ستة أرطال بدرهم، والموز ستة أرطال بدرهم، والرمان الجيد مائة حبة بدرهم، والحمل الخيار بدرهمين، والتين ثمانية أرطال بدرهم، والعنب ستة أرطال بدرهم في شهر بابه بعد انقضاء موسمه المعهود بشهرين، والياسمين خمسة أرطال بدرهم، وآل أمر أصحاب البساتين إلى أن لا يجمعوا الزهر لنقص ثمنه عن أجرة جمعه، وثمر الحناء عشرة أرطال بدرهم، والبسرة عشرة أرطال بدرهم من جيده، والمتوسط خمسة عشر رطلا بدرهم، وما في مصر إلّا متسخط بهذه النعمة. قال: ولقد كنت في خليج القاهرة من جهة المقس لانقطاع الطرق بالمياه، فرأيت الماء مملوء سمكا، والزيادة قد طبقت الدنيا، والنخل مملوء تمرا، والمكشوف من الأرض مملوء ريحانا وبقولا، ثم نزلت فوصلت إلى المقس، فوجدت من القلعة التي بالمقس إلى منية السيرج غلالا قد ملأت صبرها الأرض، فلا يدري الماشي أين يضع رجله، متصلا عرض ذلك إلى باب القنطرة، وعلى الخليج عند باب القنطرة من مراكب الغلة ما قد ستر سواحله وأرضه. قال: ودخلت البلد فرأيت في السوق من الأخباز واللحوم والألبان والفواكه ما قد ملأها، وهجمت منه العين على منظر ما رأيت قبله مثله. قال: وفي البلد من البغي ومن المعاصي ومن الجهر بها ومن الفسق بالزنا واللواط ومن شهادة الزور ومن مظالم الأمراء والفقهاء، ومن استحلال الفطر في نهار رمضان وشرب الخمر في ليله ممن يقع عليه اسم الإسلام، ومن عدم النكير على ذلك جميعه ما لم يسمع ولم يعهد مثله، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، وظفر بجماعة مجتمعين في حارة الروم يتغدّون في قاعة في نهار رمضان، فما كلموا، وبقوم مسلمين ونصارى اجتمعوا على شرب خمر في ليل رمضان، فما أقيم فيهم حدّ، وخط باب القنطرة فيما بين حارة بهاء الدين «1» وسويقة أمير الجيوش «2» وينتهى من قبليه إلى خط بين السورين. خط بين السورين: هذا الخط من حدّ باب الكافوري في الغرب إلى باب سعادة، وبه الآن صفان من الأملاك، أحدهما مشرف على الخليج، والآخر مشرف على الشارع المسلوك

فيه، من باب القنطرة إلى باب سعادة، ويقال لهذا الشارع بين السورين، تسمية للعّامة بها فاشتهر بذلك، وكان في القديم بهذا الخط البستان الكافوري، يشرف عليه بحده الغربي ثمة مناظر اللؤلؤة، وقد بقيت منها عقود مبنية بالآجر، يمرّ السالك في هذا الشارع من تحتها، ثم مناظر دار الذهب، وموضعها الآن دار تعرف بدار بهادر الأعسر، وعلى بابها بئر يستقي منها الماء في حوض يشرب منه الدواب، ويجاورها قبو معقود يعرف بقبو الذهب، وهو من بقية مناظر دار الذهب، وبحدّ دار الذهب منظرة الغزالة، وهي بجوار قنطرة الموسكي، وقد بني في مكانها ربع يعرف إلى اليوم بربع غزالة، ودار ابن قرفة، وقد صار موضعها جامع ابن المغربي، وحمام ابن قرفة، وبقي منها البئر التي يستقي منها إلى اليوم بحمام السلطان، وعدّة دور كلها فيما يلي شقة القاهرة من صف باب الخوخة، وكان ما بين المناظر والخليج براحا، ولم يكن شيء من هذه العمائر التي بحافة الخليج اليوم البتة، وكان الحاكم بأمر الله في سنة إحدى وأربعمائة منع من الركوب في المراكب بالخليج، وسدّ أبواب القاهرة التي تلي الخليج، وأبواب الدور التي هناك، والطاقات المطلة عليه على ما حكاه المسبحيّ. وقال ابن المأمون في حوادث سنة ست عشرة وخمسمائة، ولما وقع الاهتمام بسكن اللؤلؤة والمقام بها مدّة النيل على الحكم الأوّل، يعني قبل أيام أمير الجيوش بدر وابنه الأفضل، وإزالة ما لم تكن العادة جارية عليه من مضايقة اللؤلؤة بالبناء، وأنها صارت حارات تعرف بالفرحية والسودان وغيرهما، أمر حسام الملك متولي بابه بإحضار عرفاء الفرحية والإنكار عليهم في تجاسرهم على ما استجدّوه وأقدموا عليه، فاعتذروا بكثرة الرجال وضيق الأمكنة عليهم، فبنوا لهم قبابا يسيرة، فتقدّم يعني أمر الوزير المأمون إلى متولي الباب بالإنعام عليهم وعلى جميع من بنى في هذه الحارة بثلاثة آلاف درهم، وأن يقسم بينهم بالسوية، ويأمرهم بنقل قسمهم، وأن يبنو لهم حارة قبالة بستان الوزير، يعني ابن المغربيّ، خارج الباب الجديد من الشارع، خارج باب زويلة. قال: وتحوّل الخليفة إلى اللؤلؤة بحاشيته، وأطلقت التوسعة في كل يوم لما يخص الخاص والجهات والأستاذين من جميع الأصناف، وانضاف إليها ما يطلق كل ليلة عينا وورقا وأطعمة للبائتين بالنوبة برسم الحرس بالنهار والسهر في طول الليل، من باب قنطرة بهادر إلى مسجد الليمونة من البرين، من صبيان الخاص والركاب والرهجية والسودان والحجاب، كل طائفة بنقيبها، والعرض من متولي الباب واقع بالعدة في طرفي كل ليلة، ولا يمكن بعضهم بعضا من المنام والرهجية تخدم على الدوام. خط الكافوري: هذا الخط كان بستانا من قبل بناء القاهرة وتملك الدولة الفاطمية لديار مصر، أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج بن جف، الملقب بالإخشيد، وكان بجانبه ميدان فيه الخيول، وله أبواب من حديد، فلما قدم جوهر القائد إلى مصر، جعل هذا

البستان من داخل القاهرة، وعرف ببستان كافور، وقيل له في الدولة الفاطمية البستان الكافوري، ثم اختط مساكن بعد ذلك. قال ابن زولاق في كتاب سيرة الإخشيد: ولست خلون من شوّال سنة ثلاثين وثلثمائة، سار الإخشيد إلى الشام في عساكره، واستخلف أخاه أبا المظفر بن طفج. قال: وكان يكره سفك الدماء، ولقد شرع في الخروج إلى الشام في آخر سفراته، وسار العسكر، وكان نازلا في بستانه في موضع القاهرة اليوم، فركب للمسير، فساعة خرج من باب البستان اعترضه شيخ يعرف بمسعود الصابوني، يتظلّم إليه، فنظر له، فتطير به وقال: خذوه ابطحوه، فبطح وضرب خمس عشرة مقرعة وهو ساكت. فقال الإخشيد: هو ذا يتشاطر. فقال له كافور: قد مات. فانزعج واستقال سفرته وعاد لبستانه، وأحضر أهل الرجل واستحلهم وأطلق لهم ثلاثمائة دينار، وحمل الرجل إلى منزله ميتا، وكانت جنازته عظيمة، وسافر الإخشيد فلم يرجع إلى مصر، ومات بدمشق. وقال في كتاب تتمة كتاب أمراء مصر للكندي: وكان كافور الإخشيدي أمير مصر يواصل الركوب إلى الميدان وإلى بستانه في يوم الجمعة ويوم الأحد ويوم الثلاثاء، قال: وفي غد هذا اليوم، يعني يوم الثلاثاء، مات الأستاذ كافور الإخشيدي، لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة، ويوم مات الأستاذ كافور الإخشيدي، خرج الغلمان والجند إلى المنظرة وخرّبوا بستان كافور، ونهبوا دوابه وطلبوا مال البيعة. وقال ابن عبد الظاهر: البستان الكافوري هو الذي كان بستانا لكافور الإخشيدي، وكان كثيرا ما يتنزه به، وبنيت القاهرة عنده، ولم يزل إلى سنة إحدى وخمسين وستمائة، فاختطت البحرية والعزيزية به اصطبلات، وأزيلت أشجاره. قال: ولعمري إنّ خرابه كان بحق، فإنه كان عرف بالحشيشة التي يتناولها الفقراء، والتي تطلع به يضرب بها المثل في الحسن. قال شاعرهم نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن علي الينبعي لنفسه: ربّ ليل قطعته ونديمي ... شاهدي هو مسمعي وسميري مجلسي مسجد وشربي من خض ... راء تزهو بحسن لون نضير قال لي صاحبي وقد فاح منها ... نشرها مزريا بنشر العبير أمن المسك؟ قلت ليست من المس ... ك ولكنّها من الكافوري وقال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد بن محمد الأسديّ الدمشقيّ، المعروف باليغموري: أنشدني الإمام العالم المعروف بجموع الفضائل، زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي لنفسه، وهو أوّل من عمل فيها: وخضراء كافورية بات فعلها ... بألبابنا فعل الرحيق المعتّق إذ نفحتنا من شذاها بنفحة ... تدبّ لنا في كل عضو ومنطق

غنيت بها عن شرب خمر معتّق ... وبالدلق عن لبس الجديد المزوّق وأنشدني الحافظ جلال الدين أبو المعز ابن أبي الحسن بن أحمد بن الصائغ المغربيّ لنفسه: عاطني خضراء كافورية ... يكتب الخمر لها من جندها أسكرتنا فوق ما تسكرنا ... وربحنا أنفسا من حدّها وأنشدني لنفسه: قم عاطني خضراء كافورية ... قامت مقام سلافة الصهباء يغدو الفقير إذا تناول درهما ... منها له تيه على الأمراء وتراه من أقوى الورى فإذا خلا ... منها عددناه من الضعفاء وأنشدني من لفظه لنفسه أيضا: عاطيت من أهوى وقد زارني ... كالبدر وافى ليلة البدر والبحر قد مدّ على متنه ... شعاعه جسرا من التبر خضراء كافورية رنحت ... أعطافه من شدّة السكر يفعل منها درهم فوق ما ... تفعل أرطال من الخمر فراح نشوانا بها غافلا ... لا يعرف الحلو من المرّ قال وقد نال بها أمره ... فبات مردودا إلى أمري قتلتني قلت نعم سيدي ... قتلين بالسكر وبالبحر قال: وأمر السلطان الملك الصالح، يعني نجم الدين أيوب، الأمير جمال الدين أبا الفتح موسى بن يغمور، أن يمنع من يزرع في الكافوري من الحشيشة شيئا، فدخل ذات يوم فرأى فيه منها شيئا كثيرا، فأمر بأن يجمع فجمع وأحرق. فأنشدني في الواقعة الشيخ الأديب الفاضل شرف الدين أبو العباس أحمد بن يوسف لنفسه، وذلك في ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين وستمائة: صرف الزمان وحادث المقدور ... تركا نكير الخطب غير نكير ما سالما حيا ولا ميتا ولا ... طودا سما بل دكدكا «1» بالطور لهفي وهل يجدي التهلف في ذرى ... طرب الغنيّ وأنس كلّ فقير أخت المذلة لارتكاب محرّم ... قطب السرور بأيسر الميسور جمعت محاسن ما اجتمعن لغيرها ... من كلّ شيء كان في المعمور

ذكر كافور الإخشيدي

منها طعام والشراب كلاهما ... والبقل والريحان وقت حضور هي روضة إن شئتها ورياضة ... يغنى بها عن روضة وخمور ما في المدامة كلّها منها سوى ... إثم المدام وصحبة المخمور كلا ونكهة خمرة هي شاهد ... عدل على حدّ وجلد ظهور أسفا لدهر غالها ولربما ... ظلّ الكريم بذلة الماسور جمعت له الأشهاد كرما أخضرا ... كعروسة تجلى بخضر حرير زفوا لها نارا فخلنا جنة ... برزت لنا قد زوّجت بالنور ثم اكتست منها غلالة صفرة ... في خضرة مقرونة بزفير فكأنها لهب اللظى في خضرة ... منها وطرف رمادها المنثور جارى النضار على مذاب زمرّد ... تركا فتيت المسك في الكافوري لله درك حية أو ميتة ... من منظر بهج بغير نظير أوذيت غير ذميمة فسقى الحيا ... تربا تضمّن منك ذوب عبير عندي لذكرك ما بقيت مخلدا ... سح الدموع ونفثة المصدور ذكر كافور الإخشيدي «1» كان عبدا أسود خصيا، مثقوب الشفة السفلى، بطينا قبيح القدمين، ثقيل البدن، جلب إلى مصر وعمره عشر سنين فما فوقها، في سنة عشر وثلثمائة، فلما دخل إلى مصر تمنى أن يكون أميرها، فباعه الذي جلبه لمحمد بن هاشم، أحد المتقبلين للضياع، فباعه لابن عباس الكاتب، فمرّ يوما بمصر على منجّم فنظر له في نجومه وقال له: أنت تصير إلى رجل جليل القدر، وتبلغ معه مبلغا عظيما، فدفع إليه درهمين لم يكن معه سواهما، فرمى بهما إليه وقال: أبشّرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين؟ ثم قال له: وأزيدك، أنت تملك هذه البلد وأكثر منه، فاذكرني. واتفق أنّ ابن عباس الكاتب أرسله بهدية يوما إلى الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد، وهو يومئذ أحد قوّاد تكين أمير مصر، فأخذ كافورا وردّ الهدية، فترقّى عنده في الخدم حتى صار من أخص خدمه. ولما مات الإخشيد بدمشق، ضبط كافور الأمور ودارى الناس ووعدهم إلى أن سكنت الدهماء، بعد أن اضطرب الناس، وجهز أستاذه وحمله إلى بيت المقدس، وسار إلى مصر

فدخلها. وقد انعقد الأمر بعد الإخشيد لابنه أبي القاسم أونوجور «1» ، فلم يكن بأسرع من ورود الخبر من دمشق بأنّ سيف الدولة عليّ بن حمدان أخذها وسار إلى الرملة، فخرج كافور بالعساكر وضرب الدباديب، وهي الطبول، على باب مضربه في وقت كل صلاة، وسار فظفر وغنم ثم قدم إلى مصر وقد عظم أمره، فقام بخلافة أو نوجور، فخاطبه القوّاد بالأستاذ، وصار القوّاد يجتمعون عنده في داره فيخلع عليهم ويحملهم ويعطيهم، حتى أنه وقع لجانك أحد القوّاد الإخشيدية في يوم بأربعة عشر ألف دينار، فما زال عبدا له حتى مات، وانبسطت يده في الدولة، فعزل وولى وأعطى وحرم، ودعي له على المنابر كلها إلّا منبر مصر والرملة وطبرية، ثم دعي له بها في سنة أربعين وثلثمائة، وصار يجلس للمظالم في كل سبت، ويحضر مجلسه القضاة والوزراء والشهود ووجوه البلد، فوقع بينه وبين الأمير أونوجور، وتحرّر كل منهما من الآخر، وقويت الوحشة بينهما، وافترق الجند، فصار مع كل واحد طائفة، واتفق موت أونوجور في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة، ويقال أنه سمّه. فأقام أخاه أبا الحسن عليّ بن الإخشيد من بعده، واستبدّ بالأمر دونه، وأطلق له في كل سنة أربعمائة ألف دينار، واستقل بسائر أحوال مصر والشام، ففسد ما بينه وبين الأمير أبي الحسن عليّ، فضيّق عليه كافور ومنع أن يدخل عليه أحد، فاعتل بعلة أخيه ومات، وقد طالت به في محرّم سنة خمس وخمسين وثلثمائة. فبقيت مصر بغير أمير أياما لا يدعى فيها سوى للخليفة المطيع فقط، وكافور يدبر أمر مصر والشام في الخراج والرجال، فلما كان لأربع بقين من المحرّم المذكور، أخرج كافور كتابا من الخليفة المطيع بتقليده بعد عليّ بن الإخشيد، فلم يغير لقبه بالأستاذ، ودعى له على المنبر بعد الخليفة، وكانت له في أيامه قصص عظام، وقدم عسكر من المعز لدين الله أبي تميم معدّ من المغرب إلى الواحات، فجهّز إليه جيشا أخرجوا العسكر وقتلوا منهم، وصارت الطبول تضرب على بابه خمس مرّات في اليوم والليلة، وعدّتها مائة طبلة من نحاس. وقدمت عليه دعاة المعز لدين الله من بلاد المغرب يدعونه إلى طاعته، فلاطفهم، وكان أكثر الإخشيدية والكافورية وسائر الأولياء والكتّاب قد أخذت عليهم البيعة للمعز، وقصر مدّ النيل في أيامه. فلم يبلغ تلك السنة سوى اثني عشر ذراعا وأصابع، فاشتدّ الغلاء وفحش الموت في الناس، حتى عجزوا عن تكفينهم ومواراتهم، وأرجف بمسير القرامطة إلى الشام، وبدت غلمانه تتنكر له، وكانوا ألفا وسبعين غلاما تركيا سوى الروم والمولدين، فمات لعشر بقين من جمادى الأوّل سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، عن ستين سنة، فوجد له من العين سبعمائة ألف دينار، ومن الورق والحلي والجوهر والعنبر والطيب والثياب والآلات والفرش والخيام والعبيد والجواري والدواب ما قوّم بستمائة ألف ألف دينار،

وكانت مدّة تدبيره أمر مصر والشام والحرمين إحدى وعشرين سنة وشهرين وعشرين يوما، منها منفردا بالولاية بعد أولاد أستاذه سنتان وأربعة أشهر وتسعة أيام، ومات عن غير وصية ولا صدقة ولا مأثرة يذكر بها، ودعي له على المنابر بالكنية التي كناه بها الخليفة، وهي أبو المسك، أربع عشرة جمعة، وبعده اختلت مصر وكادت تدمر حتى قدمت جيوش المعز على يد القائد جوهر، فصارت مصر دار خلافة، ووجد على قبره مكتوب: ما بال قبرك يا كافور منفردا ... بصائح الموت بعد العسكر اللجب يدوس قبرك من أدنى الرجال وقد ... كانت أسود الشرى تخشاك في الكثب ووجد أيضا مكتوب: انظر إلى غير الأيام ما صنعت ... أفنت أناسا بها كانوا وما فنيت دنياهم أضحكت أيام دولتهم ... حتى إذا فنيت ناحت لهم وبكت خط الخرشتف: هذا الخط فيما بين حارة برجوان والكافوري، ويتوصل إليه من بين القصرين، فيدخل له من قبو يعرف بقبو الخرشتف، وهو الذي كان يعرف قديما بباب التبانين، ويسلك من الخرشتف إلى خط باب سرّ المارستان، وإلى حارة زويلة، وكان موضع الخرشتف في أيام الخلفاء الفاطميين ميدانا بجوار القصر الغربيّ والبستان الكافوريّ، فلما زالت الدولة اختطّ وصار فيه عدّة مساكن، وبه أيضا سوق، وإنما سمّي بالخرشتف لأنّ المعز أوّل من بنى فيه الاصطبلات بالخرشتف، وهو ما يتحجر مما يوقد به على مياه الحمامات من الأزبال وغيرها. قال ابن عبد الظاهر: الحارة المعروفة بالخرشتف كانت قديما ميدانا للخلفاء، فلما ورد المعز بنوا به اصطبلات وكذلك القصر الغربيّ، وقد كان النساء اللاتي أخرجن من القصر يسكنّ بالقصر النافعي، فامتدّت الأيدي إلى طوبه وأخشابه، وبيعت وتلاشى حاله وبني به وبالميدان اصطبلات ودويرات بالخرشتف، فسمي بذلك، ثم بنى به الأدر والطواحين وغيرها، وذلك بعد الستمائة، وأكثر أراضي الميدان حكر للأدر القطبية. خط اصطبل القطبية «1» : هذا الخط أيضا من جملة أراضي الميدان، ولما انتقلت القاعة التي كانت سكن أخت الحاكم بأمر الله بعد زوال الدولة الفاطمية، صارت إلى الملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، فاستقرّ بها هو وذريته، فصار يقال لها الدار القطبية، واتخذ هذا المكان اصطبلا لهذه القاعة، فعرف باصطبل القطبية، ثم لما أخذ الملك المنصور قلاوون القاعة القطبية من مونسة خاتون، المعروفة بدار إقبال ابنة الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، أخت المفضل قطب الدين أحمد المعروفة

بخاتون القطبية، وعملها المارستان المنصوري، بنى في هذا الإصطبل المساكن، وصارت من جملة الخطط المشهورة، ويتوصل إليه من وسط سوق الخرشتف، ويسلك فيه من آخره إلى المدرسة الناصرية والمدرسة الظاهرية المستجدّة، وعمل على أوّله دربا يغلق وهو خط عامر. خط باب سر المارستان: هذا الخط يسلك إليه من الخرشتف، ويصير السالك فيه إلى البندقانيين، وبعض هذا الخط وهو جله ومعظمه من جملة اصطبل الجميزة الذي كان فيه خيول الدولة الفاطمية، وقد تقدّم ذكره. وموضع باب سر المارستان المنصوري هو باب الساباط، فلما زالت الدولة واختط الكافوري والخرشتف واصطبل القطبية، صار هذا الخط واقعا بين هذه الأخطاط، ونسب إلى باب سر المارستان لأنه من هنالك، وأدركت بعض هذه الخطة وهي خراب، ثم أنشأ فيه القاضي جمال الدين محمود القيصري محتسب القاهرة في أيام ولايته. نظر المارستان، في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، الطاحون العظيمة ذات الأحجار، والفرن والربع، علوه في المكان الخراب، وجعل ذلك جاريا في جملة أوقاف المارستان المنصوري. خط بين القصرين: هذا الخط أعمر أخطاط القاهرة وأنزهها، وقد كان في الدولة الفاطمية فضاء كبيرا وبراحا واسعا، يقف فيه عشرة آلاف من العسكر ما بين فارس وراجل، ويكون به طرادهم ووقوفهم للخدمة، كما هو الحال اليوم في الرميلة تحت قلعة الجبل، فلما انقضت أيام الدولة الفاطمية وخلت القصور من أهاليها، ونزل بها أمراء الدولة الأيوبية وغيروا معالمها، صار هذا الموضع سوقا مبتذلا بعد ما كان ملاذا مبجلا، وقعد فيه الباعة بأصناف المأكولات، من اللحمان المتنوّعة والحلاوات المصنعة والفاكهة وغيرها، فصار منتزها تمر فيه أعيان الناس وأماثلهم في الليل مشاة، لرؤية ما هناك من السرج والقناديل الخارجة عن الحدّ في الكثرة، ولرؤية ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، مما فيه لذة للحواس الخمس، وكانت تعقد فيه عدّة حلق لقراءة السير والأخبار وإنشاد الأشعار، والتفنن في أنواع اللعب واللهو، فيصير مجمعا لا يقدّر قدره، ولا يمكن حكاية وصفه، وسأتلو عليك من أنباء ذلك ما لا تجده مجموعا في كتاب. قال المسبّحي في حوادث جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة: وفيه منع كل أحد ممن يركب مع المكاريين أن يدخل من باب القاهرة راكبا، ولا المكاريين أيضا بحميرهم، ولا يجلس أحد على باب الزهومة «1» من التجار وغيرهم، ولا يمشي أحد

ملاصق القصر من باب الزهومة إلى أقصى باب الزمرّد «1» ، ثم عفى عن المكاريين بعد ذلك وكتب لهم أمان قرىء. وقال ابن الطوبر: ويبيت خارج باب القصر كل ليلة خمسون فارسا، فإذا أذّن بالعشاء الآخرة داخل القاعة، وصلّى الإمام الراتب بها بالمقيمين فيها من الأستاذين وغيرهم، وقف على باب القصر أمير يقال له سنان الدولة ابن الكركندي، فإذا علم بفراغ الصلاة أمر بضرب النوبات، من الطبل والبوق وتوابعهما من عدّة وافرة بطريق مستحسنة ساعة زمانية، ثم يخرج بعد ذلك أستاذ برسم هذه الخدمة، فيقول: أمير المؤمنين يردّ علي سنان الدولة السلام، فيصقع ويغرس حربة على الباب ثم يرفعها بيده، فإذا رفعها أغلق الباب وسار إلى حوالي القصر سبع دورات، فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البياتين والفرّاشين المقدّم ذكرهم، وأفضى المؤذنون إلى خزانتهم هناك، ورميت السلسلة عند المضيق آخر بين القصرين من جانب السيوفيين، فينقطع المار من ذلك المكان إلى أن تضرب النوبة سحرا قريب الفجر، فتنصرف الناس من هناك بارتفاع السلسلة. انتهى. وأخبرني المشيخة أنه ما زال الرسم إلى قريب، أنه لا يمرّ بشارع بين القصرين حمل تبن ولا حمل حطب، ولا يستطيع أحد أن يسوق فرسا فيه، فإن ساق أحد أنكر عليه وخرق به. وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: والمكان الذي كان يعرف في القاهرة بين القصرين هو من الترتيب السلطانيّ، لأنّ هناك ساحة متسعة للعسكر والمتفرّجين ما بين القصرين، ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية. وقال ياقوت: وبين القصرين كان ببغداد بباب الطاق، يراد به قصر أسماء بنت المنصور، وقصر عبد الله بن المهدي، وكان يقال لهما أيضا بين القصرين. وبين القصرين بمصر والقاهرة، وهما قصران متقابلان بينهما طريق العامّة والسوق، عمرهما ملوك مصر المغاربة المتعلونة، الذين ادّعوا أنهم علويّة. وحدّثني الفاضل الرئيس تقيّ الدين عبد الوهاب، ناظر الخواص الشريفة، ابن الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن أبي شاكر، أنه كان يشتري في كل ليلة من بين القصرين بعد العشاء الآخرة، برسم الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن خصيب، من الدجاج المطجن والقطا وفراخ الحمام والعصافير المقلاة بمبلغ مائتي درهم، وخمسين درهما فضة، يكون عنها يومئذ نحو من اثني عشر مثقالا من الذهب، وأنّ هذا كان دأبه في كل ليلة، ولا يكاد مثل هذا مع كثرته لرخاء الأسعار يؤثر نقصه، فيما كان هنالك من هذا الصنف، لعظم ما كان

يوضع في بين القصرين من هذا النوع وغيره، ولقد أدركنا في كل ليلة من بعد العصر يجلس الباعة بصنف لحمان الطيور التي تقلى صفا، من باب المدرسة الكاملية إلى باب المدرسة الناصرية، وذلك قبل بناء المدرسة الظاهرية المستجدّة، فيباع لحم الدجاج المطجن، ولحم الأوز المطجن، كلّ رطل بدرهم، وتارة بدرهم وربع، وتباع العصافير المقوّة كل عصفور بفلس، حسابا عن كل أربعة وعشرين بدرهم، والمشيخة تقول إنّا حينئذ في غلاء، لكثرة ما تصف من سعة الأرزاق ورخاء الأسعار في الزمن الذي أدركوه قبل الفناء الكبير، ومع ذلك فلقد وقع في سنة ست وثمانين شيء لا يكاد يصدّقه اليوم من لم يدرك ذلك الزمان، وهو أنّه: كان لنا من جيراننا بحارة برجوان، شخص يعاني الجندية، ويركب الخيل، فبلغني عن غلامه أنّه خرج في ليلة من ليالي رمضان، وكان رمضان إذ ذاك في فصل الصيف، ومعه رقيق له من غلمان الخيل، وأنهما سرقا من شارع بين القصرين، وما قرب منه، بضعا وعشرين بطيخة خضراء، وبضعا وثلاثين شقفة جبن، والشقفة أبدا من نصف رطل إلى رطل، فما منّا إلّا من تعجب من ذلك، وكيف تهيأ لاثنين فعل هذا، وحمل هذا القدر يحتاج إلى دابتين، إلى أن قدّر الله تعالى لي بعد ذلك أن اجتمعت بأحد الغلامين المذكورين، وسألته عن ذلك فاعترف لي به، قلت: صف لي كيف عملتما، فذكر أنهما كانا يقفان على حانوت الجبان، أو مقعد البطيخيّ، وكان إذ ذاك يعمل من البطيخ في بين القصرين مرصّات كثيرة جدّا، في كل مرصّ ما شاء الله من البطيخ، قال: فإذا وقفنا قلب أحدنا بطيخة وقلب الآخر أخرى، فلشدّة ازدحام الناس يتناول أحدنا بطيخته بخفة يد وصناعة ويقوم، فلا يفطن به. أو يقلب أحدنا ورفيقه قائم من ورائه، والبياع مشغول البال لكثرة ما عليه من المشترين، وما في ذلك الشارع من غزير الناس، فيحذفها من تحته وهو جالس القرفصا، فإذا أحسّ بها رفيقه تناولها ومرّ. وكذلك كان فعلهم مع الجبانين، وكانوا كثيرا، فانظر- أعزك الله- إلى بضاعة يسرق منها مثل هذا القدر ولا يفطن به من كثرة ما هنالك من البضائع ولعظم الخلق. ولقد حدّثني غير واحد ممن قدم مع قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركيّ، أنّه لما قدموا من الكرك في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة، كادوا يذهلون عند مشاهدة بين القصرين. وقال لي ابنه محب الدين محمد: أوّل ما شاهدّت بين القصرين، حسبت أنّ زفة أو جنازة كبيرة تمرّ من هنالك، فلما لم ينقطع المارة، سألت ما بال الناس مجتمعين للمرور من ههنا؟ فقيل لي: هذا دأب البلد دائما، ولقد كنا نسمع أنّ من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشي بعد العشاء بين القصرين ويجامع حتى يقضي وطره وهما ماشيان، من غير أن يدركهما أحد لشدّة الزحام، واشتغال كل أحد بلهوه. وما برحت أجد من الازدحام مشقة، حتى أفادني بعض من أدركت أنّ من الرأي في المشي أن يأخذ الإنسان في مشيه نحو شماله، فإنه لا يجد من المشقة كما يجد غيره من الزحام، فاعتبرت ذلك آلاف مرّات في عدّة سنين، فما أخطأ معي، ولقد كنت أكثر من تأمّل المارة بين القصرين، فإذا هم صفان،

ذكر مقتل الخليفة الظافر

كلّ صف يمرّ من صوب شماله كالسيل إذا اندفع، وعلّل هذا الذي أفادني، أنّ القلب من يسار كل أحد، والناس تميل إلى جهة قلوبهم، فلذلك صار مشيهم من صوب شمائلهم، وكذا صح لي مع طول الاعتياد. ولما حدثت هذه المحن بعد سنة ست وثمانين وثمانمائة، تلاشى أمر بين القصرين، وذهب ما هناك، وما أخوفني أن يكون أمر القاهرة كما قيل: هذه بلدة قضى الله يا صا ... ح عليها كما ترى بالخراب فقف العيس وقفة وابك من كا ... ن بها من شيوخها والشباب واعتبر إن دخلت يوما إليها ... فهي كانت منازل الأحباب خط الخشيبة: هذا الخط يتوصل إليه من وسط سوق باب الزهومة، ويسلك فيه إلى الحارة العدوية «1» حيث فندق الرخام برحبة بيبرس، وإلى درب شمس الدولة، وقيل له خط الخشيبة، من أجل أنّ الخليفة الظافر لما قتله نصر بن عباس وبنى على مكانه الذي دفنه فيه المسجد الذي يعرف اليوم بمسجد الخلعيين، ويعرف أيضا بمسجد الخلفاء، نصبت هناك خشبة حتى لا يمرّ أحد من هذا الموضع راكبا، فعرف بخشيبة تصغير خشبة، وما زالت هناك حتى زالت الدولة الفاطمية، وقام السلطان صلاح الدين بسلطنة مصر، فأزال الخشيبة، وعرف هذا الخط بها إلى اليوم، ويقال له خط حمام خشيبة، من أجل الحمام التي هناك. ولمقتل الظافر خبر يحسن ذكره هنا. ذكر مقتل الخليفة الظافر وكان من خبر الظافر أنه لما مات الخليفة الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر، في ليلة الخميس، لخمس خلون من جمادى الآخرة، سنة أربع وأربعين وخمسمائة، بويع ابنه أبو المنصور إسماعيل، ولقب بالظافر بأمر الله، بوصية من أبيه له بالخلافة، وقام بتدبير الوزارة الأمير نجم الدين سليمان بن محمد بن مصال، فلم يرض الأمير المظفر عليّ بن السلار والي الإسكندرية والبحيرة يومئذ بوزارة ابن مصال، وحشد وسار إلى القاهرة، ففرّ ابن مصال، واستقرّ ابن السلار في الوزارة، وتلقّب بالعادل، فجهز العساكر لمحاربة ابن مصال، فحاربته وقتل، فقوي واستوحش منه الظافر، وخاف منه ابن السلار واحترز منه على نفسه، وجعل له رجالا يمشون في ركابه بالزرد والخود، وعددهم ستمائة رجل بالنوبة، ونقل جلوس الظافر من القاعة إلى الإيوان في البراح والسعة، حتى إذا دخل للخدمة يكون أصحاب الزرد معه، ثم تأكدت النفرة بينهما فقبض على صبيان الخاص وقتل أكثرهم، وفرّق باقيهم، وكانوا خمسمائة رجل، وما زال الأمر على ذلك إلى أن قتله ربيبه عباس بن تميم، بيد ولده نصر،

واستقرّ بعده في وزارة الظافر، وكان بين ناصر الدين نصر بن عباس الوزير، وبين الظافر، مودّة أكيدة ومخالطة، بحيث كان الظافر يشتغل به عن كل أحد، ويخرج من قصره إلى دار نصر بن عباس التي هي اليوم المدرسة السيوفية، فخاف عباس من جرأة ابنه، وخشي أن يحمله الظافر على قتله، فيقتله كما قتل الوزير علي بن السلار زوج جدّته أمّ عباس، فنهاه عن ذلك وألحف في تأنيبه، وأفرط في لومه، لأنّ الأمراء كانوا مستوحشين من عباس وكارهين منه تقريبه أسامة بن منقد، لما علموه من أنه هو الذي حسّن لعباس قتل ابن السلار كما هو مذكور في خبره، وهمّوا بقتله، وتحدّثوا مع الخليفة الظافر في ذلك، فبلغ أسامة ما هم عليه، وكان غريبا من الدولة، فأخذ يغري الوزير عباس بن تميم بابنه نصر، ويبالغ في تقبيح مخالطته للظافر إلى أن قال لي مرة: كيف تصبر على ما يقول الناس في حق ولدك، من أنّ الخليفة يفعل به ما يفعل بالنساء، فأثّر ذلك في قلب عباس، واتفق أنّ الظافر أنعم بمدينة قليوب «1» على نصر بن عباس، فلما حضر إلى أبيه وأعلمه بذلك وأسامة حاضر، فقال له: يا ناصر الدين، ما هي بمهرك غالية، يعرّض له بالفحش، فأخذ عباس من ذلك ما أخذه، وتحدّث مع أسامة لثقته به في كيفية الخلاص من هذا، فأشار عليه بقتل الظافر إذا جاء إلى دار نصر على عادته في الليل، فأمره بمفاوضة ابنه نصر في ذلك، فاغتنمها أسامة، وما زال بنصر يشنع عليه ويحرّضه على قتل الظافر، حتى وعده بذلك. فلما كان ليلة الخميس آخر المحرّم، من سنة تسع وأربعين وخمسمائة، خرج الظافر من قصره متنكرا ومعه خادمان، كما هي عادته، ومشى إلى دار نصر بن عباس، فإذا به قد أعدّ له قوما، فعند ما صار في داخل داره وثبوا عليه وقبّلوه هو وأحد الخادمين، وتوارى عنهم الخادم الآخر، ولحق بعد ذلك بالقصر. ثم دفنوا الظافر والخادم تحت الأرض، في الموضع الذي فيه الآن المسجد، وكان سنّة يوم قتل، إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر ونصف، منها في الخلافة بعد أبيه أربع سنين وثمانية أشهر تنقص خمسة أيام، وكان محكوما عليه في خلافته. وفي أيامه ملك الفرنج مدينة عسقلان، وظهر الوهن في الدولة، وكان كثير اللهو واللعب، وهو الذي أنشأ الجامع المعروف بجامع الفاكهيين. وبلغ أهل القصر ما عمله نصر بن عباس من قتل الظافر، فكاتبوا طلائع بن رزبك، وكان على الأشمونين، وبعثوا إليه بشعور النساء يستصرخون به على عباس وابنه، فقدم بالجموع، وفرّ عباس وأسامة ونصر، ودخل طلائع وعليه ثياب سود، وأعلامه وبنوده كلها سود، وشعور النساء التي أرسلت إليه من القصر على الرماح، فكان فألا عجيبا، فإنه بعد خمس عشرة سنة، دخلت أعلام بني العباس السود من بغداد إلى القاهرة لما مات العاضد،

واستبد صلاح الدين بملك ديار مصر، وكان أوّل ما بدأ به طلائع أن مضى ماشيا إلى دار نصر، وأخرج الظافر والخادم وغسلهما وكفنهما، وحمل الظافر في تابوت مغشّى، ومشى طلائع حافيا والناس كلهم، حتى وصلوا إلى القصر، فصلّى عليه ابنه الخليفة الفائز ودفن في تربة القصر. خط سقيفة العدّاس «1» : هذا الخط قيّما بين درب شمس الدولة والبندقانيين، كان يقال له أولا سقيفة العدّاس، ثم عرف بالصاغة القديمة، ثم عرف بالأساكفة، ثم هو الآن يعرف بالحريريين الشراريين، وبسوق الزجّاجين، وفيه يباع الزجاج. وهو خط عامر، وهذا العدّاس هو: علي بن عمر بن العدّاس أبو الحسن. ضمن في أيام المعز لدين الله كورة بوصير، فخلع عليه وجمله، وسار خليفته بالبنود والطبول، في جمادى الأولى سنة أربع وستين وثلثمائة. فلما كان في أوّل خلافة العزيز بالله بن المعز لدين الله، ولّاه الوساطة، وهي رتبة الوزارة، بعد موت الوزير يعقوب بن كلس، ولم يلقبه بالوزير، فجلس في القصر لتسع عشر خلت من ذي الحجة، سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وأمر ونهى ونظر في الأموال، ورتّب العمال، وأمر أن لا يطلق شيء إلا بتوقيعه، ولا ينفذ إلّا ما أمر به وقرّره، وأمره العزيز بالله أن لا يرتفق، أي يرتشي، ولا يرتزق، يعني أنّه لا يقبل هدية، ولا يضيع دينارا ولا درهما، فأقام سنة وصرف في أوّل المحرّم من سنة ثلاث وثمانين، فقرّر في ديوان الاستيفاء إلى أن كان جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة حسن لأبي طاهر محمود النحوي الكاتب، وكان منقطعا إليه أن يلقى الحاكم بأمر الله، ويبلغه ما تشكوه الناس من تظافر النصارى، وغلبتهم على المملكة، وتوازرهم، وأنّ فهد بن إبراهيم هو الذي يقوّي نفوسهم، ويفوّض أمر الأموال والدواوين إليهم، وأنه آفة على المسلمين، وعدّة للنصارى، فوقف أبو طاهر للحاكم ليلا في وقت طوافه في الليل، وبلّغه ذلك. ثم قال: يا مولانا إن كنت تؤثر جمع الأموال وإعزاز الإسلام، فأرني رأس فهد بن إبراهيم في طشت، وإلّا لم يتم من هذا شيء. فقال له الحاكم: ويحك، ومن يقوم بهذا الأمر الذي تذكره ويضمنه. فقال: عبدك عليّ بن عمر بن العدّاس.

فقال: ويحك، أو يفعل هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: قل له يلقاني ههنا في غد. ومضى الحاكم، فجاء أبو طاهر إلى ابن العدّاس وأعلمه بما جرى. فقال: ويحك قتلتني وقتلت نفسك. فقال: معاذ الله، أفنصبر لهذا الكلب الكافر على ما يفعل بالإسلام والمسلمين، ويتحكم فيهم من اللعب بالأموال، والله إن لم تسع في قتله ليسعين في قتلك، فلما كان في الليلة القابلة وقف عليّ بن عمر العدّاس للحاكم ووافقه على ما يحتاج إليه، فوعدوه بانجاز ما اتفقا عليه، وأمر بالكتمان وانصرف الحاكم. فلما أصبح ركب العداس إلى دار قائد القوّاد حسن بن جوهر القائد، فلقي عنده فهد بن إبراهيم، فقال له فهد: يا هذا، كم تؤذيني وتقدح فيّ عند سلطاني. فقال العداس: والله ما يقدح ولا يؤذيني عند سلطاني ويسعى عليّ غيرك. فقال فهد: سلط الله على من يؤذي صاحبه فينا، ويسعى به سيف هذا الإمام الحاكم بأمر الله. فقال العدّاس: آمين وعجّل ذلك ولا تمهله. فقتل فهد في ثامن جمادى الآخرة وضربت عنقه، وكان له منذ نظر في الرياسة خمس سنين وتسعة أشهر واثنى عشر يوما، وقتل العداس بعده بتسعة وعشرين يوما، واستجيب دعاء كل منهما في الآخر، وذهبا جميعا، ولا يظلم ربك أحدا. وذلك أن الحاكم خلع على العداس في رابع عشره، وجعله مكان فهد، وخلع على ابنه محمد بن عليّ، فهناه الناس، واستمرّ إلى خامس عشري رجب منها، فضربت رقبة أبي طاهر محمود بن النحوي، وكان ينظر في أعمال الشام لكثرة ما رفع عليه من التجبر والعسف، ثم قتل العدّاس في سادس شعبان سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة وأحرق بالنار. خط البندقانيين: هذا الخط كان قديما إصطبل الجميزة، أحد إصطبلات الخلفاء الفاطميين، فلما زالت الدولة اختط وصارت فيه مساكن وسوق، من جملته عدّة دكاكين لعمل قسيّ البندق، فعرف الخط بالبندقانيين لذلك، ثم أنه احترق يوم الجمعة للنصف من صفر سنة إحدى وخمسين وسبعمائة والناس في صلاة الجمعة، فما قضى الناس الصلاة إلّا وقد عظم أمره، فركب إليه وإلى القاهرة والنيران قد ارتفع لهبها، واجتمع الناس، فلم يعرف من أين كان ابتداء الحريق، واتفق هبوب رياح عاصفة فحملت شرر النار إلى آمد بعيد، ووصلت أشعتها إلى أن رؤيت من القلعة، فركب الوزير منجك بمماليك الأمراء، وجمعت السقاءون لطفي النار فعجزوا عن اطفائها، واشتدّ الأمر فركب الأمير شيخو والأمير طاز

والأمير مغلطاي أمير أخور، وترجلوا عن خيولهم ومنعوا النهابة من التعرّض إلى نهب البيوت التي احترقت، وعمّ الحريق دكاكين البندقانيين ودكاكين الرسامين وحوانيت الفقاعين والفندق المجاور لها، والربع علوّه، وعملت إلى الجانب الذي يلي بيت بيبرس ركن الدين الملقب بالملك المظفر، والربع المجاور لعالي زقاق الكنيسة، فما زال الأمير شيخو واقفا بنفسه ومماليكه ومعه الأمراء إلى أن هدم ما هنالك، والنار تأكل ما تمرّ به إلى أن وصلت إلى بئر الدلاء التي كانت تعرف قديما ببئر زويلة «1» ، ومنها كان يستقى لأصطبل الجميزة، فأحرقت ما جاور البئر من الأماكن إلى حوانيت الفكاه والطباخ وما يجاورهما من الحوانيت. والربع المجاور لدار الجو كندار، وكادت أن تصل إلى دار القاضي علاء الدين عليّ بن فضل الله كاتب السرّ، المجاورة لحمام الشيخ نجم الدين ابن عبود، ولم يبق أحد في ذلك الخط حتى حوّل متاعه خوفا من الحريق، فكان أهل البيت بينما هم في نقل ثيابهم، وإذا بالنار قد أحاطت بهم فيتركون ما في الدار وينجون بأنفسهم، والأمر يعظم والهدم واقع في الدور المجاورة لأماكن الحريق، خشية من تعلق النار بها، فسرى إلى جميع البلد إلى أن أتى الهدم على سائر ما كان هنالك، فأقام الأمر كذلك يومين وليلتين والأمراء وقوف، فلما خفّ انصرف الأمراء ووقف والي القاهرة ومعه عدّة من الأمراء لطفي ما بقي، فاستمرّوا في طفئه ثلاثة أيام أخر، وكان المصاب بهذا الحريق عظيما، تلف فيه للناس من المال والثياب والمصاغ وغيره بالحريق والنهب ما لا يعلم قدره إلا الله، هذا مع ما كان فيه الأمراء من منع النّهابة وكفهم عن أموال الناس، إلا أنّ الأمر كان قد تجاوز الحدّ، وعطب بالنار جماعة كثيرة، ووصل حريق النار إلى قيسارية طشتمر وربع بكتمر الساقي، فلما كفى الله أمر هذا الحريق، وأعان على طفئه بعد أن هدمت عدّة أماكن جليلة، ما بين رباع وحوانيت، وقع الحريق في أماكن من داخل القاهرة وخارج باب زويلة «2» ، ووجد في بعض المواضع التي بها الحريق كعكات بزيت وقطران، فعلم أن هذا من فعل النصارى، كما وقع في الحريق الذي كان في أيام الملك الناصر، وقد ذكر في خبر السيرة الناصرية، فنودي في الناس أن يحترسوا على مساكنهم، فلم يبق أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى أعدّ في داره أوعية ملانة بالماء، ما بين أحواض وأزيار، وصاروا يتناوبون السهر في الليل، ومع ذلك فلا يدري أهل البيت إلّا والنار قد وقعت في بيتهم، فيتداركون طفئها لئلا تشتعل ويصعب أمرها. وترك جماعة من الناس الطبخ في الدور، وتمادى ذلك في الناس من نصف صفر إلى عاشر ربيع الأوّل، فأحضر الأمير سيف الدين تشتمرشاد الدواوين نشابة في وسطها نقط قد وجدها في سطح داره، فأراها للأمراء وهي محروقة النصل، فصدر أمر الوزير منجك للأمير علاء الدين

عليّ بن الكوراني والي القاهرة، بالقبض على الحرافيش وتقييدهم وسجنهم، خوفا من غائلهم ونهبهم الناس عند وقوع الحريق، فتتبعهم وقبض عليهم في الليل من بيوتهم ومن الحوانيت، حتى خلت السكك، منهم. ثم إن الأمراء كلموا الوزير في أمرهم، فأمر بإطلاقهم، ونودي في البلد أن لا يقيم فيها غريب، وطلبوا الخفراء وولاة المراكز وأمروا بالاحتفاظ وتتبع الناس، وأخذ من تتوهم فيه ريبة أو يذكر بشيء من أمر هذا، والحريق أمره في تزايد، وصاروا إلى القاهرة من ذلك في تعب كبير لا ينام هو ولا أعوانه في الليل البتة لكثرة الضجات في الليل، ووقع حريق في شونة حلفاء بمصر مجاورة لمطابخ السكر السلطانية، فركب القاضي علم الدين بن زنبور ناظر الخاص في جماعة، وخرج عامّة أهل مصر، وتكاثروا على الشونة حتى طفئت، ووقع الحريق في عدّة أماكن بمصر، واستمرّ للحريق بمصر والقاهرة مدّة شهر، من ابتدائه بالبندقانيين، ولم يعلم له سبب. واستمرّ كثر خط البندقانيين خرابا إلى أن عمر الأمير يونس النوروزيّ، دوادار الملك الظاهر برقوق، الربع فوق بئر الدلاء التي كانت تعرف ببئر زويلة، وأنشأ بجوار درب الأنجب الحوانيت والرباع والقياسرية، في سنة تسع وثمانين وسبعمائة. ثم أنشأ الأمير شهاب الدين أحمد الحاجب ابن أخت الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، داره بجوار حمام ابن عبود، فاتصل ظهرها بدكاكين البندقانيين، فصار فيها ما كان من خراب الحريق هناك، حيث الحوض الذي أنشأه تجاه دار بيبرس. ولقد أدركنا في خط البندقانيين عدّة كثيرة من الحوانيت التي يباع فيها الفقاع، تبلغ نحو العشرين حانوتا، وكانت من أنزه ما يرى فإنها، كانت كلها مرخمة بأنواع الرخام الملوّن، وبها مصانع من ماء تجري إلى فوّارات تقذف بالماء على ذلك الرخام، حيث كيزان الفقاع مرصوصة فيستحسن منظرها إلى الغاية، لأنها من الجانبين، والناس يمرّون بينهما، وكان بهذا الخط عدّة حوانيت لعمل قسيّ البندق، وعدّة حوانيت لرسم إشكال ما يطرّز بالذهب والحرير، وقد بقيت من هذه الحوانيت بقايا يسيرة، وهو من اخطاط القاهرة الجسيمة. خط دار الديباج: هذا الخط هو فيما بين خط البندقانيين والوزيرية، وكان أوّلا يعرف بخط دار الديباج، لأن دار الوزير يعقوب بن كلس التي من جملتها اليوم المدرسة الصاحبية ودرب الحريري والمدرسة السيفية، عملت دارا ينسج فيها الديباج والحرير برسم الخلفاء الفاطميين، وصارت تعرف بدار الديباج، فنسب إليها الخط إلى أن سكن هناك الوزير صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر، في أيام العادل أبي بكر بن أيوب، فصار يعرف بخط سويقة الصاحب، وهو خط جسيم به مساكن جليلة وسوق ومدرسة. خط الملحيين: هذا الخط فيما بين الوزيرية والبندقانيين من وراء دار الديباج، وتسميه العامّة خط طواحين الملوحيين بواو بعد اللام وقبل الحاء المهملة، وهو تحريف، وإنما هو

خط الملحيين، عرف بطائفة من طوائف العسكر في أيام الخليفة المستنصر بالله يقال لها الملحية، وهم الذي قاموا بالفتنة في أيام المستنصر إلى أن كان من الغلاء ما أوجب خراب البلاد ونهب خزائن الخليفة المستنصر، فلما قدم أمير الجيوش بدر الجمالي إلى القاهرة وتقلد وزارة المستنصر، وتجرد لإصلاح إقليم مصر، وتتبع المفسدين وقتلهم وسار في سنة سبع وستين وأربعمائة إلى الوجه البحريّ وقتل لواته، وقتل مقدّمهم سليمان اللواتي وولده، واستصفى أموالهم ثم توجه إلى دمياط وقتل فيها عدّة من المفسدين، فلما أصلح جميع البرج الشرقيّ عدّى إلى البرّ الغربيّ، وقتل جماعة من الملحية وأتباعهم بثغر الإسكندرية بعد ما أقام أياما محاصر البلد وهم يمتنعون عليه ويقاتلونه إلى أن أخذها عنوة، فقتل منهم عدّة كثيرة، وكان بهذا الخط عدّة من الطواحين، فسمي بخط طواحين الملحيين، وبه إلى الآن يسير من الطواحين. خط المسطاح: هذا الخط فيما بين خط الملحيين وخط سويقة الصاحب، وفيه اليوم سوق الرقيق الذي يعرف بسوق الحوار والمدرسة الحسامية وما دار به، ويعرف بالمسطاح، وبخارج باب القنطرة قريب من باب الشعرية أيضا خط يعرف بالمسطاح. خط قصر أمير سلاح: هذا الخط تجاه حمام البيسري بين القصرين، يسلك فيه إلى مدرسة الطواشي سابق الدين، المعروفة بالسابقية، وكان يخرج منه إلى رحبة باب العيد «1» من باب القصر، إلى أن هدمه الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، وبنى في مكانه القيسارية المستجدّة بجوار مدرسته من رحبة باب العيد، فصار هذا الخط غير نافذ، وكان شارعا مسلوكا يمرّ فيه الناس والدواب بالأحمال، فركب عليه جمال الدين المذكور دروبا لحفظ أمواله، وكان هذا الخط من أخص أماكن القصر الكبير الشرقي، فلما زالت الدولة الفاطمية وتفرّق أمراء صلاح الدين يوسف القصر، عرف هذا المكان بقصر شيخ الشيوخ بن حمويه الوزير لسكنه فيه، ثم عرف بعد ذلك بقصر أمير سلاح، وبقصر سابق الدين، وهو إلى الآن يعرف بذلك، وسبب شهرته بأمير سلاح أنه اتخذ به عمائر جليلة هي بيد ورثته إلى الآن، وأمير سلاح هذا هو بكتاش الفخريّ الأمير بدر الدين أمير سلاح الصالحي النجمي، كان أوّلا مملوكا لفخر الدين ابن الشيخ، فصار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، وتقدّم عنده من جملة من قدّمه من المماليك البحرية الذين ملكوا الديار المصرية من بعد انقضاء الدولة الأيوبية، وتأمّر في أيام الملك الصالح، وتقدّم في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، واستمر أميرا ما ينيف على الستين سنة، لم ينكب فيها قط، وعظم في أيام الملك المنصور قلاون الألفيّ، بحيث أنّ الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة

بديار مصر في أيام قلاون، تجارى مرّة مع السلطان في حديث الأمراء، فقال له المنصور: أما اليوم فما بقي في الأمراء خير أمير سلاح إذا قلت فارس خيل شجاع، ما يردّ وجهه من عدوّه، وإذا حلف ما يخون، وإذا قال صدق. فقال طرنطاي والله يا خوند، له إقطاع عظيم ما كان يصلح إلّا لي. فاحمرّ وجه السلطان وغضب وقال له: ويلك إيّاك أن تتكلم بهذا، والله مكان يصل فيه سيف أمير سلاح ما يصل نشابك ولا نشاب غيرك، وكان كريما شجاعا يسافر كل سنة مجرّدا بالعسكر فيصل إلى حلب للغارة ومحاصرة قلاع العدوّ، فاشتهر بذلك في بلاد العدو وعظم صيته واشتدّت مهابته، وكانت له رغبة في شراء المماليك والخيول بأغلى القيم، وكان يبعث للأمراء المجرّدين معه النفقة، ويقوم لهم بالشعير والأغنام، وبلغت مماليكه الغاية في الحشمة، وكان إقطاع كل منهم في السنة عشرين ألف درهم فضة، عنها يومئذ ألف مثقال من الذهب، ولكل من جنده خبز مبلغه في السنة عشرة آلاف درهم، سوء كلفهم من الشعير واللحم، ومع ذلك فكان خيرا ديّنا له صدقات ومعروف وإحسان كثير، ومات بعد ما ترك أمرته في مرضه الذي ما فيه، للنصف من ربيع الآخر سنة ست وسبعمائة رحمه الله. وبهذا الخط عدّة دور جليلة يأتي ذكرها عند ذكر الدور من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. أولاد شيخ الشيوخ: جماعة أصلهم الذي ينتسبون إليه حمويه بن عليّ، يقال أنه من ولد رزم بن يونان، أحد قوّاد كسرى أنوشروان، وولي قيادة جيش نصر بن نوح بن سامان، ودبر دولته، وهو جدّ شيخ الإسلام محمد، وأخيه أبي سعد بني حمويه بن محمد بن حمويه، وكان محمد وأبو سعد من ملوك خراسان، فتركا الدنيا وأقبلا على طريق الآخرة، ومات ركب الإسلام أبو سعد بنجران من قرى جوين في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، ومات أخوه شيخ الإسلام محمد بها في سنة ثلاثين وخمسمائة، وترك أبو سعد، زيد الدين أحمد وبنات، وترك شيخ الإسلام محمد ولدا واحدا، وهو أبو الحسن عليّ، فتزوّج عليّ بن محمد بابنة عمه أبي سعد ورزق منها سعد الدين، ومعين الدين حسنا، وعماد الدين عمر، وترك زين الدين أحمد بن أبي سعد، ركن الدين أبا سعد، وعزيز الدين، وزين الدين القاسم، فقدّم عماد الدين عمر بن علي بن محمد بن حمويه إلى دمشق، وصار شيخ الشيوخ بها، وقدم عليه ابنه شيخ الشيوخ صدر الدين عليّ، فلما مات عمر في رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة بدمشق، أقرّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولده صدر الدين محمدا موضعه، وصار شيخ الشيوخ بدمشق، فتزوّج بابنة القاضي شهاب الدين ابن أبي عصرون، ورزق منها عشرة بنين، منهم عماد الدين عمر، وفخر الدين يوسف، وكمال الدين أحمد، ومعين الدين حسن، فأرضعت أمّهم بنت أبي عصرون السلطان الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فصار أخا لأولاد صدر الدين شيخ الشيوخ من الرضاعة، وقدم صدر الدين إلى القاهرة وولى تدريس الشافعيّ بالقرافة، ومشيخة الخانقاه

الصلاحية سعيد السعدا، ثم سافر فمات بالموصل في رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة، واستبدّ الملك الكامل بمملكة مصر بعد أبيه، فرقّى أولاد صدر الدين شيخ الشيوخ محمد بن جويه الأربعة، وبعث عماد الدين عمر في الرسالة إلى الخليفة ببغداد، وجمع له بين رياسة العلم والقلم في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، ولم يجتمع ذلك لأحد في زمانه، وما زال على ذلك إلى أن مات الملك الكامل، وقام من بعده في سلطنة مصر ابنه الملك العادل أبو بكر بن الكامل، فخرج إلى دمشق ليحضر إليه الجواد مظفر الدين يونس بن مردود بن العادل أبي بكر بن أيوب نائب السلطنة بدمشق، فدسّ عليه من قتله على باب الجامع في سادس عشري جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وستمائة. وأما فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ صدر الدين فإن الملك الكامل جعله أحد الأمراء، وألبسه الشربوش والقباء ونادمه وبعثه في الرسالة عنه إلى ملك الفرنج، ثم إلى أخيه المعظم بدمشق، ثم إلى الخليفة ببغداد، وأقامه يتحدّث بمصر في تدبير المملكة وتحصيل الأموال، ثم بعثه حتى تسلم حران والرها، وجهزه إلى مكة على عسكر فقاتل صاحبها الأمير راجح الدين بن قتادة، وأخذها بالسيف، وقتل عسكر اليمن، وما زال مكرّما محترما حتى مات الملك الكامل، فقبض عليه العادل ابن الكامل واعتقله، فلما خلع العادل بأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب أطلقه وأمّره وبالغ في الإحسان إليه، وبعثه على العساكر إلى الكرك، فأوقع بالخوارزمية وبدّد شملهم وكانوا قد قدموا من المشرق إلى غزة، وأقام الدعوة للصالح في بلاد الشام وعاد، ثم قدّمه على العساكر فأخذ طبرية من الفرنج وهدمها، وأخذ عسقلان من الفرنج وهدم حصونها، ونازل حمص حتى أشرف على أخذها، ثم تقدّم على العساكر بقتال الفرنج بدمياط، فمات السلطان عند المنصورة، وقام بتدبير الدولة بعده خمسة وسبعين يوما إلى أن استشهد في رابع ذي القعدة سنة سبع وأربعين وستمائة، فحمل من المنصورة إلى القرافة فدفن بها. وأما كمال الدين أحمد، فإن الملك الكامل استنابه بحران والجزيرة، وولي تدريس المدرسة الناصرية بجوار الجامع العتيق بمصر، وتدريس الشافعيّ بالقرافة، ومشيخة الشيوخ بديار مصر، وقدّمه الملك الصالح نجم الدين أيوب على العساكر غير مرّة، ومات بغزة في صفر سنة تسع وثلاثين وستمائة. وأما معين الدين حسن فإنه وليّ مشيخة الشيوخ بديار مصر، وبعثه الملك الكامل في الرسالة عنه إلى بغداد، ثم أقامه نائب الوزارة إلى أن مات، فاستوزره الملك الصالح نجم الدين أيوب في ذي القعدة، سنة سبع وثلاثين وستمائة، وجهّزه على العساكر في هيئة الملوك إلى دمشق، فقاتل الصالح إسماعيل ابن العادل حتى ملكها، ومات بها في ثاني عشري رمضان سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وقد ذكرت أولاد شيخ الشيوخ في كتاب تاريخ

مصر الكبير، واستقصيت فيه أخبارهم والله تعالى أعلم. خط قصر بشتاك: هذا الخط من جملة القصر الكبير، ويتوصل إليه من تجاه المدرسة الكاملية حيث كان باب القصر المعروف بباب البحر، وهدمه الملك الظاهر بيبرس كما تقدّم في ذكر أبواب القصر، وصار اليوم في داخل هذا الباب حارة كبيرة فيها عدّة دور جليلة، منها قصر الأمير بشتاك، وبه عرف هذا الخط. وبشتاك هذا: هو الأمير سيف الدين بشتاك الناصري، قرّبه الملك الناصر محمد بن قلاون، وأعلى محله، وكان يسميه بعد موت الأمير بكتمر الساقي بالأمير في غيبته، وكان زائد التيه لا يكلم استاداره وكاتبه الأبتر جان، ويعرف بالعربيّ ولا يتكلم به، وكان إقطاعه ست عشرة طبلخانة أكبر من إقطاع قوصون، ولما مات بكتمر الساقي ورثه في جميع أحواله واصطبله الذي على بركة الفيل، وفي امرأته أمّ أحمد، واشترى جاريته خوبي بستة آلاف دينار، ودخل معها ما قيمته عشرة آلاف دينار، وأخذ ابن بكتمر عنده وزاد أمره وعظم محله، فثقل على السلطان وأراد الفتك به، فما تمكن، وتوجه إلى الحجاز وأنفق في الأمراء وأهل الركب والفقراء والمجاورين بمكة والمدينة شيأ كثيرا إلى الغاية، وأعطى من الألف دينار إلى المائة دينار إلى الدينار، بحسب مراتب الناس وطبقاتهم، فلما عاد من الحجاز لم يشعر به السلطان إلّا وقد حضر في نفر قليل من مماليكه وقال: إن أردت إمساكي فها أنا قد جئت إليك برقبتي، فغالطه السلطان وطيب خاطره، وكان يرمى بأوابد ودواهي من أمر الزنا وجرّده السلطان لإمساك تنكر نائب الشام، فحضر إلى دمشق بعد إمساكه هو وعشرة من الأمراء، فنزلوا القصر الأبلق، وحلف الأمراء كلهم للسلطان ولذريته، واستخرج ودائع تنكر وعرض حواصله ومماليكه وجواريه وخيله وسائر ما يتعلق به، ووسط طغاي وحفاي مملوكي تنكر في سوق الخيل، ووسط دران أيضا بحضوره يوم الموكب، وأقام بدمشق خمسة عشر يوما وعاد إلى القلعة وبقي في نفسه من دمشق وما تجاسر يفاتح السلطان في ذلك، فلما مرض السلطان وأشرف على الموت، ألبس الأمير قوصون مماليكه، فدخل بشتاك، فعرف السلطان ذلك، فجمع بينهما وتصالحا قدّامه، ونص السلطان على أن الملك بعده لولده أبي بكر، فلم يوافق بشتاك وقال: لا أريد إلّا سيدي أحمد، فلما مات السلطان قام قوصون إلى الشباك وطلب بشتاك وقال له: يا أمير المؤمنين أناما يجيء مني سلطان، لأني كنت أبيع الطسما والبرغالي والكشاتوين، وأنت اشتريت مني، وأهل البلاد يعرفون ذلك، وأنت ما يجيء منك سلطان، لأنك كنت تبيع البوز وأنا اشتريت منك، وأهل البلاد يعرفون ذلك، وهذا أستاذنا هو الذي وصى لمن هو أخبر به من أولاده، وما يسعنا إلّا امتثال أمره حيا وميتا وأنا ما أخالفك إن أردت أحمد أو غيره، ولو أردت أن تعمل كل يوم سلطانا ما خالفتك. فقال بشتاك: هذا كله صحيح، والأمر أمرك، واحضر المصحف وحلفا عليه وتعانقا، ثم قاما إلى رجلي السلطان فقبلاهما، ووضعا أبا بكر ابن السلطان على الكرسيّ

وقبّلا له الأرض وحلفا له، وتلقب بالملك المنصور، ثم إن بشتاكا طلب من السلطان الملك المنصور نيابة دمشق، فأمر له بذلك. وكتب تقليده وبرز إلى ظاهر القاهرة وأقام يومين، ثم طلع في اليوم الثالث إلى السلطان ليودّعه، فوثب عليه الأمير قطلوبغا الفخريّ وأمسك سيفه وتكاثروا عليه فأمسكوه وجهزوه إلى الإسكندرية، فاعتقل بها، ثم قتل في الخامس من ربيع الأوّل سنة اثنين وأربعين وسبعمائة، لأوّل سلطنة الملك الأشرف كجك، وكان شابا أبيض اللون ظريفا مديد القامة نحيفا، خفيف اللحية كأنها عذار، على حركاته رشاقة حسن العمة يتعمم الناس على مثالها، وكان يشبّه بأبي سعيد ملك العراق إلّا أنه كان غير عفيف الفرج زائد الهرج والمرج لم يعف عن مليحة ولا قبيحة، ولم يدع أحدا يفوته، حتى يمسك نساء الفلاحين وزوجات الملاحين. واشتهر بذلك ورمي فيه بأوابد، وكان زائد البذخ منهمكا على ما يقتضيه عنفوان الشبيبة، كثير الصلف والتيه، لا يظهر الرأفة ولا الرحمة في تأنيه، ولما توجه بأولاد السلطان ليفرّجهم في دمياط كان يذبح لسماطه في كل يوم خمسين رأسا من الغنم وفرسا لا بدّ منه، خارجا عن الأوز والدجاج، وكان راتبه دائما كل يوم من الفحم برسم المشوي مبلغ عشرين درهما، عنها مثقال ذهب، وذلك سوى الطوارىء، وأطلق له السلطان كل يوم بقجة قماش من اللفافة إلى الخف إلى القميص واللباس والملوطة والبغلطاق والقباء الفوقاني بوجه اسكندراني على سنجاب طريق مطرّز مزركش رقيق، وكلوته وشاش، ولم يزل يأخذ ذلك كل يوم إلى أن مات السلطان، وأطلق له في يوم واحد عن ثمن قرية تبنى بساحل الرملة مبلغ ألف درهم فضة، عنها يومئذ خمسون ألف مثقال من الذهب، وهو أوّل من أمسك بعد موت الملك الناصر. وقال الأديب المؤرخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ومن كتابه نقلت ترجمة بشتاك: قال الزمان وما سمعنا قوله ... والناس فيه رهائن الأشراك من ينصر المنصور من كيدي وقد ... صاد الردى بشتاك لي بشراك خط باب الزهومة: هذا الخط عرف بباب الزهومة، أحد أبواب القصر الكبير الشرقي الذي تقدّم ذكره، فإنه كان هناك، وقد صار الآن في هذا الخط سوق وفندق وعدّة آدر، يأتي ذكر ذلك كله في موضعه إن شاء الله تعالى. خط الزراكشة العتيق: هذا الخط فيما بين خط باب الزهومة وخط السبع خوخ، وبعضه من دار العلم الجديدة، وبعضه من جملة القصر النافعي، وبعضه من تربة الزعفران، وفيه اليوم فندق المهمندار الذي يدق فيه الذهب، وخان الخليلي، وخان منجك، ودار خواجا، ودرب الحبش، وغير ذلك، كما ستقف عليه إن شاء الله.

خط السبع خوخ العتيق «1» : هذا الخط فيما بين خط اصطبل الطارمة وخط الزراكشة العتيق، كان فيه قديما أيام الخلفاء الفاطميين سبع خوخ يتوصل منها إلى الجامع الأزهر، فلما انقضت أيامهم اختط مساكن وسوقا يباع فيه الإبر التي يخاط بها وغير ذلك، فعرف بالأبّارين. خط اصطبل الطارمة «2» : هذا الخط كان اصطبلا لخاص الخليفة يشرف عليه قصر الشوك والقصر النافعي، وقد تقدّم الكلام عليه، وكانت فيه طارمة يجلس الخليفة تحتها، فعرف بذلك، ثم هو الآن حارة كبيرة فيها عدّة من المساكن وبه سوق وحمّام ومساجد، وهذا الخط فيما بين رحبة قصر الشوك ورحبة الجامع الأزهر، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في ذكر الرحاب. خط الأكفانيين: هذا الخط كان يعرف بخط الخرقيين جمع خرقة «3» . خط المناخ: هذا الخط فيما بين البرقية والعطوفية، كان مواضع طواحين القصر وقد تقدّم ذكره، ثم اختط بعد ذلك وصار حارة كبيرة، وهو الآن متداع للخراب. خط سويقة أمير الجيوش: كان حارة الفرحية، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الأسواق، وهذا الخط فيما بين حارة برجوان وخط خان الوراقة. خط دكة الحسبة: هذا الخط يعرف اليوم بمكسر الحطب، وفيه سوق الأبازرة وهو فيما بين البندقانيين والمحمودية، وفيه عدّة أسواق ودور. خط الفهادين: هذا الخط فيما بين الجوانية والمناخ. خط خزانة البنود: هذا الخط فيما بين رحبة باب العيد ورحبة المشهد الحسيني، وكان موضعه خزانة تعرف بخزانة البنود، وكان أوّلا يعمل فيها السلاح، ثم صارت سجنا لأمراء الدولة وأعيانها، ثم أسكن فيها الفرنج إلى أن هدمها الأمير الحاج آل ملك، وحكر مكانها فبنى فيه الطاحون والمساكن كما تقدّم. خط السفينة: هذا الخط فيما بين درب السلاحي من رحبة باب العيد، وبين خزانة البنود، كان يقف فيه المتظلمون للخليفة كما تقدّم ذكره، ثم اختط فصار فيه مساكن وهو خط صغير. خط خان السبيل: هذا الخط خارج باب الفتوح، وهو من جملة أخطاط الحسينية،

قال ابن عبد الظاهر: خان السبيل بناه الأمير بهاء الدين قراقوش، وأرصده لابنا السبيل والمسافرين بغير أجرة، وبه بئر ساقية وحوض انتهى. وأدركنا هذا الخط في غاية العمارة، يعمل فيه عرصة تباع بها الغلال، وكان فيه سوق يباع فيه الخشب ويجتمع الناس هناك بكرة كل يوم جمعة، فيباع فيه من الأوز والدجاج ما لا يقدر قدره، وكانت فيه أيضا عدة مساكن ما بين دور وحوانيت وغيره، وقد اختل هذا الخط. خط بستان ابن صيرم: هذا الخط أيضا خارج باب الفتوح مما يلي الخليج وزقاق الكحل، كان من جملة حارة البيازرة، فانشأه زمام القصر المختار الصقلبي بستانا، وبني فيه منظرة عظيمة، فلما زالت الدولة الفاطمية استولى عليه الأمير جمال الدين سويخ بن صيرم أحد أمراء الملك الكامل فعرف به، ثم اختط وصار من أجل الأخطاط عمارة تسكنه الأمراء والأعيان من الجند، ثم هو الآن آيل إلى الدثور. خط قصر ابن عمار: هذا الخط من جملة حارة كتامة، وهو اليوم درب يعرف بالقماحين، وفيه حمام كرائي، ودار خوند شقرا، يسلك إليه من خط مدرسة الوزير كريم الدين بن غنام، ويسلك منه إلى درب المنصوري، وابن عمار هذا هو أبو محمد الحسن بن عمار بن عليّ بن أبي الحسن الكلبي من بني أبي الحسب، أحد أمراء صقلية، وأحد شيوخ كتامة، وصاه العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله لما احتضر هو والقاضي محمد بن النعمان على ولده أبي علي منصور، فلما مات العزيز بالله واستخلف من بعده ابنه الحاكم بأمر الله، اشترط الكتاميون وهم يومئذ أهل الدولة أن لا ينظر في أمورهم غير أبي محمد بن عمار بعدما تجمعوا، وخرج منهم طائفة نحو المصلى وسألوا صرف عيسى بن مشطورس، وأن تكون الوساطة لابن عمار، فندب لذلك وخلع عليه في ثالث شوّال سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وقلد بسيف من سيوف العزيز بالله، وحمل على فرس بسرج ذهب، ولقّب بأمين الدولة، وهو أوّل من لقب في الدولة الفاطمية من رجال الدولة، وقيّد بين يديه بحدّة دواب، وحمل معه خمسون ثوبا من سائر البز الرفيع، وانصرف إلى داره في موكب عظيم، وقرىء سجله، فتولى قراءته القاضي محمد بن النعمان بجلوسه للوساطة وتلقيبه بأمين الدولة، والزم سائر الناس بالترجّل إليه، فترجّل الناس بأسرهم له من أهل الدولة، وصار يدخل القصر راكبا، ويشق الدواوين ويدخل من الباب الذي يجلس فيه خدم الخليفة الخاصة، ثم يعدل إلى باب الحجرة التي فيها أمير المؤمنين الحاكم فينزل على بابها ويركب من هناك، وكان الناس من الشيوخ والرؤساء على طبقاتهم يبكرون إلى داره فيجلسون في الدهاليز بغير ترتيب والباب مغلق، ثم يفتح فيدخل إليه جماعة من الوجوه ويجلسون في قاعة الدار على حصير وهو جالس في مجلسه، ولا يدخل له أحد ساعة، ثم يأذن لوجوه من حضر كالقاضي ووجوه شيوخ كتامة والقوّاد فتدخل أعيانهم، ثم يأذن لسائر الناس فيزدحمون عليه، بحيث لا يقدر أحد أن يصل إليه، فمنهم من يومي بتقبيل الأرض ولا يردّ السلام على

ذكر الدروب والأزقة

أحد، ثم يخرج فلا يقدر أحد على تقبيل يده سوى أناس بأعيانهم إلا أنهم يومئون إلى تقبيل الأرض، وشرف أكابر الناس بتقبيل ركابه، وأجلّ الناس من يقبل ركبته، وقرّب كتامة وأنفق فيهم الأموال، وأعطاهم الخيول، وباع ما كان بالاصطبلات من الخيل والبغال والنجب وغيرها، وكانت شيأ كثيرا، وقطع أكثر الرسوم التي كانت تطلق لأولياء الدولة من الأتراك، وقطع أكثر ما كان في المطابخ، وقطع أرزاق جماعة، وفرّق كثيرا من جواري القصر، وكان به من الجواري والخدم عشرة آلاف جارية وخادم، فباع من اختار البيع، وأعتق من سأل العتق طلبا للتوفير، واصطنع أحداث المغاربة، فكثر عتيهم وامتدّت أيديهم إلى الحرام في الطرقات، وشلّحوا الناس ثيابهم، فضج الناس منهم واستغاثوا إليه بشكايتهم، فلم يبد منه كبير نكير فأفرط الأمر حتى تعرّض جماعة منهم للغلمان الأتراك وأرادوا أخذ ثيابهم، فثار بسبب ذلك شرّ قتل فيه غلام من الترك، وحدث من المغاربة، فتجمع شيوخ الفريقين واقتتلوا يومين آخرهما يوم الأربعاء تاسع شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فلما كان يوم الخميس ركب ابن عمار لابسا آلة الحرب وحوله المغاربة، فاجتمع الأتراك واشتدّت الحرب وقتل جماعة وجرح كثير فعاد إلى داره، وقام برجوان بنصرة الأتراك، فامتدّت الأيدي إلى دار ابن عمار واصطبلاته ودار رشا غلامه، فنهبوا منها ما لا يحصى كثرة، فصار إلى داره بمصر في ليلة الجمعة، لثلاث بقين من شعبان واعتزل عن الأمر، فكانت مدّة نظره أحد عشر شهرا إلّا خمسة أيام، فأقام بداره في مصر سبعة وعشرين يوما، ثم خرج إليه الأمر بعوده إلى القاهرة فعاد إلى قصره هذا ليلة الجمعة، الخامس والعشرين من رمضان، فأقام به لا يركب ولا يدخل إليه أحد إلّا أتباعه وخدمه، وأطلقت له رسومه وجراياته التي كانت في أيام العزيز بالله، ومبلغها عن اللحم والتوابل والفواكه خمسمائة دينار في كل شهر، وفي اليوم سلة فاكهة بدينار، وعشرة أرطال شمع، ونصف حمل ثلج، فلم يزل بداره إلى يوم السبت الخامس من شوّال سنة تسعين وثلثمائة، فأذن له الحاكم في الركوب إلى القصر، وأن ينزل موضع نزول الناس، فواصل الركوب إلى يوم الاثنين رابع عشرة، فحضر عشية إلى القصر وجلس مع من حضر، فخرج إليه الأمر بالانصراف، فلما انصرف ابتدره جماعة من الأتراك وقفوا له فقتلوه واحتزوا رأسه ودفنوه مكانه، وحمل الرأس إلى الحاكم، ثم نقل إلى تربته بالقرافة فدفن فيها، وكانت مدّة حياته بعد عزله إلى أن قتل ثلاث سنين وشهرا واحدا وثمانية وعشرين يوما، وهو من جملة وزراء الدولة المصرية، وولى بعده برجوان، وقد مرّ ذكره. ذكر الدروب والأزقة قد اشتملت القاهرة وظواهرها من الدروب والأزقة على شيء كثير، والغرض ذكر ما يتيسر لي من ذلك: درب الأتراك: هذا الدرب أصله من خط حارة الديلم، وهو من الدروب القديمة وقد

تقدّم ذكره في الحارات، ويتوصل إليه من خطة الجامع الأزهر، وقد كان فيما أدركناه من أعمر الأماكن. أخبرني خادمنا محمد بن السعودي قال: كنت أسكن في أعوام بضع وستين وسبعمائة بدرب الأتراك، وكنت أعاني صناعة الخياطة، فجاءني في موسم عيد الفطر من الجيران أطباق الكعك والخشكنانج على عادة أهل مصر في ذلك، فملأت زيرا كبيرا كان عندي مما جاءني من الخشكنانج خاصة، لكثرة ما جاءني من ذلك، إذ كان هذا الخط خاصا بكثرة الأكابر والأعيان، وقد خرب اليوم منه عدّة مواضع. درب الأسواني: ينسب إلى القاضي أبي محمد الحسن بن هبة الله الأسواني، المعروف بابن عتاب. درب شمس الدولة: هذا الدرب كان قديما يعرف بحارة الأمراء كما تقدّم، فلما كان مجىء الغز إلى مصر واستيلاء صلاح الدين يوسف على مملكة مصر، سكن في هذا المكان الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب، فعرف به وسمي من حينئذ درب شمس الدولة، وبه يعرف إلى اليوم: توران شاه الملقب بالملك المعظم شمس الدولة بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان، قدم إلى القاهرة مع أهله من بلاد الشام في سنة أربع وستين وخمسمائة، عندما تقلد صلاح الدين يوسف بن أيوب وزارة الخليفة العاضد لدين الله، بعد موت عمه أسد الدين شير كوه، وكانت له أعمال في واقعة السودان تولّاها بنفسه، واقتحم الهول، فكان أعظم الأسباب في نصرة أخيه صلاح الدين وهزيمة السودان، ثم خرج إليهم بعد انهزامهم إلى الجيزة، فأفناهم بالسيف حتى أبادهم، وأعطاه صلاح الدين قوص وأسوان وعيداب، وجعلها له أقطاعا، فكانت عبرتها في تلك السنة مائتي ألف وستة وستين ألف دينار، ثم خرج إلى غزو بلاد النوبة في سنة ثمان وستين، وفتح قلعة أبريم وسبى وغنم ثم عاد بعد ما أقطع أبريم بعض أصحابه، وخرج إلى بلاد اليمن في سنة تسع وستين وكان بها عبد النبيّ أبو الحسن عليّ ابن مهدي قد ملك زبيد وخطب لنفسه، وكان الفقيه عمارة قد انقطع إلى شمس الدولة، وصار يصف له بلاد اليمن ويرغّبه في كثرة أموالها ويغربه بأهلها، وقال فيه قصيدته المشهورة التي أولها: العلم مذ كان محتاج إلى القلم ... وشفرة السيف تستغني عن القلم فبعثه ذلك على المسير إلى بلاد اليمن فسار إليها في مستهل رجب، ودخل مكة معتمرا وسار منها فنزل على زبيد في سابع شوّال، وفي نهار الاثنين ثامن شوّال فتحها بالسيف وقبض على عليّ بن مهدي وأخوته وأقاربه، واستولى على ما كان في خزائنه من مال، وتسلّم الحصون التي كانت بيده، وفي مستهل ذي القعدة توجه قاصدا عدن، وبذل لياسر بن بلال في كل سنة ثلاثين ألف دينار وسلمها إليه، فما رغب في ذلك، وكان قصده

أن يقيم بها نائبا عن المجلس الفخريّ، فلما أبى ذلك نزل عليها في يوم الجمعة تاسع عشري ذي القعدة وملكها في ساعة بالسيف، وقبض على ياسر وإخوته وولدي الداعي، فاحتوى على ما فيها وقبض على عبد النبيّ، واستولى أيضا على تعز وتفكر وصنعا وظفار وغيرها من مدن اليمن وحصونها، وتلقب بالملك المعظم، وخطب لنفسه بعد الخليفة العباسيّ، وما زال بها إلى سنة إحدى وسبعين فسار منها إلى لقاء أخيه صلاح الدين، ووصل إليه وملّكه دمشق في شهر ربيع الأوّل سنة اثنين وسبعين، فأقام بها إلى أن خرج السلطان صلاح الدين مرة من القاهرة إلى بلاد الشام فجهزه في ذي القعدة سنة أربع وسبعين إلى مصر، وكان قد عمله نائبا ببعلبك، فاستناب عنه فيها ودخل إلى القاهرة، وأنعم عليه صلاح الدين بالإسكندرية، فسار إليها وأقام بها إلى أن توفى في مستهل صفر سنة ست وسبعين وخمسمائة بالإسكندرية، فدفن بها، وكان كريما واسع العطاء، كثير الإنفاق، مات وعليه مائتا ألف دينار مصرية دينا، فقضاها عنه أخوه صلاح الدين، وكان سبب خروجه من اليمن أنه التاث بدنه بزبيد، فارتجل له سيف الدولة مبارك بن منقذ: وإذا أراد الله سوءا بامرئ ... وأراد أن يحييه غير سعيد أغراه بالترحال من مصر بلا ... سبب وأسكنه بصقع زبيد فخرج من اليمن كما تقدّم. وحكى الأديب الفاضل مهذب الدين أبو طالب محمد بن علي الحلي المعروف بابن الخيمي قال: رأيت في النوم المعظم شمس الدولة وقد مدحته وهو في القبر ميت، فلفّ كفنه ورماه إليّ وأنشدني: لا تستقلنّ معروفا سمحت به ... ميتا وأمسيت عنه عاريا بدني ولا تظننّ جودي شابه بخل ... من بعد بذلي بملك الشام واليمن إني خرجت عن الدنيا وليس معي ... من كل ما ملكت كفي سوى كفني وهذا الدرب من أعمر أخطاط القاهرة، به دار عباس الوزير وجماعة كما تراه إن شاء الله تعالى. درب ملوخيا: هذا الدرب كان يعرف بحارة قائد القوّاد كما تقدم، وعرف الآن بدرب ملوخيا، وملوخيا كان صاحب ركاب الخليفة الحاكم بأمر الله، ويعرف بملوخيا الفرّاش، وقتله الحاكم وباشر قتله، وفي هذا الدرب مدرسة القاضي الفاضل، وقد اتصل به الآن الخراب. درب السلسلة: هذا الدرب تجاه باب الزهومة، يعرف بالسلسلة التي كانت تمدّ كل ليلة بعد العشاء الآخرة كما تقدّم، وكان يعرف بدرب افتخار الدولة الأسعد، وعرف بسنان

الدولة بن الكركنديّ وهو الآن درب عامر. درب الشمسي: هذا الدرب بسوق المهامزيين تجاه قيسارية العصفر، عرف بالأمير علاء الدين كشنقدي الشمسيّ، أحد الأمراء في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، وقتل على عكا في سنة تسعين وستمائة بيد الفرنج شهيدا، وكان هذا الدرب في القديم موضعه دار الضرب، ثم صار من حقوق درب ابن طلائع بسوق الفرّايين، وقد هدم بعض هذا الدرب الأمير جمال الدين يوسف الاستادار «1» ، لما اغتصب الحوانيت التي كانت على يمنة السالك من الخراطين إلى سوق الخيميين، وكانت في وقف المعظم تمرتاش الحافظي كما سيأتي ذكره، عند ذكر مدرسته إن شاء الله تعالى. درب بن طلائع: هذا الدرب على يسرة من سلك من سوق الفرّايين الآن، الذي كان يعرف قديما بالخرقيين، طالبا إلى الجامع الأزهر، ويسلك في هذا الدرب إلى قيسارية السروج، وباب ممرّ حمّام الخرّاطين، ودار الأمير الدمر، وعرف هذا الدرب أوّلا بالأمير نور الدولة أبي الحسن عليّ بن نجا بن راجح بن طلائع، ثم عرف بدرب الجاولي الكبير، وهو الأمير عز الدين جاولي الأسدي، مملوك أسد الدين شير كوه بن شادي، ثم عرف بدرب العماد سنينات، ثم عرف بدرب الدمر، وبه يعرف إلى الآن. (الدمر أمير جان دار «2» سيف الدين) أحد أمراء الملك الناصر محمد بن قلاون، خرج إلى الحج في سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان أمير حاج الركب العراقي تلك السنة، يقال له محمد الحويج من أهل توريز، بعثه أبو سعيد ملك العراق إلى مصر، وخفّ على قلب الملك الناصر، ثم بلغه عنه ما يكرهه فأخرجه من مصر، ولما بلغه أنّ حويج في هذه السنة أمير الركب العراقيّ، كتب إلى الشريف عطيفة أمير مكة أن يعمل الحيلة في قتله بكل ما يمكن، فأطلع على ذلك ابنه مباركا وخواص قوّاده، فاستعدّوا لذلك، فلما وقف الناس بعرفة وعادوا يوم النحر إلى مكة، قصد العبيد إثارة فتنة وشرعوا في النهب لينالوا غرضهم من قتل أمير الركب العراقيّ، فوقع الصارخ وليس عند المصريين خبر مما كتبه السلطان، فنهض أمير الركب الأمير سيف الدين خاص ترك، والأمير أحمد قريب السلطان، والأمير الدمر أمير جان دار في مماليكهم، وأخذ الدمر يسب الشريف رميته، وأمسك بعض قوّاده وأحدق به، فقام إليه الشريف عطيفة ولا طفه فلم يرجع، وكان حديد النفس شجاعا فأقدم إليهم وقد اجتمع قوّاد مكة وأشرافها وهم ملبسون يريدون الركب العراقيّ، وضرب مبارك بن عطيفة بدبوس فأخطأه، وضربه مبارك بحربة نفذت من صدره، فسقط عن فرسه إلى

الأرض، فأرتج الناس ووقع القتال، فخرج أمير الركب العراقيّ واحترس على نفسه فسلم، وسقط في يد أمير مكة إذ فات مقصوده، وحصل ما لم يكن بإرادته، ثم سكنت الفتنة ودفن الدمر، وكان قتله يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، فكأنما نادى منادي في القاهرة والقلعة والناس في صلاة العيد بقتل الدمر ووقوع الفتنة بمكة، ولم يبق أحد حتى تحدّث بذلك، وبلغ السلطان فلم يكترث بالخبر. وقال أين مكة من مصر، ومن أتى بهذا الخبر، واستفيض هذا الخبر بقتل الدمر حتى انتشر في إقليم مصر كله، فما هو إلّا أن حضر مبشر الحاج في يوم الثلاثاء ثاني المحرّم سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة فاخبروا بالخبر مثل ما أشيع، فكان هذا من أغرب ما سمع به، ولما بلغ السلطان خبر قتل الدمر غضب غضبا شديدا، وصار يقوم ويقعد، وأبطل السماط وأمر فجرد من العسكر ألفا فارس كل منهم بخودة وجوشن ومائة فردة نشاب وفأس برأسين أحدهما للقطع والآخر للهدم، ومع كل منهم جملان وفرسان وهجين، ورسم لأمير هذا العسكر أنه إذا وصل إلى ينبع وعدّاه، لا يرفع رأسه إلى السماء بل ينظر إلى الأرض ويقتل كل من يلقاه من العربان إلّا من علم أنّه أمير عرب، فإنه يقيده ويسجنه معه، وجرّد من دمشق ستمائة فارس على هذا الحكم، وطلب الأمير أيتمش أمير هذا الجيش ومن معه من الأمراء والمقدّمين وقال له: بدار العدل يوم الخدمة: وإذا وصلت إلى مكة لا تدع أحدا من الأشراف ولا من القوّاد ولا من عبيدهم يسكن مكة، وناد فيها من أقام بمكة حلّ دمه، ولا تدع شيئا من النخل حتى تحرقه جميعه، ولا تترك بالحجاز دمنة عامرة، وأخرب المساكن كلها، وأقم في مكة بمن معك حتى أبعث إليك بعسكر ثاني، وكان القضاة حاضرين. فقال قاضي القضاة جلال الدين القزوينيّ: يا مولانا السلطان، هذا حرم قد أخبر الله عنه أنّ من دخله كان آمنا، وشرّفه. فردّ عليه جوابا في غضب. فقال الأمير أيتمش يا خوند، فإن حضر دمنة للطاعة وسأل الأمان؟ فقال أمّنه. ثم لما سكن عنه الغضب كتب باستقرار أهل مكة وتأمينهم، وكتب أمانا نسخته: هذا أمان الله سبحانه وتعالى، وأمان رسوله صلى الله عليه وسلّم، وأماننا للمجلس العالي الأسدي دمنة بن الشريف نجم الدين محمد بن أبي نمر، بأن يحضر إلى خدمة الصنجق الشريف صحبة الجناب العالي السيفي أيتمش الناصري، آمنا على نفسه وأهله وماله وولده وما يتعلق به، لا يخشى حلول سطوة قاصمة، ولا يخاف مؤاخذة حاسمة، ولا يتوقع خديعة ولا مكرا، ولا يحذر سوأ ولا ضررا، ولا يستشعر مخافة ولا ضرارا، ولا يتوقع وجلا، ولا يرهب بأسا. وكيف يرهب من أحسن عملا، بل يحضر إلى خدمة الصنجق آمنا على نفسه وماله وآله مطمئنا واثقا بالله ورسوله. وبهذا الأمان الشريف المؤكد الأسباب المبيض الوجه الكريم الأحساب، وكلما يخطر بباله أنا نؤاخذ به فهو مغفور، ولله عاقبة الأمور، وله منّا الإقبال

والتقديم، وقد صفحنا الصفح الجميل، وأنّ ربك هو الخلّاق العليم، فليثق بهذا الأمان الشريف ولا يسيء به الظنون، ولا يصغي إلى قول الذين لا يعلمون، ولا يستشير في هذا الأمر إلّا نفسه، فيومه عندنا ناسخ لأمسه. وقد قال صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظنّ بي خيرا، فتمسك بعروة هذا الأمان فإنها وثقى، واعمل عمل من لا يضل ولا يشقى، ونحن قد أمّنّاك فلا تخف، ورعينا لك الطاعة والشرف، وعفا الله عما سلف، ومن أمّناه فقد فاز، فطب نفسا وقرّ عينا، فأنت أمير الحجاز والحمد لله وحده» . وكان الدمر فيه شهامة وشجاعة وله سعادة طائلة ضخمة ومتاجر وزراعات اقتنى بها أموالا جزيلة، وزوّج ابنه بابنة قاضي القضاة جلال الدين القزويني. درب قيطون: هذا الدرب بين قيسارية جهاركس وقيسارية أمير علي، وهو نافذ إلى خلف مستوقد حمّام القاضي، وكان من حقوق درب الأسواني. درب السراج: هذا الدرب على يسرة من سلك من الجامع الأزهر طالبا درب الأسوانيّ، وخط الأكفانيين، وكان من جملة خط درب الأسواني ثم أفرد فصار من خط الجامع الأزهر، وكان يعرف أوّلا بدرب السراج، ثم عرف بدرب الشامي، وهو الآن يعرف بدرب ابن الصدر عمر. درب القاضي: هذا الدرب يقابل مستوقد حمّام القاضي، على يمنة من سلك من درب الأسوانيّ إلى الجامع الأزهر، وهو من حقوق درب الأسواني، كان يعرف أوّلا بزقاق عزاز، غلام أمير الجيوش شاور السعدي وزير العاضد، ثم عرف بالقاضي السعيد أبي المعالي هبة الله بن فارس، ثم عرف بزقاق ابن الإمام، وعرف أخيرا بدرب ابن لؤلؤ، وهو شمس الدين محمد بن لؤلؤ التاجر، بقيسارية جهاركس. درب البيضاء: هو من جملة خط الأكفانيين الآن، المسلوك إليه من الجامع الأزهر وسوق الفرّايين، عرف بذلك لأنه كان به دار تعرف بالدار البيضاء. درب المنقدي: هذا الدرب بين سوق الخيميين وسوق الخرّاطين، على يمنة من سلك من الخرّاطين إلى الجامع الأزهر، كان يعرف قديما بزقاق غزال، وهو صنيعة الدولة أبو الظاهر إسماعيل بن مفضل بن غزال، ثم عرف بدرب المنقدي، وهو الآن يعرف بدرب الأمير بكتمر استادار العلاي. درب خرابة صالح: هذا الدرب على يسرة من سلك من أوّل الخرّاطين إلى الجامع الأزهر، كان موضعه في القديم مارستانا، ثم صار مساكن، وعرف بخرابة صالح، وفيه الآن دار الأمير طينال التي صارت بيد ناصر الدين محمد البارزي كاتب السرّ، وفيه أيضا باب سوق الصنادقيين.

درب الحسام: هذا الدرب على يمنة من سلك من آخر سويقة الباطلية إلى الجامع الأزهر، عرف بحسام الدين لاجين الصفدي استادار الأمير منجك. درب المنصوري: هذا الدرب بأوّل الحارة الصالحية تجاه درب أمير حسين، عرف أوّلا بدرب الجوهري، وهو شهاب الدين أحمد بن منصور الجوهري، كان حيا في سنة ثمانين وستمائة، وعرف أخيرا بدرب المنصوري، وهو الأمير قطلو بغا المنصوري حاجب الحجّاب في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين. درب أمير حسين: هذا الدرب في طريق من سلك من خط خان الدميري طالبا إلى حارة الصالحية وحارة البرقية، استجدّه الأمير حسين بن الملك الناصر محمد بن قلاون، ومات في ليلة السبت رابع شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وسبعمائة، وكان آخر من بقي من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون، وهو والد الملك الأشرف شعبان بن حسين. درب القماحين: هذا الدرب كان يعرف بخط قصر ابن عمار، من جملة حارة كتامة، قريبا من الحارة الصالحية، وفيه اليوم دار خوند شقرا وحمام كراي وراء مدرسة ابن الغنام. درب العسل: هذا الدرب على يمنة من خرج من خط السبع خوخ يريد المشهد الحسيني، كان يعرف أوّلا بخوخة الأمير عقيل ابن الخليفة المعز لدين الله أبي تميم معدّ، أوّل خلفاء الفاطميين بالقاهرة، ومات في سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، هو وأخوه الأمير تميم بن المعز بالقاهرة، ودفنا بتربة القصر. درب الجباسة: هذا الدرب تجاه من يخرج من سوق الأبارين إلى المشهد الحسيني، وهو من جملة القصر الكبير، وبه دار خوخي التي تعرف اليوم بدار بهادر. درب ابن عبد الظاهر: هذا الدرب بجوار فندق الذهب بخط الزراكشة العتيق، وفي صفه، وهو من حقوق دار العلم التي استجدّت في خلافة الآمر ووزارة المأمون الباطيجي، فلما زالت الدولة اختط مساكن وسكن هناك القاضي محي الدين ابن عبد الظاهر فعرف به. درب الخازن: هذا الدرب ملاصق لسور المدرسة الصالحية التي للحنابلة، ومجاور لباب سرّ قاعة مدرسة الحنابلة، والسبيل الذي على باب فندق مسرور الصغير، استجدّه الأمير علم الدين سنجر الخازن الأشرفيّ والي القاهرة، المنسوب إليه حكر الخازن بخط الصليبة، وسنجر هذا كانت فيه حشمة وله ثروة زائدة، ويحب أهل العلم، تنقل في المباشرات إلى أن صار والي القاهرة، فاشتهر بدقة الفهم وصدق الحدس الذي لا يكاد يخطئ، مع عقل وسياسة وإحسان إلى الناس، وعزل بالأمير قديدار ومات عن تسعين سنة في ثامن جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة.

درب الحبيشي: هذا الدرب على يمنة من سلك من خط الزراكشة العتيق طالبا سوق الأبّارين، وهو بجوار دار خواجا المجاورة لخان منجك، أصله من جملة القصر النافعي، وكان يعرف بخط القصر النافعي، ثم عرف بخط سوق الوراقين، وهو الآن يعرف بدرب الحبيشي، وهو الأمير سيف الدين بلبان الحبيشي أحد الأمراء الظاهرية بيبرس. درب بقولا الصفار: بحارة الروم، كان يعرف بدرب الرومي الجزار. درب دغمش: هذا الدرب ينفذ إلى الخوخة التي تخرج قبالة حمّام الفاضل المرسوم لدخول النساء، كان يعرف قديما بدرب دغمش، ويقال طغمش، ثم عرف بدرب كوز الزير، ويقال كوز الزيت، ويعرف بدرب القضاة بني غثم من حقوق حارة الروم. درب أرقطاي: هذا الدرب بحارة الروم، كان يعرف بدرب الشماع، ثم عرف بدرب شمخ، وهو تاج العرب شمخ الحلبي، ثم عرف بدرب المعظم، وهو الأمير عز الملك المعظم ابن قوام الدولة جبر، بجيم وباء موحدة، ثم عرف بدرب أرسل، وهو الأمير عز الدين أرسل بن قرأ رسلان الكاملي والد الأمير جاولي المعظمي، المعروف بجاولي الصغير، ثم عرف بدرب الباسعردي، وهو الأمير علم الدين سنجر الباسعردي أحد أكابر المماليك البحرية الصالحية النجمية، وولي نيابة حلب، ثم عرف إلى الآن بدرب ابن أرقطاي، والعامّة تقول رقطاي بغير همز، وهو أرقطاي الأمير سيف الدين الحاج أرقطاي أحد مماليك الملك الأشرف خليل ابن قلاون، وصار إلى أخيه الملك الناصر محمد فجعله جمدارا «1» وكان هو والأمير أيتمش نائب الكرك بينهما أخوة، ولهما معرفة بلسان الترك القيجاقي، ويرجع إليهما في الياسة التي هي شريعة جنكزخان التي تقول العامّة وأهل الجهل في زماننا هذا حكم السياسة، يريدون حكم الياسة، ثم إن الملك الناصر أخرجه مع الأمير تنكر إلى دمشق، ثم استقرّ في نيابة حمص لسبع مضين من رجب سنة عشر وسبعمائة، فباشرها مدّة ثم نقله إلى نيابة صفد في سنة ثمان عشرة، فأقام بها وعمر فيها أملاكا وتربة، فلما كان في سنة ست وثلاثين طلب إلى مصر وجهز الأمير أيتمش أخوه مكانه وعمل أمير مائة بمصر، فلما توجه العسكر إلى اياس خرج معهم وعاد، فكان يعمل نيابة الغيبة إذا خرج السلطان للصيد، ثم أخرج إلى نيابة طرابلس عوضا عن طينال، فأقام بها إلى أن توجه الطنبغا إلى طشطمر نائب حلب، وكان معه بعسكر طرابلس، فلما جرى من هروب الطنبغا ما جرى، كان أرقطاي معه، فأمسك واعتقل بسكندرية، ثم أفرج عن أرقطاي في أوّل سلطنة الملك الصالح إسماعيل بوساطة الأمير ملكتمر الحجازي وجعل أميرا إلى أن مات الصالح.

وقام من بعده الملك الكامل شعبان ورسم له بنيابة حلب عوضا عن الأمير يلبغا اليحياوي، فحضر إليها في جمادى الأولى سنة ست وأربعين، فأقام بها نحو خمسة أشهر، ثم طلب إلى مصر فحضر إليها فلم يكن غير قليل حتى خلع الكامل وتسلطن المظفر حاجي، وولاه نيابة السلطنة بمصر فباشرها إلى أن خلع المظفر وأقيم في السلطنة الملك الناصر، استعفى من النيابة وسأل نيابة حلب فأجيب وولي نيابة حلب وخرج إليها، وما زال فيها إلى أن نقل منها إلى نيابة دمشق، ففرح أهلها به وساروا إلى حلب، فرحل عنها فنزل به مرض، وسار وهو مريض فمات بعين مباركة ظاهر حلب يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى سنة خمس وسبعمائة وقد أناف عن السبعين. فعاد أهل دمشق خائبين. وكان زكيا فطنا محجاجا لسنا مع عجمة في لسانه، وله تبنيت مطبوع وميل إلى الصور الجميلة ما يكاد يملك نفسه إذا شاهدها مع كرم في المأكول. درب البنادين: بحارة الروم، يعرف بالبنادين من جملة طوائف العساكر في الدولة الفاطمية، ثم عرف بدرب أمير جاندار، وهو ينفذ إلى حمام الفاضل المرسوم بدخول الرجال، وأمير جاندار هذا هو الأمير علم الدين سنجر الصالحي المعروف بأمير جندار. درب المكرّم: بحارة الروم يعرف بالقاضي المكرّم جلال الدين حسين بن ياقوت البزاز نسيب ابن سنا الملك. درب الضيف: بحارة الديلم، عرف بالقاضي ثقة الملك أبي منصور نصر بن القاضي الموفق أمير الملك أبي الظاهر إسماعيل بن القاضي أمين الدولة أبي محمد الحسن بن علي بن نصر بن الضيف. كان موجودا في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وبه أيضا رحبة تعرف برحبة الضيف منسوبة إليه. درب الرصاصي: بحارة الديلم، هذا الدرب كان يعرف بحكر الأمير سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء، صهر بني رزبك من وزراء الدولة الفاطمية، ثم عرف بحكر تاج الملك بدران بن الأمير سيف الدين المذكور، ثم عرف بالأمير عز الدين أيبك الرصاصي. درب ابن المجاور: هذا الدرب على يسرة من دخل من أوّل حارة الديلم، كان فيه دار الوزير نجم الدين بن المجاور وزير الملك العزيز عثمان، عرف به وهو يوسف بن الحسين بن محمد بن الحسين أبو الفتح نجم الدين الفارسيّ الشيرازي، المعروف بابن المجاور، كان والده صوفيا من أهل فارس، ثم من شيراز، قدم دمشق وأقام في دويرة الصوفية بها. وكان من الزهد والدين بمكان، وأقام بمكة وبها مات في رجب سنة ست وثمانين وخمسمائة، وكان أخوه أبو عبد الله قد سمع الحديث وحدّث وقدم إلى القاهرة ومات بدمشق أوّل رمضان سنة خمس وعشرين وستمائة.

درب الكهارية: هذا الدرب فيه المدرسة الكهارية بجوار حارة الجودرية المسلوك إليه من القماحين، ويتوصل منه إلى المدرسة الشريفية. درب الصفيرة: بتشديد الفاء هذا الدرب بجوار باب زويلة، وهو من حقوق حارة المحمودية وكان نافذا إلى المحمودية، وهو الآن غير نافذ وأصله درب الصفيراء تصغير صفراء، هكذا يوجد في الكتب القديمة، وقد دخل بجميع ما كان فيه من الدور الجليلة بالجامع المؤيدي. درب الأنجب: هذا الدرب تجاه بئر زويلة التي من فوق فوهتها اليوم ربع يونس من خط البندقانيين، يعرف بالقاضي الأنجب أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن نصر بن عليّ، أحد الشهود في أيام قاضي القضاة سنان الملك أبي عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسر، وكان حيا في سنة بضع وعشرين وخمسمائة، وينسب إلى الحسين بن الأنجب المقدسيّ، أحد الشهود المعدّلين، وكان موجودا في سنة ستمائة، ثم عرف هذا الدرب بأولاد العميد الدمشقيّ، فإنه كان مسكنهم، ثم عرف بالبساطيّ، وهو قاضي القضاة جمال الدين يوسف. درب كنيسة جدة: بضم الجيم، هذا الدرب بالبندقانيين كان يعرف بدرب بنت جدّة، ثم عرف بدرب الشيخ السديد الموفق. درب ابن قطز: هذا الدرب بجوار مستوقد حمّاد الصاحب ورباط الصاحب من خط سويقة الصاحب، عرف بناصر الدين بن بلغاق بن الأمير سيف الدين قطز المنصوريّ، ومات بعد سنة ثمان وتسعين وستمائة. درب الحريري: هذا الدرب من جملة دار الديباج هو ودرب ابن قطز المذكور قبله، ويتوصل إليه اليوم من أوّل سويقة الصاحب وفيه المدرسة القطبية، عرف بالقاضي نجم الدين محمد بن القاضي فتح الدين عمر المعروف بابن الحريريّ، فإنه كان ساكنا فيه. درب ابن عرب: هذا الدرب بخط سويقة الصاحب كان يعرف بدرب بني أسامة الكتاب، أهل الإنشاء في الدولة الفاطمية، ثم عرف بدرب بني الزبير الأكابر الرؤساء في الدولة الفاطمية، ثم سكنه القاضي علاء الدين عليّ بن عرب محتسب القاهرة في أيام الأمير بليغاق وكيل بيت المال، فعرف به إلى اليوم، وابن عرب هذا هو علاء الدين أبو الحسن عليّ بن عبد الوهاب بن عثمان بن عليّ بن محمد عرف بابن عرب، ولي الحسبة بالقاهرة في آخر صفر سنة خمس وستين وسبعمائة، وولي وكالة بيت المال أيضا وتوفي. درب ابن مغش: هذا الدرب تجاه المدرسة الصاحبية، عرف أخيرا بتاج الدين موسى كاتب السعديّ وناظر الخاص في الأيام الظاهرية برقوق، وله به دار مليحة، وكان ماجنا متهتكا يرمي بالسوء، وأما الديانة فإنه قبطيّ، وعنه أخذ سعد الدين إبراهيم بن غراب وظيفة

ناظر الخاص، وعاقبه بين يديه، ثم صار يتردّد بعد ذلك إلى مجلسه، وهلك في واقعة تيمور لنك بدمشق في شعبان سنة ثلاث وثمانمائة بعد ما احترق بالنار لما احترقت دمشق وأكل الكلاب بعضه. درب مشترك: هذا الدرب يقرب من درب العدّاس تجاه الخط الذي كان يعرف بالمساطح، وفيه الآن سوق الجواري، عرف أوّلا بدرب الأخناي قاضي القضاة برهان الدين المالكيّ، فإنه كان يسكن فيه، ثم هو الآن يقال له درب مشتكر وهذه كلمة تركية أصلها بلسانهم أج ترك بضم الهمزة وأشمامها، ثم جيم بين الجيم والشين ومعنى ذلك ثلاث وترك بتاء مثناة من فوق ثم راء مهملة وكاف. ومعناها النخل، ومعنى هذا الاسم ثلاث نخيل، وعرّبته العامّة فقالت مشترك وهو مشترك السلاح دار الظاهر برقوق، فإنه سكن بها ومات في سنة 801 «1» . درب العداس: هذا الدرب فيما بين دار الديباج والوزيرية، عرف بعليّ بن عمر العدّاس صاحب سقيفة العدّاس. درب كاتب سيدي: هذا الدرب من جملة خط الملحيين، كان يعرف بدرب تقيّ الدين الأطرباني أحد موقعي الحكم عند قاضي القضاة تقيّ الدين الأخناوي ثم عرف بالوزير لصاحب علم الدين عبد الوهاب القبطيّ الشهير بكاتب سيدي. الوزير كاتب سيدي: تسمى لما أسلم بعبد الوهاب بن القسيس، وتلقّب علم الدين، وعرف بين الكتاب الأقباط بكاتب سيدي وترقى في الخدم الديوانية حتى ولي ديوان المرتجع، وتخصص بالوزير الصاحب شمس الدين إبراهيم كاتب أرلان، فلما أشرف من مرضه على الموت عين للوزارة من بعده علم الدين هذا فولاه الملك الظاهر وظيفة الوزارة بعد موت الوزير شمس الدين في سادس عشري شعبان سنة تسع وثمانين وسبعمائة. فباشر الوزارة إلى يوم السبت رابع عشري رمضان سنة تسعين وسبعمائة، ثم قبض عليه وأقيم في منصب الوزارة بدله الوزير الصاحب كريم الدين بن الغنام وسلمه إليه وكان قد أراد مصادرة كريم الدين فاتفق استقراره في الوزارة وتمكنه منه، فألزمه بحمل مال قرّره عليه. فيقال أنه حمل في هذا اليوم ثلثمائة ألف درهم عنها إذ ذاك نحو العشرة آلاف مثقال ذهبا، ومات بعد ذلك من هذه السنة. وكان كاتبا بليغا كتب بيده بضعا وأربعين رزمة من الورق، وكانت أيامه ساكنة والأحوال متمشية وفيه لين. درب مخلص: هذا الدرب بحارة زويلة، عرف بمخلص الدولة أبي الحيا مطرف المستنصري، ثم عرف بدرب الرايض وهو الأمير طراز الدولة الرايض باصطبل الخلافة.

درب كوكب: هذا الدرب هو الآن زقاق شارع يسلك فيه من حارة زويلة إلى درب الصقالبة، عرف أوّلا بالقائد الأعز مسعود المستنصر، ثم عرف بكوكب الدولة ابن الحناكي. درب الوشاقي: بحارة زويلة، عرف بالأمير حسام الدين سنقر الوشاقي المعروف بالأعسر، السلاح دار أحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. درب الصقالبة: بحارة زويلة: عرف بطائفة الصقالبة أحد طوائف العساكر في أيام الخلفاء الفاطميين وهم جماعة. درب الكنجي: بحارة زويلة، كان يعرف بدرب حليلة، ثم عرف بالأمير شمس الدين سنقر شاه الكنجي الحاجب الظاهريّ، قتله قلاون أوّل سلطنته. درب رومية: هذا الدرب كان في القديم فيما بين زقاق القابلة ودرب الزراق، فزقاق القابلة فيه اليوم كنيسة اليهود بحارة زويلة، ويتوصل منه إلى السبع سقايات ودار بيبرس التي عرفت بدار كاتب السرّ ابن فضل الله تجاه حمام ابن عبود، ودرب الزراق هو اليوم من جملة خط سويقة الصاحب، وبينهما الآن دور لا يوصل إليه إلّا بعد قطع مسافة، ودرب رومية كان يعرف أوّلا بزقاق حسين بن إدريس العزيزي أحد اتباع الخليفة العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله، ثم عرف بدرب رومية، وهو بجوار زقاق القابلة الذي عرف بزقاق العسل، ثم عرف بزقاق المعصرة، وعرف اليوم بزقاق الكنيسة. درب الخضيري: هذا الدرب يقابل باب الجامع الأقمر البحري وهو من جملة حقوق القصر الصغير الغربيّ، عرف بالأمير عز الدين ايدمر الخضيريّ أحد أمراء الملك المنصور قلاوون. درب شعلة: هو الشارع المسلوك فيه من باب درب ملوخيا إلى خط الفهادين والعطوفية، وقد خرب. درب نادر: هذا الدرب بجوار المدرسة الجمالية فيما بين درب راشد ودرب ملوخيا، عرف بسيف الدولة نادر الصقلبيّ، وتوفي لاثنتي عشرة خلت من صفر سنة اثنين وثمانين وثلثمائة، فبعث إليه الخليفة العزيز بالله لكفنه خمسين قطعة من ديباج مثقل، وخلّف ثلثمائة ألف دينار عينا وآنية من فضة وذهب وعبيدا وخيلا وغير ذلك مما بلغت قيمته نحو ثمانين ألف دينار، وكان أحد الخدام ذكره المسبحي في تاريخه، وقد ذكر ابن عبد الظاهر: أنّ بالسويقة التي دون باب القنطرة دربا يعرف بدرب نادر، فلعله نسب إليه درب كان هناك في القديم أيضا. درب راشد: هذا الدرب تجاه خزانة البنود عرف بيمين الدولة راشد العزيزي.

درب النميريّ: عرف بالأمير سيف المجاهدين محمد بن النميريّ أحد أمراء الخليفة الحافظ لدين الله، ووليّ عسقلان في سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكانت ولايتها أكبر من ولاية دمشق، وهذا الدرب كان ينفذ إلى درب راشد وهو الآن غير نافذ، وفي داخله درب يعرف بأولاد الداية طاهر وقاسم الأفضلين أحد أتباع الأفضل بن أمير الجيوش، وعرف الآن بدرب الطفل، وهو من جملة خطة قصر الشوك، فإنه قبالة باب قصر الشوك وبينهما سوقة رحبة الأيدمري. درب قراصيا: هذا الدرب من جملة الدروب القديمة، وكان تجاه باب قصر الزمرّد الذي في مكانه اليوم المدرسة الحجازية، وهذا الدرب اليوم من جملة خطة رحبة باب العيد بجوار سجن الرحبة وقد هدمه الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، وهدم كثيرا من دوره وعملها وكالة فمات ولم تكمل، وهي إلى الآن بغير تكملة، ثم كمله الملك المؤيد شيخ وجعله وقفا على جامعه وهو إلى الآن خان عامر. درب السلامي: هذا الدرب من جملة خط رحبة باب العيد وفيه إلى اليوم أحد أبواب القصر المسمى بباب العيد، والعامّة تسميه القاهرة، وهذا الدرب يسلك منه إلى خط قصر الشوك وإلى المارستان العتيق الصلاحي وإلى دار الضرب وغير ذلك. عرف بخواجا مجد الدين السلامي: إسماعيل بن محمد بن ياقوت الخواجا مجد الدين السلامي تاجر الخاص في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان يدخل إلى بلاد الططر ويتجر ويعود بالرقيق وغيره، واجتهد مع جويان إلى أن اتفق الصلح بين الملك الناصر وبين القان أبي سعيد، فانتظم ذلك بسفارته وحسن سعيه فازدادت وجاهته عند الملكين، وكان الملك الناصر يسفره ويقرّر معه أمورا فيتوجه ويقضيها على وفق مراده بزيادات، فأحبه وقرّبه ورتب له الرواتب الوافرة، في كل يوم من الدراهم واللحم والعليق والسكر والحلواء والكماج والرقاق مما يبلغ في اليوم مائة وخمسين درهما، عنها يومئذ ثمانية مثاقيل من الذهب، وأعطاه قرية أراك ببعلبك، وأعطى مماليكه إقطاعات في الحلقة، وكان يتوجه إلى الأردن ويقيم فيه الثلاث سنين والأربع والبريد لا ينقطع عنه، وتجهّز إليه التحف والأقمشة ليفرّقها على من يراه من خواص أبي سعيد وأعيان الأردن، ثقة بمعرفته ودرايته، وكان النشو «1» ناظر الخاص لا يفارقه ولا يصبر عنه، ومن أملاكه ببلاد المشرق السلامية والمأخوذة والمراوزة والمناصف، ولما مات الملك الناصر قلاوون تغير عليه الأمير قوصون وأخذ منه مبلغا يسيرا، وكان ذا عقل وافر وفكر مصيب وخبرة بأخلاق الملوك وما يليق بخواطرها ودراسة بما يتحفها به من الرقيق والجواهر، ونطق سعيد وخلق رضيّ وشكالة

حسنة وطلعة بهية، ومات في داره من درب السلاميّ هذا يوم الأربعاء سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، ودفن بتربته خارج باب النصر، ومولده في سنة إحدى وسبعين وستمائة بالسلّاميّة، بلدة من أعمال الموصل على يوم منها بالجانب الشرقيّ، وهي بفتح السين المهملة وتشديد اللام وبعد الميم ياء مثناة من تحت مشدّدة ثم تاء التأنيث. درب خاص ترك: هذا الدرب برحبة باب العيد عرف بالأمير الكبير ركن الدين بيبرس المعروف بخاص الترك الكبير، أحد الأمراء الصالحية النجمية، أو بالأمير عز الدين أيبك، المعروف بخاص الترك الصغير، سلاح دار الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري. درب شاطي: هذا الدرب يتوصل منه إلى قصر الشوك، عرف بالأمير شرف الدين شاطي، السلاح دار في أيام الملك المنصور قلاوون، وكان أميرا كبيرا مقدّما بالديار المصرية، وأخرجه الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الشام فأقام بدمشق، وكانت له حرمة وافرة وديانة وفيه خير، ومات بها في الحادي والعشرين من شعبان سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة. درب الرشيدي: هذا الدرب مقابل باب الجوانية عرف بالأمير عز الدين أيدمر الرشيدي، مملوك الأمير بلبان الرشيدي، خوش داش «1» الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري وولي الأمير ايدمر هذا، استدارا لأستاذه بلبان، ثم ولي استدارا للأمير سلار، ومات في تاسع عشر شوّال سنة ثمان وسبعمائة، وكان سكنه في هذا الدرب وكان عاقلا ذا ثروة وجاه، وكان في القديم موضع هذا الدرب براحا قدّام الحجر. درب الفريحية: هذا الدرب على يمنة من خرج من الجملون الصغير طالبا درب الرشيدي المذكور، وهو من الدروب التي كانت في أيام الخلفاء. درب الأصفر: هذا الدرب تجاه خانقاه الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وموضع هذا الدرب هو المنحر الذي تقدّم ذكره. درب الطاوس: هذا الدرب في الحدرة التي عند باب سرّ المارستان المنصوري على يمنة من ابتدا الخروج منه، وكان موضعه بجوار باب الساباط أحد أبواب القصر الصغير، وقد تقدّم ذكره، ودرب الطاوس أيضا بالقرب من درب العدّاس فيما بين باب الخوخة والوزيرية. درب ماينجار: هذا الدرب بجوار جامع أمير حسين من حكر جوهر النوبي خارج القاهرة، عرف بالأمير ما ينجار الروميّ الواقديّ أيام الملك الظاهر بيبرس، وقد خربت تلك

الديار في سلطنة الملك المؤيد شيخ. درب كوسا: هو الآن يسلك فيه على شاطىء الخليج الكبير من قنطرة الأمير حسين إلى قنطرة الموسكي، عرف بحسام الدين كوسا أحد مقدّمي الخلفاء في أيام الملك المنصور قلاوون، مات بعد سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وهذا الموضع تجاه دار الذهب التي تعرف اليوم بدار الأمير حسين الططريّ السلاح دار الناصريّ، وقد خربت أيضا. درب الجاكي: هذا الدرب بالحكر عرف بالأمير شرف الدين إبراهيم بن عليّ بن الجنيد الجاكي المهمندار «1» المنصوري، وقد دثر في أيام المؤيد على يد الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الاستادار، لما خرب ما هناك. درب الحرامي: بالحكر، عرف بسعد الدين حسين بن عمر بن محمد الحرامي وابنه محيي الدين يوسف، وكانا من أجناد الحلقة. درب الزراق: بالحكر، عرف بالأمير عز الدين أيدمر الزراق، أحد الأمراء، ولّاه الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون نيابة غزة في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، فأقام بها مدّة ثم استعفى بعد موت الملك الصالح وعاد إلى القاهرة، ثم توجه إلى دمشق للحوطة على موجود الخاصكية يلبغا اليحياوي في الأيام المظفرية وعاد فلما ركب العسكر على المظفر لم يكن معه سوى الزراق واق سنقر وأيدمر الشمسي فنقم الخاصكية عليهم ذلك وأخرجوهم إلى الشام، فوصلوا إليها في أوّل شوّال سنة ثمان وأربعين، فأقام الزراق بدمشق، ثم ورد مرسوم السلطان حسن بتوجيههم إلى حلب فتوجه إليها على إقطاع وبها مات، وكان ديّنا ليّنا فيه خير، وكان هذا الدرب عامرا وفيه دار الزراق الدار العظيمة، وقد خرب هذا الدرب وما حوله منذ كانت الحوادث في سنة ست وثمانمائة ثم نقضت الدار في أيام المؤيد شيخ، على يد ابن أبي الفرج. زقاق طريف: بالطاء المهملة، هذا الزقاق من أزقة البرقية، عرف بالأمير فخر الدين طريف بن بكتوت، وكان يعرف بزقاق منار بن ميمون بن منار، توفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. زقاق منعم: بحارة الديلم، كان يعرف بمساطب الديلم والأتراك، ثم عرف بالأمير منعم الدولة باتكين بالبوسحاقي، ثم عرف بزقاق جمال الدولة، ثم بزقاق الجلاطي، ثم بزقاق الصهرجتي، وهو القاضي المنتخب ثقة الدولة أبو الفضل محمد بن الحسين بن هبة الله بن وهيب الصهرجتي، وكان حيّا في سنة ستين وخمسمائة.

ذكر الخوخ

زقاق الحمام: بحارة الديلم، عرف قديما بخوخة المنقدي، ثم عرف بخوخة سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء، صهر بني رزبك، ثم عرف بزقاق حمام الرصاصي، ثم عرف بزقاق المزار. زقاق الحرون: بحارة الديلم، عرف بالأمير الأوحد سلطان الجيوش زري الحرون، رفيق العادل بن السلاروز مصر في أيام الخليفة الظافر بأمر الله، ثم عرف بابن مسافر عين القضاة، ثم عرف بزقاق القبة. زقاق الغراب: بالجودرية، كان يعرف بزقاق أبي العز، ثم عرف بزقاق ابن أبي الحسن العقيلي، ثم قيل له زقاق الغراب، نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن رضوان الملقب بغراب. زقاق عامر: بالوزيرية، عرف بعامر القماح في حارة الأقانصة. زقاق فرج: بالجيم، من جملة أزقة درب ملوخيا، عرف بفرج مهتار الطشتخاناه «1» للملك المنصور قلاوون، كان حيّا في سنة ثلاث وثمانين وستمائة. زقاق حدرة: الزاهدي بحارة برجوان، عرفت بالأمير ركن الدين بيبرس الزاهدي الرمّاح الأحدب، أحد الأمراء وممن له عدّة غزوات في الفرنج، ولما تمالأ الأمراء على الملك السعيد ابن الظاهر وسبقهم إلى القلعة كان قدّامه بيبرس الزاهدي هذا، فسقط عن فرسه وخرجت له حدبة في ظهره، ومات في سنة ثلاث وتسعين وستمائة وكان مكان هذه الحدرة إخصاصا، وهي الآن مساكن بينها زقاق يسلك فيه من رأس الحارة إلى رحبة الأفيال. ذكر الخوخ «2» والقصد إيراد ما هو مشهور من الخوخ، أو لذكره فائدة، وإلّا فالخوخ والدروب والأزقة كثيرة جدا. الخوخ السبع: كانت سبع خوخ فيما يقال متصلة باصطبل الطارمة، يتوصل منها الخلفاء إذا أرادوا الجامع الأزهر، فيخرجون من باب الديلم الذي هو اليوم باب المشهد الحسينيّ إلى الخوخ، ويعبرون منها إلى الجامع الأزهر، فإنه كان حينئذ فيما بين الخوخ

والجامع رحبة، كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وكان هذا الخط يعرف أوّلا بخوخة الأمير عقيل، ولم يكن فيه مساكن، ثم عرف بعد انقضاء دولة الفاطميين بخط الخوخ السبع، وليس لهذه الخوخ اليوم أثر البتة، ويعرف اليوم بالأبارين. باب الخوخة: هو أحد أبواب القاهرة مما يلي الخليج في حدّ القاهرة البحري، يسلك إليه من سويقة الصاحب ومن سويقة المسعوديّ، وكان هذا الباب يعرف أوّلا بخوخة ميمون دبه، ويخرج منه إلى الخليج الكبير. وميمون دبه يكنّى بأبي سعيد، أحد خدام العزيز بالله، كان خصيا. خوخة ايدغمش: هذه الخوخة في حكم أبواب القاهرة، يخرج منها إلى ظاهر القاهرة عند غلق الأبواب في الليل وأوقات الفتن إذا غلقت الأبواب، فينتهي الخارج منها إلى الدرب الأحمر واليانسية، ويسلك من هناك إلى باب زويلة، ويصار إليها من داخل القاهرة إما من سوق الرقيق أو من حارة الروم من درب أرقطاي، وهذه الخوخة بجوار حمّام أيدغمش. وهو ايدغمش الناصري، الأمير علاء الدين، أصله من مماليك الأمير سيف الدولة بلبان الصالحيّ، ثم صار إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون، فلما قدم من الكرك جعله أمير أخور «1» عوضا عن الأمير بيبرس الحاجب، ولم يزل حتى مات الملك الناصر فقام مع قوصون ووافقه على خلع الملك المنصور أبي بكر بن الملك الناصر، ثم لما هرب الطنبغا الفخري اتفق الأمراء مع أدغمش على الأمير قوصون فوافقهم على محاربته، وقبض على قوصون وجماعته وجهزهم إلى الاسكندرية، وجهز من أمسك الطنبغا ومن معه وأرسلهم أيضا إلى الإسكندرية، وصار ايدغمش في هذه النوبة هو المشار إليه في الحلّ والعقد، فأرسل ابنه في جماعة من الأمراء والمشايخ إلى الكرك بسبب إحضار أحمد بن الملك الناصر محمد، فلما حضر أحمد من الكرك وتلقب بالملك الناصر واستقرّ أمره بمصر أخرج إيدغمش نائبا بحلب، فسار إلى عين جالوت «2» ، وإذا بالفخري قد صار إليه مستجيرا به، فآمنه وأنزله في خيمة، فلما ألقى عنه سلاحه واطمأنّ قبض عليه وجهز إلى الملك الناصر أحمر، وتوجه إلى حلب فأقام بها إلى أن استقرّ الملك الصالح إسماعيل بن محمد في السلطنة، نقله عن نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فدخلها في يوم العشرين من صفر سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وما زال بها إلى يوم الثلاثا ثالث جمادى الآخرة منها. فعاد من مطعم طيوره وجلس بدار السعادة حتى انقضت الخدمة، وأكل الطاري وتحدّث، ثم دخل إلى داره فإذا جواريه يختصمن، فضرب واحدة منهنّ ضربتين وشرع في الضربة الثالثة فسقط ميتا، ودفن من الغد في تربته خارج ميدان الحصى ظاهر دمشق، وكان جوادا كريما، وله مكانة عند الملك الناصر الكبير بحيث أنّه أمّر أولاده الثلاثة، وكان قد بعث الملك الصالح بالقبض

عليه فبلغ القاصد موته في قطيا فعاد. خوخة الأرقي: بحارة الباطلية، يخرج منها إلى سوق الغنم وغيره وهي بجوار داره. خوخة عسيلة: هذه الخوخة من الخوخ القديمة الفاطمية، وهي بحارة الباطلية مما يلي حارة الديلم في ظهر الزقاق المعروف بخرابة العجيل بجوار دار الست حدق. خوخة الصالحية: هذه الخوخة بجوار حبس الديلم، قريبة من دار الصالح طلائع بن رزبك التي هدمها ابن قايمار وعمرها، وكانت تعرف هذه الخوخة أوّلا بخوخة بحتكين، وهو الأمير جمال الدولة بحتكين الظاهريّ، ثم عرفت بخوخة الصالح طلائع بن رزبك، لأنّ داره كانت هناك وبها كان سكنه قبل أن يلي وزارة الظافر. خوخة المطوع: هذه الخوخة بحارة كتامة في أوّلها مما يلي الجامع الأزهر، عند اصطبل الحسام الصفدي، عرفت بالمطوع الشيرازي. خوخة حسين: هذه الخوخة في الزقاق الضيق المقابل لمن يخرج من درب الأسوانيّ ويسلك فيه إلى حكر الرصاصيّ، بحارة الديلم، ويعرف هذا الزقاق بزقاق المزار، وفيه قبر تزعم العامّة ومن لا علم عنده أنه قبر يحيى بن عقب، وأنه كان مؤدّبا للحسين بن عليّ بن أبي طالب، وهو كذب مختلق وأفك مفتري. كقولهم في القبر الذي بحارة برجوان أنه قبر جعفر الصادق، وفي القبر الآخر أنه قبر أبي تراب النخشبيّ، وفي القبر الذي على يسرة من خرج من باب الحديد ظاهر زويلة أنه قبر زارع النوي وأنه صحابيّ، وغير ذلك من أكاذيبهم التي اتخذها لهم شياطينهم أنصابا ليكونوا لهم عزّا، وسيأتي الكلام على هذه المزارات في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وحسين هذا: هو الأمير سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء، صهر بني رزبك، وكان كرديا قدّمه الصالح بن رزبك ابن الصالح لما وليّ الوزارة ونوه به، فلما مات وقام من بعده ابنه رزبك بن الصالح في الوزارة، كان حسين هذا هو مدبر أمره بوصية الصالح، واستشار حسينا في صرف شاور عن ولاية قوص، فأشار عليه بإبقائه، فأبى وولى الأمير أبي الرفعة مكانه، وبلغ ذلك شاور فخرج من قوص إلى طريق الواحات، فلما سمع رزبك بمسيره رأى في النوم مناما عجيبا، فأخبر حسينا بأنه رأى مناما، فقال: إن بمصر رجلا يقال له أبو الحسن عليّ بن نصر الأرتاجيّ، وهو حاذق في التعبير فأحضره. وقال: رأيت كأنّ القمر قد أحاط به حنش، وكأنني روّاس في حانوت. فغالطه الأرتاجي في تعبير الرؤيا وظهر ذلك لحسين، فأمسك حتى خرج. وقال له: ما أعجبني كلامك والله، لا بدّ أن تصدقني ولا بأس عليك. فقال: يا مولاي، القمر عندنا هو الوزير، كما أن الشمس الخليفة، والحنش المستدير عليه حبس مصحف، وكونه روّاس اقبلها تجدها شر مصحفا، وما وقع لي غير

هذا. فقال حسين: اكتم هذا عن الناس. وأخذ حسين في الاهتمام بأمره، ووطأ أنه يريد التوجه إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قد أحسن إلى أهلها وحمل إليها مالا وقماشا وأودعه عند من يثق به، هذا وأمر شاور يقوى ويتزايد ويصل الأرجاف به إلى أن قرب من القاهرة، فصاح الصائح في بني رزبك وكانوا أكثر من ثلاثة آلاف فارس، فأوّل من نجا بنفسه حسين، وسار فسأل عنه رزبك فقالوا: خرج. فانقطع قلبه لأن حسينا كان مذكورا بالشجاعة مشهورا بها، وله تقدّم في الدولة ومكانة وممارسة للحروب وخبرة بها، ولم يثبت بعد خروج حسين بل انهزم إلى ظاهر اطفيح فقبض عليه ابن النيض مقدّم العرب وأحضره إلى شاور فحبسه، وصدقت رؤياه ومات حسين في سنة «1» خوخة الحلبي: هذه الخوخة في آخر اصطبل الطارمة بجوار حمّام الأمير علم الدين سنجر الحلبيّ وفي ظهر داره. سنجر الحلبيّ: أحد المماليك الصالحية، ترقّى في الخدم إلى أن ولّاه الملك المظفر سيف الدين قطز نيابة دمشق، فلما قتل قطز على عين جالوت وقام من بعده في السلطنة بالديار المصرية الملك الظاهر بيبرس، ثار سنجر بدمشق في سنة ثمان وخمسين وستمائة ودعا إلى نفسه، وتلقب بالملك المجاهد، وبقي أشهرا والملك الظاهر يكاتب أمراء دمشق إلى أن خامروا على سنجر وحاصروه بقلعة دمشق أياما، فلما خشي أن يقبض عليه فرّ من القلعة إلى بعلبك، فجهز إليه الظاهر الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري وما زال يحاصره حتى أخذه أسيرا، وبعث به إلى الديار المصرية، فاعتقله الظاهر وما زال في الاعتقال من سنة تسع وخمسين إلى سنة تسع وثمانين وسبعمائة، مدّة تنيف على ثلاثين سنة، مدّة أيام الملك الظاهر وولديه وأيام الملك المنصور قلاوون، فلما ولي الملك الأشرف خليل بن قلاوون أخرجه من السجن وخلع عليه وجعله أحد الأمراء الأكابر على عادته، فلم يزل أميرا بمصر إلى أن مات على فراشه في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة، وقد جاوز تسعين سنة، وانحنى ظهره وتقوّس. خوخة الجوهرة: هذه الخوخة بآخر حارة زويلة، عرفت اليوم بخوخة الوالي لقربها من دار الأمير علاء الدين الكورانيّ والي القاهرة، وكان من خير الولاة يحفظ كتاب الحاوي في الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وأقام في ولاية القاهرة من محرّم سنة تسع وأربعين وسبعمائة بعد استدمر القلنجيّ وإلى القاهرة إلى «2» خوخة مصطفى: هذه الخوخة بآخر زقاق الكنيسة من حارة زويلة، يخرج منها إلى القبو الذي عند حمّام طاب الزمان المسلوك منه إلى قبو منظرة اللؤلؤة على الخليج، عرفت

بالأمير فارس المسكين مصطفى أحد أمراء بني أيوب الملوك، وهو أيضا صاحب هذا الحمّام. خوخة ابن المأمون: هذه الخوخة في حارة زويلة بالدرب الذي بقرب حمام الكوبك، ويقال لهذه الخوخة اليوم باب حارة زويلة، وأصلها خوخة في درب ابن المأمون البطائحي. خوخة كوتية أق سنقر: هذه الخوخة في الزقاق الذي يظهر المدرسة الفهرية بآخر سويقة الصاحب، كان يسلك منها إلى الخليج من جوار باب الذهب، وموضعها بحذاء بيت القاضي أمين الدين ناظر الدولة، ولم تزل إلى أن بنى المهتار عبد الرحمن البابا داره بجوارها في سني بضع وتسعين وسبعمائة، فسدّها، وعرفت هذه الخوخة أخيرا بخوخة المسيري، وهو قمر الدين بن السعيد المسيري. خوخة أمير حسين: هذه الخوخة من جملة الوزيرية، يخرج منها إلى تجاه قنطرة أمير حسين، فتحها الأمير شرف الدين حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن حيدرة بيك الرومي حين بنى القنطرة على الخليج الكبير، وأنشأ الجامع بحكر جوهر التوبي. وجرى في فتح هذه الخوخة أمر لا بأس بإيراده: وهو أن الأمير حسين قصد أن يفتح في السور خوخة لتمرّ الناس من أهل القاهرة فيها إلى شارع بين السورين ليعمر جامعه، فمنعه الأمير علم الدين سنجر الخازن وإلي القاهرة من ذلك إلّا بمشاورة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان للأمير حسين إقدام على السلطان، وله به مؤانسة، فعرّفه أنه أنشأ جامعا، وسأله أن يفسح له في فتح مكان من السور ليصير طريقا نافذا يمرّ فيه الناس من القاهرة ويخرجون إليه، فأذن له في ذلك وسمح به، فنزل إلى السور وخرق منه قدر باب كبير ودهن عليه رنكه بعد ما ركب هناك بابا ومرّ الناس منه، واتفق أنه اجتمع بالخازن والي القاهرة وقال له على سبيل المداعبة: كم كنت تقول ما أخليك تفتح في السور بابا حتى تشاور السلطان، ها أنا قد شاورته وفتحت بابا على رغم أنفك، فحنق الخازن من هذا القول وصعد إلى القلعة ودخل على السلطان وقال: يا خوند أنت رسمت للأمير شرف الدين أن يفتح في السور بابا، وهو سور حصين على البلد. فقال السلطان: إنما شاورني أن يفتح خوخة لأجل حضور الناس للصلاة في جامعه. فقال الخازن: يا خوند ما فتح إلّا بابا يعادل باب زويلة، وعمل عليه رنكة، وقصد يعمل سلطانا على البارد، وما جرت عادة أحد بفتح سور البلد. فأثر هذا الكلام من الخازن في نفس السلطان أثرا قبيحا وغضب غضبا شديدا، وبعث إلى النائب وقد اشتدّ حنقه بأن يسفر حسين بن حيدر إلى دمشق، بحيث لا يبيت في المدينة، فخرج من يومه من البلد بسبب ما تقدّم ذكره.

ذكر الرحاب

ذكر الرحاب الرحبة بإسكان الحاء وفتحها: الموضع الواسع، وجمعها رحاب. اعلم أنّ الرحاب كثيرة لا تتغير إلّا بأن يبني فيها، فتذهب ويبقى اسمها، أو يبني فيها ويذهب اسمها ويجهل، وربما انهدم بنيان وصار موضعه رحبة أو دارا أو مسجدا، والغرض ذكر ما فيه فائدة. رحبة باب العيد: هذه الرحبة كان أوّلها من باب الريح أحد أبواب القصر الذي أدركنا هدمه على يد الأمير جمال الدين الاستادار، في سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وإلى خزانة البنود، وكانت رحبة عظيمة في الطول والعرض، غاية في الاتساع، يقف فيها العساكر فارسها وراجلها في أيام مواكب الأعياد ينتظرون ركوب الخليفة وخروجه من باب العيد، ويذهبون في خدمته لصلاة العيد بالمصلى خارج باب النصر، ثم يعودون إلى أن يدخل من الباب المذكور إلى القصر، وقد تقدّم ذكر ذلك، ولم تزل هذه الرحبة خالية من البناء إلى ما بعد الستمائة من الهجرة، فاختط فيها الناس وعمروا فيها الدور والمساجد وغيرها، فصارت خطة كبيرة من أجل أخطاط القاهرة، وبقى اسم رحبة باب العيد باقيا عليها لا تعرف إلّا به. رحبة قصر الشوك: هذه الرحبة كانت قبليّ القصر الكبير الشرقيّ، في غاية الاتساع، كبيرة المقدار، وموضعها من حيث دار الأمير الحاج أل ملك بجوار المشهد الحسينيّ والمدرسة الملكية إلى باب قصر الشوك، عند خزانة البنود، وبينها وبين رحبة باب العيد خزانة البنود والسفينة، وكان السالك من باب الديلم الذي هو اليوم المشهد الحسينيّ إلى خزانة البنود يمرّ في هذه الرحبة، ويصير سور القصر على يساره، والمناخ ودار افتكين على يمينه، ولا يتصل بالقصر بنيان البتة، وما زالت هذه الرحبة باقية إلى أن خرب القصر بفناء أهله، فاختط الناس فيها شيئا بعد شيء حتى لم يبق منها سوى قطعة صغيرة تعرف برحبة الأيد مري. رحبة الجامع الأزهر: هذه الرحبة كانت أمام الجامع الأزهر وكانت كبيرة جدّا، تبتدىء من خط اصطبل الطارمة إلى الموضع الذي فيه مقعد الأكفانيين اليوم، ومن باب الجامع البحريّ إلى حيث الخرّاطين. ليس بين هذه الرحبة ورحبة قصر الشوك سوى اصطبل الطارمة، فكان الخلفاء حين يصلّون بالناس بالجامع الأزهر تترجل العساكر كلها وتقف في هذه الرحبة حتى يدخل الخليفة إلى الجامع، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى عند ذكر الجوامع. ولم تزل هذه الرحبة باقية إلى أثناء الدولة الأيوبية، فشرع الناس في العمارة بها إلى أن بقى منها قدّام باب الجامع البحري هذا القدر اليسير. رحبة الحليّ: هذه الرحبة الآن من خط الجامع الأزهر ومن بقية رحبة الجامع التي تقدّم ذكرها، عرفت بالقاضي نجم الدين أبي العباس أحمد بن شمس الدين عليّ بن نصر الله بن مظفر الحليّ، التاجر العادل لأنها تجاه داره.

رحبة البانياسي: هذه الرحبة بدرب الأتراك تجاه دار الأمير طيدمر الجمدار الناصري، وعرفت بالأمير نجم الدين محمود بن موسى البانياسيّ، لأنّ داره كانت فيها، ومسجده المعلق هناك، ومات بعد سنة خمسمائة. رحبة الأيدمري: هذه الرحبة من جملة رحبة باب قصر الشوك، وعرفت بالأيدمري لأنّ داره هناك. والأيدمريّ: هذا مملوك عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة في أيام الملك الظاهر بيبرس، ترقى في الخدم حتى تأمّر في أيام الملك الظاهر بيبرس، وعلت منزلته في أيام الملك المنصور قلاوون، ومات سنة سبع وثمانين وستمائة، ودفن بتربته في القرافة بجوار الشافعي رضي الله عنه. رحبة البدري: هذه الرحبة يدخل إليها من رحبة الأيدمري من باب قصر الشوك، ومن جهة المارستان العتيق، وهي من جملة القصر الكبير، عرفت بالأمير بيدمر البدري صاحب المدرسة البدرية، فإن داره هناك. رحبة ضروط: هذه الرحبة بجوار دار أيّ ملك، وهي من جملة رحبة قصر الشوك، عرفت بالأمير ضروط الحاجب، فإنه كان يسكن هناك. رحبة اقبغا: هذه الرحبة هي الآن سوق الخيميين، وهي من جملة رحبة الجامع الأزهر التي مرّ ذكرها، عرفت بالأمير اقبغا عبد الواحد أستادار الملك الناصر، وصاحب المدرسة الأقبغاوية. رحبة مقبل: هذه الرحبة كانت تعرف بخط بين المسجدين، لأنّ هناك مسجدين أحدهما يقابل الآخر، ويسلك من هذه الرحبة إلى سويقة الباطلية، وإلى زقاق تريده، وعرفت أخيرا بالأمير زين الدين مقبل الرومي أمير جاندار الملك برقوق. رحبة ألدمر: هذه الرحبة في الدرب أوّل سوق الفرّايين مما يلي الأكفانيين، عرفت بالأمير سيف الدين الدمر الناصريّ المقتول بمكة. رحبة قردية: هذه الرحبة بخط الاكفانين، تجاه دار الأمير قردية الجمدار الناصريّ، وكانت هذه الدار تعرف قديما بالأمير سنجر الشكاري، وله أيضا مسجد معلق يدخل من تحته إلى الرحبة المذكورة، وهناك اليوم قاعة الذهب التي فيها الذهب الشريط لعمل المزركش. رحبة المنصوريّ: قبالة دار المنصوريّ، عرفت بالأمير قطلوبغا المنصوري المقدّم ذكره.

رحبة المشهد: هذه الرحبة تجاه المشهد الحسيني، كانت رحبة فيما بين باب الديلم أحد أبواب القصر الذي هو الآن المشهد الحسيني وبين اصطبل الطارمة. رحبة أبي البقاء: هذه الرحبة من جملة رحبة باب العيد تجاه باب قاعة ابن كتيلة بخط السفينة، عرفت بقاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء محمد بن عبد البرّ بن يحيى بن عليّ بن تمام السبكيّ الشافعيّ، ومولده في سنة سبع وسبعمائة، أحد العلماء الأكابر، تقلد قضاء القضاة بديار مصر والشام ومات في ... «1» . رحبة الحجازية: هذه الرحبة تجاه المدرسة الحجازية، وهي من جملة رحبة باب العيد، عرفت برحبة الحجازية. رحبة قصر بشتاك: هذه الرحبة تجاه قصر بشتاك، وهي من جملة الفضاء الذي بين القصرين. رحبة سلار: تجاه حمام البيسري ودار الأمير سلار نائب السلطنة، هي أيضا من جملة الفضاء الذي كان بين القصرين. رحبة الفخري: هذه الرحبة بخط الكافوري تجاه دار الأمير سيف الدين قطلوبغا الطويل الفخري السلاح دار الأشرفيّ، أحد أمراء الملك الناصر محمد بن قلاوون. رحبة الأكز: بخط الكافوري، هذه الرحبة تجاه دار الأمير سيف الدين الأكز الناصري الوزير، وتعرف أيضا برحبة الأبوبكري، لأنها تجاه دار الأمير سيف الدين الأبوبكري السلاح دار الناصريّ، وهي شارعة في الطريق يسلك إليها من دار الأمير تنكز ويتوصل منها إلى دار الأمير مسعود وبقية الكافوري. رحبة جعفر: هذه الرحبة تجاه حارة برجوان، يشرف عليها شباك مسجد تزعم العوام أن فيه قبر جعفر الصادق. وهو كذب مختلق، وأفك مفتري، ما اختلف أخف من أهل العلم بالحديث والآثار والتاريخ والسير أنّ جعفر بن محمد الصادق عليه السلام مات قبل بناء القاهرة بدهر، وذلك أنه مات سنة ثمان وأربعين ومائة، والقاهرة بلا خلاف اختطت في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بعد موت جعفر الصادق بنحو مائتي سنة وعشر سنين، والذي أظنه أن هذا موضع قبر جعفر بن أمير الجيوش بدر الجمالي المكنّى بأبي محمد، الملقب بالمظفر، ولما ولي أخوه الأفضل ابن أمير الجيوش الوزارة من بعد أبيه جعل أخاه المظفر جعفرا يلي العلامة عنه، ونعت بالأجل المظفر سيف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين خليل، أمير المؤمنين أبي محمد جعفر بن أمير الجيوش بدر الجمالي، وتوفي ليلة

الخميس لسبع خلون من جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمسمائة، مقتولا، يقال قتله خادمه جوهر بمباطنة من القائد أبي عبد الله محمد بن فاتك البطائحي، ويقال بل كان يخرج في الليل يشرب، فجاء ليلة وهو سكران، فمازحه دراب حارة برجوان وتراميا بالحجارة، فوقعت ضربة في جنبه آلت به إلى الموت، والذي نقل أنّه دفن بتربة أبيه أمير الجيوش فإما أن يكون دفن هنا أوّلا، ثم نقل أو لم يدفن هنا، ولكنه من جملة ما ينسب إليه، فإنه بجوار دار المظفر التي من جملتها دار قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسي وما قاربها، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى عند ذكر دار المظفر. رحبة الأفيال: هذه الرحبة من جملة حارة برجوان، يتوصل إليها من رأس الحارة، ويسلك في حدرة الزاهديّ إليها، وأدركتها ساحة كبيرة، والمشيخة تسميها رحبة الأفيال، وكذا يوجد في مكاتيب الدور القديمة، ويقال أنّ الفيلة في أيام الخلفاء كانت تربط بهذه الرحبة أمام دار الضيافة، ولم تزل خربة إلى ما بعد سنة سبعين وسبعمائة، فعمر بها دويرات ووجد فيها بئر متسعة ذات وجهين تشبه أن تكون البئر التي كانت سوّاس الفيلة يستقون منها، ثم طمت هذه البئر بالتراب. رحبة مازن: هذه الرحبة بحارة برجوان تجاه باب دار مازن التي خربت، وفيها المسجد المعروف بمسجد بني الكوبك. رحبة أقوش: هذه الرحبة بحارة برجوان تجاه قاعة الأمير جمال الدين أقوش الرومي السلاح دار الناصريّ، التي حل وقفها بهاء الدين محمد بن البرجي، ثم بيعت من بعده، ومات أقوش سنة خمس وسبعمائة. رحبة برلغي: هذه الرحبة عند باب سرّ المدرسة القراسنقرية، تجاه دار الأمير سيف الدين برلغي الصغير، صهر الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وهذه الرحبة من جملة خط داء الوزارة. رحبة لؤلؤ: هذه الرحبة بحارة الديلم في الدرب الذي بخط ابن الزلابي، وهي تجاه دار الأمير بدر الدين لؤلؤ الزردكاش الناصريّ، وهو من جملة من فرّ مع الأمير قراسنقر وأقوس الأفرم إلى ملك التتر بو سعيد. رحبة كوكاي: هذه الرحبة بحارة زويلة، عرفت بالأمير سيف الدين كوكاي السلاح دار الناصريّ، وفيها المدرسة القطبية الجديدة. رحبة ابن أبي ذكرى: هذه الرحبة بحارة زويلة، وهي التي فيها البئر السائلة بالقرب من المدرسة العاشورية، عرفت بالأمير ابن أبي ذكرى، وهي من الرحاب القديمة التي كانت أيام الخلفاء، وبها الآن سوق حارة اليهود القرّايين.

رحبة بيبرس: هذه الرحبة يتوصل إليها من سويقة المسعوديّ، ومن حمام ابن عبود، عرفت بالملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فإنّ بصدرها داره التي كانت سكنه قبل أن يتقلد سلطنة ديار مصر، وقد حلّ وقفها وبيعت. رحبة بيبرس الحاجب: هذه الرحبة بخط حارة العدوية عند باب سر الصاغة، عرفت بالأمير بيبرس الحاجب، لأنّ داره بها، وبيبرس هذا هو الذي ينسب إليه غيط الحاجب بجوار قنطرة الحاجب، وبهذه الرحبة الآن فندق الأمير الطواشي زمام الدور السلطانية زين الدين مقبل، وبه صار الآن هذا الخط يعرف بخط فندق الزمام، بعد ما كنا نعرفه يعرف بخط رحبة بيبرس الحاجب. رحبة الموفق: تعرف هذه الرحبة بحارة زويلة تجاه دار الصاحب الوزير موفق الدين أبي البقاء هبة الله بن إبراهيم، المعروف بالموفق الكبير، وهي بالقرب من خوخة الموفق، المتوصل منها إلى الكافوري من حارة زويلة. رحبة أبي تراب: هذه الرحبة فيما بين الخرشنف وحارة برجوان، تشبه أن تكون من جملة الميدان، ادركتها رحبة بها كيمان تراب، وسبب نسبتها إلى أبي تراب أن هناك مسجدا من مساجد الخلفاء الفاطميين، تزعم العامّة ومن لا خلاق له أن به قبر أبي تراب النخشبيّ، وهذا القول من أبطل الباطل، وأقبح شيء في الكذب، فإنّ أبا تراب النخشبي هو أبو تراب عسكر بن حصين النخشبي، صحب حاتما الأصم وغيره، وهو من مشايخ الرسالة، ومات بالبادية نهشته السباع سنة خمس وأربعين ومائتين، قبل بناء القاهرة بنحو مائة وثلاث سنين، وقد أخبرني القاضي الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزومي، خال أبي رحمه الله، قبل أن يختلط قال: أخبرني مؤدّبي الذي قرأت عليه القرآن، أن هذا المكان كان كوما، وأن شخصا حفر فيه ليبني عليه دارا فظهرت له شرافات، فمازال يتبع الحفر حتى ظهر هذا المسجد، فقال الناس: هذا أبو تراب، من حينئذ، ويؤيد ما قال: أني أدركت هذا المسجد محفوفا بالكيمان من جهاته وهو نازل في الأرض، ينزل إليه بنحو عشر درج، وما برح كذلك إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فنقلت الكيمات التراب التي كانت هناك حوله، وعمر مكانها ما هنالك من دور، وعمل عليها درب من بعد سنة تسعين وسبعمائة، وزالت الرحبة والمسجد على حاله، وأنا قرأت على بابه في رخامة قد نقش عليها بالقلم الكوفيّ عدّة اسطر، تتضمن أنّ هذا قبر أبي تراب حيدرة ابن المستنصر بالله، أحد الخلفاء الفاطميين. وتاريخ ذلك فيما أظنّ بعد الأربعمائة، ثم لما كان في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة سوّلت نفس بعض السفهاء من العامّة له أن يتقرّب بزعمه إلى الله تعالى بهدم هذا المسجد ويعيد بناءه، فجبى من الناس مالا شحذه منهم وهدم المسجد، وكان بناء حسنا، وردمه بالتراب نحو سبعة أذرع حتى ساوى

الأرض التي تسلك المارّة منها، وبناه هذا البناء الموجود الآن، وبلغني أن الرخامة التي كانت على الباب نصبوها على شكل قبرأ حدثوه في هذا المسجد، وبالله ان الفتنة بهذا المكان الآخر من حارة برجوان الذي يعرف بجعفر الصادق لعظيمة، فإنهما صارا كالأنصاب التي كانت تتخذها مشركوا العرب، يلجأ إليهما سفهاء العامّة والنساء في أوقات الشدائد، وينزلون بهذين الموضعين كربهم وشدائدهم التي لا ينزلها العبد إلا بالله ربه، ويسألون في هذين الموضعين ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وحده، من وفاء الدين من غير جهة معينة، وطلب الولد ونحو ذلك، ويحملون النذور من الزيت وغيره إليهما، ظنا أن ذلك ينجيهم من المكاره، ويجلب إليهم المنافع، ولعمري إن هي إلّا كرّة خاسرة، ولله الحمد على السلامة. رحبة أرقطاى: هذه الرحبة بحارة الروم قدّام دار الأمير الحاج أرقطاي نائب السلطنة بالديار المصرية. رحبة ابن الضيف: هذه الرحبة بحارة الديلم، وهي من الرحاب القديمة، عرفت بالقاضي أمين الملك إسماعيل بن أمين الدولة الحسن بن عليّ بن نصر بن الضيف، وفي هذه الرحبة الدار المعروفة بأولاد الأمير طنبغا الطويل، بجوار حكر الرصاصيّ، وتعرف هذه الرحبة أيضا بحمدان البزاز وبابن المخزومي. رحبة وزير بغداد: هذه الرحبة بدرب ملوخيا، عرفت بالأمير الوزير نجم الدين محمود بن عليّ بن شردين، المعروف بوزير بغداد، قدم إلى مصر يوم الجمعة ثامن صفر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وهو وحسام الدين حسن بن محمد بن محمد الغوريّ الحنفيّ، فارّين من العراق بعد قتل موسى ملك التتر، فأنعم عليه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون باقطاع أمرة تقدمة ألف. مكان الأمير طازبغا، عند وفاته، في ليلة السبت ثامن عشرى جمادى الأولى من السنة المذكورة. فلما مات الملك الناصر محمد بن قلاون، وقام في الملك من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر بن محمد، قلد الوزارة بالديار المصرية للأمير نجم الدين محمود وزير بغداد في يوم الاثنين ثالث عشر المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. وبنى له دار الوزارة بقلعة الجبل، وأدركناها دار النيابة وعمل له فيها شباك يجلس فيه، وكان هذا قد أبطله الملك الناصر محمد، وخربت قاعة الصاحب، فلم يزل إلى أن صرف في أيام الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاون عن الوزارة، بالأمير ملكتمر السرجواني في مستهل رجب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، ثم أعيد في آخر ذي الحجة بعد تمنع منه، واشترط أن يكون جمال الكفاة ناظر الخاص معه صفة مشير، فأجيب إلى ذلك. فلما قبض على جمال الكفاة، صرف وزير بغداد وولي بعده الوزارة الأمير سيف الدين ايتمش الناصريّ، في يوم الأربعاء ثاني عشرى ربيع الآخر سنة خمس وأربعين، بحكم استعفائه منها، فباشرها أيتمش قليلا وسأل أن يعفى من المباشرة فأعفي، وذلك لقلة

المتحصل وكثرة المصروف في الأنعام على الجواري والخدّام وحواشيهم، وكانت الكلف في كل سنة ثلاثين ألف ألف دينار، والمتحصل خمسة عشر ألف ألف، نحو النصف، ومرتب السكّر في شهر رمضان كان ألف قنطار، فبلغ ثلاثة آلاف قناطر. رحبة الجامع الحاكمي: هذه الرحبة من غير قاهرة المعز التي وضعها القائد جوهر، وكانت من جملة الفضاء الذي كان بين باب النصر والمصلى، فلما زاد أمير الجيوش بدر الجمالي في مقدار السور صارت من داخل باب النصر الآن، وكانت كبيرة فيما بين الحجر والجامع الحاكمي، وفيما بين باب النصر القديم وباب النصر الموجود الآن، ثم بني فيها المدرسة القاصدية التي هي تجاه الجامع. وما في صفها إلى حمّام الجاولي، وبنى فيها الشيخ قطب الدين الهرماس دارا ملاصقة لجدار الجامع، ثم هدمت كما سيأتي في خبرها إن شاء الله تعالى، عند ذكر الدور، وفي موضعها الآن الربع والحوانيت سفله، والقاعة الجاري ذلك في أملاك ابن الحاجب، وادركت إنشاءها فيما بعد سنة ثلاثين، وهذه الرحبة تؤخذ أجرتها لجهة وقف الجامع. رحبة كتبغا: هذه الرحبة من جملة اصطبل الجميزة، وهي الآن من خط الصيارف يسلك إليها من الجملون الكبير بسوق الشرابشيين، ومن خط طواحين الملحيين وغيره، عرفت بالملك العادل زين الدين كتبغا، فإنها تجاه داره التي كان يسكنها، وهو أمير قبل أن يستقرّ في السلطنة، وسكنها بنوه من بعده، فعرفت به، ثم حل وقفها في زمننا وبيعت. رحبة خوند: هذه الرحبة بآخر حارة زويلة، فيما بينها وبين سويقة المسعوديّ، يتوصل إليها من درب الصقالبة ومن سويقة المسعوديّ، وهي من الرحاب القديمة، كانت تعرف في أيام الخلفاء برحبة ياقوت، وهو الأمير ناصر الدولة ياقوت. والي قوص، أحد أجلّاء الأمراء، ولما قام طلائع ابن رزبك بالوزارة في سنة تسع وأربعين وخمسمائة، هم ناصر الدولة ياقوت بالقيام عليه، فبلغ طلائع الملقب بالصالح بن رزبك ذلك فقبض عليه وعلى أولاده واعتقلهم في يوم الثلاثاء تاسع عشرى ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، فلم يزل في الاعتقال إلى أن مات فيه يوم السبت سابع عشر رجب سنة ثلاث وخمسين، فأخرج الصالح أولاده من الاعتقال وأمّرهم وأحسن إليهم، ثم عرفت هذه الرحبة من بعده بولده الأمير ربيع الإسلام محمد بن ياقوت، ثم عرفت في الدولة الأيوبية برحبة ابن منقذ، وهو الأمير سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ، ثم عرفت برحبة الفلك المسيريّ، وهو الوزير فلك الدين عبد الرحمن المسيري، وزير الملك العادل أبي بكر بن الملك العادل بن أيوب، ثم عرفت الآن برحبة خوند، وهي الست الجليلة أردوتكين ابنة نوغيه السلاح دار، زوج الملك الأشرف خليل بن قلاون، وامرأة أخيه من بعده الملك الناصر محمد، وهي صاحبة تربة الست خارج باب القرافة، وكانت خيّرة وماتت أيما في سنة أربع وعشرين وسبعمائة.

رحبة قراسنقر: هذه الرحبة برأس حارة بهاء الدين، تجاه دار الأمير قراسنقر، وبها الآن حوض تشرب منه الدواب. رحبة بيغرا: بدرب ملوخيا، عرفت بالأمير سيف الدين بيغرا، لأنها تجاه داره. رحبة الفخري: بدرب ملوخيا، عرفت بالأمير منكلي بغا الفخريّ، صاحب التربة بظاهر باب النصر، لأنها تجاه داره. رحبة سنجر: هذه الرحبة بحارة الصالحية في آخر درب المنصوريّ، عرفت بالأمير سنجر الجمقدار علم الدين الناصريّ، لأنها تجاه داره، ثم عرفت برحبة ابن طرغاي، وهو الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير نائب طرابلس. رحبة ابن علكان: هذه الرحبة بالجودرية في الدرب المجاور للمدرسة الشريفية، عرفت بالأمير شجاع الدين عثمان بن علكان الكرديّ، زوج ابنة الأمير يازكوج الأسديّ، وبابنه منها، الأمير أبو عبد الله سيف الدين محمد بن عثمان، وكان خيرا، استشهد على غزة بيد الفرنج في غرّة شهر ربيع الأوّل، سنة سبع وثلاثين وستمائة، وكانت داره ودار أبيه بهذه الرحبة، ثم عرفت بعد ذلك برحبة الأمير علم الدين سنجر الصيرفيّ الصالحيّ. رحبة ازدمر: بالجودرية، هذه الرحبة بالدرب المذكور أعلاه، عرفت بالأمير عز الدين ازدمى الأعمى الكاشف، لأنها كانت أمام داره. رحبة الاخناي: هذه الرحبة فيما بين دار الديباج والوزيرية، بالقرب من خوخة أمير حسين، عرفت بقاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن قاضي القضاة علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران الأخناي المالكيّ، لأنها تجاه داره، وقد عمر عليها درب في أعوام بضع وتسعين وسبعمائة. رحبة باب اللوق: رحاب باب اللوق خمس رحاب، ينطلق عليها كلها الآن رحبة باب اللوق، وبها تجتمع أصحاب الحلق وأرباب الملاعب والحرف، كالمشعبذين والمخايلين والحواة والمتأففين وغير ذلك، فيحشر هنالك من الخلائق للفرجة ولعمل الفساد ما لا ينحصر كثرة، وكان قبل ذلك في حدود ما قبل الثمانين وسبعمائة من سنيّ الهجرة، إنما تجتمع الناس لذلك في الطريق الشارع المسلوك من جامع الطباخ بالخط المذكور إلى قنطرة قدادار. رحبة التبن: هذه الرحبة قريبة من رحبة باب اللوق في بحري منشأة الجوّانية، شارعة في الطريق العظمي المسلوك فيها من رحبة باب اللوق إلى قنطرة الدكة، ويتوصل إليها السالك من عدّة جهات، وكانت هذه الرحبة قديما تقف بها الجمال بأحمال التبن لتباع

ذكر الدور

هناك، ثم اختطت وعمرت وصارت بها سويقة كبيرة عامرة بأصناف المأكولات، والخط إنما يعرف برحبة التبن، وقد خرب بعد سنة ست وثمانمائة. رحبة الناصرية: هذه الرحبة كانت فيما بين الميدان السلطانيّ والبركة الناصرية أيام كانت تلك الخطة عامرة، وكان يتفق في ليالي أيام ركوب السلطان إلى الميدان في كل سنة من الاجتماع والإنس ما ستقف على بعض وصفه عند ذكر المنتزهات إن شاء الله تعالى. وقد خربت الأماكن التي كانت هناك، وجهلت هذه الرحبة إلّا عند القليل من الناس. رحبة ارغون ازكه: والعامّة تقول رحبة أزكي بياء، وهي رحبة كبيرة بالقرب من البركة الناصرية، وهذه الرحبة وما حولها من جملة بستان الزهريّ الآتي ذكره إن شاء الله في الأحكار، وعرفت بالأمير ارغون أزكي. ذكر الدور قال ابن سيدة الدار: المحل يجمع البناء والعرصة التي هي من داريدور، لكثرة حركات الناس فيها، والجمع أدور، وأدؤر، وديار، وديارة، وديارات، وديران، ودور، ودورات، والدارة لغة في الدار، والدار البلد، والبيت من الشعر، ما زاد على طريقة واحدة. وهو مذكر يقع على الصغير والكبير. وقد يقال للمبنيّ والبيت، أخص من غير الأبنية التي هي الأخبية بيت، وجمع البيت أبيات وأبابيت، وبيوت وبيوتات، والبيت أخص من الدار، فكلّ دار بيت، ولا ينعكس. ولم تكن العرب تعرف البيت إلّا الخباء، ثم لما سكنوا القرى والأمصار وبنوا بالمدر واللبن سموا منازلهم التي سكنوها دورا وبيوتا، وكانت الفرس لا تبيح شريف البنيان، كما لا تبيح شريف الأسماء إلّا لأهل البيوتات، كصنيعهم في النواويس والحمامات والقباب الخضر والشرف على حيطان الدار وكالعقد على الدهليز. دار الأحمدي: هذه الدار من جملة حارة بهاء الدين، وبها مشترف عال فوق بدنة من بدنات سور القاهرة، ينظر منه أرض الطبالة وخارج باب الفتوح، وهي إحدى الدور الشهيرة، عرفت بالأمير بيبرس الأحمدي. بيبرس الأحمدي: ركن الدين أمير جاندار، تنقل في الخدم أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أن صار أمير جاندار أحد المقدّمين، فلما مات الملك الناصر قوي عزم قوصون على إقامة الملك المنصور أبي بكر بعد أبيه، وخالف بشتاك، فلما نسب المنصور إلى اللعب حضر إلى باب القصر بقلعة الجبل وقال: أيّ شيء هذا اللعب، فلما ولي الناصر أحمد أخرجه لنيابة صفد فأقام بها مدة، ثم أحس من الناصر أحمد بسوء فخرج من صفد بعسكره إلى دمشق، وليس بها نائب، فهمّ الأمراء بإمساكه، ثم أخروا ذلك وأرسلوا إليه الإقامة، فقدم البريد من الغد بإمساكه، فكتب الأمراء من دمشق إلى السلطان

يشفعون فيه، فعاد الجواب بأنه لا بدّ من القبض عليه ونهب ماله وقطع رأسه وإرساله، فأبوا من ذلك وخلعوا الطاعة وشقوا العصا جميعا، فلم يكن بأسرع من ورود الخبر من مصر بخلع الناصر أحمد وإقامة الصالح إسماعيل في الملك بدله، والأحمديّ مقيم بقصر تنكز من دمشق، فورد عليه مرسوم بنيابة طرابلس، فتوجه إليها وأقام بها نحو الشهرين، ثم طلب إلى مصر فسار إليها وأخرج لمحاصرة أحمد بالكرك، فحصره مدّة ولم ينل منه شيئا، ثم عاد إلى القاهرة فأقام بها حتى مات في يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم سنة ست وأربعين وسبعمائة، وله من العمر نحو الثمانين سنة وكان أحد الأبطال الموصوفين بقوّة النفس وشدّة العزم ومحبة الفقراء وإيثار الصالحين، وله مماليك قد عرفوا بالشجاعة والنجدة، وكان ممن يقتدي برأيه وتتبع آثاره لمعرفته بالأيام والوقائع، وما برحت ذريته بهذه الدار إلى الآن، وأظنها موقوفة عليهم. دار قراسنقر: هذه الدار برأس حارة بها الدين، أنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر، وبها كان سكنه، وهي إحدى الدور الجليلة، ووجد بها في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لما أحيط بها، اثنان وثلاثون ألف ألف دينار، ومائة ألف وخمسون ألف درهم فضة، وسروج مذهبة وغير ذلك، فحمل الجميع إلى بيت المال، ولم تزل جارية في أوقاف المدرسة القراسنقرية إلى أن اغتصبها الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، فيما اغتصب من الأوقاف، وجعلها وقفا على مدرسته التي أنشأها برحبة باب العيد، فلما قتله الملك الناصر فرج بن برقوق وارتجع جميع ما خلفه وصار في جملة الأموال السلطانية، ثم أفرد من الأوقاف التي جعلها جمال الدين على مدرسته شيئا، وجعل باقيها لأولاده، وعلى تربته التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق بالصحراء تحت الجبل، خارج باب النصر، فلما قتل الملك الناصر فرج، صارت هذه الدار بيد الأمير طوغان الدوادار، وكانوا كسارق من سارق، وما من قتيل يقتل إلّا وعلى ابن آدم الأوّل كفل منه، لأنه أوّل من سنّ القتل. دار البلقيني: هذه الدار تجاه مدرسة شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، من حارة بهاء الدين، أنشأها قاضي العساكر بدر الدين محمد بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ الشافعيّ. ومات في يوم الخميس لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ولم تكمل، فاشتراها أخوه قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام وكمّلها، وبها الآن سكنه، وهي من أجلّ، دور القاهرة صورة ومعنا، وقد ذكرت الأخوين وأبيهما في كتابي المنعوت بدرر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة، فانظر هناك أخبارهم. دار منكوتمر: هذه الدار بحارة بهاء الدين، بجوار المدرسة المنكوتمرية، أنشأها الأمير منكوتمر نائب السلطنة بجوار مدرسته الآتي ذكرها عند ذكر المدارس إن شاء الله

تعالى، وهي من الدور الجليلة، وبها إلى اليوم بعض ذريته وهي وقف. دار المظفر: هذه الدار كانت بحارة برجوان، أنشأها أمير الجيوش بدر الجمالي إلى أن مات، فلما ولي الوزارة من بعده ابنه الأفضل ابن أمير الجيوش، وسكن دار القباب التي عرفت بدار الوزارة، وقد تقدّم ذكرها، صار أخوه المظفر أبو محمد جعفر بن أمير الجيوش بهذه الدار، فعرفت به، وقيل لها دار المظفر، وصارت من بعده دار الضيافة، كما مرّ في هذا الكتاب. وآخر ما أعرفه أنها كانت ربعا وحمّاما وخرائب، فسقط الربع بعد سنة سبعين وسبعمائة، وكانت الحمام قد خربت قبل ذلك، فلم تزل خرابا إلى سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، فشرع قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسيّ الحنفيّ في عمارتها، فلما حفر أساس جداره القبليّ ظهر تحت الردم عتبة عظيمة من حجر صوّان مانع، يشبه أن يكون عتبة دار المظفر، وكان الأمير جهاركس الخليليّ إذ ذاك يتولى عمارة المدرسة التي أنشأها الملك الظاهر برقوق بخط بين القصرين، فبعث بالرجال لهذه العتبة وتكاثروا على جرّها إلى العمارة، فجعلها في المزمّلة التي تشرب منها الناس الماء بدهليز المدرسة الظاهرية، وكمّل قاضي القضاة شمس الدين بناء داره، حيث كانت دار المظفر، فجاءت من أحسن دور القاهرة، وتحوّل إليها بأهله وما زال فيها حتى مات بها، وهو متقلد وظيفة قضاء القضاة الحنفية بالديار المصرية، في ليلة السبت الثامن عشر من ذي الحجة سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وله من العمر سبعون سنة وأشهر، ومولده بطرابلس الشام، وأخذ الفقه على مذهب أبي حنفية رحمه الله، عن جماعة من أهل طرابلس. ثم خرج منها إلى دمشق فقرأ على صدر الدين محمد بن منصور الحنفيّ، ووصل إلى القاهرة وقاضي الحنفية بها قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ، فلازمه وولّاه العقود وأجلسه ببعض حوانيت الشهود، فتكسب ممن تحمل الشهادة مدّة. وقرأ على قاضي القضاة سراج الهدى، ولازمه فولّاه نيابة القضاء بالشارع، فباشرها مباشرة مشكورة، وأجازه العلامة شمس الدين محمد بن الصائغ الحنفيّ بالإفتاء والتدريس، فلما مات صدر الدين بن منصور قلده الملك الظاهر برقوق قضاء القضاة مكانه في يوم الاثنين ثاني عشرى شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين وسبعمائة، فباشر القضاء بعفة وصيانة وقوّة في الأحكام لها النهاية ومهابة وحرمة وصولة تذعن لها الخاصة والعامّة، إلى أن صرف في سابع عشر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بشيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم التركمانيّ، فلم يزل إلى أن عزل مجد الدين وولي من بعده قاضي القضاة وناظر الجيوش جمال الدين محمود القيصريّ، وهو ملازم داره وما بيده من التدريس، وهو على حال حسنة وتجلد من الكافة، إلى أن استدعاه السلطان في يوم الثلاثاء تاسع شهر ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فقلّده وظيفة القضاء عوضا عن محمود القيصري، فلم يزل حتى مات من عامه رحمه الله تعالى، وهذه الدار على يسرة من سلك من باب حارة برجوان طالبا المسجد

المسمى بجعفر، وأما الحمّام فإنها في مكانها اليوم ساحة بجوار دار قاضي القضاة شمس الدين، ومن جملة حقوق دار المظفر رحبة الأفيال، وحدرة الزاهدي إلى الدار المعروفة بسكنى قريبا من حمّام الرومي. دار ابن عبد العزيز: هذه الدار بحارة برجوان، على يمنة من سلك من باب الحارة طالبا حمّام الرومي، أيضا من جملة دار المظفر، كانت طاحونا، ثم خربت، فابتدأ عمارتها فخر الدين أبو جعفر محمد بن عبد اللطيف بن الكويك ناظر الأحباس، ومات ولم تكمل، فصارت لامرأته وابنة عمه خديجة، فماتت في رجب سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وقد تزوّجت من بعده بالقاضي الرئيس بدر الدين حسن بن عبد العزيز بن عبد الكريم ابن أبي طالب بن علي بن عبد الله بن سيدهم النجميّ السيرواني، فانتقلت إليه، ومات في سنة أربع وسبعين وسبعمائة، في العشرين من جمادى الأولى، وورثه من بعد موته كريم الدين ابن أخيه. وهو عبد الكريم بن أحمد بن عبد العزيز بن عبد الكريم بن أبي طالب بن عليّ بن عبد الله بن سيدهم، ومات آخر ربيع الأوّل سنة سبع وثمانمائة عن سبعين سنة، وولي نظر الجيوش بديار مصر للظاهر برقوق، فباعها لقريبه شمس الدين محمد بن عبد الله بن عبد العزيز، وكملها وسكنها مدّة طويلة إلى أن باعها في سنة خمس وتسعين وسبعمائة بألفي دينار ذهبا، لخوند فاطمة ابنة الأمير منجك، فوقفتها على عتقائها، وهي إلى اليوم بيدهم، وتعرف ببيت ابن عبد العزيز المذكور، لطول سكنه بها، وكان خيّرا عارفا يلي كتابة ديوان الجيش، وعدّة مباشرات، ومات ليلة الثاني عشر من صفر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة. دار الجمقدار «1» : هذه الدار على يسرة من سلك من باب حارة برجوان تحت القبو طالبا حمام الرومي، عرفت بالأمير علم الدين سنجر الجمقدار، من الأمراء البرجية، وقدّمه الملك الناصر محمد تقدمة ألف بعد مجيئه من الكرك إلى مصر، ثم أخرجه إلى الشام فأقام بها إلى أن حضر قطلو بغا الفخريّ في نوبة أحمد بالكرك، فحضر معهم واستقرّ من الأمراء بالديار المصرية إلى أن مات يوم الجمعة تاسع رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وقد كبر وارتعش وكان روميا ألثغ، صار لخالد بن الزراد المقدّم، فلما قبض عليه ومات في ثاني عشرى جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة تحت المقارع، ارتجعت عنه لديوان السلطان حسن فصارت في يد ورثته إلى أن باع بعض أولاده اسهما منها، فاشتراها الأمير سودون الشيخوني نائب السلطنة، ثم تنقلت وبعضها وقف بيد أولاد السلطان حسن بن

محمد بن قلاوون إلى أن ملك ما تملك منها بالشراء قاضي القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى الكركي وسكنها، إلى أن سافر، فصارت من بعده لورثته فباعوها للشيخ زين الدين أبي بكر القمنيّ، وهي بيده الآن. دار أقوش: الرومي بحارة برجوان، هذه الدار من أجلّ دور القاهرة، وبابها من نحاس بديع الصنعة، يشبه باب المارستان المنصوري، وكان تجاهها اصطبل كبير يعلوه ربع فيه عدّة مساكن، عرفت بالأمير جمال الدين أقوش الرومي السلاح دار الناصري، وتوفي سنة سبع وسبعمائة، وهي مما وقفه على تربته بالقرافة، وقد خرب اصطبلها وعلوه وبيع نقض ذلك وتداعت الدار أيضا للسقوط، فبيعت انقاضا وصارت من جملة الأملاك. دار بنت السعيدي: هذه الدار بحارة برجوان، عرفت بقاعة حنيفة بنت السعيدي إلى أن اشتراها شهاب الدين أحمد بن طوغان دوادار الأمير سودون الشيخوني نائب السلطان، في سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فأخذ عدّة مساكن مما حولها، وهدمها وصيرها ساحة بها، فصارت من أعظم الدور اتساعا وزخرفة، وفيها آبار سبعة معينة، وفسقية ينقل إليها الماء بساقية على فوهة بئر، وما زال صاحبها شهاب الدين فيها إلى أن سافر إلى الاسكندرية في محرّم سنة ثمان وثمانمائة، فمات رحمه الله، وانتقلت من بعده لغير واحد بالبيع. دار الحاجب: هذه الدار فيما بين الخرشتف «1» وحارة برجوان، كان مكانها من جملة الميدان، وكان يسلك من حارة برجوان في طريق شارعه إلى باب الكافوريّ، فلما عمر الأمير بكتمر هذه الدار جعل اصطبلها حيث كانت الطريق، وركّب بابا بخوجة مما يلي حارة برجوان، واشترط عليه الناس أن لا يمنع المارّة من سلوك هذا المكان، فوفى بما اشترط، وما برح الناس يمرّون من هذا الطريق في وسط الاصطبل على باب داره، سالكين من حارة برجوان إلى الكافوري والخرشتف، ومنها إلى حارة برجوان، وأنا سلكت من هذه الطريق غير مرّة، وكان يقال لها خوخة الحاجب، ثم لما طال الأمد وذهبت المشيخة نسيت هذه الطريق وقفل الباب، وانقطع سلوك الناس منه، وصارت تلك الطريق من جملة حقوق الدار، وما برحت هذه الدار ينصب على بابها الطوارق «2» دائما، كما كانت عادة دور الأمراء في الزمن القديم، فلما تغيرت الرسوم وبطل ذلك قلعت الطوارق من جانبي الباب. وأعلى اسكفته، وباب هذه الدار تجاه باب الكافوريّ، وعرفت بالأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، صاحب الدار، خارج باب النصر والمدرسة بجواره، ثم حل وقفها سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وبيعت كما بيع غيرها من الأوقاف. وهناك ترى ترجمته.

دار تنكز: هذه الدار بخط الكافوري، كانت للأمير ايبك البغدادي، وهي من أجلّ دور القاهرة وأعظمها، انشأها الأمير تنكز نائب الشام، وأظنه أوقفها في جملة ما أوقف، وكان بها ولده، وسكنها قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، فأنفق في زخرفها على ما أشيع سبعة عشر ألف درهم، عنها يومئذ ما ينيف عن سبعمائة دينار مصرية، ولم تزل هذه الدار وقفا إلى أن بيعت على أنها ملك في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة بدون ألف دينار، لزين الدين عبد الباسط بن خليل، فجدّد بناءها وبنى تجاهها جامعة. تنكز الأشرفي: سيف الدين أبو سعيد خليل، جلبه إلى مصر وهو صغير الخواجا علاء الدين السوسيّ، فنشأ بها عند الملك الأشرف خليل بن قلاوون، فلما ملك السلطان الناصر محمد بن قلاوون أمّره أمرة عشرة، قبل توجهه إلى الكرك، وسافر معه إلى الكرك، وترسل عنه منها إلى الأفرم، فاتهمه أنّ معه كتبا إلى الأمراء بالشام، وعرض عليه العقوبة فارجف منه وعاد إلى الناصر. فقال له: إن عدت إلى الملك فانت نائب دمشق، فلما عاد إلى الملك جهزه إلى دمشق فوصلها في العشرين من ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، فباشر النيابة وتمكن فيها وسار بالعساكر إلى ملطية «1» وافتتحها في محرّم سنة خمس عشرة، وعظم شأنه وأمّن الرعايا حتى لم يكن أحد من الأمراء يظلم ذميّا، فضلا عن مسلم، خوفا من بطشه، وشدّة عقوبته، وكان السلطان لا يفعل شيئا بمصر إلّا ويشاوره فيه وهو بالشام، وقدم غير مرّة على السلطان فاكرمه وأجله بحيث أنه انعم عليه في قدومه إلى مصر سنة ثلاث وثلاثين بما مبلغه ألف ألف درهم وخمسون ألف درهم، عنها خمسون ألف دينار ونيف، سوى الخيل، وزادت أملاكه وسعادته وأنشأ جامعا بدمشق بديع الوصف بهج الزي، وعدّة مواضع، وكان الناس في أيامه قد أمنوا كل سوء، إلّا أنه كان يتخيل خيالا فيحتدّ خلقه ويشتدّ غضبه، فهلك بذلك كثير من الناس، ولا يقدر أحد أن يوضح له الصواب لشدّة هيبته، وكان إذا أغضب لا يرضى البتة بوجه، وإذا بطش كان بطشه الجبارين، ويكون الذنب صغيرا فلا يزال يكبره، حتى يخرج في عقوبة فاعله عن الحدّ، ولم يزل إلى أن أشيع بدمشق أنه يريد العبور إلى بلاد الططر، فبلغ ذلك السلطان فتنكر له وجهز إليه من قبض عليه في ثالث عشرى ذي الحجة سنة أربعين، وأحيط بماله وقدم الأمير بشتاك إلى دمشق لقبضه، وخرج إلى مصر ومعه من مال تنكز وهو من الذهب العين ثلاثمائة ألف وستة وثلاثون ألف دينار، ومن الدراهم الفضة ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، ومن الجوهر واللؤلؤ والزركش والقماش ثمانمائة حمل، ثم استخرج بعد ذلك من بقايا أمواله أربعون ألف دينار وألف ألف ومائة ألف درهم، فلما وصل تنكز إلى قلعة الجبل جهز إلى الاسكندرية واعتقل فيها نحو الشهر، وقتل في محتبسه ودفن بها في يوم الثلاثاء حادي عشرى المحرّم، سنة إحدى

وأربعين وسبعمائة، ومن الغريب أنه أمسك يوم الثلاثاء، ودخل مصر يوم الثلاثاء ودخل الاسكندرية يوم الثلاثاء وقتل يوم الثلاثاء، ثم نقل إلى دمشق فدفن بتربته جوار جامعه، ليلة الخامس من رجب سنة أربع وأربعين وسبعمائة، بعد ثلاث سنين ونصف بشفاعة ابنته. دار أمير مسعود: هذه الدار بآخر خط الكافوريّ، عرفت بالأمير بدر الدين مسعود بن خطير الرومي، أحد الأمراء بمصر، أخرجه الملك الناصر محمد بن قلاوون في ذي الحجة سنة أربعين وسبعمائة إلى نيابة غزة، ثم نقل منها إلى إمرة دمشق وولي نيابة طرابلس، ثم أعيد إلى دمشق وأصله من أتباع الأمير تنكز، فشكره عند الملك الناصر وقدّمه حتى صار أميرا حاجبا فلما قتل تنكز أخرجه لنيابة غزة، وتنقل في نيابة طرابلس ثلاث مرات إلى أن استعفى من النيابة، فأنعم عليه بإمرة في دمشق، وعلى ولديه بامرة طبلخاناه «1» ، وما زال مقيما بها حتى مات في سابع شوال سنة أربع وخمسين وسبعمائة بدمشق، ومولده بها ليلة السبت سابع جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وستمائة. دار نائب الكرك: هذه الدار فيما بين خط الخرشتف وخط باب سر المارستان المنصوري، وهي من جملة أرض الميدان، عرفت بالأمير أقوش الأشرفيّ المعروف بنائب الكرك صاحب الجامع. أقوش الأشرفي: جمال الدين، ولّاه الملك الناصر محمد بن قلاون نيابة دمشق بعد مجيئه من الكرك، وعزله تنكز بعد قليل، واعتقله إلى شهر رجب سنة خمس عشرة وسبعمائة، ثم أفرج عنه وجعله رأس الميمنة، وصار يقوم له إذا قدم مميزا له عن غيره من الأمراء، وكان لا يلبس مصقولا، ويمشي من داره هذه إلى الحمّام وهو حامل المئزر والطاسة وحده، فيدخل الحمام ويخرج عريانا، فاتفق مرة أنّ رجلا رآه فعرفه، وأخذ الحجر وحك رجله وغسله وهو لا يكلمه كلمة واحدة، فلما خرج وصار إلى داره، طلب الرجل وضربه وقال له: أنا مالي مملوك، ما عندي غلام، مالي طاسة حتى تتجرأ عليّ أنت، وكان يتوجه إلى معبد له في الجبل الأحمر وينفرد فيه وحده اليومين والثلاثة، ويدخل منه إلى القاهرة وهو ماش وذيله على كتفه حتى يصل إلى داره، وباشر نظر المارستان المنصوري مباشرة جيدة، ثم أخرجه السلطان إلى نيابة طرابلس في أوّل سنة أربع وثلاثين وسبعمائة فأقام بها، ثم طلب الإقالة فأعفى وقبض عليه واعتقل بقلعة دمشق، ثم نقل منها إلى صفد فحبس بها في برج، ثم أخرج منها إلى الإسكندرية فمات بها معتقلا في سنة ست وثلاثين وسبعمائة. وكان عسوفا جبارا في بطشه، مات عدّة من الناس تحت الضرب قدّامه، وكان كريما

سمحا إلى الغاية، وعرف بنائب الكرك لأنه أقام في نيابتها من سنة تسعين وستمائة إلى سنة تسع وسبعمائة. دار ابن صغير: هذه الدار من جملة الميدان، وهي اليوم من خط باب سرّ المارستان المنصوري، أنشأها علاء الدين علي بن نجم الدين عبد الواحد بن شرف الدين محمد بن صغير، رئيس الأطباء، ومات بحلب عند ما توجه إليها في خدمة الملك الظاهر برقوق في يوم الجمعة تاسع عشر ذي الحجة سنة ست وتسعين وسبعمائة. ودفن بها، ثم نقلته ابنته إلى القاهرة ودفنته بظاهرها. دار بيبرس الحاجب: هذه الدار بخط حارة العدوية، وهي الآن من خط باب سر المارستان، عرفت بالأمير بيبرس الحاجب صاحب غيط الحاجب، فيما بين جسر بركة الرطلي والجرف. بيبرس الحاجب: الأمير ركن الدين، ترقى في الخدم إلى أن صار أميراخور، فلما حضر الملك الناصر من الكرك عزله بالأمير ايدغمش، وعمله حاجبا، وناب في الغيبة عن الأمير تنكز بدمشق لما حج، ثم تجرّد إلى اليمن وعاد، فتنكر عليه السلطان وحبسه في ذي القعدة سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وأفرج عنه في رجب سنة خمس وثلاثين، وجهزه من الإسكندرية إلى حلب فصار بها أميرا من أمرائها، ثم تنقل منها إلى أمرة بدمشق بعد عزل تنكز، فلم يزل بها إلى أن توجه الفخريّ وطشتمر إلى مصر، فأقرّه على نيابة الغيبة بدمشق، وكان قد أسنّ ومات في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وأدركنا له حفيدا يعرف بعلاء الدين أمير عليّ بن شهاب الدين أحمد بن بيبرس الحاجب، قرأ القراءات السبع على والده، وكان حسن الأداء للقراءة، مشهورا بالعلاج، يعالج بمائة وعشرة أرطال، مات وهو ساح في سابع ربيع الآخر سنة إحدى وثمانمائة. دار عباس: هذه الدار كانت في درب شمس الدولة، عرفت بالوزير عباس بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، أصله من المغرب وترقى في الخدم حتى ولي الغربية، ولقب بالأمير ركن الإسلام، وكانت أمّه تحت الأمير المظفر عليّ بن السلار والي البحيراء والإسكندرية، فلما رحل عليّ بن السلار إلى القاهرة وأزال الوزير نجم الدين سليمان بن مصال من الوزارة واستقرّ مكانه في وزارة الخليفة الظافر بأمر الله، وتلقب بالعادل، قدّمه لمحاربة ابن مصال فلم ينل غرضا، فخرج إليه عباس حتى ظفر به، وولى ناصر الدين نصير بن عباس ولاية مصر بشفاعة جدّته أمّ عباس، فاختص به الخليفة الظافر واشتغل به عمن سواه، وكان جريا مقداما، فخرج إليه أبو عباس بالعسكر لحفظ عسقلان من الفرنج ومعه من الأمراء ملهم والضرغام وأسامة بن منقذ، وكان أسامة خصيصا بعباس، فلما نزلوا

بلبيس «1» تذاكر عباس وأسامة مصر وطيبها وما هم خارجون إليه من مقاساة السفر ولقاء العدوّ، فتأوّه عباس أسفا على مفارقة لذّاته بمصر، وأخذ يثرب على العادل بن السلار، فقال له أسامة: لو أردت كنت أنت سلطان مصر. فقال: كيف لي بذلك؟ قال: هذا ولدك ناصر الدين بينه وبين الخليفة مودّة عظيمة، فخاطبه على لسانه أن تكون سلطان مصر موضع زوج أمّك، فإنه يحبك ويكرهه، فإذا أجابك فاقتله وصر في منزلته، فأعجب عباس ذلك وجهز ابنه لتقرير ما أشار به أسامة، فسار إلى القاهرة ودخلها على حين غفلة من العادل، واجتمع بالخليفة وفاوضه فيما تقرّر، فأجابه إليه ونزل إلى دار جدّته، وكان من قتله للعادل عليّ بن سلار ما كان، فماج الناس وسرح الطائر من القصر إلى عباس وهو على بلبيس في الانتظار، فقام من فوره ودخل القاهرة سحر يوم الأحد ثاني عشر المحرّم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فوجد عدّة من الأتراك قد نفروا وخرجوا يدا واحدة إلى الشام، فصار إلى القصر وخلع عليه خلع الوزارة، فباشر الأمور وضبط الأحوال وأكرم الأمراء وأحسن إلى الأجناد، وازدادت مخالطة ولده للخليفة فخاف أن يقتله كما قتل ابن السلار، فما زال به حتى قتل الخليفة الظافر، كما تقدّم ذكره، وصار إلى القصر على العادة، فلما جلس في مقطع الوزارة سأل الاجتماع على الخليفة، فدخل الزمام إلى دور الحرم فلم يجد الخليفة، فلما عاد إليه أحضر أخوي الظافر واتهمهما بقتله وقتلهما قدّامه، واستدعى بولد الظافر عيسى ولقبه بالفائز بنصر الله، وكثرت النياحة على الظافر، وبحث أهل القصر على كيفية قتله، فكتبوا إلى طلائع بن رزبك وهو والي الأشمونين يستدعونه، فحشد وسار، فاضطرب عباس وكثرت مناكدة أهل القاهرة له، حتى أنّه مرّ يوما فرمي من طاقة تشرف على شارع بقدر مملوء طعاما حارّا، فعوّل على الفرار وخرج ومعه ابنه وأسامة بن منقذ وجميع ما لهم من أتباع ومال وسلاح، ودخل طلائع إلى القاهرة واستقرّ في وزارة الخليفة الفائز، فسير أهل القصر إلى الفرنج البريد بطلب عباس، فخرجوا إليه وكانت بينهم وبينه وقعة فرّ فيها أسامة في جماعة إلى الشام، فظفر به الفرنج وقتلوه وأخذوا ابنه في قفص من حديد، وجهزوه إلى القاهرة، وذلك في شهر ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين وخمسمائة، فلما وصل ابنه إلى القصر قتل وصلب على باب زويلة، وأحرق بعد ذلك، ثم عرفت هذه الدار بعد ذلك بدار تقيّ الدين صاحب حماه، ثم خربت وحكر مكانها، فصار يعرف بحكر صاحب حماه، وبني فيه عدّة دور وموضعها الآن بداخل درب شمس الدولة بالقرب من حمّام عباس التي تعرف اليوم بحمام الكويك. دار ابن فضل الله: هذه الدار فيما بين حارة زويلة والبندقانيين، كان موضعها من جملة اصطبل الجميزة، عرفت بابن فضل الله: وبنو فضل الله جماعة أوّلهم بمصر:

شرف الدين: عبد الوهاب بن الصاحب جمال الدين أبي المآثر فضل الله ابن الأمير عز الدين الحلي بن دعجان العمريّ، ولي كتابة السرّ للملك الناصر محمد بن قلاون، ثم صرفه عنها وولاه كتابة السرّ بدمشق، فلم يزل بها حتى مات في ثالث شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة، وقد عمر وبلغ أربعا وتسعين سنة، وخلّف أموالا جمة، ورثاه الشهاب محمود، وقد ولي بعده وأرثاه علاء الدين عليّ بن غانم، والجمال ابن نباتة، وكان فاضلا بارعا أديبا عاقلا وقورا ناهضا ثقة أمينا مشكورا، مليح الخط جيد الإنشاء، حدّث عن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام وغيره. ومنهم محيي الدين: يحيى بن الصاحب جمال الدين أبي المآثر فضل الله بن مجلي بن دعجان بن خلف بن نصر بن منصور بن عبد الله بن عليّ بن محمد بن أبي بكر عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ المريّ، ولي كتابة السرّ بالديار المصرية عن الملك الناصر، نقل إليها من كتابة سرّ دمشق لما مرض علاء الدين باستدعائه إلى مصر، وأقيم بدله في كتابة سرّ دمشق شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود، وكان استقراره في محرّم سنة ثلاثين وسبعمائة، فباشرها إلى ثاني عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين، ونقل منها إلى كتابة السرّ بدمشق، وطلب شرف الدين بن الشهاب محمود فاستقرّ في كتابة السرّ بمصر إلى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين، وطلب محيي الدين من دمشق هو وابنه شهاب الدين أحمد، فوصلا إلى القاهرة غرّة جمادى الأولى، وخلع عليهما ورسم لهما بكتابة السرّ، ونقل ابن الشهاب محمود إلى كتابة السرّ بدمشق، فلم يزل محيي الدين يباشر كتابة السرّ هو وابنه إلى أن كان من تنكز السلطان لولده شهاب الدين ما كان، وذلك أنه كان استعفى من الوظيفة لثقل سمعه وكبر سنه، فأذن له أن يقيم ابنه القاضي شهاب الدين يباشر عنه، فصار الاسم لمحيي الدين والمباشر ابنه شهاب الدين إلى أن حضر الأمير تنكز نائب الشام إلى القلعة وسأل السلطان في علم الدين محمد بن قطب الدين أحمد بن مفضل المعروف بابن القطب أن يوليه كتابة السرّ بدمشق، وكان السلطان لا يمنع تنكز شيئا يسأله، فخلع عليه وأقرّه في ذلك عوضا عن جمال الدين عبد الله بن الأثير، فأخذ شهاب الدين ينقصه عند السلطان بأنه نصرانيّ الأصل، وليس من أهل صناعة الإنشاء، ونحو ذلك، والسلطان مغض عنه غير ملتفت إلى ما يرمى به رعاية لتنكز، فلما كتب توقيع ابن القطب أراد تكثير الألقاب والزيادة له في المعلوم، فامتنع شهاب الدين من كتابة ذلك، وكان حادّ المزاج قويّ النفس شرس الأخلاق، ففاجأ السلطان بغلظة ومخاشنة في القول، وكان من كلامه كيف تعمل قبطيا أسلميا كاتب السرّ وتزيد في معلومه، وبالغ في الجراءة حتى قال ما يفلح من يخدمك، وخدمتك عليّ حرام، ونهض قائما لشدّة حنقه، وكان هذا منه بحضرة الأمراء فغضبوا لذلك وهموا بضرب عنقه، فأغضى السلطان عنه وبلغ محيي الدين ما كان من ابنه فبادر إلى السلطان وقبل الأرض واعترف بخطإ ابنه واعتذر عن تأخره بثقل سمعه،

فرسم له أن يكون ابنه علاء الدين عليّ يدخل ويقرأ البريد، فاعتذر بأنه صغير لا يقوم بالوظيفة. فقال السلطان أنا أربيه مثل ما أعرف، فصار يخلف أباه كما كان شهاب الدين، وانقطع شهاب الدين في منزله مدّة سنين إلى أن مات أبوه محيي الدين في يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة، عن ثلاث وتسعين سنة، وهو متمتع بحواسه، فدفن ظاهر القاهرة ثم نقل إلى تربتهم من سفح قاسيون بدمشق، وكان صدرا معظما رزينا كامل السؤدد حركا كاتبا بارعا دبر الأقاليم بكفايته وحسن سياسته، ووفور عقله وأمانته وشدّة تحرّزه، وله النظم والنثر البديع الرايق فمن شعره: تضاحكني ليلى فأحسب ثغرها ... سنا البرق لكن أين منه سنا البرق وأخفت نجوم الصبح حين تبسمت ... فقمت بفرعيها أشدّ على الشرق وقلت سواء جنح ليل وشعرها ... ولم أدر أنّ الصبح من جهة الفرق علاء الدين: علي بن يحيى بن فضل الله العمريّ، استقل بوظيفة كتابة السرّ قبل موت أبيه محيي الدين، وخلع عليه يوم الاثنين رابع شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وله من العمر أربع وعشرون سنة، فخرج وفي خدمته الحاجب والدوادار، وتقدّم أمر السلطان للموقعين بامتثال ما يأمرهم به عن السلطان، فشق ذلك على أخيه شهاب الدين وحسده، وربما قيل أنه سمّه، فكان يعتريه دم منه إلى أن مات، ثم إنه كتب قصة يسأل فيها السفر إلى الشام، وشكا كثرة الكلفة، وكان قبل ذلك جرى ذكره في مجلس السلطان فذمّه وتهدّده، فعند ما قرئت عليه قصته تحرّك ما كان ساكنا من غضبه، ورسم بإيقاع الحوطة عليه، فحمل من داره إلى قاعة الصاحب من قلعة الجبل في رابع عشري شعبان سنة تسع وثلاثين، وخرج إليه الأمير طاجار الدوادار، وأمر به فعرّي من ثيابه ليضرب بالمقارع، فرفق به ولم يضر به واستكتبه خطه بحمل عشرة آلاف، فأحيط بداره وأخرج سائر ما وجد له وبيع عليه، وأرسل مملوكه إلى بلاد الشام فباع كل ما له فيها، واقترض خمسين ألف درهم حتى حمل من ذلك كله مائة وأربعين ألف درهم، عنها سبعة آلاف دينار، فسكن أمره وخف الطلب عنه وأقام إلى ثالث عشر ربيع الآخر سنة أربعين مدّة سبعة أشهر وثمانية عشر يوما، ففرج الله عنه بأمر عجيب، وهو أنّه لما كان يباشر عن أبيه وقع شخص من الكتاب بشيء زور، فرسم السلطان بقطع يده، فلم يزل شهاب الدين يتلطف في أمره حتى عفا السلطان عنه من قطع يده، وأمر به فسجن طول هذه السنين إلى أن قدّر الله سبحانه أنه رفع قصة يسأل فيها العفو عنه، فلما قرئت على السلطان لم يعرفه، فسأل عن خبره وشأنه، فقيل له لا يعرف خبر هذا إلا شهاب الدين بن فضل الله، فبعث إليه بقاعة الصاحب يستخبره عنه، فطالعه بقصته، وما كان منه، فألان الله له قلب السلطان ورسم بالإفراج عن الرجل وعن شهاب الدين وعن مملوكه، ففرّج الله عن الثلاثة، ونزل شهاب الدين إلى داره وأقام إلى أن قبض السلطان على الأمير تنكز نائب الشام، فاستدعى شهاب الدين إلى حضرته وحلفه وولاه كتابة

السرّ بدمشق عوضا عن شرف الدين خالد بن عماد الدين إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن خالد بن نصر المخزوميّ، المعروف بابن القيسرانيّ، فباشرها حتى مات بدمشق، وانفرد أخوه علاء الدين بكتابة السرّ إلى أن مات ليلة الجمعة التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة بمنزله من القاهرة، عن سبع وخمسين سنة، وترك ستة بنين وأربع بنات. بدر الدين: محمد بن علي بن يحيى بن فضل الله، ولّاه الملك الأشرف شعبان بن حسين كتابة السرّ، وأبوه في مرض موته، يوم الخميس ثامن عشري شهر رمضان، سنة تسع وستين وسبعمائة، وله من العمر تسع عشرة سنة، وجعل أخاه عز الدين حمزة نائبا عنه، فباشر إلى شوّال سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فصرف بأوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل بن يس، ولزم داره فلم يره أحد البتة إلى أن مات أوحد الدين، فنزل إليه الأمير يونس الدوادار واستدعاه، فركب بثياب جلوسه من غير خف ولا فرجية ولا شاش وصعد إلى القلعة، فخلع عليه في اليوم الرابع من ذي الحجة سنة ست وثمانين، فلما ثار الأمير يلبغا الناصري على الملك الظاهر وخلعه من الملك وأقام الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن حسين ولقبه بالملك المنصور، ثم خرج الملك الظاهر برقوق من محبسه بالكرك وسار إلى محاربة الأمير تمربغا منطاش ومعه المنصور حاجي، فخرج ابن فضل الله، فلما انهزم منطاش على شعجب واستولى برقوق على المنصور والخليفة والقضاة والخزائن، وكان ابن فضل الله وأخوه عز الدين في من فرّ مع منطاش إلى دمشق، فأقام بها واستولى برقوق على تخت الملك بقلعة الجبل، فولى علاء الدين عليّ بن عيسى الكركي كتابة السرّ، وأخذ ابن فضل الله يتحيل في الخروج من دمشق وسيّر إلى السلطان مطالعة فيها من شعره: يقبل الأرض عبد بعد خدمتكم ... قد مسّه ضرر مثله ضرر حصر وحبس وترسيم أقام به ... وفرقة الأهل والأولاد والفكر لكنه والورى مستبشرون بكم ... يرجو بكم فرجا يأتي وينتظر والشغل يقضي لأن الناس قد ندموا ... إذ عاينوا الجور من منطاش ينتشر جورا كما فرّطوا في حقكم ورأوا ... ظلما عظيما به الأكباد تنفطر والله إن جاءهم من بابكم أحد ... قاموا لكم معه بالروح وانتصروا الله ينصركم طول المدا أبدا ... يا من زمانهم من دهرنا غرر قدم إلى القاهرة ومعه أخوه عز الدين حمزة، وجمال الدين محمود القيصري ناظر الجيش، وتاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر، وشمس الدين محمد بن الصاحب، فما زال في داره إلى أن سافر الملك الظاهر إلى بلاد الشام في سنة ثلاث وتسعين، فتقدّم أمره إليه بالمسير مع العسكر، فسار بطالا، وقدّر الله تعالى ضعف علاء الدين الكركي، فولاه كتابة

السرّ وصرف الكركي في شوّال، وكانت هذه ولاية ثالثة، فباشر وتمكن هذه المرّة من سلطان تمكنا زائدا إلى أن سافر السلطان إلى البلاد الشامية في سنة ست وتسعين، فمات بدمشق يوم الثلاثاء لعشرين من شوّال سنة ست وتسعين وسبعمائة، ودفن بترتبهم بسفح قاسيون، ومات أخوه حمزة بدمشق أيضا في أوائل المحرم سنة سبع وتسعين وسبعمائة ودفن بها، وانقطع بموتهما هذا البيت فلم يبق من بعدهما إلّا كما قال الله سبحانه، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا . ومن شعر البدر محمد بن فضل الله ما كتبه عنوانا لكتاب الملك الظاهر برقوق جوابا عن كتاب تمرلنك الوارد إلى مصر في سنة ست وتسعين وسبعمائة وعنوانه: سلام وإهداء السلام من البعد ... دليل على حفظ المودّة والعهد فافتتح البدر العنوان بقوله: طويل حياة المرء كاليوم في العدّ ... فخبرته أن لا يزيد على العدّ فلا بدّ من نقص لكل زيادة ... لأنّ شديد البطش يقتص للعبد وكتب فيه من شعره أيضا جوابا عن كثرة تهديد تمرلنك وافتخاره: السيف والرمح والنشاب قد علمت منا الحروب فسل منها تلبيكا إذ التقينا تجد هذا مشاهدة ... في الحرب فأثبت فأمر الله آتيكا بخدمة الحرمين الله شرّفنا ... فضلا وملّكنا الأمصار تمليكا وبالجميل وحلو النصر عوّدنا ... خذ التواريخ واقرأها فتنبيكا والأنبياء لنا الركن الشديد وكم ... بجاههم من عدوّ راح مفكوكا ومن يكن ربه الفتاح ناصره ... ممن يخاف وهذا القول يكفيكا وقال: إذا المرء لم يعرف قبيح خطيئة ... ولا الذنب منه مع عظيم بليته فذلك عين الجهل منه مع الخطا ... وسوف يرى عقباه عند منيته وليس يجازي المرء إلا بفعله ... وما يرجع الصياد إلا بنيته وهذه الدار كانت موجودة قبل بني فضل الله، وتعرف بدار بيبرس، فعمر فيها محيي الدين وابنه علاء الدين، وكانت من أبهج دور القاهرة وأعظمها، وما زالت بيد أولاد بدر الدين وأخيه عز الدين حمزة إلى أن تغلب الأمير جمال الدين على أموال الخلق، فأخذ ابن أخيه الأمير شهاب الدين أحمد الحاجب المعروف بسيدي أحمد بن أخت جمال الدين دار بني فضل الله منهم، كما أخذ خاله دور الناس وأوقافهم وعوض أولاد ابن فضل الله عنها، وغيّر كثيرا من معالمها، وشرع في الازدياد من العمارة اقتداء بخاله، فأخذ دورا كانت بجوار

مستوقد حمام ابن عبود المقابلة لدار ابن فضل الله، واغتصب لها الرخام والأحجار والأخشاب، وهدم عدّة دور وكثيرا من الترب بالقرافة، منها تربة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكانت عجيبة البناء، وأدخل ذلك في عمارته المذكورة، ووسع فيها من جهة البندقانيين ما كان خرابا منذ الحريق الذي تقدّم ذكره، وأنشأ من هناك حوض ماء يشرب منه الدواب، فلما قارب إكمالها قبض الملك الناصر فرج على خاله جمال الدين يوسف استادار وقتله، وكان أحمد هذا ممن قبض عليه معه، فوضع الأمير تغري بردي، وهو يومئذ أجلّ أمراء الناصر، يده على هذه الدار، وما رضي بأخذها حتى طلب كتابها فإذا به قد تضمن أنّ أحمد قد وقف هذه الدار، فلم يزل بقضاة العصر حتى حكموا له بهذه الدار وجعلوها له بطريق من طرقهم، فأقام فيها حتى أخرجه الناصر لنيابة دمشق في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، فنزل بها الأمير دمرداش بإرث ابنة جمال الدين، وهي امرأة أحمد المذكور ولها منه أولاد، وأرادت استرجاع الدار كما فعلت في مدرسة أبيها، وكان لها ولورثة تغري بردي مخاصمات، واستقرّت لبني تغري بردي. دار بيبرس: هذه الدار فيما بين دار ابن فضل الله والسبع قاعات في ظهر حارة زويلة، وقريبة من سويقة المسعودي، تشبه أن تكون من جملة اصطبل الجميزة، كانت دار الشريف بن تغلب صاحب المدرسة الشريفية برأس حارة الجودرية، ثم عرفت بالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فإنه كان يسكنها وهو أمير قبل أن يلي السلطنة، وجدّد رخامها من الرخام الذي دل عليه الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، بالقصر الذي عرف بقصر أمير سلاح، من جملة قصر الخلفاء، كما سيأتي خبر ذلك عند ذكر الخانقاة الركنية بيبرس، فإن بيبرس هذا هو الذي أنشأها ولم تزل إلى أن هدمها ناصر الدين محمد بن البارزي الحمويّ كاتب السرّ بعد ما اشتراها نقضا، كما اشترى غيرها من الأوقاف، وذلك في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة. السبع قاعات: هذه الدار عرفت بالسبع قاعات، وهي يتوصل إليها من جوار دار بيبرس المذكورة ومن سويقة الصاحب، وقد صارت عدّة مساكن جليلة، ومكانها من جملة اصطبل الجميزة، أنشأها الوزير الصاحب علم الدين بن زنبور، ووقفها من جملة ما وقف، فلما قبض عليه الأمير صرغتمش في حل أوقافه ووعد بالسبع قاعات خوند قطلوبنك ابنة الأمير تنكز الحساميّ نائب الشام أمّ السلطان الملك الصالح صالح بن الناصر محمد بن قلاوون، ولقّنه الشريفان، شرف الدين عليّ بن حسين بن محمد نقيب الأشراف، وأبو العباس الصفراويّ، أنّ الناصر لما قبض على كريم الدين الكبير، بعث إلى كريم الدين من شهد عليه أنّ جميع ما صار بيده من الأملاك وقفها وطلقها إنما هو من مال السلطان دون ماله، وشهد بذلك عند قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، فأثبت بهذه الشهادة أن أملاك كريم الدين جارية في الأملاك السلطان، فأقرّ السلطان ما وقفه كريم الدين منها على

حاله وسماه الوقف الناصري، فلما جلس السلطان الملك الصالح بدار العدل، وحضر قاضي القضاة والأمراء وغيرهم من أهل الدولة على العادة، تكلم الأمير صرغتمش مع قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن بدر الدين محمد بن جماعة في حل أوقاف ابن زنبور، فإنها ملك السلطان ومن ماله اشتراها، وذكر قضية كريم الدين، فأجابه بأنّ تلك القضية كانت صحتها مشهورة، وذلك أنّ خزائن السلطان وحواصله وأمواله كلها كانت بيد كريم الدين وفي داره، يتصرف فيها على ما يختاره، جعل له السلطان بتوكيله والإذن له في التصرّف، بخلاف ابن زنبور، فإنه كان يتصرّف في ماله الذي اكتسبه من المتجر وغيره، فما وقفه وثبت وقفه وحكم قضاة الإسلام بصحته لا سبيل إلى حله، وساعده في ذلك القاضي موفق الدين عبد الله الحنبليّ، وتردّد الكلام بينهما في ذلك، فاحتج عليهما الأمير صرغتمش بما لقناه الشريفان من مشاطرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، عماله وأخذه من كل عامل نصف ماله، وأن مال الوزير جميعه من مال السلطان، فقال له ابن جماعة: يا أمير، إن كنت تبحث معنا في هذه المسألة بحثنا معك، وإن كان أحد قد ذكرها لك فليحضر حتى نبحث معه فيها، فإنّ الذي ذكر لك هذه المسألة إنما قصد أن تصادر الناس وتأخذ أموالهم، فوافقه رفقته الثلاثة قضاة على قوله، وأراد ابن جماعة بقوله هذا التعريض بالشريفين وكان اختصاصهما بالأمير صرغتمش، وقيامهما على ابن زنبور مشهورا، فشق هذا على الأمير صرغتمش وانفض المجلس وقد اشتدّ حنقه لما ردّ عليه من كلامه وعورض فيه من مراده، فبعثت خوند أم السلطان إلى ابن جماعة تعرّفه ما وعدت به من مصير السبع قاعات إليها، وأكدت عليه في أن لا يعارضها في حلّ أوقاف ابن زنبور، فأجابها بتقبيح هذا، وخوّفها سوء عاقبته، فكفت عنه، ولقوّة غيظ الأمير صرغتمش مرض مرضا شديدا من انفتاح صدره ونفثه الدم، حتى خيف عليه الموت، ثم عوفي بعد ذلك بأيام، وذلك كله في سنة أربع وخمسين وسبعمائة، واستمرّت السبع قاعات وقفا بيد ذرية ابن زنبور إلى يومنا هذا، إلّا أنّ الأمير صرغتمش المذكور أخذ رخامها ووجد فيها شيئا كثيرا من صينيّ ونحاس وقماش وغير ذلك قد أخفي في زواياها. علم الدين: عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم، المعروف بابن زنبور، أوّل ما باشر به استيفاء الوجه القبلي شريكا لوهب بن سنجر، وطلع صحبته الأمير علم الدين عبد الرزاق كاشف الوجه القبليّ، ونهض فيه، فلما كانت مصادرة ابن الجيعان كاتب الإصطبل، طلب السلطان سائر الكتاب، وكان منهم ابن زنبور، فعرضهم ليختار منهم فشكر الفخر ناظر الجيش منه وقال: هو ولد تاج الدين رفيقه وشكره الأكوز، فلما انفض المجلس طلبه وخلع عليه، فباشر نظر الإصطبل في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، ونال فيه سعادة طائلة، واستمرّ إلى أن مات السلطان الملك الناصر محمد، وحكم الأمير ايدغمش، فباشر استيفاء الصحبة، فلما قبض على حمال الكفاة ناظر الخاص وناظر الجيش وعلى الموفق

ناظر الدولة وعلى الصفيّ ناظر البيوت، المعروف بكاتب قوصون، في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ومات حمال الكفاة في العقوبة يوم الأحد سادس شهر ربيع الأوّل، عيّن ابن زنبور لوظيفة نظر الخاص، ثم قرّر فيها القاضي موفق الدين هبة الله بن إبراهيم ناظر الدولة، وكان ابن زنبور وهو مستوفي الصحبة، قد سيّره حمّال الكفاة قبل القبض عليه، لكشف القلاع الشامية، ومعه جارا كتمر الحاجب إبعادا له، وكان الأمير أرغون العلائي يعني به، فلما قبض على حمّال الكفاة، تحدّث له العلائي مع السلطان الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون في نظر الخاص، فبعث في طلبه، ثم لم يحضر إلّا بعد شهر، فتحدّث الوزير نجم الدين محمود بن عليّ المعروف بوزير بغداد مع السلطان في ولاية الموفق نظر الخاص، فخلع عليه، وحضر ابن زنبور من الشام فباشر نظر الدولة علم الدين بن سهلوك وابن زنبور على ما هي عادته في استيفاء الصحبة، ونهض في المباشرة وحصّل الأموال ودخل هو والوزير نجم الدين وشكيا، توقف الدولة من كثرة الإنعامات والإطلاقات للخدم والجواري، ومن يلوذ بهم، فتقرّر الحال مع الأمراء على كتابة أوراق بكلفة الدولة، فلما قرئت بمحضر من الأمراء بلغت الكلف ثلاثين ألف ألف درهم، والمتحصل خمسة عشر ألف درهم، فأبطل ما استجدّ بعد موت الملك الناصر بأسره، فلم يستمرّ غير شهر واحد حتى عاد الأمر على ما كان عليه، بحيث بلغ مصروف الحوائج خاناه في كل يوم اثنين وعشرين ألف درهم، بعد ما كانت في أيام الناصر محمد ثلاثة عشر ألف درهم، فلما مات الملك الصالح إسماعيل وأقيم في الملك من بعده أخوه الملك الكامل سيف الدين شعبان بن محمد، صرف الموفق عن نظر الخاص ونقل ابن زنبور من استيفاء الصحبة إليها، واستقرّ فخر الدين السعيد في استيفاء الصحبة، وذلك في ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، فباشر ذلك إلى أخريات رجب نيفا وثمانين يوما، فولى الملك الكامل نظر الخاص لفخر الدين ابن السعيد مستوفي الدولة، وأعاد ابن زنبور من نظر الخاص إلى استيفاء الدولة، فلما كان في المحرّم سنة سبع وأربعين، أعيد نجم الدين وزير بغداد إلى الوزارة، وقرّر ابن زنبور في نظر الدولة، فاستمرّ إلى أن قتل الكامل شعبان، وأقيم في الملك من بعده أخوه الملك المظفر حاجي في مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين، فطلب ابن زنبور وأعيد إلى نظر الخاص، وقبض على فخر الدين بن السعيد، وطولب بالحمل، وأضيف إليه نظر الجيش، فباشر ذلك إلى سنة إحدى وخمسين، فأضيف إليه الوزارة في يوم الخميس سابع عشري ذي القعدة، وخلع عليه، وكان له يوم عظيم جدّا، فلما كان يوم السبت جلس بشباك قاعة الصاحب من القلعة في دست الوزارة، واستدعى جميع المباشرين وطلب المقدّم ابن يوسف وشدّ وسطه على ما كان عليه، وطلب المعاملين وسلفهم على اللحم وغيره، واستكتب المباشرين أنه لم يكن في بيت المال ولا الاهرا من الدراهم والغلال شيء البتة، ودخل بها وقرأها على السلطان والأمراء، وشرع في عرض

أرباب الوظائف كلهم، وطلب حساب الأقاليم بأسرها، وولى صهره فخر الدين ماجد فرويتة نظر البيوت، وأنفق جامكية شهر وحمل الرواتب إلى الدور السلطانية. والأسمطة من السكر والزيت والقلوبات وغير ذلك، وأقام بكتمر المومني في وظيفة شدّ الدواوين، وألزم نفسه في المجلس السلطاني بحضرة الأمراء، أنه يباشر الوزارة بغير معلوم، وقرّر ابنه في ديوانه المماليك، والتزم أنّه لا يتناول معلوما بل يوفر المعلومين للسلطان، وأبطل رمي الشعير والبرسيم من بلاد مصر، وكان يحصل برميها ضرر كبير، فإن ذلك كان يحصل من سائر البلاد فيغرم على كل أردب أكثر من ثمنه، والتزم بتكفية بيت المال من الشعير والبرسيم بغير ذلك، فبطل على يديه، وكتب به مرسوم وكتب نقشا على حجر في جانب باب القلعة من قلعة الجبل، وأمر بقياس أراضي الجيزة فجاء زيادتها عن الارتفاع الذي مضى ثلثمائة ألف درهم، وعنها خمسة عشر ألف دينار، فلم يزل إلى سابع عشري شوّال سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، فأحيط به وقبض عليه حسدا له على ما صار إليه، ولم يجتمع لغيره في الدولة التركية، وتولى القيام عليه الأمير صرغتمش لأنه علم أنه من جهة الأمير شيخو ويقوم له بجميع ما يختاره، وأعانه عليه الأمير طاز، وما زال يدأب في ذلك إلى أن عاد السلطان الملك الصالح من دمشق في يوم الاثنين خامس عشري شوّال سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة إلى قلعة الجبل، وعمل يوم الخميس سماطا مهما في القلعة، ولما انفض السماط خلع على سائر أرباب الوظائف من الأمراء، وعلى الوزير وسائر المباشرين، فاتفق لما قدّره الله تعالى أنه حضر إلى الأمير صرغتمش وهو يومئذ رأس نوبة عشر تشريف، غيّر تشريفه ودون رتبته، فأخذه ودخل إلى الأمير شيخو وألقى البلقجة قدّامه وقال: أنظر فعل الوزير معي وكشف الخلعة، فقال شيخو هذا غلط، فقام وقد أخذه من الغضب شبه الجنون وقال: هذا شغل الوزير وأنا ما اصبر على أن أهان لهذا الحدّ، ولا بدّ لي من القبض عليه ومهما شئت أنت افعل بي وخرج فإذا الوزير داخل لشيخو وعليه خلعة فصاح في مماليكه، خذوه فكشفوا الخلعة عنه وسحبوه إلى بيت صرغتمش وسرّح مماليكه في القبض على جميع حاشية الوزير، فقبض على سائر من يلوذ به لأنهم كانوا قد اجتمعوا بالقلعة، وخالطت العامّة المماليك في القبض على الكتاب وأخذوا منهم في ذلك اليوم شيئا كثيرا، حتى أن بعض الغلمان صار إليه في ذلك اليوم ستة عشر دواة من دوي الكتاب، فلم يمكن منها أربابها إلّا بمال يأخذه على كل دواة، ما بين عشرين إلى خمسين درهما، وأمّا ما سلبوه من العمائم والثياب والمهاميز الفضة فشيء كثير، وخرج الأمير قشتمر الحاجب وغيره في جماعة إلى دوره التي بالصوصة من مصر، فأوقعوا الحوطة على حريمه وأولاده وختموا سائر بيوته وبيوت حواشيه، وكانوا قد اجتمعوا وتزينوا لقدوم رجالهم من السفر، وأنزل الوزير في مكان مظلم من بيت صرغتمش، فلما أصبح طلب ولد الوزير وصار به صرغتمش إلى بيت أبيه وأحضر أمّه ليعاقبه وهي تنظره حتى يدلوه على المال، ففتحوا له خزانة وجد فيها خمسة

عشر ألف دينار وخمسين ألف درهم فضة، وأخرج من بئر صندوق فيه ستة آلاف دينار وشيء من المصالح، وحضرت أحماله من السفر فوجد فيها ستة آلاف دينار ومائة وخمسون ألف درهم فضة، وغير ذلك من تحف وثياب وأصناف، وألزم والي مصر بإحضار بناته، فنودي عليهنّ في مصر والقاهرة، وهجمت عدّة دور بسببهنّ ونال الناس من نكاية أعدائهم في هذه الكائنة كل غرض، فإنه كان الرجل يتوجه إلى أحد من جهة صرغتمش ويرمي عدوّه بأنّ عنده بعض حواشي ابن زنبور، فيؤخذ بمجرّد التهمة، ولقي الناس من ذلك بلاء عظيما. ثم حمل إلى داره وعرّي ليضرب، فدل على مكان استخرج منه نحو من خمسة وستين ألف دينار، فضرب بعد ذلك، وعرّيت زوجته وضرب ولده فوجد له شيء كثير إلى الغاية. قال الصفديّ خليل بن أيبك الملقب صلاح الدين في كتاب أعيان العصر: وأمّا ما أخذ منه في المصادرة في حال حياته فنقلت من خط الشيخ بدر الدين الحمصيّ في ورقة بخطه على ما أملاه القاضي شمس الدين محمد البهنسيّ، أواني ذهب وفضة ستون قنطارا، جوهر ستون رطلا، لؤلؤ أردبان، ذهب مصكوك مائتا ألف وأربعة آلاف دينار، ضمن صندوق ستة آلاف حياصة، ضمن صناديق زركش ستة آلاف كلوته ذخائر، عدّة قماش بدنه، ألفان وستمائة فرجية بسط، «1» آلاف صنجة دراهم خمسون ألف درهم، شاشات ثلثمائة شاش، دواب عاملة سبعة آلاف حلابة، ستة آلاف خيل وبغال ألف، دراهم ثلاثة أرداب، معاصر سكر خمسة وعشرون معصرة، إقطاعات سبعمائة، كل إقطاع خمسة وعشرون ألف درهم، عبيد مائة، خدّام ستون، جواري سبعمائة، أملاك القيمة عنها ثلاثمائة ألف دينار، مراكب سبعمائة، رخام القيمة عنه مائتا ألف درهم، نحاس قيمته أربعة آلاف دينار، سروج وبدلات خمسمائة، مخازن ومتاجر أربعمائة ألف دينار، نطوع سبعة آلاف، دواب خمسمائة، بساتين مائتان، سواقي ألف وأربعمائة. وكان في وقت القبض عليه أشدّ الناس قياما في إفساد صورته الشريف شرف الدين عليّ بن الحسين نقيب الأشراف، والشريف أبو العباس الصفراوي، وبدر الدين ناظر الخاص، وأمير المؤمنين، والصوّاف، واستادار الأمير صرغتمش، فأوّل ما فتحوه من أبواب المكايد أن حسنوا الصرغتمش أن يأمر بالإشهاد عليه. أن جميع ماله من الأملاك والبساتين والأراضي والوقف والطلق جميعها من مال السلطان دون ماله، فصير إليه ابن الصدر عمر وشهود الخزانة، فاشهد عليه بذلك، ثم كتبوا فتي في رجل يدعي الإسلام ويوجد في بيته كنيسة وصلبان وشخوص من تصاوير النصارى، ولحم الخنزير، وزوجته نصرانية، وقد رضي لها بالكفر، وكذلك بناته وجواريه، وأنه لا يصلي ولا يصوم ونحو ذلك، وبالغوا في تحسين قتله حتى قالوا لصرغتمش: والله لو فتحت جزيرة قبرص ما كتب لك أجر من الله بقدر ما يؤجرك الله على ما فعلته مع هذا، فأخرج في باشا

وزنجير وضرب في رحبة قاعة الصاحب من القلعة بالمقارع، وتوالت عقوبته، وأسلم لشادّ الدواوين ليعاقبه حتى يموت، فقام الأمير شيخو في أمره، فردّه صرغتمش إلى داره وأكرمه وأقام عنده إلى سابع عشري المحرّم سنة أربع وخمسين، فأخرجه من داره وتسلمه شادّ الدواوين وعاقبه عقوبة الموت في قاعة الصاحب، فاتفق ركوب الأمير شيخو من داره إلى القلعة وابن زنبور يعاقب، فغضب من ذلك ووقف ومنع من ضربه، وبلغ الخبر صرغتمش فصعد إلى القلعة وجرى له مع شيخو عدّة مفاوضات كادت تفضي إلى فتنة، وآل الأمر فيها إلى تسفير ابن زنبور إلى قوص، فأخرج من ليلته، وكانت مدّة شدّته ثلاثة أشهر، وأقام بمدينة قوص إلى أن عرض له مرض أقام به أحد عشر يوما ومات يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة أربع وخمسين وسبعمائة، وله بالقاهرة السبيل الذي على يسرة من دخل من باب زويلة بجوار خزانة شمائل، وقد دخل في الجامع المؤيدي. دار الدوادار: هذه الدار فيما بين حارة زويلة واصطبل الجميزة، وهي اليوم من جملة خط السبع قاعات عرفت ... «1» . دار فتح الله: هذه الدار اليوم بخط سويقة المسعوديّ، كان موضعها زقاقا يعرف بزقاق البناده، وفيه باب قاعة أنشأها سعد الدين إبراهيم بن عبد الوهاب بن النجيب أبي الفضائل الميمونيّ أحد مباشري ديوان الجيش، وهي قاعة في غاية الملاحة من جودة رخام وكثرة دهان وحسن ترتيب، ومات الميمونيّ في ثاني ذي الحجة سنة خمس وتسعين وسبعمائة، فسكنها فتح الله بن معتصم وهو يومئذ رئيس الأطباء، فلما ولي كتابة السر شره إلى العمارة، فأخذ ما في الزقاق المذكور من الدور شيئا بعد شيء، وأخرج منها سكانها وهدمها وابتنى قاعة تجاه قاعة الميمونيّ، وجعل فيها بئرا وفسقية ماء، وبنى بها حمّاما، ثم أنشأ اصطبلا كبيرا لخيوله، ولم يقنع بذلك حتى حمل القضاة على الحكم له باستبدال دار الميمونيّ، وكانت وقفا على أولاد الميمونيّ ومن بعدهم على الحرمين، فعمل له طرف في جواز الاستبدال بها على ما صار القضاة يعتمدونه منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، فلما تم حكم القضاة له بتملكها غير بابها وزاد في سعتها. وأضاف إليها عدّة مواضع مما بجوارها، وغرس في جانبها عدّة أشجار وزرع كثيرا من الأزهار التي حملت إليه من بلاد الشام، وبالغ في تحسين رخام هذه الدار، وأنشأ دهيشة كيسة إلى الغاية بوسطها فسقية ماء ينخرط إليها الماء من شاذروان عجيب الصنعة بهج الزيّ، وتشرف هذه الدهيشة على هذه الجنينة التي أبدع فيها كل الأبداع، وركب علو هذه القاعة الأروقة العظيمة، وبنى بجوارها عدّة مساكن لمماليكه، ومسجدا معلقا كان يصلي فيه وراء إمام راتب قرّره له بمعلوم جار، فجاءت هذه الدار من أجلّ دور القاهرة وأبهجها، ووقف ذلك كله مع أشياء غيرها على تربته

التي أنشأها خارج باب البرقية، وعلى عدّة جهات من البر فلما نكب أكره حتى رجع عن وقف هذه الدار على ما عينه في كتاب وقفه، وجعلها وقفا على أولاد السلطان الملك المؤيد شيخ، فلما مات المؤيد عاد ذلك إلى وقف فتح الله. فتح الله بن معتصم بن نفيس الإسرايلي الداوديّ العنانيّ التبريزيّ، رئيس الأطباء، وكاتب السرّ، ولد بتبريز في سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وكان قد قدم جدّه نفيس إلى القاهرة في سنة أربع وخمسين، فأسلم وعظم بين الناس، ثم قدم فتح الله مع أبيه فنشأ بالقاهرة في كفالة عمه، ونظر في الطب وعاشر الفقهاء واتصل بصحبة بعض الأمراء، فعرف منه أحد مماليكه، وكان يسمى بشيخ، فلما تأمّر شيخ فرّبه وأنكحه وفوّض إمر ديوانه، ثم مات عمه بديع ابن نفيس، فأقرّه الملك الظاهر برقوق مكانه في رياسة الأطباء فباشرها مباشرة مشكورة، واختص بالملك الظاهر برقوق اختصاصا كبيرا، فلما مات بدر الدين محمود الكلسانيّ قلده وظيفة كتابة السرّ، وخلع عليه في يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة، ومات الظاهر وقد جعله أحد أوصيائه، فما زال إلى أوائل ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانمائة فقبض عليه واستقرّ بدله في كتابة السر سعد الدين إبراهيم بن غراب، وضرب حتى حمل مالا ثم أفرج عنه فلزم داره إلى شهر رمضان، فحمل إلى دار الوزير فخر الدين ماجد بن غراب وألزم بمال آخر، فحمله وأطلق، فقام الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في أمره، وما زال بالملك الناصر فرج إلى أن أعاده إلى كتابة السرّ في أوائل ذي الحجة فاستقرّ فيها، وتمكن من أعدائه وأراه الله مصارعهم، واتسعت أحواله وانفرد بسلطانه وأنيط به جلّ الأمور، فأصبح عظيم المصر نافذ الأمر قائما بتدبير الدولة، لا يجد أحد من عظماء الدولة بدا من حسن سفارته، وأبدا للناس دينا وخيرا وتواضعا، وحسن وساطة بين الناس وبين السلطان، فلما كان من أمر الناصر وهزيمته على اللجون ما كان، وقع فتح الله مع الخليفة المستعين بالله العباسي ابن محمد المتوكل على الله وعدّة من كتاب الدولة في قبضة الأميرين شيخ ونوروز، وما زال عند هما حتى قتل الناصر وأقيم من بعده أمير المؤمنين المستعين بالله، وهو على حاله من نفوذ الكلمة وتدبير الأمور، فلما استبدّ الأمير شيخ بمملكة الديار المصرية واعتقل الخليفة وتلقب بالملك المؤيد شيخ في شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، أقرّ فتح الله على رتبته، ثم قبض عليه يوم الخميس تاسع شوال، وعوقب غير مرّة، وأحيط بجميع أمواله وأسبابه وحواشيه، وبيع عليه بعض ما وجد له، وحمل ما تحصل منه فبلغ ما ينيف عن أربعين ألف دينار، سوى ما أخذ مما لم يبع، وهو ما يتجاوز ذلك، وما زال في العقوبة إلى أن خنق في ليلة الأحد خامس عشر شهر ربيع سنة ست عشرة وثمانمائة، وحمل من الغد إلى تربته فدفن بها، وكان رحمه الله من خير أهل زمانه رياضة وديانة وطيب مقال، وتأله وتنسك ومحبة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسن قيام مع السلطان في أمر الناس، وبه كفى الله عن الناس من شرّ الناصر فرج شيئا كثيرا، وقد ذكرته

بأبسط من هذا في كتابي «درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة» ، وفي كتابي «خلاصة التبر في أخبار كتاب السرّ» . دار ابن قرقه: هذه الدار من الدور القديمة، وهي بخط سويقة المسعوديّ إلى خط بين السورين، وقد تغيرت معالمها. قال ابن عبد الظاهر: دار ابن قرقة هي الآن سكن الأمير صارم الدين المسعوديّ والي القاهرة، بأوّل حارة زويلة من جهة باب الخوخة على يسرة السالك إلى داخل الحارة، وهي معروفة اليوم وإلى جانبها الحمام المعروفة بابن قرقة أيضا، وهذه الدار والحمام أنشأهما أبو سعيد بن قرقة الحكيم، وباعهما في حال مصادرته مما خرج عليه، فابتاعهما منه علم السعداء، ثم سكنها الكامل بن شاور، وهما من جهة الخليج. انتهى. وهذه الدار والحمام قد قدمتا وصار موضع الدار الجامع المعروف بجامع ابن المغربيّ برأس سويقة الصاحب وما يجاوره من دور ابن أبي شاكر، وآخر ما بقي منها شيء، هدمه الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن تاج الدين موسى بن أبي شاكر، في رمضان سنة أربع وتسعين وسبعمائة. وابن قرقة: هذا كان يتولى الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح، وكان ماهرا في علم الطب والهندسة ونحو ذلك من علوم الأوائل، وقتله الخليفة الحافظ لدين الله من أجل أنه دبر السم لابنه حسن بن الحافظ، عندما تشاور والجند وطلبوا من الخليفة قتل ابنه حسن كما تقدّم ذكره، فلما سكنت الدهماء قبض عليه الخليفة واعتقله بخزانة البنود وقتله، في سنة تسع وعشرين وخمسمائة. دار خوند: هذه الدار من حقوق حارة زويلة، عرفت بالست الجليلة خوندار دوتكين ابنة نوغية السلاح دار الططريّ، تزوّج بها الملك الأشرف خليل بن قلاون، ومات عنها فتزوّجها من بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاون، وولدت منه ولدين وماتا، ثم طلقها ونزلت من القلعة فسكنت هذه الدار، وأنشأت لها تربة بالقرافة تعرف الآن بتربة الست، وجعلت لها عدّة أوقاف، وكانت من الخير على جانب عظيم، لها معروف وصدقات وإحسان عميم، وماتت ولها ما ينيف على الألف، ما بين جارية وخادم أعتقتهم كلهم، وخلّفت أموالا تخرج عن الحدّ في الكثرة، وكانت وفاتها في ليلة السبت ثالث عشري المحرم سنة أربع وعشرين وسبعمائة، ودفنت بتربتها، فتقدّم أمر السلطان للأمراء والقضاة لشهود جنازتها وحمل ما تركته من الأموال والجواهر، وطلب أخوها جمال الدين خضر بن نوغية وصولح على إرثه منها بمائة وعشرين ألف درهم، عنها يومئذ سبعة آلاف دينار، ولم تزل هذه الدار إلى أن هدمت، فأخذها الأمير صلاح الدين محمد استادار السلطان ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في شهر رجب سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وأدخلها

في داره التي أنشأها فجاءت من أجلّ دور القاهرة. دار الذهب: هذه الدار خارج القاهرة، فيما بين باب الخوخة وباب سعادة، بناها الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي، وكان فيما بين باب القنطرة وباب الخوخة منظرة اللؤلؤة التي تقدّم ذكرها، عند ذكر مناظر الخلفاء، ويجاورها من حيزباب الخوخة دار الفلك، وبناها فلك الملك أحد الأستاذين الحاكمية، ويلاصقها دار الذهب هذه، ويجاور دار الذهب دار الشابورة، ودار الذهب عرفت أخيرا بدار الأمير بها در الأعسر شادّ الدواوين، ثم الآن عرفت بدار الأمير الوزير المشير الأستادار فخر الدين عبد الغني ابن الأمير الوزير استادار تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الأرمنيّ الأصل، وعني بها وهدم كثيرا من الدور التي كانت تجاهها على برّ الخليج الشرقيّ، وأنشأ هناك دارا يتطرّق إليها من هذه الدار بساباط، وأنشأ بجوارها جامعه الآتي ذكره وحمامه، ثم هدم كثيرا من الدور التي كانت على الخليج وما وراءها بتلك الأحكار التي في الجانب الغربيّ من الخليج، وغرس في أراضي تلك الدور الأشجار وجعلها بستانا تجاه داره، فمات قبل أن تكمل، وصار أكثر مواضع الدور التي خربها هناك كيمانا. دار الحاجب: خارج باب النصر تجاه مصلى الأموات، هذه الدار أنشأها الأمير سيف الدين كهرداش المنصوريّ، أحد المماليك الزراقين، وهو الذي فتح جزيرة أرواد في المراكب المتوجهة إلى بلاد الفرنج، وتولى عمارة مأذنة المدرسة المنصورية لما تهدّمت في الزلزلة، وتقدم وكثرت أمواله ومات بدمشق في سنة أربع عشرة وسبعمائة، فاشترى هذه الدار الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، ولم تزل بها ذريته من بعد الأمير جمال الدين عبد الله بن بكتمر، والأمير ناصر الدين محمد بن عبد الله، وبها الآن ولدا الأمير ناصر الدين، وهما الأمير عليّ وعبد الرحمن، وما برح هذا البيت فيه الأمرة والسعادة. بكتمر الحاجب: الأمير سيف الدين، كان أميرا خور، ثم وليّ شدّ الدواوين بدمشق في نيابة الأفرم، ولم يكن لأحد معه كلام في عزل ولا ولاية، ثم ولي الحجوبية، وتوجه إلى صفد كاشفا على الأمير ناهض الدين عمر بن أبي الخير والي الولاة وشادّ الدواوين بها، ومعه معين الدين بن حشيش، فحرّر الكشف ورفعه، حتى قال فيه زين الدين عمر بن حلاوات موقع صفد: يا قاصدا صفدا فعد عن بلدة ... من جور بكتمر الأمير خراب لا شافع تغني شفاعته ولا ... جار له مما جناه جناب حشر وميزان ونشر صحائف ... وجرائد معروضة وحساب وبها زبانية تحثّ على الورى ... وسلاسل ومقامع وعقاب ما فاتهم من كلّ ما وعدوا به ... في الحر إلّا راحم وهاب

ولما قدم الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك إلى دمشق، ولّاه الحجوبية، ودخل في خدمته إلى مصر وهو حاجب، ثم أخرجه ثانيا نائبا إلى غزة في سنة عشر وسبعمائة، فأقام بها قليلا وطلبه وولّاه الوزارة بالديار المصرية عوضا عن الصاحب فخر الدين ابن الخليليّ، في رمضان سنة عشر، فباشر الوزارة إلى أن قبض عليه مستهل ربيع الأوّل سنة خمس عشرة، واعتقل مدّة سنة ونصف وأخذ كير من ماله، ثم أفرج عنه وأخرج إلى صفد نائبا في سنة ست عشرة، وأنعم عليه بمائة ألف درهم، عنها يومئذ خمسة آلاف دينار، فأقام بها عشرة أشهر وطلب إلى مصر فصار من الأمراء المشهورة، فإذا تكلم السلطان في المشورة لا يردّ عليه غيره، لما عنده من المعرفة والخبرة، وتزوّج بابنة الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك، وأولاده الذين ذكرنا منها، وسرق له مال كثير من خزانته بهذه الدار، ادّعى أنه مبلغ مائتي ألف درهم، وكان في الباطن على ما قيل سبعمائة ألف درهم، فما جسر يتفوّه خوفا من السلطان، وكان إذ ذاك والي القاهرة الأمير سيف الدين قدادار، المنسوب إليه القنطرة على الخليج، فتقدّم أمر السلطان إليه بتتبع من سرق المال، فدسّ إليه الأمير بكتمر الساقي، والوزير مغلطاي الجمالي، والقاضي فخر الدين ناظر الجيش في السرّ، أن يتهاون في أمر السرقة نكاية لبكتمر، وأخذوا يحتجون لكل من اتهم ويقولون للسلطان لعن الله ساعة هذه العملة، كل يوم يموت من الناس تحت المقارع عدّة، وإلى متى يقتل المتهم الذي لا ذنب له، فلما طار الأمر شكا بكتمر إلى السلطان في دار العدل، فأحضر الوالي وسبّه السلطان، فقال يا خوند: اللصوص الذين أمسكتهم وعاقبتهم أقرّوا أن سيف الدين بخشي خزنداره، اتفق معهم على أخذ المال وجماعة من إلزامه الذين في بابه. فقال السلطان للجمالي الوزير: احضر هؤلاء المذكورين وعاقبهم، فأخذ بخشي وعصره وكان عزيزا عند بكتمر، قد زوجه بابنته، وهو يثق بعقله ودينه وأمانته، فشق ذلك عليه واغتم غما شديدا مات منه، فجاءة فيما بين الظهر إلى العصر من يومه سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وكان خبيرا بالأمور بصيرا بالحوادث طويل الروح في الكلام لا يمل من تطويله، ولو قعد في الحكم الواحد بين الأمير واليهودي ثلاثة أيام، ولا يلحقه من ذلك سآمة البتة، مع معرفة تامّة وخبرة بالسياسة لم ير مثله في حق أصحابه، لكثرة تذكرهم في غيبتهم، والفكر في مصالحهم وتفقد أحوالهم، ومن جفاه منهم عتب عليه، وكان سمحا بجاهه بخيلا بماله إلى الغاية، ساقط الهمة في ذلك، وله متاجر وأملاك وسعادة لا تكاد تنحصر، ومع ذلك فله قدور يكريها لصلاقي الفول والحمص وغير ذلك من العدد والآلات، ويماحك على أجرها مماحكة يستحى من ذكرها، وأنشأ عدّة دور واقتنى كثيرا من البساتين، وولي من بعده ابنه الأمير جمال الدين عبد الله الإمرة، وكان حاجبا، ولأبيه في سيرة البخل والحرص الشديد تابعا ومقلدا، وتولى أمره الحاج غير مرّة، وخرج في سنة ست وثمانين وسبعمائة من القاهرة لولاية كشف الجسور بالغربية، فورد عليه كتاب

السلطان الملك الظاهر برقوق بالإنكار، وفيه تهديد مهول فداخله الخوف ومرض، فحمل في محفة إلى القاهرة فدخلها يوم الأربعاء النصف من جمادى الأولى من تلك السنة، فمات من يومه وأخذ أقطاعه الأمير يودي، وصار ابنه ناصر الدين أحد الأمراء العشراوات، سالكا طريق أبيه وجدّه في الإمساك إلى أن مات خامس عشري شهر ربيع الآخر سنة اثنين وثمانمائة، ودفن بتربتهم خارج باب النصر. دار الجاولي: هذه الدار من جملة الحجر التي تقدّم ذكرها، وهي تجاه الخان المجاور لوكالة قوصون، أنشأها الأمير علم الدين سنجر الجاولي وجعلها وقفا على المدرسة المعروفة بالجاولية بخط الكبش جوار الجامع الطولوني، وعرفت في زماننا بقاعة البغادّة، لسكنى عبد الصمد الجوهريّ البغداديّ بها هو وأولاده في سنة سبع وأربعين وسبعمائة إلى بعد سنة ست عشرة وثمانمائة، وهي من الدور الجليلة، إلّا أنها قد تشعثت لطول الزمن. دار أمير أحمد: هذه الدار بجوار دار الجاوليّ من غربيها، عرفت بأمير أحمد قريب الملك الناصر محمد بن قلاون، وعرفت في زماننا بسكن أبو ذقن ناظر المواريث، وهي من جملة ما اغتصبه جمال الدين يوسف الأستادار من الدور الوقف، وجعلها لأخيه شمس الدين محمد البيري قاضي حلب، وشيخ الخانقاه البيبرسية، فغير بابها وشرع في عمارتها، فقبض عليه عند القبض على أخيه وهو بها. دار اليوسفي: هذه الدار بجوار باب الجوّانية فيما بينها وبين الحوض المعدّ لشرب الدواب، أنشأها هي والحوض الأمير سيف الدين بهادر اليوسفيّ السلاح دار الناصريّ. دار ابن البقري: هذه الدار أنشأها الوزير الصاحب سعد الدين سعد الله بن البقريّ بن أخت القاضي شمس الدين شاكر بن غزيل البقريّ، صاحب المدرسة البقرية اظهر الإسلام وباشر في الخدمة الديوانية إلى أن ولاه الملك الظاهر برقوق وظيفة نظر الديوان المفرد ونظر الخاص، عوضا عن الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن مكانس، في ثالث شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، فباشر ذلك إلى تاسع شهر رمضان سنة خمس وثمانين، فقبض عليه ونزل الأمير يونس الدوادار والأمير قرقماش الخازندار إلى داره هذه وأحاط بها، وأخذ جميع ما فيها من المال والثياب والأواني والحلي والجواري وغير ذلك، وحمل إلى القلعة، فبلغ قيمة ما وجد بداره في هذه النوبة مائتي ألف دينار، وسلم ابن البقريّ لشادّ الدواوين بقاعة الصاحب من القلعة، فضرب بالمقارع نيفا وثلاثين شيبا، وولي موفق الدين أبو الفرج نظر الخاص، ثم أن الملك الظاهر لما عاد إلى المملكة، بعد ثورة الأمير بلبغا الناصريّ والأمير تمربغا منطاش عليه، وخلعه من الملك وسجنه بالكرك، ثم قيامه بأهل الكرك ودخوله إلى القاهرة وعوده إلى المملكة، ولي ابن البقريّ الوزارة في يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنين وتسعين وسبعمائة عوضا عن موفق الدين أبي الفرج، ثم

صرف في يوم الخميس لعشرين من شهر رمضان، وأعيد الوزير أبو الفرج وأحيط بدور ابن البقريّ وأسلم هو وابنه تاج الدين عبد الله إلى الأمير ناصر الدين محمد بن اقبغا آض، فلما استقرّ الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام الصفديّ في الوزارة يوم الثلاثاء سابع عشري ذي الحجة منها، عوضا عن الوزير أبي الفرج، اشترط على السلطان أمورا منها استخدام الوزراء المعزولين، فجلس بشباك قاعة الصاحب من القلعة وبعث إلى من بالقاهرة من الوزراء المعزولين، وهم شمس الدين عبد الله المقسي، وعلم الدين عبد الوهاب بن الطنساويّ، المعروف بسنّ إبرة، وسعد الدين سعد الله بن البقريّ، وموفق الدين أبو الفرج، وفخر الدين عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن ابراهيم بن مكانس، فأقرّ المقسيّ وسنّ إبرة معا في نظر الدولة وأقرّ ابن البقريّ ناظر البيوت ومستوفي الدولة، وقرّر أبا الفرج في استيفاء الصحبة، وابن مكانس في استيفاء الدولة شريكا لابن البقريّ، فكانوا يركبون في خدمته دائما ويجلسون بين يديه، وربما وقف ابن البقريّ على قدميه بحضرته بعد أن كان ابن الحسام دواداره، ولا يزال قائما بين يديه، فعدّ الناس هذا من أعظم المحن التي لم يشاهد في الدولة التركية مثلها، وهو أن يصير الرجل خادما لمن كان في خدمته، فنعوذ بالله من المحن، ثم إن الوزير ابن الحسام قبض على ابن البقريّ وألزمه بحمل سبعين ألف درهم، ثم أعيد إلى الوزارة بعد القبض على الصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن عبد الله بن موسى بن أبي بكر ابن أبي شاكر في ذي القعدة سنة خمس وتسعين، وقبض عليه وعلى ولده في حادي عشري شهر ربيع الأوّل سنة ست وتسعين، وسلما مع عدّة من الكتاب لشادّ الدواوين، ثم أفرج عنهما على حمل مال، فلما ولي الأمير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلفت الوزارة، بعد الوزير أبي الفرج، قرّر ابن البقريّ في نظر الدولة عوضا عن بدر الدين الأقفهسيّ، واستخدم بقية الوزراء كما فعل الوزير ابن الحسام، فلما خلع السلطان على الأمير ناصر الدين محمد بن تنكر وجعله استادار الأملاك في رجب سنة سبع وتسعين، قرّر ابن البقريّ ناظر الأملاك، وخلع عليه، فصار يتحدّث في نظر الدولة ونظر الأملاك، فلما كان يوم الخميس رابع رجب سنة ثمان وتسعين أعيد إلى الوزارة وصرف عنها الأمير مبارك شاه ناظر الظاهريّ، واستقرّ بدر الدين محمد بن محمد الطوخي في نظر الدولة، ثم قبض عليه في يوم الخميس رابع ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين، وأحيط بسائر ما قدر عليه من موجوده، وولي الوزارة بعده ابن الطوخيّ، وعوقب عقابا شديدا في دار الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ، ثم أخرج نهارا وهو عار مكشوف الرأس وبيده حبل يجرّبه وثيابه مضمومة بيده الأخرى والناس تراه من درب قراصيا برحبة باب العيد في السوق إلى دار ابن الطبلاويّ، وقد انتهك بدنه من شدّة الضرب، فسجن بدار هناك. ثم خنق في ليلة الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وكان أحد كتاب الدنيا الذين انتهت إليهم السيادة في كتابة الرسوم الديوانية، مع عفة الفرج وجودة الرأي وحسن التدبير، إلّا أنه لم يؤت سعدا في

وزارته، وما برح ينكب كل قليل، وكان يظهر الإسلام ويكتب بخطه كتب الحديث وغيرها، ويتهم في باطن الأمر بالتشدّد في النصرانية، وولي ابنه تاج الدين عبد الله الوزارة ونظر الخاص، ومات قتيلا تحت العقوبة عند الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في سنة ثمان وثمانمائة، ودار ابن البقريّ هذه من أعظم دور القاهرة، وهي من جملة خط حارة الجوّانية في أوّلها. دار طولباي: هذه الدار بجوار حمّام الأعسر برأس حارة الجوّانية، تجاه درب الرشيديّ، أنشأها الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الوزير، ثم عرفت بخوند طولباي الناصرية جهة الملك الناصر. طلنباي: ويقال دلبية، ويقال طلوبية ابنة طفاجي ابن هندر بن بكر بن دوشي خان ابن جنكزخان، ذات الستر الرفيع الخاتوني، كان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون قد جهز الأمير إيدغدي الخوارزميّ في سنة ست عشرة وسبعمائة يخطب إلى أزبك ملك التتار بنتا من الذرية الجنكزية، فجمع أزبك أمراء التومانات وهم سبعون أميرا وكلمهم الرسول في ذلك، فنفروا منه ثم اجتمعوا ثانيا بعدما وصلت إليهم هداياهم وأجابوا، ثم قالوا إلّا أن هذا لا يكون إلا بعد أربع سنين، سنة سلام، وسنة خطبة، وسنة مهاداة، وسنة زواج، واشتطوا في طلب المهر، فرجع السلطان عن الخطبة، ثم توجه سيف الدين طوخي بهدية وخلعة لأزبك، فلبسها وقال لطوخي: قد جهزت لأخي الملك الناصر ما كان طلب وعينت له بنتا من بيت جنكزخان من نسل الملك ياطرخان. فقال طوخي: لم يرسلني السلطان في هذا. فقال أزبك: أنا أرسلها إليه من جهتي، وأمر طوخي بحمل مهرها فاعتذر بعدم المال. فقال: نحن نقترض من التجار، فاقترض عشرين ألف دينار وحملها، ثم قال لا بدّ من عمل فرح تجتمع فيه الخواتين، فاقترض مالا آخر نحو سبعة آلاف دينار، وعمل الفرح. وجهزت الخاتون طلنباي ومعها جماعة من الرسل، وهم بانبجار من كبار المغل، وطقبغا ومنعوش وطرحي وعثمان وبكتمر وقرطبا والشيخ برهان الدين أمام الملك أزبك وقاضي حراي، فساروا في زمن الخريف وأقلعوا فلم يجدوا ريحا تسير بهم، فأقاموا في برّ الروم على مينا ابن مشتا خمسة أشهر، وقام بخدمتهم هو والأشكريّ ملك قسطنطينية، وأنفق عليهم الأشكريّ ستين ألف دينار، فوصلوا إلى الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل سنة عشرين وسبعمائة، فلما طلعت الخاتون من المراكب حملت في خركاة من الذهب على العجل، وجرّها المماليك إلى دار السلطنة بالإسكندرية، وبعث السلطان إلى خدمتها عدّة من الحجاب، وثماني عشرة من الحرم، ونزلت في الحراقة، فوصلت إلى القلعة يوم الاثنين خامس عشري ربيع الأوّل المذكور، وفرش لها بالمناظر في الميدان دهليز أطلس معدني، ومدّ لهم سماط، وفي يوم الخميس ثاني عشرية أحضر السلطان رسل أزبك، ووصل رسل ملك الكرج، ورسل الأشكريّ بتقادمهم، ثم بعث إلى الميدان الأمير سيف الدين أرغون

النائب، والأمير بكتمر الساقي، والقاضي كريم الدين ناظر الخاص، فمشوا في خدمة الخاتون إلى القلعة وهي في عز، ثم عقد عليها يوم الاثنين سادس ربيع الآخر على ثلاثين ألف دينار، حالة المعجل منها عشرون ألفا، وعقد العقد قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وقبل عن السلطان النائب أرغون، وبنى عليها، وأعاد الرسل بعد أن شملهم من الأنعام ما أربى على أملهم، ومعهم هدية جليلة، فساروا في شعبان، وتأخر قاضي حراي حتى حج وعاد في سنة إحدى وعشرين، وماتت في رابع عشري ربيع الآخر سنة خمس وستين وسبعمائة، ودفنت بتربتها خارج باب البرقية بجوار تربة خوند طغاي أم أنوك. دار حارس الطير: هذه الدار بداخل درب قراصيا بخط رحبة باب العيد، عرفت بالأمير سيف الدين سنبغا حارس الطير، ترقى في الخدم إلى أن صار نائب السلطنة بديار مصر في أيام السلطان حسن بن محمد بن قلاون بعد يلبغا روس، ثم عزل بالأمير قبلاي وجهز إلى نيابة غزة، فأقام بها شهرا وقبض عليه وحضر مقيدا إلى الإسكندرية في شعبان سنة اثنين وخمسين وسبعمائة، فسجن بها مدّة ثم أخرج إلى القدس، فأقام بطالا مدّة، ثم نقل إلى نيابة غزة في شعبان سنة ست وخمسين وسبعمائة. الدار القردمية: هذه الدار خارج باب زويلة بخط الموّازيين من الشارع المسلوك فيه إلى رأس المنجبية، بناها الأمير الجاي الناصريّ، مملوك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان من أمره أنه ترقي في الخدم السلطانية حتى صار دوادار السلطان بغير أمرة، رفيقا للأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار، فلما مات بهاء الدين استقرّ مكانه بإمرة عشرة مدّة ثلاث سنين، ثم أعطى أمرة طبلخاناه، وكان فقيها حنفيا يكتب الخط المليح، ونسخ بخطه القرآن الكريم في ربعة، وكان عفيفا عن الفواحش، حليما لا يكاد يغضب، مكبا على الاشتغال بالعلم، محبا لاقتناء الكتب، مواظبا على مجالسة أهل العلم، وبالغ في إتقان عمارة هذه الدار بحيث أنه أنفق على بوّابتها خاصة مائة ألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الخمسة آلاف مثقال من الذهب، فلما تمّ بناؤها لم يمتع بها غير قليل، ومرض فمات في أوائل شهر رجب، وقيل في رمضان سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة، وهو كهل، فدفن بقرافة مصر. فسكنها من بعده خوند عائشة خاتون المعروفة بالقردمية، ابنة الملك الناصر محمد بن قلاوون زمانا، فعرفت بها، وكانت هذه المرأة ممن يضرب بغناها وسعادتها المثل، إلّا أنها عمرت طويلا وتصرّفت في مالها تصرّفا غير مرضيّ، فتلف في اللهو حتى صارت تعدّ من جملة المساكين، وماتت في الخامس من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ومخدّتها من ليف. ثم سكن هذه الدار الأمير جمال الدين محمود بن عليّ الاستادار مدّة، وأنشأ تجاهها مدرسة.

دار الصالح: هذه الدار بحارة الديلم قريبا من السجن، وكانت دار الصالح طلائع بن رزبك يسكنها وهو أمير قبل أن يلي الوزارة، بناها في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وبناها على ما هي عليه الآن. دار بهادر: هذه الدار بالقاهرة جوار المشهد الحسيني، في درب جرجي المقابل للابارين، المسلوك منه إلى دار الضرب وغيره، أنشأها الأمير بهادر رأس نوبة أحد مماليك الملك المنصور قلاوون، واتفق أنه كان ممن مالأ الأمير بدر الدين بيدرا على قتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون، فلما قدّر الله بانتقاض أمر بيدر أو قتله، وإقامة الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد أخيه الأشرف خليل، قبض على جماعة ممن وافق على قتل الملك الأشرف خليل، وقد تجمعت المماليك الأشرفية مع الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وهو يومئذ وزير الديار المصرية في دار النيابة من قلعة الجبل عند الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، وإذا بالأمير بهادر المذكور قد حضر هو والأمير جمال الدين أقوش الموصلي الحاجب المعروف بنميلة، وكانا قد اختفيا فرقا من سطوة الأشرفية حتى دبر أمرهما النائب، وأذن لهما في طلوع القلعة، فما هو إلّا أن أبصرهما الأشرفية سلوا سيوفهم وضربوا رقبتيهما في أسرع وقت، فدهش الحاضرون وما استطاعوا أن يتكلموا خوفا من الأشرفية، واتفق في بناء هذه الدار ما فيه عبرة لمن اعتبر، وذلك أن بهادر هذا لما حفر أساسها وجد هناك قبورا كثيرة، فأخرج تلك العظام ورماها، فبلغ ذلك قاضي القضاة تقيّ الدين ابن دقيق العيد، فبعث إليه ينهاه عن نبش القبور ورمي العظام ويخوّفه عاقبة ذلك، فقال: إذا مت يجرّوا رجلي ويرموني، فقال القاضي: لما أعيد عليه هذا الجواب: وقد يكون ذلك. فقدّر الله أنه لما ضربت رقبته ورقبة أقوش ربط في رجليهما حبل وجرّا من دار النيابة بالقلعة إلى المجاير بالكيمان، نعوذ بالله من سوء عاقبة القضاء، ثم عرفت هذه الدار ببيت الأمير جركتمر بن بهادر المذكور، وكان خصيصا بالأمير قوصون، فبعثه لقتل السلطان الملك المنصور أبي بكر بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، لمّا نفاه إلى مدينة قوص بعد خلعه، فتولى قتله، فلما قبض على قوصون قبض على جركتمر في ثاني شعبان سنة اثنين وأربعين وسبعمائة، وقتل بالإسكندرية هو وقوصون في ليلة الثلاثاء ثامن عشر شوال، تولى قتلهما الأمير ابن طشتمر طلبة، وأحمد بن صبيح، وكان جركتمر هذا فيه أدب وحشمة، وأوّل أمره كان من أصحاب الأمير بيبرس الجاشنكيري، فقدّمه وأعطاه أمرة عشرة، ثم اتصل بالأمير أرغون النائب، فأعطاه أمرة طبلخاناه، وكان يلعب بالأكرة ويجيد في لعبها إلى الغاية. ثم عرفت هذه الدار بالأمير سيف الدين بهادر المنجكي أستادار الملك الظاهر برقوق لسكنه بها، وتجديد عمارتها، وأنشأ بجوارها حماما وكانت وفاته يوم الاثنين الثاني من

جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة، وهذه الدار باقية إلى اليوم تسكنها الأمراء. دار البقر: هذه الدار خارج القاهرة فيما بين قلعة الجبل وبركة الفيل، بالخط الذي يقال له اليوم حدرة البقر، كانت دارا للأبقار التي برسم السواقي السلطانية، ومنشرا للزبل، وفيه ساقية، ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاون أنشأها دارا واصطبلا وغرس بها عدّة أشجار، وتولى عمارتها القاضي كريم الدين عبد الكريم الكبير، فبلغ المصروف على عمارتها ألف ألف درهم، وعرفت بالأمير طقتمر الدمشقيّ، ثم عرفت بدار الأمير طاش تمر حمص أخضر، وهذه الدار باقية إلى وقتنا هذا ينزلها أمراء الدولة. قصر بكتمر الساقي: هذا القصر من أعظم مساكن مصر وأجلّها قدرا، وأحسنها بنيانا، وموضعه تجاه الكبش على بركة الفيل، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون لسكن أجلّ أمراء دولته، الأمير بكتمر الساقي، وأدخل فيه أرض الميدان التي أنشأها الملك العادل كتبغا، وقصد أن يأخذ قطعة من بركة الفيل ليتسع بها الإصطبل الذي للأمير بكتمر بجوار هذا القصر، فبعث إلى قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ الحنفيّ ليحكم باستبدالها على قاعدة مذهبه، فامتنع من ذلك تنزها وتورّعا، واجتمع بالسلطان وحدّثه في ذلك، فلما رأى كثرة ميل السلطان إلى أخذ الأرض نهض من المجلس مغضبا وصار إلى منزله، فأرسل القاضي كريم الدين الكبير ناظر الخواص إلى سراج الدين الحنفيّ عن أمر السلطان وقلده قضاء مصر منفردا عن القاهرة، فحكم باستبدال الأرض في غرة رجب سنة سبع عشرة وسبعمائة، فلم يلبث سوى مدّة شهرين ومات في أوّل شهر رمضان، فاستدعى السلطان قاضي القضاة شمس الدين الحريريّ وأعاده إلى ولايته، وكمّل القصر والإصطبل على هيئة قلّ ما رأت الأعين مثلها، بلغت النفقة على العمارة في كل يوم مبلغ ألف وخمسمائة درهم فضة مع جاه العمل، لأنّ العجل التي تحمل الحجارة من عند السلطان، والحجارة أيضا من عند السلطان، والفعلة في العمارة أهل السجون المقيدون من المحابيس، وقدّر لو لم يكن في هذه العمارة جاه ولا سخرة لكان مصروفها في كل يوم مبلغ ثلاثة آلاف درهم فضة، وأقاموا في عمارته مدّة عشرة أشهر، فتجاوزت النفقة على عمارته مبلغ ألف ألف درهم فضة، عنها زيادة على خمسين ألف دينار، سوى ما حمل وسوى من سخر في العمل، وهو بنحو ذلك. فلما تمت عمارته سكنه الأمير بكتمر الساقي، وكان له في إصطبله هذا مائة سطل نحاس لمائة سائس، كل سائس على ستة أرؤس خيل، سوى ما كان له في الحشارات والنواحي من الخيل، وكان من المغرب يغلق باب إصطبله فلا يصير لأحد به حس، ولمّا تزوّج أنوك بن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بابنة الأمير بكتمر الساقي، في سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة، خرج شوارها من هذا القصر، وكان عدّة الحمالين ثمانمائة حمّال.

المساند الزركش على أربعين حمّالا، عدّتها عشرة مساند، والمدوّرات ستة عشر حمالا، والكراسي اثنا عشر حمّالا، وكراسي لطاف أربعة حمالين، وفضيات تسعة وعشرون حمّالا، وسلم الدكك أربعة حمالين، والدكك والتخوت الأبنوس المفضضة والموشقة مائة واثنين وستين حمالا، والنحاس الشامي اثنين وعشرين حمّالا، والبعلبكي المدهون اثني عشر حمّالا، والخونجات والمحافي والزبادي والنحاس تسعة وعشرين حمّالا، وصناديق الحوائج خاناه ستة حمالين، وغير ذلك تتمة العدّة، والبغال المحملة الفرش واللحف والبسط، والصناديق التي فيها المصاغ تسعة وتسعين بغلا. قال العلامة صلاح الدين خليل بن أيبك الصفديّ: قال لي المهذب الكاتب: الزركش والمصاغ ثمانون قنطارا بالمصري ذهب، ولمّا مات بكتمر هذا، صار هذا الوقف من بعده من جملة أوقافه، فتولى أمره وأمر سائر أوقافه أولاده، حتى انقرض أولاده وأولاد أولاده، فصار أمر الأوقاف إلى ابن ابنته، وهو أحمد بن محمد بن قرطاي، المعروف بأحمد بن بنت بكتمر، وهذا القصر في غاية من الحسن، ولا ينزله إلّا أعيان الأمراء إلى أن كانت سنة سبع عشرة وثمانمائة، وكان العسكر غائبا عن مصر مع الملك المؤيد شيخ في محاربة الأمير نوروز الحافظي بدمشق، عمد هذا المذكور إلى القصر فأخذ رخامه وشبابيكه وكثيرا من سقوفه وأبوابه وغير ذلك، وباع الجميع، وعمل بدل ذلك الرخام البلاط، وبدّل الشبابيك الحديد بالخشب، وفطن به أعيان الناس فقصدوه وأخذوا منه أصنافا عظيمة بثمن وبغير ثمن، وهو الآن قائم البناء يسكنه الأمراء. الدار البيسرية: هذه الدار بخط بين القصرين من القاهرة، كانت في آخر الدولة الفاطمية، لما قويت شوكة الفرنج قد أعدّت لمن يجلس فيها من قصاد الفرنج، عندما؟؟؟ تقرّر الأمر معهم على أن يكون نصف ما يحصل من مال البلد للفرنج، فصار يجلس في هذه الدار قاصد معتبر عند الفرنج يقبض المال، فلما زالت الدولة بالغز، ثم زالت دولة بني أيوب، وولي سلطنة مصر الملوك من الترك، إلى أن كانت أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، شرع الأمير ركن الدين بيبرس الشمسيّ الصالحيّ البخميّ في عمارتها، في سنة تسع وخمسين وستمائة، وتأنّق في عمارتها وبالغ في كثرة المصروف عليها، فأنكر الملك الظاهر ذلك من فعله وقال له: يا أمير بدر الدين، أيّ شيء خليت للغزاة والترك؟ فقال: صدقات السلطان، والله يا خوند ما بنيت هذه الدار إلّا حتى يصل خبرها إلى بلاد العدوّ، ويقال بعض مماليك السلطان عمّر دارا غرم عليها مالا عظيما، فأعجب من قوله ذلك السلطان وأنعم عليه بألف دينار عينا، وعدّ هذا من أعظم أنعام السلطان، فجاء سعة هذه الدار باصطبلها وبستانها والحمّام بجانبها نحو فدّانين، ورخامها من أبهج رخام عمل في القاهرة، وأحسنه صنعة، فكثر تعجب الناس إذ ذاك من عظمها لما كان فيه أمراء الدولة ورجالها حينئذ من الاقتصاد، حتى أن الواحد منهم إذا صار أميرا لا يتغير عن داره التي كان

يسكنها وهو من الأجناد، وعند ما كملت عمارة هذه الدار وقفها وأشهد عليه بوقفها اثنين وتسعين عدلا، من جملتهم قاضي القضاة تقيّ الدين ابن دقيق العيد، وقاضي القضاة تقيّ الدين بن بنت الأعز، وقاضي القضاة تقيّ الدين بن رزين، قبل ولايتهم القضاء في حال تحملهم الشهادة، وما زالت بيد ورثة بيسرى إلى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة. فشرهت نفس الأمير قوصون إلى أخذها، وسأل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في ذلك فأذن له في التحدّث مع ورثة بيسرى، فأرسل إليهم ووعدهم ومنّاهم وأرضاهم حتى أذعنوا له، فبعث السلطان إلى قاضي القضاة شرف الدين الحرّانيّ الحنبليّ يلتمس منه الحكم باستبدالها، كما حكم باستبدال بيت قتال السبع وحمامّه الذي أنشأ جامعه بخط خارج الباب الجديد من الشارع، فأجاب إلى ذلك، ونزل إليها علاء الدين بن هلال الدولة شادّ الدواوين، ومعه شهود لقيمة، فقوّمت بمائة ألف درهم وتسعين ألف درهم نقرة، وتكون الغبطة للأيتام عشرة آلاف درهم نقرة لتتم الجملة مائتي ألف درهم نقرة، وحكم قاضي القضاة شرف الدين الحرّانيّ ببيعها وكان هذا الحكم مما شنع عليه فيه. ثم اختلفت الأيدي في الاستيلاء على هذه الدار، واقتدى القضاة بعضهم ببعض في الحكم باستبدالها، وآخر ما حكم به من استبدالها في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، فصارت من جملة الأوقاف الظاهرية برقوق، وهي الآن بيد ابنة بيرم، وكان لها باب بوّابته من أعظم ما عمل من البوابات بالقاهرة، ويتوصل إلى هذه الدار من هذا الباب، وهو بجوار حمام بيسرى من شارع بين القصرين، وقد بنى تجاه هذا الباب حوانيت حتى خفي وصار يدخل إلى هذه الدار من باب آخر بخط الخرشتف. بيسرى: الأمير شمس الدين الشمسي الصالحي البخمي، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب البحرية، تنقل في الخدم حتى صار من أجلّ الأمراء في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، واشتهر بالشجاعة والكرم وعلو الهمة، وكانت له عدّة مماليك راتب كل واحد منهم مائة رطل لحم، وفيهم من له عليه في اليوم ستين عليقة لخيله، وبلغ عليق خيله وخيل مماليكه في كل يوم ثلاثة آلاف عليقة سوى علف الجمال، وكان ينعم بالألف دينار وبالخمسمائة غير مرّة، ولما فرّق الملك العادل كتبغا المماليك على الأمراء بعث إليه بستين مملوكا، فأخرج إليهم في يومهم لكل واحد فرسين وبغلا وشكا إليه استادار مكثرة خرجه وحسن له الاقتصاد في النفقة، فحنق عليه وعزله وأقام غيره، وقال لا يرني وجهه أبدا، ولم يعرف عنه أنه شرب الماء في كوز واحد مرّتين، وإنما يشرب كل مرّة في كوز جديد، ثم لا يعاود الشرب منه، وتنكر عليه الملك المنصور قلاوون فسجنه في سنة ثمانين وستمائة، وما زال في سجنه إلى أن مات الملك المنصور وقام من بعده ابنه الملك الأشرف خليل، فأفرج عنه في سنة اثنين وتسعين وستمائة بعد عوده من دمشق بشفاعة الأمير بيدرا والأمير سنجر

الشجاعيّ، وأمر أن يحمل إليه تشريف كامل ويكتب له منشور بإمرة مائة فارس، وأنه يلبس التشريف من السجن، فجهز التشريف وحمل إليه المنشور في كيس حرير أطلس، وعظم فيه تعظيما زائدا وأثنى عليه ثناء جما، وسار إليه بيدر والشجاعيّ والدوادار والأفرم إلى السجن ليمشوا في خدمته إلى أن يقف بين يدي السلطان، فامتنع من لبس التشريف والتزم بأيمان مغلظة أنه لا يدخل على السلطان إلا بقيده ولباسه الذي كان عليه في السجن، وتسامعت الأمراء وأهل القلعة بخروجه فهرعوا إليه، وكان لخروجه نهار عظيم، ودخل على السلطان بقيده فأمر به ففك بين يديه وأفيض عليه التشريف، فقبّل الأرض، وأكرمه السلطان وأمره فنزل إلى داره، وخرج الناس إلى رؤيته وسرّوا بخلاصه، فبعث إليه السلطان عشرين فرسا وعشرين اكديشا وعشرين بغلا، وأمر جميع الأمراء أن يبعثوا إليه، فلم يبق أحد حتى سير إليه ما يقدر عليه من التحف والسلاح، وبعث إليه أمير سلاح ألفي دينار عينا. وكانت مدّة سجنه إحدى عشرة سنة وأشهرا. فصار يكتب بعد خروجه من السجن بيسرى الأشرفي بعد ما كان يكتب بيسري الشمسيّ، وما زال إلى أن تسلطن الملك المنصور لاجين، فأخذ الأمير منكرتمر يغريه بالأمير بيسرى ويخوّفه منه وأنه قد تعين للسلطنة، فعمله كاشف الجيزة وأمره أن يحضر الخدمة يومي الاثنين والخميس بالقلعة، ويجلس رأس الميمنة تحت الطواشي حسام الدين بلال المغيثي لأجل كبره وتقدّمه، ثم زاد منكرتمر في الإغراء به والسلطنة تستمهله إلى أن قبض عليه وسجنه في سنة سبع وتسعين وستمائة، وأحاط بسائر موجوده وحبس عدّة من مماليكه، فسر منكرتمر بمسكه سرورا عظيما، واستمرّ في السجن إلى أن مات في تاسع عشر شوّال سنة ثمان وتسعين وستمائة وعليه ديون كثيرة، ودفن بتربته خارج باب النصر رحمه الله تعالى. قصر بشتاك: هذا القصر هو الآن تجاه الدار البيسرية، وهو من جملة القصر الكبير الشرقيّ الذي كان مسكنا للخفاء الفاطميين، ويسلك إليه من الباب الذي كان يعرف في أيام عمارة القصر الكبير في زمن الخلفاء بباب البحر، وهو يعرف اليوم بباب قصر بشتاك، تجاه المدرسة الكاملية، وما زال إلى أن اشتراه الأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ المعروف بأمير سلاح، وأنشأ دورا واصطبلات ومساكن له ولحواشيه، وصار ينزل إليه هو والأمير بدر الدين بيسرى عند انصرافهما من الخدمة السلطانية بقلعة الجبل في موكب عظيم زائد الحشمة، ويدخل كل منهما إلى داره، وكان موضع هذا القصر عدّة مساجد فلم يتعرّض لهدمها وأبقاها على ما هي عليه، فلما مات أمير سلاح وأخذ الأمير قوصون الدار البيسرية كما تقدّم ذكره، أحب الأمير بشتاك أن يكون له أيضا دار بالقاهرة، وذلك أن قوصون وبشتاك كانا يتناظران في الأمور ويتضادّان في سائر الأحوال، ويقصد كل منهما أن يسامي الآخر ويزيد عليه في التجمل، فأخذ بشتاك يعمل في الاستيلاء على قصر أمير سلاح حتى اشتراه من ورثته، فأخذ

من السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قطعة أرض كانت داخل هذا القصر من حقوق بيت المال، وهدم دارا كانت قد أنشئت هناك. عرفت بدار قطوان الساقي، وهدم أحد عشر مسجدا وأربعة معابد كانت من آثار الخلفاء يسكنها جماعة الفقراء، وأدخل ذلك في البناء إلّا مسجدا منها فإنه عمر، ويعرف اليوم بمسجد النجل، فجاء هذا القصر من أعظم مباني القاهرة، فإن ارتفاعه في الهواء أربعون ذراعا، ونزول أساسه في الأرض مثل ذلك، والماء يجري بأعلاه، وله شبابيك من حديد تشرف على شارع القاهرة وينظر من أعلاه عامّة القاهرة والقلعة والنيل والبساتين، وهو مشرق جليل مع حسن بنائه وتأنق زخرفته والمبالغة في تزويقه وترخيمه، وأنشأ أيضا في أسفله حوانيت كان يباع فيها الحلوى وغيرها، فصار الأمر أخيرا كما كان أوّلا بتسمية الشارع بين القصرين، فإنه كان أوّلا كما تقدّم بالقاهرة القصر الكبير الشرقي الذي قصر بشتاك من جملته، وتجاهه القصر الغربيّ الذي الخرشتف من جملته، فصار قصر بشتاك وقصر بيسرى وما بينهما من الشارع يقال له بين القصرين، ومن لا علم له يظنّ إنما قيل لهذا الشارع بين القصرين لأجل قصر بيسرى وقصر بشتاك وليس هذا بصحيح، وإنما قيل له بين القصرين قبل ذلك من حين بنيت القاهرة، فإنه كان بين القصرين القصر الكبير الشرقيّ والقصر الصغير الغربيّ، وقد تقدّم ذلك مشروحا مبينا. ولما أكمل بشتاك بناء هذا القصر والحوانيت التي في أسفله والخان المجاور له في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة لم يبارك له فيه ولا تمتع به، وكان إذا نزل إليه ينقبض صدره ولا تنبسط نفسه ما دام فيه حتى يخرج منه، فترك المجىء إليه فصار يتعاهده أحيانا فيعتريه ما تقدّم ذكره، فكرهه وباعه لزوجة بكتمر الساقي وتداوله ورثتها إلى أن أخذه السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، فاستقرّ بيد أولاده إلى أن تحكم الأمير الوزير المشير جمال الدين الأستادار في مصر. أقام من شهد عند قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي بأن هذا القصر يضرّ بالجار والمار، وأنه مستحق للإزالة والهدم كما عمل ذلك في غير موضع بالقاهرة، فحكم له باستبداله وصار من جملة أملاكه، فلما قتله الملك الناصر فرج بن برقوق استولى على سائر ما تركه وجعل هذا القصر فيما عينه للتربة التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر، فاستمرّ في جملة أوقاف التربة المذكورة إلى أن قتل الملك الناصر بدمشق في حرب الأمير شيخ والأمير نوروز، وقدم الأمير شيخ إلى مصر هو والخليفة المستعين بالله العباسي ابن محمد، وقف له من بقي من أولاد جمال الدين وأقاربه، وكان لأهل الدولة يومئذ بهم عناية قاضي القضاة صدر الدين عليّ بن الأدميّ الحنفيّ بارتجاع أملاك جمال الدين التي وقفها على ما كانت عليه، فتسلمها أخوه وصار هذا القصر إليهم وهو الآن بيدهم. قصر الحجازية: هذا القصر بخط رحبة باب العيد بجوار المدرسة الحجازية، كان يعرف أوّلا بقصر الزمرد في أيام الخلفاء الفاطميين، من أجل أنّ باب القصر الذي كان يعرف

بباب الزمرد كان هناك، كما تقدّم ذكره في هذا الكتاب عند ذكر القصور، فلما زالت الدولة الفاطمية صار من جملة ما صار بيد ملوك بني أيوب، واختلفت عليه الأيدي إلى أن اشتراه الأمير بدر الدين أمير مسعود بن خطير الحاجب من أولاد الملوك بني أيوب، واستمرّ بيده إلى أن رسم بتسفيره من مصر إلى مدينة غزة، واستقرّ نائب السلطنة بها في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وكاتب الأمير سيف الدين قوصون عليه وملّكه إيّاه، فشرع في عمارة سبع قاعات لكل قاعة اصطبل ومنافع ومرافق، وكانت مساحة ذلك عشرة أفدنة، فمات قوصون قبل أن يتم بناء ما أراد من ذلك، فصار يعرف بقصر قوصون إلى أن اشترته خوند تتر الحجازية ابنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وزوج الأمير ملكتمر الحجازيّ، فعمرته عمارة ملوكية وتأنقت فيه تأنقا زائدا، وأجرت الماء إلى أعلاه، وعملت تحت القصر إصطبلا كبيرا لخيول خدّامها، وساحة كبيرة يشرف عليها من شبابيك حديد، فجاء شيئا عجيبا حسنه، وأنشأت بجواره مدرستها التي تعرف إلى اليوم بالمدرسة الحجازية، وجعلت هذا القصر من جملة ما هو موقوف عليها، فلما ماتت سكنه الأمراء بالأجرة إلى أن عمر الأمير جمال الدين يوسف الأستادار داره المجاورة للمدرسة السابقية، وتولى استادارية الملك الناصر فرج، صار يجلس برحبة هذا القصر والمقعد الذي كان بها، وعمل القصر سجنا يحبس فيه من يعاقبه من الوزراء والأعيان، فصار موحشا يروع النفوس ذكره لما قتل فيه من الناس خنقا وتحت العقوبة، من بعد ما أقام دهرا وهو مغنى صبابات وملعب أتراب وموطن أفراح ودار عز ومنزل لهو ومحل أماني النفوس ولذاتها، ثم لما فحش كلب جمال الدين وشنع شرهه في اغتصاب الأوقاف أخذ هذا القصر يتشعث شيء من زخارفه، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي باستبداله، كما تقدّم الحكم في نظائره، فقلع رخامه، فلما قتل صار معطلا مدّة، وهمّ الملك الناصر فرج ببنائه رباطا، ثم انثنى عزمه عن ذلك، فلما عزم على المسير إلى محاربة الأمير شيخ والأمير نوروز في سنة أربع عشرة وثمانمائة، نزل إليه الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن البشيري وقلع شبابيكه الحديد لتعمل آلات حرب، وهو الآن بغير رخام ولا شبابيك، قائم على أصوله لا يكاد ينتفع به، إلا أن الأمير المشير بدر الدين حسن بن محمد الأستادار لما سكن في بيت الأمير جمال الدين جعل ساحة هذا القصر اصطبلا لخيوله، وصار يحبس في هذا القصر من يصادره أحيانا. وفي رمضان سنة عشرين وثمانمائة ذكر الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج الأستادار، ما يجده المسجونون في السجن المستجدّ، عند باب الفتوح، بعد هدم خزانة شمائل من شدّة الضيق وكثرة الغم، فعبّن هذا القصر ليكون سجنا لأرباب الجرائم، وأنعم على جهة وقف جمال الدين بعشرة آلاف درهم فلوسا عن أجرة سنتين، فشرعوا في عمل سجن وأزالوا كثيرا من معالمه، ثم ترك على ما بقي فيه ولم يتخذ سجنا. قصر يلبغا اليحياوي: هذا القصر موضعه الآن مدرسة السلطان حسن المطلة على

الرميلة، تحت قلعة الجبل، وكان قصرا عظيما، أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ببنائه لسكن الأمير يلبغا اليحياوي، وأن يبنى أيضا قصر يقابله برسم سكنى الأمير الطنبغا الماردينيّ، لتزايد رغبته فيهما وعظيم محبته لهما، حتى يكونا تجاهه وينظر إليهما من قلعة الجبل، فركب بنفسه إلى حيث سوق الخيل من الرميلة تحت القلعة، وسار إلى حمام الملك السعيد، وعيّن اصطبل الأمير أيدغمش أميراخور، وكان تجاهها ليعمره هو وما يقابله قصرين متقابلين ويضاف إليه إصطبل الأمير طاشتمر الساقي، واصطبل الجوق وأمر الأمير قوصون أن يشتري ما يجاور إصطبله من الأملاك ويوسع في إصطبله، وجعل أمر هذه العمارة إلى الأمير اقبغا عبد الواحد، فوقع الهدم فيما كان بجوار بيت الأمير قوصون، وزيد في الإصطبل وجعل باب هذا الإصطبل من تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة «1» ، وأمر السلطان بالنفقة على العمارة من مال السلطان على يد النشو، وكان للملك الناصر رغبة كبيرة في العمارة بحيث أنه أفرد لها ديوانا، وبلغ مصروفها في كل يوم اثني عشر ألف درهم نقرة، وأقل ما كان يصرف من ديوان العمارة في اليوم برسم العمارة مبلغ ثمانية آلاف درهم نقرة، فلما كثر الاهتمام في بناء القصرين المذكورين وعظم الاجتهاد في عمارتهما وصار السلطان ينزل من القلعة لكشف العمل ويستحث على فراغهما، وأوّل ما بدىء به قصر يلبغا اليحياوي، فعمل أساسه حضيرة واحدة انصرف عليها وحدها مبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، ولم يبق في القاهرة ومصر صانع له تعلق في العمارة إلّا وعمل فيها حتى كمل القصر، فجاء في غاية الحسن، وبلغت النفقة عليه مبلغ أربعمائة ألف ألف وستين ألف درهم نقرة، منها ثمن لازورد خاصة مائة ألف درهم. فلما كملت العمارة نزل السلطان لرؤيتها، وحضر يومئذ من عند الأمير سيف الدين طرغاي نائب حلب تقدمة، من جملتها عشرة أزواج بسط أحدها حرير، وعدّة أواني من بلور ونحوه، وخيل وبخاتي، فأنعم بالجميع على الأمير يلبغا اليحياويّ، وأمر الأمير أقبغا عبد الواحد أن ينزل إلى هذا القصر ومعه أخوان سلار برفقته، وسار أرباب الوظائف لعمل مهم، فبات النشو ناظر الخاص هناك لتعبية ما يحتاج إليه من اللحوم والتوابل ونحوها، فلما تهيأ ذلك حضر سائر أمراء الدولة من أوّل النهار وأقاموا بقصر يلبغا اليحياوي في أكل وشرب ولهو، وفي آخر النهار حضرت إليهم التشاريف السلطانية، وعدّتها أحد عشر تشريفا برسم أرباب الوظائف، وهم: الأمير أقبغا عبد الواحد، والأستادار، والأمير قوصون الساقي،

والأمير بشتاك، والأمير طقوزدمر أمير مجلس في آخرين، وحضر لبقية الأمراء خلع وأقبية على قدر مراتبهم، فلبس الجميع التشاريف والخلع والأقبية واركبوا الخيول المحضرة إليهم من الإصطبل السلطانيّ بسروج وكنابيش ما بين ذهب وفضة بحسب مراتبهم، وساروا إلى منازلهم، وذبح في هذا المهمّ ستمائة رأس غنم وأربعون بقرة وعشرون فرسا، وعمل فيه ثلثمائة قنطار سكر برسم المشروب، فإن القوم يومئذ لم يكونوا يتظاهرون بشرب الخمر ولا شيء من المسكرات البتة، ولا يجسر أحد على عمله في مهمّ البتة، وما زالت هذه الدار باقية إلى أن هدمها السلطان الملك الناصر حسن، وأنشأ موضعها مدرسته الموجودة الآن. إصطبل قوصون: هذا الإصطبل بجوار مدرسة السلطان حسن وله بابان، باب من الشارع بجوار حدرة البقر، وبابه الآخر تجاه باب السلسلة الذي يتوصل منه إلى الإصطبل السلطانيّ وقلعة الجبل، أنشأه الأمير علم الدين سنجر الجمقدار، فأخذه منه الأمير سيف الدين قوصون وصرف له ثمنه من بيت المال، فزاد فيه قوصون إصطبل الأمير سنقر الطويل، وأمره الملك الناصر محمد بن قلاوون بعمارة هذا الإصطبل، فبنى فيه كثيرا وأدخل فيه عدّة عمائر، ما بين دور وإصطبلات، فجاء قصرا عظيما إلى الغاية، وسكنه الأمير قوصون مدّة حياة الملك الناصر. فلما مات السلطان وقام من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر، عمل عليه قوصون وخلعه وأقام بعده بدله الملك الأشرف كجك بن الملك الناصر محمد، فلما كان في سنة اثنين وأربعين وسبعمائة حدث في شهر رجب منها فتنة بين الأمير قوصون وبين الأمراء، وكبيرهم أيدغمش أميراخور، فنادى أيدغمش في العامة يا كسابه عليكم بإصطبل قوصون، إنهبوه، هذا وقوصون محصور بقلعة الجبل، فأقبلت العامّة من السؤال والغلمان والجند إلى إصطبل قوصون، فمنعهم المماليك الذين كانوا فيه ورموهم بالنشاب وأتلفوا منهم عدّة، فثارت مماليك الأمير يلبغا اليحياوي من أعلى قصر يلبغا، وكان بجوار قصر قوصون حيث مدرسة السلطان حسن، ورموا مماليك قوصون بالنشاب حتى انكفوا عن رمي النّهابة، فاقتحم غوغاء الناس إصطبل وقوصون وانتهبوا ما كان بركاب خاناته وحواصله، وكسروا باب القصر بالفؤس، وصعدوا إليه بعد ما تسلقوا إلى القصر من خارجه، فخرجت مماليك قوصون من الإصطبل يدا واحدة بالسلاح وشقوا القاهرة وخرجوا إلى ظاهر باب النصر «1» يريدون الأمراء الواصلين من الشام، فأتت النهابة على جميع ما في إصطبل قوصون من الخيل والسروج وحواصل المال التي كانت بالقصر، وكانت تشتمل من أنواع المال والقماش

والأواني الذهب والفضة على ما لا يحدّ ولا يعدّ كثرة. وعندما خرجت العامّة بما نهبته، وجدت مماليك الأمراء والأجناد قد وقفوا على باب الإصطبل في الرميلة لانتظار من يخرج، وكان إذا خرج أحد بشيء من النهب أخذه منه أقوى منه، فإن امتنع من إعطائه قتل، واحتمل النهابة أكياس الذهب ونثروها في الدهاليز والطرق، وظفروا بجواهر نفيسة وذخائر ملوكية وأمتعة جليلة القدر وأسلحة عظيمة وأقمشة مثمنة، وجرّوا البسط الرومية والأمدية وما هو من عمل الشريف وتقاتلوا عليها وقطعوها قطعا بالسكاكين وتقاسموها، وكسّروا أواني البلور والصيني، وقطعوا سلاسل الخيل الفضة، والسروج الذهب والفضة، وفكوا اللجم وقطعوا الخيم وكسروا الخركاوات وأتلفوا سترها وأغشيتها الأطلس والزركفت. وذكر عن كاتب قوصون أنه قال: أما الذهب المكيّس والفضة كان ينيف على أربعمائة ألف دينار، وأما الزركش والحوايص والمعصبات ما بين خوانجات وأطباق فضة وذهب، فإنه فوق المائة ألف دينار، والبلور والمصاغ المعمول برسم النساء فإنه لا يحصر، وكان هناك ثلاثة أكياس أطلس فيها جوهر قد جمعه في طول أيامه، لكثرة شغفه بالجوهر، لم يجمع مثله ملك، كان ثمنه نحو المائة ألف دينار، وكان في حاصله عدّة مائة وثمانين زوج بسط، منها ما طوله من أربعين ذراعا إلى ثلاثين ذراعا عمل البلاد، وستة عشر زوج من عمل الشريف بمصر، ثمن كل زوج اثنا عشر ألف درهم نقرة، منها أربعة أزواج بسط من حرير، وكان من جملة الخام نوبة خام جميعها أطلس معدنيّ قصب، جميع ذلك نهب وكسر وقطع وانحطّ سعر الذهب بديار مصر عقيب هذه النهبة من دار قوصون، حتى بيع المثقال بأحد عشر درهما لكثرته في أيدي الناس، بعد ما كان سعر المثقال عشرين درهما ومن حينئذ تلاشى أمر هذا القصر لزوال رخامه في النهب، وما برح مسكنا لأكابر الأمراء، وقد اشتهر أنه من الدور المشئومة، وقد أدركت في عمري غير واحد من الأمراء سكنه وآل أمره إلى ما لا خير فيه، وممن سكنه: الأمير بركة الزينبيّ، ونهب نهبة فاحشة، وأقام أعوام خرابا لا يسكنه أحد، ثم أصلح وهو الآن من أجلّ دور القاهرة. دار أرغون الكاملي: هذه الدار بالجسر الأعظم على بركة الفيل، أنشأها الأمير أرغون الكامليّ في سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وأدخل فيها من أرض بركة الفيل عشرين ذراعا. أرغون الكاملي: الأمير سيف الدين نائب حلب ودمشق، تبناه الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون وزوّجه أخته من أمّه، بنت الأمير أرغون العلائي، في سنة خمس وأربعين وسبعمائة. وكان يعرف أوّلا بأرغون الصغير، فلما مات الملك الصالح وقام من بعده في مملكة مصر أخوه الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاوون، أعطاه أمرة مائة وتقدمة ألف، ونهي أن يدعى أرغون الصغير، وتسمّى أرغون الكاملي. فلمّا مات الأمير

قطليجا الحمويّ في نيابة حلب، رسم له الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون بنيابة حلب، فوصل إليها يوم الثلاثاء حادي عشر شهر رجب سنة خمسين وسبعمائة، وعمل النيابة بها على أحسن ما يكون من الحرمة والمهابة، وهابه التركمان والعرب، ومشت الأحوال به. ثم جرت له فتنة مع أمراء حلب، فخرج في نفر يسير إلى دمشق، فوصلها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، فأكرمه الأمير ايتمش الناصريّ نائب دمشق وجهّزه إلى مصر، فأنعم عليه السلطان وأعاده إلى نيابة حلب فأقام بها إلى أن عزل ايتمش من نيابة دمشق، في أوّل سلطنة الملك الصالح صالح بن قلاون، فنقل من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فدخلها في حادي عشري شعبان سنة اثنتين وخمسين، وأقام بها فلم يصف له بها عيش فاستعفى، فلم يجبّ وما زال بها إلى أن خرج يلبغاروس وحضر إلى دمشق، فخرج إلى اللّد، واستولى يلبغاروس على دمشق. فلما خرج الملك الصالح من مصر وسار إلى بلاد الشام بسبب حركة يلبغاروس، تلقّاه أرغون وسار بالعساكر إلى دمشق، ودخل السلطان بعده وقد فرّ يلبغاروس، فقلّده نيابة حلب في خامس عشري شهر رمضان. وعاد السلطان إلى مصر، فلم يزل الأمير أرغون بحلب وخرج منها إلى الأبلستين «1» في طلب ابن دلغادر، وحرقها وحرق قراها ودخل إلى قيصرية وعاد إلى حلب في رجب سنة أربع وخمسين. فلما خلع الملك الصالح بأخيه الملك الناصر حسن في شوال سنة خمس وخمسين طلب الأمير أرغون من حلب في آخر شوّال، فحضر إلى مصر وعمل أمير مائة مقدّم ألف إلى تاسع صفر سنة ست وخمسين، فأمسك وحمل إلى الإسكندرية اعتقل فيها وعنده زوجته. ثم نقل من الإسكندرية إلى القدس فأقام بها بطالا، وبنى هناك تربة ومات بها يوم الخميس لخمس بقين من شوّال سنة ثمان وخمسين وسبعمائة. دار طاز: هذه الدار بجوار المدرسة البندقدارية تجاه حمام الفارقاني، على يمنة من سلك من الصليبة يريد حدرة البقر وباب زويلة، أنشأها الأمير سيف الدين طاز في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وكان موضعها عدّة مساكن، هدمها برضى أربابها وبغير رضاهم، وتولى الأمير منجك عمارتها وصار يقف عليها بنفسه حتى كملت، فجاءت قصرا مشيدا واصطبلا كبيرا، وهي باقية إلى يومنا هذا يسكنها الأمراء. وفي يوم السبت سابع عشري جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين، عمل الأمير طاز في هذه الدار وليمة عظيمة حضرها السلطان الملك الصالح صالح وجميع الأمراء، فلما كان وقت انصرافهم قدّم الأمير طاز للسلطان أربعة أفراس بسروج ذهب وكنابيش ذهب، وقدّم للأمير سنجر فرسين كذلك،

وللأمير صرغتمش فرسين، ولكل واحد من أمراء الألوف فرسا كذلك، ولم يعهد قبل هذا أن أحدا من ملوك الأتراك نزل إلى بيت أمير قبل الصالح هذا، وكان يوما مذكورا. طاز: الأمير سيف الدين، أمير مجلس، اشتهر ذكره في أيام الملك الصالح إسماعيل، ولم يزل أميرا إلى أن خلع الملك الكامل شعبان وأقيم المظفر حاجي، وهو أحد الأمراء الستة أرباب الحل والعقد، فلما خلع الملك المظفر وأقيم الملك الناصر حسن، زادت وجاهته وحرمته، وهو الذي أمسك الأمير يلبغاروس في طريق الحجاز، وأمسك أيضا الملك المجاهد سيف الإسلام عليّ ابن المؤيد صاحب بلاد اليمن بمكة، وأحضره إلى مصر، وهو الذي قام في نوبة السلطان حسن لما خلع وأجلس الملك الصالح صالح على كرسيّ الملك، وكان يلبس في درب الحجاز عباءة وسرقولا ويخفي نفسه ليتجسس على أخبار يلبغاروس، ولم يزل على حاله إلى ثاني شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فخلع الصالح وأعيد الناصر حسن، فأخرج طاز إلى نيابة حلب وأقام بها. دار صرغتمش: هذه الدار بخط بئر الوطاويط بالقرب من المدرسة الصرغتمشية المجاورة لجامع أحمد بن طولون من شارع الصليبية، كان موضعها مساكن فاشتراها الأمير صرغتمش وبناها قصرا واصطبلا، في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وحمل إليه الوزراء والكتاب والأعيان من الرخام وغيره شيئا كثيرا، وقد ذكر التعريف به عند ذكر المدرسة الصرغتمشية من هذا الكتاب في ذكر المدارس، وهذه الدار عامرة إلى يومنا هذا يسكنها الأمراء، ووقع الهدم في القصر خاصة في شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وثمانمائة. دار الماس: هذه الدار بخط حوض ابن هنس فيما بينه وبين حدرة البقر بجوار جامع الماس، أنشأها الأمير الماس الحاجب، واعتنى برخامها عناية كبيرة، واستدعى به من البلاد، فلما قتل في صفر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بقلع ما في هذه الدار من الرخام، فقلع جميعه ونقل إلى القلعة، وهذه الدار باقية إلى يومنا هذا ينزلها الأمراء. دار بهادر المقدم: هذه الدار بخط الباطلية من القاهرة، أنشأها الأمير الطواشي سيف الدين بهادر مقدّم المماليك السلطانية، في أيام الملك الظاهر برقوق. وبهادر هذا من مماليك الأمير يلبغا، وأقام في تقدمة المماليك جميع الأيام الظاهرية، وكثر ماله وطال عمره حتى هرم، ومات في أيام الملك الناصر فرج، وهو على أمرته وفي وظيفته تقدمة المماليك السلطانية، يوم الأحد سابع عشر رجب سنة اثنتين وثمانمائة. وموضع هذه الدار من جملة ما كان احترق من الباطلية في أيام الملك الظاهر بيبرس كما تقدّم في ذكر حارة الباطلية عند ذكر الحارات من هذا الكتاب، ولما مات المقدّم بهادر

استقرّت من بعده منزلا لأمراء الدولة، وهي باقية على ذلك إلى يومنا هذا. دار الست شقراء: هذه الدار من جملة حارة كتامة، وهي اليوم بالقرب من مدرسة الوزير الصاحب كريم الدين ابن غنام، بجوار حمام كراي، وهي من الدور الجليلة، عرفت بخوند الست شقراء ابنة السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، وتزوّجها الأمير روس، ثم انحط قدرها واتضعت في نفسها إلى أن ماتت في يوم الثلاثاء ثامن عشري جمادى الأولى، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. دار ابن عنان: هذه الدار بخط الجامع الأزهر، أنشأها نور الدين عليّ بن عنان التاجر، بقيسارية جهاركس من القاهرة، وتاجر الخاص الشريف السلطانيّ في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، كان ذا ثروة ونعمة كبيرة ومال متسع، فلما زالت دولة الأشرف أجمع، وداخله وهم، أظهر فاقة، وتذكّر أنه دفن مبلغا كبيرا من الألف مثقال ذهب في هذه الدار، ولم يعلم به أحد سوى زوجته أمّ أولاده، فاتفق أنه مرض وخرس، ومرضت زوجته أيضا، فمات يوم الجمعة ثامن عشر شوّال سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وماتت زوجته أيضا، فأسف أولاده على فقد ماله، وحفروا مواضع من هذه الدار فلم يظفروا بشيء البتة، وأقامت مدّة بأيديهم وهي من وقف أبيهم، ومات ولده شمس الدين محمد بن علي بن عنان يوم السبت تاسع صفر سنة ثلاث وثمانمائة، ثم باعوها سنة سبع عشرة وثمانمائة، كما بيع غيرها من الأوقاف. دار بهادر الأعسر: هذه الدار بخط بين السورين، فيما بين سويقة المسعودي من القاهرة وبين الخليج الكبير الذي يعرف اليوم بخليج اللؤلؤة، كان مكانها من جملة دار الذهب التي تقدّم ذكرها في ذكر مناظر الخلفاء من هذا الكتاب، وإلى يومنا هذا بجوار هذه الدار قبو، فيما بينها وبين الخليج، يعرف بقبو الذهب، من جملة أقباء دار الذهب، ويمرّ الناس من تحت هذا القبو. بهادر هذا: هو الأمير سيف الدين بهادر الأعسر اليحياوي، كان مشرفا بمطبخ الأمير سيف الدين فجا الأمير شكار «1» ، ثم صار زردكاش الأمير الكبير يلبغا الخاصكي، وولي بعد ذلك مهمندار «2» السلطان بدار الضيافة، وولي وظيفة شدّ الدواوين «3» إلى أن قدم الأمير يلبغا

الناصري نائب حلب بعساكر الشام إلى مصر وأزال دولة الملك الظاهر برقوق، في جمادى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، قبض عليه ونفاه من القاهرة إلى غزة، ثم عاد بعد ذلك إلى القاهرة وأقام بها إلى أن مات بهذه الدار في يوم عيد الفطر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وحصرت تركته وكان فيها عدّة كتب في أنواع من العلوم، وهذه الدار باقية إلى يومنا هذا وعلى بابها بئر بجانبها حوض يملأ لشرب الدواب منه. دار ابن رجب: هذه الدار من جملة أراضي البستان الذي يقال له اليوم الكافوري، كان إصطبلا للأمير علاء الدين عليّ بن كلفت التركمانيّ شادّ الدواوين، فيما بين داره ودار الأمير تنكز نائب الشام. فلما استقر ناصر الدين محمد بن رجب في الوزارة، أنشأ هذا الإصطبل مقعدا صار يجلس فيه، وقصرا كبيرا، واستولى من بعده على ذلك كله أولاده، فلما عمر الأمير جمال الدين يوسف الأستادار مدرسته بخط رحبة باب العيد، أخذ هذا القصر والإصطبل في جملة ما أخذ من أملاك الناس وأوقافهم. فلما قتله الملك الناصر فرج، واستولى على جميع ما خلفه أفرد هذا القصر والإصطبل فيما أفرده للمدرسة المذكورة، فلم يزل من جملة أوقافها إلى أن قتل الملك الناصر فرج، وقدم الأمير شيخ نائب الشام إلى مصر، فلما جلس على تخت الملك وتلقب بالملك المؤيد في غرّة شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، وقف إليه من بقي من أولاد علاء الدين عليّ بن كلفت، وهما امرأتان، كانت إحداهما تحت الملك المؤيد قبل أن يلي نيابة طرابلس، وهو من جملة أمراء مصر في أيام الملك الظاهر برقوق، وذكرتا أن الأمير جمال الدين الاستادار أخذ وقف أبيهما بغير حق، وأخرجتا كتاب وقف أبيهما، ففوّض أمر ذلك لقاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير البلقينيّ الشافعيّ، فلم يجد بيد أولاد جمال الدين مستندا، فقضى بهذا المكان لورثة ابن كلفت وبقائه على ما وقفه حسبما تضمنه كتاب وقفه، فتسلم مستحقوا وقف بن كلفت القصر والاصطبل، وهو الآن بأيديهم، وبينهم وبين أولاد ابن رجب نزاع في القصر فقط. محمد بن رجب: ابن محمد بن كلفت الأمير الوزير ناصر الدين، نشأ بالقاهرة على طريقة مشكورة، فلما استقرّ ناصر الدين محمد بن الحسام الصفدي شادّ الدواوين بعد انتقال الأمير جمال الدين محمود بن عليّ من شدّ الدواوين إلى استادارية السلطان في يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة، أقام ابن رجب هذا استادارا عند الأمير سودون باق، وكانت أوّل مباشراته، ثم ولي شدّ الدواوين بعد الأمير ناصر الدين محمد بن اقبغا آص، في سابع عشرى ذي الحجة، وعوّض في شدّ الدواوين بشد دواليب الخاص، عوضا عن خاله الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام، عند انتقاله إلى الوزارة، فلم يزل إلى أن توجّه الملك الظاهر برقوق إلى الشام، وأقام الأمير محمود الاستادار، فقدم عليه ابن رجب بكتاب السلطان وهو مختوم، فإذا فيه أن يقبض على ابن رجب ويلزمه بحمل مبلغ مائة

وستين ألف درهم نقرة، فقبض عليه في رابع شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، وأخذ منه مبلغ سبعين ألف درهم نقرة. فلما كان في يوم الاثنين رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وتسعين، صرف السلطان عن الوزارة الصاحب موفق الدين أبا الفرج، واستقرّ بابن رجب في منصب الوزارة، وخلع عليه، فلم يغير زيّ الأمراء، وباشر الوزارة على قالب ضخم وناموس مهاب، وصار أميرا وزيرا مدبرا لممالك، وسلك سيرة خاله الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام في استخدام كل من باشر الوزارة، فأقام الصاحب سعد الدين بن نصر الله ابن البقريّ ناظر الدولة، والصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الغنام ناظر البيوت، والصاحب علم الدين عبد الوهاب سن إبرة مستوفي الدولة، والصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر رفيقا له في استيفاء الدولة، وأنعم عليه بإمرة عشرين فارسا في سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين، فلم يزل على ذلك إلى أن مات من مرض طويل في يوم الجمعة لأربع بقين من صفر، سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وهو وزير من غير نكبة، فكانت جنازته من الجنائز المذكورة، وقد ذكرته في كتاب در العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة. دار القليجي: هذه الدار من جملة خط قصر بشتاك، كانت أوّلا من بعض دور القصر الكبير الشرقيّ الذي تقدم ذكره عند ذكر قصور الخلفاء، ثم عرفت بدار حمال الكفاة، وهو القاضي جمال الدين إبراهيم المعروف بحمال الكفاة، ابن خالة النشو ناظر الخاص، كان أوّلا من جملة الكتاب النصارى، فأسلم وخدم في بستان الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي كان ميدانا للملك الظاهر بيبرس بأرض اللوق، ثم خدم في ديوان الأمير بيدمر البدريّ، فلما عرض السلطان دواوين الأمراء واختار منهم جماعة، كان من جملة من اختاره السلطان حمال الكفاة هذا، فجعله مستوفيا إلى أن كات المهذب كاتب الأمير بكتمر الساقي، فولاه السلطان مكانه في ديوان الأمير بكتمر، فخدمه إلى أن مات، فخدم بديوان الأمير بشتاك إلى أن قبض الملك الناصر على النشو ناظر الخاص «1» ، ولّاه وظيفة نظر الخاص بعد النشو، ثم أضاف إليه وظيفة نظر الجيش بعد المكين بن قزوينة عند غضبه عليه ومصادرته، فباشر الوظيفتين إلى أن مات الملك الناصر، فاستمرّ في أيام الملك المنصور أبي بكر، والملك الأشرف كجك، والملك الناصر أحمد، فلما ولي الملك الصالح إسماعيل جعله مشير الدولة مع ما بيده من نظر الخاص والجيش، وكان الوزير إذ ذاك الأمير نجم الدين محمود وزير بغداد، وكتب له توقيع باستقراره في وظيفة الإشارة، فعظم أمره وكثر حساده إلى أن

قبض عليه وضرب بالمقارع، وخنق ليلة الأحد سادس شهر ربيع الأوّل سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ودفن بجوار زاوية ابن عبود من القرافة، وكانت مدّة نظره في الخاص خمس سنين وشهرين تنقص أياما، وكان مليح الوجه حسن العبارة كثير التصرّف ذكيا، يعرف باللسان التركيّ ويتكلم به، ويعرف باللسان النوبيّ والتكروري. ولم تزل هذه الدار بغير تكملة إلى أن ترأس القاضي شمس الدين محمد بن أحمد القليجيّ الحنفي، كان أولا يكتب على مبيضة الغزل، وهي يومئذ مضمنة لديوان السلطان، ثم اتصل بقاضي القضاة سراج الدين عمر بن إسحاق الهندي وخدمه فرفع من شأنه واستنابه في الحكم، فعيب ذلك على الهندي، وقال فيه شمس الدين محمد بن محمد الصائغ الحنفي: ولمّا رأينا كاتب المكس قاضيا ... علمنا بأنّ الدهر عاد إلى ورا فقلت لصحبي ليس هذا تعجبا ... وهل يجلب الهنديّ شيئا سوى الخرا وولي افتاء دار العلم، وناب عن القضاة في الحكم بعد مباشرة توقيع الحكم عدّة سنين، فعظم ذكره، وبعد صيته، وصار يتوسط بين القضاة والأمراء في حوائجهم، ويخدم أهل الدولة فيما يعنّ لهم من الأمور الشرعية، فصار كثير من أمور القضاة لا يقوم به غيره، حتى لقد كان شيخنا الأستاذ قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون يسميه دريد بن الصمة، يعني أنه صاحب رأي القضاة، كما أن دريد ابن الصمة كان صاحب رأي هوازن يوم حنين سرّه بذلك، فلما فخم أمره أخذ هذه الدار، وقد تم بناء جدرانها، فرخّمها وبيضها، فجاءت في أعظم قالب وأحسن هندام وأبهج زيّ، وسكنها إلى أن مات يوم الثلاثاء لعشرين من شهر رجب سنة سبع وتسعين وسبعمائة، بعدما وقفها، فاستمرّت في يد أولاده مدّة إلى أن أخذها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، كما أخذ غيرها من الدور. دار بهادر المعزي: هذه الدار بدرب راشد المجاور لخزانة البنود من القاهرة، عمرها الأمير سيف الدين بهادر المعزي، كان أصله من أولاد مدينة حلب، من أبناء التركمان، واشتراه الملك المنصور لاجين قبل أن يلي سلطنة مصر، وهو في نيابة السلطنة بدمشق، فترقى حتى صار أحد أمراء الألوف إلى أن مات في يوم الجمعة تاسع شعبان سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، عن ابنتين إحداهما تحت الأمير أسدمر المعزي، والأخرى تحت مملوكه اقتمر، وترك مالا كثيرا منه، ثلاث عشر ألف دينار، وستمائة ألف درهم نقرة، وأربعمائة فرس، وثلثمائة جمل، ومبلغ خمسين ألف اردب غلة، وثمان حوايص ذهب، وثلاث كلوتات زركش، واثني عشر طراز زركش، وعقارا كثيرا، فأخذ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون جميع ما خلفه، وكان جميل الصورة، معروفا بالفروسية، ورمى في القبق النشاب بيمينه ويساره، ولعب الرمح لعبا جيدا، وكان لين الجانب حلو الكلام جميل

العشرة، إلّا أنه كان مقتّرا على نفسه في مأكله وسائر أحواله لكثرة شحه، بحيث أنه اعتقل مرّة فجمع من راتبه الذي كان يجرى عليه وهو في السجن مبلغ اثني عشر ألف درهم نقرة، أخرجها معه من الاعتقال. دار طينال: هذه الدار بخط الخرّاطين في داخل الدرب الذي كان يعرف بخربة صالح، كان موضعها وما حولها في الدولة الفاطمية مارستانا، وأنشأ هذه الدار الأمير طينال، أحد مماليك الناصر محمد بن قلاوون، أقامه ساقيا، ثم عمله حاجبا صغيرا، ثم أعطاه أمرة دكتمر، وجعله أمير مائة مقدّم ألف، فباشر ذلك مدّة ثم أخرجه لنيابة طرابلس. فأقام بها زمانا، ثم نقله إلى نيابة صفد فمات بها في ثالث شهر ربيع سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وكان تتريّ الجنس قصيرا إلى الغاية، مليح الوجه، مشكورا في أحكامه، محبا لجمع المال، شحيحا، وهذه الدار تشتمل على قائمتين متجاورتين، وهي من الدور الجليلة، ولطينال أيضا قيسارية بسويقة أمير الجيوش. دار الهرماس: هذه الدار كانت بجوار الجامع الحاكمي من قبلية شارعة في رحبة الجامع، على يسرة من يمرّ إلى باب النصر، عمرها الشيخ قطب الدين محمد بن المقدسي المعروف بالهرماس، وسكنها مدّة، وكان أثيرا عند السلطان الملك الناصر الحسن بن محمد بن قلاوون، له فيه اعتقاد كبير، فعظم عند الناس قدره، واشتهر فيما بينهم ذكره إلى أن دبت بينه وبين الشيخ شمس الدين محمد بن النقاش عقارب الحسد، فسعى به عند السلطان إلى أن تغير عليه وأبعده، ثم ركب في يوم سنة إحدى وستين وسبعمائة من قلعة الجبل بعساكره إلى باب زويلة، فعند ما وصل إليه ترجل الأمراء كلهم عن خيولهم ودخلوا مشاة من باب زويلة كما هي العادة، وصار السلطان راكبا بمفرده، وابن النقاش أيضا راكب بجانبه، وسائر الأمراء والمماليك مشاة في ركابه على ترتيبهم إلى أن وصل السلطان إلى المارستان المنصوري بين القصرين، فنزل إليه ودخل القبة وزار قبر أبيه وجدّه وإخوته، وجلس، وقد حضر هناك مشايخ العلم والقضاة، فتذاكروا بين يديه مسائل علمية، ثم قام إلى النظر في أمور المرضى بالمارستان، فدار عليهم حتى انتهى غرضه من ذلك، وخرج فركب وسار نحو باب النصر والناس مشاة في ركابه إلّا ابن النقاش فإنه راكب بجانبه إلى أن وصل إلى رحبة الجامع الحاكمي، فوقف تجاه دار الهرماس وأمر بهدمها، فهدمت وهو واقف، وقبض على الهرماس وابنه وضرب بالمقارع عدّة شيوب، ونفي من القاهرة إلى مصياف «1» . فقال الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفي في ذلك: قد ذاق هرماس الخسارة ... من بعد عز وجساره

حسب البهتان يبقى ... أخرب الله دياره فلما قتل السلطان في سنة اثنين وستين، عاد الهرماس إلى القاهرة وأعاد بعض داره، فلما كانت سنة ثمانين وسبعمائة صارت هذه الدار إلى الأمير جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب، فأنشأها قاعة وعدّة حوانيت وربعا علوّ ذلك، وانتقل من بعده إلى أولاده، وهو بأيديهم إلى اليوم. دار أوحد الدين: هذه الدار بداخل درب السلامي في رحبة باب العيد، مقابل قصر الشوك وإلى جانب المارستان العتيق الصلاحيّ، كان موضعها من حقوق القصر الكبير، وصار أخيرا طاحونا، فهدمها القاضي أوحد الدين عبد الواحد أيام كان يباشر توقيع الأمير الكبير برقوق، بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فلما حفر أساس هذه الدار ووجد فيه هيئة قبة معقودة من لبن، وفي داخلها إنسان ميت قد بليت أكفانه وصار عظما نخرا، وهو في غاية طول القامة، يكون قدر خمسة أذرع، وعظام ساقيه خلاف ما عهد من الكبر، ودماغه عظيم جدا، فلما كملت هذه الدار سكنها أيام مباشرته وظيفة كتابة السر إلى أن مات بها، وقد حبسها على أولاده، فاستمرت بأيديهم إلى أن أخذها منهم الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، كما أخذ غيرها من الأوقاف، فاستمرّت في جملة ما بيده إلى أن قتله الملك الناصر فرج، فقبضها فيما قبض مما خلف جمال الدين، فلما قتل الملك الناصر فرج واستقل الملك المؤيد شيخ بمملكة مصر استرجع أولاد جمال الدين ما كان أخذه الناصر من أملاك جمال الدين، وصارت بأيديهم إلى أن وقف له أولاد أوحد الدين في طلب دار أبيهم، فعقد لذلك مجلس اجتمع فيه القضاة، فتبين أن الحق بيد أولاد أوحد الدين، فقضي بإعادة الدار إلى ما وقفها عليه أوحد الدين، فتسلمها أولاد أوحد الدين من ورثة جمال الدين، وهي الآن بأيديهم. عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين الحنفيّ: أوحد الدين كاتب السر، ولد بالقاهرة ونشأ بها في كنف قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن عليّ التركمانيّ الحنفيّ لصهارة كانت بين أبيه وبين التركمانية، وباشر توقيع الحكم مدة، واتفق أن أميرا من أمراء الملك الأشرف شعبان بن حسين يعرف بيونس الرماح مات، فادّعى برقوق العثمانيّ أحد الممالك اليلبغاوية أنه ابن عم يونس هذا، وأنه يستحق إرثه لموته عن غير ولد، حضر إلى المدرسة الصالحية بين القصرين حيث يجلس القضاة للحكم بين الناس حتى يثبت ما ادّعاه، فلما أراد الله من اسعاد جدّ أوحد الدين لم يقف برقوق على أحد من موقعي الحكم إلا عليه، وأخبره بما يريد، فبادر إلى توريق سؤال باسم برقوق، وانهائه أنه ابن عمّ يونس الرماح، وأن عنده بينة تشهد بذلك، ودخل بهذا السؤال إلى قاضي القضاة، وأنهى العمل حتى ثبت أن برقوق ابن عم يونس يستحق ارثه، فلما فرغ من ذلك دفع برقوق إلى أوحد الدين مبلغ دراهم اجرة

توريقه كما هي عادة أهل مصر في هذا، فامتنع من أخذها، وألحف برقوق في سؤاله، وهو يمتنع، فتقلد له برقوق المنة بذلك واعتقد أمانته وخيره، وصار لكثرة ركونه إليه إذا قدم فلاحوا إقطاعه يبعثهم إليه حتى يحاسبهم عما حملوه من الخراج، فلما قتل الملك الأشرف وثارت المماليك، وكان من أمرهم ما كان إلى أن تغلّب برقوق وصار من جملة الأمراء واستولى على الاصطبل السلطانيّ في شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وسبعمائة، وصار أميرا خور، أقام أوحد الدين موقعا عنده، وما زال أمر برقوق يزداد قوّة حتى انيطت به أمور المملكة كلها، فصار أوحد الدين صاحب الحل والعقد، وكاتب السرّ بدر الدين محمد بن عليّ بن فضل الله اسما لا معنى له، إلى أن جلس الأمير برقوق على تخت المملكة في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فقرّر القاضي أوحد الدين في وظيفة كتابة السرّ عوضا عن ابن فضل الله، وخلع عليه في يوم السبت ثاني عشر شوال من السنة المذكورة، فباشر كتابة السرّ على القالب الجائز، وضبط الأمور أحسن ضبط، وعكف سائر الناس على بابه لتمكنه من سلطانه، وكان الأمير يونس الدوادار يرى أنه أكثر الناس من الأمراء تمكينا من السلطان، وجرت العادة بانتماء كاتب السرّ إلى الدوادار، فأحب أوحد الدين الاستبداد على الأمير يونس الدوادار، فقال السلطان سرّا في غيبة يونس: أن السلطان يرسم بكتابة مهمات الدولة وأسرار المملكة إلى البلاد الشامية وغيرها، والأمير الدوادار يريد من المملوك أن يطلع على ذلك، فلم يقدر المملوك على مخالفته، ولا أمكنه إعلامه إلّا بإذن، فأنفق السلطان من ذلك وقال: الحذر أن يطلع على شيء من مهمات السلطان أو أسراره. فقال: أخاف منه إن سأل ولم أعلمه. فقال السلطان: ما عليك منه. فرأى أنه قد تمكن حينئذ، فأمسك أياما. ثم أراد الازدياد من الاستبداد فقال للسلطان سرّا: قد رسم السلطان أن لا يطّلع أحد على سرّ السلطان، ولا يعرف بما يكتب من المهمات، وطائفة البريدية كلهم يمشون في خدمة الدوادار، فإذا اقتضت آراء السلطان تسفير أحد منهم في مهم يحتاج المملوك إلى استدعائه من خدمة الأمير الدوادار، فإذا التمس مني أني أخبره بالمعنى الذي توجه فيه البريدي لا أقدر على إعلامه بذلك، ولا آمن إن كتمته، وانصرف. فلما كان من الغد وطلع الأمراء إلى الخدمة على العادة، قال السلطان للأمير يونس الدوادار: أرسل البريدية كلهم إلى كاتب السرّ ليمشوا ويركبوا معه، فلم يجد بدّا من إرسالهم، وحصل عنده من إرسالهم المقيم المقعد، فصار البريدية يركبون نوبا في خدمة أوحد الدين، ويتصرف في أمور الدولة وحده مع سلطانه، فانفرد بالكلمة، وخضع له الخاص والعام إلّا أنه نغّص عليه في نفسه ومرض مرضا طويلا سقطت معه شهوة الطعام، بحيث أنه لم يكن يشتهي شيئا من الغداء، وتنوّع له المأكل من بين يديه لكي تميل نفسه إلى شيء منها، ومتى تناول غذاء تقيأه في الحال، وما زال على ذلك إلى أن مات عن سبع وثلاثين سنة، في يوم السبت ثاني ذي الحجة سنة ست وثمانين وسبعمائة، ودفن خارج باب

النصر، فلم يتأخر أحد من الأمراء والأعيان عن جنازته، وكان حسن السياسة، رضيّ الخلق، عاقلا، كثير السكون، جيد السيرة، جميل الصورة، حسن الهيئة، عارفا بأمر دنياه، محبا للمداراة، صاحب باطن، قليل العلم رحمه الله. ربع الزيتي: هذا الربع كان بجوار قنطرة الحاجب التي على الخليج الناصري، وكان يشتمل على عدّة مساكن ينزلها أهل الخلاعة للقصف، فإنه كان يشرف من جهاته الأربع على رياض وبساتين ففي شرقية غيط الزيتي، وقد خرب، وموضعه اليوم بركة ماء، وفي غريبه غيط الحاجب بيبرس، وأدركته عامرا وهو اليوم مزارع بعد ما كان له باب كبير بجانبه حوض ماء للسبيل، وعليه سياج من طين دائر به، ومن قبلي، هذا الربع الخليج وقنطرة الحاجب والجنينة التي بأرض الطبالة، ومن بحر به بساتين تتصل بالبعل وكوم الريش، وما زال هذا الربع معمورا باللذات آهلا بكثرة المسرّات إلى أن كانت سنة الغرقة، وهي سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فخربت دور كوم الريش وغيرها، ووصل ماء النيل إلى قنطرة الحاجب، فخرب ربع الزيتي وأهمل أمره حتى صار كوما عظيما تجاه قنطرة الحاجب، وغيط الحاجب، وسمعت من أدركته يخبر عن هذا الربع بعجائب من الملاذ التي كانت فيه، وكانت العامة تقول في هزلها: ستي أين كنتي وأين رحتي وأين جيتي قالت مع ربع الزيتي: ثمّ انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنّهم أحلام الدار التي في أوّل البرقية من القاهرة التي حيطانها حجارة بيض منحوتة: هذه الدار بقي منها جدار على يمين من سلك من المشهد الحسينيّ يريد باب البرقية، وبقي منها أيضا جدار على يمين من سلك من رحبة الأيدي مريّ إلى باب البرقية، وهي دار الأمير صبيح بن شاهنشاه أحد أمراء الدولة الفاطمية في أيام الصالح طلائع بن رزيك، وكانت في غاية الكبر والتحسين. قال بعض أصحاب الصالح: يا مولانا أبقاك الله حتى تتم دار ابن شاهنشاه، وكان الضرغام قبل أن يلي وزارة مصر قد فرّس العادل أبا شجاع رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، فظهر منه فارسا في غاية الفروسية، بحيث أنه قد حضر في يوم عيد الحلقة وأخذ رمحا وحربة وقوسا وسهما، فأخذ الحلقة بالرمح، ورمى بالسهم فأصاب الغرض، وحذف بالحربة فأثبتها في المرمى، ولعب بالرمح في غاية الحسن. ثم دخل صبيح ابن شاهنشاه فعمل مثل ذلك، فتحرّك الضرغام وكان يلبس عمامة بعذبة وإكمال واسعة على زيّ المصرييين يومئذ، فتلثم بعذبته ولف أكمامه وأخذ رمحه ولعب به في غاية الحسن، وطرد كذلك ودخل في الحلقة وأخذها، فعجب منه كل من في العسكر، فأخذ عند ذلك الأمير صبيح ابن شاهنشاه المبخرة وأتى إليه وقال: يا مولاي كفاك الله أمر العين، فإن هذا شيء ما يقدر عليه أحد، وجعل يدور حول فرسه ويبخره والضرغام

يتبسم ويعجبه ذلك، وبعد هذا كان قتل ابن شاهنشاه على يده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ولم تكمل هذه الدار. دار التمر: هذه الدار بمدينة مصر من خارجها، فيما انحسر عنه ماء النيل بعد الخمسمائة من سني الهجرة، وتعرف اليوم بصناعة التمر، تجاه الصاغة بخط سوق المعاريج، ومن جملتها بيت برهان الدين إبراهيم الحليّ ومدرسته، وهذه الدار وقفها القاضي عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ على فكاك الأسرى من المسلمين ببلاد الفرنج. قال القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم: ومن جملة بنائه دار التمر بمصر المحروسة، ولها دخل عظيم، يجمع ويشترى به الأسرى من بلاد الفرنج، وذلك مستمرّ إلى هذا الوقت، وفي كل وقت يحضر بالأسارى فيلبسون ويطوفون ويدعون له، وسمعتهم مرارا يقولون: يا الله يا رحمن يا رحيم ارحم القاضي الفاضل عبد الرحيم. وقال القاضي جمال الدين بن شيث: كان للقاضي الفاضل ربع عظيم يؤجره بمبلغ كبير، فلما عزم على الحج ركب ومرّ به ووقف عليه وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا الخان ليس شيء أحب إليّ منه، أو قال أعز عليّ منه، اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى من بلاد الفرنج. وقال ابن المتوّج: ومن جملة الأوقاف الوقف الفاضلي، وهو الدار المشهورة بصناعة التمر الوقف على فكاك الأسرى من يد العدوّ، المشتملة على مخازن وأخصاص وشون ومنازل علوية وحوانيت بمجازها وظاهرها، وهي اثنا عشر حانوتا، وخمسة مقاعد، وثمانية وخمسون مخزنا، وخمسة عشر خصا، وست قاعات وساحة، وست شون، وخمسة وسبعون منزلا، وخمسة مقاعد علوية، الأجرة عن ذلك جميعه إلى آخر شعبان سنة تسع وثمانين وستمائة في كل شهر ألف ومائة وست وثلاثون درهما نقرة، واستجدّ بها القاضي جمال الدين الوجيزي خليفة الحكم بمصر حين كان ينظر في الأوقاف دارا من ريع الوقف، فأكلها البحر، فأمر ببناء زربية أمامها من مال الوقف. عمارة أمّ السلطان: هذه العمارة من جملة المنحر كانت دارا تعرف بالأمير جمال الدين ايدغدي العزيزيّ ولها باب من الدرب الأصفر الذي هو الآن تجاه خانقاه «1» بيبرس، وباب من المحايريين تجاه الجامع الأقمر. عرفت هذه الدار بالأمير مظفر الدين موسى

ذكر الحمامات

الصالح علي ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي، ثم خربت فأنسأتها خوند أم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن فلاوون، وجعلت منها قيسارية «1» بخط الركن المخلق يباع بها الجلود ويعلوها ربع جليل لسكن العامّة يشتمل على عدّة طباق، ووقفت ذلك على مدرستها بخط التبانة خارج باب زويلة، فلم تزل جارية في وقفها إلى أن اغتصبها الوزير الأمير جمال الدين يوسف الأستادار فيما أخذ من الأوقاف، وجعلها وقفا على مدرسته بخط رحبة باب العيد من القاهرة، وجعلت خوند بركة من جملة هذه الدار قاعة لم يعمر فيها سوى بوابتها لا غير، وهي أهلّ بوّابات الدور، وقد دخلت أيضا فيما أخذه جمال الدين وصارت بيد مباشري مدرسته إلى أن أخذها السلطان الملك الأشرف أبو العزيز برسباي الدقماقي الظاهريّ، وابتدأ بعملها وكالة في شوّال سنة خمس وعشرين وثمانمائة، فكملت في رجب سنة ست وعشرين، وغيّر من الطراز المنقوش في الحجارة بجانبي باب الدخول، اسم شعبان بن حسين، وكتب برسباي، فجاءت من أحسن المباني ويعلوها طباق للسكنى، ولم يسخر في عمارتها أحد من الناس كما أحدثه ولاة السوء في عمائرهم، بل كان العمال من البنايين والفعلة ونحوهم يوفون أجورهم من غير عنف ولا عسف، فإنه كان القائم على عمارتها القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الجيش، وهذه عادته في أعماله أن لا يكلف فيها العمال غير طاقتهم، ويدفع إليهم أجورهم والله أعلم. ذكر الحمامات قال ابن سيده: الحمّام والحميم والحميمة جميعا الماء الحار، والحميمة أيضا المخض إذا سخن، وقد أحمّه وحمّه، وكلّما سخن فقد حمّ. قال ابن الأعرابي: والحمائم جمع الحميم الذي هو الماء الجار، وهذا خطأ، لأن فعيلا لا يجمع على فعائل، وإنما هو جمع الحميمة الذي هو الماء الحار لغة في الحميم مذكر، وهو أحد ما جاء من الأسماء على فعال، نحو القذاف والجبان والجمع حمّامات. قال سيبويه: جمعوه بالألف والتاء وإن كان مذكرا، حيث لم يكسر جعلوا ذلك عوضا من التكسير. والاستحمام الاغتسال بالماء الحار، وقيل هو الاغتسال بأيّ ماء كان، والحميم العرق، واستحمّ الرجل عرق. وأمّا قولهم لداخل الحمام إذا خرج طاب حميمك، فقد يعني به العرق، أي طاب عرقك، وإذا دعي له بطبيب العرق، فقد دعي له بالصحة، لأنّ الصحيح يطيب عرقه. وروي عن سفيان الثوري أنه قال: ما درهم ينفقه المؤمن هو فيه أعظم أجرا من درهم صاحب حمّام ليخليه له، وقال محمد بن إسحاق في كتاب المبتدىء: إنّ أوّل من اتخذ

الحمامات والطلاء بالنورة سليمان بن داود عليهما السلام، وأنه لما دخل ووجد حميمة قال: اوّاه من عذاب الله أوّاه. وذكر المسبحيّ في تاريخه: أنّ العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله، أوّل من بنى الحمامات بالقاهرة، وذكر الشريف أسعد الجوّاني عن القاضي القضاعي أنه كان في مصر الفسطاط ألف ومائة وسبعون حماما. وقال ابن المتوّج أن عدّة حمامات مصر في زمنه بضع وسبعون حماما. وذكر ابن عبد الظاهر أن عدّة حمامات القاهرة إلى آخر سنة خمس وثمانين وستمائة، تقرّب من ثمانين حماما، وأقل ما كانت الحمامات ببغداد في أيام الخليفة الناصر أحمد بن المستنصر نحو الألف حمام. حمّامي السيدة العمة: قال ابن عبد الظاهر: حمّامي الكافي يعرفان بحمامي السيدة العمة، وانتقلتا إلى الكامل بن شاور، ثم إلى ورثة الشريف ابن ثعلب، وهما الآن بأيديهم، ولا تدور إلّا الواحدة، وهاتان الحمامان كانتا على يمنة من يدخل من أول حارة الروم تجاه ربع الحاجب لؤلؤ، المعروف الآن بربع الزياتين، علو الفندق الذي بابه بسوق الشوّايين، وكانت إحداهما برسم الرجال والأخرى برسم النساء، وقد خربتا ولم يبق لهما أثر البتة. حمام الساباط: قال ابن عبد الظاهر: كان في القصر الصغير باب يعرف بباب الساباط، كان الخليفة في العيد يخرج منه إلى الميدان، وهو الخرشتف الآن، إلى المنحر لينحر فيه الضحايا. قلت حمام الساباط هذا يعرّف في زمننا بحمّام المارستان المنصوري وهو برسم دخول النساء عند باب سرّ المارستان المنصوري، وهذا الحمّام هو حمّام القصر الصغير الغربي، ويعرف أيضا بحمّام الصنيمة، فلما زالت دولة الخلفاء الفاطميين من القاهرة، باعها القاضي مؤيد الدين أبو المنصور محمد بن المنذر بن محمد العدل الأنصاريّ الشافعيّ، وكيل بيت المال في أيام الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، للأمير عز الدين أيبك العزيزيّ هي وساحات تحاذيها بألف ومائتي دينار، في ذي الحجة سنة تسعين وخمسمائة، ثم باعها الأمير عز الدين أيبك للشيخ أمين الدين قيمار بن عبد الله الحمويّ التاجر، بألف وستمائة دينار، فورثها من بعده من استحق إرثه، ثم اشترى من الورثة نصفها الأمير الفارس صارم الدين خطلبا الكاملي العادلي، في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وانتقلت أيضا منها حصة إلى ملك الأمير علاء الدين ايدكين البندقداري الصالحي النجمي استادار الملك الظاهر بيبرس، في سنة ثمان وسبعين وستمائة، فلما تملك الملك المنصور قلاوون الألفي وانشأ المارستان الكبير المنصوري، صارت فيما هو موقوف عليه، وهي الآن في أوقافه ولها شهرة في حمامات القاهرة. حمام لؤلؤ: هذه الحمام برأس رحبة الأيد مرى ملاصقة لدار السناني، أنشأها الأمير

حسام الدين لؤلؤ الحاجب في أيام ... «1» . حمام الصنيمة: هذه الحمّام كانت بالقرب من خزانة البنود، على يسرة من سلك في رحبة باب العيد إلى قصر الشوك، وقد خربت، وعمل في موضعها مبيضة للغزل، بالقرب من الجمالية. حمام تتر: هذه الحمام كانت بخط دار الوزارة الكبرى، وقد خربت وصار مكانها دارا عرفت بالأمير الشيخ علي، وهي الدار المجاورة للمدرسة النابلسية في الزّقاق المقابل للخانقاه الصلاحية سعيد السعداء. وتتر هذا: بتاءين مفتوحتين كل منهما منقوط بنقطتين من فوق، أحد مماليك أسد الدين شير كوه، عمّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، استولى على هذه الحمّام وكانت معدّة لدار الوزارة في مدّة الدولة الفاطمية، فعرفت به وما حولها، وإلى الآن يعرف ذلك الخط بخط خرائب تتر، والعامّة تقول خرائب التتر بالتعريف، وهو خطأ. حمام كرجي: هذه الحمّام كانت بخط خرائب تتر أيضا في جوار المدرسة النابلسية، تجاه باب الخانقاه الصلاحية، عرفت بالأمير علم الدين كرجي الأسديّ، أحد الأمراء الأسدية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد خربت هذه الحمّام وبني في مكانها هذا البناء الذي تجاه باب الخانقاه بأوّل الزّقاق. حمام كتيلة: هذه الحمّام كانت داخل باب الخوخة برأس سويقة الصاحب، عرفت أخيرا بالأمير صارم الدين ساروج شادّ الدواوين، ثم خربت في أيام ... «2» ومكانها الآن مسمط يذبح فيه الغنم وتسمط. حمّام ابن أبي الدم: هذه الحمام كانت فيما بين سويقة المسعودي وباب الخوجة، أنشأها ابن أبي الدم اليهودي، أحد كتاب الإنشاء في أيام الخليفة الحاكم، وتولى ابن خيران الديوان ونقل عنه أنه وسع بين السطور في كتاب كتبه إلى الخليفة «3» وهذه مكاتبة الأعلى إلى الأدنى، فلما حضر وأنكر عليه، ألحق بين السطر والسطر سطرا مناسبا للفظ والمعنى، من غير أن يظهر ذلك، فعفا عنه. وقد خربت وصار مكانها دربا فيه دور يعرف بسكن القاضي بدر الدين حسن البردينيّ، أحد خلفاء الحاكم العزيزي الشافعيّ، وأدركت بعض آثار هذه الحمام. حمام الحصينية: هذه الحمام كانت في سويقة الصاحب من داخل درب الحصينية

الذي يعرف اليوم بدرب ابن عرب وقد خربت. حمام الذهب: هذه الحمّام كانت بدار الذهب، أحد مناظر الخلفاء الفاطميين التي ذكرت في المناظر من هذا الكتاب، وقد خربت هذه الحمّام ولم يبق لها أثر. حمام ابن قرقة: هذه الحمّام كانت بخط سويقة المسعودي من حارة زويلة، أنشأها أبو سعيد بن قرقة الحكيم، متولي الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح في الدولة الفاطمية، بجوار داره التي تقدّمت في الدور من هذا الكتاب، ثم عرفت هذه الحمّام في الدولة الأيوبية بالأمير صارم الدين المسعودي وإلى القاهرة، المنسوب إليه سويقة المسعودي المذكورة في الأسواق من هذا الكتاب، ثم خربت هذه الحمّام وعمل في موضعها فندق عرف أخيرا بفندق عمار الحمّامي، بجوار جامع ابن المغربي من جانبه الغربيّ، وأخذت بئر هذه الحمّام، فعملت للحمام التي تعرف اليوم بحمّام السلطان. حمّام السلطان: هذه الحمّام يتوصل إليها الآن من سويقة المسعودي، ومن قنطرة الموسكي، وهي من الحمّامات القديمة عرفت في الدولة الفاطمية بحمّام الأوحد، ثم عرفت في الدولة الأيوبية بحمّام ابن يحيى، وهو القاضي المفضل هبة الله بن يحيى العدل، ثم عرفت بحمّام الطيبرسي، ثم هي الآن تعرف بحمّام السلطان. حمّام خوند: هذه الحمّام بجوار رحبة خوند، المذكورة في الرحاب من هذا الكتاب، وكانت برسم الدار التي تعرف الآن بدار خوندارد تكين، ثم أفردت وصارت إلى الآن حمّاما يدخله عامة الرجال في أوائل النهاء، ثم تعقبهم النساء من بعد، إلى أن هدمها الأمير صلاح الدين محمد استادار السلطان ابن الأمير الوزير الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في شهر رجب سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وعمل موضعها من جملة داره التي هناك. حمّام ابن عبود: هذه الحمّام موضعها فيما بين اصطبل الجميزة المذكورة في اصطبلات الخلفاء من هذا الكتاب، وبين رأس حارة زويلة، وهي من الحمامات القديمة، عرفت بحمّام الفلك، وهو القاضي فلك الملك العادل، ثم عرفت بالأمير عليّ بن أبي الفوارس، ثم عرفت بابن عبود، وهو الشيخ نجم الدين أبو عليّ الحسين بن محمد بن إسماعيل بن عبود القرشيّ الصوفيّ، مات في يوم الجمعة ثالث عشرى شوال سنة اثنين وعشرين وسبعمائة بعد ما عظم قدره ونفذ في أرباب الدولة نهيه وأمره، وهو صاحب الزاوية المعروفة بزاوية ابن عبود بلحف الحبل، قريبا من الدينوريّ من القرافة، فانظرها في الزوايا من هذا الكتاب، ولم تزل هذه الحمام جارية في أوقاف التربة المذكورة إلى أن تسلّط الأمير جمال الدين على أموال أهل مصر، فاغتصب ابن أخته الأمير شهاب الدين أحمد المعروف بسيدي أحمد ابن أخت جمال الدين هذه الحمام، واغتصب دار ابن فضل الله التي تجاه هذه الحمام، واغتصب آدرا أخر بجوارها، وعمر هناك دارا عظيمة كما قد ذكر في الدور من هذا الكتاب.

حمّام الصاحب: هذه الحمام بسويقة الصاحب، عرفت بالصاحب الوزير صفيّ الدين عبد الله بن شكر الدمري صاحب المدرسة الصاحبية التي بسويقة الصاحب، ثم تعطلت مدّة سنين، فلما ولي الأمير تاج الدين الشوبكي ولاية القاهرة في أيام الملك المؤيد شيخ، جدّدها وأدار بها الماء في سنة سبع عشرة وثمانمائة. حمّام السلطان: هذه الحمّام كان موضعها قديما من جملة دار الديباج، وهي الآن بخط بين العواميد من البندقانيين بجوار خوخة سوق الجوار، ومدرسة سيف الإسلام، أنشأها الأمير فخر الدين عثمان ابن قزل استادار السلطان الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وتنقلت إلى أن صارت في أوقاف الملك الناصر محمد بن قلاوون. حمّاما طغريك: هاتان الحمامان بجوار فندق فخر الدين بالقرب من سويقة حارة الوزيرية، أنشأهما الأمير حسام الدين طغريك المهرانيّ، أحد الأمراء الأيوبية. حمام السوباشي: هذه الحمّام كانت بدرب طلائع بخط الخروقيين الذي يعرف اليوم بسوق الفرّايين، عرفت بالأمير الفارس همام الدين أبو سعيد برغش السوباشي، واسمه عمرو بن كحت بن شيرك العزيزي والي القاهرة. حمام عجينة: هذه الحمام كانت بخط الأكفانيين، انشأها الأمير فخر الدين أخو الأمير عز الدين موسك في الدولة الأيوبية، وتنقلت حتى صارت بيد أولاد الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، مما أوقف عليهم، وعرفت أخيرا بحمام عجينة، ثم خربت بعد سنة أربعين وسبعمائة، وموضعها الآن خربة بجوار الفندق الكبير المعدّ لديوان المواريث. حمّام دري: هذه الحمّام كانت بخط الأكفانيين الآن، عرفت بشهاب الدولة دري الصغير غلام المظفر ابن أمير الجيوش. قال الشريف محمد بن أسعد الجواني في كتاب النقط لمعجم ما أشكل من الخطط. شهاب الدولة دري المعروف بالصغير المظفري غلام المظفر أمير الجيوش، كان أرمنيا وأسلم، وكان من المشددين في مذهب الإمامية، وقرأ الجمل في النحو للزجاجيّ، وكتاب اللمع لابن جني، وكانت له خرائط من القطن الأبيض في يديه ورجليه، وكان يتولى خزائن الكسوة، ولا يدخل على بسط السلطان ولا بسط الخليفة الحافظ لدين الله، ولا يدخل مجلسه إلا بتلك الخرائط في رجليه، ولا يأخذ من أحد شيئا إلّا وفي يديه خريطة، يظنّ أنّ كل من لمسه نجّسه، وسوسة منه، فإذا اتفق أنه صافح أحد المومس رقعة بيده من غير خريطة، لا يمس ثوبه بها أبدا حتى يغسلها، فإن لمس ثوبه بها غسل الثوب، وكان الاستاذون المحنكون يرمون له في بساط الخليفة الحافظ العنب، فإذا مشى عليه وانفجر ووصل ماؤه إلى رجليه سبهم وحرد، فيعجب الخليفة من ذلك ويضحك ولا يؤاخذه بما صدر منه، ومات بعد سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وقد خربت

هذه الحمام ولم يبق لها أثر يعرف. حمّام الرصاصي: هذه الحمّام كانت بحارة الديلم، أنشأها الأمير سيف الدين حسن بن أبي الهيجاء المروانيّ، حامل السيف المنصور، وأوقفها هي وجميع الآدر المجاورة لها على أولاده وذريته، فلما زالت الدولة الفاطمية عرفت بالأمير عز الدين أيبك الرصاصي، ولم تزل باقية إلى بعد سنة أربعين وسبعمائة، ثم خربت. حمام الجيوشي: هذه الحمام كانت بحارة برجوان، على يمنة من دخل من رأي الحارة، وكانت من حقوق دار المظفر المظفر ابن أمير الجيوش، ثم صارت بعد زوال الدولة الفاطمية من جملة ما أوقفه الملك العادل أبو بكر ابن أيوب على رباطه الذي كان بخط النخالين من فسطاط مصر، ثم وضع بنو الكويك أصهار قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة أيديهم عليها في جملة ما وضعوا أيديهم عليه من الأوقاف بحارة ابن جماعة، وانتفعوا بريعها مدّة سنين، ثم خربوها بعد سنة أربعين وسبعمائة، وموضعها الآن بجوار دار قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسي، وبعضها داخل في الدار المذكورة، وبئرها بجوار القبو الذي يسلك من تحته إلى حمّام الرومي داخل حارة برجوان، ويعلو هذا العقد حاصل الماء الذي للحمام، ويمرّ على مجراه من حجرة مركّبة على جدار بجوار القبر إلى الحمام المذكورة، وآثار هذا الجدار باقية إلى اليوم، وكان قد استأجر هذه البئر والقبور بعد تعطل الحمّام القاضي أبو الفداء تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن الخطباء المخزوميّ، من مباشري أوقاف رباط العادل، وبني على البئر وبجوارها دارا سكنها مدّة أعوام، وأنشأ بابا على حاصل الماء المركب على القبور مشرفا عاليا، تأنّق في ترخيمه ودهانه وكتب بدائره: مشترف كم شبهوه الأدبا ... لحسنه إذ جاء شيئا عجبا فقال قوم قلعة مبنية ... وآخرون شبهوه مرقبا وشاعر أعجبه ترخيمه ... فقال تلك روضة فوق الربا وقائل ماذا ترى تشبيهه ... فقلت هذا منبر ابن الخطبا ثم خربت هذه الدار بعد موت ابن الخطباء واحترقت في سنة تسع وثمانمائة، وآثارها باقية وما زال ابن الخطباء يدفع حكر هذه البئر وهذا القبو لجهة الرباط العادلي حتى خرب، وعفى أثره وجهل مكانه، وقد رأيته في سنة أربع وتسعين وسبعمائة عامرا. حمّام الرومي: هذه الحمّام بجوار حارة برجوان، عرفت بالأمير سنقر الرومي الصالحيّ أحد الأمراء في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، أنشأها بجوار اسطبله الذي يعرف اليوم باسطبل ابن الكويك، وذلك تجاه رحبة داره التي عرفت بدار مازان، ووقف هذه الدار والإسطبل والحمّام المذكورة في سنة اثنين وستين وستمائة، فأما الدار فإنها صارت أخيرا بيد رجل من عامة الناس يعرف بعيسى البناء، فباعها انقاضا بعد ما

خرّبها في سنة سبع وثمانمائة لرجل من المباشرين، فهدمها ليعمرها عمارة جليلة، فلم يمهل وعاجله القضاء فمات، وصارت خربة فابتاعها بعض الناس من ورثة المذكور وشرع في عمارة شيء منها، وأما الإصطبل والحمّام فوضع بنو الكويك أيديهم عليهما مدّة أعوام، حتى صارا ملكا لهم يورثان، وهما الآن بيد شرف الدين محمد بن محمد بن الكويك، وقد جعل ما يخصه من الحمّام وقفا على نفسه، ثم على اناس من بعده، وفي هذه الحمام حصة أيضا وقفها شيخنا برهان الدين إبراهيم الشامي الضرير على أمته وهي بيدها. سنقر الرومي: الصالحيّ النجميّ، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب البحرية، ترقى عنده في الخدم حتى صار جامدار، وكان من خوشداشية بيبرس البندقداريّ وأصدقائه، فلما قتل الفارس أقطاي في أيام الملك المعز أيبك التركماني، وخرج البحرية من القاهرة إلى بلاد الشام، كان سنقر ممن خرج ورافق بيبرس وارتفق بصحبته، ونال منه مالا وثيابا وغير ذلك، وتنقل معهم في الكرك إلى أن كان من أمره في الصيد مع صاحب الكرك، فطلب سنقر من بيبرس شيئا فلم يجبه وامتنع من إعطائه، فحنق وفارقه إلى مصر فأقام بها، ثم أن بيبرس قدم إلى مصر بعد ذلك وقد صار أميرا فلم يعبأ سنقر به ولا قدّم إليه شيئا كعادة الخواشداشية، فلما صار الأمر إلى بيبرس، وملك بعد قطز، قدّم سنقر وأعطاه الإقطاعات الجليلة، ونوّه بقدره، فلم يرض، فصار إذا ورد عليه الإنعام السلطانيّ لا يأخذه بقبول، ويخلو كل وقت بجماعة بعد جماعة ويفرّق فيهم المال، فيبلغ ذلك السلطان ويغضي عنه، وربما بعث إليه وحذره مع الأمير قلاوون وغيره فلم ينته، ثم أنه قتل مملوكين من مماليكه بغير ذنب، فعزّ قتلهما على السلطان فطلبه في رابع عشرى ذي الحجة سنة ثلاث وستين وستمائة واعتقله، فقال أريد أعرف ذنبي، فبعث إليه السلطان يعدّ ذنوبه. فتحسر وقال: أوّاه لو كنت حاضرا قتل الملك المظفر قطز، حتى أعاند في الذي جرى، وكان كثيرا ما يقول ذلك، وبلغ هذا القول هذه السلطان في حال أمرته فقال: أنت أخي، وتتحسر كونك ما قدرت أن تعين عليّ. حمّاما سويد: هاتان الحمامان بآخر سويقة أمير الجيوس، عرفتا بالأمير عز الدين معالي بن سويد، وقد خربت إحداهما، ويقال أنها غارت في الأرض وهلك فيها جماعة، وبقيت الأخرى وهي الآن بيد الخليفة أبي الفضل العباسيّ بن محمد المتوكل. حمام طغلق: هذه الحمام بجوار درب المنصوري من خط حارة الصالحية، صارت أخيرا بيد ورثة الأمير قطلوبغا المنصوريّ حاجب الحجاب في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين، وكانت معدّة لدخول الرجال، ثم تعطلت بعد سنة تسعين وسبعمائة، وأخذ حاصلها، وعهدي بها بعد سنة ثمانمائة أطلالا واهية. حمّام ابن علكان: هذه الحمّام كانت بحارة الجودرية، أنشأها الأمير شجاع الدين

عثمان بن علكان، صهر الأمير الكبير فخر الدين عثمان بن قزل، ثم انتقلت إلى الأمير علم الدين سنجر الصيرفيّ الصالحيّ النجميّ، وما زالت إلى أن خربت بعد سنة أربعين وسبعمائة، فعمر مكانها الأمير ازدمر الكاشف إسطبلا بعد سنة خمسين وسبعمائة. حمّام الصاحب: هذه الحمام بخط طواحين الملحيين. حمّام كتبغا الأسدي: هذه الحمام موضعها الآن المدرسة الناصرية بخط بين القصرين. حمّام ألتطمش خان: هذه الحمّام كانت بجوار ميضاة الملك ركن الدين الظاهر بيبرس، المجاورة للمدرسة الظاهرية بخط بين القصرين، أنشأتها الخاتون التطمش خان زوجة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، ثم خربت وصار موضعها زقاقا، فلما ولي كمال الدين عمر بن العديم قضاء القضاة الحنفية بالديار المصرية، في سلطنة الملك الناصر فرج، شرع في عمارة هذا الزقاق، فمات ولم يكمله، فوضع الأمير جمال الدين يده في العمارة وأنشأها فندقا جعله وقفا فيما وقف على مدرسته التي أنشأها برحبة باب العيد، فلما قتله الملك الناصر فرج واستولى على جميع ما تركه، جعل هذا الفندق من جملة ما أرصده للتربة التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر. حمّام القاضي: هذه الحمام من جملة خط درب الأسواني، وهي من الحمامات القديمة، كانت تعرف بإنشاء شهاب الدولة بدر الخاص، أحد رجال الدولة الفاطمية، ثم انتقلت إلى ملك القاضي السعيد أبي المعالي هبة الله بن فارس، وصارت بعده إلى ملك القاضي كمال الدين أبي حامد محمد ابن قاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس الماراني، فعرفت بحمّام القاضي إلى اليوم، ثم باع ورثة أبي حامد منها حصة للأمير عز الدين أيدمر الحليّ نائب السلطنة في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وصارت منها حصة إلى الأمير علاء الدين طيبرس الخازنداري، فجعلها وقفا على مدرسته المجاورة للجامع الأزهر. حمّام الخرّاطين: هذه الحمّام أنشأها الأمير نور الدين أبو الحسن عليّ بن نجا بن راجح بن طلائع، فعرفت بحمام ابن طلائع وكان بجوارها، ثم حمّام أخرى تعرف بحمّام السوباشي فخربت، ومستوقد حمام ابن طلائع هذه إلى الآن من درب ابن طلائع، الشارع بسوق الفرّايين الآن، ولها منه أيضا باب، وصارت أخيرا في وقف الأمير علم الدين سنجر السروري المعروف بالخياط والي القاهرة، وتوفي في سنة ثمان وتسعين وستمائة، فاغتصبها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في جملة ما اغتصب من الأوقاف والأملاك وغيرها، وجعلها وقفا على مدرسته برحبة باب العيد وهي الآن موقوفة عليها.

حمّام الخشيبة: هذه الحمام بجوار درب السلسلة، كانت تعرف بحمام قوّام الدولة خير، ثم صارت حماما لدار الوزير المأمون ابن البطائحي، فلما قتل الخليفة الآمر بأحكام الله وعملت خشيبة تمنع الراكب أن يمرّ من تجاه المشهد الذي بني هناك، عرفت هذه الحمّام بخشيبة، تصغير خشبة، وقد تقدّم ذلك مسبوطا عند ذكر الأخطاط من هذه الكتاب. قال ابن عبد الظاهر: مدرسة السيوفيين وقفها الأمير عز الدين فرج شاه على الحنفية، وكانت هذه الدار قديما تعرف بدار المأمون بن البطائحي، وحمام الخشيبة كانت لها، فبيعت، وهذه الحمّام هي الآن في أوقاف خوند طغاي أم أنوك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون على تربتها التي في الصحراء خارج باب البرقية. حمام الكويك: هذه الحمّام فيما بين حارة زويلة ودرس شمس الدولة، أنشأها الوزير عباس أحد وزراء الدولة الفاطمية، لداره التي موضعها الآن درب شمس الدولة، ثم جدّدها شخص من التجار يعرف بنور الدين عليّ بن محمد بن أحمد بن محمود بن الكويك الربعي التكريتي، في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فعرفت به إلى اليوم. حمّام الجويني: هذه الحمّام بجوار حمام ابن الكويك، فيما بينها وبين البندقانيين، عرفت بالأمير عز الدين إبراهيم بن محمد بن الجويني والي القاهرة في أيام الملك العادل أبي بكر بن أيوب، توفي سلخ جمادى الأولى سنة إحدى وستمائة، فإنه أنشأها بجوار داره، والعامّة تقول حمام الجهينيّ بهاء، وهو خطأ، وتنقلت إلى أن اشتراها القاضي أوحد الدين عبد الواحد بن ياسين كاتب السرّ الشريف في أيام الملك الظاهر برقوق بطريق الوكالة عن الملك الظاهر، وجعلها وقفا على مدرسته العظمى بخط بين القصرين، وهي الآن في جملة الموقوف عليها. حمام القفاصين: هذه الحمام بالقرب من رأس حارة الديلم، أنشأها نجم الدين يوسف ابن المجاور وزير الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. حمّام الصغيرة: هذه الحمّام علي يمنة من سلك من رأس حارة بهاء الدين، وهي تجاه دار قراسنقر، أنشأها الأمير فخر الدين بن رسول التركمانيّ. ورسول هذا جدّ ملوك اليمن الآن، وقد تعطلت هذه الحمام منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة. حمّام الأعسر: هذه الحمّام موضعها من جملة دار الوزارة، وهي الآن بجوار باب الجوانية، أنشأها الأمير شمس الدين سنقر المعزي الظاهري المنصوري. سنقر الأعسر: كان أحد مماليك الأمير عز الدين أيدمر الظاهري نائب الشام، وجعله دواداره، فباشر الدوادارية لأستاذه بدمشق ونفسه تكبر عنها، فلما عزل أيدمر من نيابة الشام في أيام الملك المنصور قلاوون وحضر إلى قلعة الجبل، اختار السلطان عدّة من مماليكه

منهم سنقر الأعسر هذا، فاشتراه وولّاه نيابة الاستادارية، ثم سيره في سنة ثلاث وثمانين وستمائة إلى دمشق، وأعطاه أمرة وولاه شدّ الدواوين بها، واستادارا، فصارت له بالشام سمعة زائدة إلى أن مات قلاوون، وقام من بعده الأشرف خليل، واستوزر الوزير شمس الدين السلعوس، طلب سنقر إلى القاهرة وعاقبه وصادره، فتوصل حتى تزوّج بابنة الوزير على صداق مبلغه ألف وخمسمائة دينار، فأعاده إلى حالته ولم يزل إلى أن تسلطن الملك العادل كتبغا واستوزر الصاحب فخر الدين بن خليل، وقبض على سنقر وعلى سيف الدين استدمر وصادرهما، وأخذ من سنقر خمسمائة ألف درهم، وعزله عن شدّ الدواوين، وأحضره إلى القاهرة. فلما وثب الأمير حسام الدين لاجين على كتبغا وتسلطن، ولي سنقر الوزارة عوضا عن ابن خليل في جمادى الأولى سنة ست وتسعين وسبعمائة، ثم قبض عليه في ذي الحجة منها، وذلك أنه تعاظم في وزارته وقام بحق المنصب، يريد أن يتشبه بالشجاعى، وصار لا يقبل شفاعة أحد من الأمراء، ويخرق بنوابهم، وكان في نفسه متعاظما وعنده شمم إلى الغاية مع سكون في كلامه، بحيث أنه إذا فاوض السلطان في مهمات الدولة كما هي عادة الوزراء لا يجيب السلطان بجواب شاف، وصار يتبين منه للسلطان قلة الاكتراث به، فأخذ في ذمه وعيبه بما عنده من الكبر، وصادفه الغرض من الأمراء وشرعوا في الحط عليه حتى صرف وقيد، فأرسل يسأل السلطان عن الذنب الذي أوجب هذه العقوبة، فقال: ماله عندي ذنب غير كبره، فإني كنت إذا دخل إليّ أحسب أنه هو السلطان وأنا الأعسر، فصدره منقام وحديثي معه كأني أحدّث أستاذي، وقرّر من بعده في الوزارة ابن الخليلي، فلما قتل لاجين وأعيد الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الملك ثانيا أفرج عن سنقر الأعسر وعن جماعة من الأمراء، وأعاد الأعسر إلى الوزارة في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وفي وزارته هذه كانت هزيمة الملك الناصر بعساكره من غازان، فتولى ناصر الدين الشيخي والي القاهرة جباية الأموال من التجار وأرباب الأموال، لأجل النفقة على العساكر، وقرّر في وزارته على كل أردب غلة خروبة إذا طلع إلى الطحان، وقرّر أيضا نصف الشمسرة، ومعناها أنه كان للمنادي على الثياب أجرة دلالته على كل ما مبلغه مائة درهم، درهمين، فيؤخذ منه درهم منهما ويفضل له درهم، واستخدم على هاتين الجهتين نحو مائتين من الأجناد البطالين، وتحصل في بيت المال من أموال المصادرات مبلغ عظيم، ثم خرج الوزير بمائة من مماليك السلطان وتوجه إلى بلاد الصعيد وقد وقعت له في النفوس مهابة عظيمة، فكبس البلاد وأتلف كثيرا من المفسدين من أجل أنه لما حصلت وقعة غازان كثر طمع العربان في المغل، ومنعوا كثيرا من الخراج، وعصوا الولاة وقطعوا الطريق، وما زال يسير إلى الأعمال القوصية، فلم يدع فرسا لفلاح، ولا قاض، ولا متعمم، حتى أخذه، وتتبع السلاح، ثم حضر بألف وستين فرسا، وثمانمائة وسبعين جملا، وألف وستمائة رمح، وألف ومائتي سيف، وتسعمائة درقة، وستة آلاف رأس غنم، وقتل عدّة من

الناس، فتمهدت البلاد وقبض الناس مغلهم بتمامه، واتفقت واقعة النصارى التي ذكرت عند ذكر كنائس النصارى من هذا الكتاب في أيامه، فأمر بالتاج ابن سعيد الدولة أحد مستوفي الدولة، وكان فيه زهو وحمق عظيم، وله اختصاص بالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيري، فعرّي وضرب بالمقارع ضربا مبرحا، فأظهر الإسلام وهو في العقوبة، فأمسك عنه. وألزمه بحمل مال، فالتجأ إلى زاوية الشيخ نصر المنيحي وترامى على الشيخ فقام في أمره حتى عفي عنه، فكره الأمراء الأعسر لكثرة شممه وتعاظمه، فكلّموا الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيري، وإليه أمر الدولة في ولاية الأمير عز الدين أيبك البغداديّ الوزارة، وساعدهم على ذلك الأمير سلار، فولي الأعسر كشف القلاع الشامية، وإصلاح أمورها، وترتيب رجالها، وسائر ما يحتاج إليه. وخلع على الأمير أيبك خلع الوزارة في آخر سنة سبعمائة، فلما عاد استقرّ أحد أمراء الألوف، وحج في صحبة الأمير سلار ومات بالقاهرة بعد أمراض، في سنة تسع وسبعمائة، وكان عارفا خيّرا مهابا، له سعادات طائلة، ومكارم مشهورة، ولحاشيته ثروة متسعة، وغالب مماليكه تأمرّوا بعده، وممن مدحه الوداعيّ وابن الوكيل. حمّام الحسام: هذه الحمّام بداخل باب الجوانية. حمّام الصوفية: هذه الحمّام بجوار الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، أنشأها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لصوفية الخانقاه، وهي إلى الآن جارية في أوقافهم ولا يدخلها يهوديّ ولا نصراني. حمّام بهادر: هذه الحمّام موضعها من حملة القصر، وهي بجوار دار جرجي، أنشأها الأمير بهادر استادار الملك الظاهر برقوق، وقد تعطلت. حماد الدود: هذه الحمّام خارج باب زويلة في الشارع تجاه زقاق خان حلب، بجوار حوض سعد الدين مسعود بن هنس، عرفت بالأمير سيف الدين الدود الجاشنكيريّ، أحد أمراء الملك المعز أيبك التركمانيّ، وخال ولده الملك المنصور نور الدين عليّ بن الملك المعز أيبك، فلما وثب الأمير سيف الدين قطز نائب السلطنة بديار مصر على الملك المنصور عليّ بن الملك المعز أيبك واعتقله وجلس على سرير المملكة قبض على الأمير الدود في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمائة واعتقله، وهذه الحمّام إلى اليوم بيد ذرية الدود من قبل بناته موقوفة عليهم. حمام ابن أبي الحوافر: هذه الحمّام خارج مدينة مصر بجوار الجامع الجديد الناصريّ، كان موضعها وما حولها عامرا بماء النيل، ثم انحصر عنه الماء وصار جزيرة، فبنى الناس عليها بعد الخمسمائة من سني الهجرة، كما ذكر عند ذكر ساحل مصر من هذا الكتاب، وعرفت هذه الحمّام بالقاضي فتح الدين أبي العباس أحمد بن الشيخ جمال الدين

أبي عمرو وعثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل بن محمد بن أبي الحوافر رئيس الأطباء بديار مصر، ومات ليلة الخميس الرابع عشر من شهر رمضان سنة سبع وخمسين وستمائة ودفن بالقرافة. حمّام قتّال السبع: هذه الحمّام خارج باب القوس من ظاهر القاهرة في الشارع المسلوك فيه من باب زويلة إلى صليبة جامع ابن طولون، وموضعها اليوم بجوار جامع قوصون، عمّرها الأمير جمال الدين أقوش المنصوريّ، المعروف بقتّال السبع الموصلي، بجانب داره التي هي اليوم جامع قوصون، فلما أخذ قوصون الدار المذكورة وهدمها وعمر مكانها هذا الجامع، أراد أخذ الحمّام، وكانت وقفا، فبعث إلى قاضي القضاة شرف الدين الحنبليّ الحرّانيّ يلتمس منه حل وقفها، فأخرب منها جانبا وأحضر شهود القيمة فكتبوا محضرا يتضمن أنّ الحمام المذكورة خراب، وكان فيهم شاهد امتنع من الكتابة في المحضر وقال: ما يسعني من الله أن أدخل بكرة النهار في هذا الحمام وأطهّر فيها، ثم أخرج منها وهي عامرة وأشهد بعد ضحوة نهار من ذلك اليوم أنها خراب، فشهد غيره، وأثبت قاضي القضاة الحنبليّ المحضر المذكور وحكم ببيعها، فاشتراها الأمير قوصون من ورثة قتال السبع، وهي اليوم عامرة بعمارة ما حولها. حمّام لؤلؤ: هذه الحمام برأس رحبة الأيدمريّ، ملاصقة لدار السنانيّ من القاهرة، أنشأها الأمير حسام الدين لؤلؤ الحاجب. لؤلؤ الحاجب: كان أرمنيّ الأصل، ومن جملة أجناد مصر في أيام الخلفاء الفاطميين، فلما استولى صلاح الدين يوسف بن أيوب على مملكة مصر، خدم تقدمة الأسطول، وكان حيثما توجه فتح وانتصر وغنم، ثم ترك الجندية وزوّج بناته وكنّ أربعا بجهاز كاف، وأعطى ابنيه ما يكفيهما، ثم شرع يتصدّق بما بقي معه على الفقراء بترتيب لا خلل فيه، ودواما لا سآمة معه، وكان يفرّق في كل يوم اثني عشر ألف رغيف مع قدور الطعام، وإذا دخل شهر رمضان أضعف ذلك، وتبتل للتفرقة من الظهر في كل يوم إلى نحو صلاة العشاء الآخرة، ويضع ثلاثة مراكب طول كل مركب أحد وعشرون ذراعا مملوءة طعاما، ويدخل الفقراء أفواجا وهو قائم مشدود الوسط كأنه راعي غنم، وفي يده مغرفة وفي الأخرى جرّة سمن، وهو يصلح صفوف الفقراء ويقرّب إليهم الطعام والودك، ويبدأ بالرجال ثم النساء ثم الصبيان، وكان الفقراء مع كثرتهم لا يزدحمون، لعلمهم أنّ المعروف يعمهم، فإذا انتهت حاجة الفقراء بسط سماطا للأغنياء تعجز الملوك عن مثله، وكان له مع ذلك على الإسلام منة توجب أن يترحم عليه المسلمون كلهم، وهي أنّ فرنج الشوبك والكرك توجهوا نحو مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينبشوا قبره صلى الله عليه وسلم، وينقلوه جسده الشريف المقدّس إلى بلادهم ويدفنوه عندهم، ولا يمكنوا المسلمين من زيارته إلّا بجعل، فأنشأ البرنس أرباط صاحب الكرك سفنا

ذكر القياسر

حملها على البرّ إلى بحر القلزم، وأركب فيها الرجال، وأوقف مركبين على جزيرة قلعة القلزم تمنع أهلها من استقاء الماء، فاسرت الفرنج نحو عيذاب «1» فقتلوا وأسروا ومضوا يريدون المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، وذلك في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على حران، فلما بلغه ذلك بعث إلى سيف الدولة ابن منقذ نائبه على مصر يأمره بتجهيز الحاجب لؤلؤ خلف العدوّ، فاستعدّ لذلك وأخذ معه قيودا وسار في طلبهم إلى القلزم، وعمّر هناك مراكب وسار إلى أيلة، فوجد مراكب للفرنج فحرقها وأسر من فيها، وسار إلى عيذاب وتبع الفرنج حتى أدركهم، ولم يبق بينهم وبين المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم إلا مسافة يوم، وكانوا ثلاثمائة ونيفا، وقد انضم إليهم عدّة من العربان المرتدّة، فعندما لحقهم لؤلؤ فرّت العربان فرقا من سطوته ورغبة في عطيته، فإنه كان قد بذل الأموال حتى أنه علّق أكياس الفضة على رؤس الرماح، فلما فرّت العربان التجأ الفرنج إلى رأس جبل صعب المرتقى، فصعد إليهم في عشرة أنفس وضايقهم فيه، فخارت قواهم بعد ما كانوا معدودين من الشجعان واستسلموا، فقبض عليهم وقيّدهم وحملهم إلى القاهرة، فكان لدخولهم يوم مشهود، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء وأرباب الديانة بعد ما ساق رجلين من أعيان الفرنج إلى منى ونحرهما هناك كما تنحر البدن التي تساق هديا إلى الكعبة، ولم يزل على فعل المعروف إلى أن مات رحمه الله في صميم الفلا، وقد قرب منتهاه في اليوم التاسع من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وخمسمائة، ودفن بتربته من القرافة، وهي التي حفر فيها البئر ووجد في قعرها عند الماء اسطام مركب، وهذه الحمّام تفتح تارة وتغلق كثيرا، وهي باقية إلى يومنا هذا من جملة أوقاف الملك، والله تعالى أعلم بالصواب. ذكر القياسر ذكر ابن المتوّج قياسر مصر وهي: قيسارية المحلى، وقيسارية الضيافة، وقف المارستان المنصوري، وقيسارية شبل الدولة، وقيسارية ابن الأرسوفي، وقيسارية ورثة الملك الظاهر بيبرس، وقيساريتا ابن ميسر، وقد خربت كلها. قيسارية ابن قريش: هذه القيسارية في صدر سوق الجملون الكبير بجوار باب سوق الورّاقين، ويسلك إليها من الجملون ومن سوق الأخفافيين، المسلوك إليه من البندقانيين، وبعضها الآن سكن الأرمنيين وبعضها سكن البزازين. قال ابن عبد الظاهر: استجدّها القاضي المرتضى ابن قريش في الأيام الناصرية الصلاحية، وكان مكانها اسطبلا انتهى.

وهو القاضي المرتضى صفيّ الدين أبو المجد عبد الرحمن بن عليّ بن عبد العزيز بن علي بن قريش المخزومي، أحد كتاب الإنشاء في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، قتل شهيدا على عكا في يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة، ودفن بالقدس، ومولده في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسمع السلفيّ وغيره. قيسارية الشرب: هذه القيسارية بشارع القاهرة تجاه قيسارية جهاركس. قال ابن عبد الظاهر: وقفها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على الجماعة الصوفية، يعني بخانقاه سعيد السعداء، وكانت إسطبلا. انتهى. وما برحت هذه القيسارية مرعية الجانب إكراما للصوفية إلى أن كانت أيام الملك الناصر فرج، وحدثت الفتن وكثرت مصادرات التجار، انخرق ذاك السياج وعومل سكانها بأنواع من العسف، وهي اليوم من أعمر أسواق القاهرة. قيسارية ابن أبي أسامة: هذه القيسارية بجوار الجملون الكبير على يسرة من سلك إلى بين القصرين، يسكنها الآن الخرد فوشية، وقفها الشيخ الأجل أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الحسن بن أبي أسامة، لصاحب ديوان الإنشاء في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله، وكانت له رتبة خطيرة ومنزلة رفيعة، وينعت بالشيخ الأجل كاتب الدست الشريف، ولم يكن أحد شاركه في هذا النعت بديار مصر في زمانه، وكان وقف هذه القيسارية في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وتوفي في شوال سنة اثنين وعشرين وخمسمائة. قيسارية سنقر الأشقر: هذه القيسارية على يسرة من يدخل من باب زويلة، فيما بين خزانة شمائل ودرب الصغيرة، تجاه قيسارية الفاضل. أنشأها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر الصالحيّ النحميّ، أحد المماليك البحرية، ولم تزل إلى أن هدمت وأدخلت في الجامع المؤيدي، لأيام من جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة. قيسارية أمير علي: هذه القيسارية بشارع القاهرة تجاه الجملون الكبير، بجوار قيسارية جهاركس، يفصل بينهما درب قيطون، عرفت بالأمير عليّ بن الملك المنصور قلاون الذي عهد له بالملك، ولقبه بالملك الصالح، ومات في حياة أبيه، كما قد ذكر في فندق الملك الصالح. قيسارية رسلان: هذه القيسارية فيما بين درب الصغيرة والحجارين، أنشأها الأمير بهاء الدين رسلان الدوادار، وجعلها وقفا على خانقاه له بمنشأة المهرّانيّ، وكانت من أحسن القياسر، فلما عزم الملك المؤيد شيخ على بناء مدرسته هدمها في جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وعوّض أهل الخانقاه عنها خمسمائة دينار.

قيسارية جهاركس: قال ابن عبد الظاهر: بناها الأمير فخر الدين جهاركس في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكانت قبل ذلك يعرف مكانها بفندق الفراخ، ولم تزل في يد ورثته، وانتقل إلى الأمير علم الدين أيتمش منها جزء بالميراث عن زوجته، وإلى بنت شومان من أهل دمشق، ثم اشتريت لوالدة خليل المسماة بشجر الدرّ الصالحية، في سنة خمس وخمسين وستمائة، وهي مع حسنها واتقان بنائها كلها، تجرّد من الغضب جميع ما فيها، وذكر بعض المؤرخين أن صاحبها جهاركس نادى عليها حين فرغت، فبلغت خمسة وتسعين ألف دينار على الشريف فخر الدين إسماعيل بن ثعلب، وقال لصاحبها: أنا انقدك ثمنها، أي نقد شئت، إن شئت ذهبا وإن شئت فضة، وإن شئت عروض تجارة، وقيسارية جهاركس تجرى الآن في وقف الأمير بكتمر الجوكندار نائب السلطنة بعد سلار على ورثته. وقال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان: جهاركس: بن عبد الله فخر الدين أبو المنصور الناصريّ الصلاحيّ، كان من أكبر أمراء الدولة الصلاحية، وكان كريما نبيل القدر عليّ الهمة، بنى بالقاهرة القيسارية الكبرى المنسوبة إليه، رأيت جماعة من التجار الذين طافوا البلاد يقولون: لم نر في شيء من البلاد مثلها في حسنها وعظمها وأحكام بنائها، وبنى بأعلاها مسجدا كبيرا وربعا معلقا، وتوفي في بعض شهور سنة ثمان وستمائة بدمشق، ودفن في جبل الصالحية وتربته مشهورة هناك، رحمه الله، وجهاركس بفتح الجيم والهاء وبعد الألف راء ثم كاف مفتوحة ثم سين مهملة. ومعناه بالعربيّ أربعة أنفس، وهو لفظ عجميّ. وقال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود اليغوريّ: سمعت الأمير الكبير الفاضل شرف الدين أبا الفتح عيسى بن الأمير بدر الدين محمد بن أبي القاسم بن محمد بن أحمد الهكاريّ البحتريّ الطائيّ المقدسيّ بالقاهرة، ومولده سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالبيت المقدّس شرّفه الله تعالى، وتوفي بدمشق في ليلة الأحد تاسع عشري ربيع الآخر سنة تسع وستمائة، ودفن بسفح جبل قاسيون، رحمه الله. قال: حدّثني الأمير صارم الدين خطلبا التبنينيّ صاحب الأمير فخر الدين أبي المنصور جهاركس بن عبد الله الناصريّ الصلاحيّ رحمه الله. قال: بلغ الأمير فخر الدين، أن بعض الأجناد عنده فرس قد دفع له فيه ألف دينار ولم يسمح ببيعه، وهو في غاية الحسن، فقال لي الأمير باخطلبا: إذا ركبنا ورأيت في الموكب هذا الفرس نبهني عليه حتى أبصره. فقلت: السمع والطاعة. فلما ركبنا في الموكب مع الملك العزيز عثمان بن الملك الناصر رحمه الله، رأيت الجنديّ على فرسه، فتقدّمت إلى الأمير فخر الدين وقلت له: هذا الجنديّ، وهذا الفرس راكبه، فنظر إليه وقال: إذا خرجنا من سماط السلطان فانظر أين الفرس وعرّفني به. فلما دخلنا إلى سماط الملك العزيز، عجّل الأمير فخر الدين وخرج قبل الناس، فلما بلغ إلى

الباب قال لي أين الفرس؟ قلت: ها هو مع الركاب. دار فقال لي: أدعه. فدعوته إليه، فلما وقف بين يديه والفرس معه، أمره الأمير بأخذ الغاشية، ووضع الأمير رجله في ركابه وركبه ومضى به إلى داره وأخذ الفرس، فلما خرج صاحبه عرفه الركاب دار بما فعله الأمير فخر الدين، فسكت ومضى إلى بيته وبقي أياما ولم يطلب الفرس. فقال لي الأمير فخر الدين: يا خطلبا ما جاء صاحب الفرس ولا طلبه، اطلب لي صاحبه. قال: فاجتمعت به وأخبرته بأنّ الأمير يطلب الاجتماع به، فسارع إلى الحضور. فلما دخل عليه أكرمه الأمير ورفع مكانه وحدّثه وآنسه وبسطه وحضر سماطه فقرّبه وخصصه من طعامه، فلما فرغ من الأكل قال له الأمير: يا فلان، ما بالك ما طلبت فرسك وله عندنا مدّة؟ فقال: يا خوند، وما عسى أن يكون من هذا الفرس وما ركبه الأمير إلّا وهو قد صلح له، وكلما صلح للمولى فهو على العبد حرام، ولقد شرّفني مولانا بأن جعلني أهلا أن يتصرّف في عبده، والمملوك يحسب أن هذا الفرس قد أصابه مرض فمات، وأما الآن فقد وقع في محله، وعند أهله، ومولانا أحق به، وما أسعد المملوك إذا صلح لمولانا عنده شيء. فقال له الأمير: بلغني أنك أعطيت فيه ألف دينار. قال كذلك كان، قال: فلم لم تبعه؟ فقال: يا مولانا هذا الفرس جعلته للجهاد، وأحسن ما جاهد الإنسان على فرس يعرفه ويثق به، وما مقدار هذا الفرس له أسوة. فاستحسن الأمير همته وشكره، ثم أشار إليّ فتقدّمت إليه فقال لي في أذني: إذا خرج هذا الرجل فاخلع عليه الخلعة الفلانية من أفخر ملبوس الأمير، وأعطه ألف دينار وفرسه، فلما نهض الرجل أخذته إلى الفرش خاناه وخلعت عليه الخلعة ودفعت إليه الكيس وفيه ألف دينار، فخدم وشكر وخرج، فقدّم إليه فرسه وعليه سرج خاص من سروج الأمير، وعدّة في غاية الجودة. فقيل: اركب فرسك. فقال: كيف أركبه وقد أخذت ثمنه، وهذه الخلعة زيادة على ثمنه. ثم رجع إلى الأمير فقبّل الأرض وقال: يا خوند، تشريف مولانا لا يردّ، وهذا ثمن الفرس قد أحضره المملوك. فقال له الأمير فخر الدين: يا هذا نحن جرّبناك فوجدناك رجلا جيدا ولك همة، وأنت أحق بفرسك، خذ هذا ثمنه ولا تبعه لأحد، فخدمه وشكره ودعا له وأخذ الفرس والخلعة والألف دينار وانصرف. وأخبرني أيضا الأمير شرف الدين ابن أبي القاسم قال: أخبرني صارم الدين التبنيني أيضا: أنّ الأمير فخر الدين خدم عنده بعض الأجناد، فعرض عليه فأعجبه شكله، وقال لديوانه: استخدموا هذا الرجل. فتكلموا معه وقدّروا له في السنة اثني عشر ألف درهم، فرضي الرجل وانتقل إلى حلقة الأمير قوصون وضرب خيمته وأحضر بركه، فلما كان بعض الأيام رجع الأمير من الخدمة فعبر في جنب خيمة هذا الرجل، فرأى خيمة حسنة وخيلا جيادا وجمالا وبغالا وبركا في غاية الجودة. فقال: هذا البرك لمن؟ فقيل هذا برك فلان الذي خدم عند الأمير في هذه الأيام. فقال: قولوا له ما لك عندنا شغل، تمضي في حال سبيلك، فلما قيل للرجل ذلك أمر بأن تحط خيمته وأتى إليّ وقال: يا مولانا، أنا رائح، وها

أنا قد حملت بركي، ولكن أشتهي منك أن تسأل الأمير ما ذنبي. قال: فدخلت إلى الأمير وأخبرته بما قال الرجل. فقال: والله ما له عندي ذنب إلا أنّ هذا البرك وهذه الهمة يستحق بها أضعاف ما أعطي، فأنكرت عليه كيف رضي بهذا القدر اليسير وهو يستحق أن تكون أربعين ألف درهم، وتكون قليلة في حقه، فإذا خدم بثلاثين ألف درهم يكون قد ترك لنا عشرة آلاف درهم، فهذا ذنبه عندي. فرجعت إلى الرجل فأعلمته بما قال الأمير فقال: إنما خدمت عند الأمير ورضيت بهذا القدر لعلمي أن الأمير إذا عرف حالي فيما بعد لا يقنع لي بهذا الجاري، فكنت على ثقة من إحسان الأمير أبقاه الله، وأما الآن فلا أرضى أن أخدم إلا بثلاثين ألف درهم كما قال الأمير. فرجعت إلى الأمير وأخبرته بما قال الرجل فقال: يجري له ما طلب، وخلع عليه وأحسن إليه. وكان الأمير فخر الدين جهاركس مقدّم الناصرية والحاكم بديار مصر في أيام الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن مات العزيز، فمال الأمير فخر الدين جهاركس إلى ولاية ابن الملك العزيز، وفاوض في ذلك الأمير سيف الدين يازكوج الأسديّ، وهو يومئذ مقدّم الطائفة الأسدية، وكان الملك العزيز قد أوصى بالملك لولده محمد، وأن يكون الأمير الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسديّ مدبر أمره، فأشار يازكوج بإقامة الملك الأفضل عليّ بن صلاح الدين في تدبير أمير ابن العزيز، فكره جهاركس ذلك، ثم أنهم أقاموا ابن العزيز ولقبوه بالملك المنصور وعمره نحو تسع سنين، ونصبوا قراقوش اتابكا، وهم في الباطن يختلفون عليه، وما زالوا يسعون عليه في إبطال أمر قراقوش حتى اتفقوا على مكاتبة الأفضل المتقدّم ذكره، وحضوره إلى مصر ويعمل اتابكية المنصور مدّة سبع سنين حتى يتأهل بالاستبداد بالملك، بشرط أن لا يرفع فوق رأسه سنجق الملك، ولا يذكر اسمه في خطبة، ولا سكة، فلما سار القاصد إلى الأفضل بكتب الأمراء، بعث جهاركس في الباطن قصدا على لسانه ولسان الطائفة الصلاحية بكتبهم إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكتب إلى الأمير ميمون القصريّ صاحب نابلس يأمره بأن لا يطيع الملك الأفضل، ولا يحلف له، فاتفق خروج الملك الأفضل من صرخد «1» ، ولقاه قاصد فخر الدين جهاركس فأخذ منه الكتب وقال: له ارجع فقد قضيت الحاجة، وسار إلى القاهرة ومعه القاصد، فلما خرج الأمراء من القاهرة إلى لقائه ببلبيس، فعمل له فخر الدين سماطا احتفل فيه احتفالا زائدا لينزل عنده، فنزل عند أخيه الملك المؤيد نجم الدين مسعود، فشق ذلك على جهاركس، وجاء إلى خدمته، فلما فرغ من طعام أخيه صار إلى خيمة جهاركس

وقعد ليأكل، فرأى جهاركس قاصده الذي سيره في خدمة الأفضل، فدهش وأيقن بالشر، فللحال استأذن الأفضل أن يتوجه إلى العرب المختلفين بأرض مصر ليصلح بينهم، فأذن له وقام من فوره واجتمع بالأمير زين الدين قراجا، والأمير أسد الدين قراسنقر، وحسّن لهما مفارقة الأفضل، فسارا معه إلى القدس وغلبوا عليه، ووافقهم الأمير عز الدين أسامة، والأمير ميمون القصري، فقدم عليهم في سبعمائة فارس، ولما صاروا كلمة واحدة كتبوا إلى الملك العادل يستدعونه للقيام باتابكية الملك المنصور محمد بن العزيز بمصر. وأما الأفضل فإنه لما دخل من بلبيس إلى القهرة، قام بتدبير الدولة، وأمر الملك بحيث لم يبق للمنصور معه سوى مجرّد الاسم فقط، وشرع في القبض على الطائفة الصلاحية أصحاب جهاركس، ففرّوا منه إلى جهاركس بالقدس، فقبض على من قدر عليه منهم ونهب أموالهم، فلما زالت دولة الأفضل من مصر بقدوم الملك العادل أبي بكر بن أيوب، استولى فخر الدين جهاركس على بانياس «1» بأمر العادل، ثم انحرف عنه وكانت له أنباء إلى أن مات، فانقضى أمر الطائفة الصلاحية بموته وموت الأمير قارجا وموت الأمير أسامة، كما انقضى أمر غيرهم. قيسارية الفاضل: هذه القيسارية على يمنة من يدخل من باب زويلة، عرفت بالقاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ، وهي الآن في أوقاف المارستان المنصوريّ، أخبرني شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد العزيز العذريّ البشبيشيّ رحمه الله قال: أخبرني القاضي بدر الدين أبو إسحاق إبراهيم بن القاضي صدر الدين أبي البركات أحمد بن فخر الدين أبي الروح عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن المعروف بابن الخشاب: أن قيسارية الفاضل وقفت بضع عشرة مرّة، منها مرّتين أو أكثر زف كتاب وقفها بالأغاني في شارع القاهرة، وهي الآن تشتمل على قيسارية ذات بحرة ماء للوضوء بوسطها، وأخرى بجانبها، يباع فيها جهاز النساء وشوارهنّ، ويعلوها ربع فيه عّدة مساكن. قيسارية بيبرس: هذه القيسارية على رأس باب الجودرية من القاهرة، كان موضعها دارا تعرف بدار الأنماط، اشتراها وما حولها الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكيريّ قبل ولايته السلطنة، وهدمها وعمر موضعها هذه القيسارية والربع فوقها، وتولى عمارة ذلك مجد الدين بن سالم الموقع، فلما كملت طلب سائر تجارة قيسارية جهاركس، وقيسارية الفاضل، وألزمهم بإخلاء حوانيتهم من القيساريتين، وسكناهم بهذه القيسارية، وأكرههم على ذلك وجعل أجرة كل حانوت منها مائة وعشرين درهما نقرة، فلم يسع التجار إلا استئجار حوانيتها، وصار كثير منهم يقوم بأجرة الحانوت الذي ألزم به في هذه القيسارية من غير أن يترك حانوته الذي هو معه بإحدى القيساريتين المذكورتين، ونقل أيضا صناع

الأخفاف وأسكنهم في الحوانيت التي خارجها، فعمرت من داخلها وخارجها بالناس في يومين، وجاء إلى مخدومه الأمير بيبرس وكان قد ولي السلطنة وتقلب بالملك المظفر وقال: بسعادة السلطان أسكنت القيسارية في يوم واحد، فنظر إليه طويلا وقال: يا قاضي إن كنت أسكنتها في يوم واحد فهي تخلو في ساعة واحدة. فجاء الأمر كما قال، وذلك أنه لما فرّ بيبرس من قلعة الجبل لم يبت في هذه القيسارية لأحد من سكانها قطعة قماش، بل نقلوا كل ما كان لهم فيها وخلت حوانيتها مدّة طويلة، ثم سكنها صنّاع الأخفاف، كل حانوت بعشرة دراهم، وفي حوانيتها ما أجرته ثمانية دراهم، وهي الآن جارية في أوقاف الخانقاه الركنية بيبرس، ويسكنها صناع الأخفاف، وأكثر حوانيتها غير مسكون لخرابها ولقلة الاخفافيين، ويعرف الخط الذي هي فيه اليوم بالأخفافيين رأس الجودرية. القيسارية الطويلة: هذه القيسارية في شارع القاهرة بسوق الخردفوشيين، فيما بين سوق المهامزيين وسوق الجوخيين، ولها باب آخر عند باب سر حمّام الخرّاطين، كانت تعرف قديما بقيسارية السروج بناها ... «1» . قيسارية ... «2» : هذه القيسارية تجاه قيسارية السروج المعروفة الآن بالقيسارية الطويلة، بعضها وقفه القاضي الأشرف بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ، على ملء الصهريج بدرب ملوخيا، وبعضها وقف الصالح طلائع بن رزيك الوزير، وقد هدمت هذه القيسارية وبناها الأمير جاني بك دوادار السلطان الملك الأشرف برسباي الدقاقيّ الظاهريّ، في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، تربيعة تتصل بالوراقين، ولها باب من الشارع، وجعل علوها طباقا، وعلى بابها حوانيت، فجاءت من أحسن المباني. قيسارية العصفر: هذه القيسارية بشارع القاهرة، لها باب من سوق المهامزيين، وباب من سوق الورّاقين، عرفت بذلك من أجل أن العصفر كان يدق بها. أنشأها الأمير علم الدين سنجر المسروريّ المعروف بالخياط والي القاهرة، ووقفها في سنة اثنتين وتسعين وستمائة، ولم تزل باقية بيد ورثته إلى أن ولي القاضي ناصر الدين محمد بن البارزيّ الحمويّ كتابة السرّ في أيام المؤيد شيخ، فاستأجرها مدّة أعوام من مستحقيها، ونقل إليها العنبريين، فصارت قيسارية عنبر، وذلك في سنة ست عشرة وثمانمائة، ثم انتقل منها أهل العنبر إلى سوقهم في سنة ثماني عشرة وثمانمائة. قيسارية العنبر: قد تقدّم في ذكر الأسواق أنها كانت سجنا، وأن الملك المنصور قلاون عمّرها في سنة ثمانين وستمائة، وجعلها سوق عنبر.

قيسارية الفائزي: هذه القيسارية كانت بأوّل الخرّاطين مما يلي المهامزيين، لها باب من المهامزيين، وباب من الخرّاطين. أنشأها الوزير الأسعد شرف الدين أبو القاسم هبة الله بن صاعد بن وهيب الفارسيّ، كان من جملة نصارى صعيد مصر، وكتب على مبايض ناحية سيوط بدرهم وثلث في كل يوم، ثم قدم إلى القاهرة وأسلم في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وخدم عند الملك الفائز إبراهيم بن الملك العادل، فنسب إليه وتولى نظر الديوان في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب مدّة يسيرة، ثم ولى بعض أعمال ديار مصر، فنقل عنه ما أوجب الكشف عليه، فندب موفق الدين الأمديّ لذلك، فاستقرّ عوضه وسجنه مدّة، ثم أفرج عنه وسافر إلى دمشق وخدم بها الأمير جمال الدين يغمور نائب السلطنة بدمشق، فلما قدم الملك المعظم توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب من حصن كتبغا إلى دمشق بعد موت أبيه ليأخذ مملكة مصر، سار معه إلى مصر في شوال سنة سبع وأربعين وستمائة، فلما قامت شجرة بتدبير المملكة بعد قتل المعظم، تعلق بخدمة الأمير عز الدين آيبك التركمانيّ مقدّم العساكر إلى أن تسلطن، وتلقب بالملك المعز، فولاه الوزارة في سنة ثمان وأربعين وستمائة، فأحدث مظالم كثيرة وقرّر على التجار وذوي اليسار أموالا تجبى منهم، وأحدث التقويم والتصقيع على سائر الأملاك، وجبى منها مالا جزيلا، ورتّب مكوسا على الدواب من الخيل والجمال والحمير وغيرها، وعلى الرقيق من العبيد والجواري، وعلى سائر المبيعات، وضمن المنكرات من الخمر والمزر والحشيش وبيوت الزواني بأموال، وسمى هذه الجهات بالحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية، وتمكن من الدولة تمكنا زائدا إلى الغاية، بحيث أنه سار إلى بلاد الصعيد بعساكر لمحاربة بعض الأمراء، وكان الملك المعز أيبك يكاتبه بالمملوك، وكثر ماله وعقاره حتى أنه لم يبلغ صاحب قلم في هذه الدول ما بلغه من ذلك، واقتنى عدّة مماليك، منهم من بلغ ثمنه ألف دينار مصرية، وكان يركب في سبعين مملوكا من مماليكه، سوى أرباب الأقلام والأتباع، وخرج بنفسه إلى أعمال مصر واستخرج أموالها، وكان ينوب عنه في الوزارة زين الدين يعقوب بن الزبير، وكان فاضلا يعرف اللسان التركيّ، فصار يضبط له مجالس الأمراء ويعرّفه ما يدور بينهم من الكلام، فلم يزل على تمكنه وبسط يده وعظم شأنه إلى أن قتل الملك المعز وقام من بعده ابنه الملك المنصور نور الدين عليّ، وهو صغير، فاستقرّ على عادته حتى شهد عليه الأمير سابق الدين بوزبا الصيرفيّ، والأمير ناصر الدين محمد بن الأطروش الكرديّ أمير جاندار، أنه قال المملكة لا تقوم بالصبيان الصغار، والرأي أن يكون الملك الناصر صاحب الشام ملك مصر، وأنه قد عزم على أن يسير إليه يستدعيه إلى مصر ويساعده على أخذ المملكة، فخافت أمّ السلطان منه وقبضت عليه وحبسته عندها بقلعة الجبل، ووكلت بعذابه الصارم أحمر عينه العماديّ الصالحي، فعاقبه عقوبة عظيمة، ووقعت الحوطة على سائر أمواله وأسبابه وحواشيه، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، ثم خنق لليال مضت من

جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وستمائة، ولفّ في نخ ودفن بالقرافة. واستقرّ من بعده في الوزارة قاضي القضاة بدر الدين السنجاريّ مع ما بيده من قضاء القضاة، ولم تزل هذه القيسارية باقية، وكانت تعرف بقيسارية النشاب إلى أن أخذها الأمير جمال الدين يوسف الاستادار، هي والحوانيت على يمنة من سلك من الخرّاطين يريد الجامع الأزهر، وفيما بينهما كان باب هذه القيسارية، وكانت هذه الحوانيت تعرف بوقف تمرتاش، وهدم الجميع وشرع في بنائه، فقتل قبل أن يكمل، وأخذه الملك الناصر فرح، فبنيت الحوانيت التي هي على الشارع بسوق المهامزيين، وصار ما بقي ساحة عمرها القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقي ناظر الجيش قيسارية يعلوها ربع، وبنى أيضا على حوانيت جمال الدين ربعا، وذلك في سنة خمس وعشرين وثمانمائة. وقال الإمام عفيف الدين أبو الحسن عليّ بن عدلان يمدح الأسعد الفائزيّ رحمه الله ابن صاعد، وابنه المرتضى: مذ تولى أمورنا ... لم أزل منه ذاهبه وهو إن دام أمره ... شدّة العيش ذاهبه قيسارية بكتمر: هذه القيسارية بسوق الحريريين بالقرب من سوق الوراقين، كانت تعرف قديما بالصاغة، ثم صارت فندقا يقال له فندق حكم، وأصلها من جملة الدار العظمى التي تعرف بدار المأمون بن البطائحي، وبعضها المدرسة السيوفية. أنشأ هذه القيسارية الأمير بكتمر الساقي في أيام الناصر محمد بن قلاوون. قيسارية ابن يحيى: هذه القيسارية كانت تجاه باب قيسارية جهاركس، حيث سوق الطيور، وقاعات الحلوى، أنشأها القاضي المفضل هبة الله بن يحيى التميميّ المعدّل، كان موثقا كاتبا في الشروط الحكمية في حدود سنة أربعين وخمسمائة في الدولة الفاطمية، ثم صار من جملة العدول، وبقي إلى سنة ثمانين، وله ابن يقال له كمال الدين عبد المجيد القاضي المفضل، ولكمال الدين ابن يقال له جلال الدين محمد بن كمال الدين عبد المجيد بن القاضي المفضل هبة الله بن يحيى، مات في آخر سنة ستين وسبعمائة، وقد خربت هذه القيسارية ولم يبق لها أثر. قيسارية طاشتمر: هذه القيسارية بجوار الوراقين، لها باب كبير من سوق الحريريين، على يسرة من سلك إلى الزجاجين وباب من الوراقين. أنشأها الأمير طاشتمر في أعوام بضع وثلاثين وسبعمائة، وسكنها عقادوا الأزرار حتى غصت بهم مع كبرها وكثرة حوانيتها، وكان لهم منظر بهيج، فإنّ أكثرهم من بياض الناس، وتحت يد كل معلم منهم عدّة صبيان من أولاد الأتراك وغيرهم فطالما مررت منها إلى سوق الوراقين، وداخلني حياء من كثرة من أمرّ به هناك، ثم لما حدثت المحن في سنة ست وثمانمائة تلاشى أمرها وخرب الربع الذي كان

علوها، وبيعت أنقاضه، وبقيت فيها اليوم بقية يسيرة. قيسارية الفقراء: هذه القيسارية خارج باب زويلة بخط تحت الربع أنشأها «1» . قيسارية بشتاك: خارج باب زويلة بخط تحت الربع، أنشأها الأمير بشتاك الناصريّ وهي الآن «2» . قيسارية المحسني: خارج باب زويلة تحت الربع، أنشأها الأمير بدر الدين بيلبك المحسني، والي الإسكندرية، ثم والي القاهرة، كان شجاعا مقداما، فأخرجه الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الشام وبها مات في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، فأخذ ابنه الأمير ناصر الدين محمد بن بيلبك المحسني إمرته، فلما مات الملك الناصر قدم إلى القاهرة وولاه الأمير قوصون ولاية القاهرة في سابع عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، فلما قبض على قوصون في يوم الثلاثاء آخر شهر رجب منها، أمسك ابن المحسني وأعيد نجم الدين إلى ولاية القاهرة، ثم عزل من يومه وولي الأمير جمال الدين يوسف والي الجيزة، فأقام أربعة أيام وعزل بطلب العامّة عزله ورجمه، فأعيد نجم الدين. قيسارية الجامع الطولوني: هذه القيسارية كان موضعها في القديم من جملة قصر الإمارة الذي بناه الأمير أبو العباس أحمد بن طولون، وكان يخرج منه إلى الجامع من باب في جداره القبليّ، فلما خرب صار ساحة أرض، فعمر فيها القاضي تاج الدين المناوي خليفة الحكم عن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة قيسارية في سنة خمسين وسبعمائة من فائض مال الجامع الطولوني، فكمل فيها ثلاثون حانوتا، فلما كانت ليلة النصف من شهر رمضان من هذه السنة، رأى شخص من أهل الخير رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وقد وقف على باب هذه القيسارية وهو يقول: بارك الله لمن يسكن هذه القيسارية، وكرّر هذا القول ثلاث مرّات. فلما قص هذه الرؤيا رغب الناس في سكناها، وصارت إلى اليوم هي وجميع ذلك السوق في غاية العمارة، وفي سنة ثماني عشرة وثمانمائة أنشأها قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن نصير بن رسلان البلقينيّ من مال الجامع المذكور قيسارية أخرى، فرغب الناس في سكناها لوفور العمارة بذلك الخط. قيسارية ابن ميسر الكبرى: هذه القيسارية أدركتها بمدينة مصر في خط سويقة وردان، وهي عامرة يباع بها القماش الجديد من الكتان الأبيض والأزرق والطرح، وتمضي تجار القاهرة إليها في يومي الأحد والأربعاء لشراء الأصناف المذكورة، وذكر ابن المتوّج أن لها

ذكر الخانات والفنادق

خمسة أبواب، وأنها وقف، ثم وقعت الحوطة عليها فجرت في الديوان السلطانيّ، وقصدوا بيعها مرارا فلم يقدر أحد على شرائها، وكان بها عمد رخام، فأخذها الديوان وعوّضت بعمد كدان، وأنه شاهدها مسكونة جميعها، عامرة. انتهى. وقد خرب ما حولها بعد سنة ستين وسبعمائة، وتزايد الخراب حتى لم يبق حولها سوى كيمان، فعمل لها باب واحد، وتردّد الناس إليها في اليومين المذكورين لا غير، فلما كانت الحوادث منذ سنة ست وثمانمائة واستولى الخراب على أقليم مصر تعطلت هذه القيسارية ثم هدمت في سنة ست عشرة وثمانمائة. قيسارية عبد الباسط: هذه القيسارية برأس الخرّاطين من القاهرة، كان موضعها يعرف قديما بعقبة الصباغين، ثم عرف بالقشاشين، ثم عرف بالخرّاطين، وكان هناك مارستان ووكالة في الدولة الفاطمية، وأدركنا بها حوانيت تعرف بوقف تمرتاش المعظميّ، فأخذها الأمير جمال الدين الأستادار فيما أخذ من الأوقاف، فلما قتل أخذ الناصر فرج جانبا منها وجدّد عمارتها ووقفها على تربة أبيه الظاهر برقوق، ثم أخذها زين الدين عبد الباسط بن خليل في أيام المؤيد شيخ، وعمل في بعضها هذه القيسارية وعلوها، ووقفها على مدرسته وجامعه، ثم أخذ السلطان الملك الأشرف برسباي بقية الحوانيت من وقف جمال الدين وجدّد عمارتها في سنة سبع وعشرين وثمانمائة. ذكر الخانات والفنادق خان مسرور: خان مسرور مكانان، أحدهما كبير والآخر صغير، فالكبير على يسرة من سلك من سوق باب الزهومة إلى الحريريين، كان موضعه خزانة الدرق التي تقدّم ذكرها في خزائن القصر، والصغير على يمنة من سلك من سوق باب الزهومة إلى الجامع الأزهر، كان ساحة يباع فيها الرقيق، بعد ما كان موضع المدرسة الكاملية هو سوق الرقيق. قال ابن الطوير: خزانة الدرق كانت في المكان الذي هو خان مسرور، وهي برسم استعمالات الأساطيل من الكبورة الخرجية والخود الجلودية وغير ذلك. وقال ابن عبد الظاهر فندق مسرور؛ مسرور هذا من خدّام القصر، خدم الدولة المصرية واختص بالسلطان صلاح الدين رحمه الله، وقدّمه على حلقته، ولم يزل مقدّما في كل وقت، وله برّ وإحسان ومعروف، ويقصد في كل حسنة وأجر وبرّ، وبطل الخدمة في الأيام الكاملية، وانقطع إلى الله تعالى ولزم داره، ثم بنى الفندق الصغير إلى جانبه، وكان قبل بنائه ساحة يباع فيها الرقيق، اشترى ثلثها من والدي رحمه الله، والثلثين من ورثة ابن عنتر، وكان قد ملك الفندق الكبير لغلامه ريحان وحبسه عليه، ثم من بعده على الأسرى والفقراء بالحرمين، وهو مائة بيت إلّا بيتا، وبه مسجد تقام فيه الجماعة والجمع، ولمسرور

المذكور برّ كثير بالشام وبمصر، وكان قد وصى أن تعمل داره وهي بخط حارة الأمراء مدرسة، ويوقف الفندق الصغير عليها، وكانت له ضعية بالشام بيعت للأمير سيف الدين أبي الحسن القيمريّ بجملة كبيرة، وعمرت المدرسة المذكورة بعد وفاته. انتهى. وقد أدركت فندق مسرور الكبير في غاية العمارة، تنزله أعيان التجار الشاميين بتجاراتهم، وكان فيه أيضا مودع الحكم الذي فيه أموال اليتامى والغياب، وكان من أجلّ الخانات وأعظمها، فلما كثرت المحن بخراب بلاد الشام منذ سنة تيمورلنك، وتلاشت أحوال إقليم مصر، قلّ التجار وبطل مودع الحكم، فقلّت مهابة هذا الخان وزالت حرمته وتهدّمت عدّة أماكن منه، وهو الآن بيد القضاة. فندق بلال المغيثي: هذا الفندق فيما بين خط حمّام خشيبة وحارة العدوية، أنشأه الأمير الطواشي أبو المناقب حسام الدين بلال المغيثي، أحد خدّام الملك المغيث صاحب الكرك، كان حبشيّ الجنس، حالك السواد، خدم عدّة من الملوك، واستقرّ لالا الملك الصالح عليّ بن الملك المنصور قلاوون، وكان معظما إلى الغاية، يجلس فوق جميع أمراء الدولة، وكان الملك المنصور قلاوون إذا رآه يقول: رحم الله أستاذنا الملك الصالح نجم الدين أيوب، أنا كنت أحمل شارموزة هذا الطواشي حسام الدين كلما دخل إلى السلطان الملك الصالح حتى يخرج من عنده، فأقدّمها له، وكان كثير البرّ والصدقات وله أموال جزيلة، ومدحه عدّة من الشعراء، وأجاز على المديح، وتجاوز عمره ثمانين سنة، فلما خرج الملك الناصر محمد بن قلاون لقتال التتر في سنة تسع وتسعين وستمائة سافر معه، فمات بالسوادة ودفن بها، ثم نقل منها بعد وقعة شقحب إلى تربته بالقرافة فدفن هناك، وما برح هذا الفندق يودع فيه التجار وأرباب الأموال صناديق المال، ولقد كنت أدخل فيه فإذا بدائرة صناديق مصطفة ما بين صغير وكبير، لا يفضل عنها من الفندق غير ساحة صغيرة بوسطه، وتشتمل هذه الصناديق من الذهب والفضة على ما يجلّ وصفه، فلما أنشأ الأمير الطواشي زين الدين مقبل الزمام الفندق بالقرب منه، وأنشأ الأمير قلمطاي الفندق بالزجاجين، وأخذ الأمير يلبغا السالميّ أموال الناس في واقعة تيمورلنك في سنة ثلاث وثمانمائة، تلاشى أمر هذا الفندق وفيه إلى الآن بقية. فندق الصالح: هذا الفندق بجوار باب القوس الذي كان أحد بابي زويلة، فمن سلك اليوم من المسجد المعروف بسام بن نوح يريد باب زويلة، صار هذا الفندق على يساره، وأنشأه هو وما يعلوه من الربع، الملك الصالح علاء الدين عليّ بن السلطان الملك المنصور قلاون، وكان أبوه لما عزم على المسير إلى محاربة التتر ببلاد الشام، سلطنه وأركبه بشعار السلطنة من قلعة الجبل في شهر رجب سنة تسع وسبعين وستمائة، وشق به شارع القاهرة من باب النصر إلى أن عاد إلى قلعة الجبل، وأجلسه على مرتبته، وجلس إلى جانبه،

فمرض عقيب ذلك ومات ليلة الجمعة الرابع من شعبان، فأظهر السلطان لموته جزعا مفرطا وحزنا زائدا، وصرخ بأعلى صوته واولداه، ورمى كلوتته عن رأسه إلى الأرض وبقي مكشوف الرأس إلى أن دخل الأمراء إليه وهو مكشوف الرأس يصرخ واولداه، فعندما عاينوه كذلك ألقوا كلوتاتهم عن رؤوسهم وبكوا ساعة، ثم أخذ الأمير طرنطاي النائب شاش السلطان من الأرض وناوله للأمير سنقر الأشقر، فأخذه ومشى وهو مكشوف الرأس، وباس الأرض وناول الشاش للسلطان، فدفعه وقال: ايش أعمل بالملك بعد ولدي، وامتنع من لبسه، فقبّل الأمراء الأرض يسألون السلطان في لبس شاشه، ويخضعون له في السؤال ساعة حتى أجابهم وغطى رأسه، فلما أصبح خرجت جنازته من القلعة ومعها الأمراء من غير حضور السلطان، وصاروا بها إلى تربة أمه المعروفة «1» خاتون، قريبا من المشهد النفيسيّ، فواروه وانصرفوا، فلما كان يوم السبت ثانية، نزل السلطان من القلعة وعليه البياض تحزنا على ولده، وسار ومعه الأمراء بثياب الحزن إلى قبر ابنه وأقيم العزاء لموته عدّة أيام. خان السبيل: هذا الخان خارج باب الفتوح، قال ابن عبد الظاهر: خان السبيل بناه الأمير بهاء الدين أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسديّ خادم أسد الدين شيركوه، وعتيقه لأبناء السبيل والمسافرين بغير أجرة، وبه بئر ساقية وحوض. وقراقوش هذا: هو الذي بنى السور المحيط بالقاهرة ومصر وما بينهما، وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام، وعمر بالمقس رباطا، وأسره الفرنج في عكا وهو واليها، فافتكه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بعشرة آلاف دينار، وتوفي مستهل رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة، ودفن بسفح الجبل المقطم من القرافة. خان منكورش: هذا الخان بخط سوق الخيميين بالقرب من الجامع الأزهر. قال ابن عبد الظاهر: خان منكورش بناه الأمير ركن الدين منكورش زوج أمّ الأوحد بن العادل، ثم انتقل إلى ورثته، ثم انتقل إلى الأمير صلاح الدين أحمد بن شعبان الأبلي. فوقفه، ثم تحيل ولده في إبطال وقفه، فاشتراه منه الملك الصالح بعشرة آلاف دينار مصرية، وجعله مرصدا لوالدة خليل، ثم انتقل عنها. انتهى. قال مؤلفه: ومنكورش هذا كان أحد مماليك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتقدّم حتى صار أحد الأمراء الصالحية، وعرف بالشجاعة والنجدة، وإصابة الرأي وجودة الرمي وثبات الجأش، فلما مات في شوّال سنة سبع وسبعين وخمسمائة، أخذ إقطاعه الأمير ياركوج الأسديّ، وهذا الخان الآن يعرف بخان النشارين، على يسرة من سلك من الخراطين إلى الخيميين، وهو وقف على جهات برّ.

فندق ابن قريش: هذا الفندق، قال ابن عبد الظاهر: فندق ابن قريش استجدّه القاضي شرف الدين إبراهيم بن قريش، كاتب الإنشاء، وانتقل إلى ورثته. انتهى. إبراهيم بن عبد الرحمن بن عليّ بن عبد العزيز بن عليّ بن قريش: أبو إسحاق القرشيّ المخزوميّ المصريّ الكاتب شرف الدين، أحد الكتاب المجيدين خطا وإنشاء، خدم في دولة الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وفي دولة ابنه الملك الكامل محمد بديوان الإنشاء، وسمع الحديث بمكة ومصر، وحدّث، وكانت ولادته بالقاهرة في أوّل يوم من ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وقرأ القرآن وحفظ كثيرا من كتاب المهذب في الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ، وبرع في الأدب، وكتب بخطه ما يزيد على أربعمائة مجلد، ومات في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وكالة قوصون: هذه الوكالة في معنى الفنادق والخانات، ينزلها التجار ببضائع بلاد الشام من الزيت والشيرج والصابون والدبس والفستق والجوز واللوز والخرنوب والرب ونحو ذلك، وموضعها فيما بين الجامع الحاكميّ ودار سعيد السعداء، كانت أخيرا دارا تعرف بدار تعويل البوعاني، فأخربها وما جاورها الأمير قوصون، وجعلها فندقا كبيرا إلى الغاية، وبدائره عدة مخازن، وشرط أن لا يؤجر كل مخزن إلا بخمسة دراهم من غير زيادة على ذلك، ولا يخرج أحد من مخزنه، فصارت هذه المخازن تتوارث لقلة أجرتها وكثرة فوائدها، وقد أدركنا هذه الوكالة، وأن رؤيتها من داخلها وخارجها لتدهش لكثرة ما هنالك من أصناف البضائع وازدحام الناس وشدّة أصوات العتالين عند حمل البضائع ونقلها لمن يبتاعها، ثم تلاشى أمرها منذ خربت الشام في سنة ثلاث وثمانمائة على يد تيمورلنك، وفيها إلى الآن بقية، ويعلو هذه الوكالة رباع تشتمل على ثلثمائة وستين بيتا، أدركناها عامرة كلها، ويحزر أنها تحوي نحو أربعة آلاف نفس ما بين رجل وامرأة وصغير وكبير، فلما كانت هذه المحن في سنة ست وثمانمائة، خرب كثير من هذه البيوت وكثير منها عامر آهل. فندق دار التفاح: هذه الدار هي فندق تجاه باب زويلة، يرد إليه الفواكه على اختلاف أصنافها مما ينبت في بساتين ضواحي القاهرة، ومن التفاح والكمثرى والسفرجل الواصل من البلاد الشامية، إنما يباع في وكالة قوصون إذا قدم، ومنها ينقل إلى سائر أسواق القاهرة ومصر ونواحيهما، وكان موضع دار التفاح هذه في القديم من جملة حارة السودان التي عملت بستانا في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. وأنشأ هذه الدار الأمير طقوزدمر بعد سنة أربعين وسبعمائة، ووقفها على خانقاه بالقرافة، وبظاهر هذه الدار عدّة حوانيت تباع فيها الفاكهة تذكر رؤيتها وشمّ عرفها الجنة لطيبها وحسن منظرها، وتأنق الباعة في تنضيدها، واحتفافها بالرياحين والأزهار، وما بين الحوانيت مسقوف حتى لا يصل إلى الفواكه حرّ الشمس، ولا يزال ذلك الموضع غضا طريا إلّا أنه قد اختل منذ سنة ست

وثمانمائة، وفيه بقية ليست بذاك، ولم تزل إلى أن هدم علو الفندق وما بظاهره من الحوانيت في يوم السبت سادس عشر شعبان، سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وذلك أن الجامع المؤيديّ جاءت شبابيكه الغربية من جهة دار التفاح، فعمل فيها كما صار يعمل في الأوقاف، وحكم باستبدالها ودفع في ثمن نقضها ألف دينار إفريقية، عنها مبلغ ثلاثين ألف مؤيديّ فضة، ويتحصل من أجرتها إلى أن ابتدئ بهدمها في كل شهر سبعة آلاف درهم فلوسا، عنها ألف مؤيدي، فاستشنع هذا الفعل ومات الملك المؤيد ولم تكمل عمارة الفندق. وكالة باب الجوّانية: هذه الوكالة تجاه باب الجوّانية من القاهرة، فيما بين درب الرشيدي ووكالة قوصون، كان موضعها عدّة مساكن، فابتدأ الأمير جمال الدين محمود بن عليّ الأستادار بهدمها في يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وبناها فندقا وربعا بأعلاه، فلما كملت رسم الملك الظاهر برقوق أن تكون دار وكالة يرد إليها ما يصل إلى القاهرة وما يرد من صنف متجر الشام في البحر، كالزيت والرب والدبس، ويصير ما يرد في البرّ يدخل به على عادته إلى وكالة قوصون، وجعلها وقفا على المدرسة الخانقاه التي أنشأها بخط بين القصرين، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى اليوم. خان الخليلي: هذا الخان بخط الزراكشة العتيق، كان موضعه تربة القصر التي فيها قبور الخلفاء الفاطميين المعروفة بتربة الزعفران، وقد تقدّم ذكرها عند ذكر القصر من هذا الكتاب. أنشأه الأمير جهاركس الخليليّ أميراخور الملك الظاهر برقوق، وأخرج منها عظام الأموات في المزابل على الحمير وألقاها بكيمان البرقية، هوانا بها، فإنه كان يلوذ به شمس الدين محمد بن أحمد القليجي الذي تقدّم ذكره في ذكر الدور من هذا الكتاب وقال له: إن هذه عظام الفاطميين، وكانوا كفارا رفضة، فاتفق للخليليّ في موته أمر فيه عبرة لأولي الألباب، وهو أنه لما ورد الخبر بخروج الأمير بلبغا الناصريّ نائب حلب، ومجيء الأمير منطاش نائب ملطية إليه، ومسيرهما بالعساكر إلى دمشق، أخرج الملك الظاهر برقوق خمسمائة من المماليك، وتقدّم لعدّة من الأمراء بالمسير بهم، فخرج الأمير الكبير ايتمش الناصريّ والأمير جهاركس الخليل هذا، والأمير يونس الدوادار، والأمير أحمد بن بلبغا الخاصكيّ، والأمير ندكار الحاجب، وساروا إلى دمشق، فلقيهم الناصري ظاهر دمشق، فانكسر عسكر السلطان لمخامرة ابن بلبغا وندكار، وفرّ أيتمش إلى قلعة دمشق، وقتل الخليليّ في يوم الاثنين حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وترك على الأرض عاريا وسوءته مكشوفة، وقد انتفخ وكان طويلا عريضا إلى أن تمزق وبلي عقوبة من الله تعالى بما هتك من رمم الأئمة وأبنائهم، ولقد كان عفا الله عنه عارفا خبيرا بأمر دنياه، كثير الصدقة، ووقف هذا الخان وغيره على عمل خبز يفرّق بمكة على كل فقير، منه في اليوم رغيفان، فعمل ذلك مدّة سنين، ثم لما عظمت الأسعار بمصر وتغيرت نقودها، من سنة ست وثمانمائة، صار يحمل إلى مكة مال ويفرّق بها على الفقراء.

ذكر الأسواق

فندق طرنطاي: هذا الفندق كان بخارج باب البحر ظاهر المقس، وكان ينزل فيه تجار الزيت الواردون من الشام، وكان فيه ستة عشر عمودا من رخام طول، كل عمود ستة أذرع بذراع العمل، في دور ذراعين، ويعلوه ربع كبير، فلما كان في واقعة هدم الكنائس وحريق القاهرة ومصر في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، قدم تاجر بعد العصر بزيت، وزن في مكسه عشرين ألف درهم نقرة، سوى أصناف أخر قيمتها مبلغ تسعين ألف درهم نقرة، فلم يتهيأ له الفراغ من نقل الزيت إلى داخل هذا الفندق إلّا بعد العشاء الآخرة، فلما كان نصف الليل، وقع الحريق بهذا الفندق في ليلة من شهر ربيع الآخر منها، كما كان يقع في غير موضع من فعل النصارى، فأصبح وقد احترق جميعه حتى الحجارة التي كان مبنيا بها، وحتى الأعمدة المذكورة، وصارت كلها جيرا واحترق علوه، وأصبح التاجر يستعطي الناس وموضع هذا الفندق. ذكر الأسواق قال ابن سيدة: والسوق التي يتعامل فيها تذكر وتؤنث، والجمع أسواق، وفي التنزيل: إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ والسوقة لغة فيها، والسوقة من الناس من لم يكن ذا سلطان، الذكر والأنثى في ذلك سواء. وقد كان بمدينة مصر والقاهرة وظواهرها من الأسواق شيء كثير جدّا، قد باد أكثرها، وكفاك دليلا على كثرة عددها أن الذي خرب من الأسواق فيما بين أراضي اللوق إلى باب البحر بالمقص، اثنان وخمسون سوقا، أدركناها عامرة، فيها ما يبلغ حوانيته نحو الستين حانوتا، وهذه الخطة من جملة ظاهر القاهرة الغربيّ، فكيف ببقية الجهات الثلاث مع القاهرة ومصر، وسأذكر من أخبار الأسواق ما أجد سبيلا إلى ذكره إن شاء الله تعالى. القصبة: قال ابن سيدة: قصبة البلد، مدينته، وقيل معظمه. والقصبة هي أعظم أسواق مصر، وسمعت غير واحد ممن أدركته من المعمرين يقول: أنّ القصبة تحتوي على اثني عشر ألف حانوت، كأنهم يعنون ما بين أوّل الحسينية مما يلي الرمل إلى المشهد النفيسيّ، ومن اعتبر هذه المسافة اعتبارا جيدا لا يكاد أن ينكر هذا الخبر. وقد أدركت هذه المسافة بأسرها عامرة الحوانيت غاصة بأنواع المآكل والمشارب والأمتعة، تبهج رؤيتها ويعجب الناظر هيئتها، ويعجز العادّ عن إحصاء ما فيها من الأنواع، فضلا عن إحصاء ما فيها من الأشخاص، وسمعت الكافة ممن أدركت يفاخرون بمصر سائر البلاد ويقولون: يرمى بمصر في كل يوم ألف دينار ذهبا على الكيمان والمزابل، يعنون بذلك ما يستعمله اللبانون والجبانون والطباخون من الشقاف الحمر التي يوضع فيها اللبن، والتي يوضع فيها الجبن، والتي تأكل فيها الفقراء الطغام بحوانيت الطباخين، وما يستعمله بياعوا الجبن من الخيط والحصر التي تعمل تحت الجبن في الشقاف، وما يستعمله العطارون من القراطيس والورق

الفويّ، والخيوط التي تشدّ بها القراطيس الموضوع فيها حوائج الطعام من الحبوب والأفاوية وغيرها، فإن هذه الأصناف المذكورة إذا حملت من الأسواق وأخذ ما فيها ألقيت إلى المزابل، ومن أدرك الناس قبل هذه المحن وأمعن النظر فيما كانوا عليه من أنواع الحضارة والترف لم يستكثر ما ذكرناه. وقد اختلّ حال القصبة وخرب وتعطل أكثر ما تشتمل عليه من الحوانيت بعد ما كانت مع سعتها تضيق بالباعة، فيجلسون على الأرض في طول القصبة بأطباق الخبز وأصناف المعايش. ويقال لهم أصحاب المقاعد، وكل قليل يتعرّض الحكام لمنعهم وإقامتهم من الأسواق لما يحصل بهم من تضييق الشوارع وقلة بيع أرباب الحوانيت، وقد ذهب والله ما هناك ولم يبق إلا القليل، وفي القصبة عدّة أسواق، منها ما خرب، ومنها ما هو باق، وسأذكر منها ما يتيسر إن شاء الله تعالى. سوق باب الفتوح: هذا السوق في داخل باب الفتوح، من حدّ باب الفتوح الآن إلى رأس حارة بهاء الدين. معمور الجانبين بحوانيت اللحامين والخضريين والفاميين والشرايحية وغيرهم، وهو من أجلّ أسواق القاهرة وأعمرها، يقصده الناس من أقطار البلاد لشراء أنواع اللحمان الضأن والبقر والمعز، ولشراء أصناف الخضراوات، وليس هو من الأسواق القديمة، وإنما حدث بعد زوال الدولة الفاطمية عند ما سكن قراقوش في موضعه المعروف بحارة بهاء الدين، وقد تناقص عما كان فيه منذ عهد الحوادث، وفيه إلى الآن بقية صالحة. سوق المرحلين: هذا السوق أدركته من رأس حارة بهاء الدين إلى بحري المدرسة الصيرمية معمور الجانبين بالحوانيت المملوءة بر حالات الجمال وأقتابها، وسائر ما تحتاج إليه، يقصد من سائر إقليم مصر، خصوصا في مواسم الحج. فلو أراد الإنسان تجهيز مائة جمل وأكثر في يوم لما شق عليه وجود ما يطلبه من ذلك لكثرة ذلك عند التجار في الحوانيت بهذا السوق وفي المخازن. فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة وكثر سفر الملك الناصر فرج بن برقوق إلى محاربة الأمير شيخ والأمير نوروز بالبلاد الشامية، صار الوزراء يستدعون ما يحتاج إليه الجمال من الرحال والأقتاب وغيرها، فإما لا يدفع ثمنها أو يدفع فيها الشيء اليسير من الثمن، فاختلّ من ذلك حال المرحلين وقلت أموالهم بعد ما كانوا مشتهرين بالغناء الوافر والسعادة الطائلة، وخرب معظم حوانيت هذا السوق، وتعطل أكثر ما بقي منها، ولم يتأخر فيه سوى القليل. سوق خان الروّاسين: هذا السوق على رأس سويقة أمير الجيوش، قيل له ذلك من أجل أن هناك خانا تعمل فيه الرءوس المغمومة، وكان من أحسن أسواق القاهرة فيه عدّة من البياعين، ويشتمل على نحو العشرين حانوتا مملوءة بأصناف المآكل، وقد اختلّ وتلاشى أمره.

سوق حارة برجوان: هذا السوق من الأسواق القديمة، وكان يعرف في القديم أيام الخلفاء الفاطميين بسوق أمير الجيوش، وذلك أنّ أمير الجيوش بدر الجمالي لما قدم إلى مصر في زمن الخليفة المستنصر، وقد كانت الشدّة العظمى، بنى بحارة برجوان الدار التي عرفت بدار المظفر، وأقام هذا السوق برأس حارة برجوان. قال ابن عبد الظاهر: والسويقة المعروفة بأمير الجيوش معروفة بأمير الجيوش بدر الجمالي وزير الخليفة المستنصر، وهي من باب حارة برجوان إلى قريب الجامع الحاكمي، وهكذا تشهد مكاتيب دور حارة برجوان القديمة، فإنّ فيها والحدّ القبليّ ينتهي إلى سويقة أمير الجيوش، وسوق حارة برجوان هو في الحدّ القبليّ من حارة برجوان، وأدركت سوق حارة برجوان أعظم أسواق القاهرة، ما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان سكان جميع حارات القاهرة فنقول: بحارة برجوان حمّامات، يعني حمامي الرومي وحمام سويد فإنه كان يدخل إليها من داخل الحارة، وبها فرنان، ولها السوق الذي لا يحتاج ساكنها إلى غيره، وكان هذا السوق من سوق خان الروّاسين إلى سوق الشماعين، معمور الجانبين بالعدّة الوافرة من بياعي لحم الضأن السليخ، وبياعي اللحم السميط، وبياعي اللحم البقري، وبه عدّة كثيرة من الزياتين، وكثير من الجبانين والخبازين واللبانين والطباخين والشوّايين والبواردية والعطارين والخضريين، وكثير من بياعي الأمتعة، حتى أنه كان به حانوت لا يباع فيه إلّا حوائج المائدة وهي: البقل والكرّاث والشمار والنعناع، وحانوت لا يباع فيه إلا الشيرج والقطن فقط برسم تعمير القناديل التي تسرج في الليل. وسمعت من أدركت أنه كان يشتري من هذا الحانوت في كل ليلة شيرج مما يوضع في القناديل بثلاثين درهما فضة، عنها يومئذ دينار ونصف. وكان يوجد بهذا السوق لحم الضأن النيء والمطبوخ إلى ثلث الليل الأوّل، ومن قبل طلوع الفجر بساعة، وقد خرب أكثر حوانيت هذا السوق، ولم يبق لها أثر، وتعطل بأسره بعد سنة ست وثمانمائة، وصار أوحش من وتد في قاع بعد أن كان الإنسان لا يستطيع أن يمرّ فيه من ازدحام الناس ليلا ونهارا إلّا بمشقة، وكان فيه قبانيّ برسم وزن الأمتعة والمال والبضائع، لا يتفرّغ من الوزن ولا يزال مشغولا به، ومعه من يستحثه ليزن له. فلما كان بعد سنة عشر وثمانمائة أنشأ الأمير طوغان الدوادار بهذا السوق مدرسة وعمّر ربعا وحوانيت، فتحابي بعض الشيء وقبض على طوغان في سنة ست عشرة وثمانمائة، ولم تكمل عمارة السوق وفيه الآن بقية يسيرة. سوق الشماعين: هذا السوق من الجامع الأقمر إلى سوق الدجاجين، كان يعرف في الدولة الفاطمية بسوق القماحين، وعنده بنى المأمون بن البطائحي الجامع الأقمر باسم الخليفة الآمر بأحكام الله، وبنى تحت الجامع دكاكين ومخازن من جهة باب الفتوح،

وأدركت سوق الشماعين من الجانبين معمور الحوانيت بالشموع الموكبية والفانوسية والطوافات، لا تزال حوانيته مفتحة إلى نصف الليل، وكان يجلس به في الليل بغايا يقال لهنّ زعيرات الشماعين، لهنّ سيما يعرفن بها، وزيّ يتميزن به، وهو لبس الملاءات الطرح وفي أرجلهنّ سراويل من أديم أحمر، وكنّ يعانين الزعارة ويقفن مع الرجال المشالقين في وقت لعبهم، وفيهنّ من تحمل الحديد معها. وكان يباع في هذا السوق في كل ليلة من الشمع بمال جزيل، وقد خرب ولم يبق به إلّا نحو الخمس حوانيت بعد ما أدركتها تزيد على عشرين حانوتا، وذلك لقلة ترف الناس وتركهم استعمال الشمع، وكان يعلق بهذا السوق الفوانيس في موسم الغطاس، فتصير رؤيته في الليل من أنزه الأشياء، وكان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يشترى ويكتى من الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منهنّ عشرة أرطال فما دونها، ومن المزهرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يحمل على العجل ويبلغ وزن الواحدة منها القنطار وما فوقه، كل ذلك برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح، فيمرّ في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه، وقد تلاشى الحال في جميع ما قلنا لفقر الناس وعجزهم. سوق الدجاجين: هذا السوق كان مما يلي سوق الشماعين إلى سوق قبو الخرشتف، كان يباع فيه من الدجاج والأوز شيء كثير جليل إلى الغاية، وفيه حانوت فيه العصافير التي يبتاعها ولدان الناس ليعتقوها، فيباع منها في كل يوم عدد كثير جدّا، ويباع العصفور منها بفلس، ويخدع الصبيّ بأنه يسبح، فمن أعتقه دخل الجنة، ولكل واحد حينئذ رغبة في فعل الخير، وكان يوجد في كل وقت بهذه الحوانيت من الأقفاص التي بها هذه العصافير آلاف، ويباع بهذا السوق عدّة أنواع من الطير، وفي كل يوم جمعة يباع فيه بكرة أصناف القماري والهزارات والشحارير واللبغاء والسّمّان، وكنا نسمع أن من السّمّان ما يبلغ ثمنه المئات من الدراهم، وكذلك بقية طيور المسموع يبلغ الواحد منها نحو الألف، لتنافس الناس فيها وتوفر عدد المعتنين بها، وكان يقال لهم غواة طيور المسموع سيما الطواشية، فإنه كان يبلغ بهم الترف أن يقتنوا السّمّان ويتأنقوا في أقفاصه ويتغالوا في أثمانه حتى بلغنا أنه بيع طائر من السمان بألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الخمسين دينارا من الذهب، كل ذلك لإعجابهم بصوته، وكان صوته على وزن قول القائل: «طقطلق وعوع» وكلما كثر صياحه كانت المغالاة في ثمنه، فاعتبر بما قصصته عليك حال الترف الذي كان فيه أهل مصر، ولا تتخذ حكاية ذلك هزؤا تسخر به، فتكون ممن لا تنفعه المواعظ بل يمرّ بالآيات معرضا غافلا فتحرم الخير. وكان بهذا السوق قيسارية عملت مرّة سوقا للكتبيين، ولها باب من وسط سوق

الدجاجين، وباب من الشارع الذي يسلك فيه من بين القصرين إلى الركن المخلق، فاتفق أن ولي نيابة النظر في المارستان المنصوري عن الأمير الكبير ايتمش النحاسي الظاهريّ أمير يعرف بالأمير خضر ابن التنكزية، فهدم هذا السوق والقيسارية وما يعلوها، وأنشأ هذه الحوانيت والرباع التي فوقها تجاه ربع الكامل الذي يعلو ما بين درب الخضيري وقبو الخرشتف، فلما كمل أسكن في الحوانيت عدّة من الزياتين وغيرهم، وبقي من الدجاجين بهذا السوق بقية قليلة. سوق بين القصرين: هذا السوق أعظم أسواق الدنيا فيما بلغنا، وكان في الدولة الفاطمية براحا واسعا يقف فيه عشرة آلاف ما بين فارس وراجل، ثم لما زالت الدولة ابتذل وصار سوقا يعجز الواصف عن حكاية ما كان فيه، وقد تقدّم ذكره في الخطط من هذا الكتاب، وفيه إلى الآن بقية تحزنني رؤيتها إذ صارت إلى هذه القلة. سوق السلاح: هذا السوق فيما بين المدرسة الظاهرية بيبرس وبين باب قصر بشتاك، استجدّ فيما بعد الدولة الفاطمية في خط بين القصرين. وجعل لبيع القسيّ والنشاب والزرديات وغير ذلك من آلات السلاح، وكان تجاهه خان يقابل الخان الذي هو الآن بوسط سوق السلاح، وعلى بابه من الجانبين حوانيت تجلس فيها الصيارف طول النهار، فإذا كان عصريات كل يوم جلس أرباب المقاعد تجاه حوانيت الصيارف لبيع أنواع من المآكل، ويقابلهم تجاه حوانيت سوق السلاح أرباب المقاعد أيضا، فإذا أقبل الليل أشعلت السرج من الجانبين وأخذ الناس في التمشي بينهما على سبيل الاسترواح والتنزه، فيمرّ هنالك من الخلاعات والمجون ما لا يعبر عنه بوصف، فلما أنشأ الملك الظاهر برقوق المدرسة الظاهرية المستجدّة صارت في موضع الخان وحوانيت الصرف تجاه سوق السلاح، وقلّ ما كان هناك من المقاعد وبقي منها شيء يسير. سوق القفيصات: بصيغة الجمع، والتصغير هكذا يعرف كأنه جمع قفيص، فإنه كله معدّ لجلوس أناس على تخوت تجاه شبابيك القبة المنصورية، وفوق تلك التخوت أقفاص صغار من حديد مشبك فيها الطرائف من الخواتيم والفصوص وأساور النسوان وخلاخيلهنّ وغير ذلك، وهذه الأقفاص يأخذ أجرة الأرض التي هي عليها مباشر المارستان المنصوري، وأصل هذه الأرض كانت من حقوق أرض موقوفة على جامع المقس، فدخل بعضها في القبة المنصورية، وصار بعضها كما ذكرنا وإلى اليوم يدفع من وقف المارستان حكر هذه الأرض لجامع المقس، ولما ولي نظر المارستان الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك في سنة ست وعشرين وسبعمائة، عمل فيه أشياء من ماله، منها خيمة ذرعها مائة ذراع، نشرها من أوّل جدار القبة المنصورية بحذاء المدرسة الناصرية إلى آخر حدّ المدرسة المنصورية بجوار الصاغة، فصارت فوق مقاعد الأقفاص تظلهم من حرّ الشمس، وعمل لها

حبالا تمدّ بها عند الحرّ وتجمع بها إذا امتدّ الظل، وجعلها مرتفعة في الجوّ حتى ينحرف الهواء، ثم لما كان شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة نقلت الأقفاص منه إلى القيسارية التي استجدّت تجاه الصاغة. سوق باب الزهومة: هذا السوق عرف بذلك من أجل أنه كان هناك في الأيام الفاطمية باب من أبواب القصر يقال له باب الزهومة، تقدّم ذكره في ذكر أبواب القصر من هذا الكتاب. وكان موضع هذا السوق في الدولة الفاطمية سوق الصيارف، ويقابله سوق السيوفيين، من حيث الخشيبة إلى نحو رأس سوق الحريريين اليوم، وسوق العنبر الذي كان إذ ذاك سجنا يعرف بالمعونة، ويقابل السيوفيين إذ ذاك سوق الزجاجين، وينتهي إلى سوق القشاشين الذي يعرف اليوم بالخرّاطين، فلما زالت الدولة الفاطمية تغير ذلك كله، فصار سوق السيوفيين من جوار الصاغة إلى درب السلسلة، وبني فيما بين المدرسة الصالحية وبين الصاغة سوق فيه حوانيت مما يلي المدرسة الصالحية، يباع فيها الأمشاط بسوق الأمشاطيين، وفيه حوانيت فيما بين الحوانيت التي يباع فيها الأمشاط وبين الصاغة، بعضها سكن الصيارف، وبعضها سكن النقليين، وهم الذين يبيعون الفستق واللوز والزبيب ونحوه، وفي وسط هذا البناء سوق الكتبيين، يحيط به سوق الأمشاطيين وسوق النقليين، وجميع ذلك جار في أوقاف المارستان المنصوري. وكان سوق باب الزهومة من أجلّ أسواق القاهرة أفخرها، موصوفا بحسن المآكل وطيبها، واتفق في هذا السوق أمر يستحسن ذكره لغرابته في زمننا، وهو أنه عبر متولي الحسبة بالقاهرة في يوم السبت سادس عشر شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على رجل بوارديّ بهذا السوق، يقال له محمد بن خلف، عنده مخزن فيه حمام وزرازير متغيرة الرائحة، لها نحو خمسين يوما، فكشف عنها فبلغت عدّتها أربعة وثلاثين ألفا ومائة وستة وتسعين طائرا، من ذلك حمام ألف ومائة وستة وتسعون، وزرازير ثلاثة وثلاثون ألفا كلها متغيرة اللون والريح، فأدبه وشهره وفيه إلى الآن بقايا. سوق المهامزيين: هذا السوق مما استجدّ بعد زوال الدولة الفاطمية، وكان بأوّله حبس المعونة، الذي عمله الملك المنصور قلاوون سوق العنبر، ويقابله المارستان والوكالة ودار الضرب، في الموضع الذي يعرف اليوم بدرب الشمسيّ، وما بحذائه من الحوانيت إلى حمّام الخرّاطين، وما تجاه ذلك. وهذا السوق معدّ لبيع المهاميز، وأدركت الناس وهم يتخذون المهماز كله قالبه وسقطه من الذهب الخالص، ومن الفضة الخالصة، ولا يترك ذلك إلا من يتورع ويتدين فيتخذ القالب من الحديد ويطليه بالذهب أو الفضة، ويتخذ السقط من الفضة، وقد اضطرّ الناس إلى ترك هذا، فقلّ من بقي سقط مهمازه فضة، ولا يكاد يوجد اليوم مهماز من ذهب، وكان يباع بهذا السوق البدلات الفضة التي كانت برسم

لجم الخيل، وتعمل تارة من الفضة المجراة بالمينا، وتارة بالفضة المطلية بالذهب، فيبلغ زنة ما في البدلة من خمسمائة درهم فضة إلى ما دونها، وقد بطل ذلك. وكان يباع به أيضا سلاسل الفضة ومخاطم الفضة المطلية، تجعل تحت لجم الحجور من الخيل خاصة، فيركب بها أعيان الموقعين وأكابر الكتاب من القبط ورؤساء التجار، وقد بطل ذلك أيضا. ويباع فيه أيضا الدوي والطرف التي فيها الفضة والذهب كسكاكين الأقلام ونحوها، وكانت تجار هذا السوق تعدّ من بياض العامّة، ويتصل بسوق المهامزيين هذا. سوق اللجميين: ويباع فيه آلات اللجم ونحوها مما يتخذ من الجلد، وفي هذا السوق أيضا عدّة وافرة من الطلائين وصناع الكفت برسم اللجم والركب والمهاميز ونحو ذلك. وعدّة من صناع مياتر السروج وقرابسها، وأدركت السروج تعمل ملوّنة ما بين أصفر وأزرق، ومنها ما يعمل من الدبل، ومنها ما يعمل سيورا من الجلد البلغاري الأسود، ويركب بهذه السروج السود القضاة ومشايخ العلم اقتداء بعادة بني العباس في استعمال السواد، على ما جدّده بديار مصر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بعد زوال الدولة الفاطمية. وأدركت السروج التي تركب بها الأجناد والكتاب، يعمل للسرج في قربوسه ستة أطواق من فضة مقبلة مطلية بالذهب، ومعقربات من فضة، ولا يكاد أحد يركب فرسا بسرج سادج إلا أن يكون من القضاة ومشايخ العلم وأهل الورع، فلما تسلطن الملك الظاهر برقوق اتخذ سائر الأجناد السروج المغرقة، وهي التي جميع قرابسها من ذهب أو فضة، إما مطلية أو سادجة، وكثر عمل ذلك حتى لم يبق من العسكر فارس إلا وسرجه كما ذكرنا. وبطل السرج المسقط، فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة غلب على الناس الفقر، وكثرت الفتن، فقلّت سروج الذهب والفضة، وبقي منها إلى اليوم بقايا يركب بها أعيان الأمراء وأماثل المماليك. سوق الجوخيين: هذا السوق يلي سوق اللجميين، وهو معدّ لبيع الجوخ المجلوب من بلاد الفرنج لعمل المقاعد والستائر وثياب السروج وغواشيها، وأدركت الناس وقلما تجد فيهم من يلبس الجوخ، وإنما يكون من جملة ثياب الأكابر، جوخ لا يلبس إلا في يوم المطر، وإنما يلبس الجوخ من يرد من بلاد المغرب والفرنج وأهل الإسكندرية وبعض عوام مصر، فأما الرؤساء والأكابر والأعيان فلا يكاد يوجد فيهم من يلبسه إلّا في وقت المطر، فإذا ارتفع المطر نزع الجوخ. وأخبرني القاضي الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب بن الخطبا المخزومي، خال أبي رحمه الله، قال: كنت أنوب في حسبة القاهرة عن القاضي ضياء الدين المحتسب، فدخلت عليه يوما وأنا لابس جوخة لها وجه صوف مربع فقال لي: وكيف ترضى أن تلبس الجوخ، وهل الجوخ إلّا لأجل البغلة؟! ثم أقسم عليّ أن أخلعها،

وما زال بي حتى عرّفته أني اشتريتها من بعض تجار قيسارية الفاضل، فاستدعاه في الحال ودفعها إليه وأمره بإحضار ثمنها. ثم قال لي: لا تعد إلى لبس الجوخ، استهجانا له. فلما كانت هذه الحوادث وغلت الملابس دعت الضرورة أهل مصر إلى ترك أشياء مما كانوا فيه من الترفه، وصار معظم الناس يلبسون الجوخ، فتجد الأمير والوزير والقاضي ومن دونهم ممن ذكرنا لباسهم الجوخ، ولقد كان الملك الناصر فرج ينزل أحيانا إلى الإصطبل وعليه قجون من جوخ، وهو ثوب قصير الكمين والبدن، يخاط من الجوخ بغير بطانة من تحته ولا غشاء من فوقه، فتداول الناس لبسه، واجتلب الفرنج منه شيئا كثيرا لا توصف كثرته ومحل بيعه بهذا السوق، ويلي سوق الجوخيين هذا: سوق الشرابشيين: وهذا السوق مما أحدث بعد الدولة الفاطمية، ويباع فيها الخلع التي يلبسها السلطان للأمراء والوزراء والقضاة وغيرهم، وإنما قيل له سوق الشرابشيين لأنه كان من الرسم في الدولة التركية أنّ السلطان والأمراء وسائر العساكر إنما يلبسون على رؤوسهم كلوتة صفراء مضرّبة تضريبا عريضا، ولها كلاليب بغير عمامة فوقها، وتكون شعورهم مضفورة مدلاة بدبوقة، وهي في كيس حرير إمّا أحمر أو أصفر، وأوساطهم مشدودة ببنود من قطن بعلبكيّ مصبوغ، عوضا عن الحوائص، وعليهم أقبية إمّا بيض أو مشجرة أحمر وأزرق، وهي ضيقة الأكمام على هيئة ملابس الفرنج اليوم، وإخفافهم من جلد بلغاريّ أسود، وفي أرجلهم من فوق الخف سقمان، وهو خف ثان، ومن فوق القبا كمران بحلق وأبزيم وصوالق بلغاري كبار يسع الواحد منها أكثر من نصف ويبة غلة، مغروز فيه منديل طوله ثلاثة أذرع، فلم يزل هذا زيهم منذ استولوا بديار مصر على الملك، من سنة ثمان وأربعين وستمائة، إلى أن قام في المملكة الملك المنصور قلاوون، فغيّر هذا الزيّ بأحسن منه، ولبسوا الشاشات، وأبطلوا لبس الكم الضيق، واقترح كل أحد من المنصورية ملابس حسنة، فلما ملك ابنه الأشرف خليل، جمع خاصكيته ومماليكه وتخير لهم الملابس الحسنة، وبدّل الكلوتات الجوخ والصفر، ورسم لجميع الأمراء أن يركبوا بين مماليكهم بالكلوتات الزركش والطرازات الزركش والكنابيش الزركش والأقبية الأطلس المعدني، حتى يميز الأمير بلبسه عن غيره، وكذلك في الملبوس الأبيض أن يكون رفيعا، واتخذ السروج المرصعة والأكوار المرصعة، فعرفت بالأشرفية، وكانت قبل ذلك سروجهم بقرابيس كبار شنعة، وركب كبار بشعة، فلما ملك ديار مصر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، استجدّ العمائم الناصرية، وهي صغار. فلما قام الأمير يلبغا العمريّ الخاصكيّ عمل الكلوتات اليلبغاوية، وكانت كبارا، واستجدّ الأمير سلار في أيام الملك الناصر محمد القباء الذي يعرف بالسلاري، وكان قبل ذلك يعرف ببغلو طاق، فلما تملك الملك الظاهر برقوق عمل هذه الكلوتات الجركسية، وهي أكبر من اليلبغاوية، وفيها عوج. وأما الخلع، فإن السلطان كان إذا أمّر أحدا من

الأتراك ألبسه الشربوش، وهو شيء يشبه التاج، كأنه شكل مثلث يجعل على الرأس بغير عمامة، ويلبس معه على قدر رتبته، إمّا ثوب بخ، أو طرد وحش، أو غيره، فعرف هذا السوق بالشرابشيين نسبة إلى الشرابيش المذكورة، وقد بطل الشربوش في الدولة الجركسية. وكان بهذا السوق عدّة تجار لشراء التشاريف والخلع وبيعها على السلطان في ديوان الخاص وعلى الأمراء، وينال الناس من ذلك فوائد جليلة، ويقتنون بالمتجر في هذا الصنف سعادات طائلة، فلما كانت هذه الحوادث منع الناس من بيع هذا الصنف إلّا للسلطان، وصار يجلس به قوم من عمال ناظر الخاص لشراء سائر ما يحتاج إليه، ومن اشترى من ذلك شيئا سوى عمال السلطان فله من العقاب ما قدّر عليه، والأمر على هذا إلى يومنا الذي نحن فيه. وأوّل من عملته خلع عليه من أهل الدول جعفر بن يحيى البرمكيّ، وذلك أنّ أمير المؤمنين هارون الرشيد قال في اليوم الذي انعقد له فيه الملك: يا أخي يا جعفر، قد أمرت لك بمقصورة في داري، وما يصلح لها من الفراش، وعشر جوارتكن فيها ليلة مبيتك عندنا. فقال: يا أمير المؤمنين ما من نعمة متواترة، ولا فضل متظاهر إلّا ورأي أمير المؤمنين أجمل وأتم، ثم انصرف وقد خلع عليه الرشيد، وحمل بين يديه مائة بدرة دراهم ودنانير، وأمر الناس فركبوا إليه حتى سلموا عليه، وأعطاه خاتم الملك ليختم به على ما يريد، فبلغ بذلك صيته أقطار الأرض، ووصل إلى ما لم يصل إليه كاتب بعده، فاقتدي بالرشيد من بعده، وخلعوا على أولياء دولتهم وولاة أعمالهم، واستمرّ ذلك إلى اليوم. وأوّل ما عرف شدّ السيوف في أوساط الجند: أنّ سيف الدين غازي بن عماد الدين أتابك زنكي بن أق سنقر صاحب الموصل، أمر الأجناد أن لا يركبوا إلا بالسيوف في أوساطهم، والدبابيس تحت ركبهم، فلما فعل ذلك اقتدى به أصحاب الأطراف، وهو أيضا أوّل من حمل على رأسه الصنجق في ركوبه، وغازي هذا هو أخو الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، ومات في آخر جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وولي الموصل بعده أخوه قطب الدين مودود. سوق الحوائصيين: هذا السوق يتصل بوسق الشرابشيين، وتباع فيه الحوائص، وهي التي كانت تعرف بالمنطقة في القديم، فكانت حوائص الأجناد أوّلا أربعمائة درهم فضة ونحوها، ثم عمل المنصور قلاوون حوائص الأمراء الكبار ثلثمائة دينار، وأمراء الطبلخانات مائتي دينار، ومقدّمي الحلقة من مائة وسبعين إلى مائة وخمسين دينارا، ثم صار الأمراء والخاصكية في الأيام الناصرية وما بعدها يتخذون الحياصة من الذهب، ومنها ما هو مرصع بالجوهر، ويفرّق السلطان في كل سنة على المماليك من حوائص الذهب والفضة شيئا كثيرا، وما زال الأمر على ذلك إلى أن ولي الناصر فرج، فلما كان في أيام الملك المؤيد

شيخ، قلّ ذلك، ووجد في تركة الوزير الصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور لما قبض عليه ستة آلاف حياصة، وستة آلاف كلوتة جهاركس، وما برح تجار هذا السوق من بياض العامة، وقد قلّ تجار هذا السوق في زمننا وصار أكثر حوانيته يباع فيها الطواقي التي يلبسها الصبيان، وصارت الآن من ملابس الأجناد. سوق الحلاويين: هذا السوق معدّ لبيع ما يتخذ من السكر حلوى، وإنما يعرف اليوم بحلاوة منوّعة، وكان من أبهج الأسواق لما يشاهد في الحوانيت التي بها من الأواني وآلات النحاس الثقيلة الوزن البديعة الصنعة ذات القيم الكبيرة، ومن الحلاوات المصنعة عدّة ألوان، وتسمى المجمعة، وشاهدت بهذا السوق السكّر ينادي عليه كل قنطار بمائة وسبعين درهما، فلما حدثت المحن وغلا السكر لخراب الدواليب التي كانت بالوجه القبليّ، وخراب مطابخ السكر التي كانت بمدينة مصر، قلّ عمل الحلوى، ومات أكثر صناعها، ولقد رأيت مرّة طبقا فيه نقل وعدّة شقاف من خزف أحمر في بعضها لبن وفي بعضها أنواع الأجبان، وفيما بين الشقاف الخيار والموز وكل ذلك من السكر المعمول بالصناعة، وكانت أيضا لهم عدّة أعمال من هذا النوع يحير الناظر حسنها، وكان هذا السوق في موسم شهر رجب من أحسن الأشياء منظرا، فإنه كان يصنع فيه من السكر أمثال خيول وسباع وقطاط وغيرها، تسمى العلاليق، واحدها علاقة ترفع بخيوط على الحوانيت، فمنها ما يزن عشرة أرطال إلى ربع رطل، تشترى للأطفال، فلا يبقى جليل ولا حقير حتى يبتاع منها لأهله وأولاده، وتمتلىء أسواق البلدين مصر والقاهرة وأريافهما من هذا الصنف، وكذلك يعمل في موسم نصف شعبان، وقد بقي من ذلك إلى اليوم بقية غير طائلة، وكذلك كانت تروق رؤية هذا السوق في موسم عيد الفطر لكثرة ما يوضع فيه من حب الخشكنانج. وقطع البسندود والمشاش، ويشرع في عمل ذلك من نصف شهر رمضان فتملأ منه أسواق القاهرة ومصر والأرياف، ولم ير في موسم سنة سبع عشرة وثمانمائة من ذلك شيء بالأسواق البتة، فسبحان محيل الأحوال لا إله إلا هو. سوق الشوّايين: هذا السوق أوّل سوق وضع بالقاهرة، وكان يعرف بسوق الشرايحيين، وهو من باب حارة الروم إلى سوق الحلاويين، وما زال يعرف بسوق الشرايحيين إلى أن سكن فيه عدّة من بياعي الشواء، في حدود السبعمائة من سني الهجرة، فزالت عنه النسبة إلى الشرايحيين وعرف بالشوّايين، وهو الآن سكن المتعيشين، وانتقل سوق الشرايحيين في زماننا إلى خارج باب زويلة وعرف بالبسطيين، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. قال ابن زولاق في كتاب سيرة المعز، وفي شهر صفر من سنة خمس وستين وثلاثمائة أنشئ سوق الشرايحيين بالقاهرة، وذكر ذلك ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة. وكان في القديم باب زويلة الذي وضعه القائد جوهر عند رأس حارة الروم، حيث العقد المجاور الآن للمسجد الذي عرف اليوم بسام بن نوح، وكان بجواره باب آخر موضعه

الشارع خارج باب زويلة

الآن سوق الماطيين، فلما نقل أمير الجيوش باب زويلة إلى حيث هو الآن، اتسع ما بين سوق الشرايحيين المذكور وبين باب زويلة الكبير، وصار الآن فيه سوق الغرابليين، وفيه عدّة حوانيت تعمل مناخل الدقيق والغرابيل، ويقابلهم عدّة حوانيت يصنع فيها الأغلاق المعروفة بالضبب، وما بعد ذلك إلى باب زويلة، فيه كثير من الحوانيت يجلس ببعضها عدّة من الجبانين لبيع أنواع الجبن المجلوب من البلاد الشامية، وأدركنا هناك إلى أن حدثت المحن من ذلك شيئا كثيرا يتجاوز الحد في الكثرة، وفي بعض تلك الحوانيت قوم يجلسون لعلاج من عساه ينصدع له عظم أو ينكسر أو يصيبه جرح يعرفون بالمجبرين، وهناك منهم بقية إلى يومنا هذا، وبقية الحوانيت ما بين صيارفة وبياعي طرف ومتعيشين في المآكل وغيرها. فهذه قصبة القاهرة، وما في ظاهر باب زويلة فإنه خارج القاهرة والله تعالى أعلم. الشارع خارج باب زويلة هذا الشارع هو تجاه من خرج من باب زويلة، ويمتدّ فيما بين الطريق السالك ذات اليمين إلى الخليج «1» ، وبين الطريق المسلوك فيه ذات اليسار إلى قلعة الجبل. ولم يكن هذا الشارع موجودا على ما هو عليه الآن عند وضع القاهرة، وإنما حدث بعد وضعها بعدّة أعوم على غير هذه الهيئة، فلما كثرت العمائر خارج باب زويلة بعد سنة سبعمائة من سني الهجرة صار على ما هو عليه الآن، فأما أوّل أمره: فإن الخليفة الحاكم بأمر الله أنشأ الباب الجديد على يسرة الخارج من باب زويلة، على شاطىء بركة الفيل، وهذا الباب أدركت عقده عند رأس المنجبية بجوار سوق الطيور، ثم لما اختطت حارة اليانسية وحارة الهلالية صار ساحل بركة الفيل قبالتها، واتصلت العمائر من الباب الجديد إلى الفضاء الذي هو الآن خارج المشهد النفيسيّ، فلما كانت الشدّة العظمى في خلافة المستنصر وخربت القطائع والعسكر، صارت مواضعها خرابا إلى خلافة الآمر بأحكام الله، فعمر الناس حتى صارت مصر والقاهرة لا يتخللهما خراب، وبنى الناس في الشارع من الباب الجديد إلى الجبل عرضا حيث قلعة الجبل الآن، وبنى حائط يستر خراب القطائع والعسكر، فعمر من الباب الجديد طولا إلى باب الصفا بمدينة مصر، حتى صار المتعيشون بالقاهرة والمستخدمون يصلون العشاء الآخرة بالقاهرة ويتوجهون إلى سكنهم في مصر ولا يزالون في ضوء وسرج وسوق موقود من الباب الجديد خارج باب زويلة إلى باب الصفا، حيث الآن كوم الجارح، والمعاش مستمرّ في الليل والنهار.

ووقف القاضي الرئيس المختار العدل زكيّ الدين أبو العباس أحمد بن مرتضى بن سيد الأهل بن يوسف، حصة من البستان الكبير المعروف يومئذ بالمخاريق الكبرى، الكائن فيما بين القاهرة ومصر بعدوة الخليج على الفربات، وشرط أنّ الناظر يشتري في كل فصل من فصول الشتاء من قماش الكتان الخام أو القطن ما يراه، ويعمل ذلك جبابا وبغالطيقا محشوّة قطنا، وتفرّق على الأيتام الذكور والإناث الفقراء غير البالغين بالشارع الأعظم، خارج باب زويلة، فيدفع لكل واحد جبة واحدة أو بغلطاقا، فإن تعذر ذلك كان على الأيتام المتصفين بالصفات المذكورة بالقاهرة ومصر وقرافتيهما، وكان هذا الوقف في سنة ستين وستمائة. فلما كثرت العمائر خارج باب زويلة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد سنة سبعمائة، صار هذا الشارع أوّله تجاه باب زويلة وآخره في الطول الصليبة التي تنتهي إلى جامع ابن طولون وغيره، لكنهم لا يريدون بالشارع سوى إلى باب القوس الذي بسوق الطيوريين، وهو الباب الجديد، وبعد باب القوس سوق الطيوريين، ثم سوق جامع قوصون وسوق حوض ابن هنس وسوق ربع طفجي، وهذه أسواق بها عدّة حوانيت، لكنها لا تنتهي إلى عظم أسواق القاهرة، بل تكون أبدا دونها بكثير، فهذا حال القصبة والشارع خارج باب زويلة، وقد بقيت عدّة أسواق في جانبي القصبة، ولها أبواب شارعة وفيها أسواق أخر في نواحي القاهرة، ومسالكها سيأتي ذكرها بحسب القدرة إن شاء الله تعالى. سويقة أمير الجيوش: هذه السويقة الآن فيما بين حارة برجوان وحارة بهاء الدين، كانت تعرف بسوق الخروقيين فيما بعد زوال الدولة الفاطمية، وفي هذا السوق عمر الأمير مازكوج الأسدي مدرسته المعروفة الآن بالأكجية، وأدركت الناس إلى هذا الزمن الذي نحن فيه لا يعرفون هذا السوق إلّا بسوق أمير الجيوش، ويعبّرون عنه بصيغة التصغير، ولا أعرف لهم مستندا في ذلك، والذي تشهد به الأخبار أن سوق أمير الجيوش هو السوق الذي برأس حارة برجوان، ويمتدّ إلى رأس سويقة أمير الجيوش الآن، وهذه السويقة من أكبر أسواق القاهرة، بها عدّة حوانيت، فيها الرفاءون والحباكون، وعدّة حوانيت للرسامين، وعدّة حوانيت للفرّايين، وعدّة حوانيت للخياطين، ومعظمها لسكن البزازين والخلعيين، وفيها عدّة من بياعي الأقباع، ويباع في هذا السوق سائر الثياب المخيطة والأمتعة من الفرش ونحوها. وهو شارع من شوارع القاهرة، يسلك فيه من باب الفتوح وبين القصرين وباب النصر إلى باب القنطرة وشاطيء النيل وغيره، وكان ما بعد هذا السوق إلى باب القنطرة معمور الجانبين بالحوانيت المعدّة لبيع الظرائف والمغازل والكتان والأنواع من المأكل والعطر وغيره، وقد خرب أكثر هذه الحوانيت في سني المحنة وما بعدها، ولسويقة أمير الجيوش عدّة قياسر وفنادق والله أعلم. سوق الجملون الصغير: هذا السوق يسلك فيه من رأس سويقة أمير الجيوش إلى باب

الجوانية وباب النصر ورحبة باب العيد، وهو مجاور لدرب الفرحية، وفيه المدرسة الصيرمية، وباب زيادة الجامع الحاكمي، وكان أوّلا يعرف بالأمراء القرشيين بني النوري، ثم عرف بالجملون الصغير، وبجملون ابن صيرم، وهو الأمير جمال الدين شويخ بن صيرم، أحد الأمراء في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وإليه تنسب المدرسة الصيرمية، والخط المعروف خارج باب الفتوح ببستان ابن صيرم، وأدركت هذا الجملون معمور الجانبين من أوّله إلى آخره بالحوانيت، ففي أوّله كثير من البزازين الذين يبيعون ثياب الكتان من الخام والأزرق وأنواع الطرح وأصناف ثياب القطن، وينادي فيه على الثياب بحراج حراج، وفيه عدّة من الخياطين، وعدّة من البابية المعدّين لغسل الثياب وصقالها، وبآخره كثير من الضبيين بحيث لو أراد أحد أن يشتري منه ألف ضبة في يوم لما عسر عليه ذلك، فلما حدثت المحن خرب هذا السوق بخلوّ حوانيته، وصار مقفرا من ساكنيه، ثم إنه عمر بعد سنة عشر وثمانمائة، وفيه الآن نفر من البزازين وقليل ممن سواهم. سوق المحايريين: هذا السوق فيما بين الجامع الأقمر وبين جملون ابن صيرم، يسلك فيه من سوق حارة برجوان ومن سوق الشماعين إلى الركن المخلق ورحبة باب العيد، وهو من شوارع القاهرة المسلوكة، وفيه عدّة حوانيت لعمل المحاير التي يسافر فيها إلى الحجاز وغيره، وكان فيه تاجران قد تراضيا على ما يشتريانه من المحاير المعرّضة للبيع، ولهذا السوق موسم عظيم عند سفر الحاج وعند سفر الناس إلى القدس. وبلغني عن شيخ كان بهذا السوق أنه أوصى بعض صبيانه فقال له: يا بنيّ لا تراع أحدا في بيع، فإنه لا يحتاج إليك إلّا مرّة في عمره، فخذ عدلك في ثمن المحارة، فإنك لا تخشى من عوده مرّة أخرى إليك، وسوف إذا عاد من سفره إما إلى الحجاز أو القدس فإنه يحتاج إلى بيعها، فتراقد عليه في ثمنها واشترها بالرخيص. وكذلك يفعل أهل هذا السوق إلى اليوم، فإنهم لا يراعون بائعا ولا مشتريا، إلا أن سوقهم لم يبق كما أدركناه، فإنه حدث سوق آخر يباع فيه المحاير بسوق الجامع الطولوني، وصار بسوق الخيميين أيضا صناع للمحاير، وبلغني أنّ بالمحايريين هذا أوقف أهل مصر امرأة من جريد مؤتزرة، بيدها ورقة فيها سب الخليفة الحاكم بأمر الله ولعنه، عندما منع النساء من الخروج في الطرقات، فعندما مرّ من هناك حسبها امرأة تسأله حاجة. فأمر بأخذ الورقة منها، فإذا فيها من السب ما أغضبه، فأمر بها أن تؤخذ، فإذا هي من جريد قد ألبس ثيابا وعمل كهيئة امرأة، فاشتدّ عند ذلك غضبه وأمر العبيد بإحراق مدينة مصر فأضرموا فيها النار. ولم أقف على هذا الخبر مسطورا، وقد ذكر المسبحيّ حريق الحاكم بأمر الله لمصر ولم يذكر قصة المرأة. الصاغة: هذا المكان تجاه المدارس الصالحية بخط بين القصرين. قال ابن عبد

الظاهر: الصاغة بالقاهرة كانت مطبخا للقصر، يخرج إليه من باب الزهومة، وهو الباب الذي هدم وبني مكانه قاعة شيخ الحنابلة من المدارس الصالحية، وكان يخرج من المطبخ المذكور مدّة شهر رمضان ألف ومائتا قدر من جميع الألوان في كل يوم، تفرّق على أرباب الرسوم والضعفاء، وسمّي باب الزهومة، أي باب الزفر، لأنه لا يدخل باللحم وغيره إلا منه، فاختص بذلك. انتهى. والصاغة الآن وقف على المدارس الصالحية، وقفها الملك السعيد بركة خان المسمى بناصر الدين محمد ولد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري على الفقهاء المقرّرين بالمدارس الصالحية. سوق الكتبيين: هذا السوق فيما بين الصاغة والمدرسة الصالحية، أحدث فيما أظن بعد سنة سبعمائة، وهو جار في أوقاف المارستان المنصوري، وكان سوق الكتب قبل ذلك بمدينة مصر تجاه الجانب الشرقي من جامع عمرو بن العاص في أوّل زقاق القناديل، بجوار دار عمرو، وأدركته وفيه بقية بعد سنة ثمانين وسبعمائة، وقد دثر الآن فلا يعرف موضعه، وكان قد نقل سوق الكتبيين من موضعه الآن بالقاهرة إلى قيسارية كانت فيما بين سوق الدجاجين المجاور للجامع الأقمر، وبين سوق الحصريين المجاور للركن المخلق، وكان يعلو هذه القيسارية ربع فيه عدّة مساكن، فتضرّرت الكتب من نداوة أقبية البيوت وفسد بعضها، فعادوا إلى سوق الكتب الأوّل حيث هو الآن، وما برح هذا السوق مجمعا لأهل العلم يتردّدون إليه. وقد أنشدت قديما لبعضهم: مجالسة السوق مذمومة ... ومنها مجالس قد تحتسب فلا تقربنّ غير سوق الجياد ... وسوق السلاح وسوق الكتب فهاتيك آلة أهل الوغى ... وهاتيك آلة أهل الأدب سوق الصنادقيين: هذا السوق تجاه المدرسة السيوفية، كان موضعه في القديم من جملة المارستان، ثم عرف بفندق الدبابليين، وقيل له الآن سوق الصنادقيين، وفيه تباع الصناديق والخزائن والأسرّة مما يعمل من الخشب، وكان ما بظاهرها قديما يعرف بسكن الدجاجين، وأدركناه يعرف بسوق السيوفيين، وكان فيه عدّة طباخين لا يزال دخان كوانينهم منعقدا لكثرته. حتى قال لي شيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم الحنفي: أن قاضي القضاة جلال الدين جاد الله قال له: هذا السوق قطب دائرة الدخان، وفي سوق الصنادقيين إلى الآن بقية. سوق الحريريين: هذا السوق من باب قيسارية العنبر إلى خط البندقانيين، كان يعرف قديما بسقيفة العداس، ثم عمل صاغة القاهرة، ثم سكن هناك الأساكفة.

قال ابن عبد الظاهر: وكانت الصاغة قديما فيما تقدّم مكان الأساكفة الآن، وهو إلى الآن معروف بالصاغة القديمة، وكان يعرف بسقيفة العداس، كذا رأيت في كتب الأملاك، وعرف هذا السوق في زماننا بالحريريين الشراربيين، وعرف بعضه بسوق الزجاجين، وكان يسكن فيه أيضا الأساكفة، فلما أنشأ الأمير يونس الدوادار القيسارية على بئر زويلة بخط البندقانيين في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، نقل الأساكفة من هذا الخط، ونقل منه أيضا بياعي أخفاف النساء إلى قيساريته وحوانيته المذكورة. سوق العنبريين: هذا السوق فيما بين سوق الحريريين الشراربيين وبين قيسارية العصفر، وهو تجاه الخرّاطين، كان في الدولة الفاطمية مكانه سجنا لأرباب الجرائم يعرف بحبس المعونة، وكان شنيع المنظر ضيقا لا يزال من يجتاز عليه يجد منه رائحة منكرة، فلما كان في الدولة التركية وصار قلاوون من جملة الأمراء الظاهرية بيبرس، صار يمرّ من داره إلى قلعة الجبل على حبس المعونة هذا فيشمّ منه رائحة رديئة ويسمع منه صراخ المسجونين وشكواهم الجوع والعري والقمل، فجعل على نفسه أنّ الله تعالى جعل له من الأمر شيئا أن يبني هذا الحبس مكانا حسنا، فلما صار إليه ملك ديار مصر والشام هدم حبس المعونة وبناه سوقا ليسكنه بياعي العنبر، وكان للعنبر إذ ذاك بديار مصر نفاق، وللناس فيه رغبة زائدة، لا يكاد يوجد بأرض مصر امرأة وإن سفلت إلّا ولها قلادة من عنبر، وكان يتّخذ منه المخادّ والكلل والستور وغيرها، وتجار العنبر يعدّون من بياض الناس، ولهم أموال جزيلة، وفيه رؤساء وأجلّاء، فلما صار الملك إلى الملك الناصر محمد بن قلاون جعل هذا السوق وما فوقه من المساكن وقفا على الجامع الذي أنشأه بظاهر مصر جوار موردة الخلفاء المعروف بالجامع الجديد الناصري، وهو جار في أوقافه إلى يومنا هذا، إلّا أن العنبر من بعد سنة سبعين وسبعمائة كثر فيه الغش حتى صار اسما لا معنى له، وقلّت رغبة الناس في استعماله، فتلاشى أمر هذا السوق بالسنة لما كان، ثم لما حدثت المحن بعد سنة ست وثمانمائة قلّ ترفّه أهل مصر عن استعمال الكثير من العنبر، فطرق هذا السوق ما طرق غيره من أسواق البلد، وبقيت فيه بقية يسيرة إلى أن خلع الخليفة المستعين بالله العباسي بن محمد في سنة خمس عشرة وثمانمائة، وكان نظر الجامع الجديد بيده وبيد أبيه الخليفة المتوكل على الله محمد، فقصد بعض سفهاء العامّة يكاتبه بتعطيل هذا السوق، فاستأجر قيسارية العصفر ونقل سوق العنبر إليها، وصار معطلا نحو سنتين، ثم عاد أهل العنبر إلى هذا السوق على عادتهم في سنة ثمان عشرة وثمانمائة. سوق الخرّاطين: هذا السوق يسلك فيه من سوق المهامزيين إلى الجامع الأزهر وغيره، وكان قديما يعرف بعقبة الصباغين، ثم عرف بسوق القشاشين، وكان فيما بين دار الضرب والوكالة الآمرية وبين المارستان، ثم عرف الآن بسوق الخرّاطين، وكان سوقا كبيرا

معمورا لجانبين بالحوانيت المعدّة لبيع المهد الذي يربى فيه الأطفال، وحوانيت الخرّاطين، وحوانيت صناع السكاكين، وصناع الدوى، يشتمل على نحو الخمسين حانوتا، فلما حدثت المحن تلاشى هذا السوق، واغتصب الأمير جمال الدين يوسف الاستادار منه عدّة حوانيت، من أوّله إلى الحمام التي تعرف بحمام الخرّاطين، وشرع في عمارتها، فعوجل بالقتل قبل إتمامها، وقبض عليها الملك الناصر فرج فيما أحاط به من أمواله وأدخلها في الديوان. فقام بعمارة الحوانيت التي تجاه قيسارية العصفر من درب الشمسي إلى أوّل الخرّاطين القاضي الرئيس تقيّ الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، فلما كملت جعلها الملك الناصر فيما هو موقوف على ترتبته التي أنشأها على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر، وأفرد الحمّام وبعض الحوانيت القديمة للمدرسة التي أنشأها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار برحبة باب العيد، وما يقابل هذه الحوانيت هو وما فوقه وقف على المدرسة القراسنقرية وغيرها، وهو متخرّب متهدّم. سوق الجملون الكبير: هذا السوق بوسط سوق الشرابشيين، يتوصل منه إلى البندقانيين وإلى حارة الجودرية وغيرها، أنشئ فيه حوانيت سكنها البزازون، وقفه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون على تربة مملوكه بلبغا التركمانيّ عند ما مات في سنة سبع وسبعمائة، ثم عمل عليه بابان بطرفيه بعد سنة تسعين وسبعمائة، فصارت تغلق في الليل، وكان فيما أدركناه شارعا مسلوكا طول الليل، يجلس تجاه صاحب العسس، الذي عرفته العامة في زماننا بوالي الطوف، من بعد صلاة العشاء في كل ليلة، وينصب قدّامه مشعل يشعل بالنار طول الليل، وحوله عدّة من الأعوان وكثير من السقائين والنجارين والقصارين والهدّادين بنوب مقرّرة لهم، خوفا من أن يحدث بالقاهرة في الليل حريق فيتداركون إطفاءه، ومن حدث منه في الليل خصومة، أو وجد سكران، أو قبض عليه من السرّاق، تولى أمره والي الطوف وحكم فيه بما يقتضيه الحال. فلما كانت الحوادث بطل هذا الرسم في جملة ما بطل، وهذا السوق الآن جار في وقف ... «1» . سوق الفرّايين: هذا السوق يسلك فيه من سوق الشرابشيين إلى الأكفانيين والجامع الأزهر وغير ذلك. كان قديما يعرف بسوق الخروقيين، ثم سكن فيه صناع الفراء وتجّاره، فعرف بهم، وصار بهذا السوق في أيام الملك الظاهر برقوق من أنواع الفراء ما يجلّ أثمانها وتتضاعف قيمها، لكثرة استعمال رجال الدولة من الأمراء والمماليك لبس السمور والوشق والقماقم والسنجاب، بعد ما كان ذلك في الدولة التركية من أعز الأشياء التي لا يستطيع أحد أن يلبسها، ولقد أخبرني الطواشي الفقيه الكاتب الحاسب الصوفيّ زين الدين مقبل الروميّ الجنس المعروف بالشامي، عتيق السلطان الملك الناصر الحسين بن محمد بن قلاون: أنه

وجب في تركة بعض أمراء السلطان حسن قباء بفرو قاقم، فاستكثر ذلك عليه وتعجب منه، وصار يحكى ذلك مدّة لعزّة هذا الصنف واحترامه، لكونه من ملابس السلطان وملابس نسائه، ثم تبذلت الأصناف المذكورة حتى صار يلبس السمور آحاد الأجناد وآحاد الكتاب، وكثير من العوام، ولا تكاد امرأة من نساء بياض الناس تخلو من لبس السمور ونحوه، وإلى الآن عند الناس من هذا الصنف وغيره من الفرو شيء كثير. سوق البخانقيين: هذا السوق فيما بين سوق الجملون الكبير وبين قيسارية الشرب الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكر القياسر. وباب هذا السوق شارع من القصبة، ويعرف بسوق الخشيبة تصغير خشبة، فإنه عمل على بابه المذكور خشبة تمنع الراكب من التوصل إليه، ويسلك من هذا السوك إلى قيسارية الشرب وغيرها. وهو معمور الجانبين بالحوانيت المعدّة لبيع الكوافي والطواقي التي تلبسها الصبيان والبنات، وبظاهر هذا السوق أيضا في القصة عدّة حوانيت لبيع الطواقي وعملها، وقد كثر لبس رجال الدولة من الأمراء والمماليك والأجناد ومن يتشبه بهم للطواقي في الدولة الجركسية، وصاروا يلبسون الطاقية على رؤوسهم بغير عمامة، ويمرّون كذلك في الشوارع والأسواق والجوامع والمواكب لا يرون بذلك بأسا بعد ما كان نزع العمامة عن الرأس عارا وفضيحة، ونوّعوا هذه الطواقي ما بين أخضر وأحمر وأزرق وغيره من الألفوان، وكانت أوّلا ترتفع نحو سدس ذراع، ويعمل أعلاها مدوّرا مسطحا، فحدث في أيام الملك الناصر فرج منها شيء عرف بالطواقي الجركسية، يكون ارتفاع عصابة الطاقية منها نحو ثلثي ذراع، وأعلاها مدوّر مقبب، وبالغوا في تبطين الطاقية بالورق والكتيرة، فيما بين البطانة المباشرة للرأس والوجه الظاهر للناس، وجعلوا من أسفل العصابة المذكورة زيقا من فرو القرض الأسود يقال له القندس، في عرض نحو ثمن ذراع، يصير دائرا بجبهة الرجل وأعلى عنقه، وهم على استعمال هذا الزيّ إلى اليوم، وهو من أسمج ما عانوه، ويشبه الرجال في لبس ذلك بالنساب لمعنيين، أحدهما أنه فشا في أهل الدولة محبة الذكران، ليستملن قلوب رجالهنّ، فاقتدى بفعلهنّ في ذلك عامة نساء البلد. وثانيهما ما حدث بالناس من الفقر ونزل بهم من الفاقة، فاضطرّ حال نساء أهل مصر إلى ترك ما أدركنا فيه النساء من لبس الذهب والفضة والجواهر ولبس الحرير، حتى لبسن هذه الطواقي وبالغن في عملها من الذهب والحرير وغيره، وتواصين على لبسها، ومن تأمل أحوال الوجود عرف كيف تنشأ أمور الناس في عاداتهم وأخلاقهم ومذاهبهم. سوق الخلعيين: هذا السوق فيما بين قيسارية الفاضل الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى، وبين باب زويلة الكبير، وكان يعرف قديما بالخشابين، وعرف اليوم بالزقيق تصغير زقاق، وعرف أيضا بسوق الخلعيين، كأنه جمع خلعيّ، والخلعيّ في زماننا هو الذي يتعاطى بيع الثياب الخليع، وهي التي قد لبست، وهذا السوق اليوم من أعمر أسواق القاهرة لكثرة ما يباع فيه من ملابس أهل الدولة وغيرهم، وأكثر ما يباع فيه الثياب المخيطة، وهو معمور

الجوانب بالحوانيت، ويسلك فيه من القصبة ليلا ونهارا إلى حارة الباطلية. وخوخة أيدغمش وغير ذلك، وفي داخل القاهرة أيضا عدّة أسواق وقد خرب الآن أكثرها. سويقة الصاحب: هذه السويقة يسلك إليها من خط البندقانيين ومن باب الخوخة وغير ذلك، وهي من الأسواق القديمة كانت في الدولة الفاطمية تعرف بسويقة الوزير، يعني أبا الفرج يعقوب بن كلس وزير الخليفة العزيز بالله نزار بن المعز الذي تنسب إليه حارة الوزيرية، فإنها كانت على باب داره التي عرفت بعده في الدولة الفاطمية بدار الديباج، وصار موضعها الآن المدرسة الصاحبية، ثم صارت تعرف بسويقة دار الديباج يعني دار الطراز، ينسج فيها الديباج الذي هو الحرير، وقيل لذلك الموضع كله خط دار الديباج، ثم عرف هذا السوق بالسوق الكبير في أخريات الدولة الفاطمية، فلما ولي صفيّ الدين عبد الله بن شكر الدميري وزارة الملك العادل أبي بكر بن أيوب سكن في هذا الخط، وأنشأ به مدرسته التي تعرف إلى اليوم بالمدرسة الصاحبية، وأنشأ به أيضا رباطه وحمامه المجاورين للمدرسة المذكورة، عرفت من حينئذ هذه السويقة بسويقة الصاحب المذكور، واستمرّت تعرف بذلك إلى يومنا هذا، ولم تزل من الأسواق المعتبرة، يوجد فيها أكثر ما يحتاج إليه من المآكل، لوفور نعم من يسكن هنالك من الوزراء وأعيان الكتاب، فلما حدثت المحن طرقها ما طرق غيرها من أسواق القاهرة فاختلت عما كانت وفيها بقية. سوق البندقانيين: هذا السوق يسلك إليه من سوق الزجاجين ومن سويقة الصاحب ومن سوق الأبزاريين وغيره، وكان يعرف قديما بسوق بئر زويلة، وكان هناك بئر قديمة تعرف ببئر زويلة برسم اصطبل الجميزة الذي كان فيه خيول الخلفاء الفاطميين، وصار موضعه خط البندقانيين بعد ذلك كما ذكر عند اصطبلات الخلفاء الفاطميين من هذا الكتاب، وموضع هذه البئر اليوم قيسارية يونس والربع الذي يعلوها، وبقي منها موضع ركب عليه حجر وأعدّت لملء السقائين منها، فلما زالت الدولة واختط موضع اصطبل الجميزة الدور وغيرها، وعرف موضع الاصطبل بالبندقانيين، قيل لهذا السوق سوق البندقانيين، وأدركته سوقا كبيرا معمور الجانبين بالحوانيت التي قد تهدّم أعلاها منذ كان الحريق بالبندقانيين في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، كما ذكر في خط البندقانيين عند ذكر الأخطاط من هذا الكتاب، وفي هذا السوق كثير من أرباب المعاش المعدّين لبيع المأكولات من الشواء والطعام المطبوخ وأنواع الأجبان والألبان والبوارد والخبز والفواكه، وعدّة كثيرة من صناع قسيّ البندق، وكثير من الرسامين، وكثير من بياعي الفقاع. فلما حدثت المحن بعد سنة ست وثمانمائة اختلّ هذا السوق خللا كبيرا وتلاشى أمره. سوق الأخفافيين: هذا السوق بجوار سوق البندقانيين، يباع فيه الآن خفاف النسوان ونعالهنّ، وهو سوق مستجدّ أنشأه الأمير يونس النوروزيّ دوادار الملك الظاهر برقوق في

سنة بضع وثمانين وسبعمائة، ونقل إليه الأخفافيين بياعي أخفاف النساء من خط الحريريين والزجاجين، وكان مكانه مما خرب في حريق البندقانيين، فركب بعض القيسارية على بئر زويلة وجعل بابها تجاه درب الأنجب، وبنى بأعلاها ربعا كبيرا فيه عدّة مساكن، وجعل الحوانيت بظاهرها وبظاهر درب الأنجب، وبنى فوقها أيضا عدّة مساكن، فعمر ذلك الخط بعمارة هذه الأماكن، وبه إلى الآن سكن بياعي أخفاف النساء ونعالهنّ، التي يقال للنعل منها سر موزه، وهو لفظ فارسيّ معناه رأس الخف، فإن سر رأس وموزه خف. سوق الكفتيين: هذا السوق يسلك إليه من البندقانيين ومن حارة الجودرية ومن الجملون الكبير وغيره، ويشتمل على عدّة حوانيت لعمل الكفت، وهو ما تطعّم به أواني النحاس من الذهب والفضة، وكان لهذا الصنف من الأعمال بديار مصر رواج عظيم، وللناس في النحاس المكفت رغبة عظيمة، أدركنا من ذلك شيئا لا يبلغ وصفه واصف لكثرته، فلا تكاد دار تخلو بالقاهرة ومصر من عدّة قطع نحاس مكفت، ولا بدّ أن يكون في شورة العروس دكة نحاس مكفت. والدكة: عبارة عن شيء شبه السرير يعمل من خشب مطعم بالعاج والأبنوس، أو من خشب مدهون، وفوق الدكة دست طاسات من نحاس أصفر مكفت بالفضة، وعدّة الدست سبع قطع بعضها أصغر من بعض، تبلغ كبراها ما يسع نحو الأردب من القمح، وطول الأكفات التي نقشت بظاهرها من الفضة نحو الثلث ذراع في عرض إصبعين، ومثل ذلك دست أطباق عدّتها سبعة بعضها في جوف بعض، ويفتح أكبرها نحو الذراعين وأكثر، وغير ذلك من المناير والسرج وأحقاق الأشنان والطشت والإبريق والمبخرة، فتبلغ قيمة الدكة من النحاس المكفت زيادة على مائتي دينار ذهبا، وكانت العروس من بنات الأمراء أو الوزراء أو أعيان الكتاب أو أماثل التجار تجهز في شورتها عند بناء الزوج عليها سبع دكك، دكة من فضة، ودكة من كفت، ودكة من نحاس أبيض، ودكة من خشب مدهون، ودكة من صيني، ودكة من بلور، ودكة كداهي: وهي آلات من ورق مدهون تحمل من الصين، أدركنا منها في الدور شيئا كثيرا، وقد عدم هذا الصنف من مصر إلّا شيئا يسيرا. حدثني القاضي الفاضل الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل أحمد بن عبد الوهاب ابن الخطباء المخزوميّ رحمه الله قال: تزوّج القاضي علاء الدين بن عرب محتسب القاهرة بامرأة من بنات التجار، تعرف بست العمائم، فلما قارب البناء عليها والدخول بها، حضر إليه في يوم وكيلها وأنا عنده، فبلّغه سلامها عليه وأخبره أنها بعثت إليه بمائة ألف درهم فضة خالصة ليصلح بها لها ما عساه اختلّ من الدكة الفضة، فأجابه إلى ما سأل وأمره باحضار الفضة، فاستدعى الخدم من الباب فدخلوا بالفضة في الحال، وبالوقت أمر المحتسب بصناع الفضة وطلائها، فاحضروا وشرعوا في إصلاح ما أرسلته ست العمائم من أواني الفضة وإعادة طلائها بالذهب، فشاهدنا من ذلك منظرا بديعا.

وأخبرني من شاهد جهاز بعض بنات السلطان حسن بن محمد بن قلاوون وقد حمل في القاهرة عند ما زفت على بعض الأمراء في دولة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، فكان شيئا عظيما، من جملته دكة من بلور تشتمل على عجائب، منها زير من بلور قد نقش بظاهره صور ثابتة على شبه الوحوش والطيور، وقدر هذا الزير ما يسع قربة ماء، وقد قلّ استعمال الناس في زمننا هذا للنحاس المكفت، وعزّ وجوده، فإن قوما لهم عدّة سنين قد تصدّوا لشراء ما يباع منه وتنحية الكفت عنه طلبا للفائدة، وبقي بهذا السوق إلى يومنا هذا بقية من صناع الكفت قليلة. سوق الأقباعيين: بخط تحت الربع خارج باب زويلة، مما يلي الشارع المسلوك فيه إلى قنطرة الخرق، ما كان منه على يمنة السالك إلى قنطرة الخرق، فإنه جار في وقف الملك الظاهر بيبرس، هو وما فوقه على المدرسة الظاهرية بخط بين القصرين، وعلى أولاده. ولم يزل إلى يوم السبت خامس شهر رمضان سنة عشرين وثمانمائة، فوقع الهدم فيه ليضاف إلى عمارة الملك المؤيد شيخ المجاورة لباب زويلة، وما كان من هذا السوق على يسرة من سلك إلى القنطرة، فإنه جار في وقف اقبغا عبد الواحد على مدرسته المجاورة للجامع الأزهر، وبعضه وقف امرأة تعرف بدنيا. سويقة السقطيين: هذا السوق خارج باب زويلة بجوار دار التفاح، أنشأه الأمير اقبغا عبد الواحد وهو جار في وقفه. سويق خزانة البنود: هذه السويقة على باب درب راشد، وتمتدّ إلى خزانة البنود، وكانت تعرف أوّلا بسويقة ريدان الصقلبي المنسوب إليه الريدانية خارج باب النصر. سويقة المسعودي: هذه السويقة من حقوق حارة زويلة بالقاهرة، تنسب إلى الأمير صارم الدين قايماز المسعوديّ، مملوك الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل. وولي المسعودي هذا ولاية القاهرة، وكان ظالما غاشما جبارا، من أجل أنه كان في دار ابن فرقة التي من جملتها جامع ابن المغربي، وبيت الوزير ابن أبي شاكر، ثم إن فتح الدين بن معتصم الداودي التبريزي كاتب السر جدّدها في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، لأنه كان يسكن هناك. ومات المسعوديّ في يوم الاثنين النصف من ذي الحجة سنة أربع وستين وستمائة، ضربه شخص في دار العدل بسكين، كان يريد أن يقتل بها الأمير عز الدين الحلي نائب السلطنة، فوقعت في فؤاد المسعوديّ فمات لوقته. سويقة طغلق: هذه السويقة على رأس الحارة الصالحية مما يلي الجامع الأزهر، عرفت بالأمير سيف الدين طغلق السلاح دار، صاحب حمام طغلق التي بالقرب من الجامع

الأزهر على باب درب المنصوري، وصاحب دار طغلق التي عرفت اليوم بدار المنصوري في الدرب المذكور، وأوّل ما عمرت هذه السويقة لم يكن فيها غير أربع حوانيت، ثم عمرت عمارة كبيرة لمّا خربت سويقة الصالحية التي كانت مما يلي باب البرقية في حدود سنة ثمانين وسبعمائة، ثم تلاشت من سنة ست وثمانمائة كما تلاشى غيرها من الأسواق، وبقي فيها يسير جدّا. سويقة الصوّاني: هذه السويقة خارج باب النصر وباب الفتوح، بخط بستان ابن صيرم، عرفت بالأمير علاء الدين أبي الحسن عليّ بن مسعود الصوّانيّ، مشدّ الدواوين في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، وقيل بل قراجا الصوّاني، أحد مقدّمي الحلقة في أيام الملك المنصور قلاوون، وكان في حدود سنة إحدى وثمانين وستمائة موجودا، وكانت داره هناك، وكان أيضا في أيام الملك المنصور قلاون، الأمير زين الدين أبو المعالي أحمد بن شرف الدين أبي المفاخر محمد الصوّاني شادّ الدواوين، وكان يسكن بمدينة مصر، والأمير علم الدين سنجر الصوّاني أحد الأمراء المقدّمين الألوف في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، والملك المظفر بيبرس، وهو صاحب البئر التي بالباطلية المعروفة ببئر الدرابزين، وعز الدين أيبك الصوّاني. سويقة البلشون: هذه السويقة خارج باب الفتوح، عرفت بسابق الدين سنقر البلشون، أحد مماليك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وسلاح درايته، وكان له أيضا بستان بالمقس خارج القاهرة من جوار الدكة يعرف ببستان البلشون. سويقة اللفت: هذه السويقة كانت خارج باب النصر من ظاهر القاهرة، حيث البئر التي في شمال مصلى الأموات، المعروف ببئر اللفت. تجاه دار ابن الحاجب، كانت تشتمل على عدّة حوانيت يباع فيها اللفت والكرنب، ويحمل منها إلى سائر أسواق القاهرة، ويباع اليوم في بعض هذه الحوانيت الدريس لعلف الدواب. سويقة زاوية الخدّام: هذه السويقة خارج باب النصر بحريّ سويقة اللفت، كان فيها عدّة حوانيت يباع فيها أنواع المآكل، فلما كانت سن ست وثمانمائة خربت، ولم يبق فيها سوى حوانيت لا طائل بها. سويقة الرملة: هذه السويقة كانت فيما بين سويقة زاوية الخدّام وجامع آل ملك حيث مصلى الأموات، التي هناك كان فيها عدّة حوانيت مملوءة بأصناف المآكل، قد خرب سائرها ولم يبق لها أثر البتة. سويقة جامع آل ملك: أدركتها إلى سنة ست وثمانمائة، وهي من الأسواق الكبار، فيها غالب ما يحتاج إليه من الإدام، وقد خربت لخراب ما يجاورها.

سويقة أبي ظهير: كانت تلي سويقة جامع آل ملك أدركتها عامرة. سويقة السنابطة: كانت هناك، عرفت بقوم من أهل سنباط سكنوا بها، أدركتها أيضا عامرة. سويقة العرب: هذه السويقة كانت تتصل بالريدانية، خربت في الغلاء الكائن في سنة ست وسبعين وسبعمائة، وأدركت حوانيت هذه السويقة، وهي خالية من السكان إلّا يسيرا، وعقودها من اللبن، ويقال له وما وراءه خراب الحسينية، وكانت في غاية العمارة، وكان بأوّلها مما يلي الحسينية فرن، أدركته عامر إلى ما بعد سنة تسعين وسبعمائة، بلغني أنه كان قبل ذلك في أعوام ستين وسبعمائة يخبز فيه كل يوم نحو سبعة آلاف رغيف، لكثرة من حوله من السكان، وتلك الأماكن اليوم لا ساكن فيها إلّا اليوم، ولا يسمع بها إلّا الصدى. سويقة العزي: هذه السويقة خارج باب زويلة قريبا من قلعة الجبل، كانت من جملة المقابر التي خارج القاهرة، فيما بين الباب الحديد والحارات وبركة الفيل، وبين الجبل الذي عليه الآن قلعة الجبل، فلما اختطت هذه الجهة كما تقدّم ذكره عند ذكر ظواهر القاهرة، عرفت هذه السويقة بالأمير عز الدين أيبك العزي نقيب الجيوش، واستشهد على عكا عند ما فتحها الأشرف خليل بن قلاوون في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة تسعين وستمائة، وهذه السويقة عامرة بعمارة ما حولها. سويقة العياطين: هذه السويقة بخط المقس بالقرب من باب البحر، عرفت بالفقير المعتقد مسعود بن محمد بن سالم العياط لسكنه بالقرب منها، وله هناك مسجد بناه في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وأخبرني الشيخ المعمر حسام الدين حسن بن عمر الشهرزوريّ وكيل أبي رحمه الله: أن النشو ناظر الخاص في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، طرح على أهل هذه السويقة عدّة أمطار عسل قصب، وألزمهم في ثمن كل قنطار بعشرين درهما، فوقفوا إلى السلطان وعيطوا حتى أعفاهم من ذلك، فقيل لها من حينئذ سويقة العياطين، ولفظة عياط عند أهل مصر بمعنى صيّاح، والعياط الصيّاح، وأصل ذلك في اللغة أن العطعطة تتابع الأصوات واختلافها في الحرب، وهي أيضا حكاية أصوات المجان إذا قالوا عيط محيط، وذلك إذا غلبوا قوما، وقد عطعطوا أو عطعط بالذئب إذا قال له عاط عاط، فحرّف عامّة مصر ذلك وجعلوا العياط الصيّاح، واشتقوا منه الفعل فأعرف ذلك. سويقة العراقيين: هذه السويقة بمدينة مصر الفسطاط، وإنما عرفت بذلك لأن قريبا الأزديّ وزحافا الطائيّ، وكانا من الخوارج، خرجا على زياد ابن أمية بالبصرة، فاتهم زياد بهما جماعة من الأزد، وكتب إلى معاوية بن أبي سفيان يستأذنه في قتلهم، فأمر بتغربهم عن أوطانهم، فسيّرهم إلى مصر وأميرها مسلمة بن مخلد، وذلك في سنة ثلاث وخمسين،

ذكر العوائد التي كانت بقصبة القاهرة

وكان عددهم نحوا من مائتين وثلاثين، فأنزلوا بالظاهر أحد خطط مصر، وكان إذ ذاك طرقا، أراد أن يسدّ بهم ذلك الموضع، فنزلوا في الموضع المعروف بكوم سراج، وكان فضاء، فبنوا لهم مسجدا واتخذوا سوقا لأنفسهم، فسمى سويقة العراقيين. ذكر العوائد التي كانت بقصبة القاهرة إعلم أن قصبة القاهرة ما برحت محترمة، بحيث أنه كان في الدولة الفاطمية إذا قدم رسول متملّك الروم، ينزل من باب الفتوح ويقبل الأرض وهو ماش إلى أن يصل إلى القصر، وكذلك كان يفعل كل من غضب عليه الخليفة، فإنه يخرج إلى باب الفتوح ويكشف رأسه ويستغيث بعفو أمير المؤمنين حتى يؤذن له بالمصير إلى القصر، وكان لها عوايد منها: أن السلطان من ملوك بني أيوب ومن قام بعدهم من ملوك الترك، لا بدّ إذا استقرّ في سلطنة ديار مصر أن يلبس خلعة السلطان بظاهر القاهرة، ويدخل إليها راكبا والوزير بين يديه على فرس، وهو حامل عهد السلطان الذي كتبه له الخليفة بسلطنة مصر على رأسهم، وقد أمسكه بيديه، وجميع الأمراء ورجال العساكر مشاة بين يديه منذ يدخل إلى القاهرة من باب الفتوح، أو من باب النصر، إلى أن يخرج من باب زويلة. فإذا خرج السلطان من باب زويلة ركب حينئذ الأمراء وبقية العسكر. ومنها أنه لا يمرّ بقصبة القاهرة حمل تبن، ولا حمل حطب، ولا يسوق أحد فرسا بها، ولا يمرّ بها سقّاء إلّا وراويته «1» مغطاة. ومن رسم أرباب الحوانيت أن يعدّوا عند كل حانوت زيرا مملوءا بالماء مخافة أن يحدث الحريق في مكان فيطفأ بسرعة، ويلزم صاحب كل حانوت أن يعلق على حانوته قنديلا طول الليل يسرج إلى الصباح، ويقام في القصبة قوم يكنسون الأزبال والأتربة ونحوها، ويرشون كل يوم، ويجعل في القصبة طول الليل عدّة من الخفراء يطوفون بها لحراسة الحوانيت وغيرها، ويتعاهد كل قليل بقطع ما عساه تربى من الأوساخ في الطرقات حتى لا تعلو الشوارع. وأوّل من ركب بخلع الخليفة في القاهرة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. قال القاضي الفاضل في متجدّدات سنة سبع وستين وخمسمائة، تاسع شهر رجب وصلت الخلع التي كانت نفذت إلى السلطان الملك العادل نور الدين محمد بن زنكي من الخليفة ببغداد، وهي جبة سوداء وطوق ذهب، فلبسها نور الدين بدمشق إظهارا لشعارها، وسيّرها إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ليلبسها، وكانت أنفذت

له خلعة ذكر أنه استقصرها واستزراها واستصغرها دون قدره، واستقرّ السلطان صلاح الدين بداره، وباتت الخلع مع الواصل بها شاه ملك برأس الطابية، فلما كان العاشر منه خرج قاضي القضاة والشهود والمقرئون والخطباء إلى خيمته، واستقرّ المسير بالخلعة، وهو من الأصحاب النجمية، وزينت البلد ابتهاجا بها، وفيه ضربت النوب الثلاث بالباب الناصري على الرسم النوري في كل يوم، فأما دمشق فالنوب المضروبة بها خمس على رسم قديم، لأن الأتابكية لها قواعد ورسوم مستقرّة بينهم في بلادهم. وفي حادي عشرة ركب السلطان بالخلع وشق بين القصرين والقاهرة، ولما بلغ باب زويلة نزع الخلع وأعادها إلى داره، ثم شمّر للعب الأكرة، ولم يزل الرسم كذلك في ملوك بني أيوب حتى انقضت أيامهم وقام من بعدهم مماليكهم الأتراك، فجروا في ذلك على عادة ملوك بني أيوب إلى أن قام في مملكة مصر السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله، وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد، وقدم على الملك الظاهر أبو العباس، أحمد بن الخليفة الظاهر بالله بن الخليفة الناصر، في شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة، فتلقاه وأكرمه وبايعه ولقبه بالخليفة المستنصر بالله، وخطب باسمه على المنابر، ونقش السكة باسمه، فلما كان في يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب السلطان إلى خيمة ضربت له بالبستان الكبير من ظاهر القاهرة، ولبس خلعة الخليفة، وهي جبة سوداء وعمامة بنفسجية وطوق من ذهب وسيف بدّاويّ، وجلس مجلسا عاما حضر فيه الخليفة والوزير القضاة والأمراء والشهود، وصعد القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتب السرّ منبرا نصب له وقرأ تقليد السلطان الذي عهد به إليه الخليفة، وكان بخط ابن لقمان ومن إنشائه، ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق ودخل من باب النصر وشق القاهرة، وقد زينت له، وحمل الوزير الصاحب بهاء الدين محمد بن عليّ بن حنا التقليد على رأسه قدّام السلطان، والأمراء ومن دونهم مشاة بين يديه حتى خرج من باب زويلة إلى قلعة الجبل، فكان يوما مشهودا. وفي ثالث شوّال سنة اثنتين وستين وستمائة، سلطن الملك الظاهر بيبرس ابنه الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان، وأركبه بشعار السلطنة ومشى قدّامه وشق القاهرة كما تقدّم وسائر الأمراء مشاة من باب النصر إلى قلعة الجبل، وقد زينت القاهرة، وآخر من ركب بشعار السلطنة وخلعة الخلافة والتقليد، السلطان الناصر محمد بن قلاوون، عند دخوله إلى القاهرة من البلاد الشامية بعد قتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، واستيلائه على المملكة، في ثامن جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة. وقال المسبّحي في حوادث سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة نودي في السقائين أن يغطوا روايا الجمال والبغال لئلا تصيب ثياب الناس. وقال: في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة أمر العزيز بالله أمير المؤمنين بنصب أزيار الماء مملوءة ماء على الحوانيت، ووقود المصابيح على الدور وفي الأسواق. وفي ثالث ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة أمر أمير

ذكر ظواهر القاهرة المعزية

المؤمنين الحاكم بأمر الله الناس بأن يقدوا القناديل في سائر البلد على جميع الحوانيت، وأبواب الدور، والمحال والسكك الشارعة. وغير الشارعة، ففعل ذلك، ولازم الحاكم بأمر الله الركوب في الليل، وكان ينزل كل ليلة إلى موضع موضع، وإلى شارع شارع، وإلى زقاق زقاق، وكان قد ألزم الناس بالوقيد، فتناظر وافية واستكثروا منه في الشوارع والأزقة وزينت القياسر والأسواق بأنواع الزينة، وصار الناس في القاهرة ومصر طول الليل في بيع وشراء، وأكثروا أيضا من وقود الشموع العظيمة، وأنفقوا في ذلك أموالا عظيمة جللة لأجل التلاهي، وتبسطوا في المآكل والمشارب وسماع الأغاني، ومنع الحاكم الرجال المشاة بين يديه من المشي بقربة، وزجرهم وانتهرهم وقال: لا تمنعوا أحدا مني، فأحدق الناس به وأكثروا من الدعاء له، وزينت الصاغة وخرج سائر الناس بالليل للتفرّج، وغلب النساء الرجال على الخروج بالليل، وعظم الازدحام في الشوارع والطرقات، وأظهر الناس اللهو والغناء وشرب المسكرات في الحوانيت وبالشوارع من أوّل المحرّم سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وكان معظم ذلك من ليلة الأربعاء تاسع عشرة إلى ليلة الاثنين رابع عشرية، فلما تزايد الأمر وشنع أمر الحاكم بأمر الله أن لا تخرج امرأة من العشاء، ومتى ظهرت امرأة بعد العشاء نكّل بها، ثم منع الناس من الجلوس في الحوانيت فامتنعوا، ولم يزل الحاكم على الركوب في الليل إلى آخر شهر رجب، ثم نودي في شهر رجب سنة خمس وتسعين وثلاثمائة أن لا يخرج أحد بعد عشاء الآخرة، ولا يظهر لبيع ولا شراء، فامتنع الناس. وفي سنة خمس وأربعمائة تزايد في المحرّم منها وقوع النار في البلد وكثر الحريق في عدّة أماكن، فأمر الحاكم بأمر الله الناس باتخاذ القناديل على الحوانيت وأزيار الماء مملوءة ماء، وبطرح السقائف التي على أبواب الحوانيت، والرواشن التي تظلّ الباعة، فأزيل جميع ذلك من مصر والقاهرة. ذكر ظواهر القاهرة المعزية اعلم أن القاهرة المعزية يحصرها أربع جهات وهي: الجهة الشرقية، والجهة الغربية، والجهة الشمالية التي تسميها أهل مصر البحرية، والجهة الجنوبية التي تعرف في أرض مصر بالقبلية. فأما الجهة الشرقية فإنها من سور القاهرة الذي فيه الآن باب البرقية والباب الجديد والباب المحروق، وتنتهي هذه الجهة إلى الجبل المقطم. وأما الجهة الغربية فإنها من سور القاهرة الذي فيه باب القنطرة وباب الخوخة وباب سعادة، وتنتهي هذه الجهة إلى شاطيء النيل. وأما الجهة القبلية فإنها من سور القاهرة الذي فيه باب زويلة، وتنتهي هذه الجهة إلى حدّ مدينة مصر. وأما الجهة البحرية فإنها من سور القاهرة الذي فيه باب النصر وباب الفتوح، وتنتهي هذه الجهة إلى بركة الجب التي تعرف اليوم ببركة الحاج، وقد كانت هذه

الجهة الشرقية عند ما وضعت القاهرة فضاء فيما بين السوروبين الجبل لا بنيان فيه البتة، وما زال على هذا إلى أن كانت الدولة التركية، فقيل لهذا الفضاء الميدان الأسود، وميدان القبق، وسيرد ذكر هذا الميدان إن شاء الله تعالى. فلما كانت سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون، عمل هذا الميدان مقبرة لأموات المسلمين، وبنيت فيه الترب الموجودة الآن كما ذكر عند ذكر المقابر من هذا الكتاب، وكانت الجهة الغربية تنقسم قسمين، أحدهما برّ الخليج الشرقيّ، والآخر برّ الخليج الغربيّ، فأما برّ الخليج الشرقي، فكان عليه بستان الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد وميدانه، وعرف هذا البستان بالكافوري، فلما اختط القائد جوهر القاهرة أدخل هذا البستان في سور القاهرة، وجعل بجانبه الميدان الذي يعرف اليوم بالخرشتف، فصارت القاهرة تشرف من غربيها على الخليج، وبنيت على هذا الخليج مناظر وهي: منظرة اللؤلؤة، ومنظرة دار الذهب، ومنظرة غزالة، كما ذكر عند ذكر المناظر من هذا الكتاب. وكان فيما بين البستان الكافوري والمناظر المذكورة وبين الخليج، شارع تجلس فيه عامة الناس للتفرّج على الخليج وما وراءه من البساتين والبرك، ويقال لهذا الشارع اليوم بين السورين، ويتصل بالبستان الكافوري وميدان الإخشيد بركة الفيل، وبركة قارون، ويشرف على بركة قارون الدور التي كانت متصلة بالعسكر ظاهر مدينة فسطاط مصر، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، عند ذكر البرك وعند ذكر العسكر. وأما برّ الخليج الغربيّ، فإن أوّله الآن من موردة الخلفاء فيما بين خط الجامع الجديد خارج مصر وبين منشأة المهرانيّ، وآخره أرض التاج والخمس وجوه وما بعدها من بحريّ القاهرة، وكان أوّل هذا الخليج عند وضع القاهرة بجانب خط السبع سقايات، وكان ما بين خط السبع سقايات وبين المعاريج بمدينة مصر غامرا بماء النيل، كما ذكر في ساحل مصر من هذا الكتاب، وكانت القنطرة التي يفتح سدّها عند وفاء النيل ست عشرة ذراعا خلف السبع سقايات، كما ذكر عند ذكر القناطر من هذا الكتاب، وكان هناك منظرة السكرة التي يجلس فيها الخليفة يوم فتح الخليج، ولها بستان عظيم، ويعرف موضعه اليوم بالمريس، ويتصل ببستان منظرة السكرة جنان الزهري، وهي من خط قناطر السباع الموجودة الآن بحذاء خط السبع سقايات إلى أراضي اللوق، ويتصل بالزهري عدّة بساتين إلى المقس، وقد صار موضع الزهري وما كان بجواره على برّ الخليج من البساتين يعرف بالحكورة، من أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى وقتنا هذا، كما ذكر عند ذكر الأحكار من هذا الكتاب. وكان الزهريّ وما بجواره من البساتين التي على برّ الخليج الغربي والمقس، كل ذلك مطلّ على النيل، وليس لبرّ الخليج الغربيّ كبير عرض، وإنما يمرّ النيل في غربيّ البساتين على الموضع الذي يعرف اليوم باللوق إلى المقس، فيصير المقس هو ساحل القاهرة، وتنتهي المراكب إلى موضع جامع المقس الذي يعرف اليوم بجامع المقسي، فكان ما بين

الجامع المذكور ومنية عقبة التي ببرّ الجيزة بحر النيل، ولم يزل الأمر على ذلك إلى ما بعد سنة سبعمائة. إلّا أنه كان قد انحسر ماء النيل بعد الخمسمائة من سني الهجرة عن أرض بالقرب من الزهريّ، وانحسر أيضا عن أرض تجاه البعل الذي في بحري القاهرة، عرفت هذه الأرض بجزيرة الفيل، وما برح ماء النيل ينحسر عن شيء بعد شيء إلى ما بعد سنة سبعمائة، فبقيت عدّة رمال فيما بين منشأة المهرانيّ وبين جزيرة الفيل، وفيما بين المقس وساحل النيل، عمر الناس فيها الأملاك والمناظر والبساتين من بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وحفر الملك الناصر محمد بن قلاوون فيها الخليج المعروف اليوم بالخليج الناصريّ، فصار برّ الخليج الغربيّ بعد ذلك أضعاف ما كان أوّلا من أجل انطراد ماء النيل عن برّ مصر الشرقيّ، وعرف هذا البرّ اليوم بعدّة مواضع، وهي في الجملة خط منشأة المهرانيّ، وخط المريس، وخط منشأة الكتبة، وخط قناطر السباع، وخط ميدان السلطان، وخط البركة الناصرية، وخط الحكورة، وخط الجامع الطبرسي، وربع بكتمر، وزريبة السلطان، وخط باب اللوق، وقنطرة الخرق، وخط بستان العدّة، وخط زريبة قوصون، وخط حكر ابن الأثير، وفم الخور، وخط الخليج الناصري، وخط بولاق، وخط جزيرة الفيل، وخط الدكة، وخط المقس، وخط بركة قرموط، وخط أرض الطبالة، وخط الجرف، وأرض البعل، وكوم الريش، وميدان القمح، وخط باب القنطرة، وخط باب الشعرية، وخط باب البحر، وغير ذلك. وسيأتي من ذكر هذه المواضع ما يكفي ويشفي إن شاء الله تعالى. وكانت جهة القاهرة القبلية من ظاهرها ليس فيها سوى بركة الفيل وبركة قارون، وهي فضاء يرى من خرج من باب زويلة عن يمينه الخليج وموردة السقائين، وكانت تجاه باب الفتوح، ويرى عن يساره الجبل، ويرى تجاهه قطائع ابن طولون التي تتصل بالعسكر، ويرى جامع ابن طولون وساحل الحمراء الذي يشرف عليه جنان الزهريّ، ويرى بركة الفيل التي كان يشرف عليها الشرف الذي فوقه قبة الهواء، ويعرف اليوم هذا الشرف بقلعة الجبل، وكان من خرج من مصلى العيد بظاهر مصر يرى بركتي الفيل وقارون والنيل. فلما كانت أيام الخليفة الحاكم بأمر الله أبي علي منصور بن العزيز بالله أبي منصور نزار بن الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ، عمل خارج باب زويلة بابا عرف بالباب الجديد، واختط خارج باب زويلة عدّة من أصحاب السلطان، فاختطت المصامدة حارة المصامدة، واختطت اليانسية والمنجبية وغيرهما كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، فلما كانت الشدّة العظمى في خلافة المستنصر بالله، اختلت أحوال مصر وخربت خرابا شنيعا، ثم عمر خارج باب زويلة في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله، ووزارة المأمون محمد بن فاتك بن البطائحيّ بعد سنة خمسمائة، فلما زالت الدولة الفاطمية، هدم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب حارة المنصورة التي كانت سكن العبيد خارج باب زويلة، وعملها بستانا،

فصار ما خرج عن باب زويلة بساتين إلى المشهد النفيسيّ، وبجانب البساتين طريق يسلك منها إلى قلعة الجبل التي أنشأها السلطان صلاح الدين المذكور على يد الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ، وصار من يقف على باب جامع ابن طولون يرى باب زويلة، ثم حدثت العمائر التي هي الآن خارج باب زويلة بعد سنة سبعمائة، وصار خارج باب زويلة الآن ثلاثة شوارع، أحدها ذات اليمين، والآخر ذات الشمال، والشارع الثالث تجاه من خرج من باب زويلة، وهذه الشوارع الثلاثة تشتمل على عدّة أخطاط. فأما ذات اليمين فإن من خرج من باب زويلة الآن يجد عن يمينه شارعا سالكا ينتهي به في العرض إلى الخليج، حيث القنطرة التي تعرف بقنطرة الخرق، وينتهي به في الطول من باب زويلة إلى خط الجامع الطولوني، وجميع ما في هذا الطول والعرض من الأماكن كان بساتين إلى ما بعد السبعمائة. وفي هذه الجهة اليمنى، خط دار التفاح، وسوق السقطيين، وخط تحت الربع، وخط القشاشين، وخط قنطرة الخرق، وخط شق الثعبان، وخط قنطرة آقسنقر، وخط الحبانية، وبركة الفيل، وخط قبو الكرمانيّ، وخط قنطرة طقزدمر، والمسجد المعلق، وخط قنطرة عمر شاه، وخط قناطر السباع، وخط الجسر الأعظم، وخط الكبش، والجامع الطولوني، وخط الصليبة، وخط الشارع، وما هناك من الحارات التي ذكرت عند ذكر الحارات من هذا الكتاب. وأما ذات اليسار، فإن من خرج من باب زويلة الآن يجد عن يساره شارعا ينتهي به في العرض إلى الجبل، وينتهي به في الطول إلى القرافة، وجميع ما في هذه الجهة اليسرى كان فضاء لا عمارة فيه البتة، إلى ما بعد سنة خمسمائة من الهجرة، فلما عمر الوزير الصالح طلائع بن رزيك جامع الصالح الموجود الآن خارج باب زويلة، صار ما وراءه إلى نحو قطائع ابن طولون مقبرة لأهل القاهرة، إلى أن زالت دولة الخلفاء الفاطميين، وأنشأ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قلعة الجبل على رأس الشرف المطلّ على القطائع، وصار يسلك إلى القلعة من هذه الجهة اليسرى فيما بين المقابر والجبل، ثم حدثت بعد المحن هذه العمائر الموجودة هناك شيئا بعد شيء، من سنة سبعمائة، وصار في هذه الشقة خط سوق البسطيين، وخط الدرب الأحمر، وخط جامع المارديني، وخط سوق الغنم، وخط التبانة، وخط باب الوزير، وقلعة الجبل، والرميلة، وخط القبيبات، وخط باب القرافة. وأما ما هو تجاه من خرج من باب زويلة فيعرف بالشارع، وقد تقدّم ذكره عند ذكر الأسواق من هذا الكتاب، وهو ينتهي بالسالك إلى خط الصليبة المذكورة آنفا، وإلى خط الجامع الطولونيّ، وخط المشهد النفيسي، وإلى العسكر، وكوم الجارح، وغير ذلك من بقية خطط ظواهر القاهرة ومصر، وكانت جهة القاهرة البحرية من ظاهرها فضاء ينتهي إلى بركة الجب، وإلى منية الاصبغ التي عرفت بالخندق، وإلى منية مطر التي تعرف بالمطرية،

ذكر ميدان القبق

وإلى عين شمس، وما وراء ذلك، إلّا أنه كان تجاه القاهرة بستان ريدان، ويعرف اليوم بالريدانية، وعند مصلّى العيد خارج باب النصر حيث يصلي الآن على الأموات، كان ينزل هناك من يسافر إلى الشام. فلما كان قبل سنة خمسمائة، ومات أمير الجيوش بدر الجمالي في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، بني خارج باب النصر له تربة دفن فيها وبني أيضا خارج باب الفتوح منظرة قد ذكر خبرها عند ذكر المناظر من هذا الكتاب، وصار أيضا فيما بين باب الفتوح والمطرية بساتين قد تقدّم خبرها، ثم عمرت الطائفة الحسينية بعد سنة خمسمائة خارج باب الفتوح عدّة منازل، اتصلت بالخندق، وصار خارج باب النصر مقبرة إلى ما بعد سنة سبعمائة، فعمر الناس به حتى اتصلت العمائر من باب النصر إلى الريدانية، وبلغت الغاية من العمارة، ثم تناقصت من بعد سنة تسع وأربعين وسبعمائة إلى أن فحش خرابها من حين حدثت المحن في سنة ست وثمانمائة، فهذا حال ظواهر القاهرة منذ اختطت وإلى يومنا هذا، ويحتاج ما ذكر هنا إلى مزيد بيان والله أعلم. ذكر ميدان القبق هذا الموضع خارج القاهرة من شرقيها، فيما بين النقرة التي ينزل من قلعة الجبل إليها، وبين قبة النصر التي تحت الجبل الأحمر، ويقال له أيضا الميدان الأسود، وميدان العيد، والميدان الأخضر، وميدان السباق، وهو ميدان السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ الصالحيّ النجميّ، بنى به مصطبة في المحرّم من سنة ست وستين وستمائة، عند ما احتفل برمي النشاب وأمور الحرب، وحثّ الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ونحو ذلك، وصار ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة من الظهر، فلا يركب منها إلى العشاء الآخرة، وهو يرمي ويحرّض الناس على الرمي والنضال والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلّا وهذا شغله، وتوفر الناس على لعب الرمح ورمي النشاب، وما برح من بعده من أولاده والملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفيّ الصالحيّ النجميّ، والملك الأشرف خليل بن قلاوون يركبون في الموكب لهذا الميدان، وتقف الأمراء والمماليك السلطانية تسابق بالخيل فيه قدّامهم، وتنزل العساكر فيه لرمي القبق. والقبق عبارة عن خشبة عالية جدّا، تنصب في براح من الأرض، ويعمل بأعلاها دائرة من خشب، وتقف الرماة بقسيّها وترمي بالسهام جوف الدائرة لكي تمرّ من داخلها إلى غرض هناك، تمرينا لهم على إحكام الرمي. ويعبّر عن هذا بالقبق، في لغة الترك. قال جامع السيرة الظاهرية: وفي سابع عشر المحرّم من سنة سبع وستين وستمائة، حثّ السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ جميع الناس على رمي النشاب ولعب الرمح، خصوصا خواصه ومماليكه، ونزل إلى الفضاء بباب النصر ظاهر القاهرة،

ويعرف بميدان العيد، وبنى مصطبة هناك، وأقام ينزل في كل يوم من الظهر، ويركب منها عشاء الآخرة، وهو واقف في الشمس يرمي ويحرّض الناس على الرمي والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلا وهذا شغله، واستمرّ الحال في كل يوم على ذلك حتى صارت تلك الأمكنة لا تسع الناس، وما بقي لأحد شغل إلّا لعب الرمح ورمي النشاب. وفي شهر رمضان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، تقدّم السلطان الملك الظاهر إلى عساكره بالتأهب للركوب واللعب بالقبق ورمي النشاب، واتفقت نادرة غريبة، وهو أنه أمر برش الميدان الأسود تحت القلعة لأجل الملعب، فشرع الناس في ذلك، وكان يوما شديد الحرّ، فأمر السلطان بتبطيل الرش رحمة للناس، وقال: الناس صيام وهذا يوم شديد الحرّ، فبطل الرش، وأرسل الله تعالى مطرا جودا استمرّ ليلتين ويوما حتى كثر الوحل وتلبدت الأرض وسكن العجاج وبرد الجوّ ولطف الهواء، فوكل السلطان من يحفظه من السوق فيه يوم اللعب، وهو يوم الخميس السادس والعشرون من شهر رمضان، وأمر بركوب جماعة لطيفة من كل عشرة اثنان، وكذلك من كل أمير، ومن كل مقدّم لئلا تضيق الدنيا بهم. فركبوا في أحسن زيّ، وأجمل لباس، وأكمل شكل، وأبهى منظر، وركب السلطان ومعه من خواصه ومماليكه ألوف، ودخلوا في الطعان بالرماح، فكل من أصاب خلع عليه السلطان، ثم ساق في مماليكه الخواص خاصة، ورتبهم أجمل ترتيب، واندفق بهم اندفاق البحر، فشاهد الناس أبهة عظيمة، ثم أقيم القبق ودخل الناس لرمي النشاب، وجعل لمن أصاب من المفاردة رجال الحلقة والبحرية الصالحية وغيرهم بغلطاقا بسنجاب، وللأمراء فرسا من خيله الخاص بتشاهيره ومراواته الفضية والذهبية ومزاخمه، وما زال في هذه الأيام على هذه الصورة يتنوّع في دخوله وخروجه، تارة بالرماح، وتارة بالنشاب، وتارة بالدبابيس، وتارة بالسيوف مسلولة، وذلك أنه ساق على عادته في اللعب وسلّ سيفه، وسلّ مماليكه سيوفهم، وحمل هو ومماليكه حملة رجل واحد، فرأى الناس منظرا عجيبا، وأقام على ذلك كل يوم من بكرة النهار إلى قريب المغرب، وقد ضربت الخيام للنزول للوضوء والصلاة، وتنوّع الناس في تبديل العدد والآلات، وتفاخروا وتكاثروا، فكانت هذه الأيام من الأيام المشهودة، ولم يبق أحد من أبناء الملوك، ولا وزير، ولا أمير كبير ولا صغير، ولا مفردي، ولا مقدّم من مقدّمي الحلقة، ومقدّمي البحرية الصالحية، ومقدّمي المماليك الظاهرية البحرية، ولا صاحب شغل، ولا حامل عصا في خدمة السلطان على بابه، ولا حامل طير في ركاب السلطان، ولا أحد من خواص كتاب السلطان، إلّا وشرّف بما يليق به على قدر منصبه، ثم تعدّى إحسان السلطان لقضاة الإسلام والأئمة وشهود خزانة السلطان، فشرّفهم جميعهم، ثم الولاة كلهم، وأصبحوا بكرة يوم الأحد ثامن عشري شهر رمضان لابسين الخلع جميعهم في أحسن صورة وأبهج زي وأبهى شكل وأجمل زينة، بالكلوتات الزركش بالذهب، والملابس التي ما سمع بأن أحدا جاد بمثلها، وهي ألوف، وخدم الناس جميعهم

وقبلوا الأرض وعليهم الخلع، وركبوا ولعبوا نهارهم على العادة، والأموال تفرّق والأسمطة تصف، والصدقات تنفق، والرقاب تعتق. وما زال إلى أن أهلّ هلال شوّال، فقام الناس وطلعوا للهناء، فجلس لهم، وعليهم خلعه، ثم ركب يوم العيد إلى مصلاه في خيمة بشعار السلطنة وأبّهة الملك، فصلى ثم طلع قلعة الجبل وجلس على الأسمطة، وكان الاحتفال بها كبيرا، وأكل الناس، ثم انتهبه الفقراء، وقام إلى مقرّ سلطانه بالقبة السعيدة، وقد غلقت وفرشت بأنواع الستور والكلل والفرش، وكان قد تقدّم إلى الأمراء بإحضار أولادهم، فأحضروا، وخلع عليهم الخلع المفصلة على قدرهم، فلما كان هذا اليوم أحضروا وختنوا بأجمعهم بين يدي السلطان، وأخرجوا فحملوا في المحفات إلى بيوتهم، وعمّ الهناء كل دار، ثم أحضر الأمير نجم الدين خضر ولد السلطان، فختن ورمى للناس جملة من الأموال اجتمع منها خزانة ملك كبير، فرّقت على من باشر الختان من الحكماء والمزينين وغيرهم. وانقضت هذه الأيام، وجرى السلطان فيها على عادته كما كان، من كونه لم يكلّف أحدا من خلق الله تعالى بهدية يهديها، ولا تحفة يتحفه بها في مثل هذه المسرّة، كما جرت عادة من تقدّمه من الملوك، ولم يبق من لا شمله إحسانه غير أرباب الملاهي والأغاني، فإنه كان في أيامه لم ينفق لهم مبلغ البتة. وممن لعب بهذا الميدان القبق، السلطان الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وعمل فيه المهمّ الذي لم يعمل في دولة ملوك الترك بمصر مثله، وذلك أن خوندار دوتكين ابنة نوكيه، ويقال نوغية السلحدارية، اشتملت من السلطان الملك الأشرف على حمل، فظنّ أنها تلد ابنا ذكرا يرث الملك من بعده، فأخذ عند ما قاربت الوضع في الاحتفال، ورسم لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس أن يكتب إلى دمشق بعمل مائة شمعدان نحاس مكفت بألقاب السلطان، ومائة شمعدان أخر، منها خمسون من ذهب، وخمسون من فضة، وخمسين سرجا من سروج الزركش، ومائة وخمسين سرجا من المخيش، وألف شمعة وأشياء كثيرة غير ذلك، فقدّر الله تعالى أنها ولدت بنتا، فانقبض لذلك وكره إبطال ما قد اشتهر عنه عمله، فأظهر أنه يريد ختان أخيه محمد، وابن أخيه مظفر الدين موسى بن الملك الصالح عليّ بن قلاوون، فرسم لنقيب الجيش والحجاب بإعلام الأمراء والعسكر أن يلبسوا كلهم آلة الحرب من السلاح الكامل، هم وخيولهم، ويصيروا بأجمعهم كذلك في الميدان الأسود خارج باب النصر، فاهتم الأمراء والعسكر اهتماما كبيرا لذلك، وأخذوا في تحسين العدد وبالغوا في التأنق، وتنافسوا في إظهار التجمل الزائد، وخرج في اليوم الرابع من إعلام الأمراء السوقة، ونصبوا عدّة صواوين فيها سائر البقول والمآكل، فصار بالميدان سوق عظيم، ونزل السلطان من قلعة الجبل بعساكره وعليهم لامة الحرب، وقد خرج سائر من في القاهرة ومصر من الرجال والنساء إلّا من خلفه العذر لرؤية السلطان، فأقام السلطان يومه، وحصل في ذلك اليوم للناس بهذا الاجتماع من السرور ما يعزّ وجود مثله، وأصبح السلطان

وقد استعدّ العسكر بأجمعه لرمي القبق، ورسم للحجاب بأن لا يمنعوا أحدا من الجند، ولا من المماليك، ولا من غيرهم من الرمي، ورسم للأمير بيسري والأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ أمير سلاح، أن يتقدّما الناس في الرمي، فاستقبل الأمير بيسري القبق وتحته سرج قد صنع قربوسه الذي من خلفه وطيئا، فصار مستلقيا على قفاه، وهو يرمي ويصيب يمنة ويسرة، والناس بأسرهم قد اجتمعوا للنظر حتى ضاق بهم الفضاء، فلما فرغ دخل أمير سلاح من بعده، وتلاه الأمراء على قدر منازلهم واحدا واحدا، فرموا. ثم دخل بعد الأمراء مقدّموا الحلقة، ثم الأجناد والسلطان يعجب برميهم، وتزايد سروره حتى فرغ الرمي، فعاد إلى مخيّمه ودار السقاة على الأمراء بأواني الذهب والفضة والبلور يسقون السكّر المذاب، وشرب الأجناد من أحواض قد ملئت من ذلك، وكانت عدّتها مائة حوض، فشربوا ولهوا واستمرّوا على ذلك يومين، وفي اليوم الثالث ركب السلطان واستدعى الأمير بيسري وأمره بالرمي، فسأل السلطان أن يعفيه من الرمي، ويمنّ عليه بالتفرّج في رمي النشاب من الأمراء وغيرهم، فأعفاه ووقف مع السلطان في منزلته، وتقدّم طفج، وعين الغزال، وأمير عمر، وكيلكدي، وقشتمر العجمي، وبرلغي، وأعناق الحسامي، وبكتوت، ونحو الخمسين من أمراء السلطان الشبان الذين أنشأهم من خاصكيته، وعليهم تتريات حرير أطلس بطرازات زركش وكلوتات زركش وحوائص ذهب، وكانوا من الجمال البارع بحيث يذهب حسنهم الناظر، ويدهش جمالهم الخاطر، فتعاظمت مسرّة السلطان برؤيتهم، وكثر إعجابه، وداخله العجب واستخفه الطرب، وارتجب الدنيا بكثرة من حضر هناك من أرباب الملاهي والأغاني وأصحاب الملعوب. فلما انقضى اللعب، عاد السلطان إلى دهليزه في زينته، ومرح في مشيته تيها وصلفا، فما هو إلّا أنّ عبر الدهليز والناس من الطرب والسرور في أحسن شيء يقع في العالم، وإذا بالجوّ قد أظلم، وثار ريح عاصف أسود إلى أن طبق الأرض والسماء، وقلع سائر تلك الخيم، وألقى الدهليز السلطانيّ، وتزايد حتى أن الرجل لا يرى من بجانبه، فاختلط الناس وماجوا ولم يعرف الأمير من الحقير، وأقبلت السوقة والعامّة تنهب، وركب السلطان يريد النجاة بنفسه إلى القلعة، وتلاحق العسكر به واختلفوا في الطرق لشدّة الهول، فلم يعبر إلى القلعة حتى أشرف على التلف، وحصل في هذا اليوم من نهب الأموال وانتهاك الحرم والنساء ما لا يمكن وصفه، وما ظنّ كل أحد إلّا أنّ الساعة قد قامت، فتنغص سرور الناس وذهب ما كان هناك، وما استقرّ السلطان بالقلعة حتى سكن الريح وظهرت الشمس وكأن ما كان لم يكن، فأصبح السلطان وطلب أرباب الملاهي بأجمعهم، وحضر الأمراء الختان أخيه وابن أخيه، وعمل مهمّ عظيم في القاعة التي أنشأها بالقلعة، وعرفت بالأشرفية، وقد ذكر خبر هذا المهمّ عند ذكر القلعة من هذا الكتاب. وما برح هذا الميدان فضاء من قلعة الجبل إلى قبة النصر ليس فيه بنيان، وللملوك فيه

ذكر بر الخليج الغربي

من الأعمال ما تقدّم ذكره إلى أن كانت سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فترك النزول إليه وبنى مسطبة برسم طعم طيور الصيد بالقرب من بركة الحبش، وصار ينزل هنالك، ثم ترك تلك المسطبة في سنة عشرين وسبعمائة، وعاد إلى ميدان القبق هذا وركب إليه على عادة من تقدّمه من الملوك، إلى أن بنيت فيه الترب شيئا بعد شيء حتى انسدّت طريقه، واتصلت المباني من ميدان القبق إلى تربة الروضة خارج باب البرقية، وبطل السباق منه، ورمي القبق فيه، من آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، كما ذكر عند ذكر المقابر من هذا الكتاب، وأنا أدركت عواميد من رخام قائمة بهذا الفضاء تعرف بين الناس بعواميد السباق، بين كل عمودين مسافة بعيدة، وما برحت قائمة هنالك إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فهدمت عند ما عمّر الأمير يونس الدوادار الظاهريّ تربته تجاه قبة النصر، ثم عمّر أيضا الأمير قجماس ابن عمّ الملك الظاهر برقوق تربة هنالك، وتتابع الناس في البنيان إلى أن صار كما هو الآن والله أعلم. ذكر برّ الخليج الغربي قد تقدّم أنّ هذا الخليج حفر قبل الإسلام بدهر، وأن عمرو بن العاص رضي الله عنه جدّد حفره في عام الرمادة، بإشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى صبّ ماء النيل في بحر القلزم «1» ، وجرت فيه السفن بالغلال وغيرها حتى عبرت منه إلى البحر الملح، وأنه ما برح على ذلك إلى سنة خمسين ومائة، فطمّ ولم يبق منه إلا ما هو موجود الآن، إلّا أنّ فم هذا الخليج الذي يصبّ فيه الماء من بحر النيل، لم يكن عند حفره هذا الفم الموجود الآن، ولست أدري أين كان فمه عند ابتداء حفره في الجاهلية، فإن مصر فتحت وماء النيل عند الموضع الذي فيه الآن جامع عمرو بن العاص بمصر، وجميع ما بين الجامع وساحل النيل الآن انحسر عنه الماء بعد الفتح، وآخر ما كان ساحل مصر من عند سوق المعاريج الذي هو الآن بمصر إلى تجاه الكبش من غربيه، وجميع ما هو الآن موجود من الأرض التي فيما بين خط السبع سقايات إلى سوق المعاريج انحسر عنه الماء شيئا بعد شيء، وغرس بساتين، فعمل عبد العزيز بن مروان أمير مصر قنطرة على فم هذا الخليج في سنة تسع وستين من الهجرة بأوّله، عند ساحل الحمراء، ليتوصل من فوق هذه القنطرة إلى جنان الزهريّ الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى. وموضع هذه القنطرة بداخل حكر أقبغا المجاور لخط السبع سقايات، وما برحت هذه القنطرة عندها السدّ الذي يفتح عند الوفاء إلى ما بعد الخمسمائة من الهجرة، فانحسر ماء النيل عن الأرض، وغرست بساتين، فعمل الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي هذه القنطرة التي تعرف اليوم بقنطرة السدّ، خارج مصر، ليتوصل من فوقها إلى بستان

ذكر الأحكار التي في غربي الخليج

الخشاب، وزيد في طول الخليج ما بين قنطرة السباع الآن وبين قنطرة السدّ المذكورة، وصار ما في شرقيه مما انحصر عنه الماء بستانا عرف ببستان الحارة، وما في غربيه يعرف ببستان المحليّ، وكان بطرف خط السبع سقايات كنيسة الحمراء، وعدّة كنائس أخر، بعضها الآن بحكر أقبغا، تعرف بزاوية الشيخ يوسف العجميّ، لسكناه بها عند ما هدمت بعد سنة عشرين وسبعمائة، وما برحت هذه البساتين موجودة إلى أن استولى عليها الأمير أقبغا عبد الواحد استدار الملك الناصر محمد بن قلاون، وقلع أخشابها وأذن للناس في عمارتها، فحكرها الناس وبنوا فيها الآدر وغيرها، فعرفت بحكر أقبغا. وبأوّل هذا الخليج الآن من غربيه منشأة المهرانيّ، وقد تقدّم خبرها في هذا الكتاب عند ذكر مدينة مصر، ويجاور منشأة المهرانيّ بستان الخشاب، وبعضه الآن يعرف بالمريس، وبعضه عمله الملك الناصر محمد بن قلاون ميدانا يشرف على النيل من غربيه، ويعرف ساحل النيل هناك بموردة الجبس، كما ذكر عند ذكر الميادين من هذا الكتاب، ويجاور بستان الخشاب جنان الزهريّ، وهذه المواضع التي ذكرت كلها مما انحسر عنه النيل، ما خلا جنان الزهريّ، فإنها من قبل ذلك، وستقف على خبرها وخبر ما يجاورها من الأحكار إن شاء الله تعالى. ذكر الأحكار التي في غربيّ الخليج قال ابن سيده: الاحتكار، جمع الطعام ونحوه مما يؤكل واحتباسه انتظار وقت الغلاء به. والحكرة والحكر جميعا: ما احتكر وحكره يحكره حكرا ظلمه وتنقضه وأساء معاشرته. انتهى. فالتحكير على هذا: المنع. فقول أهل مصر: حكر فلان أرض فلان، يعنون منع غيره من البناء عليها. حكر الزهريّ: هذا الحكر يدخل فيه جميع برّ ابن التبان الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، وشق الثعبان، وبطن البقرة، وسويقة القيمريّ، وسويقة صفية، وبركة الشقاف، وبركة السباعين، وقنطرة الخرق، وحدرة المرادنيين، وحكر الحلبيّ، وحكر البواشقيّ، وحكر كرجي وما بجانبه إلى قناطر السباع، وميدان المهاري إلى الميدان الكبير السلطانيّ بموردة الجبس. وكان هذا قديما يعرف بجنان الزهريّ، ثم عرف ببستان الزهري. قال أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ الغرباء: عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، يكنى أبا العباس، وأمّه أم عثمان بنت عثمان بن العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، مدنيّ قدم مصر، وولي الشرط بفسطاط مصر، وحدّث يروي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة، روى عنه من أهل

مصر أصبغ بن الفرج، وسعيد بن أبي مريم، وعثمان بن صالح، وسعيد بن عفير، وغيرهم. وهو صاحب الجنان التي بالقنطرة، قنطرة عبد العزيز بن مروان، تعرف بجنان الزهريّ، وهو حبس على ولده إلى اليوم. وكان كتاب حبس الجنان عند جدّي يونس بن عبد الأعلى وديعة عليه، مكتوب وديعة لولد ابن العباس الزهريّ لا يدفع لأحد إلّا أن يغري به سلطان، والكتاب عندي إلى الآن. توفي عبد الوهاب بن موسى بمصر في رمضان سنة عشرة ومائتين. وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعيّ في كتاب معرفة الخطط والآثار: حبس الزهريّ هو الجنان التي عند القنطرة بالحمراء، وهو عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز الزهريّ، قدم مصر وولي الشرط بها، والجنان حبس على ولده. وقال القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج في كتاب إيقاظ المتغفل واتعاظ المتأمّل: حبس الزهريّ فذكره ثم قال: وهذا الحبس أكثر الآن أحكار، ما بين بركة الشقاف وخليج شق الثعبان وقد استولى وكيل بيت المال على بعضه، وباع من أرضه وآجرّ منها، واجتمع هو ومحبسه بين يدي الله عز وجلّ. انتهى. ولما طال الأمد صار للزهريّ عدّة بساتين، منها بستان أبي اليمان، وبستان السراج، وبستان الحبانية، وبستان عزاز، وبستان تاج الدولة قيماز، وبستان الفرغانيّ، وبستان أرض الطيلسان، وبستان البطرك، وغيط الكرديّ، وغيط الصفار، ثم عرف ببرّ ابن التبان بعد ذلك. قال القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة: شاطىء الخليج المعروف ببرّ التبان. ابن التبان المذكور: هو رئيس المراكب في الدولة المصرية، وكان له قدر وأبهة في الأيام الآمرية وغيرها، ولما كان في الأيام الآمرية، تقدّم إلى الناس بالعمارة قبالة الخرق غربيّ الخليج، فأوّل من ابتدأ وعمر الرئيس ابن التبان، فإنه أنشأ مسجدا وبستانا ودارا، فعرفت تلك الخطة به إلى الآن، ثم بنى سعد الدولة والي القاهرة، وناهض الدولة عليّ، وعديّ الدولة أبو البركات محمد بن عثمان، وجماعة من فراشي الخاص. واتصلت العمارة بالآجرّ والسقوف النقية والأبواب المنظومة من باب البستان، المعروف بالعدّة على شاطىء الخليج الغربيّ، إلى البستان المعروف بأبي اليمن. ثم ابتنى جماعة غيرهم ممن يرغب في الأجرة والفرجة على التراع التي تتصرّف من الخليج إلى الزهريّ والبساتين من المنازل والدكاكين شيئا كثيرا، وهي الناحية المعروفة الآن بشق الثعبان وسويقة القيمريّ، إلى أن وصل البناء إلى قبالة البستان المعروف بنور الدولة الربعيّ، وهذا البستان معروف في هذا الوقت بالخطة المذكورة، وهو متلاشي الحال بسبب ملوحة بئره، وبستان نور الدولة هو

الآن الميدان الظاهريّ والمناظر به، وتفرّقت الشوارع والطرق، وسكنت الدكاكين والدور، وكثر المترّددون إليه والمعاش فيه، إلى أن استناب والي القاهرة بها نائبا عنه، ثم تلاشت تلك الأحوال وتغيرت إلى أن صارت أطلالا، وعفت تلك الآثار. ثم بعد ذلك حكر آدر أو بساتين، وبني على غير تلك الصفة المقدّم ذكرها، وبني على ما هو عليه، ثم حكر بستان الزهريّ آدرا، ولم يبق منه إلّا قطعة كبيرة بستانا، وهو الآن أحكار تعرف بالزهريّ، ويعرف البرّ جميعه ببرّ ابن التبان إلى هذا الوقت، وولايته تعرف بولاية الحكمر، وبني به حمام الشيخ نجم الدين بن الرفعة، وحمام تعرف بالقيمري، وحمام تعرف بحمّام الداية انتهى. وبستان أبي اليمان يعرف اليوم مكانه بحكر أقبغا، وفيه جامع الست مسكة، وسويقة السباعين. وبستان السراج في أرض باب اللوق، يعرف موضعه الآن بحكر الخليليّ، ويأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى. وقيماز هو تاج الدولة، صهر الأمير بهرام الأرمنيّ، وزير الخليفة الحافظ لدين الله، وقتل عند دخول الصالح طلائع بن رزيك إلى القاهرة في سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وعزاز هو غلام الوزير شاور بن مجير السعديّ، وزير الخليفة العاضد لدين الله. حكر الخليلي: هذا الحكر هو الخط الذي بقرب سويقة السباعين وجامع الست مسكة، وهو بجوار حكر الزهريّ، وكان بستانا يعرف ببستان أبي اليمان، ومنهم من يكتب بستان أبي اليمن بغير ألف بعد الميم، ثم عرف ببستان ابن جن حلوان، وهو الجمال محمد بن الزكي يحيى بن عبد المنعم بن منصور التاجر. في ثمرة البساتين عرف بابن جن حلوان، في سنة إحدى وتسعين وستمائة، وحدّ هذا البستان القبليّ إلى الخليج، وكان فيه بابه والهماليا والحدّ البحريّ ينتهي إلى غيظ قيماز، والشرقيّ إلى الآدر المحتكرة، والغربيّ ينتهي إلى قطعة تعرف قديما بابن أبي التاج. ثم عرف ببستان ابن السراج، واستأجره ابن جن حلوان من الشيخ نجم الدين بن الرفعة الفقيه المشهور في سنة ثمان وثمانين وستمائة، فعرف به. ثم إن هذا البستان حكر بعد ذلك فعرف بحكر الخليليّ وهو ... «1» . حكر قوصون: هذا الحكر مجاور لقناطر السباع، كان بساتين، أحدهما يعرف بالمخاريق الكبرى، والآخر يعرف بالمخاريق الصغرى، فأمّا المخاريق الكبرى: فإن القاضي الرئيس الأجل المختار العدل الأمين زكيّ الدين أبا العباس أحمد بن مرتضى بن سيد الأهل بن يوسف، وقف حصة من جميع البستان المذكور الكبير، المعروف بالمخاريق الكبرى، الذي بين القاهرة ومصر بعدوة الخليج، فيما بين البستانين المعروف أحدهما بالمخاريق الصغرى، ويعرف قديما بالشيخ الأجل ابن أبي أسامة، ثم عرف بغيره، والبستان الذي يعرف بدويرة دينار، يفصل بينهما الطريق بخط بستان الزهريّ، وبستان أبي اليمن،

وكنائس النصارى قبالة جماميز السعدية والسبع سقايات، ولهذا البستان حدود أربعة: القبليّ ينتهي إلى الخليج الفاصل بينه وبين المواضع المعروفة بجماميز السعدية والسبع سقايات، والحدّ الشرقيّ ينتهي إلى البستان المعروف بالمخاريق الصغرى المقابل للمجنونة، والبحريّ ينتهي إلى البستان المعروف قديما بابن أبي أسامة، الفاصل بينه وبين بستان أبي اليمن المجاور للزهريّ، والحدّ الغربيّ ينتهي إلى الطريق. وجعل هذا البستان على القربات بعد عمارته، وشرط أن الناظر يشتري في كل فصل من فصول الشتاء ما يراه من قماش الكتان الخام أو القطن، ويصنع ذلك جبابا وبغالطيق محشوّة قطنا، ويفرّقها على الأيتام الذكور والإناث الفقراء غير البالغين بالشارع الأعظم، خارج باب زويلة، لكل واحد جبة أو بغلطاق، فإن تعذر ذلك كان على الأيتام المتصفين بالصفة المذكورة بالقاهرة ومصر وقرافتيهما، فإن تعذر ذلك كان للفقراء والمساكين أينما وجدوا. وتاريخ كتاب هذا الوقف في ذي الحجة سنة ستين وستمائة، وأما المخاريق الصغرى فإنه بعدوة الخليج قبالة المجنونة بالقرب من بستان أبي اليمن، ثم عرف أخيرا ببستان بهادر رأس نوبة، ومساحته خمسة عشر فدّانا، فاشتراه الأمير قوصون وقلع غروسه، وأذن للناس في البناء عليه، فحكروه وبنوا فيه الآدر وغيرها، وعرف بحكر قوصون. حكر الحلبيّ: هذا الحكر الآن يعرف بحكر بيبرس الحاجب، وهو مجاور للزهري، ولبركة الشقاف من غربيها، وأصله من جملة أراضي الزهري، اقتطع منه وباعه القاضي مجد الدين ابن الخشاب وكيل بيت المال لابنتي السلطان الملك الأشرف خليل بن قلاون، في سنة أربع وتسعين وستمائة، وكان يعرف حين هذا البيع ببستان الجمال بن جن حلوان، وبغيط الكرديّ، وببستان الطيلسان، وببستان الفرغانيّ، وحدّ هذه القطعة القبليّ إلى بركة الطوّابين، وإلى الهدير الصغير. والحدّ البحريّ ينتهي إلى بستان الفرغانيّ وإلى بستان البواشقيّ. والحدّ الشرقيّ إلى بركة الشقاف وإلى الطريق الموصلة إلى الهدير الصغير. والحدّ الغربيّ إلى بستان الفرغانيّ. ثم انتقل هذا البستان إلى الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون وحكره فعرف به. حكر البواشقيّ: عرف بالأمير أزدمر البواشقيّ مملوك الرشيديّ الكبير، أحد المماليك البحرية الصالحية، وممن قام على الملك المعز أيبك عند ما قتل الأمير فارس الدين أقطاي في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وستمائة، وخرج إلى بلاد الروم، ثم عرف الآن بحكر كرجي، وهو بجوار حكر الحلبيّ المعروف بحكر بيبرس. حكر أقبغا: هذا الحكر بجوار السبع سقايات، بعضه بجانب الخليج الغربيّ، وبعضه بجانب الخليج الشرقيّ، كان بستانا يعرف قديما بجنان الحارة، ويسلك إليه من خط قناطر السباع على يمنة السالك طالبا السبع سقايات، بالقرب من كنيسة الحمراء، وكان بعضه

بستانا يعرف ببستان المحلي، وهو الذي في غربيّ الخليج، وكان بستان جنان الحارة بجوار بركة قارون، وينتهي إلى حوض الدمياطيّ الموجود الآن على يمنة من سلك من خط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ، فاستولى عليه الأمير أقبغا عبد الواحد استادار الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأذن للناس في تحكيره، فحكر وبني فيه عدّة مساكن. وإلى يومنا هذا يجبى حكره ويصرف في مصارف المدرسة الأقبغاوية المجاورة للجامع الأزهر بالقاهرة، وأوّل من عمر في حكر أقبغا هذا أستادار الأمير جنكل بن البابا، فتبعه الناس. وفي موضع هذا الحكر كانت كنيسة الحمراء التي هدمها العامّة في أيام الملك الناصر، محمد بن قلاون كما ذكر عند ذكر الكنائس من هذا الكتاب. وهي اليوم زاوية تعرف بزاوية الشيخ يوسف العجمي، وقد ذكرت في الزوايا أيضا، وهذا الحكر لما بنى الناس فيه عرف بالآدر لكثرة من سكن فيه من التتر والوافدية من أصحاب الأمير جنكل بن البابا، وعمر تجاه هذا الحكر الأمير جنكل حمامين هما هنالك إلى اليوم، وانتشأ بعمارة هذا الحكر بظاهره سوق وجامع، وعمر ما على البركة أيضا، واتصلت العمارة منه في الجانبين إلى مدينة مصر، واتصلت به عمائر أيضا ظاهر القاهرة بعد ما كان موضع هذا الحكر مخوفا، يقطع فيه الزعار الطريق على المارّة من القاهرة إلى مصر، وكان والي مصر يحتاج إلى أن يركز جماعة من أعوانه بهذا المكان لحفظ من يمرّ من المفسدين، فصار لما حكر كأنه مدينة كبيرة، وهو إلى الآن عامر وأكثر من يسكنه الأمراء والأجناد، وهذا الحكر كان يعرف قديما بالحمراء الدنيا، وقد ذكر خبر الحمراوات الثلاث عند ذكر خطط مدينة فسطاط مصر من هذا الكتاب، وفي هذا الحكر أيضا كانت قنطرة عبد العزيز بن مروان التي بناها على الخليج ليتوصل منها إلى جنان الزهريّ، وبعض هذا الحكر مما انحسر عنه النيل، وهي القطعة التي تلي قنطرة السدّ. حكر الست حدق: هذا الحكر يعرف اليوم بالمريس، وكان بساتين، من بعضها بستان الخشاب، فعرف بالست حدق من أجل أنها أنشأت هناك جامعا كان موضعه منظرة السكرة، فبنى الناس حوله، وأكثر من كان يسكن هناك السودان، وبه يتخذ المزور مأوى أهل الفواحش والقاذورات، وصار به عدّة مساكن وسوق كبير، يحتاج محتسب القاهرة أن يقيم به نائبا عنه للكشف عما يباع فيه من المعايش، وقد أدركنا المريس على غاية من العمارة، إلّا أنه قد اختلّ منذ حدثت الحوادث من سنة ست وثمانمائة، وبه إلى الآن بقية من فساد كبير. حكر الست مسكة: هذا الحكر بسويقة السباعين بقرب جوار حكر الست، حدق، عرف بالست مسكة لأنها أنشأت به جامعا، وهذا الحكر كان من جملة الزهريّ، ثم أفرد وصار بستانا تنقل إلى جماعة كثيرية، فلما عمرت الست مسكة في هذا الحكر الجامع بنى

الناس حوله حتى صار متصلا بالعمارة من سائر جهاته، وسكنه الأمراء والأعيان وأنشأوا به الحمّامات والأسواق وغير ذلك. وكانت حدق ومسكة من جواري السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، نشأتا في داره وصارتا قهرمانتين لبيت السلطان يقتدى برأيهما في عمل الأعراس السلطانية والمهمات الجليلة التي تعمل في الأعياد والمواسم، وترتيب شؤون الحريم السلطانيّ، وتربية أولاد السلطان، وطال عمرهما وصار لهما من الأموال الكثيرة، والسعادات العظيمة ما يجلّ وصفه، وصنعا برّا ومعروفا كبيرا، واشتهرتا وبعد صيتهما وانتشر ذكر هما. حكر طقزدمر: هذا الحكر كان بستانا مساحته نحو الثلاثين فدّانا، فاشتراه الأمير طقزدمر الحمويّ نائب السلطنة بديار مصر ودمشق، وقلع أخشابه وأذن للناس في البناء عليه، فحركوه وأنشأوا به الدور الجليلة، واتصلت عمارة الناس فيه بسائر العمائر من جهاته، وأنشأ الأمير طقزدمر فيه أيضا على الخليج قنطرة ليمرّ عليها من خط المسجد المعلق إلى هذا الحكر، وصار هذا الحكر مسكن الأمراء والأجناد، وبه السوق والحمّامات والمساجد وغيرها، وهو مما عمر في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، ومات طقز دمر في ليلة الخميس مستهلّ جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وسبعمائة. اللوق: يقال لاق الشيء يلوقه لوقا ولوّقه، ليّنه. وفي الحديث الشريف لا آكل إلّا ما لوّق لي، ولواق أرض معروفة. قاله ابن سيده: فكأن هذه الأرض لما انحسر عنها ماء النيل كانت أرضا لينة، وإلى الآن في أراضي مصر ما إذا نزل عنها ماء النيل لا تحتاج إلى الحرث للينها، بل تلاق لوقا، فصواب هذا المكان أن يقال فيه أراضي اللوق بفتح اللام، إلّا أن الناس إنما عهدناهم يقولون قديما باب اللوق وأراضي باب اللوق بضم اللام، ويجوز أن يكون من اللق بضم اللام وتشديد القاف. قال ابن سيده: واللق كل أرض ضيقة مستطيلة، واللق الأرض المرتفعة، ومنه كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج لا تدع خقا ولا لقا إلا زرعته، حكاه الهوريّ، في الغريبين. انتهى. والخقّ بضم الخاء المعجمة وتشديد القاف، الغدير إذا جفّ. وقيل الخق ما اطمأنّ من الأرض، واللق ما ارتفع منها، وأراضي اللوق هذه كانت بساتين ومزروعات، ولم يكن بها في القديم بناء البتة، ثم لما انحسر الماء عن منشأة الفاضل عمر فيها كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، ويطلق اللوق في زمننا على المكان الذي يعرف اليوم بباب اللوق، المجاور لجامع الطباخ المطلّ على بركة الشقاف، وما يسامته إلى الخليج الذي يعرف اليوم بخليج فم الخور، وينتهي اللوق من الجانب الغربيّ إلى منشأة المهرانيّ، ومن الجانب الشرقيّ إلى الدكة بجوار المقس، وكان القاضي الفاضل قد اشترى قطعة كبيرة من أراضي اللوق هذه من بيت المال وغيره بجمل كبيرة من المال، ووقفها على العين الزرقاء بالمدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة

والتسليم، وعرفت هذه الأرض ببستان ابن قريش، وبعضها دخل في الميدان الظاهريّ، وعوّض عنها أراض بأكثر من قيمتها، وكان متحصل هذا الوقف يحمل في كل سنة إلى المدينة لتنظيف العين وتنظيف مجاريها، وأما الجانب الغربيّ من خليج فم الخور المعروف اليوم بحكر ابن الأثير، وبسويقة الموفق، وموردة الملح، وساحل بولاق، كله فإنه محدث، عمّر بعد سنة سبعمائة كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى قريبا. فإنّ النيل كان يمرّ من ساحر الحمراء بغربيّ الزهري على الأراضي التي لما انحسر عنها عرفت بأراضي اللوق، إلى أن ينتهي إلى ساحل المقس، وكانت طاقات المناظر التي بالدكة تشرف على النيل الأعظم، ولا يحول بنيها وبين رؤية برّ الجيزة شيء، ويمرّ النيل من الكدة إلى المقس، ويمتدّ إلى زريبة جامع المقس الذي هو الآن على الخليج الناصريّ. فلما انحسر ماء النيل عن أراضي اللوق، اتصلت بالمقس وصارت عدّة أماكن تعرف بظاهر اللوق، وهي بستان ابن ثعلب، ومنشأة ابن ثعلب، وباب اللوق، وحكر قردمية، وحكر كريم الدين، ورحبة التبن، وبستان السعيديّ، وبركة قرموط، وخور الصعبيّ، وصار بين اللوق وبين منشأة المهرانيّ التي هي بأوّل برّ الخليج الغربيّ منشأة الفاضل، والمنشأة المستجدّة، وحكر الخليليّ، وحكر الساباط، ويعرف بحكر بستان القاصد، وحكر كريم الدين الصغير، وحكر المطوع، وحكر العين الزرقاء. وفي غربيّ هذه المواضع على شاطىء النيل زريبة قوصون، وموردة البلاط، وموردة الجبس، وخط الجامع الطيبرسيّ، وزريبة السلطان، وربع بكتمر. وأوّل ما بنيت الدور للسكن في اللوق أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، وذلك أنه جهز كشافه من خواصه مع الأمير جمال الدين الرومي السلاح دار، والأمير علاء الدين أق سنقر الناصريّ، ليعرف أخبار هولاكو، ومعهم عدّة من العربان، فوجدوا طائفة من التتر مستأمنين وقد عزموا على قصد السلطان بمصر، وذلك أن الملك بركة خان ملك التتر كان قد بعثهم نجدة لهولاكو، فلما وقع بينهما، كتب إليهم بركة يأمرهم بمفارقة هولاكو والمصير إليه، فإن تعذر عليهم ذلك صاروا إلى عسكر مصر، فإنه كان قد ركن إلى الملك الظاهر، وتردّدت القصّاد بينهم بعد واقعة بغداد ورحيل هولاكو عن حلب، فاختلف هولاكو مع ابن عمه بركة خان وتواقعا، فقتل ولد هولاكو في المصاف، وانهزم عسكره وفرّ إلى قلعة في بحيرة أذربيجان، فلما وردت الأخبار بذلك إلى مصر، كتب السلطان إلى نوّاب الشام بإكرامهم وتجهيز الإقامات لهم، وبعث إليهم بالخلع والإنعامات، فوصلوا إلى ظاهر القاهرة وهم نيف على مائتي فارس بنسائهم وأولادهم في يوم الخميس رابع عشرى ذي الحجة سنة ستين وستمائة، فخرج السلطان يوم السبت سادس عشرية إلى لقائهم بنفسه ومعه العساكر، فلم يبق أحد حتى خرج لمشاهدتهم، فاجتمع عالم عظيم تبهر رؤيتهم العقول، وكان يوما مشهودا. فأنزلهم السلطان في دور كان قد أمر بعمارتها من

أجلهم في أراضي اللوق، وعمل لهم دعوة عظيمة هناك، وحمل إليهم الخلع والخيول والأموال، وركب السلطان إلى الميدان وأركبهم معه للعب الأكرة، وأعطى كبراءهم أمريات، فمنهم من عمله أمير مائة، ومنهم دون ذلك، ونزل بقيتهم من جملة البحرية، وصار كل منهم من سعة الحال كالأمير، في خدمته الأجناد والغلمان، وأفرد لهم عدّة جهات برسم مرتبهم، وكثرت نعمهم، وتظاهروا بدين الإسلام، فلما بلغ التتار ما فعله السلطان مع هؤلاء، وفد عليه منهم جماعة بعد جماعة، وهو يقابلهم بمزيد الأحسان، فتكاثروا بديار مصر، وتزايدت العمائر في اللوق وما حوله، وصار هناك عدّة أحكار عامرة آهلة إلى أن خربت شيئا بعد شيء، وصارت كيمانا، وفيها ما هو عامر إلى يومنا هذا، ولما قدمت رسل القان بركة في سنة إحدى وستين وسبعمائة، أنزلهم السلطان الملك الظاهر باللوق، وعمل لهم فيه مهما، وصار يركب في كل سبت وثلاثاء للعب الأكرة باللوق في الميدان. وفي سادس ذي الحجة من سنة إحدى وستين قدم من المغل والبهادرية زيادة على ألف وثلثمائة فارس، فأنزلوا في مساكن عمرت لهم باللوق بأهاليهم وأولادهم، وفي شهر رجب سنة إحدى وستين وسبعمائة قدمت رسل الملك بركة، ورسل الأشكري، فعملت لهم دعوة عظيمة باللوق. فأما بستان ابن ثعلب فإنه كان بستانا عظيم القدر، مساحته خمسة وسبعون فدانا، فيه سائر الفواكه بأسرها، وجميع ما يزدرع من الأشجار والنخل والكروم، والنرجس والهليون والورد، والنسرين والياسمين والخوخ، والكمثرى والنارنج والليمون التفاحيّ، والليمون الراكب، والمختن والجميز والقراصيا، والرمان والزيتون والتوت الشاميّ والمصريّ، والمرسين والتامر حنا وألبان تعرف اليوم ببركة قرموط، والأرض التي تعرف اليوم بالخور، قبالة الأرض المعروفة بالبيضاء بجوار بستان السراج، وبستان الزهريّ، وبستان البورجي، فيما بين هذه البساتين وبين خليج الدكة والمقس، وكان على بستان ابن ثعلب سور مبنيّ، وله باب جليل. وحدّه القبليّ إلى منشأة ابن ثعلب، وحدّه البحريّ إلى الأرض المجاورة للميدان السلطانيّ الصالحيّ، وإلى أرض الجزائر، وفي هذا الحدّ أرض الخور، وهي من حقوقه. وحدّه الشرقيّ إلى بستان الدكة، وبستان الأمير قراقوش، وحدّه الغربيّ إلى الطريق المسلوك فيها إلى موردة السقائين قبالة بستان السراج، وموردة السقائين هذه موضع قنطرة الخرق الآن. وابن ثعلب هذا هو الشريف الأمير الكبير فخر الدين إسماعيل بن ثعلب الجعفريّ الزينبيّ، أحد أمراء مصر في أيام الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب وغيره، وصاحب المدرسة الشريفية بجوار درب كركامة، على رأس حارة الجودرية من القاهرة، وانتقل من بعده إلى ابنه الأمير حصن الدين ثعلب، فاشتراه منه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي بثلاثة آلاف دينار

مصرية، في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكان باب هذا البستان في الموضع الذي يقال له اليوم باب اللوق، وكان هذا البستان ينتهي إلى خليج الخور، وآخره من المشرق ينتهي إلى الدكة بجوار المقس، ثم انقسم بعد ذلك قطعا وحكرت أكثر أرضه، وبنى الناس عليها الدور وغيرها، وبقيت منه إلى الآن قطعة عرفت ببستان الأمير أرغون، النائب بديار مصر أيام الملك الناصر، ثم عرف بعد ذلك ببستان ابن غراب، وهو الآن على شاطيء الخليج الناصريّ، على يمنة من سلك من قنطرة قدادار بشاطئ الخليج من جانبه الشرقي، إلى بركة قرموط، وبقيت من بستان ابن ثعلب قطعة تعرف ببستان بنت الأمير بيبرس إلى الآن، وهو وقف، ومن جملة بستان ابن ثعلب أيضا الموضع الذي يعرف ببركة قرموط، والموضع المعروف بفم الخور. وأما منشأة ابن ثعلب: فإنها بالقرب من باب اللوق، وحكرت في أيام الشريف فخر الدين بن ثعلب المذكور، فعرفت به، وهي تعرف اليوم بمنشأة الجوّانية، لأنّ جوّانية الفم. كانوا يسكنون فيها، فعرفت بهم، وأدركتها في غاية العمارة بالناس والمساكن والحوانيت وغيرها، وقد اختلت بعد سنة ست وثمانمائة، وأكثرها الآن زرائب للبقر. وأما باب اللوق: فإنه كان هناك إلى ما بعد سنة أربعين وسبعمائة بمدّة، باب كبير عليه طوارق حربية مدهونة، على ما كانت العادة في أبواب القاهرة وأبواب القلعة وأبواب بيوت الأمراء، وكان يقال له باب اللوق، فلما أنشأ القاضي صلاح الدين بن المغربيّ قيساريته التي بباب اللوق، وجعلها البيع غزل الكتان، هدم هذا الباب وجعله في الركن من جدار القيسارية القبليّ، مما يلي الغربيّ، وهذا هو باب الميدان الذي أنشأه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل لما اشترى بستان ابن ثعلب، وقد ذكر خبر هذا الميدان عند ذكر الميادين من هذا الكتاب. وأما حكر قردمية: فإنه على يمنة من سلك من باب اللوق المذكور إلى قنطرة قدادار، وكان من جملة بستان ابن ثعلبة، فحكر وصار أخيرا بيد ورثة الأمير قوصون، وكان حكرا عامرا إلى ما بعد سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فخرب عند وقوع الوباء الكبير بمصر، وحفرت أراضيه وأخذ طينها، فصارت بركة ماء عليها كيمان، خلف الدور التي على الشارع المسلوك فيه إلى قنطرة قدادار. وأما حكر كريم الدين: فإنه على يسرة من سلك من باب اللوق إلى رحبة التبن، وإلى الدكة، وكان يعرف قبل كريم الدين بحكر الصهيونيّ، وهذا الحكر الآن آيل إلى الدثور. وأما رحبة التبن: فإنها في بحري منشأة الجوانية، شارعة في الطريق العظمى التي يسلك فيها إلى قنطرة الدكة من رحبة باب اللوق، عرفت بذلك لأنه كانت أحمال التبن تقف بها لتباع هناك، فإن القاهرة كانت توقر من مرور أحمال التبن والحطب ونحو هما بها، ثم

اختطت من جملة ما اختط في غربيّ الخليج، وصار بها عدّة مساكن وسوق كبير، وقد أدركته غاصا بالعمارة، وإنما اختلّ هذا الخط من سنة ست وثمانمائة. وأما بستان السعيديّ: فإنه يشرف على الخليج الناصريّ في هذا الوقت، وأدركنا ما حوله عامرا، وقد خربت الدور التي كانت هناك من جهة الطريق الشارع من باب اللوق إلى الدكة، وبها بقية آئلة إلى الدثور. وأما بركة قرموط: فإنها من حقوق بستان ابن ثعلب، ولما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ، رمى فيها ما خرج عند حفره من الطين، وأدركناها من أعمر بقعة في أرض مصر، وهي الآن خراب، كما ذكر عند ذكر البرك من هذا الكتاب. وأما الخور: فإن الخور في اللغة مصبّ الماء، وهو هنا اسم للأرض التي ما بين الخليج الناصريّ والخليج الذي يعرف بفم الخور، وجميع هذه الأرض من جملة بستان ابن ثعلبة، وكان يعرف بالخور الصعبيّ، لأنه كانت به مناظر تعرف بمناظر الصعبيّ، تشرف على النيل، وكان على شاطىء الخليج الكبير في هذا الجانب الغربيّ الذي نحن في ذكره، بجوار بستان الخشاب الذي كان يتوصل إليه من قنطرة السدّ، وبعضه الآن الميدان السلطانيّ، بستان يعرف بالجزيرة، يعني بستان الجزيرة المعروف بالصعبيّ، وكان من البساتين الجليلة. وهذا الصعبيّ: هو الشيخ كريم الدولة، عبد الواحد بن محمد بن عليّ الصعبيّ، مات في شهر رمضان سنة ثلاث وستمائة بمصر، وكان له أخ يعرف بعبد العظيم بن محمد الصعبيّ. ولما انحسر ماء النيل عن الرملة التي قيل لها منية بولاق، تجاه المقس، وعمرت هناك الدور، اتصلت من قبليها بالخور، وأنشئ بشاطئ النيل الذي بالخور دور تجلّ عن الوصف، وانتظمت صفا واحدا من بولاق إلى منشأة المهرانيّ وموردة الحلفاء، ومن موردة الحلفاء على ساحل مصر الجديد إلى دير الطين غربيّ بركة الحبش، لو أحصي ما أنفق على بناء هذه الدور لقام بخراج مصر أيام كانت عامرة، وقد خرب معظمها من سنة ست وثمانمائة، وقد تقدّم ذكر منشأة الفاضل. وأما حكر الساباط، وحكر كريم الدين الصغير، وحكر المطوع، وحكر المطوع، وحكر العين الزرقاء، فإنها بالقرب من الميدان الكبير السلطانيّ، وقد خربت بعد ما كانت عامرة بالدور والمنتزهات. بستان العدّة: هذا المكان من جملة الأحكار التي في غربيّ الخليج، وهو بجوار قنطرة الخرق، وبجوار حكر النوبيّ، قريب من باب اللوق تجاه الدور المطلة على الخليج

من شرقيه، المقابلة، لباب سعادة وحارة الوزيرية. كان بستانا جليلا، وقفه الأمير فارس المسلمين بدر بن رزيك، أخو الصالح طلائع بن رزيك، صاحب جامع الصالح، خارج باب زويلة، ثم أنه خرب فحكر وبني عليه عدّة مساكن، وحكره يتعاطاه ورثة فارس المسلمين. حكر جوهر النوبي: هذا الحكر تجاه الحارة الوزيرية من برّ الخليج الغربيّ، في شرقيّ بستان العدّة، ويسلك منه إلى قنطرة أمير حسين من طريق تجاه باب جامع أمير حسين، الذي تعلوه المئذنة، وما زال بستانا إلى نحو سنة ستين وستمائة، فحكر وبني فيه الدور في أيام الظاهر بيبرس، وعرف بجوهر النوبيّ أحد الأمراء في الأيام الكاملية، وقد تقدّم بديار مصر تقدّما زائدا. وكان خصيا، وهو ممن ثار على الملك العادل أبي بكر بن الكامل وخلعه، فلما كان ملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بعد أخيه العادل، قبض على جوهر في سنة ثمان وثلاثين وستمائة. حكر خزائن السلاح: هذا الحكر كان يعرف قديما بحكر الأوسية، وهو فيما بين الدكة وقنطرة الموسكي، وقفه السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب على مصالح خزائن السلاح، وهو وعدّة أماكن بمدينة مصر مع مدينة قليوب وأراضيها، في جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وستمائة، وظهر كتاب الوقف المذكور من الخزائن السلطانية في جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمائة، في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، وقد خرب أكثر هذا الحكر وصار كيمانا. حكر تكان: هذا الحكر بجوار سويقة العجميّ الفاصلة بينه وبين حكر خزائن السلاح، وكان يعرف قديما بحكر كوبيج. وحدّه القبليّ ينتهي إلى حكر ابن الأسد جفريل، والحدّ البحري ينتهي إلى حكر العلائيّ، والحدّ الشرقيّ ينتهي إلى حكر البغدادية، والحدّ الغربيّ ينتهي إلى حكر خزائن السلاح وسويقة العجميّ. وتكان هو الأمير سيف الدين تكان، ويقال تكام بالميم عوضا عن النون، وهذا الحكر استقرّ أخيرا في أوقاف خوندارد وتكين ابنه نوكيه السلاح دار، زوجة الملك الأشرف خليل بن قلاون، على تربتها التي أنشأتها خارج باب القرافة، التي تعرف اليوم بتربة الست، وقد خرب هذا الحكر وبيعت أنقاضه في أعوام بضع وتسعين وسبعمائة، وجعل بعضه بستانا في سنة ست وتسعين وسبعمائة. حكر ابن الأسد جفريل: هذا الحكر في قبليّ حكر تكان، كان بستانا فحكر وعرف بالأمير شمس الدين موسى بن الأمير أسد الدين جفريل، أحد أمراء الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بمصر. حكر البغدادية: هذا الحكر بجوار خليج الذكر، كان من أعظم البساتين في الدولة

الفاطمية، فأزال الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب أشجاره ونخله، وجعله ميدانا. ثم حكر وصارت فيه عدّة مساكن، وهو الآن خراب يباب، لا يأويه إلّا البوم والرخم. حكر خطلبا: هذا الحكر حدّه القبليّ إلى الخليج، وحدّه البحريّ إلى الكوم الفاصل بينه وبين حكر الأوسية، المعروف بالجاوليّ، وحدّه الشرقيّ إلى بستان الجليس الذي عرف بابن منقذ، والحدّ الغربيّ إلى زقاق هناك. وكان هذا الحكر بستانا اشتراه جمال الدين الطواشيّ «1» ، من جمال الدين عمر بن ناصح الدين داود بن إسماعيل الملكيّ الكامليّ، في سنة ست عشرة وستمائة. ثم ابتاعه منه الطواشيّ محي الدين صندل الكامليّ في سنة عشرين وستمائة، وباعه الأمير الفارس صارم الدين خطلبا الكامليّ في سنة إحدى وعشرين وستمائة فعرف به. وهو خطلبا بن موسى الأمير صارم الدين الفارسيّ التبتي الموصليّ الكامليّ، استقرّ في ولاية القاهرة سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم أضيفت له ولاية الفيوم في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، ثم صرف عنها وسار متسلمة إلى اليمن ليتسلمها، فتسلمها في جمادى الأولى، وسار هو في سادس شوال منها واليا على مدينة زبيد باليمن، ومعه خمسمائة رجل، ورفيقه الأمير باخل، فبلغت النفقة عليه عشرين ألف دينار، وكتب للطواشية بنفقة عشرة دنانير لكل منهم على اليمن، فأقام باليمن مدّة، ثم قدم إلى القاهرة وصار من أصحاب الأمير فخر الدين جهاركس، وتأخر إلى أيام الملك الكامل، وصار من أمرائه بالقاهرة إلى أن مات في ثالث شعبان سنة خمس وثلاثين وستمائة. حكر ابن منقذ: هذا الحكر خارج باب القنطرة بعدوة خليج الذكر، وكان بستانا يعرف ببستان الشريف الجليس، ويعرف أيضا بالبطائحيّ، ثم عرف بالأمير سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ، نائب الملك المعز سيف الإسلام ظهير الدين طفتكين بن نجم الدين أيوب بن شادي على مملكة اليمن، وانتقل بعد ابن منقذ إلى الشيخ عبد المحسن بن عبد العزيز بن عليّ المخزوميّ، المعروف بابن الصيرفيّ، فوقفه على جهات تؤول أخيرا إلى الفقراء والمساكين المقيمين بمشهد السيدة نفيسة، والفقراء والمساكين المعتقلين في حبوس القاهرة، في سنة ثلاث وأربعين وستمائة، ثم أزيلت أنشاب هذا البستان وحكرت أرضه وبنيت الدور والمساكن عليها، وهو الآن خراب. حكر فارس المسلمين بدر بن رزيك: هذا الحكر تجاه منظرة اللؤلؤة، كان من جملة

البركة المعروفة ببطن البقرة، ثم حكر وبني فيه وأكثره الآن خراب. حكر شمس الخواص مسرور: هذا الحكر فيما بين خليج الذكر وحكر ابن منقذ، كان بستانا لشمس الخواص مسرور الطواشي، أحد الخدّام الصالحية، مات في نصف شوال سنة سبع وأربعين وستمائة بالقاهرة، ثم حكر وبني فيه الدور، وموضعه الآن كيمان. حكر العلائي: هذا الحكر يجاور حكر تكان من بحريه، وكان بستانا جليل القدر، ثم حكر وصار بعضه وقف تذكاريي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس، وقفته في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة على نفسها، ثم من بعدها على الرباط الذي أنشأته داخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، وهو الرباط المعروف برواق البغدادية، وعلى المسجد الذي بحكر سيف الإسلام خارج باب زويلة، وعلى تربتها التي بجوار جامع ابن عبد الظاهر بالقرافة، وصار بعض هذا الحكر في وقف الأمير سيف الدين بهادر العلائيّ متولى البهنساء، وكان وقفه في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، فعرف بالحكر العلائي المذكور، وأدركت هذا الحكر وهو من أعمر الأحكار، وفيه درب الأمير عز الدين أيدمر الزرّاق، أمير جاندار ووالي القاهرة، وداره العظيمة ومساكنه الكثيرة، فلما حدثت المحن منذ سنة ست وثمانمائة خرب هذا الحكر وأخذت أنقاضه، وبقيت دار الزرّاق إلى سنة سبع عشرة وثمانمائة، فشرع في الهدم فيها لأجل أنقاضها الجليلة. حكر الحريري: هذا الحكر بجوار حكر العلائيّ المذكور من حدّه البحريّ، وهو من جملة الأرض المعروفة بالأرض البيضاء، وكان بستانا، ثم حكر وصار في وقف خزائن السلاح، وأدركناه عامرا وفيه سوق يعرف بالسويقة البيضاء، كانت بها عدّة حوانيت، وقد خرب هذا الحكر، وهذا الحريريّ هو الصاحب محيي الدين. حكر المساح: عرف بالأمير شمس الدين سنقر المساح، أحد أمراء الظاهر بيبرس، قبض عليه في عدّة من الأمراء في ذي الحجة سنة تسع وستين وستمائة. الدكة: هذا المكان كان بستانا من أعظم بساتين القاهرة، فيما بين أراضي اللوق والمقس، وبه منظرة للخلفاء الفاطميين تشرف طاقاتها على بحر النيل العظيم، ولا يحول بينها وبني برّ الجيزة شيء، فلما زالت الدولة الفاطمية تلاشى أمر هذا البستان وخرب، فحكر موضعه وبنى الناس فيه، فصار خطة كبيرة كأنه بلد جليل، وصار به سوق عظيم، وسكنه الكتاب وغيرهم من الناس، وأدركته عامرا، ثم إنه خرب منذ سنة ست وثمانمائة، وبه الآن بقية عما قليل تدثر كما دثر ما هنالك وصار كيمانا.

ذكر المقس وفيه الكلام على المكس وكيف كان أصله في أول الإسلام

ذكر المقس وفيه الكلام على المكس وكيف كان أصله في أوّل الإسلام اعلم أن المقس قديم، وكان في الجاهلية قرية تعرف بأمّ دنين، وهي الآن محلة بظاهر القاهرة في برّ الخليج الغربيّ، وكان عند وضع القاهرة هو ساحل النيل، وبه أنشأ الإمام المعز لدين الله أبو معدّ الصناعة التي ذكرت عند ذكر الصناعات من هذا الكتاب، وبه أيضا أنشأ الإمام الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور جامع المقس الذي تسميه عامّة أهل مصر في زمننا بجامع المقسيّ، وهو الآن يطلّ على الخليج الناصريّ. قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر، وقد ذكر مسير عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى فتح مصر: فتقدّم عمرو بن العاص رضي الله عنه لا يدافع إلّا بالأمر الخفيف، حتى أتى بلبيس، فقاتلوه بها نحوا من شهر، حتى فتح الله سبحانه وتعالى عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أمّ دنين، فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يستمدّه، فأمدّه بأربعة آلاف، تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم، وذكر تمام الخبر. وقال القاضي أبو عبد الله القضاعيّ: المقس كانت ضيعة تعرف بأمّ دنين، وإنما سمّيت المقس لأنّ العاشر كان يقعد بها، وصاحب المكس، فقيل المكس، فقلب فقيل المقس. قال المؤلف رحمه الله: الماكس هو العشار، وأصل المكس في اللغة الجباية. قال ابن سيدة في كتاب المحكم: المكس الجباية، مكسه يمكسه مكسا، والمكس دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق في الجاهلية، ويقال للعشار صاحب مكس، والمكس انتقاص الثمن في البياعة. قال الشاعر: أفي كلّ أسواق العراق أتاوة ... وفي كلّ ما باع امرؤ مكس درهم ألا ينتهي عنا رجال وتتّقى ... محارمنا لا يدرأ الدّم بالدّمّ الأتاوة الخراج ومكس درهم أي نقص درهم في بيع ونحوه. قال: وعشر القوم يعشرهم عشرا وعشورا، وعشرهم أخذ عشر أموالهم، وعشر المال نفسه، وعشره كذلك، والعشّار قابض العشر. ومنه قول عيسى بن عمرو لابن هبيرة وهو يضرب بين يديه بالسياط: تالله إن كانت إلّا ثيابا في أسفاط قبضها عشّاروك. وقال الجاحظ: ترك الناس مما كان مستعملا في الجاهلية أمورا كثيرة، فمن ذلك تسميتهم للأتاوة بالخراج، وتسميتهم لما يأخذه السلطان من الحلوان والمكس بالرشوة، وقال الخارجيّ: أفي كلّ أسواق العراق أتاوة. البيت وكما قال العبديّ في الجارود: اكابن المعلي خلتنا أما حسبتنا ... صواريّ نعطي الماكسين مكوسا الصواريّ: الملاحون، والمكس: ما يأخذ العشار انتهى. ويقال أن قوم شعيب عليه السلام، كانوا مكاسين، لا يدعون شيئا إلا مكّسوه. ومنه

قيل للمكس النجس، لقوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وذكر أحمد بن يحيى البلاذريّ، عن سفيان الثوريّ، عن إبراهيم بن مهاجر، قال: سمعت زياد بن جرير يقول: أنا أوّل من عشّر في الإسلام. وعن سفيان عن عبد الله بن خالد عن عبد الرحمن بن معقل قال: سألت زياد بن جرير من كنتم تعشرون؟ فقال: ما كنا نعشر مسلما ولا معاهدا، بل كنا نعشر تجار أهل الحرب كما كانوا يعشرونا إذا أتيناهم. وقال عبد الملك بن حبيب السلميّ في كتاب سيرة الإمام العدل. في مال الله، عن السائب بن يزيد أنه قال: كنت على سوق المدينة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكنا نأخذ من القبط العشر. وقال ابن شهاب: كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية، فألزمهم ذلك عمر بن الخطاب، وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ بالمدينة من القبط من الحنطة والزبيب نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة من الحنطة والزبيب، وكان يأخذ من القطنية العشر. وقال مالك رحمه الله: والسّنّة أنّ ما أقام الذمّة في بلادهم التي صالحوا عليها فليس عليهم فيها إلّا الجزية، إلّا أن يتجروا في بلاد المسلمين ويختلفوا فيها، فيؤخذ منهم العشر فيما يديرون من التجارة، وإن اختلفوا في العام الواحد مرارا إلى بلاد المسلمين، فعليهم كلما اختلفوا العشر، وإذا اتجر الذميّ في بلاده من أعلاها إلى أسفلها ولم يخرج منها إلى غيرها فليس عليه شيء، مثل أن يتجر الذميّ الشامي في جميع الشام أو الذميّ المصريّ في جميع مصر، أو الذميّ العراقيّ في جميع العراق، وليس العمل عندنا على قول عمر بن عبد العزيز لزريق بن حيان: واكتب لهم بما يؤخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول، ومن مرّ بك من أهل الذمّة فخذ مما يديرون من التجارات من كل عشرين دينارا دينارا، فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير، فإن نقص منها ثلث دينار، فدعها ولا تأخذ منها شيئا، والعمل على أن يأخذ منهم العشر وإن خرجوا في السنة مرارا من كلّ ما أتجروا به قل أو كثر، وهذا قول ربيعة وابن هرمز. وقال القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرميّ أحد أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في كتاب الرسالة إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، وهو كتاب جليل القدر، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر قال: سمعت أبي يذكر قال: سمعت زياد بن جرير قال: أوّل من بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه منا على العشور أنا، فأمرني أن لا أفتش أحدا، وما مرّ عليّ من شيء أخذت من حساب أربعين درهما درهما من المسلمين، وأخذت من أهل الذمّة من عشرين واحدا، وممن لا ذمّة له العشر، وأمرني أن أغلّظ على نصارى بني تغلب قال: إنهم قوم من العرب وليسوا من أهل الكتاب، فلعلهم يسلمون. قال: وكان عمر رضي الله عنه قد اشترط على نصارى بني تغلب أن لا ينصّروا أولادهم. وحدّثنا أبو حنيفة عن الهيثم عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العشور، وكتب لي عهدا أن آخذ من المسلمين

مما اختلفوا به لتجاراتهم ربع العشر، ومن أهل الذمّة نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر. وحدّثنا عاصم بن سليمان الأحول عن الحسن قال: كتب أبو موسى الأشعريّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أنّ تجارا من قبلنا من المسلمين يأتون أهل الحرب فيأخذون منهم العشر، فكتب إليه عمر رضي الله عنه فخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين، وخذ من أهل الذمّة نصف العشر، ومن المسلمين من كلّ أربعين درهما درهما، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم، فما زاد فبحسابه. وحدّثنا عبد الملك بن جريج عن عمرو بن شعيب قال: إنّ أهل منبج قوما من أهل الشرك وراء البحر، كتبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، دعنا ندخل أرضك تجارا وتعشرنا، قال فشاور عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه به، فكانوا أول من عشره من أهل الحرب. وحدّثنا السدّيّ بن إسماعيل عن عامر الشعبيّ عن زياد بن جرير الأسديّ قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه على عشور العراق والشام، وأمره أن يأخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمّة نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر، فمرّ عليه رجل من بني تغلب من نصارى العرب ومعه فرس فقوّمها بعشرين ألفا، فقال أمسك الفرس وأعطني ألفا، أو خذ مني تسعة عشر ألفا وأعطني الفرس. قال: فأعطاه ألفا وأمسك الفرس. قال: ثم مرّ عليه راجعا في سنته فقال: أعطني ألفا أخرى فقال له التغلبيّ: كلّما مررت بك تأخذ مني ألفا؟ قال نعم، فرجع التغلبيّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فوافاه بمكة وهو في بيت له، فاستأذن عليه، فقال: من أنت فقال: أنا رجل من نصارى العرب، وقصّ عليه قصته. فقال له عمر رضي الله عنه كفيت ولم يزده على ذلك. قال: فرجع الرجل إلى زياد بن جرير وقد وطن نفسه على أن يعطيه ألفا، فوجد كتاب عمر رضي الله عنه قد سبق إليه: من مرّ عليك فأخذت منه صدقة فلا تأخذ منه شيئا إلى مثل ذلك اليوم من قابل إلّا أن تجد فضلا. قال: فقال الرجل قد والله كانت نفسي طيبة أن أعطيك ألفا، وأني أشهد الله تعالى أني بريء من النصرانية، وأني على دين الرجل الذي كتب إليك هذا الكتاب. وحدّثني يحيى بن سعيد عن زريق بن حيان، وكان على مكس مصر، فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن أنظر من مرّ عليك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم، وما ظهر لك من التجارات من كلّ أربعين دينارا دينارا، فما نقص فبحسابه حتى تبلغ عشرين دينارا، فإن نقصت فدعها ولا تأخذ منها، وإذا مرّ عليك أهل الذمة فخذ مما يديرون من تجاراتهم من كل عشرين دينارا دينارا، فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير ثم دعها لا تأخذ منها شيئا، واكتب لهم كتابا بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول. وحدّثني أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال: إذا مرّ أهل الذمّة بالخمر للتجارة

أخذ من قيمتها نصف العشر ولا يقبل قول الذميّ في قيمتها حتى يؤتى برجلين من أهل الذمّة يقوّمانها عليه، فيؤخذ نصف العشر من الذميّ. وحدّثنا قيس بن الربيع عن أبي فزارة عن يزيد بن الأصم عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال: إن هذه المعاصر والقناطر سحت «1» لا يحلّ أخذها. فبعث عمّالا إلى اليمن ونهاهم أن يأخذوا من عاصر أو قنطرة أو طريق شيئا. فقدموا فاستقلّ المال فقالوا: نهيتنا. فقال: خذوا كما كنتم تأخذون. وحدّثنا محمد بن عبيد الله عن أنس بن سيرين قال: أرادوا أن يستعملوني على عشور الأبلة فأبيت، فلقيني أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: ما يمنعك قلت العشور أخبث ما عمل عليه الناس. قال: فقال لي لم لا تفعل؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صنعه، فجعل على أهل الإسلام ربع العشر، وعلى أهل الذمّة نصف العشر، وعلى أهل المنزل ممن ليس له ذمة العشر. وقال أبو الحسن المسعوديّ أنّ كيقباذ أحد ملوك الفرس أوّل من أخذ العشر من الأرض وعمر بلاد بابل ومملكة الفرس، ورأيت في التوراة التي في يد اليهود أنّ أوّل من أخرج العشر من مواشيه وزروعه وجميع ما له خليل الله إبراهيم عليه السلام، وكان يدفع ذلك إلى ملك أورشليم التي هي أرض القدس، واسمه ملكي صادق، فلما مات الخليل إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه، اقتدى به بنوه في ذلك من بعده، وصاروا يدفعون العشر من أموالهم إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام، فأوجب على بني إسرائيل إخراج العشر في كل ما ملكت أيمانهم من جميع أموالهم بأنواعها، وجعل ذلك حقا لسبط لاوي الذين هم قرابة موسى عليه السلام. وقال ابن يونس في تاريخ مصر: كان ربيعة بن شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه أحد من شهد فتح مصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واليا لعمرو بن العاص رضي الله عنه على المكس، وكان زريق بن حيان على مكس إبلة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. قال مؤلفه رحمه الله: ومع ذلك فقد كان أهل الورع من السلف يكرهون هذا العمل. روى ابن قتيبة في كتاب الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله سهيلا، كان عشارا باليمن فمسخه الله شهابا» . وروى ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن ميمون عن أبي إبراهيم المعافريّ عن خالد بن ثابت: أنّ كعبا أوصاه وتقدّم إليه حين مخرجه مع عمرو بن العاص أن لا يقرب المكس.

فهذا أعزّك الله معنى المكس عند أهل الإسلام، لا ما أحدثه الظالم هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وزير الملك المعز ايبك التركمانيّ، أوّل من أقام من ملوك الترك بقلعة الجبل من المظالم التي سمّاها الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية، وتعرف اليوم بالمكوس، فذلك الرجس النجس الذي هو أقبح المعاصي والذنوب الموبقات، لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وتكرّر ذلك منه وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها، وذلك الذي لا يقرّ به متق. وعلى آخذه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ولنرجع إلى الكلام في المقس فنقول: من الناس من يسميه المقسم بالميم بعد السين. قال ابن عبد الظاهر في كتاب خطط القاهرة: وسمعت من يقول أنه المقسم، قيل لأن قسمة الغنائم عند الفتوح كانت به، ولم أره مسطورا. وقال العماد محمد بن أبي الفرج محمد بن حامد الكاتب الأصفهانيّ في كتاب سنا البرق الشاميّ: وجلس الملك الكامل محمد بن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب في البرج الذي بجوار جامع المقس في السابع والعشرين من شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة، وهذا المقسم على شاطىء النيل يزار، وهناك مسجد يتبرّك به الأبرار، وهو المكان الذي قسمت فيه الغنائم عند استيلاء الصحابة رضي الله عنهم على مصر، فلما أمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بإدارة السور على مصر والقاهرة، تولى ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش، وجعل نهايته التي تلي القاهرة عند المقسم، وبنى فيه برجا مشرفا على النيل، وبنى مسجدا جامعا، واتصلت العمارة منه إلى البلد، وجامعه تقام فيه الجمعة والجماعات، وهذا البرج عرف بقلعة قراقوش، وما برح هنالك إلى أن هدمه الصاحب الوزير شمس الدين عبد الله المقسيّ وزير الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون، في سنة بضع وسبعين وسبعمائة، عندما جدّد جامع المقس الذي أنشأه الخليفة الحاكم بأمر الله، فصار يعرف بجامع المقسيّ، هذا إلى اليوم، وما برح جامع المقس هذا يشرف على النيل الأعظم إلى ما بعد سنة سبعمائة بعدّة أعوام. قال جامع السيرة الطولونية: وركب أحمد بن طولون في غداة باردة إلى المقس، فأصاب بشاطئ النيل صيادا عليه خلق لا يواريه منه شيء، ومعه صبيّ له في مثل حاله وقد ألقى شبكته في البحر، فلما رآه رقّ لحاله وقال: يا نسيم ادفع إلى هذا عشرين دينارا، فدفعها إليه ولحق ابن طولون، فسار أحمد بن طولون ولم يبعد ورجع فوجد الصياد ميتا والصبيّ يبكي ويصيح، فظن ابن طولون أن بعض سودانه قتله وأخذ الدنانير منه، فوقف بنفسه عليه وسأل الصبيّ عن أبيه فقال له: هذا الغلام، وأشار إلى نسيم الخادم، دفع إلى أبي شيئا فلم يزل يقلّبه حتى وقع ميتا. فقال: فتشه يا نسيم، فنزل وفتشه فوجد الدنانير معه بحالها، فحرّض الصبيّ أن يأخذها فأبى وقال: هذه قتلت أبي، وإن أخذتها قتلتني، فأحضر ابن طولون قاضي المقس وشيوخه وأمرهم أن يشتروا للصبيّ دارا بخمسمائة دينار

تكون لها غلة، وأن تحبس عليه، وكتب اسمه في أصحاب الجرايات وقال: أنا قتلت أباه لأنّ الغني يحتاج إلى تدريج وإلّا قتل صاحبه، هذا كان يجب أن يدفع إليه دينارا بعد دينار حتى تأتيه هذه الحملة على تفرقة فلا تكثر في عينه. وقال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ رحمه الله في تعلق المتجدّدات لسنة سبع وسبعين وخمسمائة، وفيه يعني يوم الثلاثاء لست بقين من المحرّم، ركب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أعز الله نصره لمشاهدة ساحل النيل، وكان قد انحسر وتشمر عن المقس وما يليه، وبعد عن السور والقلعة المستجدّين بالمقس، وأحضر أرباب الخبرة واستشارهم، فأشير عليه بإقامة الجراريف لرفع الرمال التي قد عارضت جزائرها طريق الماء وسدّته ووقفت فيه، وكان الأفضل بن أمير الجيوش لما تربى قدّام دار الملك جزيرة رمل كما هي اليوم، أراد أن يقرب البحر وينقل الجزيرة، فأشير عليه بأن يبني مما يلي الجزيرة أنفا خارجا في البحر ليلقى التيار وينقل الرمل، فعسر هذا وعظمت غرامته، فأشار عليه ابن سيد بأن يأخذ قصاري فخار تثقب ويعمل تحتها رؤوس برابخ وتلطخ بالزفت وتكبّ القصاري عليها وتدفن في الرمل، فإذا أراد النيل وركبها، نزل من خروق القصاري إلى الرءوس، فأدارها الماء ومنعتها القصاري أن تنحدر، ودامت حركة الرمل بتحريك الماء للرؤوس، فانتقل الرمل، وذكر أنّ للزفت خاصية في تحويل الرمل قال: وفي هذا الوقت احترق النيل وصار البحر مخايض يقطعها الراجل، وتوحل فيه المراكب، وتشمر الماء عن ساحل المقس ومصر، وربّى جزائر رملية أشفق منها على المقياس لئلا يتقلص النيل عنه، ويحتاج إلى عمل غيره، وخشي منها أيضا على ساحل المقس لكون بنيان السور كان اتصل بالماء، وقد تباعد الآن عن السور، وصار المدّقوّته من برّ الغرب، ووقع النظر في إقامة جراريف لقطع الجزائر التي رباها البحر، وعمر أنوف خارجة في بر الجيزة ليميل بها الماء إلى هذا الجانب، ولم يتم شيء من ذلك. وقال ابن المتوّج في سنة خمسين وستمائة: انتهى النيل في احتراقه إلى أربعة أذرع وسبعة عشر أصبعا، وانتهى في زيادته إلى ثمانية عشر ذراعا، وكان مثل ذلك في دولة الملك الأشرف خليل بن قلاون، وكان نيلا عظيما سدّ فيه باب المقس، يعني الباب الذي يعرف اليوم بباب البحر عند المقس، وفي سنة اثنتين وستين وستمائة أحضر إلى الملك الظاهر بيبرس طفل وجد ميتا بساحل المقس، له رأسان وأربعة أعين وأربعة أرجل وأربعة أيد، وأخبرني وكيل أبي الشيخ المعمر حسام الدين حسن بن عمر السهرورديّ رحمه الله، ومولده سنة اثنتين وسبعمائة بالمقس، أنه يعرف باب البحر هذا، إذا خرج منه الإنسان فإنه يرى برّ الجيزة، لا يحول بينه وبينها حائل، فإذا زاد ماء النيل صار الماء عند الوكالة التي هي الآن خارج باب البحر المعروفة بوكالة الجبن، وإذا كان أيام احتراق النيل بقيت الرمال تجاه باب البحر، وذلك قبل أن يحفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ، فلما حفر

ذكر ميدان القمح

الخليج المذكور، أنشأ الناس البساتين والدور كما يجيء إن شاء الله تعالى ذكره، وأدركنا المقس خطة في غاية العمارة بها عدّة أسواق، ويسكنها أمم من الأكراد والأجناد والكتاب وغيرهم، وقد تلاشت من بعد سنة سبع وسبعين وسبعمائة، عند حدوث الغلاء بمصر في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين، فلما كانت المحن منذ سنة ست وثمانمائة خربت الأحكار والمقس وغيره، وفيه إلى الآن بقية صالحة، وبه خمسة جوامع تقام بها الجمعة، وعدّة أسواق، ومعظمه خراب. ذكر ميدان القمح هذا المكان خارج باب القنطرة، يتصل من شرقية بعدوة الخليج، ومن غريبه بالمقس، وبعضهم يسميه ميدان الغلة، وكان موضعا للغلال أيام كان المقس ساحل القاهرة، وكانت صبر القمح وغيره من الغلال توضع من جانب المقس إلى باب القنطرة عرضا، وتقف المراكب من جامع المقس إلى منية الشيرج طولا، ويصير عند باب القنطرة في أيام النيل من مراكب الغلة وغيرها ما يستر الساحل كله. قال ابن عبد الظاهر: المكان المعروف بميدان الغلة وما جاوره إلى ما وراء الخليج، لما ضعف أمر الخلافة وهجرت الرسوم القديمة من التفرّج في اللؤلؤة وغيرها، بنت الطائفة الفرحية الساكنون بالمقس، لأنهم ضاق بهم المقس، قبالة اللؤلؤة حارة سميت بحارة اللصوص، بسبب تعدّيهم فيها مع غيرهم إلى أن غيروا تلك المعالم، وقد كان ذلك قديما بستانا سلطانيا يسمّى بالمقسي، أمر الظاهر بن الحاكم بنقل أنشابه وحفره وجعله بركة قدّام اللؤلؤة مختلطة بالخليج، وكان للبستان المقدّم ذكره ترعة من البحر يدخل منها الماء إليه، وهو خليج الذكر الآن، فأمر بإبقائها على حالها مسلطة على البركة والخليج يستنقع الماء فيها، فلما نسي ذلك على ما ذكرناه، عمد المذكورون وغيرهم إلى اقتطاع البركة من الخليج وجعلوا بينها وبين الخليج جسرا، وصار الماء يصل إليها من الترعة دون الخليج، وصارت منتزها للسودان المذكورين في أيام النيل والربيع، ولما كانت الأيام الآمرية أحبّ إعادة النزهة، فتقدّم وزيره المأمون بن البطائحيّ بإحضار عرفاء السودان المذكورين وأنكر عليهم، ذلك، فاعتذروا بكثرة الرمال، فأمر بنقل ذلك وأعطاهم أنعاما، فبنوا حارة بالقرب من دار كافور التي أسكنت بها الطائفة المأمونية قبالة بستان الوزير، ومن المساجد الثلاثة المعلقة في شرقيها، ثم أحضر الأبقار من البساتين والعدد والآلات ونقض الجسر الذي بين البركة والخليج، وعمّق البركة إلى أن صار الخليج مسلطا عليها. قال مؤلفه رحمه الله تعالى، هذه البركة عرفت ببطن البقرة، وقد ذكر خبرها عند ذكر البرك من هذا الكتاب، وقد صار هذا الميدان اليوم سوقا تباع فيه القشة من النحاس العتيق والحصر وغير ذلك، وفي بعضه سوق الغزل وبه جامع يشرف على الخليج، وسكن هناك طائفة من

ذكر أرض الطبالة

المشارقة الحياك، وفيه سوق عامر بالمعايش. ذكر أرض الطبالة هذه الأرض على جانب الخليج الغربيّ بجوار المقس، كانت من أحسن منتزهات القاهرة، يمرّ النيل الأعظم من غربيها عندما يندفع من ساحل المقس، حيث جامع المقس الآن، إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي يعرف بالجرف على جانب الخليج الناصريّ، بالقرب من بركة الرطليّ، ويمرّ من الجرف إلى غربيّ البعل، فتصير أرض الطبالة نقطة وسط، من غربيها النيل الأعظم، ومن شرقيها الخليج، ومن قبليها البركة المعروفة ببطن البقرة، والبساتين التي آخرها حيث الآن باب مصر بجوار الكبارة، وحيث المشهد النفيسيّ، ومن بحريها أرض البعل ومنظرة البعل ومنظرة التاج والخمس وجوه وقبة الهواء، فكانت رؤية هذه الأرض شيئا عجيبا في أيام الربيع، وفيها يقول سيف الدين علي بن قزل المشدّ: إلى طبالة يعزون أرضا ... لها من سندس الريحان بسط وقد كتب الشقيق بها سطورا ... وأحسن شكلها للطل نقط رياض كالعرائس حين تجلى ... يزين وجهها تاج وقرط وإنما قيل لها أرض الطبالة: لأنّ الأمير أبا الحارث أرسلان البساسيري، لما غاضب الخليفة القائم بأمر الله العباسيّ وخرج من بغداد يريد، الانتماء إلى الدولة الفاطمية بالقاهرة، أمدّه الخليفة المستنصر بالله ووزيره الناصر لدين الله عبد الرحمن البازوريّ حتى استولى على بغداد، وأخذ قصر الخلافة، وأزال دولة بني العباس منها، وأقام الدولة الفاطمية هناك، وسيّر عمامة القائم وثيابه وشباكه الذي كان إذا جلس يستند إليه، وغير ذلك من الأموال والتحف إلى القاهرة في سنة خمسين وأربعمائة، فلما وصل ذلك إلى القاهرة سرّ الخليفة المستنصر سرورا عظيما، وزينت القاهرة والقصور ومدينة مصر والجزيرة، فوقفت نسب طبالة المستنصر، وكانت امرأة مرجلة تقف تحت القصر في المواسم والأعياد وتسير أيام الموكب وحولها طائفتها وهي تضرب بالطبل، وتنشد، فأنشدت وهي واقفة تحت القصر: يا بني العباس ردّوا ... ملك الأمر معدّ ملّككم ملك معار ... والعوارى تستردّ فأعجب المستنصر ذلك منها وقال لها تمني، فسألت أن تقطع الأرض المجاورة للمقس، فأقطعها هذه الأرض. وقيل لها من حينئذ أرض الطبالة، وأنشأت هذه الطبالة تربة بالقرافة الكبرى تعرف بتربة نسب. قال ابن عبد الظاهر: أرض الطبالة منسوبة إلى امرأة مغنية تعرف بنسب، وقيل بطرب، مغنية المستنصر. قال: فوهبها هذه الأرض المعروفة بأرض الطبالة، وحكرت وبنيت آدرا وبيوتا، وكانت من ملح القاهرة وبهجتها، انتهى. ثم أن أرض

ذكر حشيشة الفقراء

الطبالة خربت في سنة ست وتسعين وستمائة عند حدوث الغلاء والوباء في سلطنة الملك العادل كتبغا، حتى لم يبق فيها إنسان يلوح، وبقيت خرابا إلى ما بعد سنة إحدى عشرة وسبعمائة، فشرع الناس في سكناها قليلا قليلا، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، كانت هذه الأرض بيد الأمير بكتمر الحاجب، فما زال بالمهندسين حتى مرّوا بالخليج من عند الجرف على بركة الطوّابين التي تعرف اليوم ببركة الحاجب، وببركة الرطليّ، فمرّوا به من هناك حتى صبّ في الخليج الكبير من آخر أرض الطبالة، فعمر الأمير بكتمر المذكور هناك القنطرة التي تعرف بقنطرة الحاجب على الخليج الناصريّ، وأقام جسرا من القنطرة المذكورة إلى قريب من الجرف، فصار هذا الجسر فاصلا بين بركة الحاجب والخليج الناصريّ، وأذن للناس في تحكيره فبنوا عليه وعلى البركة الدور، وعمرت بسبب ذلك أرض الطبالة، وصار بها عدّة حارات منها: حارة العرب، وحارة الأكراد، وحارة البزازرة، وحارة العياطين، وغير ذلك. وبقي فيها عدّة أسواق وحمّام وجوامع تقام بها الجمعة، وأقبل الناس على التنزه بها أيام النيل والربيع، وكثرت الرغبات فيها لقربها من القاهرة، وما برحت على غاية من العمارة إلى أن حدث الغلاء في سنة سبع وسبعين وسبعمائة أيام الأشرف شعبان بن حسين، فخرب كثير من حارات أرض الطبالة، وبقيت منها بقية إلى أن دثرت منذ سنة ست وثمانمائة، وصارت كيمانا، وبقي فيها من العامر الآن الاملاك المطلة على البركة التي ذكرت عند ذكر البرك من هذا الكاتب، وفيها بقعة تعرف بالجنينة تصغير جنة من أخبث بقاع الأرض، يعمل فيها بمعاصي الله عز وجلّ، وتعرف ببيع الحشيشة التي يبتلعها اراذل الناس، وقد فشت هذه الشجرة الخبيثة في وقتنا هذا فشوّا زائدا، وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولوعا كثيرا، وتظاهروا بها من غير احتشام بعدما أدركناها تعدّ من أرذل الخبائث وأقبح القاذورات، وما شيء في الحقيقة أفسد لطباع البشر منها، ولاشتهارها في وقتنا هذا، عند الخاص والعام بمصر والشام والعراق والروم، تعين ذكرها، والله تعالى أعلم. ذكر حشيشة الفقراء قال الحسن بن محمد في كتاب السوانح الأدبية في مدائح القنبية: سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازيّ الحيدريّ ببلدة تستر في سنة ثمان وخمسين وستمائة، عن السبب في الوقوف على هذا العقار ووصوله إلى الفقراء خاصة، وتعدّيه إلى العوام عامّة، فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدرا رحمه الله، كان كثير الرياضة والمجاهدة، قليل الاستعمال للغذاء، قد فاق في الزهادة وبرز في العبادة، وكان مولده بنشاور من بلاد خراسان، ومقامه بجبل بين نشاور ومارماه وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية وفي صحبته جماعة من الفقراء، وانقطع في موضع منها ومكث بها أكثر من عشر سنين لا يخرج منها، ولا يدخل عليه أحد غيري للقيام بخدمته. قال: ثم أن الشيخ طلع ذات يوم وقد اشتدّ الحرّ وقت القائلة منفردا

بنفسه إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور، بخلاف ما كنا نعهده من حاله قبل، وأذن لأصحابه في الدخول عليه، وأخذ يحادثهم، فلما رأينا الشيخ على هذه الحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدّة الطويلة في الخلوة والعزلة، سألناه عن ذلك فقال: بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردا، فخرجت فوجدت كل شيء من النبات ساكنا لا يتحرّك لعدم الريح وشدّة القيظ، ومررت بنبات له ورق، فرأيته في تلك الحال يميس بلطف ويتحرّك من غير عنف، كالثمل النشوان، فجعلت أقطف منه أوراقا وآكلها، فحدث عندي من الارتياح ما شاهدتموه، وقوموا بنا حتى أوقفكم عليه لتعرفوا شكله. قال: فخرجنا إلى الصحراء، فأوقفنا على النبات، فلما رأيناه قلنا هذا نبات يعرف بالقنب، فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله، ففعلنا، ثم عدنا إلى الزاوية فوجدنا في قلوبنا من السرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه، فلما رآنا الشيخ على الحالة التي وصفنا، أمرنا بصيانة هذا العقار، وأخذ علينا الأيمان أن لا نعلم به أحدا من عوامّ الناس، وأوصانا أن لا نخفيه عن الفقراء، وقال إن الله تعالى قد خصكم بسرّ هذا الورق ليذهب بأكله همومكم الكثيفة، ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة، فراقبوه فيما أودعكم، وراعوه فيما استرعاكم. قال الشيخ جعفر: فزرعتها بزاوية الشيخ حيدر بعد أن وقفنا على هذا السرّ في حياته، وأمرنا بزرعها حول ضريحه بعد وفاته، وعاش الشيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين وأنا في خدمته لم أره يقطع أكلها في كل يوم، وكان يأمرنا بتقليل الغذاء وأكل هذه الحشيشة، وتوفي الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة بزاويته في الجبل، وعمل على ضريحه قبة عظيمة، وأتته النذور الوافرة من أهل خراسان وعظموا قدره وزاروا قبره، واحترموا أصحابه، وكان قد أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا ظرفاء أهل خراسان وكبراءهم على هذا العقار وسرّه، فاستعملوه. قال: ولم تزل الحشيشة شائعة ذائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس، ولم يكن يعرف أكلها أهل العراق حتى ورد إليها صاحب هرمز، ومحمد بن محمد صاحب البحرين، وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس في أيام الملك الإمام المستنصر بالله، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة، فحملها أصحابهما معهم وأظهروا للناس أكلها، فاشتهرت بالعراق ووصل خبرها إلى أهل الشام ومصر والروم فاستعملوها. قال: وفي هذه السنة ظهرت الدراهم ببغداد، وكان الناس ينفقون القراضة، وقد نسب إظهار الحشيشة إلى الشيخ حيدر الأديب محمد بن عليّ بن الأعمى الدمشقيّ في أبيات وهي: دع الخمر واشرب من مدامة حيدر ... معنبرة خضراء مثل الزبرجد يعاطيكها ظبي من الترك أغيد ... يميس على غصن من البان أملد فنحسبها في كفه إذ يديرها ... كرقم عذار فوق خدّ مورّد

يرنحها أدنى نسيم تنسّمت ... فتهفو إلى برد النسيم المردّد وتشدو على أغصانها الورق «1» في الضحى ... فيطربها سجع الحمام المغرّد وفيها معان ليس في الخمر مثلها ... فلا تستمع فيها مقالا مفند هي البكر لم تنكح بماء سحابة ... ولا عصرت يوما برجل ولا يد ولا عبث القسيس يوما بكأسها ... ولا قرّبوا من دنها كل مقعد ولا نصّ في تحريمها عند مالك ... ولا حدّ عند الشافعيّ وأحمد ولا أثبت النعمان تنجيس عينها ... فخذها بحدّ المشرفيّ المهند وكف أكفّ الهمّ بالكف واسترح ... ولا تطرح يوم السرور إلى غد وكذلك نسب إظهارها إلى الشيخ حيدر الأديب أحمد بن محمد بن الرسّام الحلبيّ فقال: ومهفهف بادي النفار عهدته ... لا ألتقيه قط غير معبس فرأيته بعض الليالي ضاحكا ... سهل العريكة ريضا في المجلس فقضيت منه مآربي وشكرته ... إذ صار من بعد التنافر مؤنسي فأجابني لا تشكرنّ خلائقي ... واشكر شفيعك فهو خمر المفلس فحشيشة الأفراح تشفع عندنا ... للعاشقين ببسطها للأنفس وإذا هممت بصيد ظبي نافر ... فاجهد بأن يرعى حشيش القنبس واشكر عصابة حيدر إذ أظهروا ... لذوي الخلاعة مذهب المتخمّس ودع المعطّل للسرور وخلني ... من حسن ظنّ الناس بالمتنمّس وقد حدّثني الشيخ محمد الشيرازيّ القلندري أنّ الشيخ حيدرا لم يأكل الحشيشة في عمره البتة، وإنما عامّة أهل خراسان نسبوها إليه لاشتهار أصحابه بها، وأن إظهارها كان قبل وجوده بزمان طويل، وذلك أنه كان بالهند شيخ يسمى بيررطن، هو أوّل من أظهر لأهل الهند أكلها، ولم يكونوا يعرفونها قبل ذلك، ثم شاع أمرها في بلاد الهند حتى ذاع خبرها ببلاد اليمن، ثم فشا إلى أهل فارس، ثم ورد خبرها إلى أهل العراق والروم والشام ومصر، في السنة التي قدّمت ذكرها. قال: وكان بيررطن في زمن الأكاسرة، وأدرك الإسلام وأسلم، وأنّ الناس من ذلك الوقت يستعملونها، وقد نسب إظهارها إلى أهل الهند عليّ بن مكيّ في أبيات أنشدنيها من لفظه وهي: ألا فاكفف الأحزان عني مع الضرّ ... بعذراء زفّت في ملاحفها الخضر تجلت لنا لما تحلتّ بسندس ... فجلّت عن التشبيه في النظم والنثر

بدت تملأ الأبصار نورا بحسنها ... فأخجل نور الروض والزهر بالزهر عروس يسرّ النفس مكنون سرّها ... وتصبح في كل الحواس إذا تسري فللذوق منها مطعم الشهد رائقا ... وللشم منها فائق المسك بالنشر وفي لونها للطرف أحسن نزهة ... يميل إلى رؤياه من سائر الزهر تركّب من قان وأبيض فانثنت ... تتيه على الأزهار عالية القدر فيكسف نور الشمس حمرة لونها ... وتخجل من مبيضّه طلعة البدر علت رتبة في حسنها وكأنها ... زبرجد روض جاده وابل القطر تبدّت فأبدت ما أجنّ من الهوى ... وجاءت فولت جند همي والفكر جميلة أوصاف جليلة رتبة ... تغالت فغالى في مدائحها شعري فقم فانف جيش الهمّ واكفف يد العنا ... بهندية أمضى من البيض والسمر بهندية في أصل إظهار أكلها ... إلى الناس لا هندية اللون كالسّمر تزيل لهيب الهمّ عنّا بأكلها ... وتهدي لنا الأفراح في السرّ والجهر قال: وأنا أقول إنه قديم معروف منذ أوجد الله تعالى الدنيا، وقد كان على عهد اليونانيين، والدليل على ذلك ما نقله الأطباء في كتبهم عن بقراط وجالينوس من مزاج هذا العقار وخواصه، ومنافعه ومضارّه، قال ابن جزلة في كتاب منهاج البيان: القنب الذي هو ورق الشهدانج، منه بستانيّ ومنه برّيّ، والبستانيّ أجوده، وهو حار يابس في الدرجة الثالثة، وقيل حرارته في الدرجة الأولى، ويقال أنه بارد يابس في الدرجة الأولى، والبريّ منه حار يابس في الدرجة الرابعة. قال: ويسمى بالكفّ. أنشدني تقيّ الدين الموصلي: كف كفّ الهموم بالكفّ فالك ... فّ شفاء للعاشق المهموم بابنة القنّب الكريمة لا بابن ... ة كرم بعد البنت الكروم قال: والفقراء إنما يقصدون استعماله مع ما يجدون من اللذة تجفيفا للمنيّ، وفي إبطاله قطع لشهوة الجماع كي لا تميل نفوسهم إلى ما يوقع في الزنا. وقال بعض الأطباء: ينبغي لمن يأكل الشهدانج أو ورقه، أن يأكله مع اللوز أو الفستق أو السكر أو العسل أو الخشخاش، ويشرب بعده السكنجبين ليدفع ضرره، وإذا قلي كان أقلّ لضرره، ولذلك جرت العادة قبل أكله أن يقلى، وإذا أكل غير مقليّ كان كثير الضرر، وأمزجة الناس تختلف في أكله، فمنهم من لا يقدر أن يأكله مضافا إلى غيره، ومنهم من يضيف إليه السكر أو العسل أو غيره من الحلاوات. وقرأت في بعض الكتب أن جالينوس قال إنها تبرىء من التخمة، وهي جيدة للهضم، وذكر ابن جزلة في كتاب المنهاج أن بزر شجر القنب البستانيّ هو الشهدانج، وثمره يشبه حب السمنة، وهو حب يعصر منه الدهن. وحكي عن حنين بن إسحاق أنّ شجرة البري تخرج في القفار المنقطعة على قدر ذراع، وورقه يغلب عليه

البياض. وقال يحيى بن ماسويه في كتاب تدبير أبدان الأصحاء: أنّ من غلب على بدنه البلغم ينبغي أن تكون أغذيته مسخنة مجففة، كالزبيب والشهدانج. وقال صاحب كتاب إصلاح الأدوية: أنّ الشهدانج يدرّ البول، وهو عسر الانهضام، رديء الخلط للمعدة. قال: ولم أجد لإزالة الزفر من اليد أبلغ من غسلها بالحشيشة، ورأيت من خواصها أن كثيرا من ذوات السموم كالحية ونحوها إذا شمت ريحها هربت، ورأيت أن الإنسان إذا أكلها ووجد فعلها في نفسه، وأحبّ أن يفارقه فعلها قطر في منخريه شيئا من الزيت، وأكل من اللبن الحامض. ومما يكسر قوّة فعلها ويضعفه السباحة في الماء الجاري، والنوم يبطله. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: دع نزاهة القوم، فما بلي الناس بأفسد من هذه الشجرة لأخلاقهم، ولقد حدّثني القاضي الرئيس تاج الدين إسماعيل بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزوميّ، قبل اختلاطه، عن الرئيس علاء الدين بن نفيس: أنه سئل عن هذه الحشيشة فقال: اعتبرتها فوجدتها تورث السفالة والرذالة، وكذلك جرّبنا في طول عمرنا من عاناها فإنه ينحط في سائر أخلاقه إلى ما لا يكاد أن يبقى له من الإنسانية شيء البتة. وقد قال ابن البيطار في كتاب المفردات: ومن القنب نوع ثالث يقال له القنب الهنديّ، ولم أره بغير مصر، ويزرع في البساتين ويقال له الحشيشة عندهم أيضا، وهو يسكر جدّا إذا تناول منه الإنسان قدر درهم أو درهمين، حتى أنّ من أكثر منه يخرجه إلى حدّ الرعونة، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم، وأدّى بهم الحال إلى الجنون، وربما قتلت. ورأيت الفقراء يستعملونها على أنحاء شتى، فمنهم من يطبخ الورق طبخا بليغا ويدعكه باليد دعكا جيدا، حتى يتعجن، ويعمل منه أقراصا، ومنهم من يجففه قليلا ثم يحمصه ويفركه باليد، ويخلط به قليل سمسم مقشور وسكّر ويستفه ويطيل مضغه، فإنهم يطربون عليه ويفرحون كثيرا، وربما أسكرهم فيخرجون به إلى الجنون أو قريب منه، وهذا ما شاهدته من فعلها، وإذا خيف من الإكثار منه فليبادر إلى القيء بسمن وماء سخن، حتى تنقى منه المعدة، وشراب الحماض لهم في غاية النفع، فانظر كلام العارف فيها واحذر من إفساد بشريّتك وتلاف أخلاقك باستعمالها، ولقد عهدناها وما يرمى بتعاطيها إلّا أراذل الناس، ومع ذلك فيأنفون من انتسابهم لها لما فيها من الشنعة، وكان قد تتبع الأمير سودون الشيخونيّ رحمه الله الموضع الذي يعرف بالجنينة من أرض الطبالة وباب اللوق وحكر واصل ببولاق، وأتلف ما هنالك من هذه الشجرة الملعونة، وقبض على من كان يبتلعها من أطراف الناس ورذلائهم وعاقب على فعلها بقلع الأضراس، فقلع أضراس كثير من العامّة في نحو سنة ثمانين وسبعمائة، وما برحت هذه الخبيثة تعدّ من القاذورات حتى قدم سلطان بغداد أحمد بن أويس فارا من تيمورلنك إلى القاهرة في سنة خمس وتسعين وسبعمائة، فتظاهر أصحابه بأكلها، وشنع الناس عليهم واستقبحوا ذلك من فعلهم وعابوه عليهم، فلما سافر من

ذكر أرض البعل والتاج

القاهرة إلى بغداد وخرج منها ثانيا وأقام بدمشق مدّة، تعلم أهل دمشق من أصحابه التظاهر بها. وقدم إلى القاهرة شخص من ملاحدة العجم صنع الحشيشة بعسل، خلط فيها عدّة أجزاء مجففة، كعرف اللفاح ونحوه، وسمّاها العقدة وباعها بخفية، فشاع أكلها وفشا في كثير من الناس مدّة أعوام، فلما كان في سنة خمس عشرة وثمانمائة شنع التجاهر بالشجرة الملعونة، فظهر أمرها واشتهر أكلها وارتفع الاحتشام من الكلام بها، حتى لقد كادت أن تكون من تحف المترفين، وبهذا السبب غلبت السفالة على الأخلاق، وارتفع ستر الحياء والحشمة من بين الناس، وجهروا بالسوء من القول، وتفاخروا بالمعايب، وانحطوا عن كل شرف وفضيلة، وتحلوا بكل ذميمة من الأخلاق ورذيلة، فلولا الشكل لم تقض لهم بالإنسانية، ولولا الحس لما حكمت عليهم بالحيوانية، وقد بدأ المسخ في الشمائل والأخلاق المنذر بظهوره على الصور والذوات، عافانا الله تبارك وتعالى من بلائه، وأرض الطبالة الآن بيد ورثة الحاجب. ذكر أرض البعل والتاج قال ابن سيده: البعل، الأرض المرتفعة التي لا يصيبها المطر إلّا مرّة واحدة في السنة. وقيل: البعل، كلّ شجر أو زرع لا يسقى. وقيل: البعل: ما سقته السماء، وقد استبعل الموضع. والبعل: من النخل ما شرب بعروقه من غير سقي ولا ماء سماء. وقيل هو ما اكتفى بماء السماء، والبعل ما أعطي من الأتاوة على سقي النخل، واستبعل الموضع والنخل صار بعلا. وأرض البعل هذه بجانب الخليج، تتصل بأرض الطبالة، كانت بستانا يعرف بالبعل، وفيه منظرة أنشأه الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ، وجعل على هذا البستان سورا، وإلى جانب بستان البعل هذا بستان التاج، وبستان الخمس وجوه، وقد ذكرت مناظر هذه البساتين وما كان فيها للخلفاء الفاطميين من الرسوم عند ذكر المناظر من هذا الكتاب. وأرض البعل في هذا الوقت مزرعة تجاه قنطرة الأوز التي على الخليج. يخرج الناس للتنزه هناك أيام النيل وأيام الربيع، وكذلك أرض التاج فإنها اليوم قد زالت منها الأشجار واستقرّت من أراضي المنية الخراجية، وفي أيام النيل ينبت فيها نبات يعرف بالبشنين، له ساق طويل وزهره شبه اللينوفر، وإذا أشرقت الشمس انفتح فصار منظرا أنيقا، وإذا غربت الشمس انضم. ويذكر أنّ من العصافير نوعا صغيرا يجلس العصفور منه في دار البشنينة، فإذا أقبل الليل انضمت عليه وغطست في الماء فبات في جوفها آمنا إلى أن تشرق الشمس، فتصعد البشنينة وتنفتح فيطير العصفور، وهو شيء ما برحنا نسمعه. وهذا البشنين يصنع من زهره دهن يعالج به في البرسام وترطيب الدماغ فينجع، وأصله يعرف بالبيارون، يجمعه الأعراب ويأكلونه نيئا ومطبوخا، وهو يميل إلى الحرارة يسيرا، ويزيد في الباه، ويسخّن المعدة ويقوّيها، ويقطع الزحير، ذكر ذلك ابن البيطار في كتاب المفردات، وفي أيام الربيع

ذكر ضواحي القاهرة

تزرع هذه الأراضي فتذكّر بحسنها ونضارتها جنة الخلد التي وعد المتقون. وأدركت بهذه الأرض بقايا نخل وأشجار وقد تلفت. ذكر ضواحي القاهرة قال ابن سيده: ضواحي كل شيء نواحيه البارزة للشمس، والضواحي من النخيل ما كان خارج السور على صفة عالية لأنها تضحى للشمس. وفي كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل بدر: «لكم الصامتة من النخل ولنا الضاحية من البعل» يعني بالصامتة: ما أطاف به سور المدينة، وضواحي الروم ما ظهر من بلادهم وبرز. ويقال في زماننا لما خرج عن القاهرة مما هو في جنبتي الخليج من القرى ضواحي القاهرة، وقد عرفت أصل ذلك من اللغة، وتعرف البلاد التي من الضواحي في غربيّ الخليج من القرى ضواحي القاهرة، وقد عرفت أصل ذلك من اللغة، وتعرف البلاد التي من الضواحي في غربيّ الخليج بالحبس الجيوشيّ، وهي: بهتين، والأميرية، والمنية. وكان أيضا بناحية الجيزة من جملة الحبس الجيوشيّ ناحية سفط ونهيا ووسيم، حبس هذه البلاد أمير الجيوش بدر الجماليّ على عقبه. فلما زالت الدولة الفاطمية جعل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر الأسطول لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وسلّمه له في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وأفرد لديوان الأسطول من الأبواب الديوانية الزكاة التي كانت تجبى من الناس بمصر، والحبس الجيوشي بالبرّين والنطرون والخراج، وما معه من ثمن القرظ، وساحل السنط، والمراكب الديوانية، وأشنأ وطنتدي وأحيل ورثة أمير الجيوش على غير الحبس الذي لهم، ثم أفتى الفقهاء ببطلان الحبس، وقبضت النواحي وصارت من جملة أموال الخراج، فعرفت ببلاد الملك، وهذه الضواحي الآن منها ما هو وقف ومنها ما هو في الديوان السلطانيّ، وخراجها يتميز على غيرها من النواحي، ويزرع أكثرها من الكتان والمقاثي وغيرها. ذكر منية الأمراء قال ياقوت في كتاب المشترك: المنية ثلاثة وأربعون موضعا، وجميعها بمصر غير واحدة، وبمصر من القرى المسماة بهذا الاسم ما يقارب المائتين. قال: ومنية الشيرج، ويقال لها منية الأمير ومنية الأمراء، بليدة فيها أسواق على فرسخ من القاهرة في طريق الإسكندرية. وذكر الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة: أن قتلى أهل الشام الذين قتلوا في وقعة الخندق، بين مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن جحدم أمير مصر، في سنة خمس وستين من الهجرة، دفنوا حيث موضع منية الشيرج هذه، وكانوا نحوا من الثمانمائة. وقال ابن عبد الظاهر: منية الأمراء من الحبس الجيوشيّ الشرقيّ الذي كان حبسه أمير الجيوش، ثم ارتجع. وفي كل سنة يأكل البحر منها جانبا، ويجدّد جامعها ودورها حتى

ذكر كوم الريش

صار جامعها القديم ودورها في برّ الجيزة، وغلب البحر عليها، وهذه المنية من محاسن منتزهات القاهرة، وكانت قد كثرت العمائر بها واتخذها الناس منزل قصف ودار لعب ولهو ومغنى صبابات، وبها كان يعمل عيد الشهيد الذي تقدّم ذكره عند ذكر النيل من هذا الكتاب، لقربها من ناحية شبرا، وبها سوق في كل يوم أحد يباع فيه البقر والغنم والغلال، وهو من أسواق مصر المشهورة، وأكثر من كان يسكن بها النصارى، وكانت تعرف بعصر الخمر وبيعه، حتى أنه لما عظمت زيادة ماء النيل في سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وكانت الغرقة المشهورة وغرقت شبرا والمنية، تلف فيها من جرار الخمر ما ينيف على ثمانين ألف جرّة مملوءة بالخمر، وباع نصرانيّ واحد مرّة في يوم عيد الشهيد بها خمرا باثني عشر ألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الستمائة دينار، وكسر منها الأمير بلبغا السالميّ في صفر سنة ثلاث وثمانمائة ما ينيف على أربعين ألف جرّة مملوءة بالخمر. وما برحت تغرق في الأنيال العالية إلى أن عمل الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة الجسر من بولاق إلى المنية، كما ذكر عند ذكر الجسور من هذا الكتاب. فأمن أهلها من الغرق، وأدركناها عامرة بكثرة المساكن والناس والأسواق والمناظر، وتقصد للنزهة بها أيام النيل والربيع، لا سيما في يومي الجمعة والأحد، فإنه كان للناس بها في هذين اليومين مجتمع ينفق فيه مال كثير، ثم لما حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، الحّ المناسر بالهجوم عليها في الليل وقتلوا من أهلها عدّة، فارتحل الناس منها وخلت أكثر دورها، وتعطلت حتى لم يبق بها سوى طاحون واحدة لطحن القمح، بعد ما كان بها ما ينيف على ثمانين طاحونة، وبها الآن بقية وهي جارية في الديوان السلطاني المعروف بالمفرد. ذكر كوم الريش هذا اسم لبلد فيما بين أرض البعل ومنية الشيرج. كان النيل يمرّ بغربيها بعد مروره بغربيّ أرض البعل، وأدركت آثار الجروف باقية من غربيّ البعل، وغربيّ كوم الريش إلى أطراف المنية، حتى تغيرت الأحوال من بعد سنة ست وثمانمائة، ففاض ماء النيل في أيام الزيادة ونزل في الدرب الذي كان يسلك فيه من أرض الطبالة إلى المنية، فانقطع هذا الدرب وترك الناس سلوكه، وكان كوم الريش من أجلّ منتزهات القاهرة، ورغب أعيان الناس في سكناها للتنزه بها. وأخبرني شيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم الحنفي، وخال أبي تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن الخطباء، أنهما أدركا بكوم الريش عدّة أمراء يسكنون فيها دائما، وأنه كان من جملة من يسكن فيها دائما نحو الثمانمائة من الجند السلطاني، وأنا أدركت بها سوقا عامرا بالمعايش بأنواعها من المآكل، لا أعرف اليوم بالقاهرة مثله في كثرة

ذكر بولاق

المآكل، وأدركت بها حمّاما وجامعين تقام بهما الجمعة، وموقف مكارية، ومنارة لا يقدر الواصف أن يعبر عن حسنها لما اشتملت عليه من كل معنى رائق بهج، وما برحت على ذلك إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، فطرقها أنواع الرزايا حتى صارت بلاقع «1» ، وجهلت طرقها وتغيرت معاهدها ونزل بها من الوحشة ما أبكاني، وأنشدت في رؤيتها عندما شاهدتها خرابا: قفرا كأنك لم تكن تلهو بها ... في نعمة وأوانس أتراب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إنّ أخذه أليم شديد. ذكر بولاق قد تقدّم في غير موضع من هذا الكتاب أن ساحل النيل كان بالمقس، وأن الماء انحسر بعد سنة سبعين وخمسمائة عن جزيرة عرفت بجزيرة الفيل، وتقلص ماء النيل عن سور القاهرة الذي ينتهي إلى المقس، وصارت هناك رمال وجزائر، ما من سنة إلّا وهي تكثر، حتى بقي ماء النيل لا يمرّ بها إلا أيام الزيادة فقط. وفي طول السنة ينبت هناك البوص والحلفاء، وتنزل المماليك السلطانية لرمي النشاب في تلك التلال الرمل. فلما كان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة رغب الناس في العمارة بديار مصر، لشغف السلطان الملك الناصر بها ومواظبته عليها، فكأنما نودي في القاهرة ومصر أن لا يتأخر أحد من الناس عن إنشاء عمارة، وجدّ الأمراء والجند والكتّاب والتجّار والعامّة في البناء، وصارت بولاق حينئذ تجاه بولاق التكرور، يزرع فيها القصب والقلقاس على ساقية تنقل الماء من النيل، حيث جامع الخطيري الآن، فعمّر هناك رجل من التجار منظرة، وأحاط جدارا على قطعة أرض غرس فيها عدّة أشجار وتردّد إليها للنزهة. فلما مات انتقلت إلى ناصر الدين محمد بن الجوكندار، فعمر الناس بجانبها دورا على النيل وسكنوا ورغبوا في السكنى هناك، فامتدّت المناظر على النيل من الدار المذكورة إلى جزيرة الفيل، وتفاخروا في إنشاء القصور العظيمة هناك، وغرسوا من ورائها البساتين العظيمة، وأنشأ القاضي ابن المغربيّ رئيس الأطباء بستانا، اشتراه منه القاضي كريم الدين ناظر الخاص للأمير سيف الدين طشتمر الساقي، بنحو مائة ألف درهم فضة. وكثر التنافس بين الناس في هذه الناحية، وعمروها حتى انتظمت العمارة في الطول على حافة النيل، من منية الشيرج إلى موردة الحلفاء، بجوار الجامع الجديد خارج مصر، وعمر في العرض على حافة النيل الغربية، من تجاه الخندق بحريّ القاهرة، إلى منشأة المهرانيّ. وبقيت هذه المسافة العظيمة كلها بساتين وأحكارا عامرة بالدور والأسواق والحمّامات والمساجد

ذكر ما بين بولاق ومنشأة المهراني

والجوامع وغيرها، وبلغت بساتين جزيرة الفيل خاصة ما ينيف على مائة وخمسين بستانا، بعد ما كانت في سنة إحدى عشرة وسبعمائة نحو العشرين بستانا. وأنشأ القاضي الفاضل جلال الدين القزوينيّ، وولده عبد الله، دارا عظيمة على شاطيء النيل بجزيرة الفيل، عند بستان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب. وأنشأ الأمير عز الدين الخطيريّ جامعة ببولاق على النيل، وأنشأ بجواره ربعين. وأنشأ القاضي شرف الدين بن زنبور بستانا، وأنشأ القاضي فخر الدين المعروف بالفخر ناظر الجيش بستانا، وحكر الناس حول هذه البساتين وسكنوا هناك، ثم حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليج الناصريّ سنة خمس وعشرين وسبعمائة، فعمر الناس على جانبي هذا الخليج، وكان أوّل من عمر بعد حفر الخليج الناصريّ المهاميزي، أنشأ بستانا ومسجدا هما موجودان إلى اليوم، وتبعه الناس في العمارة حتى لم يبق في جميع هذه المواضع مكان بغير عمارة، وبقي من يمرّ بها يتعجب، إذ ما بالعهد من قدم، بينما هي تلال رمل وحلافي، إذ صارت بساتين ومناظر وقصورا ومساجد وأسواقا وحمامات وأزقة وشوارع، وفي ناحية بولاق هذه كان خص الكيالة الذي يؤخذ فيه مكس الغلة إلى أن أبطله الملك الناصر محمد بن قلاوون، كما ذكر في الروك الناصريّ من هذا الكتاب. ولما كانت سنة ست وثمانمائة انحسر ماء النيل عن ساحل بولاق، ولم يزل يبعد حتى صار على ما هو عليه الآن، وناحية بولاق الآن عامرة، وتزايدت العمائر بها، وتجدّد فيها عدّة جوامع وحمّامات ورباع وغيرها. ذكر ما بين بولاق ومنشأة المهراني وكان فيما بين بولاق ومنشأة المهراني خط فم الخور، وخط حكر ابن الأثير، وخط زريبة قوصون، وخط الميدان السلطانيّ بموردة الملح، وخط منشأة الكتبة. فأمّا فم الخور، فكان فيه من المناظر الجليلة الوصف عدّة تشرف على النيل، ومن ورائها البساتين، ويفصل بين البساتين والدور المطلة على النيل شارع مسلوك، وأنشئ هناك حمّام وجامع وسوق، وقد تقدّم ذكر الخور، وأنشأ هناك القاضي علاء الدين بن الأثير دارا على النيل، وكان إذ ذاك كاتب السرّ، وبنى الناس بجواره، فعرف ذلك الخط بحكر ابن الأثير، واتصلت العمارة من بولاق إلى فم الخور، ومن فم الخور إلى حكر ابن الأثير، وما برح فيه من مساكن الأكابر من الوزراء والأعيان، ومن الدور العظيمة ما يتجاوز الوصف. وأما الزريبة فإن الملك الناصر محمد بن قلاوون، لما وهب البستان الذي كان بالميدان الظاهريّ للأمير قوصون أنشأ قدّامه على النيل زريبة، ووقفها، فعمر الناس هناك حتى انتظمت العمارة من حكر ابن الأثير إلى الزريبة، وعمر هناك حمّام وسوق كبير، وطواحين وعدّة مساكن اتصلت باللوق. وأما زريبة السلطان، فإن الملك الناصر محمد بن قلاوون لما عمر ميدان المهاري

المجاور لقناطر السباع الآن، أنشأ زريبة في قبليّ الجامع الطيبرسيّ، وحفر لأجل بناء هذه الزريبة البركة المعروفة الآن بالبركة الناصرية، حتى استعمل طينها في البناء، وأنشأ فوق هذه الزريبة دار وكالة وربعين عظيمين، جعل أحدهما وقفا على الخانقاه التي أنشأها بناحية سرياقوس، وأنعم بالآخر على الأمير بكتمر الساقي، فأنشأ الأمير بكتمر بجواره حمّامين، إحداهما برسم الرجال والأخرى برسم النساء، فكثر بناء الناس فيما هنالك حتى اتصلت العمارة من بحريّ الجامع الطيبرسيّ بزريبة قوصون، وصار هناك أزقة وشوارع ودروب ومساكن، من وراء المناظر المطلة على النيل، تتصل بالخليج. وأكثر الناس من البناء في طريق الميدان السلطانيّ، فصارت العمائر منتظمة من قناطر السباع إلى الميدان، من جهاته كلها، وتنافس الناس في تلك الأماكن وتغالوا في أجرها. وعمر المكين إبراهيم بن قزوينة ناظر الجيش في قبليّ زريبة السلطان، حيث كان بستان الخشاب، دارا جليلة. وعمر أيضا صلاح الدين الكحال، والصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام، وعدّة من الكتاب، فقيل لهذه الخطة منشأة الكتاب، وأنشأ فيها الصاحب أمين الدين خانقاه بجوار داره، وعمر أيضا كريم الدين الصغير، حتى اتصلت العمارة بمنشأة المهراني، فصار ساحل النيل من خط دير الطين قبليّ مدينة مصر إلى منية الشيرج بحريّ القاهرة، مسافة لا تقصر عن أزيد من نصف بريد بكثير، كلها منتظمة بالمناظر العظيمة، والمساكن الجليلة، والجوامع، والمساجد، والخوانك، والحمامات، وغيرها من البساتين، لا تجد فيما بين ذلك خرابا البتة، وانتظمت العمارة من وراء الدور المطلة على النيل حتى أشرفت على الخليج. فبلغ هذا البرّ الغربيّ من وفور العمارة وكثرة الناس وتنافسهم في الإقبال على اللذات وتأنقهم في الانهماك في المسرّات ما لا يمكن وصفه، ولا يتأتى شرحه، حتى إذا بلغ الكتاب أجله وحدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، وتقلص ماء النيل عن البرّ الشرقيّ، وكثرت حاجات الناس وضروراتهم، وتساهل قضاة المسلمين في الاستبدال في الأوقاف وبيع نقضها، اشترى شخص الربعين والحمامين ودار الوكالة التي ذكرت على زريبة السلطان بجوار الجامع الطيبرسيّ، في سنة سبع وثمانمائة، وهدم ذلك كله وباع أنقاضه، وحفر الأساسات واستخرج ما فيها من الحجر وعمله جيرا، فنال من ذلك ربحا كثيرا، وتتابع الهدم في شاطىء النيل وباع الناس أنقاض الدور، فرغب في شرائها الأمراء والأعيان وطلاب الفوائد من العامة، حتى زال جميع ما هنالك من الدور العظيمة والمناظر الجليلة، وصار الساحل من منشأة المهرانيّ إلى قريب من بولاق كيمانا موحشة، وخرائب مقفرة، كأن لم تكن مغنى صبابات، وموطن أفراح، وملعب أتراب، ومرتع غزلان تفتن النساك هناك، وتعيد الحليم سفيها سنة الله في الذين خلوا من قبل، وإني إذا تذكرت ما صارت إليه أنشد قول عبد الله بن المعتز:

ذكر خارج باب زويلة

سلام على تلك المعاهد والربا ... سلام وداع لا سلام قدوم وصار بهذا العهد ما بين أوّل بولاق من قبليه، إلى أطراف جزيرة الفيل عامرا، من غربيه المفضي إلى النيل، ومن شرقيه الذي ينتهي إلى الخليج، إلّا أنّ النيل قد نشأت فيه جزائر ورمال بعد بها الماء عن البرّ الشرقيّ، وكثر العناء لبعده، وفي كل عام تكثر الرمال ويبعد الماء عن البرّ، ولله عاقبة الأمور. فهذا حال الجهة الغربية من ظواهر القاهرة في ابتداء وضعها، وإلى وقتنا هذا، وبقي من ظواهر القاهرة الجهة القبلية والجهة البحرية، وفيهما أيضا عدّة أخطاط تحتاج إلى شرح وتبيان، والله تعالى أعلم بالصواب. ذكر خارج باب زويلة اعلم أنّ خارج باب زويلة جهتان، جهة تلي الخليج، وجهة تلي الجبل. فأما الجهة التي تلي الخليج، فقد كانت عند وضع القاهرة بساتين كلها، فيما بين القاهرة إلى مصر. وعندي فيما ظهر لي، أنّ هذه الجهة كانت في القديم غامرة بماء النيل، وذلك أنه لا خلاف بين أهل مصر قاطبة أنّ الأراضي التي هي من طين أبليز لا تكون إلّا من أرض ماء النيل، فإنّ أرض مصر تربة رملة سبخة، وما فيها من الطين طرح بعلوها عند زيادة ماء النيل، مما يحمله من البلاد الجنوبية من مسيل الأودية، فلذلك يكون لون الماء عند الزيادة متغيرا، فإذا مكث على الأرض قعد ما كان في الماء من الطين على الأرض، فسماه أهل مصر إبليز، وعليه تزرع الغلال وغيرها، وما لا يشمله ماء النيل من الأرض لا يوجد فيه هذا الطين البتة، وأنت إن عرفت أخبار مصر بتأمّلك ما تضمنه هذا الكتاب، ظهر لك أن موضع جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه كان كروما مشرفة على النيل، وأن النيل انحسر بعد الفتح عما كان تجاه الحصن الذي يقال له قصر الشمع، وعما هو الآن تجاه الجامع، وما زال ينحسر شيئا بعد شيء حتى صار الساحل بمصر من عند سوق المعاريج الآن إلى قريب من السبع سقايات، وجميع الأراضي التي فيها الآن المراغة خارج مصر إلى نحو السبع سقايات، وما يقابل ذلك من برّ الخليج الغربيّ كان غامرا بالماء كما تقدّم، وكان في الموضع الذي تجاه المشهد المعروف بزيد، وتسميه العامة الآن مشهد زين العابدين، بساتين، شرقيها عند المشهد النفيسيّ، وغربيها عند السبع سقايات، منها بساتين عرفت بجنان بني مسكين، وعندها بني كافور الإخشيدي داره على البركة التي تجاه الكبش، وتعرف اليوم ببركة قارون، ومنها بستان يعرف ببستان ابن كيسان، ثم صار صاغة، وهو الآن يعرف ببستان الطواشي، ومنها بستان عرف آخرا بجنان الحارة، وهو من حوض الدمياطي الذي بقرب قنطرة السدّ الآن إلى السبع سقايات، وبقرب السبع سقايات بركة الفيل، ويشرف على بركة الفيل بساتين من دائرها، وإلى وقتنا هذا عليها بستان يعرف بالحبانية، وهم بطن من درما بن عمرو بن عوف بن ثعلبة بن سلامان بن بعل بن عمرو بن الغوث بن طي، فدرما فخذ من طيّ،

والحبانيون بطن من درما، وبستان الحبانية فصل الناس بينه وبين البركة بطريق تسلك فيها المارة، وكان من شرقيّ بركة الفيل أيضا بساتين، منها بستان سيف الإسلام، فيما بين البركة والجبل الذي عليه الآن قلعة الجبل، وموضعه الآن المساكن التي من جملتها درب ابن البابا إلى زقاق حلب، وحوض ابن هنس، وعدّة بساتين أخر إلى باب زويلة. وكذلك شقة القاهرة الغربية كانت أيضا بساتين، فوضع حارة الوزيرية إلى الكافوريّ كان ميدان الإخشيد، وبجانب الميدان بستانه الذي يقال له اليوم الكافوري، وما خرج عن باب الفتوح إلى منية الأصبغ الذي يعرف اليوم بالخندق، كان ذلك كله بساتين على حافة الخليج الشرقية، وقد ذكرت هذه المواضع في هذا الكتاب مبينة، وعند التأمل يظهر أن الخليج الكبير عند ابتداء حفره كان أوّله إمّا عند مدينة عين شمس، أو من بحريها، لأجل أن القطعة التي بجانب هذا الخليج من غربيه، والقطعة التي هي بشرقيه، فيما بين عين شمس وموردة الحلفاء خارج مدينة فسطاط مصر، جميعهما طين إبليز، والطين المذكور لا يكون إلا من حيث يمرّ ماء النيل، فتعين أنّ ماء النيل كان في القديم على هذه الأرض التي بجانبي الخليج، فينتج أن أوّل الخليج كان عند آخر النيل من من الجهة البحرية، وينتهي الطين إلى نحو مدينة عين شمس من الجانب الشرقيّ، ويصير ما بعد الخندق في الجهة البحرية رملا لا طين فيه، وهذا بين لمن تأمله وتدبره، وفي هذه الجهة التي تلي الخليج خارج باب زويلة حارات قد ذكرت عند ذكر الحارات من هذا الكتاب، وبقيت هناك أشياء نحتاج أن نعرّف بها وهي: حوض ابن هنس: وهو حوض ترده الدواب، وينقل إليه الماء من بئر، وبه صارت تلك الخطة تعرف، وهي تلي حارة حلب، ويسلك إليها من جانبه، وهو وقف الأمير سعد الدين مسعود بن الأمير بدر الدين هنس بن عبد الله، أحد الحجاب الخاص في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب في سلخ شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة، وعمل بأعلاه مسجدا مرتفعا وساقية ماء على بئر معين، ومات يوم السبت عاشر شوّال سنة سبع وأربعين وستمائة، ودفن بجوار الحوض، وكان هذا الحوض قد تعطل في عصرنا، فجدّده الأمير تتر أحد الأمراء الكبار في الدولة المؤيدية، في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، ومات هنس أمير جندار السلطان الملك العزيز عثمان في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. مناظر الكبش: هذه المناظر آثارها الآن على جبل يشكر بجوار الجامع الطولونيّ، مشرفة على البركة التي تعرف اليوم ببركة قارون عند الجسر الأعظم، الفاصل بين بركة الفيل وبركة قارون، أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في أعوام بضع وأربعين وستمائة. وكان حينئذ ليس على بركة الفيل بناء، ولا في المواضع التي في برّ الخليج الغربيّ من قنطرة السباع إلى المقس سوى

البساتين، وكانت الأرض التي من صليبة جامع ابن طولون إلى باب زويلة بساتين، وكذلك الأرض التي من قناطر السباع إلى باب مصر بجوار الكبارة ليس فيها إلّا البساتين، وهذه المناظر تشرف على ذلك كله من أعلى جبل يشكر، وترى باب زويلة والقاهرة، وترى باب مصر ومدينة مصر، وترى قلعة الروضة وجزيرة الروضة، وترى بحر النيل العظيم وبرّ الجيزة. فكانت من أجلّ منتزهات مصر، وتأنق في بنائها أو سماها الكبش، فعرفت بذلك إلى اليوم. وما زالت بعد الملك الصالح من المنازل الملوكية، وبها أنزل الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسيّ، لما وصل من بغداد إلى قلعة الجبل وبايعه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بالخلافة، فأقام بها مدّة ثم تحوّل منها إلى قلعة الجبل، وسكن بمناظر الكبش أيضا الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان في أوّل خلافته، وفيها أيضا كانت ملوك حماه من بني أيوب تنزل عند قدومهم إلى الديار المصرية، وأوّل من نزل منهم فيها الملك المنصور لما قدم على الملك الظاهر بيبرس في المحرّم سنة ثلاث وسبعين وستمائة، ومعه ابنه الملك الأفضل نور الدين عليّ، وابنه الملك المظفر تقيّ الدين محمود، فعندما حلّ بالكبش أتاه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالسماط فمدّه بين يديه، ووقف كما يفعل بين يدي الملك الظاهر، فامتنع الملك المنصور من الرضى بقيامه على السماط، وما زال به حتى جلس. ثم وصلت الخلع والمواهب إليه وإلى ولده وخواصه. وفي سنة ثلاث وتسعين وستمائة أنزل بهذه المناظر نحو ثلاثمائة من مماليك الأشرف خليل بن قلاوون، عندما قبض عليهم بعد قتل الأشرف المذكور، ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاوون هدم هذه المناظر المذكورة، في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وبناها بناء آخر، وأجرى الماء إليها وجدّد بها عدّة مواضع، وزاد في سعتها، وأنشأ بها اصطبلا تربط فيه الخيول، وعمل زفاف ابنته على ولد الأمير أرغون نائب السلطنة بديار مصر، بعدما جهزها جهازا عظيما منه: بشخاناه، وداير بيت، وستارات طرّز ذلك بثمانين ألف مثقال ذهب مصريّ، سوى ما فيه من الحرير وأجرة الصناع، وعمل سائر الأواني من ذهب وفضة، فبلغت زنة الأواني المذكورة ما ينيف على عشرة آلاف مثقال من الذهب، وتناهى في هذا الجهاز وبالغ في الإنفاق عليه حتى خرج عن الحدّ في الكثرة، فإنها كانت أوّل بناته، ولما نصب جهازها بالكبش نزل من قلعة الجبل وصعد إلى الكبش، وعاينه ورتبه بنفسه، واهتم في عمل العرس اهتماما ملوكيا، وألزم الأمراء بحضوره فلم يتأخر أحد منهم عن الحضور، ونقط الأمراء الأغاني على مراتبهم، من أربعمائة دينار كل أمير إلى مائتي دينار، سوى الشقق الحرير، واستمرّ الفرح ثلاثة أيام بلياليها، فذكر الناس حينئذ أنه لم يعمل فيما سلف عرس أعظم منه، حتى حصل لكل جوقة من جوق الأغاني اللاتي كنّ فيه خمسمائة دينار مصرية، ومائة وخمسون شقة حرير، وكان عدّة جوق الأغاني التي قسم عليهنّ ثمان جوق من أغاني القاهرة، سوى جوق الأغاني السلطانية وأغاني الأمراء، وعدّتهن عشرون جوقة،

لم يعرف ما حصل لهذه العشرين جوقة من كثرة ما حصل ولما انقضت أيام العرس أنعم السلطان لكل امرأة من نساء الأمراء بتعبية قماش على مقدارها، وخلع على سائر أرباب الوظائف من الأمراء والكتاب وغيرهم، فكان مهما عظيما تجاوز المصروف فيه حدّ الكثرة. وسكن هذه المناظر أيضا الأمير صرغتمش في أيام السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، وعمر الباب الذي هو موجود الآن وبدنتي الحجر اللتين بجانبي باب الكبش بالحدرة، ثم أن الأمير بلبغا العمري المعروف بالخاصكيّ سكنه إلى أن قتل في سنة ثمان وستين وسبعمائة، فسكنه من بعده الأمير استدمر إلى أن قبض عليه الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون وأمر بهدم الكبش فهدم، وأقام خرابا لا ساكن فيه إلى سنة خمس وسبعين وسبعمائة، فحكره الناس وبنوا فيه مساكن وهو على ذلك إلى اليوم. خط درب ابن البابا: هذا الخط يتوصل إليه من تجاه المدرسة البندقدارية بجوار حمام الفارقاني، ويسلك فيه إلى خط واسع يشتمل على عدّة مساكن جليلة، ويتوصل منه إلى الجامع الطولونيّ وقناطر السباع وغير ذلك، وكان هذا الخط بستانا يعرف ببستان أبي الحسين بن مرشد الطائيّ، ثم عرف ببستان تامش، ثم عرف أخيرا ببستان سيف الإسلام طفتكين بن أيوب، وكان يشرف على بركة الفيل، وله دهاليز واسعة عليها جواسق تنظر إلى الجهات الأربع، ويقابله حيث الدرب الآن المدرسة البندقدارية وما في صفها إلى الصليبة بستان، يعرف ببستان الوزير ابن المغربيّ، وفيه حمّام مليحة، ويتصل ببستان ابن المغربيّ بستان عرف أخيرا ببستان شجر الدر، وهو حيث الآن سكن الخلفاء بالقرب من المشهد النفيسيّ، ويتصل ببستان شجر الدر بساتين إلى حيث الموضع المعروف اليوم بالبكارة من مصر، ثم أن بستان سيف الإسلام حكره أمير يعرف بعلم الدين الغتمي، فبنى الناس فيه الدور في الدولة التركية، وصار يعرف الغتمي، وهو الآن يعرف بدرب ابن البابا، وهو الأمير الجليل الكبير جنكلي بن محمد بن البابا بن جنكلي بن خليل بن عبد الله بدر الدين العجليّ، رأس الميمنة وكبير الأمراء الناصرية محمد بن قلاون بعد الأمير جمال الدين نائب الكرك، قدم إلى مصر في أوائل سنة أربع وسبعمائة بعد ما طلبه الملك الأشرف خليل بن قلاوون، ورغبه في الحضور إلى الديار المصرية، وكتب له منشورا باقطاع جيد، وجهزه إليه فلم يتفق حضوره إلا في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان مقامه بالقرب من آمد، فاكرمه وعظمه وأعطاه أمرة، ولم يزل مكرّما معظما، وفي آخر وقته بعد خروج الأمير أرغون النائب من مصر كان السلطان يبعث إليه الذهب مع الأمير بكتمر الساقي وغيره، ويقول له لا تبس الأرض على هذا، ولا تنزله في ديوانك، وكان أوّلا يجلس رأس الميمنة ثاني نائب الكرك، فلما سار نائب الكرك لنيابة طرابلس جلس الأمير جنكلي رأس الميمنة، وزوّج السلطان ابنه إبراهيم بن محمد بن قلاوون بابنة الأمير بدر الدين، وما زال معظما في كل دولة، بحيث أن الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون كتب له عنه الأتابكي الوالدي

البدري، وزادت وجاعته في أيامه إلى أن مات، يوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة، سنة ست وأربعين وسبعمائة. وكان شكلا مليحا حليما، كثير المعروف والجود، عفيفا لا يستخدم مملوكا أمرد البتة، واقتصر من النساء على امرأته التي قدمت معه إلى مصر، ومنها أولاده، وكان يحب العلم وأهله ويطارح بمسائل علمية، ويعرف ربع العبادات، ويجيده ويتكلم على الخلاف فيه، ويميل إلى الشيخ تقيّ الدين أحمد بن تيمية، ويعادي من يعاديه، ويكرم أصحابه ويكتب كلامه، مع كثرة الإحسان إلى الناس بماله وجاهه، وكان ينتسب إلى إبراهيم بن أدهم، وهو من محاسن الدولة التركية رحمه الله. حكر الخازن: هذا المكان فيما بين بركة الفيل وخط الجامع الطولوني، كان من جملة البساتين ثم صار إصطبلا للجوق الذي فيه خيول المماليك السلطانية، فلما تسلطن الملك العادل كتبغا اخرج منه الخيول وعمله ميدانا يشرف على بركة الفيل، في سنة خمس وتسعين وستمائة، ونزل إليه ولعب فيه بالاكرة أيام سلطنته كلها إلى أن خلعه الملك المنصور لاجين، وقام في الملك من بعده، فأهمل أمره وعمر فيه الأمير علم الدين سنجر الخازن وإلى القاهرة بيتا، فعرف من حينئذ بحكر الخازن، وتبعه الناس في البناء هناك، وأنشأوا فيه الدور الجليلة، فصار من أجلّ الأخطاط وأعمرها، وأكثر من يسكن به الأمراء والمماليك. سنجر الخازن: الأمير علم الدين الأشرفيّ، أحد مماليك الملك المنصور قلاوون، وتنقل في أيام ابنه الملك الأشرف خليل، وصار أحد الخزان، فعرف بالخازن. ثم ولي شدّ الدواوين مع الصاحب أمين الدين، وانتقل منها إلى ولاية البهنسا، ثم إلى ولاية القاهرة، وشدّ الجهات. فباشر ذلك بعقل وسياسة وحسن خلق وقلة ظلم ومحبة للستر، وتغافل عن مساويء الناس، وإقالة عثرات ذوي الهيآت مع العصبية والمعرفة وكثرة المال وسعة الحال واقتناء الأملاك الكثيرة، ثم أنه صرف عن ولاية القاهرة بالأمير قدادار في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة، فوجد الناس من عزله بقدادار شدّة، وما زال بالقاهرة إلى أن مات ليلة السبت ثامن جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، فوجد له أربعة عشر ألف أردب غلة عتيقة وأموال كثيرة، وله من الآثار مسجد بناه فوق درب استجدّه بحكر الخازن، وخانقاه بالقرافة، دفن فيها عفا الله عنه. ربع البزادرة: هذا الربع تحت قلعة الجبل بسوق الخيل، عمر بعد سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وكان مكانه لا عمارة فيه، فبنى الأجناد بجواره عدّة مساكن واستجدّوا حكرين من جواره، فامتدّت العمائر إلى تربة شجر الدر حيث كان البستان المعروف بشجر الدر، وهناك الآن سكن الخلفاء، وامتدّت العمائر من تربة شجر الدر إلى المشهد النفيسيّ، ومرّوا من تجاه المشهد بالعمائر إلى أن اتصلت بعمائر مصر وباب القرافة. خط قناطر السباع: كان هذا الخط في أوّل الإسلام يعرف بالحمراء، نزل فيه طائفة

تعرف ببني الأزرق وبني روبيل، ثم دئرت هذه الخطة وبقيت صحراء فيها ديارات وكنائس للنصارى تعرف بكنائس الحمراء، فلما زالت دولة بني أمية ودخل أصحاب بني العباس إلى مصر في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، نزلوا في هذه الخطة وعمروا بها فصارت تتصل بالعسكر، وقد تقدّم خبر العسكر في هذا الكتاب، فلما خرب العسكر وصار هذا المكان بساتين وغيرها إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون البركة الناصرية، وانشأ ميدان المهاري والزريبة والربعين بجوار الجامع الطيبرسيّ على شاطىء النيل؛ بنى الناس في حكر أقبغا واتصلت العمائر من خط السبع سقايات وخط قناطر السباع حتى اتصلت بالقاهرة ومصر والقرافة، وذلك كله من بعد سنة عشرين وسبعمائة. بئر الوطاويط: هذه البئر أنشأها الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات، المعروف بابن خترابه، لينقل منها الماء إلى السبع سقايات التي أنشأها وحبسها لجميع المسلمين، التي كانت بخط الحمراء، وكتب عليها بسم الله الرحم الرحيم، لله الأمر من قبل ومن بعد، وله الشكر وله الحمد، ومنه المن على عبده جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات، وما وفقه له من البناء لهذه البئر وجريانها إلى السبع سقايات، التي أنشأها وحبسها لجميع المسلمين، وحبسه وسبله وقفا مؤبدا لا يحل تغييره ولا العدول بشيء من مائه، ولا ينقل ولا يبطل ولا يساق إلّا إلى حيث مجراه، إلى السقايات المسبلة، فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه، إن الله سميع عليم. وذلك في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وصلى الله على نبيه محمد وآله وسلم، فلما طال الأمر خربت السقايات، وإلى اليوم، يعرف موضعها بخط السبع سقايات، وبنى فوق البئر المذكورة وتولد فيها كثرة من الوطاويط، فعرفت ببئر الوطاويط، ولما أكثر الناس من بناء الأماكن في أيام الناصر محمد بن قلاوون، عمر هذا المكان وعرف إلى اليوم بخط بئر الوطاويط، وهو خط عامر، فهذا ما في جهة الخليج مما خرج عن باب زويلة. وأما جهة الجبل فإنها كانت عند وضع القاهرة صحراء، وأوّل من أعلم أنه عمر خارج باب زويلة من هذه الجهة الصالح طلائع بن رزيك، فإنه أنشأ الجامع الذي يقال له جامع الصالح، ولم يكن بين هذا الجامع وبين هذا الشرف الذي عليه الآن قلعة الجبل بناء البتة، إلّا أن هذا الموضع الآن عمل الناس فيه مقبرة، فيما بين جامع الصالح وبين هذا الشرف من حين بنيت الحارات خارج باب زويلة، فلما عمرت قلعة الجبل عمر الناس بهذه شيئا بعد شيء، وما برح من بنى هناك يجد عند الحفر رمم الأموات، وقد صارت هذه الجهة في الدولة التركية لا سيما بعد سنة ثلاث عشرة وسبعمائة من أعمر الأخطاط، وأنشأ فيها الأمراء الجوامع والدور الملوكية، وتحدّدت هناك عدّة أسواق، وصار الشارع خارج باب زويلة يفصل بين هذه الجهة وبين الجهة التي من حدّ الخليج، وكلتا هاتين الجهتين الآن عامرة، وفي جهة الجبل خط البسطيين، وخط الدرب الأحمر، وخط سوق الغنم، وخط جامع

ذكر خارج باب الفتوح

المارديني، وخط التبانة، وخط باب الوزير، وخط المصنع، وخط سويقة العزي، وخط مدرسة الجابي، وخط الرميلة، وخط القبيبات، وخط باب القرافة. ذكر خارج باب الفتوح اعلم أن خارج باب الفتوح إلى الخندق كان كله بساتين، وتمتدّ البساتين من الخندق بحافتي الخليج إلى عين شمس، فيقابل باب الفتوح من خارجه المنظرة المقدّم ذكرها عند ذكر المناظر التي كانت للخلفاء من هذا الكتاب، ويلي هذه المنظرة بستان كبير عرف بالبستان الجيوشيّ، أوّله من عند زقاق الكحل إلى المطرية، ويقابله في برّ الخليج الغربيّ بستان آخر يتوصل إليه من باب القنطرة، وينتهي إلى الخندق، وقد ذكر خبر هذين البستانين عند ذكر مناظر الخلفاء، وكان بين هذين البستانين بستان الخندق، وكان على حافة الخليج من شرقيه فيما بين زقاق الكحل وباب القنطرة، حيث المواضع التي تعرف اليوم ببركة جناق وبالكداسين إلى قريب من حارة بهاء الدين، حارة تعرف بحارة البيازرة، اختطت في نحو من سنة عشرين وخمسمائة، وكانت مناظرها تشرف على الخليج، وبجوارها بستان مختار الصقلبيّ، وعرف بعد ذلك ببستان ابن صيرم الذي حكر وبنيت فيه المساكن الكثيرة بعد ذلك، وكان أيضا خارج باب الفتوح حارة الحسينية، وهم الريحانية إحدى طوائف عسكر الخلفاء الفاطميين، وهذه الحارة اختطت بعد الشدّة العظمى التي كانت بمصر في خلافة المستنصر، فصارت على يمين من خرج من باب الفتوح إلى صحراء الهليلج، ويقابلها حارة أخرى تنتهي إلى بركة الأرمن التي عند الخندق، وتعرف اليوم ببركة قراجا، وقد ذكرت هذه الحارات عند ذكر حارات القاهرة وظواهرها من هذا الكتاب. ذكر الخندق هذا الموضع قرية خارج باب الفتوح كانت تعرف أوّلا بمنية الأصبغ، ثم لما اختط القائد جوهر القاهرة أمر المغاربة أن يحفروا خندقا من جهة الشام، من الجبل إلى الإبليز، عرضه عشرة أذرع في عمق مثلها، فبديء به يوم السبت حادي عشري شعبان سنة ستين وثلاثمائة، وفرغ في أيام يسيرة، وحفر خندقا آخر قدّامه وعمقه، ونصب عليه باب يدخل منه، وهو الباب الذي كان على ميدان البستان الذي للأخشيد، وقصد أن يقاتل القرامطة من وراء هذا الخندق، فقيل له من حينئذ الخندق، وخندق العبيد، والحفرة، ثم صار بستانا جليلا من جملة البساتين السلطانية في أيام الخلفاء الفاطميين، وأدركناها من منتزهات القاهرة البهجة إلى أن خربت. قال ابن عبد الحكم: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أقطع ابن سندر منية الأصبغ، فحاز لنفسه منها ألف فدّان، كما حدّثنا يحيى بن خالد عن الليث بن سعد

رضي الله عنه، ولم يبلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقطع أحدا من الناس شيئا من أرض مصر، إلّا ابن سندر، فإنه أقطعه منية الأصبغ، فلم تزل له حتى مات، فاشتراها الأصبغ بن عبد العزيز من ورثته، فليس بمصر قطيعة أقدم منها ولا أفضل، وكان سبب إقطاع عمر رضي الله عنه ما أقطعه من ذلك كما حدّثنا عبد الملك بن مسلمة عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيبة عن أبيه عن جدّه، أنه كان لزنباع بن روح الجذاميّ غلام يقال له سندر، فوجده يقبل جارية له، فجبه وجدع أنفه وأذنه، فأتى سندر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى زنباع فقال: «لا تحملوهم من العمل ما لا يطيقون، وأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، فإن رضيتم فامسكوا، وإن كرهتم فبيعوا ولا تعذبوا خلق الله، ومن مثّل به أو أحرق بالنار فهو حرّ، وهو مولى الله ورسوله، فأعتق سندر فقال: أوص بي يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوصي بك كل مسلم» فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سندر أبا بكر رضي الله عنه فقال: احفظ فيّ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعاله أبو بكر رضي الله عنه حتى توفي. ثم أتى عمر رضي الله عنه فقال: احفظ في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: نعم إن رضيت أن تقيم عندي أجريت عليك ما كان يجرى عليك أبو بكر رضي الله عنه، وإلا فانظر أيّ موضع أكتب لك. فقال سندر: مصر، لأنها أرض ريف، فكتب له إلى عمرو بن العاص: احفظ فيه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدم إلى عمرو رضي الله عنه، أقطع له أرضا واسعة ودارا، فجعل سندر يعيش فيها، فلما مات قبضت في مال الله تعالى. قال عمرو بن شعيب: ثم اقطعها عبد العزيز بن مروان الأصبغ بعد، فهي من خير أموالهم. قال: ويقال سندر وابن سندر، وقال ابن يونس مسروح بن سندر الخصيّ مولى زنباع بن روح بن سلامة الجذاميّ، يكنّى أبا الأسود، له صحبة قدم مصر بعد الفتح بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالوصاة، فأقطع منية الأصبغ بن عبد العزيز. روى عنه أهل مصر حديثين، روى عنه مزيد بن عبد الله البرنيّ، وربيعة بن لقيط التجيبيّ، ويقال سندر الخصيّ، وابن سندر أثبت، توفي بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان. ويقال كان مولاه وجده يقبّل جارية له فجبه وجدع أنفه وأذنيه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا ذلك إليه، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زنباع فقال: لا تحملوهم يعني العبيد، ما لا يطيقون، وأطعموهم مما تأكلون. فذكر الحديث بطوله، وذكر عن عثمان بن سويد بن سندر، أنه أدرك مسروح بن سندر الذي جدعه زنباع بن روح، وكان جدّه لأمه، فقال: كان ربما تغدّى معي بموضع من قرية عثمان واسمها سمسم، وكان لابن سندر إلى جانبها قرية يقال لها قلون، قطيعة، وكان له مال كثير من رقيق وغير ذلك، وكان ذا دهاء منكرا جسيما، وعمر حتى أدرك زمان عبد الملك بن مروان، وكان لروح بن سلامة أبي زنباع، فورثه أهل التعدد بروح يوم مات، وقال القضاعيّ: مسروح بن سندر الخصيّ، ويكنى أبا الأسود، له صحبة، ويقال له سندر، ودخل مصر بعد الفتح سنة اثنتين وعشرين.

وقال الكنديّ في كتاب الموالي، قال: أقبل عمرو بن العاص رضي الله عنه يوما يسير وابن سندر معه، فكان ابن سندر ونفر معه يسيرون بين يدي عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأثاروا الغبار، فجعل عمرو عمامته على طرف أنفه ثم قال: اتقوا الغبار فإنه أوشك شيء دخولا وأبعده خروجا، وإذا وقع على الرثة صار نسمة. فقال بعضهم لأولئك النفر تنحوا، ففعلوا إلّا ابن سندر، فقيل له ألا تتنحى يا ابن سندر؟ فقال عمرو: دعوه فإن غبار الخصي لا يضرّ، فسمعها ابن سندر فغضب وقال: أما والله لو كنت من المؤمنين ما آذيتني. فقال عمرو: يغفر الله لك، أنا بحمد الله من المؤمنين. فقال ابن سندر: لقد علمت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصي بي فقال: أوصي بك كل مؤمن. وقال ابن يونس: اصبغ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم يكنى أبا ريان، حكى عنه أبو حبرة عبد الله بن عباد المغافريّ، وعون بن عبد الله وغيره، توفي ليلة الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين، قبل أبيه. وقال أبو الفجر عليّ بن الحسين الأصبهانيّ في كتاب الأغاني الكبير عن الرياشيّ أنه قال عن سكينة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، أن أبا عذرتها عبد الله بن الحسين بن عليّ، ثم خلفه عليها العثماني، ثم مصعب بن الزبير، ثم الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان. قال: وكان يتولى مصر، فكتبت إليه سكينة أنّ مصر أرض وخمة، فبنى لها مدينة تسمى بمدينة الأصبغ، وبلغ عبد الملك تزوّجه أباها، فنفس بها عليه وكتب إليه: اختصر مصرا وسكينة، فبعث إليه بطلاقها ولم يدخل بها، ومتعها بعشرين ألف دينار. قلت في هذا الخبر أوهام، منها أن الأصبغ لم يل مصر، وإنما كان مع أبيه عبد العزيز بن مروان، ومنها أنّ الذي بناه الأصبغ لسكينة، منية الأصبغ هذه وليست مدينة، ومنها أن الأصبغ لم يطلّق سكينة، وإنما مات عنها قبل أن يدخل عليها. وقال ابن زولاق في كتاب إتمام كتاب الكنديّ في أخبار أمراء مصر: وفي شوّال، يعني من سنة ستين وثلاثمائة كثر الأرجاف بوصول القرامطة إلى الشام، ورئيسهم الحسن بن محمد الأعسم، وفي هذا الوقت ورد الخبر بقتل جعفر بن فلاح، قتله القرامطة بدمشق، ولما قتل ملكت القرامطة دمشق وصاروا إلى الرملة، فانحاز معاذ بن حيان إلى يافا متحصنا بها، وفي هذا الوقت تأهب جوهر القائد لقتال القرامطة، وحفر خندقا وعمل عليه بابا، ونصب عليه بابي الحديد اللذين كانا على ميدان الإخشيد، وبنى القنطرة على الخليج، وحفر خندق السري بن الحكم وفرّق السلاح على رجال المغاربة والمصريين، ووكل بأبي الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات خادما يبيت معه في داره ويركب معه حيث كان، وأنفذ إلى ناحية الحجاز فتعرّف خبر القرامطة، وفي ذي الحجة كبس القرامط القلزم وأخذوا واليها، ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وفي المحرّم بلغت القرامطة عين شمس، فاستعدّ جوهر للقتال لشعر بقين من صفر، وغلق أبواب الطابية وضبط الداخل والخارج، وأمر الناس بالخروج إليه وأن يخرج الأشراف كلهم، فخرج إليه أبو جعفر مسلم

وغيره بالمضارب، وفي مستهلّ ربيع الأول التحم القتال مع القرامطة على باب القاهرة، وكان يوم جمعة، فقتل من الفريقين جماعة وأسر جماعة وأصبحوا يوم السبت متكافئين، ثم غدوا يوم الأحد للقتال وسار الحسن الأعسم بجميع عساكره ومشى للقتال على الخندق والباب مغلق، فلما زالت الشمس فتح جوهر الباب واقتتلوا قتالا شديدا، وقتل خلق كثير، ثم ولى الأعسم منهزما ولم يتبعه القائد جوهر ونهب سواد الأعسم بالجب، ووجدت صناديقه وكتبه، وانصرف في الليل على طريق القلزم، ونهب بنو عقيل وبنو طيّ كثيرا من سواده. وهو مشغول بالقتال، وكان جميع ما جرى على القرمطي بتدبير جوهر وجوائز انفذها، ولو أراد أخذ الأعسم في انهزامه لأخذه، ولكن الليل حجز فكره جوهر اتباعه خوفا من الحيلة والمكيدة، وحضر القتال خلق من رعية مصر وأمر جوهر بالنداء في المدينة، من جاء بالقرمطيّ أو برأسه فله ثلاثمائة ألف درهم، وخمسون خلعة، وخمسون سرجا محلى على دوابها، وثلاث جوائز، ومدح بعضهم القائد جوهرا بأبيات منها: كأنّ طراز النصر فوق جبينه ... يلوح وأرواح الورى بيمينه ولم يتفق على القرامطة منذ ابتداء أمرهم كسرة أقبح من هذه الكسرة، ومنها فارقهم من كان قد اجتمع إليهم من الكافورية والإخشيدية، فقبض جوهر على نحو الألف منهم وسجنهم مقيدين. وقال ابن زولاق في كتاب سيرة الإمام المعز لدين الله، ومن خطّه نقلت، وفي هذا الشهر يعني المحرّم، سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، تبسطت المغاربة في نواحي القرافة والمغاير وما قابرها، فنزلوا في الدور وأخرجوا الناس من دورهم، ونقلوا السكان وشرعوا في السكنى في المدينة، وكان المعز قد أمرهم أن يسكنوا أطراف المدينة، فخرج الناس واستغاثوا بالمعز، فأمرهم أن يسكنوا نواحي عين شمس، وركب المعز بنفسه حتى شاهد المواضع التي ينزلون فيها، وأمر لهم بمال يبنون به، وهو الموضع الذي يعرف اليوم بالخندق والحفرة وخندق العبيد، وجعل لهم واليا وقاضيا، ثم سكن أكثرهم بالمدينة مخالطين لأهل مصر، ولم يكن القائد جوهر يبيحهم سكنى المدينة ولا المبيت بها، وحظر ذلك عليهم، وكان مناديه ينادي كل عشية لا يبيتن أحد في المدينة من المغاربة. وقال ياقوت: منية الأصبغ تنسب إلى الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، ولا يعرف اليوم بمصر موضع يعرف بهذا الاسم، وزعموا أنها القرية المعروفة بالخندق قريبا من شرقيّ القاهرة. وقال ابن عبد الظاهر: الخندق هو منية الأصبغ، وهو الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان. قال مؤلفه رحمه الله: وقد وهم ابن عبد الظاهر فجعل أن الخندق احتفره العزيز بالله، وإنما احتفره جوهر كما تقدّم، وأدركت الخندق قرية لطيفة يبرز الناس من القاهرة إليها ليتنزهوا بها في أيام النيل والربيع، ويسكنها طائفة كبيرة، وفيها بساتين عامرة بالنخيل

ذكر خارج باب النصر

الفخر والثمار، وبها سوق وجامع تقام به الجمعة، وعليه قطعة أرض من أرض الخندق يتولاها خطيبة، فلما كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثنمانمائة، خربت قرية الخندق ورحل أهلها منها ونقلت الخطبة من جامعة إلى جامع بالحسينية، وبقى معطلا من ذكر الله تعالى وإقامة الصلاة مدّة، ثم في شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، هدمه الأمير طوغان الدوادار وأخذ عمده وخشبه، فلم يبق إلا بقية أطلاله، وكانت قرية الخندق كأنها م حسنها ضرّة لكوم الريش، وكانت تجاهها من شرقيها فخربتا جميعا. صحراء الإهليلج: هذه البقعة شرقيّ الخندق في الرمل، وإليها كانت تنتهي عمارة الحسينية من جهة باب الفتوح، وكان بها شجر الإهليلج الهنديّ، فعرفت بذلك، وأظن أن هذا الإهليلج كان من جملة بستان ريدان الذي يعرف اليوم موضعه بالريدانية. ذكر خارج باب النصر أما خارج القاهرة من جهة باب النصر، فإنه عند ما وضع القائد جوهر القاهرة، كان فضاء ليس فيه سوى مصلّى العيد الذي بناه جوهر، وهذا المصلّى اليوم يصلّى على من مات فيه، وما برح ما بين هذا المصلى وبستان ريدان الذي يعرف اليوم بالريدانية لا عمارة فيه، إلى أن مات أمير الجيوش بدر الجماليّ في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، فدفن خارج باب النصر بحريّ المصلى، وبني على قبره تربة جليلة، وهي باقية إلى اليوم هناك، فتتابع بناء الترب من حينئذ خارج باب النصر، فيما بين التربة الجيوشية والريدانية، وقبر الناس موتاهم هناك لا سيما أهل الحارات التي عرفت خارج باب الفتوح بالحسينية، وهي الريدانية، وحارة البزادرة وغيرها، ولم تزل هذه الجهة مقبرة إلى ما بعد السبعمائة بمدّة، فرغب الأمير سيف الدين الحاج آل ملك في البناء هناك، وأنشأ الجامع المعروف به في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وعمر دارا وحمّاما، فاقتدى الناس به وعمروا هناك، وكان قد بنى تجاه المصلى قبل ذلك الأمير سيف الدين كهرداس المنصوري دارا تعرف اليوم بدار الحاجب، فسكن في هذه الجهة أمراء الدولة وعملوا فيما بين الريدانية والخندق مناخات الجمال، وهي باقية هناك، فصارت هذه الجهة في غاية العمارة، وفيها من باب النصر إلى الريدانية سبعة أسواق جليلة، يشتمل كل سوق منها على عدّة حوانيت كثيرة، فمنها: سوق اللفت، وهو تجاه باب بيت الحاجب الآن، عند البئر، كان فيه من جانبيه حوانيت يباع فيها اللفت، ومن هذا السوق يشتري أهل القاهرة هذا الصنف والكرنب، وتعرف هذه البئر إلى اليوم ببئر اللفت، ويليها سويقة زاوية الخدّام، وأدركت بهذه السويقة بقية صالحة، ويلي ذلك سوق جامع آل ملك، وكان سوقا عامرا فيه غالب ما يحتاج إليه من المآكل والأدوية والفواكه والخضر وغيرها، وأدركته عامرا. ويليه سويقة السنابطة، عرفت بقوم من أهل ناحية سنباط سكنوا بها، وكانت سوقا كبيرا، وأدركته عامرا. ويليها سويقة أبي ظهير، وأدركتها عامرة، ويليها سويقة

الريدانية

العرب، وكانت تتصل بالريدانية، وتشتمل على حوانيت كثيرة جدّا أدركتها عامرة، وليس فيها سكان، وكانت كلها من لبن معقود عقودا، وكان بأوّل سويقة العرب هذه فرن أدركته عامرا آهلا، بلغني أنه كان يخبز فيه أيام عمارة هذا السوق وما حوله كل يوم نحو السبعة آلاف رغيف، وكان من وراء هذا السوق أحواش فيها قباب معقودة من لبن، أدركتها قائمة وليس فيها سكان، وكان من جملة هذه الأحواش حوش فيه أربعمائة قبة يسكن فيها البزادرة والمكارية، أجرة كل قبة در همان في كل شهر، فيتحصل من هذا الحوش في كل شهر مبلغ ثمانمائة درهم فضة، وكان يعرف بحوش الأحمديّ. فلما كان الغلاء في زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين سنة سبع وسبعين وسبعمائة، خرب كثير مما كان بالقرب من الريدانية، واختلّت أحوال هذه الجهة إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، فتلاشت وهدمت دورها وبيعت أنقاضها، وفيها بقية آئلة إلى الدثور. الريدانية كانت بستانا لريدان الصقلبيّ، أحد خدّام العزيز بالله نزار بن المعز، كان يحمل المظلة على رأس الخليفة، واختص بالحاكم، ثم قتله في يوم الثلاثاء لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وريدان إن كان اسما عربيا، فإنه من قولهم ريح ريدة، ورادة، وريدانة، أي لينة الهبوب، وقيل ريح ريدة كثيرة الهبوب. ذكر الخلجان التي بظاهر القاهرة اعلم أن الخليج جمعه خلجان، وهو نهر صغير يختلج من نهر كبير أو من بحر، وأصل الخلج الانتزاع. خلجت الشيء من الشيء إذا انتزعته، وبأرض مصر عدّة خلجان، منها بظاهر القاهرة خليج مصر، وخليج فم الخور، وخليج الذكر، والخليج الناصريّ، وخليج قنطرة الفخر، وسترى من أخبارها ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. ذكر خليج مصر هذا الخليج بظاهر مدينة فسطاط مصر، ويمرّ من غربيّ القاهرة، وهو خليج قديم احتفره بعض قدماء ملوك مصر، بسبب هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهما، حين أسكنها وابنها إسماعيل خليل الله إبراهيم عليهما الصلاة والسلام بمكة، ثم تمادت الدهور والأعوام فجدّد حفره ثانيا بعض من ملك مصر من ملوك الروم بعد الإسكندر، فلما جاء الله سبحانه بالإسلام، وله الحمد والمنة، وفتحت أرض مصر على يد عمرو بن العاص، جدّد حفره بإشارة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في عام الرمادة، وكان يصب في بحر القلزم فتسير فيه السفن إلى البحر الملح، وتمرّ في البحر إلى الحجاز واليمن والهند، ولم يزل على ذلك إلى أن قام محمد بن عبد الله بن

حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب بالمدينة النبوية، والخليفة حينئذ بالعراق أبو جعفر عبد الله بن محمد المنصور، فكتب إلى عامله على مصر يأمره بطمّ خليج القلزم حتى لا تحمل الميرة من مصر إلى المدينة، فطمّه وانقطع من حينئذ اتصاله ببحر القلزم وصار على ما هو عليه الآن، وكان هذا الخليج أوّلا يعرف بخليج مصر، فلما أنشأ جوهر القائد القاهرة بجانب هذا الخليج من شرقيه، صار يعرف بخليج القاهرة، وكان يقال له أيضا خليج أمير المؤمنين، يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأنه الذي أشار بتجديد حفره، والآن تسميه العامة بالخليج الحاكميّ، وتزعم أن الحاكم بأمر الله أبا عليّ منصورا احتفره، وليس هذا بصحيح. فقد كان هذا الخليج قبل الحاكم بمدد متطاولة، ومن العامة من يسميه خليج اللؤلؤة أيضا. وسأقص عليك من أخبار هذا الخليج ما وقفت عليه من الأنباء. قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في أخبار طيطوس بن ماليا بن كلكن بن خربتا بن ماليق بن تدراس بن صابن مرقونس بن صابن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح، وجلس على سرير الملك بعد أبيه ماليا، وكان جبارا جريئا شديد البأس مهابا، فدخل عليه الأشراف وهنوه ودعوا له، فأمرهم بالإقبال على مصالحهم وما يعنيهم، ووعدهم بالإحسان، والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم عليه السلام، وأن الفراعنة سبعة هو أوّلهم، وأنه استخف بأمر الهياكل والكهنة، وكان من خبر إبراهيم عليه السلام معه، أن إبراهيم لما فارق قومه أشفق من المقام بالشام، لئلا يتبعه قومه ويردّوه إلى النمرود، لأنه كان من أهل كونا من سواد العراق، فخرج إلى مصر ومعه سارّة امرأته وترك لوطا بالشام. وسار إلى مصر، وكانت سارّة أحسن نساء وقتها، ويقال أنّ يوسف عليه السلام ورث جزأ من جمالها، فلما سار إلى مصر، رأى الحرس المقيمون على أبواب المدينة سارة، فعجبوا من حسنها، ورفعوا خبرها إلى طيطوس الملك وقالوا: دخل إلى البلد رجل من أهل الشرق معه امرأة لم ير أحسن منها ولا أجمل. فوجّه الملك إلى وزيره فأحضر إبراهيم صلوات الله عليه وسأله عن بلده، فأخبره. وقال: ما هذه المرأة منك؟ فقال أختي. فعرّف الملك بذلك فقال: مره أن يجئني بالمرأة حتى أراها. فعرّفه ذلك، فامتغص منه ولم تمكنه مخالفته، وعلم أن الله تعالى لا يسوؤه في أهله، فقال لسارة: قومي إلى الملك، فإنه قد طلبك مني. قالت: وما يصنع بي الملك وما رآني قبل قال: أرجو أن يكون لخير. فقامت معه حتى أتوا قصر الملك، فأدخلت عليه، فنظر منها منظرا راعه وفتنته، فأمر بإخراج إبراهيم عليه السلام فأخرج، وندم على قوله إنها أخته، وإنما أراد أنها أخته في الدين، ووقع في قلب إبراهيم عليه السلام ما يقع في قلب الرجل على أهله، وتمنى أنه لم يدخل مصر فقال: اللهم لا تفضح نبيك في أهله. فراودها

الملك عن نفسها فامتنعت عليه، فذهب ليمدّ يده إليها فقالت: إنك إن وضعت يدك عليّ أهلكت نفسك، لأنّ لي ربا يمنعني منك. فلم يلتفت إلى قولها ومدّ يده إليها، فجفت يده وبقي حائرا. فقال لها: أزيلي عني ما قد أصابني. فقالت: على أن لا تعاود مثل ما أتيت. قال: نعم. فدعت الله سبحانه وتعالى فزال عنه ورجعت يده إلى حالها. فلما وثق بالصحة راودها ومناها ووعدها بالإحسان، فامتنعت وقالت: قد عرفت ما جرى. ثم مدّ يده إليها فجفت وضربت عليه أعضاؤه وعصبه، فاستغاث بها وأقسم بالآلهة أنها إن أزالت عنه ذلك فإنه لا يعاودها. فسألت الله تعالى، فزال عنه ذلك ورجع إلى حاله فقال: إنّ لك لربا عظيما لا يضيعك، فأعظم قدرها وسألها عن إبراهيم فقالت: هو قريبي وزوجي. قال: فإنه قد ذكر أنك أخته. قالت: صدق، أنا أخته في الدين، وكل من كان على ديننا فهو أخ لنا. قال: نعم الدين دينكم. ووجه إلى ابنته جوريا، وكانت من الكمال والعقل بمكان كبير، فألقى الله تعالى محبة سارة في قلبها، فكانت تعظمها وأضافتها أحسن ضيافة، ووهبت لها جوهرا ومالا. فأتت به إبراهيم عليه السلام فقال لها: ردّيه فلا حاجة لنا به. فردّته، وذكرت ذلك جوريا لأبيها. فعجب منهما وقال: هذا كريم من أهل بيت الطهارة، فتحيلي في برّها بكل حيلة، فوهبت لها جارية قبطية من أحسن الجواري يقال لها آجر، وهي هاجر أم إسماعيل عليه السلام، وجعلت لها سلالا من الجلود، وجعلت فيها زاد وحلوى وقالت: يكون هذا الزاد معك، وجعلت تحت الحلوى جوهرا نفيسا وحليا مكللا. فقالت سارة: أشاور صاحبي. فأتت إبراهيم عليه السلام واستأذنته فقال: إذا كان مأكولا فخذيه. فقبلته منها. وخرج إبراهيم، فلما مضى وأمعنوا في السير، أخرجت سارة بعض تلك السلال فأصابت الجوهر والحلي، فعرّفت إبراهيم عليه السلام ذلك، فباع بعضه وحفر من ثمنه البئر التي جعلها للسبيل، وفرّق بعضه في وجوه البرّ، وكان يضيف كل من مرّ به، وعاش طيطوس إلى أو وجهت هاجر من مكة تعرّفه أنها بمكان جدب وتستغيثه، فأمر بحفر نهر في شرقيّ مصر بسفح الجبل حتى ينتهي إلى مرقى السفن في البحر الملح، فكان يحمل إليها الحنطة وأصناف الغلات، فتصل إلى جدّة وتحمل من هناك على المطايا، فأحيا بلد الحجاز مدّة، ويقال إنما حلّيت الكعبة في ذلك العصر مما أهداه ملك مصر، وقيل أنه لكثرة ما كان يحمله طوطيس إلى الحجاز سمته العرب وجرهم الصادوق، ويقال أنه سأل إبراهيم عليه السلام أن يبارك له في بلده فدعا بالبركة لمصر، وعرّفه أن ولده سيملكها ويصير أمرها إليهم قرنا بعد قرن. وطوطيس أوّل فرعون كان بمصر، وذلك أنه أكثر من القتل حتى قتل قراباته وأهل بيته وبني عمه وخدمه ونساءه، وكثيرا من الكهنة والحكماء، وكان حريصا على الولد فلم يرزق

ولدا غير ابنته جوريا، أو جورياق، وكانت حكيمة عاقلة تأخذ على يده كثيرا وتمنعه من سفك الدماء، فأبغضته ابنته وأبغضه جميع الخاصة والعامة، فلما رأت أمره يزيد خافت على ذهاب ملكهم فسمته وهلك، وكان ملكه سبعين سنة، واختلفوا فيمن يملك بعده، وأرادوا أن يقيموا واحدا من ولد اتريب، فقال بعض الوزراء ودعا لجورياق، فتمّ لها الأمر وملكت. فهذا كان أوّل أمر هذا الخليج. ثم حفره مرّة ثانية أدريان قيصر، أحد ملوك الروم، ومن الناس من يسميه أندرويانوس، ومنهم من يقول هوريانوس، قال في تاريخ مدينة رومة، وولي الملك أدريان قيصر أحد ملوك الروم، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة، وهو الذي درس اليهود مرّة ثانية إذ كانوا راموا النفاق عليه، وهو الذي جدّد مدينة يروشالم، يعني مدينة القدس، وأمر بتبديل اسمها وأن تسمى إيليا. وقال علماء أهل الكتاب عن أدريان هذا: وغزا القدس وأخربه في الثانية من ملكه، وكان ملكه في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة من سني الإسكندر، وقتل عامة أهل القدس، وبنى على باب مدينة القدس منارا وكتب عليه: هذه مدينة إيليا، ويسمى موضع هذا العمود الآن محراب داود. ثم سار من القدس إلى باب فحارب ملكها وهزمه وعاد إلى مصر، فحفر خليجا من النيل إلى بحر القلزم، وسارت فيه السفن وبقي رسمه عند الفتح الإسلاميّ، فحفره عمرو بن العاص، وأصاب أهل مصر منه شدائد وألزمهم بعبادة الأصنام، ثم عاد إلى بلاده بممالك الروم فابتلى بمرض أعيى الأطباء، فخرج يسير في البلاد يبتغي من يداويه، فمرّ على بيت المقدس وكان خرابا ليس فيه غير كنيسة للنصارى، فأمر ببناء المدينة وحصنها وأعاد إليها اليهود، فأقاموا بها وملّكوا عليهم رجلا منهم. فبلغ ذلك أدريان قيصر فبعث إليهم جيشا لم يزل يحاصرهم حتى مات اكثرهم جوعا وعطشا وأخذها عنوة، فقتل من اليهود ما لا يحصى كثرة، وأخرب المدينة حتى صارت تلالا عامرة فيها البتة، وتتبع اليهود يريد أن لا يدع منهم على وجه الأرض أحدا، ثم أمر طائفة من اليونانيين فتحوّلوا إلى مدينة القدس وسكنوا فيها، فكان بين خراب القدس الخراب الثاني على يد طيطوس وبين هذا الخراب ثلاث وخمسون سنة، فعمرت القدس باليونان، ولم يزل قيصر هذا ملكا حتى مات، فهذا خبر حفر هذا الخليج في المرّة الثانية، فلما جاء الإسلام جدّد عمرو بن العاص حفره. قال ابن عبد الحكم ذكر حفر خليج أمير المؤمنين رضي الله عنه: حدّثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال: إنّ الناس بالمدينة أصابهم جهد شديد في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة الرمادة، فكتب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وهو بمصر، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى العاصي ابن العاصي سلام. أما بعد: فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك، أن أهلك أنا ومن معي، فيا غوثاه

ثم يا غوثاه يردّد ذلك. فكتب إليه عمرو: من عبد الله عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين، أما بعد: فيا لبيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بعير أوّلها عندك وآخرها عندي، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. فبعث إليه بعير عظيمة، فكان أوّلها بالمدينة وآخرها بمصر يتبع بعضها بعضا. فلما قدمت على عمر رضي الله عنه، وسّع بها على الناس، ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بعيرا بما عليه من الطعام، وبعث عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام وسعد بن أبي وقاص يقسّمونها على الناس، فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيرا بما عليه من الطعام، ليأكلوا الطعام، ويأتدموا بلحمه، ويحتذوا بجلده، وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام فيما أرادوا من لحاف أو غيره. فوسّع الله بذلك على الناس، فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه، حمد الله وكتب إلى عمرو بن العاص أن يقدم عليه هو وجماعة من أهل مصر معه، فقدموا عليه. فقال عمر: يا عمرو، إنّ الله قد فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرة الخير والطعام، وقد ألقى في روعي لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين والتوسعة عليهم حين فتح الله عليهم مصر، وجعلها قوّة لهم ولجميع المسلمين، أن أحفر خليجا من نيلها حتى يسيل في البحر، فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله الطهر يبعد، ولا نبلغ به ما نريد، فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم، فانطلق عمرو فأخبر من كان معه من أهل مصر، فثقل ذلك عليهم وقالوا: نتخوف أن يدخل من هذا ضرر على مصر، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له: إنّ هذا أمر لا يعتدل ولا يكون ولا نجد إليه سبيلا. فرجع عمرو بذلك إلى عمر فضحك عمر رضي الله عنه حين رآه وقال: والذي نفسي بيده لكأني أنظر إليك يا عمرو وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرنا به من حفر الخليج، فثقل ذلك عليهم وقالوا يدخل من هذا ضرر على أهل مصر، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له، إنّ هذا أمر لا يعتدل ولا يكون، ولا نجد إليه سبيلا. فعجب عمرو من قول عمرو قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، لقد كان الأمر على ما ذكرت. فقال له عمر رضي الله عنه: انطلق بعزيمة مني حتى تجدّ في ذلك، ولا يأتي عليك الحول حتى تفرغ منه إن شاء الله تعالى. فانصرف عمرو وجمع لذلك من الفعلة ما بلغ منه ما أراد، ثم احتفر الخليج في حاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى القلزم، فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة، فنفع الله بذلك أهل الحرمين، وسمي خليج أمير المؤمنين، ثم لم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه بعد عمر بن عبد العزيز، ثم ضيعه الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرمل فانقطع، فصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية بطحاء القلزم.

قال: ويقال إنّ عمر رضي الله عنه قال لعمرو حين قدم عليه: يا عمرو إنّ العرب قد تشاءمت بي وكادت أن تغلب علي رحلي، وقد عرفت الذي أصابها، وليس جند من الأجناد أرجى عندي أن يغيث الله بهم أهل الحجاز من جندك، فإن استطعت أن تحتال لهم حيلة حتى يغيثهم الله تعالى. فقال عمرو: ما شئت يا أمير المؤمنين، قد عرفت أنه كانت تأتينا سفن فيها تجار من أهل مصر قبل الإسلام، فلما فتحنا مصر انقطع ذلك الخليج واستدّ وتركه التجار، فإن شئت أن نحفره فننشيء فيه سفنا يحمل فيها الطعام إلى الحجاز فعلته. فقال عمر رضي الله عنه: نعم فافعل. فلما خرج عمرو من عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكر ذلك لرؤساء أهل أرضه من قبط مصر فقالوا له: ماذا جئت به، أصلح الله الأمير، تريد أن تخرج طعام أرضك وخصبها إلى الحجاز وتخرب هذه، فإن استطعت فاستقل من ذلك. فلما ودّع عمر رضي الله عنه قال له: يا عمرو انظر إلى ذلك الخليج ولا تنسين حفره. فقال له: يا أمير المؤمنين إنه قد انسدّ، وتدخل فيه نفقات عظيمة. فقال له: أمّا والذي نفسي بيده إني لأظنك حين خرجت من عندي حدّثت بذلك أهل أرضك فعظموه عليك وكرهوا ذلك، أعزم عليك إلّا ما حفرته وجعلت فيه سفنا. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إنه متى ما يجد أهل الحجاز طعام مصر وخصبها مع صحة الحجاز لا يخفوا إلى الجهاد. قال: فإني سأجعل من ذلك أمرا، لا يحمل في هذا البحر إلّا رزق أهل المدينة وأهل مكة. فحفره عمرو وعالجه وجعل فيه السفن. قال: ويقال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص: إلى العاصي ابن العاصي، فإنك لعمري لا تبالي إذا سمنت أنت ومن معك أن أعجف أنا ومن معي، فيا غوثاه ويا غوثاه. فكتب إليه عمرو: أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك، أتتك عير أوّلها عندك وآخرها عندي، مع أني أرجو أن أجد السبيل إلى أن أحمل إليك في البحر، ثم إن عمرا ندم على كتابه في الحمل إلى المدينة في البحر. وقال: إن أمكنت عمر من هذا خرّب مصر ونقلها إلى المدينة. فكتب إليه: إني نظرت في أمر البحر فإذا هو عسر ولا يلتأم ولا يستطاع. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: إلى العاصي ابن العاصي، قد بلغني كتابك، تعتلّ في الذي كنت كتبت إليّ به من أمر البحر، وأيم الله لتفعلنّ أو لأقلعن بأذنك ولأبعثن من يفعل ذلك. فعرف عمرو أنه الجدّ من عمر رضي الله عنه، ففعل. فبعث إليه عمر رضي الله عنه أن لا ندع بمصر شيئا من طعامها وكسوتها وبصلها وعدسها وخلها إلّا بعثت إلينا منه. قال: ويقال إن الذي دل عمرو بن العاص على الخليج رجل من القبط، فقال لعمرو: أرأيت إن دللتك على مكان تجري فيه السفن حتى تنتهي إلى مكة والمدينة، أتضع عني الجزية وعن أهل بيتي؟ فقال: نعم. فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فكتب إليه أن أفعل، فلما قدمت السفن خرج عمر رضي الله عنه حاجا أو معتمرا فقال للناس:

سيروا بنا ننظر إلى السفن التي سيرها الله تعالى إلينا من أرض فرعون حتى أتتنا. فأتى الجار وقال: اغتسلوا من ماء البحر فإنه مبارك، فلما قدمت السفن الجار وفيها الطعام، صك عمر رضي الله عنه للناس بذلك الطعام صكوكا، فتبايع التجار الصكوك بينهم قبل أن يقبضوها، فلقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه العلاء بن الأسود رضي الله عنه فقال: كم ربح حكيم بن حزام؟ فقال: ابتاع من صكوك الجار بمائة ألف درهم وربح عليها مائة ألف، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال له: يا حكيم كم ربحت؟ فأخبره بمثل خبر العلاء. قال عمر رضي الله عنه: فبعته قبل أن تقبضه؟ قال نعم. قال عمر رضي الله عنه: فإنّ هذا بيع لا يصح فاردده. فقال حكيم: ما علمت أن هذا بيع لا يصح، وما أقدر على ردّه. فقال عمر رضي الله عنه: لا بدّ. فقال حكيم: والله ما أقدر على ذلك، وقد تفرّق وذهب، ولكن رأس مالي وربحي صدقة. وقال القضاعيّ في ذكر الخليج: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص عام الرمادة بحفر الخليج الذي بحاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى القلزم، فلم يأت عليه الحول حتى جرت فيه السفن، وحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة، فنفع الله تعالى بذلك أهل الحرمين، فسمي خليج أمير المؤمنين. وذكر الكنديّ في كتاب الجند العربيّ أن عمرا حفره في سنة ثلاث وعشرين، وفرغ منه في ستة أشهر، وجرت فيه السفن ووصلت إلى الحجاز في الشهر السابع، ثم بنى عليه عبد العزيز بن مروان قنطرة في ولايته على مصر. قال: ولم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه عمر بن عبد العزيز، ثم أضاعته الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرمل، فانقطع وصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية بطحاء القلزم. وقال ابن قديد: أمر أبو جعفر المنصور بسدّ الخليج حين خرج عليه محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة ليقطع عنه الطعام، فسدّ إلى الآن. وذكر البلاذري أن أبا جعفر المنصور لما ورد عليه قيام محمد بن عبد الله قال: يكتب الساعة إلى مصر أن تقطع الميرة عن أهل الحرمين، فإنهم في مثل الحرجة إذا لم تأتهم الميرة من مصر. وقال ابن الطوير وقد ذكر ركوب الخليفة لفتح الخليج، وهذا الخليج هو الذي حفره عمرو بن العاص لما ولي على مصر في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بحر فسطاط مصر الحلو، وألحقه بالقلزم بشاطئ البحر الملح، فكانت مسافته خمسة أيام، لتقرب معونة الحجاز من ديار مصر في أيام النيل، فالمراكب النيلية تفرّغ ما تحمله من ديار مصر بالقلزم، فإذا فرغت حملت ما في القلزم مما وصل من الحجاز وغيره إلى مصر، وكان مسلكا للتجار وغيرهم في وقته المعلوم، وكان أوّل هذا الخليج من مصر يشق الطريق

الشارع المسلوك منه اليوم إلى القاهرة، حافا بالقريوص الذي عليه البستان المعروف بابن كيسان مادا، وآثاره اليوم مادة باقية إلى الحوض المعروف بسيف الدين حسين صار ابن رزيك، والبستان المعروف بالمشتهى، وفيه آثار المنظرة التي كانت معدّة لجلوس الخليفة لفتح الخليج من هذا الطريق، ولم تكن الآدر المبنية على الخليج، ولا شيء منها هناك، وما برح هذا الخليج منتزها لأهل القاهرة يعبرون فيه بالمراكب للنزهة، إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليج المعروف الآن بالخليج الناصريّ. قال المسبحيّ: وفي هذا الشهر، يعني المحرّم، سنة إحدى وأربعمائة، منع الحاكم بأمر الله من الركوب في القوارب إلى القاهرة في الخليج، وشدّد في المنع، وسدّت أبواب القاهرة التي يتطرّق منها إلى الخليج، وأبواب الطاقات من الدور التي تشرف على الخليج، وكذلك أبواب الدور والخوخ التي على الخليج. قال القاضي الفاضل في متجدّدات حوادث سنة أربع وتسعين وخمسمائة: ونهى عن ركوب المتفرّجين في المراكب في الخليج، وعن إظهار المنكر، وعن ركوب النساء مع الرجال، وعلّق جماعة من رؤساء المراكب بأيديهم. قال: وفي يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان، ظهر في هذه المدّة من المنكرات ما لم يعهد في مصر في وقت من الأوقات، ومن الفواحش ما خرج من الدور إلى الطرقات، وجرى الماء في الخليج بنعمة الله تعالى بعد القنوط، ووقوف الزيادة في الذراع السادس عشر، فركب أهل الخلاعة وذوو البطالة في مراكب في نهار شهر رمضان ومعهم النساء الفواجر، وبأيديهنّ المزاهر يضربن بها، وتسمع أصواتهنّ ووجوههنّ مكشوفة، وحرفاؤهنّ من الرجال معهنّ في المراكب لا يمنعون عنهنّ الأيدي ولا الأبصار، ولا يخافون من أمير ولا مأمور شيئا من أسباب الإنكار، وتوقع أهل المراقبة، ما يتلو هذا الخطب من المعاقبة. وقال جامع سيرة الناصر محمد بن قلاوون: وفي سنة ست وسبعمائة، رسم الأميران بيبرس وسلار بمنع الشخاتير والمراكب من دخول الخليج الحاكميّ والتفرّج فيه، بسبب ما يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات اللاتي تجمع الخمر آلات الملاهي، والنساء المكشوفات الوجوه المتزينات بأفخر زينة، من كوافي الزركش والقنابيز والحلي العظيم، ويصرف على ذلك الأموال الكثيرة، ويقتل فيه جماعة عديدة، ورسم الأميران المذكوران لمتولي الصناعة بمصر، أن يمنع المراكب من دخول الخليج المذكور إلّا ما كان فيه غلة أو متجرا وما ناسب ذلك، فكان هذا معدودا من حسناتهما، ومسطورا في صحائفهما. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: أخبرني شيخ معمر ولد بعد سنة سبعمائة يعرف بمحمد المسعودي، أنه أدرك هذا الخليج والمراكب تمرّ فيه بالناس للنزهة، وأنها كانت تعبر من تحت باب القنطرة غادية ورائحة، والآن لا يمرّ بهذا الخليج من المراكب إلّا ما يحمل متاعا

من متجر أو نحوه، وصارت مراكب النزهة والتفرج إنما تمرّ في الخليج الناصريّ فقط، وعلى هذا الخليج الكبير في زماننا هذا أربع عشرة قنطرة، يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في القناطر، وحافتا هذا الخليج الآن معمورتان بالدور، وسيأتي إن شاء الله ذكر ذلك في مواضعه من هذا الكتاب. وقال ابن سعد: وفيها خليج لا يزال يضعف بين خضرتها حتى يصير كما قال الرصافي: ما زالت الأنحاء تأخذه ... حتى غدا كذؤابة النجم وقلت في نور الكتان الذي على جانبي هذا الخليج: انظر إلى النهر والكتان يرمقه ... من جانبيه بأجفان لها حدق قد سلّ سيفا عليه للصبا شطب ... فقابلته بأحداق بها أرق وأصبحت في يد الأرواح تنسجها ... حتى غدت حلقا من فوقها حلق فقم نزرها ووجه الأرض متضح ... أو عند صفرته إن كنت تغتبق قال وقد ذكر مصر ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار، ولا تبرّج النساء العواهر، ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر، ومعظم عمارته فيما يلي القاهرة، فرأيت فيه من ذلك العجائب، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر، فيمنع فيه الشرب، وذلك في بعض الأحيان، وهو ضيق وعليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم الطرب والتحكم والمجانة، حتى أن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب، وللسرج في جانبيه بالليل منظر فتّان وكثيرا ما يتفرّج فيه أهل الستر، وفي ذلك أقول: لا تركبنّ في خليج مصر ... إلّا إذا يسدل الظلام فقد علمت الذي عليه ... من عالم كلهم طغام صفان للحرب قد أظلّا ... سلاح ما بينهم كلام يا سيدي لا تسر إليه ... إلّا إذا هوّم النيام والليل ستر على التصابي ... عليه من فضله لثام والسرج قد بدّدت عليه ... منها دنانير لا ترام وهو قد امتدّ والمباني ... عليه في خدمة قيام لله كم دوحة جنينا ... هناك أثمارها الآثام وقال ابن عبد الظاهر عن مختصر تاريخ ابن المأمون، أنّ أوّل من رتب حفر خليج القاهرة على الناس المأمون بن البطائحيّ، وكذلك على أصحاب البساتين في دولة الأفضل،

ذكر خليج فم الخور وخليج الذكر

وجعل عليه واليا بمفرده، ولله در الأسعد بن خطير المماتي حيث يقول: خليج كالحسام له صقال ... ولكن فيه للرائي مسرّه رأيت به الملاح تجيد عوما ... كأنهم نجوم في مجرّه وقال بهاء الدين أبو الحسن عليّ بن الساعاتي في يوم كسر الخليج: إنّ يوم الخليج يوم من الحس ... ن بديع المرئيّ والمسموع كم لديه من ليث غاب صؤول ... ومهاة مثل الغزال المروع وعلى السدّ عزة قبل أن تم ... لكه ذلة المحب الخضوع كسروا جسره هناك فحاكى ... كسر قلب يتلوه فيض دموع ذكر خليج فم الخور وخليج الذكر قال ابن سيده في كتاب المحكم. في اللغة الخور مصب الماء في البحر، وقيل هو خليج من البحر، والخور المطمئن من الأرض، وخليج فم الخور يخرج الآن من بحر النيل ويصب في الخليج الناصريّ ليقوّي جري الماء فيه ويغزره، وكان قبل أن يحفر الخليج الناصريّ يمدّ خليج الذكر، وكان أصله ترعة يدخل منها ماء النيل للبستان الذي عرف بالمقسي ثم وسّع. قال ابن عبد الظاهر: وكان يخرج من البحر للمقسيّ الماء في البرابخ، فوسّعه الملك الكامل، وهو خليج الذكر. ويقال أنّ خليج الذكر حفره كافور الإخشيدي، فلما زال البستان المقسيّ في أيام الخليفة الظاهر بن الحاكم وجعله بركة قدّام المنظرة المعروفة باللؤلؤة، صار يدخل الماء إليها من هذا الخليج، وكان يفتح هذا الخليج قبل الخليج الكبير، ولم يزل حتى أمر الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة أربع وعشرين وسبعمائة بحفره فحفر وأوصل بالخليج الكبير، وشرع الأمراء والجند في حفره من أخريات جمادى الآخرة، فلما فتح كادت القاهرة أن تغرق، فسدّت القنطرة التي عليه فهدمها الماء، ومن حينئذ عزم السلطان على حفر الخليج الناصري، وأنا أدركت آثاره، وفيه ينبت القصب المسمى بالفارسيّ. وأخبرني الشيخ المعمر حسام الدين حسين بن عمر الشهرزوريّ أنه يعرف خليج الذكر هذا وفيه الماء، وسبح فيه غير مرّة، وأراني آثاره، وكان الماء يدخل إليه من تحت قنطرة الدكة الآتي ذكرها في القناطر إن شاء الله تعالى، وعلى خليج فم الخور الآن قطنرة، وعلى خليج الذكر قنطرة يأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى عند ذكر القناطر، وإنما قيل له خليج الذكر لأن بعض أمراء الملك الظاهر ركن الدين بيبرس كان يعرف بشمس الدين الذكر الكركيّ، كان له فيه أثر من حفره، فعرف به، وكان للناس عند هذا الخليج مجتمع يكثر فيه لهوهم ولعبهم. قال المسبحيّ وفي يوم الثلاثاء لخمس بقين منه، يعني المحرّم، سنة خمس عشرة

ذكر الخليج الناصري

وأربعمائة، كان ثالث الفتح، فاجتمع بقنطرة المقس عند كنيسة المقس من النصارى والمسلمين في الخيام المنصوبة وغيرها خلق كثير للأكل والشرب واللهو، ولم يزالوا هناك إلى أن انقضى ذلك اليوم، وركب أمير المؤمنين، يعني الظاهر لاعزاز دين الله أبا الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله، في مركبه إلى المقس، وعليه عمامة شرب مفوّطة بسواد، وثوب ديبقي من شكل العمامة، ودار هناك طويلا وعاد إلى قصره سالما، وشوهد من سكر النساء وتهتكهن وحملهن في قفاف الحمالين سكارى، واجتماعهن مع الرجال أمر يقبح ذكره. ذكر الخليج الناصريّ هذا الخليج يخرج من بحر النيل ويصب في الخليج الكبير، وكان سبب حفره أنّ الملك الناصر محمد بن قولان، لما أنشأ القصور والخانقاه بناحية سرياقوس، وجعل هناك ميدانا يسرح إليه، وأبطل ميدان القبق المعروف بالميدان الأسود ظاهر باب النصر من القاهر، وترك المسطبة التي بناها بالقرب من بركة الحبش لمطعم الطيور والجوارح، اختار أن يحفر خليجا من بحر النيل لتمرّ فيه المراكب إلى ناحية سر ياقوس، لحمل ما يحتاج إليه من الغلال وغيرها، فتقدّم إلى الأمير سيف الدين أرغون نائب السلطنة بديار مصر بالكشف عن عمل ذلك، فنزل من قلعة الجبل بالمهندسين وأرباب الخبرة إلى شاطىء النيل، وركب النيل، فلم يزل القوم في فحص وتفتيش إلى أن وصلوا بالمراكب إلى موردة البلاط من أراضي بستان الخشاب، فوجدوا ذلك الموضع أوطأ مكان يمكن أن يحفر، إلّا أن فيه عدّة دور، فاعتبروا فم الخليج من موردة البلاط، وقدّروا أنه إذا حفر مرّ الماء فيه من موردة البلاط إلى الميدان الظاهريّ الذي أنشأه الملك الناصر بستانا، ويمرّ من البستان إلى بركة قرموط حتى ينتهي إلى ظاهر باب البحر، ويمرّ من هناك على أرض الطبالة فيصب في الخليج الكبير، فلما تعين لهم ذلك، عاد النائب إلى القلعة وطالعه بما تقرّر، فبرز أمره لسائر أمراء الدولة بإحضاء الفلاحين من البلاد الجارية في إقطاعاتهم، وكتب إلى ولاة الأعمال بجمع الرجال لحفر الخليج، فلم يمض سوى أيام قلائل حتى حضر الرجال من الأعمال، وتقدّم إلى النائب بالنزول للحفر ومعه الحجاب، فنزل لعمل ذلك، وقاس المهندسون طول الحفر من موردة البلاط حيث تعين فم الخليج إلى أن يصب في الخليج الكبير، وألزم كل أمير من الأمراء بعمل أقصاب فرضت له، فلما أهلّ شهر جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقع الشروع في العمل، فبدأوا بهدم ما كان هناك من الأملاك التي من جهة باب اللوق إلى بركة قرموط، وحصل الحفر في البستان الذي كان للنائب، فأخذوا منه قطعة، ورسم أن يعطى أرباب الأملاك أثمانها، فمنهم من باع ملكه وأخذ ثمنه من مال السلطان، ومنهم من هدم داره ونقل أنقاضها، فهدمت عدّة دور ومساكن جليلة، وحفر في عدّة بساتين، فانتهى العمل في سلخ جمادى الآخرة على رأس شهرين، وجرى الماء فيه عند زيادة النيل، فأنشأ الناس عدّة سواق وجرت فيه السفن بالغلال وغيرها،

ذكر خليج قنطرة الفخر

فسّر السلطان بذلك، وحصل للناس رفق، وقويت رغبتهم فيه، فاشتروا عدّة أراض من بيت المال غرست فيها الأشجار وصارت بساتين جليلة، وأخذ الناس في العمارة على حافتي الخليج، فعمر ما بين المقس وساحل النيل ببولاق، وكثرت العمائر على الخليج حتى اتصلت من أوّله بموردة البلاط إلى حيث يصب في الخليج الكبير بأرض الطبالة، وصارت البساتين من وراء الأملاك المطلة على الخليج، وتنافس الناس في السكنى هناك، وأنشأوا الحمّامات والمساجد والأسواق، وصار هذا الخليج مواطن أفراح ومنازل لهو ومغنى صبابات وملعب أتراب ومحل تيه وقصف، فيما يمرّ فيه من المراكب وفيما عليه من الدور، وما برحت مراكب النزهة تمرّ فيه بأنواع الناس على سبيل اللهو إلى أن منعت المراكب منه بعد قتل الأشرف، كما يرد عند ذكر القناطر إن شاء الله تعالى. ذكر خليج قنطرة الفخر هذا الخليج يبتدئ من الموضع الذي كان ساحل النيل ببولاق، وينتهي إلى حيث يصب في الخليج الناصريّ، ويصب أيضا في خليج لطيف تسقى منه عدّة بساتين، وكل من هذين الخليجين معمور الجانبين بالأملاك المطلق عليه، والبساتين وجميع المواضع التي يمرّ فيها الخليج الناصريّ، وأرض هذين الخليجين كانت غامرة بالماء، ثم انحسر عنها الماء شيئا بعد شيء، كما ذكر في ظواهر القاهرة، وهذا الخليج حفر بعد الخليج الناصريّ. ذكر القناطر اعلم أن قناطر الخليج الكبير عدّتها الآن أربع عشرة قنطرة، وعلى خليج فم الخور قنطرة واحدة، وعلى خليج الذكر قنطرة واحدة، وعلى الخليج الناصريّ خمس قناطر، وعلى بحر أبي المنجا قنطرة عظيمة، وبالجيزة عدّة قناطر. ذكر قناطر الخليج الكبير قال القضاعي: القنطرتان اللتان على هذا الخليج، يعني خليج مصر الكبير، أما التي في طرف الفسطاط بالحمراء القصوى، فإن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بناها في سنة تسع وستين، وكتب عليها اسمه، وابتنى قناطر غيرها، وكتب على هذه القنطرة المذكورة، هذه القنطرة أمر بها عبد العزيز بن مروان الأمير، اللهمّ بارك له في أمره كله، وثبت سلطانه على ما ترضى، وأقرّ عينه في نفسه وحشمه أمين. وقام ببنائها سعد أبو عثمان، وكتب عبد الرحمن في صفر سنة تسع وستين، ثم زاد فيها تكين أمير مصر في سنة عثمان عشرة وثلثمائة، ورفع سمكها، ثم زاد عليها الإخشيد في سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة، ثم عمرت في أيام العزيز بالله.

وقال ابن عبد الظاهر: وهذه القنطرة ليس لها أثر في هذا الزمان، قلت موضعها الآن خلف خط السبع سقايات، وهذه القنطرة هي التي كانت تفتح عند وفاء النيل في زمن الخلفاء، فلما انحسر النيل عن ساحل مصر اليوم، أهملت هذه القنطرة، وعملت قنطرة السدّ عند فم بحر النيل، فإن النيل كان قد ربى الجرف، حيث غيط الجرف الذي على يمنة من سلك من المراغة إلى باب مصر بجوار الكبارة. قنطرة السد: هذه القنطرة موضعها مما كان غامرا بماء النيل قديما، وهي الآن يتوصل من فوقها إلى منشأة المهرانيّ وغيرها من برّ الخليج الغربيّ، وكان النيل عند إنشائها يصل إلى الكوم الأحمر الذي هو جانب الخليج الغربيّ الآن، تجاه خط بين الزقاقين، فإن النيل كان قد ربى جرفا قدّام الساحل القديم، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، فأهملت القنطرة الأولى لبعد النيل، وقدّمت هذه القنطرة إلى حيث كان النيل ينتهي، وصار يتوصل منها إلى بستان الخشاب الذي موضعه اليوم يعرف بالمريس وما حوله، وكان الذي أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، في أعوام بضع وأربعين وستمائة، ولها قوسان، وعرفت الآن بقنطرة السدّ، من أجل أن النيل لما انحسر عن الجانب الشرقيّ وانكشفت الأراضي التي عليها الآن، خط بين الزقاقين إلى موردة الحلفاء، وموضع الجامع الجديد إلى دار النحاس، وما وراء هذه الأماكن إلى المراغة وباب مصر بجوار الكبارة، وانكشف من أراضي النيل أيضا الموضع الذي يعرف اليوم بمنشأة المهرانيّ، وصار ماء النيل إذا بدت زيادته يجعل عند هذه القنطرة سدّ من التراب حتى يسند الماء إليه إلى أن تنتهي الزيادة إلى ست عشرة ذراعا، فيفتح السدّ حينئذ ويمرّ الماء في الخليج الكبير كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، والأمر على هذا إلى اليوم. قناطر السباع: هذه القناطر جانبها الذي يلي خط السبع سقايات من جهة الحمراء القصوى، وجانبها الآخر من جهة جنان الزهريّ، وأوّل من أنشأها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، ونصب عليها سباعا من الحجارة، فإن رنكه كان على شكل سبع، فقيل لها قناطر السباع من أجل ذلك، وكانت عالية مرتفعة، فلما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان السلطانيّ في موضع بستان الخشاب، حيث موردة البلاط، وتردّد إليه كثيرا، وصار لا يمرّ إليه من قلعة الجبل حتى يركب قناطر السباع، فتضرّر من علوّها وقال لومراء أنّ هذه القنطرة حين أركب إلى الميدان وأركب عليها يتألم ظهري من علوّها، ويقال أنه أشاع هذا، والقصد إنما هو كراهته لنظر أثر أحد من الملوك قبله، وبغضه أن يذكر لأحد غيره شيء يعرف به، وهو كلما يمرّ بها يرى السباع التي هي رنك الملك الظاهر، فأحب أن يزيلها لتبقى القنطرة منسوبة إليه ومعروفة به، كما كان يفعل دائما في محو آثار من تقدّمه وتخليد ذكره، ومعرفة الآثار به ونسبتها له، فاستدعى الأمير علاء الدين عليّ بن حسن

المروانيّ والي القاهرة وشادّ الجهات، وأمره بهدم قناطر السباع، وعمارتها أوسع مما كانت بعشرة أذرع، وأقصر من ارتفاعها الأوّل، فنزل ابن المروانيّ وأحضر الصناع ووقف بنفسه حتى انتهى في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في أحسن قالب على ما هي عليه الآن، ولم يضع سباع الحجر عليها، وكان الأمير الطنبغا الماردينيّ قد مرض ونزل إلى الميدان السلطانيّ، فأقام به ونزل إليه السلطان مرارا، فبلغ الماردينيّ ما يتحدّث به العامّة من أن السلطان لم يخرّب قناطر السباع إلا حتى تبقى باسمه، وأنه رسم لابن المروانيّ أن يكسر سباع الحجر ويرميها في البحر، واتفق أنه عوفي عقيب الفراغ من بناء القنطرة، وركب إلى القلعة، فسرّبه السلطان، وكان قد شغفه حبا، فسأله عن حاله وحادثه إلى أن جرى ذكر القنطرة، فقال له السلطان: أعجبتك عمارتها، فقال والله يا خوند: لم يعمل مثلها، ولكن ما كملت. فقال كيف، قال السباع التي كانت عليها لم توضع مكانها، والناس يتحدّثون أن السلطان له عرض في إزالتها لكونها رنك سلطان غيره، فامتغص لذلك وأمر في الحال بإحضار ابن المروانيّ وألزمه بإعادة السباع على ما كانت عليه، فبادر إلى تركيبها في أماكنها، وهي باقية هناك إلى يومنا هذا إلّا أنّ الشيخ محمدا المعروف بصائم الدهر شوّه صورها كما فعل بوجه أبي الهول، ظنا منه أن هذا الفعل من جملة القربات ولله در القائل: وإنما غاية كلّ من وصل ... صيدا بنى الدنيا بأنواع الحيل قنطرة عمر شاه: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ. قنطرة طقزدمر: هذه القنطرة على الخليج الكبير بخط المسجد المعلق، يتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ، وحكر قوصون وغيره. قنطرة اق سنقر: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من خط قبو الكرمانيّ، ومن حارة البديعيين التي تعرف اليوم بالحبانية، ويمرّ من فوقها إلى برّ الخليج الغربيّ، وعرفت بالأميراق سنقرشادّ العمائر السلطانية في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، عمرها لما أنشأ الجامع بالبركة الناصرية، ومات بدمشق سنة أربعين وسبعمائة. قنطرة باب الخرق: يقال للأرض البعيدة التي تخرقها الريح لاستوائها، الخرق. وهذه القنطرة على الخليج الكبير، كان موضعها ساحلا وموردة للسقائين في أيام الخلفاء الفاطميين، فلما أنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب الميدان السلطانيّ بأرض اللوق، وعمريه المناظر في سنة تسع وثلاثين وستمائة، أنشأ هذه القنطرة ليمرّ عليها إلى الميدان المذكور، وقيل قنطرة باب الخرق. قنطرة الموسكي: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من باب الخوخة

وباب القنطرة، ويمرّ فوقها إلى برّ الخليج الغربيّ، أنشأها الأمير عز الدين موسك، قريب السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان خيّرا يحفظ القرآن الكريم ويواظب على تلاوته، ويحب أهل العلم والصلاح، ويؤثرهم، ومات بدمشق يوم الأربعاء ثامن عشرى شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة. قنطرة الأمير حسين: هذه القنطرة على الخليج الكبير، ويتوصل منها إلى برّ الخليج الغربيّ، فلما أنشأ الأمير سيف الدين حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن حيدر بك الروميّ الجامع المعروف بجامع الأمير حسين في حكر جوهر النوبيّ، أنشأ هذه القنطرة ليصل من فوقها إلى الجامع المذكور، وكن يتوصل إليها من باب القنطرة، فثقل عليه ذلك واحتاج إلى أن فتح في السور الخوخة المعروفة بخوخة الأمير حسين من الوزيرية، فصارت تجاه هذه القنطرة، وقد ذكر خبرها عند ذكر الخوخ من هذا الكتاب، والله تعالى أعلم. قنطرة باب القنطرة: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من القاهرة، ويمرّ فوقها إلى المقس وأرض الطبالة، وأوّل من بناها القائد جوهر لما نزل بمناخه وأدار السور عليه وبنى القاهرة، ثم قدم عليه القرطميّ، فاحتاج إلى الاستعداد لمحاربته، فحفر الخندق وبنى هذه القنطرة على الخليج عند باب جنان أبي المسك كافور الإخشيديّ، الملاصق للميدان والبستان الذي للأمير أبي بكر محمد الإخشيد، ليتوصل من القاهرة إلى المقس، وذلك في سنة ثنتين وستين وثلثمائة، وبها تسمى باب القنطرة، وكانت مرتفعة بحيث تمرّ المراكب من تحتها وقد صارت في هذا الوقت قريبة من أرض الخليج لا يمكن المراكب العبور من تحتها، وتسدّ بأبواب خوفا من دخول الزعار إلى القاهرة. قنطرة باب الشعرية: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يسلك إليها من باب الفتوح، ويمشي من فوقها إلى أرض الطبالة، وتعرف اليوم بقنطرة الخرّوبيّ. القنطرة الجديدة: هذه القنطرة على الخليج الكبير، يتوصل إليها من زقاق الكحل وخط جامع الظاهر، ويتوصل منها إلى أرض الطبالة وإلى منية الشيرج وغير ذلك، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة عند ما انتهى حفر الخليج الناصريّ، وكان ما على جانبي الخليج من القنطرة الجديدة هذه إلى قناطر الإوز عامرا بالأملاك، ثم خربت شيئا بعد شيء من حين حدث فصل الباردة بعد سنة ستين وسبعمائة، وفحش الخراب، هناك منذ كانت سنة الشراقي في زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة سبع وسبعين وسبعمائة، فلما غرقت الحسينية بعد سنة الشراقي خربت المساكن التي كانت في شرقيّ الخليج، ما بين القنطرة الجديدة وقناطر الإوز، وأخذت أنقاضها وصارت هذه البرك الموجودة الآن. قناطر الإوز: هذه القناطر على الخليج الكبير، يتوصل إليها من الحسينية، ويسلك من

فوقها إلى أراضي البعل وغيرها، وهي أيضا مما أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وأدركت هناك أملاكا مطلّة على الخليج بعد سنة ثمانين وسبعمائة، وهذه القناطر من أحسن منتزهات أهل القاهرة أيام الخليج، لما يصير فيه من الماء، ولما على حافته الشرقية من البساتين الأنيقة، إلّا أنها الآن قد خربت. وتجاه هذه القنطرة منظرة البعل التي تقدّم ذكرها عند ذكر مناظر الخلفاء، وبقيت آثارها إلى الآن، أدركناها يعطن فيها الكتان، وبها عرفت الأرض التي هناك، فسميت إلى الآن بأرض البعل، وكان هناك صف من شجر السنط قد امتدّ من تجاه قناطر الإوز إلى منظرة البعل، وصار فاصلا بين مزرعتين يجلس الناس تحته في يومي الأحد والجمعة للنزهة، فيكون هناك من أصناف الناس رجالهم ونسائهم ما لا يقع عليه بصر، ويباع هناك مآكل كثيرة، وكان هناك حانوت من طين تجاه القنطرة يباع فيها السمك، أدركتها وقد استؤجرت بخمس آلاف درهم في السنة، عنها يومئذ نحو مائتين وخمسين مثقالا من الذهب، على أنه لا يباع فيما السمك إلّا نحو ثلاثة أشهر أو دون ذلك، ولم يزل هذا السنط إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة، فقطع. وإلى اليوم تجتمع الناس هناك، ولكن شتان بين ما أدركنا وبين ما هو الآن، وقيل لها قناطر الإوز. قناطر بني وائل: هذه القناطر على الخليج الكبير تجاه التاج، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وعرفت بقناطر بني وائل من أجل أنه كان بجانبها عدّة منازل يسكنها عرب ضعاف بالجانب الشرقيّ، يقال لهم بنو وائل، ولم يزالوا هناك إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة، وكان بجانب هذه القناطر من الجانب الغربيّ مقعد أحدثه الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ لأخذ المكوس، واستمرّ مدّة ثم خرب، ولم ير أحسن منظرا من هذه القنطرة في أيام النيل وزمن الربيع. قنطرة الأميرية: هذه القنطرة هي آخر ما على الخليج الكبير من القناطر بضواحي القاهرة، وهي تجاه الناحية المعروفة بالأميرية، فيما بينها وبين المطرية، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وعند هذه القنطرة ينسدّ ماء النيل إذا فتح الخليج عند وفاء زيادة النيل ست عشرة ذراعا، فلا يزال الماء عند سدّ الأميرية هذا إلى يوم النوروز، فيخرج والي القاهرة، إليه ويشهد على مشايخ أهل الضواحي بتغليق أراضي نواحيهم بالريّ، ثم يفتح هذا السدّ فيمرّ الماء إلى جسر شيبين القصر، ويسدّ عليه حتى يروى ما على جانبي الخليج من البلاد، فلا يزال الماء واقفا عند سدّ شيبين إلى يوم عيد الصليب، وهو اليوم السابع عشر من النوروز، فيفتح حينئذ بعد شمول الريّ جميع تلك الأراضي، وليس بعد قنطرة الأميرية هذه قنطرة سوى قنطرة ناحية سرياقوس، وهي أيضا إنشاء الملك الناصر محمد بن قلاون، وبعد قنطرة سرياقوس جسر شيبين القصر، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر الجسور من هذا الكتاب.

قنطرة الفخر: هذه القنطرة بجوار موردة البلاط من أراضي بستان الخشاب برأس الميدان، وهي أوّل قنطرة عمرت على الخليج الناصريّ على فمه، أنشأها القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله بن خروف القبطيّ، المعروف بالفخر ناظر الجيش في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، عند انتهاء حفر الخليج الناصريّ، ومات في رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وقد أناف على السبعين سنة، وتمكن في الرياسة تمكنا كبيرا. قنطرة قدادار: هذه القنطرة على الخليج الناصريّ، يتوصل إليها من اللوق، ويمشي فوقها إلى برّ الخليج الناصريّ مما يلي الفيل، وأوّل ما وضعت كانت تجاه البستان الذي كان ميدانا في زمن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، إلى أن أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الموجود الآن بموردة البلاط من جملة أراضي بستان الخشاب، فغرس في الميدان الظاهريّ الأشجار وصار بستانا عظيما، كما ذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب، وعرفت هذه القنطرة بالأمير سيف الدين قدادار مملوك الأمير برلغي، وكان من خبره أنه تنقل في الخدم حتى وليّ الغربية من أراضي مصر في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، فلقي أهل البلاد منه شرّا كثيرا، ثم انتقل إلى ولاية البحيرة، فلما كان في سنة أربع وعشرين كثرت الشناعة في القاهرة بسبب الفلوس، وتعنت الناس فيها، وامتنعوا من أخذها حتى وقف الحال وتحسن السعر، وكان حينئذ يتقلد الوزارة الأمير علاء الدين مغلطاي الجماليّ، ويتقلد ولاية القاهرة الأمير علم الدين سنجر الخازن، فلما توجه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى السرحة بناحية سرياقوس، بلغه توقف الحال وطمع السوقة في الناس، وأن متولي القاهرة فيه لين وانه قليل الحرمة على السوقة، وكان السلطان كثير النفور من العامّة، شديد البغض لهم، ويريد كل وقت من الخازن أن يبطش بالحرافيش ويؤثر فيهم آثارا قبيحة، ويشهر منهم جماعة، فلم يبلغ من ذلك غرضه، فكرهه واستدعى الأمير أرغون نائب السلطنة وتقدّم إليه بالأغلاظ في القول على الخازن بسبب فساد حال الناس، وهمّ ببروز أمره بالقبض عليه وأخذ ماله، فما زال به النائب حتى عفا عنه. وقال السلطان يعزله ويولي من ينفع في مثل هذا الأمر، فاختار ولاية قدادار عوضه، لما يعرف من يقظته وشهامته وجراءته على سفك الدماء، فاستدعاه من البحيرة وولاه ولاية القاهرة في أوّل شهر رمضان من السنة المذكورة. فأوّل ما بدأ به أن أحضر الخبازين والباعة وضرب كثيرا منهم بالمقارع ضربا مبرّحا، وسمر عدّة منهم في دراريب حوانيتهم، ونادى في البلد من ردّ فلسا سمّر، ثم عرض أهل السجن ووسط جماعة من المفسدين عند باب زويلة، فهابته العامّة وذعروا منه، وأخذ يتتبع من عصر خمرا، وأحضر عريف الحمالين وألزمه بإحضار من كان يحمل العنب، فلما حضروا عنده استملاهم أسماء من يشتري العنب ومواضع مساكنهم، ثم أحضر خفراء

الحارات والأخطاط، ولم يزل بهم حتى دلوه على سائر من عصر الخمر، فاشتهر ذلك بين الناس وخافوه، فحوّل أهل حارة زويلة وأهل حارتي الروم والديلم وغير ذلك من الأماكن ما عندهم من الخمر وصبوها في البلاليع والأقنية، وألقوها في الأزقة، وبذلوا المال لمن يأخذها منهم، فحصل لكثير من العامّة والأطراف منها شيء كثير، حتى صارت تباع كل جرّة خمر بدرهم، ويمرّ الناس بأبواب الدور والأزقة فترى من جرار الخمر شيئا كثيرا، ولا يقدر أحد أن يتعرّض لشيء منها، ثم ركب وكبس خط باب اللوق وأخذ منه شيئا كثيرا من الحشيش، وأحرقه عند باب زويلة، واستمرّ الحال مدّة شهر، ما من يوم إلّا ويهرق فيه خمر عند باب زويلة، ويحرق حشيش، فطهر الله به البلد من ذلك جميعه، وتتبع الزعّار وأهل الفساد فخافوه وفرّوا من البلد، فصار السلطان يشكره ويثني عليه لما يبلغه من ذلك، وأما العامّة فإنه ثقل عليها وكرهته، حتى أنه لما تأمّر ابن الأمير بكتمر الساقي وركب إلى القبة المنصورية على العادة، ومعه أبوه النائب وسائر الأمراء، صاحت العامّة للأمير بكتمر الساقي يا أمير بكتمر بحياة ولدك أعزل هذا الظالم، ورد علينا وإلينا، يعنون الخازن، فلما عرّف بكتمر السلطان ذلك أعجبه وقال: يا أمير ما تخشى العامّة والسوقة، إلّا ظالما مثل هذا، ما يخاف الله تعالى، وزاد إعجاب السلطان به حتى قال له: لا تشاور في أمر المفسدين، فلم يغترّ بذلك، ورفع إليه جميع ما يتفق له وشاوره في كل جليل وحقير، وقال له إن جماعة من الكتاب والتجار قد عصر والخمر، واستأذنه في طلبهم ومصادرتهم، فتقدّم له بمشاورة النائب في ذلك وإعلامه أن السلطان قد رسم بالكشف عمن عصر من الكتاب والتجار الخمر، فلما صار إلى النائب وعرّفه الخبر، أهانه وقال: إن السلطان لا يرضى بكبس بيوت الناس وهتك حرمهم وسترهم وإقامة الشناعات، وقام من فوره إلى السلطان وعرّفه ما يكون في فعل ذلك من الفساد الكبير، وما زال به حتى صرف رأيه عما أشار به قدادار من كبس الدور، وأخذ الناس في مماقتته والإخراق به في كل وقت، فإنه كان يعني بالخازن ولم يعجبه عزله عن الولاية، فكثر جورقدادار وزاد تتبعه للناس، ونادى أن لا يعمل أحد حلقة فيما بين القصرين ولا يسمر هناك، وأمر أن لا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة، وأقام عنه نائبا من بطالي الحسينية ضمن المسطبة، منه في كل يوم بثلاثمائة درهم، وانحصر الناس منه وضاقوا به ذرعا لكثرة ما هتك أستارهم، وخرق بكثير من المستورين، وتسلطت المستصنعة وأرباب المظالم على الناس، وكانوا إذا رأوا سكران أوشموا منه رائحة خمر أحضروه» إليه، فتوقى الناس شرّه وشكاه الأمراء غير مرّة إلى السلطان، فلم يلتفت لما يقال فيه، والنائب مستمرّ على الإخراق به إلى أن قبض عليه السلطان، فخلا الجوّ لقدادار، وأكثر من سفك الدماء وإتلاف النفوس والتسلط على العامّة لبغضهم إياه، والسلطان يعجبه منه ذلك بحيث أنه أبرز مرسوما لسائر عماله وولاته إن أحدا منهم لا يقتص ممن وجب عليه القصاص في النفس أو القطع إلا أن يشاور فيه ويطالع بأمره، ما خلا قدادار مستولي القاهرة

فإنه لا يشاور على مفسد ولا غيره ويده مطلقة في سائر الناس، فدهى الناس منه بعظائم، وشرع في كبس بيوت السعداء، ومشت جماعة من المستصنعين في البلد وكتبوا الأوراق ورموها في بيوت الناس بالتهديد، فكثرت أسباب الضرر وكثر بلاء الناس به، وتعنت على الباعة، ونادى أن لا يفتح أحد حانوته بعد عشاء الآخرة، فامتنع الناس من الخروج بالليل حتى كانت المدينة في الليل موحشة، واستجدّ على كل حارة دربا، وألزم الناس بعمل ذلك، فجبيت بهذا السبب دراهم كثيرة، وصار الخفراء في الليل يدورون معهم الطبول في كل خط، فظفر بإنسان قد سرق شيئا من بيت في الليل وتزيا بزي النساء، فسمّره على باب زويلة، وما زال على ذلك حتى كثرت الشناعة، فعزله السلطان في سنة تسع وعشرين بناصر الدين بن الحسنيّ، فأقام إلى أيام الحج وسافر إلى الحجاز ورجع وهو ضعيف، فمات في سادس عشر صفر سنة ثلاثين وسبعمائة. قنطرة الكتبة: هذه القنطرة على الخليج الناصريّ بخط بركة قرموط، عرفت بذلك لكثرة من كان يسكن هناك من الكتاب، أنشأها القاضي شمس الدين عبد الله بن أبي سعيد بن أبي السرور الشهير بغبريال بن سعيد ناظر الدولة، وولي تظر الدواوين بدمشق في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، إليها من نظر البيوت بديار مصر، ثم استدعي من دمشق وقرر في وظيفة ناظر النظار شريكا للقاضي شهاب الدين الأفقهسيّ، واستقرّ كريم الدين الصغير مكانه ناظرا بدمشق، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة، ثم صرف غبريال من النظر بديار مصر وسفر إلى دمشق في ثامن عشر صفر سنة ست وعشرين، وطلب كريم الدين الصغير من دمشق، ثم قرّر في مكان غبريال في وظيفة النظر بديار مصر الخطير، كاتب أرغون أخو الموفق وأعيد غبريال إلى نظر دمشق ومات بدمشق بعد ما صودر وأخذ منه نحو ألفي درهم، في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وادركنا الأملاك منتظمة بجانبي هذا الخليج من أوّله بموردة البلاط إلى هذه القنطرة، ومن هذه القنطرة إلى حيث يصب في الخليج الكبير، فلما كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، شرع الناس في هدم ما على هذا الخليج من المناظر البهجة والمساكن الجليلة، وبيع أنقاضها، حتى ذهب ما كان على هذا الخليج من المنازل ما بين قنطرة الفخر التي تقدّم ذكرها، وآخر خط بركة قرموط، وأصبحت موحشة قفراء، بعد ما كانت مواطن أفراح ومغنى صبابات، لا يأويها إلّا الغربان والبوم، سنة الله في الذين خلوا من قبل. قنطرة المقسيّ: هذه القنطرة على خليج فم الخور، وهو الذي يخرج من بحر النيل ويلتقي مع الخليج الناصريّ عند الدكة، فيصيران خليجا واحدا يصب في الخليج الكبير، كان موضعها جسرا يستند عليه الماء إذا بدت الزيادة إلى أن تكمل أربعة عشر ذراعا، فيفتح ويمرّ الماء فيه إلى الخليج الناصريّ وبركة الرطليّ، ويتأخر فتح الخليج الكبير حتى يرقي الماء ستة عشر ذراعا، فلما انطرد ماء النيل عن البرّ الشرقيّ، بقي تاجه هذا الخليج في أيام

احتراق النيل رملة لا يصل إليها الماء إلّا عند الزيادة، وصار يتأخر دخول الماء في الخليج مدّة، وإذا كسر سدّ الخليج الكبير عند الوفاء، مرّ الماء هذا الخليج مرورا قليلا، وما زال موضع هذه القنطرة سدّا إلى أن كانت وزارة الصاحب شمس الدين أبي الفرج عبد الله المقسيّ، في أيام السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين، فأنشأ بهذا المكان القنطرة فعرفت به، واتصلت العمائر أيضا بجانبي هذا الخليج من حيث يبتدئ إلى أن يلتقي مع الخليج الناصريّ، ثم خرب أكثر ما عليه من العمائر والمساكن بعد سنة ست وثمانمائة، وكان للناس بهذا الخليج مع الخليج الناصريّ في أيام النيل مرور في المراكب للنزهة، يخرجون فيه عن الجدّ بكثرة التهتك والتمتع بكل ما يلهي، إلى أن ولي أمر الدولة بعد قتل الملك الأشرف شعبان بن حسين، الأميران برقوق وبركة، فقام الشيخ محمد المعروف بصائم الدهر في منع المراكب من المرور بالمتفرّجين في الخليج، واستفتى شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ، فكتب له بوجوب منعهم لكثرة ما ينتهك في المراكب من الحرمات ويتجاهر به من الفواحش والمنكرات، فبرز مرسوم الأميرين المذكورين بمنع المراكب من الدخول إلى الخليج، وركّبت سلسلة على قنطرة المقسيّ هذه في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، فامتنعت المراكب بأسرها من عبور هذا الخليج إلّا أن يكون فيها غلة أو متاع، فقلق الناس لذلك وشق عليهم وقال الشهاب أحمد بن العطار الدنيسريّ في ذلك: حديث فم الخور المسلسل ماؤه ... بقنطرة المقسيّ قد سار في الخلق ألا فاعجبوا من مطلق ومسلسل ... يقول لقد أوقفتم الماء في حلقي وقال: تسلسلت قنطرة المقسيّ مم ... اقد جرى والمنع أضحى شاملا وقال أهل طبنة في مجنهم ... قوموا بنا نقطع السلاسلا ولم تزل مراكب الفرجة ممتنعة من عبور الخليج إلى أن زالت دولة الظاهر برقوق، في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فأذن في دخولها وهي مستمرّة إلى وقتنا هذا. قنطرة باب البحر: هذه القنطرة على الخليج الناصري، يتوصل إليها من باب البحر ويمرّ الناس من فوقها إلى بولاق وغيره، وهي مما أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون عند انتهاء حفر الخليج الناصريّ، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقد كان موضعها في القديم غامرا بالماء عند ما كان جامع المقس مطلا على النيل، فلما انحسر الماء عن برّ القاهرة صار ما قدّام باب البحر رملة، فإذا وقف الإنسان عند باب البحر رأى البرّ الغربيّ، لا يحول بينه وبين رؤيته بنيان ولا غيره، فإذا كان أوان زيادة ماء النيل صار الماء إلى باب

البحر، وربما جلفط في بعض السنين خوفا من غرق المقس، ثم لما طال المدى غرق خارج باب البحر بأرض باطن اللوق، وغرس فيه الأشجار فصار بساتين ومزارع، وبقي موضع هذه القنطرة جرفا، ورمى الناس عليه التراب فصار كوما يشنق عليه أرباب الجرائم، ثم نقل ما هنالك من التراب وأنشئت هذه القنطرة ونودي في الناس بالعمارة، فأوّل ما بني في غربيّ هذه القنطرة مسجد المهاميزيّ وبستانه، ثم تتابع الناس في العمارة حتى انتظم ما بين شاطيء النيل ببولاق وباب البحر عرضا، وما بين منشأة المهراني ومنية الشيرج طولا، وصار ما بجانبي الخليج معمورا بالدور ومن ورائها البساتين والأسواق والحمّامات والمساجد، وتقسمت الطرق وتعدّدت الشوارع وصار خارج القاهرة من الجهة الغربية عدّة مدائن. قنطرة الحاجب: هذه القنطرة على الخليج الناصري، يتوصل إليها من أرض الطبالة، ويسير الناس عليها إلى منية الشيرج وغيرها، أنشأها الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب في سنة ست وعشرين وسبعمائة، وذلك أنه كانت أرض الطبالة بيده، فلما شرع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في حفر الخليج الناصريّ، التمس بكتمر من المهندسين إذا وصلوا بالحفر إلى حيث الجرف أن يمرّوا به على بركة الطوّابين التي تعرف اليوم ببركة الرطليّ، وينتهوا من هناك إلى الخليج الكبير، ففعلوا ذلك وكان قصدهم أولا أنه إذا انتهى الحفر إلى الجرف مرّوا فيه إلى الخليج الكبير من طرف البعل، فلما تهيأ لبكتمر ذلك عمرت له أراضي الطبالة كما يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى عند ذكر البرك، فعمرت هذه القنطرة في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وأسند إليها جسرا عمله حاجزا بين بركة الحاجب المعروفة ببركة الرطليّ وبين الخليج الناصريّ، وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر الجسور، ولما عمرت هذه القنطرة اتصلت العمائر فيما بينها وبين كوم الريش، وعمر قبالتها ربع عرف بربع الزيتيّ، وكان على ظهر القنطرة صفان من حوانيت، وعليها سقيفة تقي حرّ الشمس وغيره، فلما غرق كوم الريش في سنة بضع وستين وسبعمائة صار هذا الكوم الذي خارج القنطرة، ومن تحت هذه القنطرة يصب الخليج الناصريّ في الخليج الكبير، ويمرّ إلى حيث القنطرة الجديدة وقناطر الأوز وغيرها، كما تقدّم ذكره. قنطرة الدكة: هذه القنطرة كانت تعرف بقنطرة الدكة، ثم عرفت بقنطرة التركمانيّ من أجل أن الأمير بدر الدين التركمانيّ عمرها، وهذه القنطرة كانت على خليج الذكر، وقد انطم ما تحتها وصارت معقودة على التراب لتلاف خليج الذكر، ولله در ابراهيم المعمار حيث يقول: يا طالب الدّكّة نلت المنى ... وفزت منها ببلوغ الوطر قنطرة من فوقها دكّة ... من تحتها تلقى خليج الذكر قناطر بحر أبي المنجا: هذه القناطر من أعظم قناطر مصر وأكبرها، أنشأها السلطان

ذكر البرك

الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري في سنة خمس وستين وستمائة، وتولى عمارتها الأمير عز الدين أيبك الأقرم. قناطر الجيزة: قال في كتاب عجائب البنيان: أن القناطر الموجودة اليوم في الجيزة من الأبنية العجيبة. ومن أعمال الجبارين، وهي نيف وأربعون قنطرة، عمرها الأمير قراقوش الأسديّ، وكان على العمائر في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، بما هدمه من الأهرام التي كانت بالجيزة، وأخذ حجرها فبنى منه هذه القناطر وبنى سور القاهرة ومصر وما بينهما، وبنى قلعة الجبل، وكان خصيا روميا سامي الهمة، وهو صاحب الأحكام المشهورة والحكايات المذكورة، وفيه صنف الكتاب المشهور المسمى بالفاشوش في أحكام قراقوش، وفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة تولى أمر هذه القناطر من لا بصيرة عنده، فسدّها رجاء أن يحبس الماء، فقويت عليها جرية الماء، فقويت عليها جرية الماء فزلزلت منها ثلاث قناطر وانشقت، ومع ذلك فما روى ما رجا أن يروي، وفي سنة ثمان وسبعمائة رسم الملك المظفر بيبرس الجاشنكير برمّها، فعمر ما خرب منها وأصلح ما فسد فيها، فحصل النفع بها. وكان قراقوش لما أراد بناء هذه القناطر بنى رصيفا من حجارة، ابتدأ به من حيز النيل بإزاء مدينة مصر، كأنه جبل ممتدّ على الأرض مسيرة ستة أميال، حتى يتصل بالقناطر. ذكر البرك قال ابن سيده: البركة مستنقع الماء، والبركة شبه حوض يحفر في الأرض. انتهى. وقد رأيت بخط معتبر ما مثاله: وملؤا البركة ماء، فنصب الماء وكسر الراء وفتح الكاف والتاء. بركة الحبش: هذه البركة كانت تعرف ببركة المغافر، وتعرف ببركة حمير، وتعرف أيضا باصطبل قرّة، وعرفت أيضا باصطبل قامش، وهي من أشهر برك مصر، وهي في ظاهر مدينة الفسطاط من قبليها، فيما بين الجبل والنيل، وكانت من الموات، فاستنبطها قرّة بن شريك العنبسيّ أمير مصر وأحياها وغرسها قصبا، فعرفت باصطبل قرّة، وعرفت أيضا باصطبل قامش، وتنقلت حتى صارت تعرف ببركة الحبش. ودخلت في ملك أبي بكر الماردانيّ فجعلها وقفا، ثم أرصدت لبني حسن وبني حسين ابني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، فلم تزل جارية في الأوقاف عليهم إلى وقتنا هذا. قال أبو بكر الكنديّ في كتاب الأمراء: وقدم قرّة بن شريك من وفادته في سنة ثلاث وتسعين فاستنبط الإصطبل لنفسه من الموات وأحياه وغرسه قصبا، فكان يسمى اصطبل قرّة، ويسمى أيضا اصطبل القامش، يعنون القصب، كما يقولون قامش مروان.

وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر. وكان الإصطبل للأزد فاشتراه منهم الحكم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، فبناه وكان يجرى على الذي يقرأ في المصحف الذي وضعوه في المسجد الذي يقال له مصحف أسماء، من كراه في كل شهر ثلاثة دنانير، فلما حيزت أموالهم، يعني أموال بني أمية، وضمت إلى مال الله، حيز الإصطبل فيما حيز وكتب بأمر المصحف إلى أمير المؤمنين أبي العباس السفاح، فكتب أن أقرّوا مصحفهم في مسجدهم على حاله، وأجروا على الذي يقرأ فيه ثلاثة دنانير في كل شهر من مال الله تعالى. وقال القضاعيّ: بركة الحبش كانت تعرف ببركة المغافر وحمير، وتعرف باصطبل قامش، وكانت في ملك أبي بكر محمد بن عليّ الماردانيّ، بجميع ما تشتمل عليه من المزارع والجنان خلا الجنان التي في شرقيها، وأظنها الجنان المنسوبة إلى وهب بن صدقة، وتعرف بالحبش، فإني رأيت في شرط هذه البركة أن الحدّ الشرقيّ ينتهي إلى الفضاء الفاصل بينها وبين الجنان المعروفة بالحبش، فدلّ على أن الجنان خارجة عنها. وذكر ابن يونس في تاريخه: أن في قبليّ بركة الحبش جنانا تعرف بقتادة بن قيس بن حبشيّ الصدفيّ شهد فتح مصر، والجنان تعرف بالحبش، وبه تعرف بركة الحبش، وذكر بعض هذا الشرط أنّ الحدّ البحري ينتهي إلى البئر الطولونية وإلى البئر المعروفة بموسى بن أبي خليد، وهذه البئر هي البير المعروفة بالنعش. ورأيت في كتاب شرط هذه البركة أنها محبسة على البئرين اللتين استنبطهما أبو بكر الماردانيّ في بني وائل بحضرة الخليج والقنطرة المعروفة، أحدهما بالفندق والأخرى بالعتيق، وعلى السرب الذي يدخل منه الماء إلى البئر الحجارة المعروفة بالروا، التي في بني وائل، ذات القناطر التي يجرى فيها الماء إلى المصنعة التي بحضرة العقبة التي يصار منها إلى يحصب، وهي المصنعة المعروفة بدليله، وعلى القنوات المتصلة بها التي تصب إلى المصنعة ذات العمد الرخام القائمة فيها، المعروفة بسمينة، وهي التي في وسط يحصب. ويقال أن هناك كانت سوق ليحصب، وذكر في هذا الشرط دارا له في موضع السقاية المعروفة بسقاية زوف، وشرط أن تنشأ هذه الدار مصنعة على مثل هذه المصنعة المقدّم ذكرها، المعروفة بسمينة، وهي سقاية زوف اليوم، وعلى القناة التي يجري فيها الماء إلى مصنعة ذكر أنّه كان أنشأها عند البئر المعروفة اليوم ببئر القبة، والحوض الذي هناك بحضرة المسجد المعروف بمسجد القبة، وكانت هذه المصنعة تسمى ريا، وجعل هذا الحبس أيضا على البئر التي له بالحبانية بحضرة الخندق، وذكر أنها تعرف بالقبانية، وأن ماءها يجري إلى المصنعة المقابلة للميدان من دار الإمارة في طريق المصلى القديم، ثم إلى المصنعة التي تحت مسجده المقابل لدار عبد العزيز، ثم إلى المصنعة المقابلة لمسجد التربة المجاورة لمسجد الأخضر، وتاريخ هذا الشرط شهر رمضان

سنة سبع وثلاثمائة، وجعل ما يفضل عن جميع ذلك مصروفا في ابتياع بقر وكباش تذبح ويطبخ لحمها، ويبتاع أيضا معها خبز برّ ودراهم وأكسية وأعبية ويتصدّق بذلك على الفقراء والمساكين بالمغافر وغيرها من القبائل بمصر، وكان بناؤه السقايتين اللتين بالموقف والسقايات التي بالمغافر وبزوف وبيحصب وبني وائل، وعمل المجاري في سنة أربع، وقيل في سنة ثلاثمائة وقد حبس أبو بكر على الحرمين ضياعا كان ارتفاعها نحو مائة وألف دينار، ومنها سيوط وأعمالها وغيرها. انتهى. وفي تواريخ النصارى: أن الأمير أحمد بن طولون صادر البطريق ميخائيل بطرك اليعاقبة على عشرين ألف دينار، فباع النصارى رباع الكنائس بالاسكندرية وأرض الحبش بظاهر مصر والكنيسة المجاورة للمعلقة بقصر الشمع بمصر لليهود. قلت هكذا في تواريخهم، ولا أعلم كيف ملكوا أرض الحبش، فلعلّ الماردانيّ هو الذي اشتراها، ثم وقفها. وقال ابن المتوج: بركة الحبش هذه البركة مشهورة في مكانها، وقد اتصل ثبوت وقفها عند قاضي القضاة بدر الدين أبي عبد الله محمد بن سعد الله بن جماعة رحمة الله عليه، على أنها وقف على الأشراف الأقارب والطالبيين نصيف، بينهما بالسوية، النصف الأوّل على الأقارب والنصف الآخر على الطالبيين، وثبت قبله عند قاضي القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف بن الحسن السنجاريّ أن النصف منها وقف على الأشراف الأقارب بالاستفاضة، بتاريخ ثالث عشر ربيع الأوّل سنة أربعين وستمائة، وهم الأقارب الحسينيون، وهو إذ ذاك قاضي القضاة بالقاهرة والوجه البحريّ، وما مع ذلك من البلاد الشامية المضافة إلى ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب، وثبت عند قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، وكان قاضي القضاة بمصر والوجه القبليّ، وخطيب مصر بالاستفاضة أيضا، أن البركة المذكورة وقف على الأشراف الطالبيين بتاريخ التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة، وبعدهما قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ في ولايته، ثم نفذهما بعد تنفيذ وجيه الدين المذكور في شعبان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن جماعة، وهو حاكم الديار المصرية، خلا ثغر الإسكندرية، ويأتي أصل خبر هذه البركة مبينا مشروحا من أصلها في مكانه إن شاء الله تعالى. قال: فمن جملة الأوقاف بركة الأشراف المشهورة ببركة الحبش، وهذه البركة حدودها أربعة، الحدّ القبليّ ينتهي بعضه إلى أرض العدوية، يفصل بينهما جسر هناك وباقية إلى غيطان بساتين الوزير، والحدّ البحريّ ينتهي بضعه إلى أبنية الآدر التي هناك المطلة عليها، وإلى الطريق، وإلى الجسر الفاصل بينها، وبين بركة الشعيبية. والحدّ الشرقيّ إلى

حدّ بساتين الوزير المذكورة، والحدّ الغربيّ ينتهي إلى بعضه إلى بحر النيل وإلى أراضي دير الدين وإلى بعض حقوق جزيرة ابن الصابونيّ وجسر بستان المعشوق الذي هو من حقوق الجزيرة المذكورة، وهذه البركة وقف الأشراف الأقارب والطالبيين نصفين بينهما بالسوية، والذي شاهدته من أمرها أني وقفت على أسجال قاضي القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف السنجاريّ رحمة الله تعالى تعالى عليه تاريخه ثاني عشر ربيع الآخر سنة أربعين وستماة، وهو حين ذاك حاكم القاهرة والوجه البحريّ على محضر شهد فيه بالاستفاضة، أن نصف هذه البركة وقف على الأشراف الأقارب الحسينيين، وثبت ذلك عنده، ورأيت أسجال الشيخ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله على محضر شهد فيه بالاستفاضة، وهو حين ذلك قاضي مصر والوجه القبليّ، وأشهد عليه أن ثبت عنده أن البركة المذكورة جميعها وقف على الأشراف الطالبيين، وتاريخ اسجالة التاسع والعشرون من شهر ربيع الآخر سنة أربعين وستمائة، ثم نفذهما جميعا في تاريخ واحد قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ، وهو قاضي القضاة حين ذاك، ثم نفذهما قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن جماعة، وهو قاضي القضاة بالديار المصرية، واستقرّ النصف من ربع هذه البركة على الأشراف الأقارب مع قلتهم، والنصف على الأشراف الطالبيين مع كثرتهم، وتنازعوا غير مرّة على أن تكون بينهم الجميع بالسوية، فلم يقدروا على ذلك، وعقد لهم مجل غير مرّة فلم يقدروا على تغييره، وأحسن ما وصفت به بركة الحبش قول عيسى بن موسى الهاشميّ أمير مصر وقد خرج إلى الميدان الذي بطرف المقابر فقال لمن معه: أتتأملون الذي أرى، قالوا وما الذي يرى الأمير؟ قال: أرى ميدان رهان وجنان نخل وبستان شجر ومنازل سكنى وذروة جبل وجبانة أموات ونهر أعجاجا وأرض زرع ومراعي ماشية ومرتع خيل وساحل بحر وصائد نهر وقانص وحش وملاح سفينة وحادي إبل ومفازة رمل وسهلا وجبلا، فهذه ثمانية عشر منتزها في أقلّ من ميل في ميل، وأين هذه الأوقاف من وصف بعضهم قصر أنس بالبصرة في قوله: زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بدّ من زورة من غير ميعاد زره فليس له شيء يشاكله ... من منزل حاضر إن شئت أوبادي تلقى به السفن والأعياس حاضرة ... والضب والنون والملاح والحادي وقال: زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... وحبذا أهله من حاضر بادي تلقى قراقرة والعيس واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي هكذا أنشدهما أبو الفرج الأصبهانيّ رحمه الله تعالى في كتاب الأغاني، ونسبهما لابن عيينة بن المنهال بن محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة، شاعر من ساكني

البصرة، وقيل أن اسمه عذرة، وقيل اسمه أبو عيينة، وكنيته أبو المنهال، وكان بعد المائتين، وأنشد أبو العلاء المعرّي في رسالة الصاهل والساحج: يا صاح ألمم بأهل القصر والوادي ... وحبذا أهله من حاضر بادي ترى قراقرة والعيس واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسيّ. وفي هذا الوقت من السنة يعني أيام النيل، تكون أرض مصر أحسن شيء منظرا، ولا سيما منتزهاتها المشهورة ودياراتها المطروقة، كالجزيرة والجيزة وبركة الحبش وما جرى مجراها من المواضع التي يطرقها أهل الخلاعة والقصف، ويتناوبها ذوو الآداب والظرف، واتفق أن خرجنا في مثل هذا الزمان إلى بركة الحبش وافترشنا من زهرها أحسن بساط، واستظللنا من دوحها بأوفي رواق، فظللنا نتعاطى من زجاجات الأقدام شموسا في خلع بدور، وجسوم نار في غلائل نور إلى أن جرى ذهب الأصيل على لجين الماء. ونشبت نار الشفق بفحمة الظلماء، فقال بعضهم: وهو أمية المذكور من قوله المشهور: لله يومي ببركة الحبش ... واوفق بين الضياء والغبش والنيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش ونحن في روضة مفوّفة ... دبّج بالنّور عطفها ووشي قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نسجها على فرش فعاطني الراح إنّ تاركها ... من سورة الهمّ غير منتعش وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الهوى فلم يطش فأسقني بالكبار مترعة ... فهنّ أشفى لشدّة العطش وقال أيضا: علل فؤادك باللذات والطرب ... وباكر الرّاح بالبانات والنخب أما ترى البركة الغناء لابسة ... وشيا من النور حاكته يد السحب وأصبحت من جديد الروض في ح ... لل قد أبرز القطر منها كل محتجب من سوسن شرق بالطلّ محجره ... وأقحوان شهيّ الظلم والشنب فانظر إلى الورد يحكي خدّ محتشم ... ونرجس ظلّ يبدي لحظ مرتقب والنيل من ذهب يطفو على ورق ... والرامح من ورق يطفو على ذهب وربّ يوم نقعنا فيه غلتنا ... بحاجم من فم الإبريق ملتهب شمس من الرّاح حيانا بها قمر ... موف على غصن يهتز في كثب أرخى ذؤابه وانهزّ منعطفا ... كصعدة الرمح في مسودة العذب فاطرب ودونكها فاشرب فقد بعثت ... على التصابي دواعي اللهو والطرب

وقال: يا نزهة الرصد المصري قد جمعت ... من كلّ شيء حلا في جانب الوادي فذا غدير وذا روض وذا جبل ... والضب والنون والملاح والحادي وقال ابراهيم بن الرفيق في تاريخه: حدّثني محمد الكهينيّ، وكان أديبا فاضلا، قد سافر ورأى بلدان المشرق قال: ما رأيت قطّ أجمل من أيام النوروز، والغيطاس، والميلاد، والمهرجان، وعيد الشعانين، وغير ذلك من أيام اللهو التي كانوا يسخون فيها بأموالهم، رغبة في القصف والعزف، وذلك أنه لا يبقى صغير ولا كبير إلّا خرج إلى بركة الحبش متنزها، فيضربون عليها المضارب الجليلة، والسرادقات والقباب، والشراعات، ويخرجون بالأهل والولد، ومنهم من يخرج بالقينات المسمعات المماليك والمحرّرات، فيأكلون ويشربون ويسمعون ويتفكهون وينعمون، فإذا جاء الليل أمر الأمير تميم بن المعز مائتي فارس من عبيده بالعسس عليهم في كل ليلة، إلى أن يقضوا من اللهو والنزهة إربهم وينصرفوا فيسكرون وينامون كما ينام الإنسان في بيته، ولا يضيع لأحد منهم ما قيمته حبة واحدة، ويركب الأمير تميم في عشاري ويتبعه أربعة زواريق مملوءة فاكهة وطعاما ومشروبا، فإن كانت الليالي مقمرة، وإلّا كان معه من الشموع ما يعيد الليل نهارا، فإذا مرج على طائفة واستحسن من غنائهم صوتا، أمرهم بإعادته وسألهم عما عز عليهم، فيأمر لهم به، ويأمر لمن يغني لهم. وينتقل منهم إلى غيرهم بمثل هذا الفعل عامّة ليله، ثم ينصرف إلى قصوره وبساتينه التي على هذه البركة، فلا يزال على هذه الحال حتى تنقضي هذه الأيام، ويتفرّق الناس. وقال محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي الحنفيّ، وتوفي بدمشق سنة إحدى وخمسين وستمائة، يصف بركة الحبش في أيام الربيع: إذا زيّن الحسناء قرط فهذه ... يزينها من كلّ ناحية قرط ترقرق فيها أدمع الطلّ غدوة ... فقلت لآل قد تضمنها قرط وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: وخرجت مرّة حيث بركة الحبش التي يقول فيها أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسيّ عفا الله عنه: لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش والنيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش وعاينت من هذه البركة أيام فيض النيل عليها أبهج منظر، ثم زرتها أيام غاص الماء، وبقيت فيها مقطعات بين خضر من القرط والكتان تفتن الناظر، وفيها أقول:

ذكر المارداني

يا بركة الحبش التي يومي بها ... طول الزمان مبارك وسعيد حتى كأنك في البسيطة جنة ... وكأن دهري كله بك عيد يا حسن ما يبدو بك الكتان في ... نواره أوزرّه معقود والماء منك سيوفه مسلولة ... والقرط فيك رواقه ممدود وكأنّ أبراجا عليك عرائس ... جليت وطيرك حولها غرّيد يا ليت شعري هل زمانك عائد ... فالشوق فيه مبدئ ومعيد وكان ماء النيل يدخل إلى بركة الحبش من خليج بني وائل، وكان خليج بني وائل مما يلي باب مصر من الجهة القبلية، الذي يعرف إلى يومنا هذا بباب القنطرة، من أجل أن هذه القنطرة كانت هناك. قال ابن المتوج: ورأيت ماء النيل في زمن النيل يدخل من تحته إلى خليج بني وائل. قلت وفي أيام الناصر محمد بن قلاون استولى النشو ناظر الخاص على بركة الحبش، وصار يدفع إلى الأشراف من بيت المال مالا في كل سنة، فلما مات الناصر وقام من بعده ابنه المنصور أبو بكر أعيدت لهم. ذكر الماردانيّ هو أبو بكر محمد بن عليّ بن محمد بن رستم بن أحمد. وقيل محمد بن عليّ بن أحمد بن عيسى بن رستم. وقيل محمد بن عليّ بن أحمد بن إبراهيم بن الحسين بن عيسى بن رستم الماردانيّ، أحد عظماء الدنيا. ولد بنصيبين «1» لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقدم إلى مصر في سنة اثنتين وسبعين ومائتين، وخلف أباه عليّ بن أحمد الماردانيّ أيام نظره في أمور أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وسنّه يومئذ خمس عشرة سنة، وكان معتدل الكتابة ضعيف الحظ من النحو واللغة، ومع ذلك فكان يكتب الكتب إلى الخليفة، فمن دونه على البديهة من غير نسخة، فيخرج الكتاب سليما من الخلل. ولما قتل أبوه في سنة ثمانين ومائتين، استوزره هارون بن خماريه، فدبّر أمر مصر إلى أن قدم محمد بن سليمان الكاتب من بغداد إلى مصر، وأزال دولة بني طولون، وحمل رجالهم إلى العراق، فكان أبو بكر ممن حمله، فأقام ببغداد إلى أن قدم صحبة العساكر لقتال خباسة، فدبر أمر البلد وأمر ونهى، وحدّث بمصر عن أحمد بن عبد الجبار العطارديّ وغيره، بسماعه منهم في بغداد، وكان قليل الطلب للعلم، تغلب عليه محبة الملك وطلب السيادة، ومع ذلك كان يلازم تلاوة القرآن الكريم ويكثر من الصلاة ويواظب على الحج، وملك بمصر من الضياع الكبار ما لم يملكه أحد قبله، وبلغ ارتفاعه في كل سنة أربعمائة ألف دينار سوى الخراج، ووهب وأعطى وولى وصرف وأفضل ومنع

ورفع ووضع، وحج سبعا وعشرين حجة، أنفق في كل حجة منها مائة وخمسين ألف دينار، وكان تكين أمير مصر يشيعه إذا خرج للحج ويتلقاه إذا قدم، وكان يحمل إلى الحجاز جميع ما يحتاج إليه، ويفرّق بالحرمين الذهب والفضة والثياب والحلوى والطيب والحبوب، ولا يفارق أهل الحجاز إلّا وقد أغناهم. وقيل مرّة وهو بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ما بات في هذه الليلة أحد بمكة والمدينة وأعمالهما إلّا وهو شبعان من طعام أبي بكر الماردانيّ. ولما قدم الأمير محمد بن طفج الإخشيد إلى مصر استتر منه، فإنه كان منعه من دخول مصر، وجمع العساكر لقتاله، فاجتمع له زيادة على ثلاثين ألف مقاتل، وحارب بهم بعد موت تكين أمير مصر، ومرّت به خطوب لكثرة فتن مصر إذ ذاك، وأحرقت دوره ودور أهله ومجاوريه، وأخذت أمواله واستتر فقبض على خليفته وعماله، فكتب إلى بغداد يسأل إمارة مصر، وكتب محمد بن تكين بالقدس يسأل ذلك، فعاد الجواب بإمارة ابن تكين، وأن يكون الماردانيّ يدبر أمر مصر ويولي من شاء، فظهر عند ذلك من الاستتار وأمر ونهى ودبر أمر البلد، وصار الجيش بأسره يغدو إلى بابه، فأنفق في جماعة، واصطنع قوما، وقتل عدّة من أصحاب ابن تكين، وكان محمد بن تكين بالقدس، وأمر مصر كله للماردانيّ بمفرده ومعه أحمد بن كيغلغ، وقد قدم من بغداد بولاية ابن تكين على مصر، وولاية أبي بكر الماردانيّ تدبير الأمور، فاستمال أبو بكر أحمد بن كيغلغ حتى صار معه على ابن تكين وحاربه، وكان من أمره ما كان إلى أن قدمت عساكر الإخشيد، فقام أبو بكر لمحاربتهم، ومنع الإخشيد من مصر، فكان الإخشيد غالبا له ودخل البلد فاستتر منه أبو بكر إلى أن دلّ عليه فأخذ وسلمه إلى الفضل بن جعفر بن الفرات، فلما صار إلى ابن الفرات قال له: إيش هذا الاستيحاش والتستر، وأنت تعلم أن الحج قد أظلّ ويحتاج لإقامة الحج، فقال به أبو بكر: إن كان إليّ فخمسة عشر ألف دينار، فقال ابن الفرات: أيش، خمسة عشر ألف دينار؟ قال ما عندي غير هذا، فقال ابن الفرات: بهذا ضربت وجه السلطان بالسيف، ومنعت أمير البلد من الدخول. ثم صاح يا شاذن خذه إليك فأقيم وأدخل إلى بيت، وكان يومئذ صائما، فامتنع من تناول الطعام والشراب ولزم تلاوة القرآن والصلاة طول يومه وليلته، وأصبح فامتنع ابن الفرات من الأكل إجلالا له، فلما كان وقت الفطر من الليلة الثانية، امتنع أبو بكر من الفطر كما امتنع في الليلة الأولى، فامتنع ابن الفرات أيضا من الأكل وقال: لا آكل أبدا أو يأكل أبو بكر، فلما بلغ ذلك أبا بكر أكل، فأخذ ابن الفرات في مصادرته وقبض على ضياعه التي بالشام ومصر، وتتبع أسبابه. ثم خرج به معه إلى الشام وعاد به إلى مصر، ثم خرج به ثانيا إلى الشام، فمات الفضل بن الفرات بالرملة، ورجع أبو بكر إلى مصر فردّ إليه الإخشيد أمور مصر كلها، وخلع على ابنه، وتقلد السيف، ولبس المنطقة، ولبس أبو بكر الدراعة تنزها، ثم تنكر عليه الإخشيد وقبضه في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وجعله في دار وأعدّ له فيها

ذكر بساتين الوزير

من الفرض والآلات والأواني والملبوس والطيب والطرائف وأنواع المآكل والمشارب ما بلغ فيه الغاية، وتفقدها بنفسه وطافها كلها، فقيل له عملت هذا كله لمحمد بن عليّ الماردانيّ؟ فقال: نعم، هذا ملك وأردت أن لا يحتقر بشيء لنا، ولا يحتاج أن يطلب حاجة إلّا وجدها، فإنه إن فقد عندنا شيئا مما يريده استدعى به من داره، فنسقط نحن من عينيه عند ذلك، فلم يزل معتقلا حتى خرج الإخشيد إلى لقاء أمير المؤمنين المتقي لله، فحمله معه، ولما مات الإخشيد بدمشق كان أبو بكر بمصر، فقام بأمر أونوجور بن الإخشيد وقبض على محمد بن مقاتل وزير الإخشيد، وأمر ونهى وصرّف الأور إلى أن كانت واقعة غلبون واتصال أبي بكر به، فلما عادت الإخشيدية قبض على أبي بكر ونهبت دوره وأحرق بعضها وأخذ ابنه، وقام أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات بأمر الوزارة، فعند ما قدم كافور الإخشيدي من الشام بالعساكر التي كانت مع الإخشيد أطلق أبا بكر وأكرمه وردّ ضياعه وضياع ابنه، فلما ماتت أمّ ولده لحقه كافور ومعه الأمير أونوجور عند المقابر وترجلا له وعزياه، ثم ركبا معه حتى صليا عليها، فلما مرض مرض موته، عاده كافور مرارا إلى أن مات في شهر شوال سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، فدفن بداره. ثم نقل إلى المقابر، وكانت فضائله جمة منها: أنه أقام أربعين سنة يصوم الدهر كله، ويركب كل يوم إلى المقابر بكرة وعشية، فيقف له الموكب حتى يمضي إلى تربة أولاده وأهله فيقرأ عندهم ويدعو لهم، وينصرف إلى المساجد في الصحراء فيصلى بها والناس وقوف له، إلّا أنه كان في غاية العجلة لا يراجع فيما يريده ولو كان ما كان، ولما أراد المقتدر أن يقيم وزيرا كتبت رقعة فيها أسماء جماعة، وأنفذت إلى عليّ بن عيسى ليشير بواحد منهم، وكان أبو بكر ممن كتب معهم اسمه، فكتب تحت كل اسم واحد منهم ما يستحقه من الوصف، وكتب تحت اسم أبي بكر محمد بن عليّ الماردانيّ: مترف عجول، وبنى أبو بكر السقايات والمساجد في المغافر وفي يحصب وبني وائل، وليس لشيء منها اليوم أثر يعرف، ومرّت به في هذا الكتاب أخبار، وقد أفرد له ابن زولاق سيرة كبيرة، وهذا منها والله أعلم. ذكر بساتين الوزير هذه البساتين في الجهة القبلية من بركة الحبش، وهي قرية فيها عدّة مساكن وبساتين كثيرة، وبها جامع تقام فيه الجمعة، وعرفت بالوزير أبي الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن محمد المغربيّ، وبنو المغربيّ أصلهم من البصرة، وصاروا إلى بغداد، وكان أبو الحسن عليّ بن محمد تخلف على ديوان المغرب ببغداد، فنسب به إلى المغرب، وولد ابنه الحسين بن عليّ ببغداد فتقلد أعمالا كثيرة منها: تدبير محمد بن ياقوت عند استيلائه على أمر الدولة ببغداد، وكان خال ولده عليّ، وهو أبو عليّ هارون بن عبد العزيز الأوراجيّ، الذي مدحه أبو الطيب المتنبي من أصحاب أبي بكر محمد بن رائق، فلما لحق ابن رائق ما لحقه بالموصل، صار الحسين بن عليّ بن المغربي

إلى الشام، ولقي الإخشيد وأقام عنده وصار ابنه أبو الحسن عليّ بن الحسين ببغداد، فأنفذ الإخشيد غلامه فاتك المجنون فحمله ومن يليه إلى مصر، ثم خرج ابن المغربيّ من مصر إلى حلب ولحق به سائر أهله ونزلوا عند سيف الدولة أبي الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان مدّة حياته، وتخصص به الحسين بن عليّ بن محمد المغربيّ، ومدحه أبو نصر بن نباتة، وتخصص أيضا عليّ بن الحسين بسعد الدولة بن حمدان، ومدحه أبو العباس النامي، ثم شجر بينه وبين ابن حمدان ففارقه وصار إلى بكجور بالرقة، فحسن له مكاتبة العزيز بالله نزار والتحيز إليه، فلما وردت على العزيز مكاتبة بكجور قبله واستدعاه، وخرج من الرقة يريد دمشق، فوافاه عبد العزيز بولاية دمشق وخلفه فتسلمها وخرج لمحاربة ابن حمدان بحلب بمشورة عليّ بن المغربيّ، فلم يتم له أمر وتأخر عنه من كاتبه فقال لابن المغربيّ: غررتني فيما أشرت به عليّ. وتنكر له ففرّ منه إلى الرقة، وكانت بين بكجور وبين ابن حمدان خطوب آلت إلى قتل ابن بكجور، ومسير ابن حمدان إلى الرقة، ففرّ ابن المغربيّ منها إلى الكوفة وكاتب العزيز بالله يستأذنه في القدوم، فأذن له، وقدم إلى مصر في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وخدم بها وتقدّم في الخدم، فحرّض العزيز على أخذ حلب، فقلد ينجوتكين بلاد الشام وضم إليه أبا الحسن بن المغربيّ ليقوم بكتابته ونظر الشام وتدبير الرجال والأموال، فسار إلى دمشق في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وخرج إلى حلب وحارب أبا الفضائل بن حمدان وغلامه لؤلؤ، فكاتب لؤلؤ أبا الحسن بن المغربيّ واستماله حتى صرف ينجوتكين عن محاربة حلب وعاد إلى دمشق، وبلغ ذلك العزيز بالله فاشتدّ حنقه على ابن المغربيّ وصرفه بصالح بن عليّ الروذباديّ، واستقدم ابن المغربيّ إلى مصر، ولم يزل بها حتى مات العزيز بالله وقام من بعده ابنه الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور، فكان هو وولده أبو القاسم حسين من جلسائه، فلما شرع الحاكم بأمر الله في قتل رجال الدولة من القوّاد والكتاب والقضاة، قبض على عليّ ومحمد ابني المغربيّ وقتلهما، ففرّ منه أبو القاسم حسين بن عليّ بن المغربيّ إلى حسان بن مفرّج بن الجرّاح، فأجاره وقلد الحاكم يارجتكين الشام، فخافه ابن جرّاح لكثرة عساكره، فحسن له ابن المغربيّ مهاجمته، فطرق يارجتكين في مسيره على غفلة وأسره وعاد إلى الرملة، فشن الغارات على رساتيقها، وخرج العسكر الذي بالرملة فقاتل العرب قتالا شديدا كادت العرب أن تنهزم لولا ثبّتها ابن المغربيّ، وأشار عليهم بإشهار النداء بإباحة النهب والغنيمة، فثبتوا ونادوا في الناس فاجتمع لهم خلق كثير، وزحفوا إلى الرملة فملكوها وبالغوا في النهب والهتك والقتل، فانزعج الحاكم لذلك انزعاجا عظيما، وكتب إلى مفرّج بن جرّاح يحذره سوء العاقبة ويلزمه بإطلاق يارجتكين من يد حسان ابنه. وإرساله إلى القاهرة، ووعده على ذلك بخمسين ألف دينار، فبادر ابن المغربيّ لما بلغه ذلك إلى حسان وما زال يغريه بقتل يارجتكين حتى أحضره وضرب عنقه، فشق ذلك على مفرّج، وعلم أنه

فسد ما بينهم وبين الحاكم، فأخذ ابن المغربيّ يحسن لمفرّج خلع طاعة الحاكم والدعاء لغيره إلى أن استجاب له، فراسل أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلويّ أمير مكة يدعوه إلى الخلافة، وسهل له الأمر وسير إليه بابن المغربيّ يحثه على المسير، وجرّأه على أخذ مال تركه بعض المياسير، ونزع المحاريب الذهب والفضة المنصوبة على الكعبة وضربها دنانير ودراهم وسماها الكعبية، وخرج ابن المغربيّ من مكة فدعا العرب من سليم وهلال وعوف بن عامر، ثم سار به وبمن اجتمع عليه من العرب حتى نزل الرملة، فتلقاه بنو الجرّاح وقبلوا له الأرض وسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ونادى في الناس بالأمان، وصلّى بالناس الجمعة فامتغص الحاكم لذلك وأخذ في استمالة حسان ومفرّج وغير هما، وبذل لهم الأموال، فتنكروا على أبي الفتوح، وقلد أيضا مكة بعض بني عمّ أبي الفتوح فضعف أمره وأحسن من حسان بالغدر، فرجع إلى مكة وكاتب الحاكم واعتذر إليه فقبل عذره وأما ابن المغربيّ فإنه لما انحلّ أمر أبي الفتوح ورأى ميل بني الجرّاح إلى الحاكم كتب إليه: وأنت وحسبي أنت تعلم أنّ لي ... لسانا أمام المجد يبني ويهدم وليس حليما من تباس يمينه ... فيرضى ولكن من تعض فيحلم فسير إليه أمانا بخطه، وتوجه ابن المغربيّ قبل وصول أمان الحاكم إليه إلى بغداد، وبلغ القادر بالله خبره فاتهمه بأنه قدم في فساد الدولة العباسية، فخرج إلى واسط واستعطف القادر فعطف عليه، وعاد إلى بغداد ثم مضى إلى قرواش بن المقلد أمير العرب وسار معه إلى الموصل، فأقام بها مدّة، وخافه وزير قرواش فأخرجه إلى ديار بكر فأقام عند أميرها نصير الدولة أبي نصر أحمد بن مروان الكرديّ، وتصرّف له وكان يلبس في هذه المدّة المرقعة والصوف، فلما تصرّف غير لباسه وانكشف حاله فصار كمن قيل فيه وقد ابتاع غلاما تركيا كان يهواه قبل أن يبتاعه: تبدّل من مرقعة ونسك ... بأنواع الممسّك والشفوف وعنّ له غزال ليس يحوي ... هواه ولا رضاه بلبس صوف فعاد أشدّ ما كان انتهاكا ... كذاك الدهر مختلف الصروف وأقام هناك مدّة طويلة في أعلى حال وأجل رتبة وأعظم منزلة، ثم كوتب بالمسير إلى الموصل ليستوزره صاحبها، فسار عن ميافارقين وديار بكر إلى الموصل، فتقلد وزارتها وتردّد إلى بغداد في الوساطة بين صاحب الموصل وبين السلطان أبي عليّ بن سلطان الدولة أبي شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة أبي شجاع بن ركن الدولة أبي عليّ بن بويه، واجتمع برؤساء الديلم والأتراك، وتحدّث في وزارة الحضرة حتى تقلدها بغير خلع ولا لقب ولا مفارقة الدراعة، في شهر رمضان سنة خمس عشرة وأربعمائة، فأقام شهورا وأغرى رجال الدولة بعضهم ببعض، وكانت أمور طويلة آلت إلى خروجه من الحضرة

إلى قرواش، فتجدّد للقادر بالله فيه سوء ظنّ بسبب ما أثاره من الفتنة العظيمة بالكوفة، حتى ذهبت فيها عدّة نفوس وأموال، ففرّ إلى أبي نصر بن مروان فأكره وأقطعه ضياعا وأقام عنده، فكوتب من بغداد بالعود إليها، فبرز عن ميافارقين يريد المسير إلى بغداد، فسمّ هناك وعاد إلى المدينة فمات بها، لأيام خلت من شهر رمضان سنة ثمان عشرة وأربعمائة، ومولده بمصر ليلة الثالث عشر من ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة. وكان أسمر شديد السمرة، بساطا عالما بليغا مترسلا متفننا في كثير من العلوم الدينية والأدبية والنحوية، مشارا إليه في قوّة الذكاء والفطنة وسرعة الخاطر والبديهة، عظيم القدر صاحب سياسة وتدبير وحيل كثيرة وأمور عظام، دوّخ الممالك وقلّب الدول، وسمع الحديث وروى وصنف عدّة تصانيف، وكان ملولا حقودا لا تلين كبده ولا تنحلّ عقده. ولا يحني عوده ولا ترجى وعوده، وله رأي يزين له العقوق ويبغض إليه رعاية الحقوق، كأنه من كبره قد ركب الفلك واستولى على ذات الحبك، وكان بمصر من بني المغربيّ أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين المغربيّ، قد قتل الحاكم جدّه محمدا مع أبيه عليّ بن الحسين كما تقدّم، فلما نشأ أبو جعفر سار إلى العراق وخدم هناك وتنقلت به الأحوال، ثم عاد إلى مصر واصطنعه الوزير البارزيّ وولاه ديوان الجيش، وكانت السيدة أم المستنصر بالله تعني به، فلما مات الوزير البارزيّ وولي بعده الوزير أبو الفرج عبد الله بن محمد البابليّ، قبض عليه في جملة أصحاب البارزيّ واعتقله، فتقرّرت له الوزارة وهو في الاعتقال، وخلع عليه في الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمسين وأربعمائة، ولقب بالوزير الأجل الكامل الأوحد، صفيّ أمير المؤمنين وخالصته، فما تعرّض لأحد ولا فعل في البابليّ ما فعله البابليّ فيه وفي أصحاب البارزيّ، فأقام سنتين وشهورا وصرف في تاسع شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وكان الوزراء إذا صرفوا لم يتصرّفوا، فاقترح أبو الفرج بن المغربيّ لما صرف أن يتولى بعض الدواوين، فولي ديوان الإنشاء الذي يعرف اليوم بوظيفة كتابة السرّ، وهو الذي استنبط هذه الوظيفة بديار مصر واستحدث استخدام الوزراء بعد صرفهم عن الوزارة، ولم يزل نابه القدر إلى أن توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. بركة الشعيبية: هذه البركة موضعها خلف جسر الأفرم، فيما بينه وبين الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد، وكانت تجاور بركة الحبش من بحريها، وقد انقطع عنها الماء وصارت بساتين ومزارع وغير ذلك. قال ابن المتوّج: بركة الشعيبية بظاهر مصر، كان يدخل إليها ماء النيل، وكان لها خليجان أحدهما من قبليها وهو الآن بجوار منظرة الصاحب تاج الدين بن حنا، المعروفة بمنظرة المعشوق، والثاني من بحريها، ويقال له خليج بني وائل، عليه قنطرة بها عرف باب القنطرة بمصر، وكان يجري فيهما الماء من النيل إليها، فكان الماء يدخل إليها في كل سنة ويعمها ويدخل إليها الشخاتير، وكان بدائرها من جانبها الشرقيّ أدر كثيرة،

وكانت نزهة المصريين، فلما استأجرها الأمير عز الدين أيبك الأفرم من الناظر عليها من جهة الحكم العزيزي، حازها بالجسور عن الماء وغرس فيها الأشجار والكروم وحفر الآبار، وهذه البركة مساحتها أربعة وخمسون فدّانا، ولها حدود أربعة، الحدّ القبليّ، ينتهي بعضه إلى بعض أرض المعشوق الجاري في وقف ابن الصابوني، وإلى الجسر الفاصل بينها وبين بركة الحبش، وفي هذا الجسر الآن قنطرة يدخل إليها الماء من خليج بركة الأشراف، والحدّ البحريّ: كان ينتهي بعضه إلى منظرة قاضي القضاة بدر الدين السنجاريّ، وإلى جسره. والحدّ الشرقيّ: ينتهي إلى الآدر التي كانت مطلة عليها، وقد خرب أكثرها، وكانت مسكن أعيان المصريين من القضاة والكتاب. والحدّ الغربيّ: ينتهي إلى جرف النيل، ولما استأجرها الأفرم شرط له خمسة أفدنة يعمر عليها ويؤجرها لمن يعمر عليها، منها فدّان واحد من بحريها، وفدّانان من غربيها ملاصقان لجدار البساتين، وفدّانان بالجرف الذي من حقوقها. فلما مات الأفرم طمع الأمير علم الدين الشجاعي في ورثته وفي الوقف وأربابه، فغضب أرض الجرف وجملتها فدّانان، ثم تركها، فلما كان في أثناء دولة الناصر محمد بن قلاون ووزارة الأعسر بيعت أرضها لأرباب الأبنية التي عليها، وهذه البركة وقفها الخطير بن مماتي، ودخل معهم بنو الشعيبية لاختلاط أنسابهم بالتناسل. وقال في موضع آخر: ومن جملة الأوقاف بركة الخطير بن مماتي المشهورة ببركة الشعيبية، ومساحة أرضها أربعون وخمسون فدّانا وربع، ولها حدود أربعة، القبليّ: من البركة الصغرى منها إلى الجسر الفاصل بينها وبين بركة الحبش، وفيه قنطرة يمرّ منها الماء إلى هذه البركة، وباقي هذا الحدّ إلى بعض أبنية مناظر المعشوق، ومن جملة حقوق هذا الوقف المجاز المستطيل المسلوك فيه إلى المنظرة المذكورة، ومنه دهليزها الإيوان البحري، وهذا جميعه رأيته ترعة من تراع هذه البركة المذكورة، يمرّ الماء فيها في زمن النيل إليها، وكان باقي هذه المنظرة دارا مطلة على بحر النيل من شرقيها، وعلى هذه الترعة من بحريها، ثم ملكها الصاحب تاج الدين بن حنا وهدمها وردم الخليج وعمر المنظرة والحمام والبيوت الموجودة الآن، وباقي ذلك كله في أرض ابن الصابونيّ. وحدّ هذه البركة من الجهة البحرية: إلى الطريق الآن، وكان فيه جسر يعرف بجسر الحيات، كان يفصل بين هذه البركة وبين بركة شطا، وكان فيه قنطرة يجري الماء فيها من هذه البركة إلى بركة شطا، وكان في هذا الحدّ ترعة أخرى يجري الماء فيها في زمن النيل من البحر إلى هذه البركة، ورأيته يجري فيها، ورأيت الشخاتير تدخل فيها إلى هذه البركة، وأما حدّها الشرقيّ: فإنه كان إلى أبنية الآدر المطلة على هذه البركة، وأمّا حدّها الغربي فإنه كان إلى بحر النيل، ولم تزل كذلك إلى أن استأجرها الأمير عز الدين أيبك الأفرم، فردم هذه الترعة وبنى حيطان هذا البستان وجسر عليه وزرع فيه الشتول والخضراوات، وأقام على ذلك عدّة سنين، ثم استأجره إجارة ثانية، واشترط البناء على

ذكر المعشوق

ثلاثة أفدنة في جانبه الغربيّ، وفدّان في جانبه البحريّ، فعمر الناس واستغنى عن الجسور ورخص على الناس حتى رغبوا في العمارة، وآجر كل مائة ذراع من ذلك بعشرة دراهم نقرة، وعمر البئر المشهورة ببئر السواقي، فعمرت أحسن عمارة، فلما توفي توفي الأفرم طمع الشجاعيّ في أرباب الوقف وفي ورثته، ونزع منهم الفدادين المطلة على بحر النيل، وابتاع ذلك من وكيل بيت المال، وأعانه عليه قوم آخرون يجتمعون عند الله تعالى. ذكر المعشوق اعلم أنّ المعشوق اسم لمكان فيه أشجار بظاهر مصر، من جملة خطة راشدة، عرف أوّلا بجنان كهمس بن معمر، ثم عرف بجنان المارداني، ثم عرف بجنان الأمير تميم بن المعز لدين الله، ثم جدّده الأفضل بن أمير الجيوش فعرف به، وأجرا صار من وقف ابن الصابونيّ، فأخذه الصاحب تاج الدين محمد بن حنا، وعمر به مناظر وأوصى بعمارة رباط للآثار النبوية، وأن توقف عليه. فلما أنشئ الرباط المذكور أرصد لمصالحه. وهو الآن وقف عليه، وأرض هذا البستان مما وقفه ابن الصابونيّ على بنيه وعلى رباطه المجاور، لقيه الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه بالقرافة، وبنو الصابونيّ يستأدون من المتحدّث على رباط الآثار شيئا في كل سنة عن حكر أرض بستان المعشوق. قال القضاعيّ في ذكر خطة راشدة: ومنها المقبرة المعروفة بمقبرة راشدة، والجنان المعروفة كانت تعرف بكهمس بن معمر، ثم عرفت بالماردانيّ، وهو المعروف الآن بالأمير تميم بن المعز. هذا وقد بنى المعتمد على الله أحمد بن المتوكل في الجانب الشرقيّ من سرّ من رأى قصر أسماه المعشوق، وأقام به، وبين بغداد وتكريت منزلة فيها آثار بناء وقصور تسمى العاشق والمعشوق، وفيه أنشد الشريف زهرة بن عليّ بن زهرة بن الحسن الحسينيّ، وقد اجتاز به يريد الحج: قد رأيت المعشوق وهو من الهج ... ر بحال تنبو النواظر عنه أثّر الدهر فيه آثار سوء ... قد أدالت يد الحوادث منه وقال ابن يونس: كهمس بن معمر بن محمد بن معمر بن حبيب، يكنّى أبا القاسم، كان أبوه بصريا، وولد هو بمصر، وكان عاقلا، وكانت القضاة تقبله، حدّث عن محمد بن رمح، وعيسى بن حماد زغبة، وسلمة بن شبيب ونحوهم، توفي في يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. وقال ابن خلكان: تميم بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهديّ، كان أبوه صاحب الديار المصرية والمغرب، وهو الذي بنى القاهرة المعزية، وكان تميم فاضلا شاعرا ماهرا لطيفا ظريفا، ولم يل المملكة، لأنّ ولاية العهد كانت لأخيه العزيز، فوليها بعد أبيه،

وأشعاره كلها حسنة، وكانت وفاته في ذي القعدة سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وقد ذكر كلا من الماردانيّ وابن حنا والأفضل. وأما ابن مماتي فإنه أسعد بن مهذب بن زكريا بن قدامة بن نينا شرف الدين مماتي أبي المكارم بن سعيد بن أبي المليح الكاتب المصري، فأصله من نصارى أسيوط من صعيد مصر، واتصل جدّه أبو المليح بأمير الجيوش بدر الجماليّ وزير مصر في أيام الخليفة المستنصر بالله، وكتب في ديوان مصر، وولي استيفاء الديوان، وكان جوادا ممدوحا انقطع إليه أبو الطاهر إسماعيل بن محمد المعروف بابن مكيسة الشاعر، فمن قوله فيه لما مات: طويت سماء المكرما ... ت وكوّرت شمس المديح وتناثرت شهب العلا ... من بعد موت أبي المليح ما كان بالنكس الدن ... يء من الرجال ولا الشحيح كفر النصارى بعد ما ... عذروا به دون المسيح ورثاه جماعة من الشعراء، ولما مات ولي ابنه المهذب بن أبي المليح زكريا ديوان الجيش بمصر في آخر الدولة الفاطمية، فلما قدم الأمير أسد الدين شيركوه وتقلد وزارة الخليفة العاضد شدّد على النصارى وأمرهم بشدّ الزنانير على أوساطهم، ومنعهم من إرخاء الذؤابة التي تسمى اليوم بالعذبة، فكتب لأسد الدين: يا أسد الدين ومن عدله ... يحفظ فينا سنّة المصطفى كفى غيارا شدّ أوساطنا ... فما الذي أوجب كشف القفا فلم يسعفه بطلبته، ولا مكنه من إرخاء الذؤابة، وعند ما آيس من ذلك أسلم، فقدّم على الدواوين حتى مات، فخلفه ابنه أبو المكارم أسعد بن مهذب الملقب بالخطير على ديوان الجيش، واستمرّ في ذلك مدّة أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأيام ابنه الملك العزيز عثمان، وولي نظر الدواوين أيضا، واختص بالقاضي الفاضل، وحظي عنده، وكان يسميه بلبل المجلس لما يرى من حسن خطابه، وصنف عدّة مصنفات منها: تلقين اليقين فيه الكلام على حديث بني الإسلام على خمس. وكتاب حجة الحق على الخلق في التحذير من سوء عاقبة الظلم. وهو كبير، وكان السلطان صلاح الدين يكثر النظر فيه، وقال فيه القاضي الفاضل: وقفت من الكتب على ما لا تحصى عدّته، فما رأيت والله كتابا يكون قبالة باب منه، وإنه والله من أهمّ ما طالعه الملوك وكتاب قوانين الدواوين، صنفه للملك العزيز فيما يتعلق بدواوين مصر ورسومها وأصولها وأحوالها وما يجري فيها، وهو أربعة أجزاء ضخمة، والذي يقع في أيدي الناس جزء واحد اختصره منه غير المصنف، فإنّ ابن مماتي ذكر فيه أربعة آلاف ضيعة من أعمال مصر، ومساحة كل ضيعة، وقانون ريها ومتحصلها من عين وغلة، ونظّم سيرة السلطان صلاح الدين يوسف، ونظم كليلة ودمنة،

وله ديوان شعر، ولم يزل بمصر حتى ملك السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، ووزر له صفيّ الدين عليّ بن عبد الله بن شكر، فخافه الأسعد لما كان يصدر منه في حقه من الإهانة، وشرع الوزير ابن شكر في العمل عليه، ورتب له مؤامرات ونكبه وأحال عليه الأجناد، ففرّ من القاهرة وسقط في حلب، فخدم بها حتى مات في يوم الأحد سلخ جمادى الأولى سنة ست وستمائة، عن اثنتين وستين سنة. وكان سبب تلقيب أبي مليح بمماتي، أنه كان عنده في غلاء مصر في أيام المستنصر قمح كثير، وكان يتصدّق على صغار المسلمين وهو إذ ذاك نصرانيّ، وكان الصغار إذا رأوه قالوا مماتي فلقب بها ومن شعره: تعاتبني وتنهي عن أمور ... سبيل الناس أن ينهوك عنها أتقدر أن تكون كمثل عيني ... وحقك ما عليّ أضرّ منها وقال في اترجة كانت بين يدي القاضي الفاضل وهو معنى بديع: لله بل للحسن أترجة «1» ... تذكر الناس بأمر النعيم كأنها قد جمعت نفسها ... من هيبة الفاضل عبد الرحيم بركة شطا: هذه البركة موضعها الآن كيمان، على يسرة من يخرج من باب القنطرة بمدينة مصر طالبا جسر الأفرم ورباط الآثار، كان الماء يعبر إليها من خليج بني وائل، وموضعه على يمنة من يخرج من باب القنطرة المذكورة، وكان عليه قنطرة بناها العزيز بالله بن المعز، وبها سمي باب القنطرة هذا. قال ابن المتوج: بركة شطا بظاهر مصر على يسرة من مرّ من باب القنطرة، وكان الماء يدخل إليها من خليج بني وائل من برابخ بالسور المستجدّ، ومن بركة الشعيبية من قنطرة في وسط الجسر المعروف بجسر الحيات، الذي كان يفصل بين البركتين المذكورتين، وكان بوسطها مسجد يعرف بمسجد الجلالة، بقناطر بوسطها، كان يسلك عليها إليه، وكان يطلّ على بركة شطا آدر خربت بانقطاع الماء عنها، وكان إلى جانبها بستان فيه منظرة ودرابة وطاحون وحمّام، وبظاهر بابه حوض سبيل، وقف ذلك المخلص الموقع وقد خرب. بركة قارون: هذه البركة موضعها الآن فيما بين حدرة ابن قميحة خلف جامع ابن طولون، وبين الجسر الأعظم الفاصل بين هذه البركة وبركة الفيل، وعليها الآن عدّة آدر، وتعرف ببركة قراجا، وكان عليها عدّة عمائر جليلة في قديم الزمان عند ما عمّر العسكر والقطائع، فلما خرب العسكر والقطائع كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، خرب ما كان

من الدور على هذه البركة أيضا، حتى أنه كان من خرج من مصلى مصر القديم، وموضعه الآن الكوم الذي يطلّ على قبر القاضي بكار بالقرافة الكبرى، يرى بركة الفيل وقارون والنيل، ولم يزل ما حول هذه البركة خرابا إلى أن حفر الملك الناصر محمد بن قلاون البركة الناصرية في أراضي الزهري، وكانت واقعة الكنائس في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، فصار جانب هذه البركة الذي يلي خط السبع سقايات مقطع طريق، فيه مركز يقيم فيه من جهة متولى مصر من يحرس المارة من القاهرة إلى مصر، ولم يكن هناك شيء من الدور، وإنما كان هناك بستان بجوار حوض الدمياطيّ الموجود الآن تجاه كوم الأساري على يمنة من خرج وسلك من السبع سقايات إلى قنطرة السدّ، ويشرف هذا البستان على هذه البركة، فحكر أقبغا عبد الواحد مكانه، وصارت فيه الدور الموجودة الآن كما ذكر عند حكر أقبغا في ذكر الأحكار. قال القضاعيّ: دار الفيل هي الدار التي على بركة قارون، ذكر بنو مسكين أنها من حبس جدّهم، وكان كافور أمير مصر اشتراها وبنى فيها دارا ذكر أنه أنفق عليها مائة ألف دينار، ثم سكنها في رجب سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وذكر اليمنيّ أنه انتقل إليها في جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وأنه كان أدخل فيها عدّة مساجد ومواضع اغتصبها من أربابها، ولم يقم فيها غير أيام قلائل، ثم أرسل إلى أبي جعفر مسلم الحسينيّ ليلا فقال له: امض بي إلى دارك، فمضى به، فمرّ على دار فقال: لمن هذه؟ فقال: لغلامك نحرير التربية، فدخلها وأقام فيها شهورا إلى أن عمروا له دار خمارويه المعروفة بدار الحرم، وسكنها، وقيل أن سبب انتقاله من جنان بني مسكين بخار البركة. وقيل وباء وقع في غلمانه، وقيل ظهر له بهاجان. وكانت دار الفيل هذه ينظر منها جزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة. قال أبو عمر الكنديّ في كتاب الموالي: ومنهم أبو غنيم مولى مسلمة بن مخلد الأنصاريّ، كان شريفا في الموالي، وولاه عبد العزيز بن مروان الجزيرة، ثم عزله عنها، وكان يجلس في داره التي يقال لها دار الفيل فينظر إلى الجزيرة فيقول لإخوانه: أخبروني بأعجب شيء في الدنيا. قالوا: منارة الإسكندرية. قال: ما أصبتم شيئا. قال: فيقولون له فقناة قرطاجنة. فيقول: ما صنعتم شيئا. قالوا: فما تقول أنت؟ قال: العجب أني أنظر إلى الجزيرة ولا أقدر أدخلها، وعلى هذه البركة الآن عدّة آدر جليلة وجامع وحمام وغير ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب. بركة الفيل: هذه البركة فيما بين مصر والقاهرة، وهي كبيرة جدّا، ولم يكن في القديم عليها بنيان، ولما وضع جوهر القائد مدينة القاهرة كانت تجاه القاهرة، ثم حدثت حارة السودان وغيرها خارج باب زويلة، وكان ما بين حارة السودان وحارة اليانسية وبين بركة

الفيل فضاء، ثم عمر الناس حول بركة الفيل بعد الستمائة حتى صارت مساكنها أجلّ مساكن مصر كلها. قال ابن سعيد وقد ذكر القاهرة: وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر، والمناظر فوقها كالنجوم، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل، وتسرج أصحاب المناظر على قدر هممهم وقدرتهم، فيكون بذلك لها منظر عجيب. وفيها أقول: انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظر كالأهداب للبصر كأنما هي والأبصار ترمقها ... كواكب قد أداروها على القمر ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت: انظر إلى بركة الفيل التي نحرت ... لها الغزالة نحرا من مطالعها وخلّ طرفك محفوفا ببهجتها ... تهيم وجدا وحبا في بدائعها وماء النيل يدخل إلى بركة الفيل من الموضع الذي يعرف اليوم بالجسر الأعظم تجاه الكبش، وبلغني أنه كان هناك قنطرة كبيرة فهدمت وعمل مكانها هذه المجاديل الحجر التي يمرّ عليها الناس، ويعبر ماء النيل إلى هذه البركة أيضا من الخليج الكبير من تحت قنطرة تعرف قديما وحديثا بالمجنونة، وهي الآن لا تشبه القناطر، وكأنها سرب يعبر منه الماء، وفوقه بقية عقد من ناحية الخليج، كان قد عقده الأمير الطيبرس وبنى فوقها منتزها، فقال فيه علم الدين بن الصاحب: ولقد عجبت من الطبرس وصحبه ... وعقولهم بعقوده مفتونه عقدوا عقودا لا تصحّ لأنهم ... عقدوا لمجنون على مجنونه وكان الطيبرس هذا يعتريه الجنون، واتفق أنّ هذا العقد لم يصح وهدم، وآثاره باقية إلى اليوم. بركة الشقاف: هذه البركة في برّ الخليج الغربيّ بجوار اللوق، وعليها الجامع المعروف بجامع الطباخ، في خط باب اللوق، وكانت هذه البركة من جملة أراضي الزهريّ، كما ذكر في حكر الزهريّ عند ذكر الأحكار، وكان عليها في القديم عدّة مناظر منها: منظرة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور، وذلك أيام كانت أراضي اللوق مواضع نزهة قبل أن تحتكر وتبنى دورا، وذلك بعد سنة ستمائة. والله تعالى أعلم. بركة السباعين: عرفت بذلك لأنه اتخذ عليها دار للسباع، وهي موجودة هناك إلى يومنا هذا، وهي من جملة حكر الزهريّ، وعليها الآن دور. ولم تحدث بها العمارة إلا بعد سنة سبعمائة، وإنما كان جميع ذلك الخط وما حوله من منشأة

المهرانيّ إلى المقس بساتين ثم حكرت. بركة الرطلي: هذه البركة من جملة أرض الطبالة، عرفت ببركة الطوّابين، من أجل أنه كان يعمل فيها الطوب، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ، التمس الأمير بكتمر الحاجب من المهندسين أن يجعلوا حفر الخليج على الجرف إلى أن يمرّ بجانب بركة الطوّابين هذه، ويصب من بحريّ أرض الطبالة في الخليج الكبير، فوافقوه على ذلك، ومرّ الخليج من ظاهر هذه البركة كما هو اليوم، فلما جرى ماء النيل فيه روى أرض البركة، فعرفت ببركة الحاجب. فإنها كانت بيد الأمير بكتمر الحاجب المذكور، وكان في شرقيّ هذه البركة زاوية بها نخل كثير وفيها شخص يصنع الأرطال الحديد التي تزن بها الباعة، فسماها الناس بركة الرطليّ نسبة لصانع الأرطال، وبقيت نخيل الزاوية قائمة بالبركة إلى ما بعد سنة تسعين وسبعمائة، فلما جرى الماء في الخليج الناصريّ ودخل منه إلى هذه البركة، عمل الجسر بين البركة والخليج، فحكره الناس وبنوا فوقه الدور، ثم تتابعوا في البناء حول البركة حتى لم يبق بدائرها خلو، وصارت المراكب تعبر إليها من الخليج الناصريّ فتدورها تحت البيوت وهي مشحونة بالناس، فتمرّ هنالك للناس أحوال من اللهو يقصر عنها الوصف، وتظاهر الناس في المراكب بأنواع المنكرات من شرب المسكرات وتبرّج النساء الفاجرات واختلاطهنّ بالرجال من غير إنكار، فإذا نضب ماء النيل زرعت هذه البركة بالقرط وغيره، فيجتمع فيها من الناس في يومي الأحد والجمعة عالم لا يحصى لهم عدد، وأدركت بهذه البركة من بعد سنة سبعين وسبعمائة إلى سنة ثمانمائة أوقاتا انكفت فيها عمن كان بها أيدي الغير، ورقدت عن أهاليها أعين الحوادث، وساعدهم الوقت إذ الناس ناس والزمان زمان، ثم لما تكدّر جوّ المسرّات وتقلص ظل الرفاهة، وانهلت سحائب المحن من سنة ست وثمانمائة، تلاشى أمرها، وفيها إلى الآن بقية صبابة ومعالم أنس وآثار تنبىء عن حسن عهد، ولله در القائل: في أرض طبالتنا بركة ... مدهشة للعين والعقل ترجح في ميزان عقلي على ... كلّ بحار الأرض بالرطل البركة المعروفة ببطن البقرة: هذه البركة كانت فيما بين أرض الطبالة وأراضي اللوق، يصل إليها ماء النيل من الخور فيعبر في خليج الذكر إليها، وكانت تجاه قصر اللؤلؤة ودار الذهب في برّ الخليج الغربيّ، وأوّل ما عرفت من خبر هذه البركة أنها كانت بستانا كبيرا فيما بين المقس وجنان الزهريّ، عرف بالبستان المقسيّ نسبة إلى المقس، ويشرف على بحر النيل من غربيه، وعلى الخليج الكبير من شرقيه، فلما كان في أيام الخليفة الظاهر لاعزاز دين الله أبي هاشم عليّ بن الحاكم بأمر الله، أمر بعد سنة عشر وأربعمائة بإزالة إنشاب هذا

البستان، وأن يعمل بركة قدّام المنظرة التي تعرف باللؤلؤة، فلما كانت الشدّة العظمى في زمن الخليفة المستنصر بالله، هجرت البركة وبني في موضعها عدّة أماكن عرفت بحارة اللصوص إذ ذاك، فلما كان في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله ووزارة الأجل المأمون محمد بن فاتك البطائحيّ، د أزيلت الأبنية وعمق حفر الأرض وسلط عليها ماء النيل من خليج الذكر، فصارت بركة عرفت ببطن البقرة، وما برحت إلى ما بعد سنة سبعمائة، وكان قد تلاشى أمرها منذ كانت الغلوة في زمن الملك العادل كتبغا، سنة سبع وتسعين وستمائة، فكان من خرج من باب القنطرة يجد عن يمينه أرض الطبالة من جانب الخليج الغربيّ إلى حدّ المقس، ويجد بطن البقرة عن يساره من جانب الخليج الغربيّ إلى حدّ المقس، وبحر النيل الأعظم يجري في غربيّ بطن البقرة على حافة المقس إلى غربيّ أرض الطبالة، ويمرّ من حيث الموضع المعروف اليوم بالجرف إلى غربيّ البعل، ويجري إلى منية الشيرج، فكان خارج القاهرة أحسن منتزه في مصر من الأمصار، وموضع بطن البقرة يعرف اليوم بكوم الجاكي، المجاور لميدان القمح، وما جاور تلك الكيمان والخراب إلى نحو باب اللوق، وحدّثني غير واحد ممن لقيت من شيوخ المقس عن مشاهدة آثار هذه البركة، وأخبرني عمن شاهد فيها الماء، وإلى زمننا هذا موضع من غربيّ الخليج فيما يلي ميدان القمح يعرف ببطن البقرة، بقية من تلك البركة يجتمع فيه الناس للنزهة. بركة جناق: هذه البركة خارج باب الفتوح، كانت بالقرب من منظرة باب الفتوح التي تقدّم ذكرها في المناظر، وكان ما حولها بساتين، ولم يكن خارج باب الفتوح شيء من هذه الأبنية، وإنما كان هناك بساتين، فكانت هذه البركة فيما بين الخليج الكبير وبستان ابن صيرم، فلما حكر بستان ابن صيرم وعمر في مكانه الآدر وغيرها، وعمر الناس خارج ابن الفتوح، عمر ما حول هذه البركة بالدور، وسكنها الناس وهي إلى الآن عامرة، وتعرف ببركة جناق. بركة الحجاج: هذه البركة في الجهة البحرية من القاهرة، على نحو بريد منها، عرفت أوّلا بجب عميرة، ثم قيل لها أرض الجب، وعرفت إلى اليوم ببركة الحجاج من أجل نزول حجاج البرّ بها عند مسيرهم من القاهرة، وعند عودهم، وبعض من لا معرفة له بأحوال أرض مصر يقول: جب يوسف عليه السلام، وهو خطأ لا أصل له، وما برحت هذه البركة منتزها لملوك القاهرة. قال ابن يونس عميرة ابن تميم بن جزيء التجيبيّ: من بنى القرناء صاحب الجب المعروف بجب عميرة في الموضع الذي يبرز إليه الحاج من مصر لخروجهم إلى مكة، وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب الخندق: أن فرسان الخندق من جب عميرة بن تميم بن جزء، وصاحب جب عميرة من بني القرناء طعن في تلك الأيام فارتث فمات بعد ذلك.

وقال في كتاب الأمراء: ثم أن أهل الحوف خرجوا على ليث بن الفضل أمير مصر، وكان السبب في ذلك أن ليثا بعث بمساح يمسحون عليهم أراضي زرعهم، فانتقصوا من القصب أصابع، فتظلم الناس إلى ليث فلم يسمع منهم، فعسكروا وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم ليث في أربعة آلاف من جند مصر، ليومين بقيا من شعبان، سنة ست وثمانين ومائة، فالتقى مع أهل الحوف لاثنتي عشرة خلت من شهر رمضان، فانهزم الجيش عن ليث وبقي في مائتين أو نحوها، فحمل عليهم بمن معه فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة، وكان التقاؤهم في أرض جب عميرة، وبعث ليث إلى الفسطاط بثمانين رأسا، ورجع إلى الفسطاط. وقال: المسبحيّ ولاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، عرض أمير المؤمنين العزيز بالله عساكره بظاهر القاهرة عند سطح الجب، فنصب له مضرب ديباج روميّ فيه ألف ثوب مفوّفة فضة، ونصبت له فازة مستقلة وقبة مثقلة بالجوهر، وضرب لابنه المنصور مضرب آخر، وعرضت العساكر فكانت عدّتها مائة عسكر، وأقبلت أسارى الروم وعدّتها مائتان وخمسون، فطيف بهم، وكان يوما عظيما حسنا لم تزل العساكر تسير بين يديه من ضحوة النهار إلى صلاة المغرب. وقال ابن ميسر: كان من عادة أمير المؤمنين المستنصر بالله أن يركب في كل سنة على النجب مع النساء والحشم إلى جب عميرة، وهو موضع نزهة بهيئة، أنه خارج للحج على سبيل الهزء والمجانة ومعه الخمر في الروايا عوضا عن الماء، ويسقيه الناس. وقال أبو الخطاب بن دحية، وخطب لبني عبيد ببغداد أربعين جمعة، وذلك للمستنصر، بل للبطال المستهتر، أنشده العقيليّ صبيحة يوم عرفة: قم فانحر الراح يوم النحر بالماء ... ولا تضحّي ضحى إلّا بصهباء وأدرك حجيج الندامى قبل نفرهم ... إلى منى قصفهم مع كلّ هيفاء ووصل ألف القطع للضرورة، وهو جائز، فخرج في ساعته بروايا الخمر تزجى بنغمات حداة الملاهي وتساق، حتى أناخ بعين شمس في كبكبة من الفساق، فأقام بها سوق الفسوق على ساق، وفي ذلك العام أخذ الله وأخذ أهل مصر بالسنين، حتى بيع القرص في أيا من بالثمن الثمين. وقال القاضي الفاضل في حوادث المحرّم سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وفيه خرج السلطان يعني صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى بركة لجب للصيد ولعب الأكرة، وعاد إلى القاهرة في سادس يوم من خروجه، وذكر من ذلك كثيرا عن السلطان صلاح الدين وابنه الملك العزيز عثمان. وقال جامع سيرة الناصر محمد بن قلاون: وفي حوادث صفر سنة اثنتين وعشرين

وسبعمائة، وفهي ركب السلطان إلى بركة الحجاج للرمي على الكراكي، وطلب كريم الدين ناظر الخاص، ورسم أن يعمل فيها أحواشا للخيل والجمال، وميدانا، وللأمير بكتمر الساقي مثله، فأقام كريم الدين بنفسه في هذا العمل، ولم يدع أحدا من جميع الصناع المحتاج إليهم يعمل في القاهرة عملا، فكان فيها نحو الألفي رجل، ومائة زوج بقر، حتى تمت المواضع في مدّة قريبة، وركب السلطان إليها وأمر بعمل ميدان لنتاج الخيل، فعمل، وما برح الملوك يركبون إلى هذه البركة لرمي الكراكي، وهم على ذلك إلى هذا الوقت، وقد خربت المباني التي أنشأها الملك الناصر وأدركنا بهذه البركة مراحا عظيما للأغنام التي يعلفها التركمانيّ حب القطن وغيره من العلف، فتبلغ الغاية في السمن، حتى أنه يدخل بها إلى القاهرة محمولة على العجل لعظم جنتها وثقلها وعجزها عن المشي، وكان يقال كبش بركاويّ نسبة إلى هذه البركة، وشاهدت مرّة كبشا من كباش هذه البركة، وزنت شقته اليمنى فبلغت زنتها خمسة وسبعين رطلا سوى الألية، وبلغني عن كبش أنه وزن ما في بطنه من الشحم خاصة، فبلغ أربعين رطلا، وكانت ألايا تلك الكباش تبلغ الغاية في الكبر، وقد بطل هذا من القاهرة منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، حتى لا يكاد يعرفه اليوم إلا أفراد من الناس. وبركة الحجاج اليوم أرباب دركها قوم من العرب يعرفون ببني صبرة، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ في كتاب الجوهر المكنون في معرفة القبائل والبطون: بنو بطيخ بطن من لخم، وهم ولد بطيخ بن مغالة بن دعجمان بن عميث بن كليب بن أبي الحارث بن عمرو بن رميمة بن جدس بن أريش بن أراش بن جديلة بن لخم، وفخذها بنو صبرة بن بطيخ، ولهم حارة مجاورة للخطمة المعروفة اليوم بكوم دينار السايس، وصبرة في خندف وفي قيس ونزار ويمن، فالتي في خندف في بني جعفر الطيار، بنو صبرة بن جعفر بن داود بن محمد بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فخذ، والتي في قيس، بنو صبرة بن بكر بن أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان فخذ، وأما التي في نزار ففي شيبان، بنو صبرة بن عوف بن محكم بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار فخذ، وما التي في يمن ففي لخم وجذام، فأما التي في لخم: فبنو صبرة بن بطيخ بن مغالة بن دعجان بن عميث بن كليب بن أبي الحارث بن عمرو بن رميمة بن جدس بن أريش بن أراش بن جديلة بن لخم، وأما التي في جذام فبنو صبرة بن نصيرة بن عطفان بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام، وإليه يرجع الصبريون، وهم بالشام والله تعالى أعلم. بركة قرموط: هذه البركة فيما بين اللوق والمقس، كانت من جملة بستان ابن ثعلب، فلما حفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصري من موردة البلاط، رمى ما خرج من الطين في هذه البركة، وبنى الناس الدور على الخليج، فصارت البركة من ورائها،

وعرفت تلك الخطة كلها ببركة قرموط، وأدركنا بها ديارا جليلة تناهى أربابها في أحكام بنائها وتحسين سقوفها، وبالغوا في زخرفتها بالرخام والدهان، وغرسوا بها الأشجار وأجروا إليها المياه من الآبار، فكانت تعدّ من المساكن البديعة النزهة، وأكثر من كان يسكنها الكتاب مسلموهم ونصاراهم، وهم في الحقيقة المترفون أولو النعمة، فكم حوت تلك الديار من حسن ومستحسن، وأني لأذكرها وما مررت بها قد إلّا وتبين لي من كل دار هناك آثار النعم، أما روائح تقالي المطابخ أو عبير بخور العود والندّ، أو نفحات الخمر، أو صوت غناء، أو دقّ هاون ونحو ذلك مما يبين عن ترف سكان تلك الديار ورفاهة عيشهم وغضارة نعمهم، ثم هي الآن موحشة خراب، قد هدمت تلك المنازل وبيعت أنقاضها منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة، فزالت الطرق وجهلت الأزقة وانكشفت البركة، وبقي حولها بساتين خراب، وبلغني أن المراكب كانت تعبر إلى هذه البركة للتنزه، وما أحسب ذلك كان، فإنها كانت من جملة البستان، ولم ينقل إنه كان يقربها خليج سوى الخور، ويبعد أن يصل إليها، والله أعلم. وقرموط هذا هو أمين الدين قرموط مستوفي الخزانة السلطانية. بركة قراجا: هذه البركة خارج الحسينية، قريبا من الخندق، عرفت بالأمير زين الدين قراجا التركماني، أحد أمراء مصر، أنعم عليه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بالإمرة في سنة سبع عشرة وسبعمائة. البركة الناصرية: هذه البركة من جملة جنان الزهريّ، فلما خربت جنان الزهريّ صار موضعها كوم تراب إلى أن أنشأ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ميدان المهاري، في سنة عشرين وسبعمائة، وأراد بناء الزريبة بجانب الجامع الطبرسيّ، احتاج في بنائها إلى طين، فركب وعين مكان هذه البركة، وأمر الفخر ناظر الجيش فكتب أوراقا بأسماء الأمراء، وانتدب الأمير بيبرس الحاجب فنزل بالمهندسين فقاسوا دور البركة ووزع على الأمراء بالأقصاب، فنزل كل أمير وضرب خيمة لعمل ما يخصه، فابتدؤا العمل في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، فتمادى الحفر إلى جانب كنيسة الزهريّ، وكان إذ ذاك في تلك الأرض عدّة كنائس، ولم يكن هناك شيء من العمائر التي هي اليوم حول البركة الناصرية، ولا من العمائر التي في خط قناطر السباع ولا في خط السبع سقايات إلى قنطرة السدّ، وإنما كانت بساتين وكنائس وديورة للنصارى، فاستولى الحفر على ما حول كنيسة الزهريّ وصارت في وسط الحفر، حتى تعلقت، وكان القصد أن تسقط من غير تعمد هدمها، فأراد الله تعالى هدمها على يد العامّة كما ذكر في خبرها عند ذكر كنائس النصارى من هذا الكتاب، فلما تمّ حفر البركة نقل ما خرج منها من الطين إلى الزريبة، وأجرى إليها الماء من جوار الميدان السلطانيّ الكائن بأراضي بستان الخشاب عند

ذكر الجسور

موردة البلاط، فلما امتلأتا بالماء صارت مساحتها سبعة أفدنة، فحكر الناس ما حولها وبنوا عليها الدور العظيمة، وما برح خط البركة الناصرية عامرا إلى أن كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة، فشرع الناس في هدم ما عليها من الدور، فهدم كثيرا مما كان هناك، والهدم مستمرّ إلى يومنا هذا. ذكر الجسور الجسر بفتح الجيم، الذي تسميه العامّة جسرا، عن ابن دريد، وقال الخليل: الجسر والجسر لغتان، وهو القنطرة ونحوها مما يعبر عليه. وقال ابن سيده: والجسر الذي يعبر عليه، والجمع القليل أجسر. قال: إنّ فراخا كفراخ الأوكر ... بأرض بغداد وراء الأجسر والكثير جسور. جسر الأفرم: هذا الجسر بظاهر مدينة مصر، فيما بين المدرسة المعزية برحبة الحناء قبليّ مصر، وبين رباط الآثار النبوية، كان موضعه في أوّل الإسلام غامرا بماء النيل، ثم انحسر عنه الماء فصار فضاء إلى بحريّ خليج بني وائل، ثم ابتنى الناس فيه مواضع، وكان هناك الهري قريبا من الخليج، ثم صار موضع جسر الأفرم هذا ترعة يدخل منها ماء النيل إلى البركة الشعيبية، فلما استأجر الأمير عز الدين أيبك الأفرم بركة الشعيبية وجعلها بستانا، كما تقدّم ذكره في البرك، ردم هذه الترعة وبنى حيطان البستان وجسر عليه، فأقام على ذلك سنين، ثم لما استأجر أرض البركة بعد ما غرسها بالأشجار إجارة ثانية، اشترط البناء على ثلاثة أفدنة في جانب البستان الغربيّ، وفدّان في جانبه البحريّ، ونادى في الناس بتحكيره، وأرخص سعر الحكر، وجعل حكر كلّ مائة ذراع عشرة دراهم، فهرع الناس إليه واحتكروا منه المواضع، وبنوا فيها الدور المطلة على النيل، فاستغنى بالعمائر عن عمر الجسر في كلّ سنة بين البحر والبستان الذي أنشأه، وبقى اسم الجسر عليه إلى يومنا هذا، إلا أن الآدر التي كانت هناك خربت منذ انطرد النيل عن البرّ الغربيّ، بعد ما بلغ ذلك الخط الغاية في العمارة، وكان سكن الوزراء والأعيان من الكتاب وغيرهم. الجسر الأعظم: هذا الجسر في زماننا هذا قد صار شارعا مسلوكا يمشى فيه من الكبش إلى قناطر السباع، وأصله جسر يفصل بين بركة قارون وبركة الفيل، وبينهما سرب يدخل منه الماء، وعليه أحجار يراها من يمرّ هناك، وبلغني أنه كان من قنطرة مرتفعة، فلما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان السلطانيّ عند موردة البلاط، أمر بهدم القنطرة فهدمت، ولم يكن إذ ذاك على بركة الفيل من جهة الجسر الأعظم مبان، وإنما كانت ظاهرة يراها المارّ، ثم أمر السلطان بعمل حائط قصير بطولها، فأقيم الحائط وصفر بالطين الأصفر،

ثم حدثت الدور هناك. الجسر بأرض الطبالة: هذا الجسر يفصل بين بركة الرطليّ وبين الخليج الناصريّ، أقامه الأمير الوزير سيف الدين بكتمر الحاجب في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، لما انتهى حفر الخليج الناصريّ، وأذن للناس في البناء عليه، فحكر وبنيت فوقه الدور، فصارت تشرف على بركة الرطليّ وعلى الخليج، وتجتمع العامّة تحت مناظر الجسر وتمرّ بحافة الخليج للنزهة، فكثر اغتياظ غوغاء الناس وفساقهم بهذا الجسر إلى اليوم، وهو من أنزه فرج القاهرة لولا ما عرف به من القاذورات الفاحشة. الجسر من بولاق إلى منية الشيرج: كان السبب في عمل هذا الجسر أن ماء النيل قويت زيادته في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، حتى أخرق من ناحية بستان الخشاب، ودخل الماء إلى جهة بولاق، وفاض إلى باب اللوق حتى اتصل بباب البحر وبساتين الخور، فهدمت عدّة دور كانت مطلة على البحر، وكثير من بيوت الحكورة، وامتدّ الماء إلى ناحية منية الشيرج، فقام الفخر ناظر الجيش بهذا الأمر، وعرّف السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون أن متى غفل دخل الماء إلى القاهرة وغرق أهلها ومساكنها، فركب السلطان إلى البحر ومعه الأمراء، فرأى ما هاله، وفكر فيما يدفع ضرر النيل عن القاهرة، فاقتضى رأيه عمل جسر عند نزول الماء، وانصرف، فقويت الزيادة وفاض الماء على منشأة المهرانيّ ومنشأة الكتبة، وغرّق بساتين بولاق والجزيرة حتى صار ما بين ذلك ملقة واحدة، وركب الناس المراكب للفرجة، ومرّوا بها تحت الأشجار وصاروا يتناولون الثمار بأيديهم وهم في المراكب، فتقدّم السلطان المتولى القاهرة ومتولى مصر يبث الأعوان في القاهرة ومصر لردّ الحمير والجمال التي تنقل التراب إلى الكيمان، وألزمهم بإلقاء التراب بناحية بولاق، ونودي في القاهرة ومصر، من كان عنده تراب فليرمه بناحية بولاق وفي الأماكن التي قد علا عليها الماء، فاهتمّ الناس من جهة زيادة الماء اهتماما كبيرا خوفا أن يخرق الماء ويدخل إلى القاهرة، وألزم أرباب الأملاك التي ببولاق والخور والمناشئ أن يقف كلّ واحد على إصلاح مكانه، ويحترس من عبور الماء على غفلة، فتطلب كلّ أحد من الناس الفعلة من غوغاء الناس لنقل التراب، حتى عدمت الحرافيش، ولم تكن توجد لكثرة ما أخذهم الناس لنقل التراب ورميه، وتضرّرت الآدر القريبة من البحر بنززها، وغرقت الأقصاب والقلقاس والنيلة وسائر الدواليب التي بأعمال مصر، فلما انقضت أيام الزيادة ثبت الماء ولم ينزل في أيام نزوله، ففسدت مطامير الغلات ومخازنها وشونها، وتحسن سعر السكّر والعسل، وتأخر الزرع عن أوانه لكثرة ما مكث الماء، فكتب لولاة الأعمال بكسر الترع والجسور كي ينصرف الماء عن أراضي الزرع إلى البحر الملح، واحتاج الناس إلى وضع الخراج عن بساتين بولاق والجزيرة، ومسامحتهم بنظير ما فسد من الغرق، وفسدت عدّة بساتين إلى أن أذن الله تعالى بنزول الماء، فسقط كثير من الدور، وأخذ السلطان في عمل الجسور، واستدعى المهندسين

وأمرهم بإقامة جسر يصدج الماء عن القاهرة خشية أن يكون نيل مثل هذا، وكتب بإحضار خولة البلاد، فلما تكاملوا أمرهم فساروا إلى النيل وكشفوا الساحل كله، فوجدوا ناحية الجزيرة مما يلي المنية قد صارت أرضها وطيئة، ومن هناك يخاف على البلد من الماء، فلما عرّفوا السلطان بذلك أمر بإلزام من له دار على النيل بمصر أو منشأة المهرانيّ أو منشأة الكتاب أو بولاق أن يعمر قدّامها على البحر زريبة، وأنه لا يطلب منهم عليها حكر، ونودي بذلك، وكتب مرسوم بمسامحتهم من الحكر عن ذلك، فشرع الناس في عمل الزرابي، وتقدّم إلى الأمراء بطلب فلاحي بلادهم وإحضارهم بالبقر والجراريف لعمل الجسر من بولاق إلى منية الشيرج، ونزل المهندسون فقاسوا الأرض وفرضوا لكل أمير أقصابا معينة، وضرب كلّ أمير خيمته وخرج لمباشرة ما عليه من العمل، فأقاموا في عمله عشرين يوما حتى فرغ، ونصبت عندهم الأسواق، فجاء ارتفاعه من الأرض أربع قصبات في عرض ثماني قصبات، فانتفع الناس به انتفاعا كبيرا، وقدّر الله سبحانه وتعالى أن الزرع في تلك السنة حسن إلى الغاية، وأفلح فلاحا عجيبا، وانحط السعر لكثرة ما زرع من الأراضي، وخصب السنة، وكان قد اتفق في سنة سبع عشرة وسبعمائة غرق ظاهر القاهرة أيضا، وذلك أن النيل وفي ستة عشر ذراعا في ثالث عشر جمادى الأولى وهو التاسع والعشرون من شهر أبيب أحد شهور القبط، ولم يعهد مثل ذلك، فإن الأنيال البدرية يكون وفاؤها في العشر الأول من مسرى، فلما كسر سدّ الخليج توقفت الزيادة مدّة أيام، ثم زاد وتوقف إلى أن دخل تاسع توت، والماء على سبعة عشر ذراعا وستة أصابع، ثم زاد في يوم تسعة أصابع، واستمرّت الزيادة حتى صار على ثانية عشر ذراعا وستة أصابع، ففاض الماء وانقطع طريق الناس فيما بين القاهرة ومصر، وفيما بين كوم الريش والمنية، وخرج من جانب المنية وغرّقها، فكتب بفتح جميع الترع والجسور بسائر الوجه القبليّ والبحريّ، وكسر بحر أبي المنجا وفتح سدّ بلبيس وغيره قبل عيد الصليب، وغرقت الأقصاب والزراعات الصيفية، وعمّ الماء ناحية منية الشيرج، وناحية شبر، فخربت الدور التي هناك، وتلف للناس مال كثير، من جملته زيادة على ثمانين ألف جرّة خمر فارغة تكسرت في نايحة المنية وشبرا عند هجوم الماء، وتلفت مطامير الغلة من الماء، حتى بيع قدح القمح بفلس، والفلس يومئذ جزء من ثمانية وأربعين جزأ من درهم، وصار من بولاق إلى شبرا بحرا واحدا تمرّ فيه المراكب للنزهة في بساتين الجزيرة إلى شبرا، وتلفت الفواكه والمشمومات، وقلت الخضر التي يحتاج إليها في الطعام، وغرقت منشأة المهرانيّ، وفاض الماء من عند خانقاه رسلان، وأفسد بستان الخشاب واتصل الماء بالجزيرة التي تعرف بجزيرة الفيل إلى شبرا، وغرقت الأقصاب التي في الصعيد، فإن الماء أقام عليها ستة وخمسين يوما، فعصرت كلها عسلا فقط، وخربت سائر الجسور وعلاها الماء، وتأخر هبوطه عن الوقت المعتاد، فسقطت عدّة دور بالقاهرة ومصر، وفسدت منشأة الكتاب المجاورة لمنشأة المهرانيّ، فلذلك عمل السلطان الجسر

المذكور خوفا على القاهرة من الغرق. الجسر بوسط النيل: وكان سبب عمل هذا الجسر، أن ماء النيل قوي رميه على ناحية بولاق، وهدم جامع الخطيري، ثم جدّد وقوّيت عمارته وتيار البحر لا يزداد من ناحية البرّ الشرقيّ إلّا قوة، فأهمّ الملك الناصر أمره وكتب في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بطلب المهندسين من دمشق وحلب والبلاد الفراتية، وجمع المهندسين من أعمال مصر كلها قبليها وبحريها، فلما تكاملوا عنده ركب بعساكره من قلعة الجبل إلى شاطيء النيل، ونزل في الحراقة وبين يديه الأمراء وسائر أرباب الخبرة من المهندسين، وجولة الجسور، وكشف أمر شطوط النيل، فاقتضى الحال أن يعمل جسرا فيما بين بولاق وناحية أنبوبه من البرّ الغربي، ليردّ قوّة التيار عن البرّ الشرقيّ إلى البرّ الغربيّ، وعاد إلى القلعة فكتبت مراسيم إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال صحبة المشدّين، واستدعى شادّ العمائر السلطانية وأمره بطلب الحجارين، وقطع الحجر من الجبل، وطلب رئيس البحر وشادّ الصناعة لإحضار المراكب، فلم يمض سوى عشرة أيام حتى تكامل حضور الرجال مع الشادّين من الأقاليم، وندب السلطان لهذا العمل الأمير أقبغا عبد الواحد، والأمير برصبغا الحاجب، فبرز لذلك وأحضر والي القاهرة ووالي مصر، وأمرا بجمع الناس وتسخير كل أحد للعمل، فركبا وأخذا الحرافيش من الأماكن المعروفة بهم، وقبضا على من وجد في الطرقات وفي المساجد والجوامع، وتتبّعاهم في الأسحار، ووقع الاهتمام الكبير في العمل من يوم الأحد عاشر ذي القعدة، وكانت أيام القيظ، فهلك فيه عدّة من الناس، والأمير أقبغا في الحراقة يستحث الناس على إنجاز العمل، والمراكب تحمل الحجر من الفص الكبير إلى موضع الجسر، وفي كل قليل يركب السلطان من القلعة ويقف على العمل، ويهين أقبغا ويسبه ويستحثه حتى تمّ العمل للنصف من ذي الحجة، وكانت عدّة المراكب التي غرقت فيه وهي مشحونة بالحجارة اثني عشر مركبا، كل مركب منها تحمل ألف أردب غلة، وعدّة المراكب التي ملئت بالحجر حتى ردم وصار جسرا، ثلاثة وعشرون ألف مركب، سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسرياقات، وحفر في الجزيرة خليج وطئ، فلما جرى النيل في أيام الزيادة مرّ في ذلك الخليج ولم يتأثر الجسر من قوّة التيار، وصارت قوّة جري النيل من ناحية أنبوبة بالبرّ الغربيّ ومن ناحية التكروريّ أيضا، فسرّ السلطان بذلك وأعجبه إعجابا كثيرا، وكان هذا الجسر سبب انطراد الماء عن برج القاهرة حتى صار إلى ما صار إليه الآن. الجسر فيما بين الجيزة والروضة: كان السبب المقتضى لعمل هذا الجسر، أن الملك الناصر لما عمل الجسر فيما بين بولاق وناحية أنبوبة وناحية التكروريّ، انطرد ماء النيل عن برّ القاهرة، وانكشفت أراض كثيرة، وصار الماء يحاض من برّ مصر إلى المقياس، وانكشف من قبالة منشأة المهرانيّ إلى جزيرة الفيل وإلى منية الشيرج، وصار الناس يجدون مشقّة لبعد الماء عن القاهرة، وغلت روايا الماء حتى بيعت كلّ راوية بدر همين بعد ما كانت بنصف وربع

درهم، فشكا الناس ذلك إلى الأمير أرغون العلائيّ والي السلطان الملك الكامل شعبان بن الملك الناصر محمد بن قلاون، فطلب المهندسين ورئيس البحر، وركب السلطان بأمرائه من القلعة إلى شاطيء النيل، فلم يتهيأ عمل لما كان من ابتداء زيادة النيل، إلّا أنّ الرأي اقتضى نقل التراب والشقاف من مطابخ السكّر التي كانت بمصر وإلقاء ذلك بالروضة. لعمل الجسر، فنقل شيء عظيم من التراب في المراكب إلى الروضة، وعمل جسر من الجزيرة إلى نحو المقياس، في طول نحو ثلثي ما بينهما من المسافة، فعاد الماء إلى جهة مصر عودا يسيرا وعجزوا عن إيصال الجسر إلى المقياس لقلة التراب، وقويت الزيادة حتى علا الماء الجسر بأسره، واتفق قتل الملك الكامل بعد ذلك، وسلطنة أخيه الملك المظفر حاجي بن محمد بن قلاون أول جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة. فلما دخلت سنة ثمان وأربعين، وقف جماعة من الناس للسلطان في أمر البحر واستغاثوا من بعد الماء وانكشاف الأراضي من تحت البيوت، وغلاء الماء في المدينة، فأمر بالكشف عن ذلك، فنزل المهندسون واتفقوا على إقامة جسر ليرجع الماء عن برّ الجيزة إلى برّ مصر والقاهرة، وكتبوا تقدير ما يصرف فيه مائة وعشرين ألف درهم فضة، فأمر بجبايتها من أرباب الأملاك التي على شط النيل، وأن يتولى القاضي ضياء الدين يوسف بن أبي بكر المحتسب جبايتها واستخراجها، فقيست الدور وأخذ عن كل ذراع من أراضيها خمسة عشر درهما، وتولى قياسها أيضا المحتسب ووالي الصناعة، فبلغ قياسها سبعة آلاف وستمائة ذراع، وجبي نحو السبعين ألف درهم، فاتفق عزل الضيّاء عن الحسبة، ونظر المارستان المنصوريّ، ونظر الجوالي، وولاية ابن الأطروش مكانه، ثم قتل الملك المظفر وولاية أخيه الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون سلطنة مصر بعده، في شهر رمضان منها، فلما كانت في سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقع الاهتمام بعمل الجسر، فنزل الأمير بلبغا أروس نائب السلطنة، والأمير منجك الاستادار، وكان قد عزل من الوزارة، والأمير قيلاي الحاجب، وجماعة من الأمراء ومعهم عدّة من المهندسين إلى البحر في الحراريق، والمراكب إلى برّ الجيزة، وقاسوا ما بين برّ الجيزة والمقياس، وكتب تقدير المصروف نحو المائة والخمسين ألف درهم، وألف خشبة من الخشب، وخمسمائة صار، وألف حجر في طول ذراعين وعرض ذراعين، وخمسة آلاف شنفة، وغير ذلك من أشياء كثيرة. فركب النائب والوزير والأمير شيخو والأمراء إلى الجيزة، وأعادوا النظر في أمر الجسر ومعهم أرباب الخبرة، فالتزم الأمير منجك بعمل الجسر، وأن يتولى جباية المصروف عليه من سائر الأمراء والأجناد والكتاب وأرباب الأملاك، بحيث أنه لا يبقى أحد حتى يؤخذ منه، فرسم لكتاب الجيش بكتابة أسماء الجند، وقرّر على كلّ مائة دينار من الإقطاعات درهم واحد، وعلى كلّ أمير من خمسة آلاف درهم إلى أربعة آلاف درهم، وعلى كلّ كاتب أمير ألف، مائتا درهم، وكاتب أمير الطبلخانات مائة درهم، وعلى كلّ حانوت من حوانيت

التجار درهم، وعلى كلّ دار در همان، وعلى كلّ بستان الفدّان من عشرين درهما إلى عشرة دراهم، وعلى كلّ طاحون خمسة دراهم. عن الحجر، وعلى كلّ صهريج في تربة بالقرافة أو في ظاهر القاهرة أو في مدرسة من عشرة دراهم إلى خمسة دراهم، وعلى كل تربة من ثلاثة دراهم إلى در همين، وعلى أصحاب المقاعد والمتعيشين في الطرقات شيء، وكشفت البساتين والدور التي استجدّت من بولاق إلى منية الشيرج، والتي استجدّت في الحكورة، والتي استجدّت على الخليج الناصريّ، وعلى بركة الحاجب، وفي حكر أخي صاروجا، وقيست أراضيها كلها، وأخذ عن كلّ ذراع منها خمسة عشر درهما، وأخذ عن كلّ قمين من أقمنة الطوب شيء، وعن كلّ فاخورة من الفواخير شيء، وفرض على كلّ وقف بالقاهرة ومصر والقرافتين من الجوامع والمساجد والخوانك والزوايا والربط شيء، وكتب إلى ولاة الأعمال بالجباية من ديورة النصارى وكنائسهم من مائتي درهم إلى مائة درهم، وقرّر على الفنادق والخانات التي بالقاهرة ومصر شيء، وقرّر على ضامنة الأغاني مبلغ خمسين ألف درهم، وأقيم لكل جهة شادّ وصيرفي وكتّاب وغير ذلك من المستحثين من الأعوان، فنزل من ذلك بالناس بلاء كبير وشدّة عظيمة، فإنه أخذ حتى من الشيخ والعجوز والأرملة، وجبى المال منهم بالعسف، وأبطل كثير منهم سببه لسعيه في الغرامة ودهي الناس مع الغرامة، يتسلط الظلمة من العرفاء والضمان والرسل، فكان يغرم كلّ أحد للقابض والشادّ والصيرفيّ والشهود سوى ما قرّر عليه جملة دراهم، فكثر كلام الناس في الوزير حتى صاروا يلهجون بقولهم هذه سخطة مرصص نزلت من السماء على أهل مصر، وقاسوا شدّة أخرى في تحصيل الأصناف التي يحتاج إليها، ونزل الوزير منجك وضرب له خيمة على جانب الروضة، ونادى في الحرافيش والفعلة، من أراد العمل يحضر ويأخذ أجرته درهما ونصفا وثلاثة أرغفة، فاجتمع إليه عالم كثير، وجعل لهم شيئا يستظلون به من حرّ الشمس، وأحسن إليهم، ورتب عدّة مراكب لنقل الحجر، وأقام عدة من الحجارين في لجبل لقطع الحجر، وجمالا وحميرا تنقلها من الجبل إلى البحر، ثم تحمل من البرّ في المراكب إلى برّ الجيزة، وابتدأ بعمل الجسر من الروضة إلى ساقية علم الدين بن زنبور، وعارضه بجسر آخر من بستان التاج إسحاق إلى ساقية ابن زنبور، وأقام أخشابا من الجهتين، وردم بينهما بالتراب والحجر والحلفاء، ورتب الجمال السلطانية لقطع الطين من برّ الروضة وحمله إلى وسط الجسر، وأمر أن لا يبقى بالقاهرة ومصر صانع إلا حضر العمل، وألزم من كان بالقرب من داره كوم تراب أن ينقله إلى الجسر، فغرم كل واحد من الناس في نقل التراب من ألف درهم درهم إلى خمسمائة درهم، وكان كلّ ما ينقل في المراكب من الحجر وغيره يرمى في وسط جسر المقياس، وتحمله الجمال إلى الجسر، ثم اقتضى الرأي حفر خليج يجري الماء فيه عند زيادة النيل لتضعف قوّة التيار عن الجسر، فأحضرت الأبقار والجراريف والرجال لأجل ذلك، وابتدؤوا حفره من رأس موردة الحلفاء تحت الدور إلى بولاق، وكانت الزيادة

قد قرب أوانها فما انتهى الحفر حتى زاد ماء النيل وجرى فيه، فسرّ الناس به سرورا كبيرا، وانتهى عمل الجسر في أربعة أشهر. إلا أنّ الشناعة قويت على الوزير، وبلّغ الأمراء النائب ما يقال عن منجك من كثرة جباية الأموال، فحدّثه في ذلك ومنعه، فاعتذر بأنه لم يسخر أحدا ولا استعمل الناس إلّا بالأجرة، وأن في هذا العمل للناس عدّة منافع، وما عليّ من قول أصحاب الأغراض الفاسدة، ونحو ذلك، وتمادى على ما هو عليه، فلما جرى الماء في الخليج الذي حفر تحت البيوت من موردة الحلفاء إلى بولاق، مرّت فيه المراكب بالناس للفرجة، واحتاج منجك إلى نقل خيمته من برّ الروضة إلى برّ الجيزة، وأحضر المراكب الكبار وملأها بالحجارة، وغرّق منها عشرة مراكب في البحر، وردم التراب عليها إلى أن كمل نحو ثلثي العمل، فقويت زيادة الماء وبطل العمل. فلما كثرت الزيادة جمع منجك الحرافيش والأسرى، وردم على الجسر التراب وقوّاه، فتحامل الماء عن البرّ الغربيّ إلى البرّ الشرقيّ ومرّ من تحت الميدان السلطانيّ وزريبة قوصون إلى بولاق، فصار معظمه من هذه المواضع، وحصل الغرض بكون الماء بالقرب من القاهرة، وانتهى طول جسر منجك إلى مائتين وتسعين قصبة في عرض ثمان قصبات، وارتفاع أربع قصبات، والجسر الذي من الروضة إلى المقياس طوله مائتان وثلاثون قصبة، وعدّة ما رمي في هذا العمل من المراكب المشحونة بالحجر اثنا عشر ألف مركب سوى التراب. وغير ذلك، وكان ابتداء العمل في مستهل المحرّم وانتهاؤه في سلخ ربيع الآخر، ولم تنحصر الأموال التي جبيت بسببه، فإنه لم يبق بالقاهرة ومصر دار ولا فندق ولا حمّام ولا طاحون ولا وقف جامع أو مدرسة أو مسجد أو زاوية ولا رزقة ولا كنيسة إلّا وجبي منه، فكان الرجل الواحد يغرم العشرة دراهم، ومن خصه درهمان يحتاج إلى غرامة أمثالهما وأضعافهما، وناهيك بمال يجبى من الديار المصرية على هذا الحكم كثرة، وقد بقيت من جسر منجك هذا بقية هي معروفة اليوم في طرف الجزيرة الوسطى. جسر الخليلي: هذا الجسر فيما بين الروضة من طرفها البحريّ وبين جزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطى، تجاه الخور، وكان سبب عمله أن النيل لما قوي رمى تياره على برّ القاهرة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، وقام في عمل الجسر ليصير رمي التيار من جهة البرّ الغربيّ كما تقدّم ذكره، انطرد الماء عن برّ القاهرة وانكشف ما تحت الدور من منشأة المهرانيّ إلى منية الشيرج، وعمل منجك الجسر الذي مرّ ذكره ليعود الماء في طول السنة إلى برّ القاهرة، فلم يتهيأ كما كان أوّلا، وجرى في الخليج الذي احتفره تحت الدور من موردة الحلفاء بمصر إلى بولاق، وصار تجاه هذا الخليج جزيرة، والماء لا يزال ينطرد في كلّ سنة عن برّ القاهرة إلى أن استبدّ بتدبير مصر الأمير الكبير برقوق.

فلما دخلت سنة أربع وثمانين وسبعمائة، قصد الأمير جهاركس الخليليّ عمل جسر ليعود الماء إلى برّ القاهرة ويصير في طول السنة هناك، ويكثر النفع به فيرخص الماء المحمول في الروايا ويقرب مرسى المراكب من البلد وغير ذلك من وجوه النفع، فشرع في العمل أوّل شهر ربيع الأوّل، وأقام الخوازيق من خشب السنط، طول كلّ خازوق منها ثمانية أذرع، وجعلها صفين في طول ثلاثمائة قصبة وعرض عشر قصبات، وسمر فيها أفلاق النخل الممتدّة، وألقى بين الخوازيق ترابا كثيرا، وانتصب هناك بنفسه ومماليكه، ولم يجب من أحد مالا البتة، فانتهى عمله في أخريات شهر ربيع الآخر، وحفر في وسط البحر خليجا من الجسر إلى زريبة قوصون، وقال شعراء العصر في ذلك شعرا كثيرا، منهم عيسى بن حجاج: جسر الخليليّ المقرّ لقد رسا ... كالطود وسط النيل كيف يريد فإذا سألتم عنهما قلنا لكم ... ذا ثابت دهرا وذاك يزيد وقال الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار: شكت النيل أرضه ... للخليلي فأحصره ورأى الماء خائفا ... أن يطاها فجسره وقال: رأى الخليليّ قلب الماء حين طغى ... بنى على قلبه جسرا وحيّره رأى ترمّل أرضيه ووحدتها ... والنيل قد خاف يغشاها فجسّره ومع ذلك ما ازداد الماء إلّا انطرادا عن برّ القاهرة ومصر، حتى لقد انكشف بعد عمل هذا الجسر شيء كثير من الأراضي التي كانت عامرة بماء النيل، وبعد النيل عن القاهرة بعدا لم يعهد في الإسلام مثله قط. جسر شيبين: أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، بسبب أنّ أقليم الشرقية كانت له سدود كلها موقوفة على فتح بحر أبي المنجا، وفي بعض السنين تشرّق ناحية شيبين وناحية مرصفا وغير ذلك من النواحي التي أراضيها عالية، فشكا الأمير بشتاك من تشريق بعض بلاده التي في تلك النواحي، فركب السلطان من قلعة الجبل ومعه المهندسون وخولة البلاد، وكانت له معرفة بأمور العمائر، وحدس جيد، ونظر سعيد ورأي مصيب، فسار لكشف تلك النواحي حتى اتفق الرأي على عمل الجسر من عند شيبين القصر إلى بنها العسل، فوقع الشروع في عمله وجمع له من رجال البلاد اثني عشر ألف رجل، ومائتي قطعة جرّافة، وأقام فيه القناطر فصار محبسا لتلك البلاد، وإذا فتح بحر أبي المنجا امتلأت الاملاق بالماء، وأسند على هذا الجسر، وفي أوّل سنة عمل هذا الجسر أبطل فتح بحر أبي المنجا تلك السنة، فتح من جسر شيبين هذا، وحصل هذا الجسر نفع كبير

لبلاد العلو، واستبحر منه عدّة بلاد وطيئة، والعمل على هذا الجسر إلى يومنا هذا. والله أعلم. جسرا مصر والجيزة: اعلم أن الماء في القديم كان محيطا بجزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة طول السنة، وكان فيما بين ساحل مصر وبين الروضة جسر من خشب، وكذلك فيما بين الروضة وبرّ الجيزة جسر من خشب يمرّ عليهما الناس والدواب، من مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة، وكان هذان الجسران من مراكب مصطفة بعضها بحذاء بعض وهي موثقة، ومن فوق المراكب أخشاب ممتدّة فوقها تراب، وكان عرض الجسر ثلاث قصبات. قال القضاعيّ: وأما الجسر فقال بعضهم رأيت في كتاب، ذكر أنه خط أبي عبد الله بن فضالة، صفة الجسر وتعطيلة وإزالته، وأنه لم يزل قائما إلى أن قدم المأمون مصر، وكان غريبا، ثم أحدث المأمون هذا الجسر الموجود اليوم الذي تمرّ عليه المارّة وترجع من الجسر القديم، فبعد أن خرج المأمون عن البلد أتت ريح عاصفة فقطعت الجسر الغربيّ، فصدمت سفنه الجسر المحدث، فذهبا جميعا، فبطل الجسر القديم وأثبت الجديد، ومعالم الجسر القديم معروفة إلى هذه الغاية. وقال ابن زولاق في كتاب إتمام أمراء مصر: ولعشر خلون من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة سارت العساكر لقتال القائد جوهر، ونزلوا الجزيرة بالرجال والسلاح والعدّة، وضبطوا الجسرين، وذكر ما كان منهم إلى أن قال في عبور جوهر: أقبلت العساكر فعبرت الجسر أفواجا أفواجا، وأقبل جوهر في فرسانه إلى المناخ موضع القاهرة. وقال في كتاب سيرة المعز لدين الله: وفي مستهلّ رجب سنة أربع وستين وثلاثمائة صلح جسر الفسطاط، ومنع الناس من ركوبه، وكان قد أقام سنين معطلا. وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: وذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدّا من الفسطاط إلى الجزيرة، وهو غير طويل، ومن الجانب الآخر إلى البرّ الغربيّ، المعروف ببرّ الجيزة، جسر آخر من الجزيرة إليه، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب، لأنّ هذين الجسرين قد احترما بحصولهما في حيز قلعة السلطان، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكبا احتراما لموضع السلطان، يعني الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان رأس هذا الجسر الذي ذكره ابن سعيد حيث المدرسة الخرّوبية، من إنشاء البدر أحمد بن محمد الخرّوبيّ التاجر، على ساحل مصر قبليّ خط دار النحاس، وما برح هذا الجسر إلى أن خرّب الملك المعز ايبك التركمانيّ قلعة الروضة، بعد سنة ثمان وأربعين وستمائة، فأهمل. ثم عمره الملك الظاهر ركن الدين بيبرس على المراكب، وعمله من ساحل مصر إلى الروضة، ومن الروضة إلى الجيزة، لأجل عبور العسكر عليه لما بلغه حركة الفرنج، فعمل ذلك.

وقد وجد بخط المصنف رحمه الله في أصله هنا ما صورته

الجسر من قليوب إلى دمياط: هذا الجسر أنشأه السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوريّ، المعروف بالجاشنكير، في أخريات سنة ثمان وسبعمائة، وكان من خبره: أنه ورد القصاد بموافقة صاحب قبرس عدّة من ملوك الفرنج على غزو دمياط، وأنهم أخذوا ستين قطعة، فاجتمع الأمراء واتفقوا على إنشاء جسر من القاهرة إلى دمياط خوفا من حركة الفرنج في أيام النيل، فيتعذر الوصول إلى دمياط، وعين لعمل ذلك الأمير أقوش الورميّ الحساميّ، وكتب الأمراء إلى بلادهم بخروج الرجال والأبقار، ورسم للولاة بمساعدة أقوش، وأن يخرج كلّ وال إلى العمل برجال عمله وأبقارهم، فما وصل أقوش إلى ناحية فارسكور حتى وجد ولاة الأعمال قد حضروا بالرجال والأبقار، فرتب الأمور. فعمل فيه ثلاثمائة جرّافة بستمائة رأس بقر، وثلاثين ألف رجل، وأقام أقوش الحرمة، وكان عبوسا قليل الكلام مهابا إلى الغاية، فجدّ الناس في العمل لكثرة من ضربه بالمقارع، أو خزم أنفه، أو قطع أذنه، أو أخرق به، إلى أن فرغ في نحو شهر واحد، فجاء من قليوب إلى دمياط مسافة يومين في عرض أربع قصبات من أعلاه، وست قصبات من أسفله، ومشى عليه ستة رؤوس من الخيل صفا واحدا، فعمّ النفع به وسلك عليه المسافرون بعد ما كان يتعذر السلوك أيام النيل، لعموم الماء الأراضي. والله تعالى أعلم. وقد وجد بخط المصنف رحمه الله في أصله هنا ما صورته أمراء الغرب ببيروت بيت حشمة ومكارم، ومقامهم بجبال الغرب من بلاد بيروت، ولهم خدم على الناس وتفضيل، وهم ينسبون إلى الحسين بن إسحاق بن محمد التنوخيّ الذي مدحه أبو الطيب المتنبي بقوله: سدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... وقاربها كيزانها «1» والنّمارق» ثم كان كرامة بن بجير بن عليّ بن إبراهيم بن الحسين بن إسحاق بن محمد التنوخيّ، فهاجر إلى الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكي، فأقطعه الغرب وما معه بإمرته، فسمّي أمير الغرب، وكان منشوره بخط العماد الأصفهانيّ الكاتب، فتحضر الأمير كرامة بعد البداوة، وسكن حصن بلجمور من نواحي إقطاعه، ويعلو على تل أعمال بغير بناء، ثم أنشأ أولاده هناك حصنا وما زالوا به، وكان كرامة ثقيلا على صاحب بيروت، وذلك أيام الفرنج، فأراد أخذه مرارا فلم يجد إليه سبيلا، فأخذ في الحيلة عليه، وهادن أولاده وسألهم حتى نزلوا إلى الساحل وألفوا الصيد بالطير وغيره، فراسلهم حتى صار يصطاد معهم وأكرمهم وحباهم وكساهم، وما زال يستدرجهم مرّة بعد، مرّة، ثم أخرج ابنه معه وهو شاب وقال:

قد عزمت على زواجه، ثم دعا ملوك الساحل وأولاد كرامة الثلاثة، فأتوه وتأخر أصغر أولاد كرامة مع أمّه بالحصن في عدّة قليلة، فامتلأ الساحل بالشواني والمدينة بالفرنج، وتلقوهم بالشمع والأغاني، فلما صاروا في القلعة وجلسوا مع الملوك غدر بهم وأمسكهم وأمسك غلمانهم وغرّقهم، وركب بجموعه ليلا إلى الحصن، فأجفل الفلاحون والحريم والصبيان إلى الجبال والشعر والكوف، وبلغ من بالحصن أن أولاد كرامة الثلاثة قد غرقوا، ففتحوه وخرجت أمّهم ومعها ابنها حجي بن كرامة وعمره سبع سنين، ولم يبق من بينهم سواه، فأدرك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وتوجه إليه، لما فتح صيدا وبيروت، وباس رجله في ركابه، فلمس بيده رأسه وقال له: أخذنا نارك، طيّب قلبك، انت مكان أبيك. وأمر له بكتابة أملاك أبيه بستين فارسا. فلما كانت أيام المنصور قلاون، ذكر أولاد تغلب بن مسعر الشجاعيّ أن بيد الخليقة أملا كاعظيمة بغير استحقاق، ومن جملتهم أمراء الغرب، فحملوا إلى مصر، ورسم السلطان باقطاع أملاك الجبلية مع بلاد طرابلس لأمرائها وجندها، فأقطعت لعشرين فارسا من طرابلس، فلما كانت أيام الأشرف خليل بن قلاون، قدموا مصر وسألوا أن يخدموا على أملاكهم بالعدّة، فرسم لهم وأن يزيدوها عشرة أرماح، فلما كان الروك الناصريّ ونيابة الأمير تنكر بالشام، وولاية علاء الدين بن سعيد، كشف تلك الجهات، رسم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون أن يستمرّ عليها بستين فارسا، فاستمرّت على ذلك. ثم كان منهم الأمير ناصر الدين الحسين بن خضر بن محمد بن حجي بن كرامة بن بجير بن عليّ، المعروف بابن أمير الغرب، فكثرت مكارمه وإحسانه وخدمته كلّ من يتوجه إلى تلك الناحية، وكانت إقامته بقرية أعبية بالجبل، وله دار حسنة في بيروت، واتصلت خدمته إلى كل غادورائح، وباد الأكابر والأعيان مع رياسة كبيرة ومعرفة عدّة صنائع يتقنها، وكتابة جيدة، وترسل عدّة قصائد، ومولده في محرّم سنة ثمان وستين وستمائة، وتوفي للنصف من شوال سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. انتهى. ووجد بخطه أيضا من أخبار اليمن ما مثاله: كان ابتداء دولة بني زياد، أن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن زياد سلمه المأمون مع عدّة من بني أمية إلى الفضل بن سهل بن ذي الرياستين، فورد على المأمون اختلال اليمن، فثنى الفضل على محمد هذا، فبعثه المأمون أميرا على اليمن، فحج ومضى إلى اليمن، ونتج بها من بعد محاربته العرب، وملك اليمن وبنى مدينة زبيد في سنة ثلاث ومائتين، وبعث مولاه جعفرا بهدية جليلة إلى المأمون في سنة خمس، وعاد إليه في سنة ست ومعه من جهة المأمون ألفا فارس، فقوي ابن زياد وملك جميع اليمن، وقلد جعفر الجبال، وبنى بها مدينة الدمجرة، فظهرت كفاءة جعفر لكثرة دهائه، فقتله ابن زياد، ثم مات محمد بن زياد، فملك بعده ابنه إبراهيم، ثم ملك بعده ابنه أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم، وطالت مدّته ومات سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وترك طفلا

اسمه زياد، فأقيم بعده وكفلته أخته هند ابنة إسحاق، وتولى معها رشد عبد أبي الجيش حتى مات، فولى بعد رشد عبده حسين بن سلامة، وكان عفيفا، فوزر لهند ولأخيها حتى ماتا، ثم انتقل الملك إلى طفل من آل زياد، وقام بأمره عمته وعبد الحسين بن سلامة اسمه مرجان، وكان لمرجان عبدان قد تغلبا على أمره يقال لأحدهما قيس وللآخر نجاح، فتنافسا على الوزارة، وكان قيس عسوفا، ونجاح رقيقا، وكان مرجان سيدهما يميل إلى قيس، وعمة الطفل تميل إلى نجاح، فشكا قيس ذلك إلى مرجان، فقبض على الملك الطفل إبراهيم وعلى عمته تملك، فبنى قيس عليهما جدارا، فكان إبراهيم آخر ملوك اليمن من آل زياد، وكان القبض عليه وعلى عمته سنة سبع وأربعمائة، فكانت مدّة بني زياد مائتي سنة وأربعا وستين سنة، فعظم قتل إبراهيم وعمته تملك على نجاح وجمع الناس، وحارب قيسا بزبيد حتى قتل قيس، وملك نجاح المدينة في ذي القعدة سنة اثنتي عشرة، وقال لسيده مرجان: ما فعلت بمواليك وموالينا؟ فقال: هم في ذلك الجدار، فأخرجهما وصلى عليهما ودفنهما وبنى عليهما مسجدا، وجعل سيده مرجان موضعهما في الجدار، ووضع معه جثة قيس وبنى عليهما الجدار، واستبدّ نجاح بمملكة اليمن، وركب بالمظلة وضربت السكة باسمه، ونجاح مولى مرجان، ومرجان مولى حسين بن سلامة، وحسين مولى رشد، ورشد مولى بني زياد، ولم يزل نجاح ملكا حتى مات سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، سمته جارية أهداها إليه الصليحيّ وترك من الأولاد عدّة. فملك منهم سعيد الأحوال وإخوته عدّة سنين حتى استولى عليهم الصليحيّ فهربوا إلى دهلك، ثم قدم منهم جياش بن نجاح إلى زبيد متنكرا، وأخذ منها وديعة وعاد إلى دهلك، فقدمها أخوه سعيد الأحوق بعد ذلك واختفى بها، واستدعى أخاه جياشا وسارا في سبعين رجلا يوم التاسع من ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين، وقصدوا الصليحيّ وقد سار إلى الحج، فوافوه عند بئر أمّ معبد وقتلوه في ثاني عشرى ذي القعدة المذكور، وقتل معه ابنه عبد الله، واحتز سعيد رأسيهما، واحتاط على امرأته أسماء بنت شهاب، وعاد إلى زبيد ومعه أخوه جياش والرأسان بين أيديهما على هودج أسماء، وملك اليمن، فجمع المكرم ابن أسماء في سنة خمس وسبعين وسار من الجبال إلى زبيد وقاتل سعيدا، ففرّ سعيد، وملك المكرم واسمه أحمد، وأنزل رأس الصليحيّ وأخيه ودفنهما، وولي زبيد خاله أسعد بن شهاب، وماتت أسماء أمّه بعد ذلك في صنعاء سنة سبع وسبعين. ثم عاد ابنا نجاح إلى زبيد وملكاها في سنة تسع وسبعين، ففرّ أسعد بن سهاب، ثم غلبهما أحمد المكرم بن عليّ الصليحيّ، وقتل سعيد بن نجاح في سنة إحدى وثمانين، وفرّ أخوه جياش إلى الهند، ثم عاد وملك زبيد في سنة إحدى وثمانين المذكورة، فولدت له جاريته الهندية ابنه الفاتك بن جياش، وبقي المكرم في الجبال يغير على بلاد جياش، وجياش يملك تهامة حتى مات آخر سنة ثمان وتسعين، فملك بعده ابنه فاتك، وخالف عليه

أخوه إبراهيم، ومات فاتك سنة ثلاث وخمسمائة، فملك بعده ابنه منصور بن فاتك، وهو صغير فثار عليه عمه إبراهيم فلم يظفر، وثار بزبيد عبد الواحد بن جياش وملكها، فسار إليه عبد فاتك واستعادها، ثم مات منصور وملك بعده ابنه فاتك بن منصور، ثم ملك بعده ابن عمه فاتك بن محمد بن فاتك بن جياش في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، حتى قتل سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وهو آخر ملوك بني نجاح، فتغلب على اليمن عليّ بن مهديّ في سنة أربع وخمسين. وأما الصليحيّ: فإنه عليّ بن القاضي محمد بن علي، كان أبوه في طاعته أربعون ألفا فأخذ ابنه التشيع عن عامر بن عبد الله الرواحيّ، أحد دعاة المستضيء، وصحبه حتى مات، وقد أسند إليه أمر الدعوة، فقام بها وصار دليلا لحاج اليمن عدّة سنين، ثم ترك الدلالة في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وصعد رأس جبل مسار في ستين رجلا، وجمع حتى ملك اليمن في سنة خمس وخمسين، وأقام على زبيد أسعد بن شهاب بن عليّ الصليحيّ، وهو أخو زوجته وابن عمه، ثم انه حج فقتله بنو نجاح في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين، واستقرّت التهائم لبني نجاح، واستقرّت صنعاء لأحمد بن عليّ الصليحيّ المقتول، وتلقب بالملك المكرم. ثم جمع وقصد سعيد بن نجاح بزبيد وقاتله وهزمه إلى دهلك، وملك زبيد في سنة خمس وسبعين، فعاد سعيد وملك زبيد في سنة تسع وسبعين، فأتاه المكرم فقتله في سنة إحدى وثمانين، فملك جياش أخو سعيد ومات المكرم بصنعاء سنة أربعة وثمانين، فملك بعده أبو حمير سبأ بن أحمد المظفر بن عليّ الصليحيّ في سنة أربع وثمانين حتى مات سنة خمس وتسعين، وهو آخر الصليحيين، فملك بعده عليّ بن إبراهيم بن نجيب الدولة، فقدم من مصر إلى جبال اليمن في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقام بأمر الدعوة والمملكة التي كانت بيد سبأ، ثم قبض عليه بأمر الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطميّ بعد سنة عشرين وخمسمائة، وانتقل الملك والدعوة إلى الزريع بن عباس بن المكرم، وآل الزريع من إل عدن، وهم من حمدان، ثم من جشم، وبنوا المكرم يعرفون بآل الذنب. وكانت عدن للزريع بن عباس وأحمد بن مسعود بن المكرم، فقتلا على زبيد، وولي بعدهما ولداهما أبو السعود بن زريع وأبو الغارات بن مسعود، ثم استولى على الملك والدعوة سبأ بن أبي السعود بن زريع حتى مات سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، فولي بعده ولده الأعز عليّ بن سبأ، وكان مقامه بالرمادة، فمات بالسل، وملك أخوه المعظم محمد في سنة ثمان وثلاثين. وولي من الصليحيين أيضا المملكة السيدة سنة بنت أحمد بن جعفر بن موسى الصليحيّ، زوجة أحمد المكرم، ولقبت بالحرّز، ومولدها سنة أربعين وأربعمائة، وربتها أسماء بنت شهاب، وتزوّجها الملك المكرم أحمد بن أسماء، وهو ابن علي الصليحيّ، سنة إحدى وستين، وولاها الأمر في حياته، فقامت بتدبير المملكة والحروب، وأقبل زوجها على لذاته حتى مات، وتولى ابن عمه سبأ، فاستمرّت في الملك حتى مات سبأ، وتولى ابن

نجيب الدولة حتى ماتت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وشاركه في الملك المفضل أبو البركات بن الوليد الحميريّ، وكان يحكم بين يدي الملكة الحرّة، وهي من وراء الحجاب، ومات المفضل في رمضان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وملك بلاده ابنه الملك المنصور، ومنصور بن المفضل، حتى ابتاع منه محمد بن سبأ بن أبي السعود معاقل الصليحيين، وعدّتها ثمانية وعشرون حصنا بمائة ألف دينار، في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وبقي المنصور بعد حتى مات بعد ما ملك نحو ثمانين سنة. وأما عليّ بن مهديّ: فإنه حميريّ من سواحل زبيد، كان أبوه مهديّ رجلا صالحا، ونشأ ابنه على طريقة حسنة، وحج ووعظ، وكان فصيحا حسن الصوت عالما بالتفسير وغيره، يتحدّث بالمغيبات فتكون كما يقول، وله عدّة أتباع كثيرة وجموع عديدة، ثم قصد الجبال وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، ثم عاد إلى أملاكه ووعظ، ثم عاد إلى الجبال ودعا إلى نفسه فأجابه بطن من خولان فسماهم الأنصاري، وسمّي من صعد معه من تهامة المهاجرين، وولّى على خولان سبأ، وعلى المهاجرين رجلا آخر، وسمّي كلا منهما شيخ الإسلام، وجعلهما نقيبين على طائفتيهما فلا يخاطبه أحد غيرهما وهما يوصلان كلامه إلى من تحت أيديهما، وأخذ يغادي الغارات ويراوحها على التهائم حتى أجلى البوادي، ثم حاصر زبيد حتى قتل فاتك بن محمد آخر ملوك بني نجاح، فحارب ابن مهديّ عبد فاتك حتى غلبهم وملك زبيد يوم الجمعة رابع عشر رجب سنة أربع وخمسين وخمسمائة، فبقي على الملك شهرين وأحدا وعشرين يوما ومات. فملك بعده ابنه مهديّ ثم عبد الغنيّ بن مهديّ، وخرجت المملكة عن عبد الغنيّ إلى أخيه عبد الله، ثم عادت إلى عبد الغنيّ، واستقرّ حتى سار إليه توران شاه بن أيوب من مصر في سنة تسع وستين وخمسمائة وفتح اليمن وأسر عبد الغنيّ، وهو آخر ملوك بني مهديّ، يكفر بالمعاصي ويقتل من يخالف اعتقاده ويستبيح وطء نسائهم واسترقاق أولادهم، وكان حنفي الفروع، ولأصحابه فيه غلوّ زائد، ومن مذهبه قتل من شرب الخمر ومن سمع الغناء. ثم ملك توران شاه بن أيوب عدن من ياسر، وملك بلاد اليمن كلها واستقرّت في ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعاد شمس الدولة توازن شاه بن أيوب إلى مصر في شعبان سنة ست وسبعين، واستخلف على عدم عز الدين عثمان بن الزنجيلي، وعلى زبيد حطان بن كليل بن منقد الكافي، فمات شمس الدولة بالإسكندرية، فاختلف نوّابه، فبعث السلطان صلاح الدين يوسف جيشا فاستولى على اليمن، ثم بعث في سنة ثمان وسبعين أخاه سيف الإسلام ظهير الدين طفتكين بن أيوب، فقدم إليها وقبض على حطان بن كليل بن منقد وأخذ أمواله وفيها سبعون غلاف زردية مملوءة ذهبا عينا، وسجنه فكان آخر العهد به، ونجا عثمان بن الزنجيليّ بأمواله إلى الشام فظفر بها سيف الإسلام، وصفت له

مملكة اليمن حتى مات بها في شوال سنة ثلاث وتسعين. فأقيم بعده ابنه الملك المعز اسماعيل بن طفتكين بن أيوب، فجعظ وادّعى أنه أمويّ، وخطب لنفسه بالخلافة وعمل طول كمه عشرين ذراعا، فثار عليه مماليكه وقتلوه في سنة تسع وتسعين، وأقاموا بعده أخاه الناصر، ومات بعد أربع سنين فقام من بعده زوج أمّه غازي بن حزيل أحد الأمراء، فقتله جماعة من العرب، وبقي اليمن بغير سلطان، فتغلبت أمّ الناصر على زبيد، فقدم سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن أيوب إلى اليمن، فعبر يحمل ركوته على كتفه فملكته أم الناصر البلاد وتزوّجت به، فاشتدّ ظلمه وعتوّه إلى أن قدم الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من مصر في سنة اثنتي عشرة وستمائة، فقبض عليه وحمله إلى مصر فأجرى له الكامل ما يقوم به إلى أن استشهد على المنصورة سنة سبع وأربعين وستمائة، وأقام المسعود باليمن وحج ملك مكة أيضا في شهر ربيع الأوّل سنة عشرين وستمائة، وعاد إلى اليمن ثم خرج عنها واستخلف عليها استاداره عليّ بن رسول، فمات بمكة سنة ست وعشرين، فقام عليّ بن رسول على ملك اليمن حتى مات في سنة تسع وعشرين، واستقرّ عوضه ابنه عمر بن عليّ بن رسول وتلقب بالمنصور حتى قتل سنة ثمان وأربعين، واستقرّ بعده ابنه المظفر يوسف بن عمر بن عليّ بن رسول وصفا له اليمن وطالت أيامه انتهى ما ذكره المصنف بخطه في تاريخه، عفا الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مقرّه ومثواه. ووجد بخطه أيضا ما مثاله: السلطان محمد بن طغلق شاه، وطغلق يلقب غياث الدين، وهو مملوك السلطان علاء الدين محمود بن شهاب الدين مسعود ملك الهند، مقرّ ملكه مدينة دهلي وجميع البلاد برّا وبحرا بيده، إلّا الجزائر المغلغلة في البحر، وأما الساحل فلم يبق منه قيد شبر إلا وهو بيده، وأوّل ما فتح مملكة تكنك، عدّة قراها مائة ألف قرية وتسعمائة قرية، فتح بلاد حاجنكيز، وبها سبعون مدينة جليلة كلها بنادر على البحر، فتح بلاد لنكوتي وهي كرسيّ تسعة ملوك، ثم فتح بلاد دواكير وبها أربع وثمانون قلعة كلها جليلات المقدار، وبها ألف ألف قرية ومائتا ألف قرية، ثم فتح بلاد ورسمند وكان بها ستة ملوك، ثم فتح بلاد المعبر وهم أقليم جليل له سبعون مدينة بنادر على البحر، وجملة ما بيده ثلاثة وعشرون إقليما، وهي: أقليم دهلي، وأقليم الدواكير، وإقليم الملثان، وإقليم كهران، وإقليم سامان، وإقليم سوستان، وإقليم وجا، وإقليم هاسي، وإقليم سرسيني، وإقليم المعبر، وإقليم تكنك كحرات، وإقليم بداون، وإقليبم عوض، وإقليم التيوج، وإقليم لنكوتي، وإقليم بهار، وإقليك كره، وإقليم ملاوه، وإقليم بهادر، وإقليم كلافور، وإقليم حاجنكيز، وإقليم بليخ، وإقليم ورسمند. وهذه الأقاليم تشتمل على ألف مدينة، ومائتي مدينة دهلي دور عمرانها أربعون ميلا، وجملة ما يطلق عليه اسم دهلي إحدى وعشرون مدينة، وفي دهلي ألف مدرسة كلها للحنفية إلّا واحدة فإنها للشافعية، ونحو سبعين

مارستان، وفي بلادها من الخوانك والربط نحو ألفين، وبها جامع ارتفاع مئذنته ستمائة ذراع في الهواء، وللسلطان خدمة مرّتين في كلّ يوم بكرة وبعد العصر، ورتب الأمراء على هذه الأنواع، أعلاهم قدرا الخانات ثم الملوك ثم الأمراء ثم الأسفهسلارية ثم اجلند، وفي خدمته ثمانون خانا، وعسكره تسعمائة ألف فارس، وله ثلاثة آلاف فيل تلبس في الحروب البرك اصطونات الحديد المذهب، وتلبس في أيام السلم جلال الديباج وأنواع الحرير وتزين بالقصور والأسرّة المصفحة ويشدّ عليها بروج الخشب يركب فيها الرجال للحرب، فيكون على الفيل من عشرة رجال إلى ستة، وله عشرون ألف مملوك أتراك، وعشرة آلاف خادم خصيّ، وألف خازندار، وألف مشبقدار، ومائتا ألف عبد ركابية تلبس السلاح وتمشي بركابه وتقاتل رجالة بين يديه، والاسفهسلارية لا يؤهل منهم أحد لقرب السلطان، وإنما يكون منهم نوع الولاة، والخان يكون له عشرة آلاف فارس، وللملك ألف، وللأمير مائة فارس، وللاسفسلار دون ذلك، ولكلّ خان عبرة لكّين كلّ لك مائة ألف تنكة، كلّ تنكة ثمانية دراهم، ولكلّ ملك من ستين ألف تنكة إلى خمسين ألف تنكة، ولكل أمير من أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة، ولكلّ اسفهسلار من عشرين ألف تنكة إلى ما حولها، ولكلّ جنديّ من عشرة آلاف تنكة إلى ألف تنكة، ولكلّ مملوك من خمسة آلاف تنكة إلى ألف تنكة، سوى طعامهم وكساويهم وعليقهم، ولكلّ عبد في الشهر منان من الحنطة والأرز، في كلّ يوم ثلاثة أستار لحم وما يحتاج إليه، وفي كلّ شهر عشر تنكات بيضاء، وفي كلّ سنة أربع كساو. وللسلطان دار طراز فيها أربعة آلاف قزّاز لعمل أنواع القماش، سوى ما يحمل له من الصين والعراق والإسكندرية، ويفرّق كلّ سنة مائتي ألف كسوة كاملة، في فصل الربيع مائة ألف، وفي فصل الخريف مائة ألف، ففي الربيع غالب الكسوة من عمل الإسكندرية، وفي الخريف كلها حرير من عمل دار الطراز بدهلي وقماش الصين والعراق، ويفرّق على الخوانك والربط الكساوي، وله أربعة آلاف زركشيّ تعمل الزركش، ويفرّق كلّ سنة عشرة آلاف فرس مسرجة وغير مسرجة سوى ما يعطي الأجناد من البراذين، فإنه بلا حساب يعطي جشارات، ومع هذا فالخيل عنده غالية مطلوبة، وللسلطان نائب من الخانات يسمى ابريت، اقطاعه قدر إقليم بحر العراق، ووزير إقطاعه كذلك، وله أربعة نوّاب مسمى كلّ واحد منهم من أربعين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة، وله أربعة ربيسان أي كتاب سرّ، لكلّ واحد منهم ثلاثمائة كاتب، ولكل كاتب إقليم عشرة آلاف تنكة، ولصدر جهان وهو قاضي القضاة قرى يتحصل منها نحو ستين ألف تنكة، ولصدر الإسلام وهو أكبر نوّاب القاضي، ولشيخ الإسلام وهو شيخ الشيوخ مثل ذلك، وللمحتسب ثمانية آلاف تنكة، وله ألف طبيب ومائتا طبيب، وعشرة آلاف بزدار تركب الخيل وتحمل طيور الصيد، وله ثلاثة آلاف سوّاق لتحصيل الصيد، وخمسمائة نديم، وألفان ومائتان للملاهي سوى مماليكه، وهم ألف مملوك، وألف شاعر باللغات العربية والفارسية والهندية، يجري عليهم ديوانه،

ومتى غنى أحد منهم لغيره قتله، ولكلّ نديم قريتان أو قرية، ومن أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة، سوى الخلع والكساوي والافتقادات، ويمدّ في وقت كلّ خدمة في المرتين من كلّ يوم سماط يأكل منه عشرون ألفا مثل الخانات والملوك والأمراء والاسفهسلارية وأعيان الأجناد، وله طعام خاص، يأكل معه الفقهاء وعدّتهم مائتا فقيه في الغداء والعشاء، فيأكلون ويتباحثون بين يديه، ويذبح في مطابخه كلّ يوم ألفان وخمسمائة رأس من البقر، وألفا رأس من الغنم، سوى الخيل وأنواع الطير، ولا يحضر مجلسه من الجند إلّا الأعيان، ومن دعته ضرورة إلى الحضور، والندماء وأرباب الأغاني يحضرون بالنوبة، وكذلك الربيسان والأطباء ونحوهم لكلّ طائفة نوبة تحضر فيها للخدمة، والشعراء تحضر في العيدين والمواسم وأوّل شهر رمضان، وإذا تجدّد نصر على عدوّ أو فتوح ونحو ذلك مما يهنّى به السلطان. وأمور الجند والعامّة مرجعها إلى ابريت، وأمر القضاة كلهم مرجعه إلى صدر جهان، وأمر الفقهاء إلى شيخ الإسلام، وأمر الواردين والوافدين والأدباء والشعراء إلى الربيسان، وهم كتاب السرّ. وجهز هذا السلطان مرّة أحد كتاب سرّه إلى السلطان أبي سعيد رسولا، وبعث معه ألف ألف تنكة ليتصدّق بها في مشاهد العراق، وخمسمائة فرس، فقدم بغداد وقد مات أبو سعيد، وكان هذا السلطان ترعد الفرائض لمهابته وتزلزل الأرض لموكبه، يجلس بنفسه لإنصاف رعيته ولقراءة القصص عليه جلوسا عامّا، ولا يدخل أحد عليه ومعه سلاح ولو السكين ويجلس، وعنده سلاح كامل لا يفارقه أبدا، وإذا ركب في الحرب فلا يمكن وصف هيبته، وله أعلام سود في أوساطها تبابين من ذهب تسير عن يمينه، وأعلام حمر فيها تبابين من ذهب تسير عن يساره، ومعه مائتا جمل نقارات، وأربعون جملا كوسات كبارا، وعشرون بوقا، وعشرة صنوج، ويدق له خمس نوب كلّ يوم، وإذا خرج إلى الصيد كان في جف وعدّة من معه زيادة على مائة ألف فارس ومائتي فيل وأربعة قصور خشب على ثمانمائة جمل، كلّ قصر منها على مائتي جمل كلها ملبسة حريرا مذهبا، كلّ قصر طبقتان، سوى الخيم والجركاوات، وإذا انتقل من مكان إلى مكان للنزهة يكون معه نحو ثلاثين ألف فارس وألف جنيب مسرجة ملجمة بالذهب المرصع بالجوهر والياقوت، وإذا خرج في قصره من موضع إلى آخر يمرّ راكبا وعلى رأسه الحبر، والسلاح دارية وراءه بأيديهم السلاح، وحوله نحو اثنا عشر ألف مملوك مشاة، لا يركب منهم إلّا حامل الحبر والسلاح دارية والجمدارية حملة القماش، وإذا خرج للحرب أو سفر طويل حمل على رأسه سبع حبورة، منها اثنان مرصعان ليس لهما قيمة، وله فخامة عظيمة وقوانين وأوضاع جليلة، والخانات والملوك والأمراء لا يركب أحد منهم في السفر والحضر إلّا بالأعلام، وأكثر ما يحمل الخان سبعة أعلام، وأكثر ما يحمل الأمير ثلاثة، وأكثر ما يجرّه الخان في الحضر عشرة جنائب، وأكثر ما يجرّ الأمير في الحضر جنيبان، وأما في السفر فحسبما يختار.

وكان للسلطان برّ وإحسان، وفيه تواضع، ولقد مات عنده رجل فقير فشهد جنازته وحمل نعشه على عنقه، وكان يحفظ القرآن العزيز العظيم والهداية في فقه الحنفية، ويجيد علم المعقول، ويكتب خطا حسنا، ولذته في الرياضة وتأديب النفس، ويقول الشعر ويباحث العلماء ويؤاخذ الشعراء ويأخذ بأطراف الكلام على كلّ من حضر على كثرة العلماء عنده، والعلماء تحضر عنده وتفطر في رمضان معه بتعيين صدر جهان لهم في كلّ ليلة، وكان لا يترخص في محذور ولا يقرّ على منكر ولا يتجاسر أحد في بلاده أن يتظاهر بمحرّم، وكان يشدّد في الخمر ويبالغ في العقوبة على من يتعاطاه من المقرّبين منه، وعاقب بعض أكابر الخانات على شرب الخمر وقبض عليه وأخذ أمواله وجملتها أربعمائة ألف ألف مثقال وسبعة وثلاثون ألف ألف مثقال ذهبا أحمر، زنتها ألف وسبعمائة قنطار بالمصريّ، وله وجوه برّ كثيرة منها: أنه يتصدّق في كلّ يوم بلكّين، عنهما من نقد مصر ألف وستمائة ألف درهم، وربما بلغت صدقته في يوم واحد خمسين لكّا، ويتصدّق عند كلّ رؤية هلال شهر بلكين دائما، وعليه راتب لأربعين ألف فقير، كلّ واحد منهم درهم في كلّ يوم، وخمسة أرطال برّ وأرز، وقرّر ألف فقيه في مكاتب لتعليم الأطفال القرآن، وأجرى عليهم الأرزاق، وكان لا يدعي بدهلي سائلا بل يجري على الجميع الأرزاق، ويبالغ في الإحسان إلى الغرباء، وقدم عليه رسول من أبي سعيد مرّة بالسلام والتودّد، فخلع عليه وأعطاه حملا من المال، فلما أراد الانصراف أمره أن يدخل الخزانة ويأخذ ما يختار، فلم يأخذ غير مصحف، فسأله عن ذلك فقال: قد أغناني السلطان بفضله، ولم أجد أشرف من كتاب الله، فزاد إعجابه به وأعطاه مالا جملته ثمانمائة تومان، والتومان عشرة آلاف دينار، وكلّ دينار ستة دراهم، تكون جملة ذلك ثمانية آلاف ألف دينار، عنها ثمانية وأربعون ألف ألف درهم. وقصده شخص من بلاد فارس وقدّم له كتبا في الحكمة منها كتاب الشفاء لابن سينا، فأعطاه جوهرا بعشرين ألف مثقال من الذهب، وقصده آخر من بخارى بحملي بطيخ أصفر فتلف غالبه حتى لم يبق منه إلا اثنتان وعشرون بطيخة، فأعطاه ثلاثة آلاف مثقال ذهبا، وكان قد التزم أن لا ينطق في إطلاقاته بأقل من ثلاثة آلاف مثقال ذهبا، وبعث ثلاث لكوك ذهبا إلى بلاد ما وراء النهر ليفرّق على العلماء لكّ، وعلى الفقراء لكّ، ويبتاع له حوائج بلك، وبعث للبرهان الضياء عزه جي شيخ سمرقند بأربعين ألف تنكة، وكان لا يفارق العلماء سفرا وحضرا، ومنار الشرع في أيامه قائم، والجهاد مستمرّ، فبلغ مبلغا عظيما في إعلاء كلمة الإيمان، فنشر الإسلام في تلك الأقطار وهدم بيوت النيران وكسر الندود والأصنام واتصل به الإسلام إلى أقصى الشرق، وعمر الجوامع والمساجد، وأبطل التثويب في الآذان ولم يخل له يوم من الأيام من بيع آلاف من الرقيق لكثرة السبي، حتى أن الجارية لا يتعدّى ثمنها بمدينة دهلي ثمان تنكات، والسرّية خمس عشرة تنكة، والعبد المراهق أربعة دراهم، ومع رخص قيمة الرقيق فإنه تبلغ قيمة الجارية الهندية عشرين ألف تنكة، لحسنها ولطف خلقها،

وحفظها القرآن وكتابتها الخط، وروايتها الأشعار والأخبار، وجودة غنائها وضربها بالعود ولعبها بالشطرنج، وهن يتفاخرن فتقول الواحدة آخذ قلب سيدي في ثلاثة أيام، فتقول الأخرى أنا آخذ قلبه في يوم، فتقول الأخرى أنا أخذ قلبه في ساعة، فتقول الأخرى أنا آخذ قلبه في طرفة عين، وكان ينعم على جميع من في خدمته من أرباب السيوف والأقلام بكلّ جليل من البلاد والأموال والجواهر والخيول المجللة بالذهب وغير ذلك، إلّا الفيلة فإنه لا يشاركه فيها أحد، وللثلاثة آلاف فيل راتب عظيم، فأكثرها مؤنة له في كلّ يوم أربعون رطلا من أرز، وستون رطلا من شعير، وعشرون رطلا من سمن، ونصف حمل من حشيش، وقيّمها جليل القدر، إقطاعه مثل إقليم العراق، وإذا وقف السلطان للحرب كان أهل العلم حوله والرماة قدّامه وخلفه، وأمامه الفيلة كما تقدّم عليها الفيالة، وقدّامها العبيد المشاة، والخيل في الميمنة والميسرة، فتهيأ له من النصر ما لا تهيأ لأحد ممن تقدّمه، ففتح الممالك وهدم قواعد الكفار ومحا صور معابدهم، وأبطل فخرهم، وكان يجلس كلّ يوم ثلاثاء جلوسا عامّا على تخت مصفح بالذهب، وعلى رأسه حبر في موكب عظيم، وينادي مناديه من له شكوى في شخص، فينظر في ظلامات الناس، وكان لا يوجد بدهلي في أيامه خمر البتة. وأوّل من ملك مدينة دهلي قطب الدين أيبك، وذلك أن شهاب الدين محمد بن سالم بن الحسين، أحد الملوك الغورية، فتح الهند بعد عدّة حروب، وأقطع مملوكه أيبك هذا مدينة دهلي، فبعث أيبك عسكرا عليه محمد بن بختيار، فأخذ إلى تخوم الصين، وذلك كله في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، ثم ولي بعده ايتمش بن أيبك أربعين سنة، فقام بعده ابنه علاء الدين عليّ بن ايتمش بن أيبك، ثم أخوه معز الدين بن أيتمش، ثم أخته رضية خاتون فأقامت ثلاث سنين، ثم أخوها ناصر الدين بن ايتمش فأقام أربعا وعشرين سنة، ثم قام بعده مملوكه غياث الدين بليان سبعا وعشرين سنة، ثم بعده معز الدين نيابا خمس سنين، ثم ابنه شمس الدين كيمورس سبعة أشهر، ثم خرج الملك عن بيت السلطان شمس الدين ايتمش، وقويت التركمان العلجية وكانوا أمراء يقال للواحد منهم خان، واستبدّ كبيرهم جلال الدين فيروز سبع سنين، ثم ابن أخيه علاء الدين محمود بن شهاب مسعود اثنتين وعشرين سنة، ومات سنة خمس عشرة وسبعمائة، ثم ابنه شهاب الدين عمر بن محمود بن مسعود سنة واحدة، ولقب غياث الدين، ثم أخوه قطب الدين مبارك بن محمود أربع سنين وقتل سنة عشرين وسبعمائة، ثم علاء الدين خسر ومملوك علاء الدين محمود سبعة أشهر، وملك غياث الدين طغلق شاه مملوك السلطان علاء الدين محمود بن مسعود في أوّل شعبان سنة عشرين وسبعمائة، ثم ملك بعده ابنه محمد بن طغلق شاه صاحب الترجمة. هذا آخر ما وجد بخطه رحمه الله تعالى. ووجد بخطه أيضا رحمه الله تعالى: ما أحسن قول الأديب محمد بن حسن بن شاور النقيب:

ذكر الجزائر

مشت أيامكم لا بل نراها ... جرت جريا على غير اعتياد وما عقدت نواصيها بخير ... ولا كانت تعدّ من الجياد بخشان: مدينة فيما وراء النهر بها معدن اللعل البدخشانيّ، وهو المسمى بالبلخش، وبها معدن اللازورد الفائق، وهما في جبل بها يحفر عليهما في معادنهما، فيوجد اللازورد بسهولة، ولا يوجد اللعل إلا بتعب كبير وإنفاق زائد، وقد لا يوجد بعد التعب الشديد والنفقة الكثيرة، ولهذا عز وجوده وغلت قيمته. وأقصر ليل بلغار بالبحرين أربع ساعات ونصف، وأقصر ليل أفتكون ثلاث ساعات ونصف، فهو أقصر من ليل بلغار بساعة واحدة، وبين بلغار وأفتكون مسافة عشرين يوما بالسير المعتاد. انتهى. السلطانية من عراق العجم، بناها السلطان محمد خدابنده أوكانيق بن أرغون بن ابغا بن هولاكو، وخدابنده ملك بعد أخيه محمود غازان، وملك بعد خدابنده ابنه السلطان أبو سعيد بهادر خان، وكان الشيخ حسن بن حسين بن أقبغا مع قائد السلطان محمد بن طشتمر بن استيمر بن عترجي، ومذ مات أبو سعيد لم يجمع بعده على طاعة ملك، بل تفرّقوا وقام في كلّ ناحية قائم. انتهى. ووجد بخطه أيضا ما نصه: ولله در أبي إسحاق الأديب حيث قال: إذا كنت قد أيقنت أنك هالك ... فمالك مما دون ذلك تشفق ومما يشين المرء ذا الحلم أنّه ... يرى الأمر حتما واقعا ثم يقلق وحيث يقول: ومن طوى الخمسين من عمره ... لاقى أمورا فيه مستنكرة وإن تخطاها رأى بعدها ... من حادثات الدهر ما لم يره انتهى ما وجد بخطه في أصله. ذكر الجزائر اعلم أن الجزائر التي هي الآن في بحر النيل كلها حادثة في الملة الإسلامية، ما عدا الجزيرة التي تعرف اليوم بالروضة تجاه مدينة مصر، فإن العرب لما دخلوا مع عمرو بن العاص إلى مصر، وحاصروا الحصن الذي يعرف اليوم بقصر الشمع في مصر، حتى فتحه الله تعالى عنوة على المسلمين، كانت هذه الجزيرة حينئذ تجاه القصر، ولم يبلغني إلى الآن متى حدثت، وأما غيرها من الجزائر فكلها قد تجدّدت بعد فتح مصر.

ذكر الروضة

ويقال والله أعلم، أنّ بلهيت الذي يعرف اليوم بأبي الهول، طلسم وضعه القدماء لقلب الرمل عن برّ مصر الغربيّ الذي يعرف اليوم ببرّ الجيزة، وأنه كان في البرّ الشرقيّ بجوار قصر الشمع صنم من حجارة على مسامتة أبي الهول، بحيث لو امتدّ خيط من رأس أبي الهول وخرج على استواء، لسقط على رأس هذا الصنم، وكان مستقبل المشرق، وأنه وضع أيضا لقلب الرمل عن البرّ الشرقيّ، فقدّر الله سبحانه وتعالى أن كسر هذا الصنم على يد بعض أمراء الملك الناصر محمد بن قلاون، في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وحفر تحته حتى بلغ الحفر إلى الماء، ظنا أنه يكون هناك كنز، فلم يوجد شيء، وكان هذا الصنم يعرف عند أهل مصر بسريّة أبي الهول، فكان عقيب ذلك غلبة النيل على البرّ الشرقيّ، وصارت هذه الجزائر الموجودة اليوم، وكذلك قام شخص من صوفية الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، يعرف بالشيخ محمد صائم الدهر في تغيير المنكر أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، فشوّه وجوه سباع الحجر التي على قناطر السباع خارج القاهرة، وشوّه وجه أبي الهول، فغلب الرمل على أراضي الجيزة، ولا ينكر ذلك، فلله في خليقته أسرار يطلع عليها من يشاء من عباده، والكلّ بخلقه وتقديره. وقد ذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب أخبار مصر، في خبر الواحات الداخلة، أن في تلك الصحارى كانت أكثر مدن ملوك مصر العجيبة وكنوزهم، إلا أن الرمال غلبت عليها. قال: ولم يبق بمصر ملك إلّا وقد عمل للرمال طلسما لدفعها، ففسدت طلسماتها لقدم الزمان. وذكر ابن يونس عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إني لأعلم السنة التي تخرجون فيها من مصر، قال ابن سالم: فقلت له ما يخرجنا منها يا أبا محمد أعدوّ؟ قال: لا ولكنكم يخرجكم منها نيلكم، هذا يغور فلا تبقى منه قطرة، حتى تكون فيه الكثبان من الرمل، وتأكل سباع الأرض حيتانه. وقال الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير قال: إنّ الصحابيّ حدّثه أنه سمع كعبا يقول: ستعرك العراق عرك الأديم، وتفت مصر فت البعرة. قال الليث: وحدّثني رجل عن وهب المعافريّ أنه قال: وتشق الشام شق الشعرة، وسأذكر من خبر هذه الجزائر المشهورة ما وصلت إلى معرفته إن شاء الله تعالى. ذكر الروضة اعلم أنّ الروضة تطلق في زماننا هذا على الجزيرة التي بين مدينة مصر ومدينة الجيزة، وعرفت في أوّل الإسلام بالجزيرة، وبجزيرة مصر، ثم قيل لها جزيرة الحصن، وعرفت إلى اليوم بالروضة، وإلى هذه الجزيرة انتقل المقوقس لما فتح الله تعالى على المسلمين القصر

وصار بها هو ومن معه من جموع الروم والقبط، وبها أيضا بنى أحمد بن طولون الحصن، وبها كانت الصناعة، يعني صناعة السفن الحربية، أي كانت بها دار الصناعة، وبها كان الجنان والمختار، وبها كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية، وبها بنى الملك الصالح نجم الدين أيوب القلعة الصالحية، وبها إلى اليوم مقياس النيل، وسأورد من أخبار الروضة هنا ما لا تجده مجتمعا في غير هذا الكتاب. قال ابن عبد الحكم وقد ذكر محاصرة المسلمين للحصن: فلما رأى القوم الجدّ من المسلمين على فتح الحصن والحرص، ورأوا صبرهم على القتال ورغبتهم فيه، خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا من باب الحصن القبليّ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة موضع الصناعة اليوم وأمروا بقطع الجسر، وذلك في جري النيل، وتخلف في الحصن بعد المقوقس الأعرج، فلما خاف فتح باب الحصن خرج هو وأهل القوّة والشرف وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة. قال: وكان بالجزيرة يعني بعد فتح مصر في أيام عبد العزيز بن مروان أمير مصر، خمسمائة فاعل معدّة لحريق يكون في البلد أو هدم. وقال القضاعيّ جزيرة فسطاط مصر. قال الكنديّ: بنيت بالجزيرة الصناعة في سنة أربع وخمسين، وحصن الجزيرة بناه أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين ليحرز فيه حرمه وماله، وكان سبب ذلك مسير موسى بن بغا العراقيّ من العراق واليا على مصر، وجميع أعمال ابن طولون، وذلك في خلافة المعتمد على الله. فلما بلغ أحمد بن طولون مسيرة، استعدّ لحربه ومنعه من دخول أعماله، فلما بلغ موسى بن بغا إلى الرقة تثاقل عن المسير لعظم شأن ابن طولون وقوّته، ثم عرضت لموسى علة طالت به وكان بها موته، وثاوره الغلمان وطلبوا منه الأرزاق، وكان ذلك سبب تركه المسير، فلم يلبث موسى بن بغا أن مات وكفى ابن طولون أمره، ولم يزل هذا الحصن على الجزيرة حتى أخذه النيل شيئا بعد شيء، وقد بقيت منه بقايا متقطعة إلى الآن، وقد اختصر القاضي القضاعيّ رحمه الله في ذكر سبب بناء ابن طولون حصن الجزيرة. وقد ذكر جامع سيرة ابن طولون أن صاحب الزنج لما قدم البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، واستعجل أمره، أنفذ إليه أمير المؤمنين المعتمد على الله تعالى، أبو العباس أحمد ابن أمير المؤمنين، المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد رسولا، في حمل أخيه الموفق بالله أبي أحمد طلحة من مكة إليه، وكان الخليفة المهتدي بالله محمد بن الواثق بن المعتصم نفاه إليها، فلما وصل إليه جعل العهد بالخلافة من بعده لابنه المفوّض، وبعد المفوّض تكون الخلافة للموفق طلحة، وجعل غرب الممالك الإسلامية للمفوّض،

وشرقها للموفق، وكتب بينهما بذلك كتابا ارتهن فيه أيمانهما بالوفاء بما قد وقعت عليه الشروط، وكان الموفق يحسد أخاه المعتمد على الخلافة ولا يراه أهلا لها، فلما جعل المعتمد الخلافة من بعده لابنه ثم للموفق بعده، شق ذلك عليه وزاد في حقده، وكان المعتمد متشاغلا بملاذّ نفسه من الصيد واللعب والتفرّد بجواريه، فضاعت الأمور وفسد تدبير الأحوال وفاز كلّ من كان متقلدا عملا بما تقلده، وكان في الشروط التي كتبها المعتمد بين المفوّض والموفق، أنه ما حدث في عمل كلّ واحد منهما من حدث كانت النفقة عليه من مال خراج قسمه، واستخلف على قسم ابنه المفوّض موسى بن بغا، فاستكتب موسى بن بغا عبيد الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفق بقسمه من ممالك الشرق، وتقدّم إلى كلّ منهما أن لا ينظر في عمل الآخر، وخلد كتاب الشروط بالكعبة، وأفرد الموفق لمحاربة صاحب الزنج وأخرجه إليه وضم معه الجيوش، فلما كبر أمره وطالت محاربته أياه، وانقطعت موادّ خراج المشرق عن الموفق، وتقاعد الناس عن حمل المال الذي كان يحمل في كلّ عام، واحتجوا بأشياء، دعت الضرورة الموفق إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون، وهو يومئذ أمير مصر، في حمل ما يستعين به في حروب صاحب الزنج، وكانت مصر في قسم المفوّض، لأنها من الممالك الغربية، إلّا أن الموفق شكا في كتابه إلى ابن طولون شدّة حاجته إلى المال بسبب ما هو بسبيله، وأنفذ مع الكتاب تحريرا خادم المتوكل ليقبض منه المال، فما هو إلّا أن ورد تحرير على ابن طولون بمصر، وإذا بكتاب المعتمد قد ورد عليه، يأمره فيه بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كلّ سنة، من الطراز والرقيق والخيل والشمع وغير ذلك، وكتب أيضا إلى أحمد بن طولون كتابا في السرّ، أنّ الموفق إنما أنفذ تحريرا إليك عينا ومستقصيا على أخبارك، وأنه قد كاتب بعض أصحابك فاحترس منه واحمل المال إلينا وعجل إنفاذه، وكان تحرير لما قدم إلى مصر أنزله أحمد بن طولون معه في داره بالميدان، ومنعه من الركوب ولم يمكنه من الخروج من الدار التي أنزله بها حتى سار من مصر، وتلطف في الكتب التي أجاب بها الموفق، ولم يزل بتحرير حتى أخذ جميع ما كان معه من الكتب التي وردت من العراق إلى مصر، وبعث معه إلى الموفق ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وما جرى الرسم بحمله من مصر، وأخرج معه العدول وسار بنفسه صحبته حتى بلغ به العريش، وأرسل إلى ماخور متولي الشام، فقدم عليه بالعريش، وسلّمه إليه هو والمال وأشهد عليه بتسليم ذلك ورجع إلى مصر، ونظر في الكتب التي أخذها من تحرير، فإذا هي إلى جماعة من قوّاده باستمالتهم إلى الموفق، فقبض على أربابها وعاقبهم حتى هلكوا في عقوبته، فلما وصل جواب ابن طولون إلى الموفق ومعه المال، كتب إليه كتابا ثانيا يستقل فيه المال ويقول: إن الحساب يوجب أضعاف ما حملت، وبسط لسانه بالقول، والتمس فيمن معه من يخرج إلى مصر ويتقلدها عوضا عن ابن طولون فلم يجد أحدا عوضه، لما كان من كيس أحمد بن طولون وملاطفته وجوه الدولة.

فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال: وأيّ حساب بيني وبينه، أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره، وكتب إليه بعد البسملة: وصل كتاب الأمير أيده الله تعالى وفهمته، وكان، أسعده الله، حقيقا بحسن التخير لمثلي وتصييره إياي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتقي الأعداء بحدّه، لأني دائب في ذلك وجعلته وكدي، واحتملت الكلف العظام والمؤن الثقال باستجذاب كل موصوف بشجاعة، واستدعاء كلّ منعوت بغنى وكفاية، بالتوسعة عليهم وتواصل الصلات، والمعاون لهم، صيانة لهذه الدولة وذبا عنها، وحسما لأطماع المتشوّفين لها والمنحرفين عنها، ومن كانت هذه سبيله في الموالاة، ومنهجه في المناصحة، فهو حريّ أن يعرف له حقه ويوفر من الإعظام قدره، ومن كلّ حال جليلة حظه ومنزلته، فعو ملت بضدّ ذلك من المطالبة بحمل ما أمر به والجفاء في المخاطبة بغير حال توجب ذلك، ثم أكلف على الطاعة جعلا، وألزم في المناصحة ثمنا، وعهدي بمن أستدعي ما استدعاه الأمير من طاعته، أن يستدعيه بالبذل والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام، لا أن يكلّف ويحمل من الطاعة مؤنة وثقلا، وإني لا أعرف السبب الذي يوجب الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير أيده الله تعالى، ولا ثم معاملة تقتضي معاملة أو تحدث منافرة، لأن العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى من سواه، ولا أنا من قبله، فإنه والأمير جعفر المفوّض أيده الله تعالى، قد اقتسما الأعمال وصار لكلّ واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه أنه من نقض عهده أو أخفر ذمّته ولم يف لصاحبه بما أكد على نفسه، فالأمّة بريئة منه ومن بيعته، وفي حلّ وسعة من خلفه، والذي عاملني به الأمير من محاولة صرفي مرّة وإسقاط رسمي أخرى، وما يأتيه ويسومنيه ناقض لشرطه مفسد لعهده، وقد التمس أوليائي وأكثروا الطلب في إسقاط اسمه وإزالة رسمه، فآثرت الإبقاء وإن لم يؤثره، واستعملت الأناة إذ لم تستعمل معي، ورأيت الاحتمال والكظم أشبه بذوي المعرفة والفهم، فصبرت نفسي على أحرّ من الجمر، وأمرّ من الصبر، وعلى ما لا يتسع به الصدر. والأمير أيده الله تعالى أولى من أعانني على ما أوثره من لزوم عهده، وأتوخاه من تأكيد عقده بحسن العشرة والإنصاف وكف الأذى والمضرّة، وأن لا يضطرّني إلى ما يعلم الله عزّ وجلّ كرهي له، أن أجعل ما قد أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة والعساكر المتضاعفة التي قد ضرّست رجالها من الحروب وجرت عليهم محن الخطوب مصر وفا إلى نقضها، فعندنا وفي حيزنا من يرى أنه أحق بهذا الأمر وأولى من الأمير، ولو أمنوني على أنفسهم، فضلا عن أن يعثروا مني على ميل، أو قيام بنصرتهم، لاشتدّت شوكتهم ولصعب على السلطان معاركتهم، والأمير يعلم أن بإزائه منهم واحدا قد كبر عليه وفض كلّ جيش أنهضه إليه، على أنه لا ناصر له إلّا لفيف البصرة وأوباش عامّتها، فكيف من يجدر كنا منيعا وناصرا مطيعا، وما مثل الأمير في أصالة رأيه يصرف مائة ألف عنان عدّة له، فيجعلها عليه بغير ما سبب يوجب ذلك، فإن يكن من الأمير أعتاب أو رجوع

إلى ما هو أشبه به وأولى، وإلّا رجوت من الله عز وجلّ كفاية أمره وحسم مادّة شرّه، وأجراءنا في الحياطة على أجمل عادته عندنا والسلام. فلما وصل الكتاب إلى الموفق أقلقه وبلغ منه مبلغا عظيما، وأغاظه غيظا شديدا، وأحضر موسى بن بغا وكان عون الدولة وأشدّ أهلها بأسا وإقداما، فتقدّم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماخور، فامتثل ذلك وكتب إلى ماخور كتاب التقليد وأنفذه إليه، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إرساله إلى أحمد بن طولون لعجزه عن مناهضته، وخرج موسى بن بغا عن الحضرة مقدّرا أنه يدور عمل المفوّض ليحمل الأموال منه، وكتب إلى ماخور أمير الشام، وإلى أحمد بن طولون أمير مصر، لما بلغه من توقف ما خور عن مناهضته يأمرهما بحمل الأموال، وعزم على قصد مصر والإيقاع بابن طولون واستخلاف ماخور عليها، فسار إلى الرقة وبلغ ذلك ابن طولون فأقلقه وغمه، لا لأنه يقصر عن موسى بن بغا، لكن لتحمله هتك الدولة، وأن يأتي سبيل من قاوم السلطان وحاربه وكسر جيوشه، إلّا أنه لم يجد بدّا من المحاربة ليدفع عن نفسه، وتأمّل مدينة فسطاط مصر فوجدها لا تؤخذ إلّا من جهة النيل، فأراد لكبر همته وكثرة فكره في عواقب الأمور، أن يبني حصنا على الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة ليكون معقلا لحرمه وذخائره. ثم يشتغل بعد ذلك بحرب من يأتي من البر، وقد زاد فذكره فيمن يقدم من النيل، فأمر ببناء الحصن على الجزيرة، واتخذ مائة مركب حربية سوى ما ينضاف إليها من العلابيات والحمائم والعشاريات والسنابيك وقوارب الخدمة، وعمد إلى سدّ وجه البحر الكبير، وأن يمنع ما يجيء إليه من مراكب طرسوس وغيرها من البحر الملح إلى النيل، بأن توقف هذه المراكب الحربية في وجه البحر الكبير، خوفا مما سيجيء من مراكب طرسوس، كما فعل محمد بن سليمان من بعده بأولاده، كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، وجعل فيها من يذب عن هذه الجزيرة، وأنفذ إلى الصعيد وإلى أسفل الأرض بمنع من يحمل الغلال إلى البلاد، ليمنع من يأتي من البرّ الميرة، وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وقد اضطربت عليه الأتراك وطالبوه بأرزاقهم مطالبة شديدة، بحيث استتر منهم كاتبه عبيد الله بن سليمان لتعذر المال عليه، وخوفه على نفسه منهم، فخاف موسى بن بغا عند ذلك ودعته ضرورة الحال إلى الرجوع، فعاد إلى الحضرة ولم يقم بها سوى شهرين ومات من علة، في صفر سنة أربع وستين ومائتين، هذا وأحمد بن طولون يجدّ في بناء الحصن على الجزيرة، وقد ألزم قوّاده وثقاته أمر الحصن، وفرّقه عليهم قطعا، قام كلّ واحد بما لزمه من ذلك، وكدّ نفسه فيه، وكان يتعاهدهم بنفسه في كلّ يوم، وهو في غفلة عما صنعه الله تعالى له من الكفاية والغنى عما يعانيه، ومن كثرة ما بذل في هذا العمل، قدّر أنّ كلّ طوبة منه وقفت عليه بدرهم صحيح، ولما تواترت الأخبار بموت موسى بن بغا كف عن العمل، وتصدّق بمال كثير شكرا لله تعالى على ما منّ به عليه من صيانته عما يقبح فيه عنه إلّا حدوثة، وما رأى الناس

شيئا كان أعظم من عظيم الجدّ في بناء هذا الحصن، ومباكرة الصناع له في الأسحار حتى فرغوا منه، فإنهم كان يخرجون إليه من منازلهم في كلّ بكرة من تلقاء أنفسهم من غير استحثاث، لكثرة ما سخا به من بذل المال، فلما انقطع البناء لم ير أحد من الصناع التي كانت فيه مع كثرتها، كأنما هي نار صبّ عليها ماء فطفئت لوقتها، ووهب للصناع مالا جزيلا وترك لهم جميع ما كان سلفا معهم، وبلغ مصروف هذا الحصن ثمانين ألف دينار ذهبا. وكان مما حمل أحمد بن طولون على بناء الحصن، أن الموفق أراد أن يشغل قلبه، فسرقت نعله من بيت حظية لا يدخله إلّا ثقاته، وبعث الموفق إليه. فقال له الرسول: من قدر على أخذ هذه النعل من الموضع الذي تعرفه، أليس هو بقادر على أخذ روحك، فو الله أيها الأمير لقد قام عليه أخذ هذه النعل بخمسين ألف دينار، فعند ذلك أمر ببناء الحصن. وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب أمراء مصر: وتقدّم أبو أحمد الموفق إلى موسى بن بغا في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماخور التركيّ، فكتب موسى بن بغا بذلك إلى ماخور وهو والي دمشق يومئذ، فتوقف لعجزه عن مقاومة أحمد بن طولون، فخرج موسى بن بغا فنزل الرقة، وبلغ ابن طولون أنه سائر إليه، ولم يجد بدّا من محاربته، فأخذ أحمد بن طولون في الحذر منه وابتدأ في ابتناء الحصن الذي بالجزيرة التي بين الجسرين، ورأى أن يجعله معقلا لماله وحرمه، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائتين، واجتهد أحمد بن طولون في بناء المراكب الحربية، وأطافها بالجزيرة، وأظهر الامتناع من موسى بن بغا بكل ما قدر عليه، وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وأحمد بن طولون في إحكام أموره، واضطربت أصحاب موسى بن بغا عليه وضاق بهم منزلهم، وطالبوا موسى بالمسير أو الرجوع إلى العراق، فبينا هو كذلك توفي موسى بن بغا في سنة أربع وستين ومائتين. وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون وفين تحامل: لما ثوى ابن بغا بالرقتين ملا ... ساقيه زرقا إلى الكعبين والعقب بنى الجزيرة حصنا يستجن به ... بالعسف والضرب والصناع في تعب وراقب الجيزة القصوى فخندقها ... وكاد يصعق من خوف ومن رعب له مراكب فوق النيل راكدة ... فما سوى القار للنظار والخشب ترى عليها لباس الذل مذ بنيت ... بالشطّ ممنوعة من عزّة الطلب فما بناها لغزو الروم محتسبا ... لكن بناها غداة الروع والعطب وقال سعيد بن القاضي من أبيات:

وإن جئت رأس الجسر فانظر تأمّلا ... إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر ترى أثرا لم يبق من يستطيعه ... من الناس في بدو البلاد ولا حضر مآثر لا تبلى وإن باد أهلها ... ومجد يؤدّي وارثيه إلى الفخر وما زال حصن الجزيرة هذا عامرا أيام بني طولون، وعملت فيه صناعة مصر التي تنشأ فيها المراكب الحربية، فاستمرّ صناعة إلى أن تقلد الأمير محمد بن طفج الإخشيد إمارة مصر من قبل أمير المؤمنين الراضي بالله، وسير مراكب من الشأم، عليها صاعد بن الكلكم، فدخل تنيس وسارت مقدّمته في البر، ودخل صاعد دمياط وسار فهزم جيش مصر الذي جهزه أحمد بن كيغلغ إليه، بتدبير محمد بن عليّ الماردانيّ على بحيرة نوسا، وأقبل في مراكبه إلى الفسطاط، فكان بالجزيرة، وقدم محمد بن طفج وتسلم البلد لست بقين من رمضان سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وفرّ منه جماعة إلى الفيوم، فخرج إليهم صاعد بن الكلكم في مراكبه وواقعهم بالفيوم، فقتل في عدّة من أصحابه، وقدمت الجماعة في مراكب ابن كلكم فأرسوا بجزيرة الصناعة وحرّقوها، ثم مضوا إلى الإسكندرية وساروا إلى برقة فقال محمد بن طفج الصناعة هنا خطأ وأمر بعمل صناعة في برّ مصر. وحكى ابن زولاق في سيرة محمد بن طفج أنه قال: اذكر أني كنت آكل مع أبي منصور تكين أمير مصر، وجرى ذكر الصناعة فقال تكين: صناعة يكون بيننا وبينها بحر خطأ، فأشارت الجماعة بنقلها فقال: إلى أيّ موضع؟ فأردت أن أشير عليه بدار خديجة بنت الفتح بن خاقان، ثم سكت وقلت أدع هذا الرأي لنفي إذا ملكت مصر، فبلغت ذلك والحمد لله وحده. ولما أخذ محمد بن طفج دار خديجة كان يتردّد إليها حتى عملت، فلما ابتدءوا بإنشاء المراكب فيها صاحت به امرأة فقال: خذوها، فساروا بها إلى داره، فأحضرها مسار واستخبرها عن أمرها فقالت: ابعث معي من يحمل المال، فأرسل معها جماعة إلى دار خديجة هذه، فدلتهم على مكان استخرجوا منه عينا وورقا وحليا وثيابا وعدّة ذخائر لم ير مثلها، وصاروا بها إلى محمد بن طفج، فطلب المرأة ليكافئها على ما كان منها فلم توجد، فكان هذا أوّل مال وصل إلى محمد بن طفج بمصر. قال: واستدعى محمد بن طفج الإخشيد صالح بن نافع وقال له: كان في نفسي إذا ملكت مصر أن أجعل صناعة العمارة في دار ابنة الفتح، وأجعل موضع الصناعة من الجزيرة بستانا أسميه المختار، فاركب وخط لي بستانا ودارا، وقدّر لي النفقة عليهما، فركب صالح بجماعة وخطوا بستانا فيه دار للغلمان ودار للنوبة وخزائن للكسوة وخزائن للطعام، وصوّروه وأتوا به فاستحسنه وقال: كم قدّرتم النفقة؟ قالوا ثلاثين ألف دينار. فاستكثرها، فلم يزالوا يضعون من التقدير حتى صار خمسة آلاف دينار، فأذن في عمله.

ولما شرعوا فيه ألزمهم المال من عندهم، فقسّط على جماعة، وفرغ من بنائه، فاتخذه الإخشيد منتزها له وصار يفاخر به أهل العراق، وكان نقل الصناعة من الجزيرة إلى ساحل النيل بمصر في شعبان خمس وعشرين وثلاثمائة، فلم يزل البستان المختار منتزها إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية، وقدمت الدولة الفاطمية من بلاد المغرب إلى مصر، فكان يتنزه فيه المعز لدين الله معدّ، وابنه العزيز بالله نزار، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس، لها وال وقاض، وكان يقال القاهرة ومصر والجزيرة، فلما كانت أيام استيلاء الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدرا الجمالي، وحجره على الخلفاء، أنشأ في بحريّ الجزيرة مكانا نزها سماه الروضة، وتردّد إليها تردّدا كثيرا، فكان يسير في العشاريات الموكبيات من دار الملك التي كانت سكنه بمصر، إلى الروضة. ومن حينئذ صارت الجزيرة كلها تعرف بالروضة، فلما قتل الأفضل بن أمير الجيوش، واستبدّ الخليفة الآمر بأحكام الله أبو عليّ منصور بن المستعلي بالله، أنشأ بجوار البستان المختار من جزيرة الروضة مكانا لمحبوبته العالية البدوية، سماه الهودج. الهودج: قال ابن سعيد في كتاب المحلّى بالأشعار عن تاريخ القرطبيّ: قد أكثر الناس في حديث البدوية وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الخليفة الآمر بأحكام الله، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك، والاختصار منه أن يقال أنّ الخليفة الآمر كان قد ابتلى بعشق الجواري العربيات، وصارت له عيون في البوادي، فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرف نسائهم، شاعرة جميلة، فيقال أنه تزيا بزيّ بداة الأعراب وصار يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها، وبات هناك في ضائفة، وتحيل حتى عاينها، فما ملك صبره، ورجع إلى مقرّ ملكه وسرير خلافته، فأرسل إلى أهلها يخطبها فأجابوه إلى ذلك وزوّجوها منه، فلما صارت إلى القصور صعب عليها مفارقة ما اعتادت، وأحبت أن تسرّج طرفها في الفضاء ولا تقبض نفسها تحت حيطان المدينة، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج، وكان على شاطيء النيل في شكل غريب، وكان بالإسكندرية القاضي مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد، قد استولى على أمورها وصار قاضيها وناظرها، ولم يبق لأحد معه فيها كلام، وضمن أموالها بحملة يحملها، وكان ذا مروءة عظيمة يحتذي أفعال البرامكة، وللشعراء فيه مدائح كثيرة، وممن مدحه ظافر الحدّاد، وأمية بن أبي الصلت، وجماعة، وكان الأفضل بن أمير الجيوش إذا أراد الاعتناء بأحد كتب معه كتابا إلى ابن حديد هذا، فيغنيه بكثرة عطائه، وكان له بستان يتفرّج فيه، به جرن كبير من رخام قطعة واحدة، ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من سعته، وكان يجد في نفسه برؤية هذا الجرن زيادة على أهل النعم، ويباهي به أهل عصره، فوشي به للبدوية محبوبة الخليفة، فطلبته من الخليفة، فأنفذ في الحال بإحضاره، فلم يسع ابن حديد إلّا أن قلعه من مكانه

وبعث به وفي نفسه حزازة من أخذه منه، وخدم البدوية وخدم جميع من يلوذ بها، حتى قالت: هذا الرجل أخجلنا بكثرة هداياه وتحفه، ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا، فلما بلغه ذلك عنها قال: ما لي حاجة بعد الدعاء لله تعالى بحفظ مكانها وطول حياتها، غير ردّ الجرن الذي أخذ من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمهم إلى مكانه، فلما سمعت هذا عنه تعجبت منه وأمرت بردّ الجرن إليه، فقيل له قد وصلت إلى حدّ أن خيرتك البدوية في جميع المطالب، فنزلت همتك إلى قطعة حجر. فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الجرن من مكانه، وقد بلغها الله أملها، وبقيت البدوية متعلقة الخاطر بابن عمّ لها ربيت معه يعرف بابن ميّاح، فكتبت إليه وهي بقصر الخليفة الآمر: يا ابن ميّاح إليك المشتكى ... مالك من بعدكم قد ملك كنت في حيى مرأ مطلقا ... نائلا ما شئت منكم مدركا فأنا الآن بقصر مؤصد ... لا أرى إلّا حبيسا ممسكا كم تثنينا بأغصان اللوا ... حيث لا نخشى علينا دركا وتلاعبنا بر ملات الحمى ... حيثما شاء طليق سلكا فأجابها: بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتّى علا واحتنكا بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منها المشتكى ما لك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد هلكا شأن داود غدا في عصرنا ... مبديا بالتيه ما قد ملكا فبلغت الآمر فقال: لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع لرددتها إلى حيه وزوّجتها به. قال القرطبيّ وللناس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطور، وكان من عرب طيء في عصر الخليفة الآمر طراد بن مهلهل، فلما بلغه قضية الآمر مع العالية البدوية قال: ألا أبلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال قطعت الأليفين عن إلفة ... بها سمر الحيّ بين الرجال كذا كان آباؤك الأقدمون ... سألت فقل لي جواب السؤال فلما بلغ الآمر شعره قال: جواب السؤال قطع لسانه على فضوله، وأمر بطلبه في أحياء العرب ففرّ ولم يقدر علي، فقالت العرب: ما أخسر صفقة طراد، باع أبيات الحيّ بثلاثة أبيات، ولم يزل الآمر يتردّد إلى الهودج بالروضة للنزهة فيه، إلى أن ركب من القصر بالقاهرة يريد الهودج في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، فلما

ذكر قلعة الروضة

كان برأس الجسر وثب عليه قوم من النزارية قد كمنوا له في فرن تجاه رأس الجسر بالروضة، وضربوه بالسكاكين حتى أثخنوه وجرحوا جماعة من خدّامه، فحمل إلى منظرة اللؤلؤة بشاطئ الخليج وقد مات. ذكر قلعة الروضة اعلم أنه ما برحت جزيرة الروضة منتزها ملوكيا ومسكنا للناس كما تقدّم ذكره، إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب سلطنة مصر، فأنشأ القلعة بالروضة، فعرفت بقلعة المقياس، وبقلعة الروضة، وبقلعة الجزيرة، وبالقلعة الصالحية، وشرع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان، وابتدأ بنيانها في آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة سادس عشرة، وفي عاشر ذي القعدة وقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة، وتحوّل الناس من مساكنهم التي كانوا بها، وهدم كنيسة كانت لليعاقبة بجانب المقياس وأدخلها في القلعة، وأنفق في عمارتها أموالا جمة، وبنى فيها الدور والقصور، وعمل لها ستين برجا، وبنى بها جامعا، وغرس بها جميع الأشجار، ونقل إليها عمد الصوّان من البرابي وعمد الرخام، وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب، وما يحتاج إليه من الغلال والأزواد والأقوات، خشية من محاصرة الفرنج، فإنهم كانوا حينئذ على عزم قصد بلاد مصر، وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة، حتى قيل أنه استقام كل حجر فيها بدينار، وكل طوبة بدرهم، وكان الملك الصالح يقف بنفسه ويرتب ما يعمل، فصارت تدهش من كثرة زخرفتها، وتحير الناظر إليها من حسن سقوفها المزينة، وبديع رخامها. ويقال أنه قطع من الموضع الذي أنشأ فيه هذه القلعة ألف نخلة مثمرة، كان رطبها يهدي إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه، وخرّب الهودج والبستان المختار وهدّم ثلاثة وثلاثين مسجدا عمرها خلفاء مصر وسراة المصريين لذكر الله تعالى وإقامة الصلوات، واتفق له في عدم بعض هذه المسجد خبر غريب، قال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد الأسدي، الشهير باليغموري: سمعت الأمير الكبير الجواد جمال الدين أبا الفتح موسى بن الأمير شرف الدين يغمور بن جلدك بن عبد الله قال: ومن عجيب ما شاهدته من الملك الصالح أبي الفتوح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل رحمه الله تعالى أنه أمرني أن أهدم مسجدا كان في جوار داره بجزيرة مصر، فأخرت ذلك وكرهت أن يكون هدمه على يديّ، فأعاد الأمر وأنا أكاسر عنه، وكأنه فهم مني ذلك، فاستدعى بعض خدمه من نوّابي وأنا غائب وأمره أن يهدم ذلك المسجد، وأنيبني في مكانه قاعة، وقدّر له صفتها، فهدم ذلك المسجد وعمر تلك القاعة مكانه، وكملت، وقدمت الفرنج إلى الديار المصرية، وخرج الملك الصالح مع عساكره إليهم، ولم يدخل تلك القاعة التي بنيت في

المكان الذي كان مسجدا، فتوفي السلطان في المنصورة، وجعل في مركب وأتى به إلى الجزيرة، فجعل في تلك القاعة التي بنيت مكان المسجد مدّة إلى أن بنيت له التربة التي في جنب مدارسه بالقاهرة في جانب القصر، عفا الله عنه، وكان النيل عند ما عزم الملك الصالح على عمارة قلعة الروضة من الجانب الغربيّ، فيما بين الروضة وبرّ الجيزة، وقد انطرد عن برّ مصر ولا يحيط بالروضة إلا في أيام الزيادة، فلم يزل يغرّق السفن في البرّ الغربيّ، ويحفر فيما بين الروضة ومصر ما كان هناك من الرمال، حتى عاد ماء النيل إلى برّ مصر، واستمرّ هناك فأنشأ جسرا عظيما ممتدّا من برّ مصر إلى الروضة، وجعل عرضه ثلاث قصبات، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة السلطانية بقلعة الروضة، وجعل عرضه ثلاث قصبات، وكان الأمراء إذا ركبوا من منازلهم يريدون الخدمة السلطانية بقلعة الروضة يترجلون عن خيولهم عند البرّ، ويمشون في طول هذا الجسر إلى القلعة، ولا يمكن أحد من العبور عليه راكبا سوى السلطان فقط، ولما كملت تحوّل إليها بأهله وحرمه، واتخذها دار ملك، وأسكن فيها معه مماليكه البحرية، وكانت عدّتهم نحو الألف مملوك. قال العلامة عليّ بن سعيد في كتاب المغرب: وقد ذكر الروضة، هي أمام الفسطاط، فيما بينها وبين مناظر الجيزة، وبها مقياس النيل، وكانت منتزها لأهل مصر، فاختارها الصالح بن الكامل سرير السلطنة وبنى بها قلعة مسوّرة بسور ساطع اللون محكم البناء عالي السمك، لم ترعيني أحسن منه، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الآمر خليفة مصر لزوجته البدوية التي هام في حبها، والمختار بستان الإخشيد. وقصره، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره، ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطيّ: أرى سرح الجزيرة من بعيد ... كأحداق تغازل في المغازل كانّ مجرّة الجوز أحاطت ... وأثبتت المنازل في المنازل وكنت أشق في بعض الليالي بالفسطاط على ساحلها فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل أمام سور هذه الجزيرة الدريّ اللون، ولم انفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها، وهو من أعظم السلاطين همة في البناء، وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم ترعيني مثاله، ولا أقدّر ما أنفق عليه، وفيه من صفائح الذهب والرخام الأبنوسيّ والكافوريّ والمجزع ما يذهل الأفكار ويستوقف الأبصار ويفضل عما أحاط به السور، أرض طويلة، وفي بعضها حاظر حظر به على أصناف الوحوش التي يتفرّج عليها السلطان، وبعدها مروج ينقطع فيها مياه النيل فينظر بها أحسن منظر، وقد تفرّجت كثيرا في طرف هذه الجزيرة مما يلي برّ القاهرة، فقطعت فيه عشيات مذهبات لم تزل لأحزان الغربة مذهبات، وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط

بالكلية، وفي أيام احتراق النيل يتصل برّها ببرّ الفسطاط من جهة خليج القاهرة، ويبقى موضع الجسر فيه مراكب، وركبت مرّة هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن ندا وزير الجزيرة، وصعدنا إلى جهة الصعيد، ثم انحدرنا واستقبلنا هذه الجزيرة، وأبراجها تتلالأ والنيل قد انقسم عنها فقلت: تأمّل لحسن الصالحية إذ بدت ... وأبراجها مثل النجوم تلالا وللقلعة الغرّاء كالبدر طالعا ... تفرّج صدر الماء عنه هلالا ووافى إليها النيل من بعد غاية ... كما زار مشغوف يروم وصالا وعانقها من فرط شوق لحسنها ... فمدّ يمينا نحوها وشمالا جرى قادما بالسعد فاختط حولها ... من السعد أعلاما فزاد دلالا ولم تزل هذه القلعة عامرة حتى زالت دولة بني أيوب، فلما ملك السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركماني أوّل ملوك الترك بمصر أمر بهدمها، وعمر منها مدرسته المعروفة بالمعزية في رحبة الحناء بمدينة مصر، وطمع في القلعة من له جاه، فأخذ جماعة منها عدّة سقوف وشبابيك كثيرة وغير ذلك، وبيع من أخشابها ورخامها أشياء جليلة، فلما صارت مملكة مصر إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري، اهتم بعمارة قلعة الروضة، ورسم للأمير جمال الدين موسى بن يغمور أن يتولى إعادتها كما كانت، فأصلح بعض ما تهدّم فيها، ورتب فيها الجاندارية، وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة، وأمر بأبراجها ففرّقت على الأمراء، وأعطى برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاون الألفيّ، والبرج يليه للأمير عز الدين الحليّ، والبرج الثالث من بروج الزاوية للأمير عز الدين أرغان، وأعطى برج الزاوية الغربيّ للأمير بدر الدين الشمسي، وفرّقت بقية الأبراج على سائر الأمراء، ورسم أن تكن بيتوتات جميع الأمراء واصطبلاتهم فيها، وسلم المفاتيح لهم. فلما تسلطن الملك المنصور قلاون الألفيّ وشرع في بناء المارستان والقبلة والمدرسة المنصورية، نقل من قلعة الروضة هذه ما يحتاج إليه من عمد الصوّان وعمد الرخام التي كانت قبل عمارة القلعة في البرابي، وأخذ منها رخاما كثيرا وأعتابا جليلة مما كان في البرابي وغير ذلك، ثم أخذ منها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ما احتاج إليه من عمد الصوّان في بناء الإيوان المعروف بدار العدل من قلعة الجبل، والجامع الجديد الناصري ظاهر مدينة مصر، وأخذ غير ذلك حتى ذهبت كأن لم تكن، وتأخر منها عقد جليل تسميه العامّة القوس، كان مما يلي جانبها الغربيّ، أدركناه باقيا إلى نحو سنة عشرين وثنمانمائة، وبقي من أبراجها عدّة قد انقلب أكثرها، وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل. قال ابن المتوّج: ثم اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب جزيرة مصر المعروفة اليوم بالروضة في شعبان سنة ست وستين وخمسمائة، وإنما سميت بالروضة

لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها، وبحر النيل حائز لها ودائر عليها، وكانت حصينة، وفيها من البساتير والعمائر والثمار ما لم يكن في غيرها، ولما فتح عمرو بن العاص مصر تحصن الروم بها مدّة، فلما طال حصارها وهرب الروم منها خرّب عمرو بن العاص بعض أبراجها وأسوارها، وكانت مستديرة عليها، واستمرّت إلى أن عمر حصنها أحمد بن طولون في سنة ثلاث وستين ومائتين، ولم يزل هذا الحصن حتى خرّبه النيل، ثم اشتراها الملك المظفر تقيّ الدين عمر المذكور وبقيت على ملكه إلى أن سيّر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولده الملك العزيز عثمان إلى مصر ومعه عمه الملك العادل، وكتب إلى الملك المظفر بأن يسلم لهما البلاد ويقدم عليه إلى الشأم، فلما ورد عليه الكتاب ووصل ابن عمه الملك العزيز وعمه الملك العادل شق عليه خروجه من الديار المصرية، وتحقق أنه لا عود له إليها أبدا، فوقف هذه المدرسة التي تعرف اليوم في مصر بالمدرسة التقوية، التي كانت تعرف بمنازل العزو، وقف عليها الجزيرة بكمالها، وسافر إلى عمه فملكه حماه، ولم يزل الحال كذلك إلى أن ولى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فاستأجر الجزيرة من القاضي فخر الدين أبي محمد، عبد العزيز بن قاضي القضاة عماد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد العليّ بن عبد القادر السكريّ مدرّس المدرسة المذكورة لمدّة ستين سنة في دفعتين، كل دفعة قطعة، فالقطعة الأولى من جامع غين إلى المناظر طولا وعرضا، من البحر إلى البحر واستأجر القطعة الثانية وهي باقي أرض الجزيرة بما فيها من النخل والجميز والغروس، فإنه لما عمر الملك الصالح مناظر قلعة الجزيرة قطعت النخيل ودخلت في العمائر، وأمّا الجميز، فإنه كان بشاطئ بحر النيل صف جميز يزيد على أربعين شجرة، وكان أهل مصر فرجهم تحتها في زمن النيل والربيع، قطعت جميعها في الدولة الظاهرية، وعمر بها شواني عوض الشواني التي كان قد سيرها إلى جزيرة قبرس، ثم سلم المدرّس التقوية القطعة المستأجرة من الجزيرة أوّلا في سنة ثمان وتسعين وستمائة، وبقي بيد السلطان القطعة الثانية، وقد خربت قلعة الروضة ولم يبق منها سوى أبراج قد بنى الناس عليها، وبقي أيضا عقد باب من جهة الغرب يقال له باب الإصطبل، وعادت الروضة بعد هدم القلعة منها منتزها يشتمل على دور كثيرة وبساتين عدّة وجوامع تقام بها الجماعات والأعياد ومساجد، وقد خرب أكثر مساكن الروضة، وبقي فيها إلى اليوم بقايا. وبطرف الروضة المقياس الذي يقاس فيه ماء النيل اليوم، ويقال له المقياس الهاشميّ، وهو آخر مقياس بني بديار مصر. قال أبو عمر الكنديّ: وورد كتاب المتوكل على الله بابتناء المقياس الهاشميّ للنيل، وبعزل النصارى عن قياسه، فجعل يزيد بن عبد الله بن دينار أمير مصر، أبا الردّاد المعلم، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب الخراج في كل شهر سبعة دنانير، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين، وعلامة وفاء النيل ستة عشر ذراعا، أن يسبل أبو الردّاد قاضي البحر الستر الأسود الخليفيّ على شباك المقياس، فإذا شاهد الناس هذا الستر قد أسبل تباشروا بالوفاء

واجتمعوا على العادة للفرجة من كل صوب، وما أحسن قول شهاب الدين بن العطار في تهتك الناس يوم تخليق المقياس: تهتك الخلق بالتخليق قلت لهم ... ما أحسن الستر قالوا العفو مأمول ستر الإله علينا لا يزال فما ... أحلى تهتكنا والستر مسبول جزيرة الصابوني: هذه الجزيرة تجاه رباط الآثار، والرباط من جملتها، وقفها أبو الملوك نجم الدين أيوب بن شادي وقطعة من بركة الحبش، فجعل نصف ذلك على الشيخ الصابوني وأولاده، والنصف الآخر على صوفية بمكان بجوار قبة الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، يعرف اليوم بالصابوني. جزيرة الفيل: هذه الجزيرة هي الآن بلد كبير خارج باب البحر من القاهرة، وتتصل بمنية الشيرج من بحريها، ويمرّ النيل من غربيها، وبها جامع تقام به الجمعة، وسوق كبير وعدّة بساتين جليلة، وموضعها كله مما كان غامرا بالماء في الدولة الفاطمية. فلما كان بعد ذلك انكسر مركب كبير كان يعرف بالفيل، وترك في مكانه فربا عليه الرمل، وانطرد عنه الماء، فصارت جزيرة فيما بين المنية وأرض الطبالة سماها الناس جزيرة الفيل، وصار الماء يمرّ من جوانبها، فغربيها تجاه برّ مصر الغربيّ، وشرقيها تجاه البعل، والماء في بينها وبين البعل الذي هو الآن قبالة قناطر الأوز، فإنّ الماء كان يمرّ بالمقس من تحت زريبة جامع المقس الموجود الآن على الخليج الناصريّ، ومن جامع المقس على أرض الطبالة إلى غربيّ المصلى، حتى ينتهي من تجاه التاج إلى المنية، وصارت هذه الجزيرة في وسط النيل، وما برحت تتسع إلى أن زرعت في أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فوقفها على المدرسة التي أنشأها بالقرافة بجوار قبر الشافعيّ رضي الله عنه، وكثرت أطيانها بانحسار النيل عنها في كل سنة. فلما كان في أيام الملك المنصور قلاون الألفي تقرّب مجد الدين أبو الروح عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن بن الخشاب المتحدّث في الأحباس، إلى الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ، بأنّ في أطياب هذه الجزيرة زيادة على ما وقفه السلطان صلاح الدين، فأمر بقياس ما تجدّد بها من الرمال وجعلها لجهة الوقف الصلاحيّ، وأقطع الأطياب القديمة التي كانت في الوقف وجعلها هي التي زادت، فلما أمر الملك المنصور قلاون بعمل المارستان المنصوري وقف بقية الجزيرة عليه، فغرس الناس بها الغروس وصارت بساتين وسكن الناس من المزارعين هناك، فلما كانت أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد عوده إلى قلعة الجبل من الكركل، وانحسر النيل عن جانب المقس الغربيّ وصار ما هنالك رمالا متصلة من بحريها بجزيرة الفيل المذكورة، ومن قبليها بأراضي اللوق، افتتح الناس باب العمارة بالقاهرة ومصر فعمروا في تلك الرمال المواضع التي تعرف اليوم ببولاق خارج

المقس، وأنشأوا بجزيرة الفيل البساتين والقصور، واستجدّا ابن المغربيّ الطبيب بستانا اشتراه منه القاضي كريم الدين ناظر الخاص للأمير سيف الدين طشتمر الساقي، بنحو المائة ألف درهم فضة، عنها زهاء خمسة آلاف مثقال ذهبا، وتتابع الناس في إنشاء البساتين حتى لم يبق بها مكان بغير عمارة وحكر، ما كان منها وقفا على المدرسة المجاورة للشافعيّ رضي الله عنه، وما كان فيها من وقف المارستان، وغرس ذلك كله بساتين، فصارت تنيف على مائة وخمسين بستانا إلى سنة وفاة الملك الناصر محمد بن قلاون، ونصب فيها سوق كبير يباع فيه أكثر ما يطلب من المآكل، وابتنى الناس بها عدّة دور وجامعا فبقيت قرية كبيرة وما زالت في زيادة ونموّ، فأنشأ قاضي القضاة جلال الدين القزويني رحمه الله الدار المجاورة لبستان الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب على النيل، فجاءت في غاية من الحسن، فلما عزل عن قضاء القضاة وسار إلى دمشق اشتراها الأمير بشتاك بثلاثين ألف درهم، وخربها وأخذ منها رخاما وشبابيك وأبوابا، ثم باع باقي نقضها بمائة ألف درهم، فربح الباعة في ذلك شيئا كثيرا، ونودي على زر بيتها فحكرت وعمر عليها الناس عدّة أملاك، واتصلت العمارة بالأملاك من هذه الزريبة إلى منية الشيرج، ثم خربت شيئا بعد شيء، وبقي ما على هذه الزريبة من الأملاك، وهي تعرف اليوم بدار الطنبديّ التاجر. وأما بساتين الجزيرة فلم تزل عجبا من عجائب الدنيا من حسن المنظر وكثرة المتحصل، إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، فتلاشت وخرب كثير منها لغلوّ العلوفات من الفول والتبن وشدّة ظلم الدولة وتعطل معظم سوقها، وفيها إلى الآن بقية صالحة. جزيرة أروى: هذه الجزيرة تعرف بالجزيرة الوسطى، لأنها فيما بين الروضة وبولاق، وفيما بين برّ القاهرة وبرّ الجيزة، لم ينحسر عنها الماء إلا بعد سنة سبعمائة، وأخبرني القاضي الرئيس تاج الدين أبو الفداء إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهاب بن الخطباء المخزوميّ، عن الطبيب الفاضل شمس الدين محمد بن الأكفاني، أنه كان يمرّ بهذه الجزيرة أوّل ما انكشفت، ويقول هذه الجزيرة تصير مدينة، أو قال تصير بلدة، على الشك مني، فاتفق ذلك وبنى الناس فيها الدور الجليلة، والأسواق والجامع والطاحون والفرن، وغرسوا فيها البساتين وحفروا الآبار، وصارت من أحسن منتزهات مصر، يحف بها الماء، ثم صار ينكشف ما بينها وبين برّ القاهرة، فإذا كانت أيام زيادة ماء النيل أحاط الماء بها، وفي بعض السنين يركبها الماء فتمرّ المراكب بين دورها وفي أزقتها. ثم لما كثر الرمل فيما بينها وبين البرّ الشرقيّ، حيث كان خط الزريبة. وفم الخور، قلّ الماء هناك وتلاشت مساكن هذه الجزيرة، منذ كانت الحوادث في سنة ست وثمانمائة، وفيها إلى اليوم بقايا حسنة. الجزيرة التي عرفت بحليمة: هذه الجزيرة خرجت في ستة سبع وأربعين وسبعمائة، ما بين بولاق والجزيرة الوسطى، سمتها العامّة بحليمة، ونصبوا فيها عدّة أخصاص، بلغ مصروف الخص الواحد منها ثلاثة آلاف درهم نقرة، في ثمن رخام ودهان، فكان فيها من

ذكر السجون

هذه الأخصاص عدّة وافرة، وزرع حول كل خص من المقائي وغيرها ما يستحسن، وأقام أهل الخلاعة والمجون هناك، وتهتكوا بأنواع المحرّمات، وتردّد إلى هذه الجزيرة أكثر الناس حتى كادت القاهرة أن لا يثبت بها أحد، وبلغ أجرة كل قصبة بالقياس في هذه الجزيرة، وفي الجزيرة التي عرفت بالطمية فيما بين مصر والجيزة، مبلغ عشرين درهما نقرة، فوقف الفدّان هناك بمبلغ ثمانية آلاف درهم نقرة، ونصبت في هذه الأفدنة الأخصاص المذكورة، وكان الانتفاع بها فيما ذكر نحو ستة أشهر من السنة، فعلى ذلك يكون الفدّان فيها بمبلغ ستة عشر ألف درهم نقرة، وأتلف الناس هناك من الأموال ما يجل وصفه، فلما كثر تجاهرهم بالقبيح، قام الأمير أرغون العلائيّ مع الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاون في هدم هذه الأخصاص التي بهذه الجزيرة قياما زائدا، حتى أذن له في ذلك، فأمر والي مصر والقاهرة فنزلا على حين غفلة، وكبسا الناس وأراقا الخمور وحرّقا الأخصاص، فتلف للناس في النهب والحريق، وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية والنهاية. وفي هذه الجزيرة يقول الأديب إبراهيم المعمار: جزيرة البحر جنّت ... بها عقول سليمة لما حوت حسن مغنى ... ببسطة مستقيمة وكم يخوضون فيها ... وكم مشوا بنميمة ولم تزل ذا احتمال ... ما تلك إلّا حليمة ذكر السجون قال ابن سيده: السجن، الحبس، والسجان صاحب السجن، ورجل سجين مسجون. قال: وحبسه يحبسه حبسا فهو محبوس وحبيس، واحتبسه وحبسه أمسكه عن وجهه. وقال سيبويه: حبسه، ضبطه، واحتبسه، اتخذه حبسا، والمحبس والمحبسة والمحتبس، اسم الموضع. وقال بعضهم: المحبس يكون مصدرا كالحبس، ونظيره إلى الله مرجعكم، أي رجوعكم. ويسألونك عن المحيض أي الحيض. وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنهم قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة» فالحبس الشرعيّ ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويض الشخص ومنعه من التصرّف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان يتولى نفس الخصم أو وكيله عليه، وملازمته له، ولهذا سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم أسيرا، كما روى أبو داود وابن ماجه عن الهرماس بن حبيب عن أبيه رضي الله عنهما. قال: «أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال لي: الزمه، ثم قال لي يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك» وفي رواية ابن ماجه ثمّ مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بي آخر النهار فقال: «ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم» وهذا كان هو الحبس على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، ولم يكن له محبس معدّ لحبس

الخصوم، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ابتاع من صفوان بن أمية رضي الله عنه دارا بمكة بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجنا يحبس فيها. ولهذا تنازع العلماء، هل يتخذ الإمام حبسا على قولين؟ فمن قال لا يتخذ حبسا، احتج بأنه لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لخليفته من بعده حبس، ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقيم عليه حافظا، وهو الذي يسمى الترسيم، أو يأمر غريمه بملازمته. ومن قال له أن يتخذ حبسا، احتج بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومضت السنة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، رضي الله عنهم، أنه لا يحبس على الديون، ولكن يتلازم الخصمان. وأوّل من حبس على الدين، شريح القاضي، وأمّا الحبس الذي هو الآن، فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك أنه يجمع الجمع الكثير في موضع يضيق عنهم، غير متمكنين من الوضوء والصلاة، وقد يرى بعضهم عورة بعض، ويؤذيهم الحرّ في الصيف، والبرد في الشتاء، وربما يحبس أحدهم السنة وأكثر ولا جدة له، وأنّ أصل حبسه على ضمان، وأمّا سجون الولاة فلا يوصف ما يحلّ بأهلها من البلاء، واشتهر أمرهم أنهم يخرجون مع الأعوان في الحديد حتى يشحذوا وهم يصرخون في الطرقات الجوع، فما تصدّق به عليهم لا ينالهم منه إلّا ما يدخل بطونهم، وجميع ما يجتمع لهم من صدقات الناس يأخذه السجان وأعوان الوالي، ومن لم يرضهم بالغوا في عقوبته، وهم مع ذلك يستعملون في الحفر وفي العمائر ونحو ذلك من الأعمال الشاقة، والأعوان تستحثهم، فإذا انقضى عملهم ردّوا إلى السجن في حديدهم من غير أن يطعموا شيئا. إلى غير ذلك مما لا يسع حكايته هنا. وقد قيل أن أوّل من وضع السجن والحرس معاوية. وقد كان في مدينة مصر وفي القاهرة عدّة سجون، وهي حبس المعونة بمصر، وحبس الصيار بمصر، وخزانة البنود بالقاهرة، وحبس المعونة بالقاهرة، وخزانة شمائل، وحبس الديلم، وحبس الرحبة، والجب بقلعة الجبل. حبس المعونة بمصر: ويقال أيضا: دار المعونة، كانت أوّلا تعرف بالشرطة، وكانت قبليّ جامع عمرو بن العاص، وأصله خطّه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ رضي الله عنهم، اختطها في أول الإسلام، وقد كان موضعها فضاء. وأوصى فقال: إن كنت بنيت بمصر دارا واستعنت فيها بمعونة المسلمين فهي للمسلمين، ينزلها ولاتهم. وقيل بل كانت هي ودار إلى جانبها لنافع بن عبد قيس الفهريّ، وأخذها منه قيس بن سعد وعوّضه دارا بزقاق القناديل. ثم عرفت بدار الفلفل لأنّ أسامة بن زيد التنوخيّ صاحب خراج مصر، ابتاع من موسى بن وردان فلفلا بعشرين ألف دينار، كان كتب فيه الوليد بن عبد الملك ليهديه إلى صاحب الروم، فخزّنه فيها، فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين تولى الخلافة، فكتب أن تدفع إليه. ثم صارت شرطة ودار الصرف، فلما فرغ عيسى بن يزيد الجلوديّ من زيادة عبد الله بن طاهر في الجامع بنى شرطة في سنة ثلاث عشرة ومائتين، في

خلافة المأمون، ونقش في لوح كبير نصبه على باب الجامع الذي يدخل منه إلى الشرطة ما نصه: بركة من الله لعبده عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين، أمر بإقامة هذه الدار الهاشمية المباركة على يد عيسى بن يزيد الجلوديّ، مولى أمير المؤمنين، سنة ثلاث عشرة ومائتين، ولم يزل هذا اللوح على باب الشرطة إلى صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، فقلعه يانس العزيزي وصارت حبسا يعرف بالمعونة، إلى أن ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فجعله مدرسة، وهي التي تعرف اليوم بالشريفية. حبس الصيّار: هذا الحبس كان بمصر يحبس فيه الولاة بعد ما عمل حبس المعونة مدرسة، وكان بأوّل الزقاق الذي فيه هذا الحبس حانوت يسكنه شخص يقال له منصور الطويل، ويبيع فيه أصناف السوقة، ويعرف هذا الرجل بالصيار من أجل أنه كانت له في هذا الزقاق قاعة يخزن فيها أنواع الصير المعروف بالملوحة، فقيل لهذا الحبس حبس الصيار، ونشأ لمنصور الصيار هذا ولد عرف بين الشهود بمصر بشرف الدين بن منصور الطويل، فلما أحدث الوزير شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ المظالم في سلطنة الملك المعز أيبك التركمانيّ، خدم شرف الدين هذا على المظالم في جباية التسقيع والتقويم، ثم خدم بعد إبطال ذلك في مكس القصب والرمّان، فلما تولى قضاء القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، تأذى عنده بما باشره من هذه المظالم، وما زال هذا الحبس موجودا إلى أن خربت مصر في الزمان الذي ذكرناه، فخرب وبقي موضعه وما حوله كيمانا. خزانة البنود: هذه الخزانة بالقاهرة هي الآن زقاق يعرف بخط خزانة البنود، على يمنة من سلك من رحبة باب العيد يريد درب ملوخيا وغيره، وكانت أوّلا في الدولة الفاطمية خزانة من جملة خزائن القصر يعمل فيها السلاح، يقال أن الخليفة الظاهر بن الحاكم أمر بها، ثم أنها احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، فعملت بعد حريقها سجنا يسجن فيه الأمراء والأعيان، إلى أن انقرضت الدولة فأقرّها ملوك بني أيوب سجنا، ثم عملت منزلا للأمراء من الفرنج يسكنون فيها بأهاليهم وأولادهم في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون بعد حضوره من الكرك، فلم يزالوا بها إلى أن هدمها الأمير الحاج آل ملك الجوكندار نائب السلطنة بديار مصر، في سنة أربع وأربعين وسبعمائة، فاختط الناس موضعها دورا، وقد ذكرت في هذا الكتاب عند ذكر خزائن القصر. حبس المعونة من القاهرة: هذا المكان بالقاهرة، موضعه الآن قيسارية العنبر برأس الحريريين، كان يسجن فيه أرباب الجرائم من السرّاق وقطاع الطريق ونحوهم في الدولة الفاطمية، وكان حبسا حرجا ضيقا شنيعا يشم من قربه رائحة كريهة، فلما ولي الملك الناصر محمد بن قلاون مملكة مصر هدمه وبناه قيسارية للعنبر، وقد ذكر عند ذكر الأسواق من هذا الكتاب.

خزانة شمائل: هذه الخزانة كانت بجوار باب زويلة، على يسرة من دخل منه بجوار السور، عرفت بالأمير علم الدين شمائل والي القاهرة في أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وكانت من أشنع السجون وأقبحها منظرا، يحبس فيها من وجب عليه القتل أو القطع من السرّاق وقطاع الطريق، ومن يريد السلطان إهلاكه من المماليك وأصحاب الجرائم العظيمة، وكان السجان بها يوظف عليه والي القاهرة شيئا يحمله من المال له في كل يوم، وبلغ ذلك في أيام الناصر فرج مبلغا كبيرا، وما زالت هذه الخزانة على ذلك إلى أن هدمها الملك المؤيد شيخ المحموديّ في يوم الأحد العاشر من شهر ربيع الأول، سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وأدخلها في جملة ما هدمه من الدور التي عزم على عمارة أماكنها مدرسة. وشمائل هذا: هو الأمير علم الدين، قدم إلى القاهرة وهو من فلاحي بعض قرى مدينة حماه في أيام الملك الكامل محمد بن العادل، فخدم جاندار في الركاب السلطاني إلى أن نزل الفرنج على مدينة دمياط في سنة خمس عشرة وستمائة، وملكوا البرّ وحصروا أهلها وحالوا بينهم وبين من يصل إليهم، فكان شمائل هذا يخاطر بنفسه ويسبح في الماء بين المراكب ويردّ على السلطان الخبر، فتقدّم عند السلطان وحظي لديه حتى أقامه أمير جاندار، وجعله من أكبر أمرائه، ونصه سيف نقمته، وولاه ولاية القاهرة، فباشر ذلك إلى أن مات السلطان وقام من بعده ابنه الملك العادل أبو بكر، فلما خلع بأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب نقم على شمائل. المقشرة: هذا السجن بجوار باب الفتوح، فيما بينه وبين الجامع الحاكمي، كان يقشر فيه القمح، ومن جملته برج من أبراج السور على يمنة الخارج من باب الفتوح، استجدّ بأعلاه دور لم تزل إلى أن هدمت خزانة شمائل، فعين هذا البرج والمقشرة لسجن أرباب الجرائم، وهدمت الدور التي كانت هناك في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وعمل البرج والمقشرة سجنا ونقل إليه أرباب الجرائم، وهو من أشنع السجون وأضيقها، يقاسي فيه المسجونون من الغمّ والكرب ما لا يوصف، عافانا الله من جميع بلائه. الجب بقلعة الجبل: هذا الجب كان بقلعة الجبل يسجن فيه الأمراء، وابتدئ عمله في سنة إحدى وثمانين وستمائة، والسلطان حينئذ الملك المنصور قلاون، ولم يزل إلى أن هدمه الملك الناصر محمد بن قلاون في يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى، سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وذلك أنّ شادّ العمائر نزل إليه ليصلح عمارته فشاهد أمرا مهولا من الظلام وكثرة الوطاويط والروائح الكريهة، واتفق مع ذلك أن الأمير بكتمر الساقي كان عنده شخص يسخر به ويمازحه، فبعث به إلى الجب ودلي فيه، ثم أطلعه من بعد ما بات به ليلة، فلما حضر إلى بكتمر أخبره بما عاينه من شناعة الجب، وذكر ما فيه من القبائح المهولة،

ذكر المواضع المعروفة بالصناعة

وكان شادّ العمائر في المجلس فوصف ما فيه الأمراء الذين بالجب من الشدائد، فتحدّث بكتمر مع السلطان في ذلك فأمر بإخراج الأمراء منه، وردم وعمّر فوقه أطباق المماليك، وكان الذي ردم به هذا الجب، النقض الذي هدم من الإيوان الكبير المجاور للخزانة الكبرى، والله أعلم بالصواب. ذكر المواضع المعروفة بالصناعة لفظ الصناعة بكسر الصاد مأخوذ من قولك صنعه يصنعه صنعا، فهو مصنوع، وصنيع عمله واصطنعه اتخذه. والصناعة ما يستصنع من أمر، هذا أصل الكلمة من حيث اللغة، وأمّا في العرف فالصناعة اسم لمكان قد أعدّ لإنشاء المراكب البحرية التي يقال لها السفن، واحدتها سفينة، وهي بمصر على قسمين: نيلية وحربية. فالحربية هي التي تنشأ لغزو العدوّ وتشحن بالسلاح وآلات الحرب والمقاتلة، فتمرّ من ثغر الإسكندرية وثغر دمياط وتنيس والفرما إلى جهاد أعداء الله من الروم والفرنج، وكانت هذه المراكب الحربية يقال لها الأسطول، ولا أحسب هذا اللفظ عربيا. وأمّا المراكب النيلية فإنها تنشأ لتمرّ في النيل، صاعدة إلى أعلى الصعيد ومنحدرة إلى أسفل الأرض، لحمل الغلال وغيرها، ولما جاء الله تعالى بالإسلام لم يكن البحر يركب للغزو في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأوّل من ركب البحر في الإسلام للغزو، العلاء بن الحضرميّ رضي الله عنه، وكان على البحرين من قبل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فأحب أن يؤثر في الأعاجم أثرا يعز الله به الإسلام على يديه، فندب أهل البحرين إلى فارس فبادروا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا، على أحدها الجارود بن المعلي رضي الله عنه، وعلى الثاني سوار بن همام رضي الله عنه، وعلى الثالث خليد بن المنذر بن ساوي رضي الله عنه، وجعل خليدا على عامة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه لا يأذن لأحد في ركوب البحر غازيا، كراهة للتغرير بجنده، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر رضي الله عنه، فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في اصطخر وبإزائهم أهل فارس عليهم الهربذ، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس فقال: أما بعد، فإنّ الله تعالى إذا قضى أمرا جرت المقادير على مطيته، وأنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض بعد الآن لمن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلّا على الخاشعين. فأجابوه إلى القتال وصلوا الظهر، ثم ناهزوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع يدعى طاوس، فقتل من أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قبلها، وخرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم ولم يجدوا في الرجوع إلى البحر سبيلا، فإذا بهم وقد أخذت عليهم الطرق، فعسكروا وامتنعوا، وبلغ ذلك

عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاشتدّ غضبه على العلاء رضي الله عنه، وكتب إليه بعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه وأبغض الوجوه إليه، بتأمير سعد بن أبي وقاص عليه وقال: الحق بسعد بن أبي وقاص بمن معك، فخرج رضي الله عنه من البحرين بمن معه نحو سعد رضي الله عنه، وهو يومئذ على الكوفة، وكان بينهما تباين وتباعد، وكتب عمر رضي الله عنه إلى عتبة بن غزوان بأنّ العلاء بن الحضرميّ حمل جندا من المسلمين في البحر فأقطعهم إلى فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله عز وجلّ بذلك، فخشيت عليهم أن لا ينصروا وأن يغلبوا، فاندب لهم الناس وضمهم إليك من قبل أن يجتاحوا، فندب عتبة رضي الله عنه الناس وأخبرهم بكتاب عمر رضي الله عنه، فانتدب عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، ومجراة بن ثور، ونهار بن الحارث، والترجمان بن فلان، والحصين بن أبي الحرّ، والأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بن سهل، وصعصعة بن معاوية رضي الله تعالى عنهم. فساروا من البصرة في اثني عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم رضي الله عنهم، فساحل بهم حتى التقى أبو سبرة وخليد حيث أخذت عليهم الطرق، وقد استصرخ أهل اصطخر أهل فارس كلهم فأتوهم من كل وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين وقتل المشركون، وعاد المسلمون بالغنائم إلى البصرة، ورجع أهل البحرين إلى منازلهم. فلما فتح الله تعالى الشأم ألح معاوية بن أبي سفيان وهو يومئذ على جند دمشق والأردن، على عمر رضي الله عنه في غزو البحر وقرب الروم من حمص. وقال: إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر رضي الله عنه اتهم معاوية لأنه المشير، وأحب عمر رضي الله عنه أن يردعه فكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر، أن صف لي البحر وراكبه، فإنّ نفسي تنازعني إليه وأنا أشتهي خلافها. فكتب إليه: يا أمير المؤمنين، إني رأيت البحر خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، ليس إلّا السماء والماء، إن ركد حزّن القلوب، وإن زلّ أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق. فلما جاءه كتاب عمرو، كتب رضي الله عنه إلى معاوية: لا والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا، إنّا قد سمعنا أنّ بحر الشأم يشرف على أطول شيء في الأرض، يستأذن الله تعالى في كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها، فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب، وتالله لمسلم واحد أحب إليّ مما حوته الروم، فإياك أن تعرض لي وقد تقدّمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء مني ولم أتقدّم إليه في مثل ذلك. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا يسألني الله عز وجلّ عن ركوب المسلمين البحر أبدا. وروي عنه ابنه عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: لولا آية في كتاب الله تعالى لعلوت راكب البحر بالدرة.

ثم لما كانت خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، غزا المسلمون في البحر، وكان أوّل من غزا فيه معاوية بن أبي سفيان، وذلك أنه لم يزل بعثمان رضي الله عنه حتى عزم على ذلك، فأخره وقال: تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه. ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الحاسي خليفة بني فزارة، فغزا خمسين غزوة من بين شاتية وصائفة في البرّ والبحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب، وكان يدعو الله تعالى أن يرزقه العافية في جنده ولا يبتليه بمصاب أحد منهم، حتى إذا أراد الله عز وجلّ أن يصيبه في جنده خرج في قارب طليعته فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم، فثار به الروم وهجموا عليه فقاتلهم فأصيب وحده، ثم قاتل الروم أصحابه فأصيبوا. وغزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح في البحر لما أتاه قسطنطين بن هرقل سنة أربع وثلاثين في ألف مركب يريد الإسكندرية، فسار عبد الله في مائتي مركب أو تزيد شيئا وحاربه، فكانت وقعة ذات الصواري التي نصر الله تعالى فيها جنده وهزم قسطنطين وقتل جنده، وأغزى معاوية أيضا عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه في البحر، وأمره أن يتوجه إلى رودس، فسار إليها. ونزل الروم على البرلس في سنة ثلاث وخمسين في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ رضي الله عنه على مصر، فخرج إليهم المسلمون في البرّ والبحر، فاستشهد وردان مولى عمرو بن العاص في جمع كثير من المسلمين، وبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله على إفريقية حسان بن النعمان يأمره باتخاذ صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية. ومنها كانت غزوة صقلية في أيام زيادة الله الأوّل بن إبراهيم بن الأغلب على شيخ الفتيا أسد بن الفرات، ونزل الروم تنيس في سنة إحدى ومائة في إمارة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك، فاستشهد جماعة من المسلمين، وقد ذكر في أخبار الإسكندرية ودمياط وتنيس والفرما من هذا الكتاب جملة من نزلات الروم والفرنج عليها، وما كان في زمن الإنشاء، فانظره تجده إن شاء الله تعالى. وقد ذكر شيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة وليّ الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ الإشبيلي، تعليل امتناع المسلمين من ركوب البحر للغزو في أوّل الأمر فقال: والسبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا أوّل الأمر مهرة في ثقافته وركوبه، والروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه، وأحكموا الدربة بثقافته، فلما استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم، وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم، وتقرّب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما، وتكرّرت ممارستهم البحر وثقافته، استحدثوا بصرا بها، فتاقت أنفسهم إلى

الجهاد فيه، وأنشأوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى ضفته، مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس. وأوّل ما أنشئ الأسطول بمصر في خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم، عند ما نزل الروم دمياط في يوم عرفة سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق، فملكوها وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال، ومضوا إلى تنيس فأقاموا باشتومها. فوقع الاهتمام من ذلك الوقت بأمر الأسطول وصار من أهمّ ما يعمل بمصر، وأنشئت الشواني برسم الأسطول، وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البرّ، وانتدب الأمراء له الرماة، فاجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة، وانتخب له القوّاد العارفون بمحاربة العدوّ، وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب، هذا وللناس إذ ذاك رغبة في جهاد أعداء الله وإقامة دينه، لا جرم أنه كان لخدّام الأسطول حرمة ومكانة، ولكل أحد من الناس رغبة في أنه يعدّ من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقرّ فيه، وكان من غزو الأسطول بلاد العدوّ ما قد شحنت به كتب التواريخ. فكانت الحرب بين المسلمين والروم سجالا، ينال المسلمون من العدوّ وينال العدوّ منهم، ويأسر بعضهم بعضا لكثرة هجوم أساطيل الإسلام بلاد العدوّ، فإنها كانت تسير من مصر ومن الشام ومن أفريقية، فلذلك احتاج خلفاء الإسلام إلى الفداء، وكان أوّل فداء وقع بمال في الإسلام أيام بني العباس، ولم يقع في أيام بني أمية فداء مشهور، وإنما كان يفادي بالنفر بعد النفر في سواحل الشأم ومصر والإسكندرية وبلاد ملطية وبقية الثغور الخزرية، إلى أن كانت خلافة أمير المؤمنين هارون الرشيد. الفداء الأوّل: باللامش من سواحل البحر الروميّ قريبا من طرسوس في سنة تسع وثمانين ومائة، وملك الروم يومئذ تقفور بن اشبراق، وكان ذلك على يد القاسم بن الرشيد وهو معسكر بمرج دابق من بلاد قنسرين في أعمال حلب، ففودي بكل أسير كان ببلاد الروم من ذكر أو أنثى، وحضر هذا الفداء من أهل الثغور وغيرهم من أهل الأمصار نحو من خمسمائة ألف إنسان، بأحسن ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوّة، قد أخذوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء، وحضرت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزيّ، معهم أسارى المسلمين، فكان عدّة من فودي به من المسلمين في اثني عشر يوما ثلاثة آلاف وسبعمائة أسير، وأقام ابن الرشيد باللامش أربعين يوما قبل الأيام التي وقع فيها الفداء وبعدها، وقال مروان بن أبي حفصة في هذا الفداء يخاطب الرشيد من أبيات: وفكّت بك الأسرى التي شيدت بها ... محابس ما فيها حميم يزورها

على حين أعيى المسلمين فكاكها ... وقالوا سجون المشركين قبورها الفداء الثاني: كان في خلافة الرشيد أيضا باللامش في سنة اثنتين وتسعين ومائة، وملك الروم تقفور، وكان القائم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعيّ أمير الثغور الشامية، حضره ألوف من الناس، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وخمسمائة من ذكر وأنثى. الفداء الثالث: وقع في خلافة الواثق باللامش، في المحرّم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وملك الروم ميخائيل بن نوفيل، وكان القائم به خاقان التركي، وعدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام أربعة آلاف وثلاثمائة واثنان وستون من ذكر وأنثى، وحضر مع خاقان أبو رملة، من قبل قاضي القضاة أحمد بن أبي داود يمتحن الأسرى وقت المفاداة، فمن قال منهم بخلق القرآن فودي به وأحسن إليه، ومن أبى ترك بأرض الروم، فاختار جماعة من الأسرى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك، وخرج من الأسرى مسلم بن أبي مسلم الحرمي، وكان له محل في الثغور، وكتب مصنفه في أخبار الروم وملوكهم وبلادهم، فنالته محن على القول بخلق القرآن ثم تخلص. الفداء الرابع: في خلافة المتوكل على الله باللامش أيضا، في شوّال سنة إحدى وأربعين ومائتين، والملك ميخائيل، وكان القائم به سيف خادم المتوكل، وحضر معه جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ القاضي، وعليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور الشامية، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفي رجل ومائة امرأة، وكان مع الروم من النصارى المأسورين من أرض الإسلام مائة رجل ونيف، فعوّضوا مكانهم عدّة أعلاج، إذ كان الفداء لا يقع على نصرانيّ ولا ينعقد. الفداء الخامس: في خلافة المتوكل، وملك الروم ميخائيل أيضا باللامش، مستهل صفر سنة ست وأربعين ومائتين، وكان القائم به عليّ بن يحيى الأرمنيّ أمير الثغور، ومعه نصر بن الأزهر الشيعيّ من شيعة بني العباس، المرسل إلى الملك في أمر الفداء من قبل المتوكل، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في سبعة أيام ألفين وثلاثمائة وسبعة وستين من ذكر وأنثى. الفداء السادس: كان في أيام المعتز، والملك على الروم بسيل، على يد شفيع الخادم في سنة ثلاث وخمسين ومائتين. الفداء السابع: في خلافة المعتضد باللامش، في شوّال سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وملك الروم اليون بن بسيل، وكان القائم به أحمد بن طغان أمير الثغور الشامية وانطاكية، من قبل الأمير أبي الجيش خماوريه بن أحمد بن طولون، وكانت الهدنة لهذا الفداء وقعت

في سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فقتل أبو الجيش بدمشق في ذي القعدة من هذه السنة، وتم الفداء في إمارة ولده جيش بن خمارويه، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين في عشرة أيام ألفين وأربعمائة وخمسة وتسعين من ذكر وأنثى، وقيل ثلاثة آلاف. الفداء الثامن: في خلافة المكتفي باللامش، في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وملك الروم اليون أيضا، وكان القائم به رستم بن نزدوي أمير الثغور الشامية، وكانت عدة من فودي به من المسلمين في أربعة أيام ألفا ومائة وخمسة وخمسين من ذكر وأنثى، وعرف بفداء الغدر، وذلك أن الروم غدروا وانصرفوا ببقية الأساري. الفداء التاسع: في خلافة المكتفي، وملك الروم أليون باللامش أيضا، في شوّال سنة خمس وتسعين ومائتين، والقائم به رستم، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وثمانمائة واثنين وأربعين من ذكر وأنثى. الفداء العاشر: في خلافة المقتدر باللامش، في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثمائة، وملك الروم قسطنطين بن اليون بن بسيل، وهو صغير في حجر أرمانوس، وكان القائم بهذا الفداء مونس الخادم، وبشير الخادم الأفشيني أمير الثغور الشامية وانطاكية والمتوسط له، والمعاون عليه أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي التميميّ الأدنيّ من أهل أدنة، وعدّة من فودي به من المسلمين في ثمانية أيام ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستة وثلاثون من ذكر وأنثى. الفداء الحادي عشر: في خلافة المقتدر، وملك أرمانوس وقسنطيطين على الروم، وكان باللامش في شهر رجب سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، والقائم به مفلح الخادم الأسود المقتدري، وبشير خليفة شمل الخادم على الثغور الشامية، وعدّة من فودي به من المسلمين في تسعة عشر يوما، ثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة وثلاثون من ذكر وأنثى. الفداء الثاني عشر: في خلافة الراضي باللامش، في سلخ ذي القعدة، وأيام من ذي الحجة، سنة ست وعشرين وثلاثمائة والملكان على الروم قسطنطين وأرمانوس، والقائم به ابن ورقاء الشيبانيّ، من قبل الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، وبشير الشمليّ أمير الثغور الشامية، وعدّة من فودي به من المسلمين في ستة عشر يوما، ستة آلاف وثلاثمائة ونيف من ذكر وأنثى، وبقي في أيدي الروم من المسلمين الأسرى ثمانمائة رجل ردّوا، ففودي بهم في عدّة مرار، وزيدوا في الهدنة بعد انقضاء الفداء مدّة ستة أشهر لأجل من تخلف في أيدي الروم من المسلمين، حتى جمع الأسارى منهم. الفداء الثالث عشر: في خلافة المطيع باللامش، في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة والملك على الروم قسطنطين، والقائم به نصر الشملي من قبل سيف

الدولة أبي الحسن عليّ بن حمدان، صاحب جند حمس وجند قنسرين وديار بكر وديار مصر والثغور الشامية والخزرية، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ألفين وأربعمائة واثنين وثمانين من ذكر وأنثى، وفضل للروم على المسلمين قرضا مائتان وثلاثون لكثرة من كان في أيديهم، فوفاهم سيف الدولة ذلك وحمله إليهم، وكان الذي شرع في هذا الفداء الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أمير مصر والشام والثغور الشامية، وكان أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي الأدنيّ شيخ الثغور، قدم إليه وهو بدمشق في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ومعه رسول ملك الروم في إتمام هذا الفداء، والإخشيد شديد العلة، فتوفي يوم الجمعة لثمان خلون من ذي الحجة منها، وسار أبو المسك كافور الإخشيديّ بالجيش راجعا إلى مصر، وحمل معه أبا عمير ورسول ملك الروم إلى فلسطين، فدفع إليهما ثلاثين ألف دينار من مال الفداء، فسارا إلى مدينة صور وركبا البحر إلى طرسوس، فلما وصلا كاتب نصر الشملي أمير الثغور سيف الدولة بن حمدان، ودعا له على منابر الثغور، فجدّ في إتمام هذا الفداء، فنسب إليه. ووقعت أفدية أخرى ليس لها شهرة. فمنها: فداء في خلافة المهدي محمد، على يد النقاش الأنطاكي، وفداء في أيام الرشيد في شوّال سنة إحدى وثمانين ومائة، على يد عياض بن سنان أمير الثغور الشامية، وفداء في أيام الأمين، على يد ثابت بن نصر، في ذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائة، وفداء في أيام الأمين، على يد ثابت بن نصر أيضا، في ذي القعدة سنة إحدى ومائتين، وفداء في أيام المتوكل سنة سبع وأربعين ومائتين، على يد محمد بن علي، وفداء في أيام المعتمد، على يد شفيع، في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين، وفداء كان في الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، خرج فيه أبو بكر محمد بن عليّ الماردانيّ من مصر، ومعه الشريف أبو القاسم الرئيس، والقاضي أبو حفص عمر بن الحسين العباسي، وحمزة بن محمد الكتاني في جمع كبير، وكانت عدّة من فودي به من المسلمين ستين نفسا بين ذكر وأنثى. فلما سار الروم إلى البلاد الشامية بعد سنة خمسين وثلاثمائة، اشتدّ أمرهم بأخذهم البلاد، وقويت العناية بالأسطول في مصر منذ قدم المعزل لدين الله، وأنشأ المراكب الحربية، واقتدى به بنوه وكان لهم اهتمام بأمور الجهاد واعتناء بالأسطول، وواصلوا إنشاء المراكب بمدينة مصر واسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات، وتسييرها إلى بلاد الساحل مثل صور وعكا وعسقلان، وكانت جريدة قوّاد الأسطول في آخر أمرهم تزيد على خمسة آلاف مدوّنة، منهم عشرة أعيان يقال لهم القوّاد، واحدهم قائد، وتصل جامكية كلّ واحد منهم إلى عشرين دينارا، ثم إلى خمسة عشر دينارا، ثم إلى عشرة دنانير، ثم إلى ثمانية، ثم إلى دنارين، وهي أقلها. ولهم إقطاعات تعرف بأبواب الغزاة بما فيها من النطرون، فيصل دينارهم بالمناسبة إلى نصف دينار، وكان يعين من القوّاد العشرة

واحد فيصير رئيس الأسطول، ويكون معه المقدم والقاوش، فإذا ساروا إلى الغزو كان هو الذي يقلع بهم، وبه يقتضي الجميع، فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه، ولا بدّ أن يقدم على الأسطول أمير كبير من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفسا، ويتولى النفقة في غزاة الأسطول الخليفة بنفسه بحضور الوزير، فإذا أراد أراد النفقة فيما تعين من عدّة المراكب السائرة، وكانت في أيام المعز لدين الله تزيد على ستمائة قطعة، وآخر ما صارت إليه في آخر الدولة نحو الثمانين شونة، وعشر مسطحات، وعشر حمالة، فما تقصر عن مائة قطعة، فيتقدّم إلى النقباء بإحضار الرجال، وفيهم من كان يتمعش بمصر والقاهرة، وفيهم من هو خارج عنهما، فيجتمعون. وكانت لهم المشاهرة والجرايات في مدّة أيام سفرهم، وهم معروفون عند عشرين عريفا يقال لهم النقباء، واحدهم نقيب، ولا يكره أحد على السفر، فإذا اجتمعوا أعلم النقباء المقدّم، فأعلم بذلك الوزير، فطالع الوزير الخليفة بالحال، فقرّر يوما للنفقة، فحضر الوزير بالاستدعاء من ديوان الإنشاء على العادة، فيجلس الخليفة على هيئته في مجلسه، ويجلس الوزير في مكانه، ويحضر صاحبا ديوان الجيش، وهما المستوفي والكاتب، والمستوفي هو أمير هما، فيجلس من داخل عتبة المجلس، وهذه رتبة له يتميز بها، ويجلس بجانبه من وراء العتبة كاتب الجيش في قاعة الدار على حصر مفروشة، وشرط هذا المستوفي أن يكون عدلا ومن أعيان الكتّاب، ويسمى اليوم في زمننا ناظر الجيش، وأما كاتب الجيش فإنه كان في غالب الأمر يهوديا، وللمجلس الذي فيه الخليفة والوزير انطاع «1» تصب عليها الدراهم، ويحضر الوزانون ببيت المال لذلك، فإذا تهيأ الإنفاق أدخل الغزاة مائة مائة، فيقفون في أخريات من هو واقف في الخدمة من جانب واحد، نقابة نقابة، وتكون أسماؤهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة، فيستدعي مستوفي الجيش من تلك الأوراق المنفق عليهم واحدا واحدا، فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذي هو فيه إلى الجانب الآخر، فإذا تكملت عشرة، وزن الوزانون لهم النفقة، وكانت مقرّرة لكلّ واحد خمسة دنانير صرف ستة وثلاثين درهما بدينار، فيسلمها لهم النقيب وتكتب باسمه وبيده، وتمضي النفقة هكذا إلى آخرها. فإذا تم ذلك ركب الوزير من بين يدي الخليفة وانفضّ ذلك الجمع، فيحمل إلى الوزير من القصر مائدة يقال لها غداء الوزير، وهي سبع مجنقات أوساط، إحداها بلحم الدجاج وفستق، معمولة بصناعة محكمة، والبقية شواء، وهي مكمورة بالأزهار. فتكون النفقة على ذلك مدّة أيام متوالية مرّة ومتفرّقة مرّة، فإذا تكاملت النفقة وتجهزت المراكب وتهيأت للسفر، ركب الخليفة والوزير إلى ساحل النيل بالمقس خارج القاهرة، وكان هناك على شاطيء النيل بالجامع منظرة يجلس فيها الخليفة برسم وداع الأسطول ولقائه إذا عاد، فإذا

جلس للوداع جاءت القوّاد بالمراكب من مصر إلى هناك للحركات في البحر بين يديه، وهي مزينة بأسلحتها ولبودها وما فيها من المنجنيقات، فيرمى بها وتنحدر المراكب وتقلع، وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدوّ، ثم يحضر المقدّم والرئيس إلى بين يدي الخليفة فيودّعهما ويدعو للجماعة بالنصرة والسلامة، ويعطى للمقدم مائة دينار، وللرئيس عشرين دينارا، وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى بحر الملح، فيكون له ببلاد العدوّ صيت عظيم ومهابة قوية، والعادة أنه إذا غنم الأسطول ما عسى أن يغنم، لا يتعرّض السلطان منه إلى شيء البتة إلّا ما كان من الأسرى والسلاح، فإنه للسلطان، وما عداهما من المال والثياب ونحو هما فإنه لغزاة الأسطول، لا يشاركهم فيه أحد، فإذا قدم الأسطول خرج الخليفة أيضا إلى منظرة المقس وجلس فيها للقائه، وقدم الأسطول مرّة بألف وخمسمائة أسير، وكانت العادة أن الأسرى ينزل بهم في المناخ، وتضاف الرجال إلى من فيه من الأسرى، ويمضى بالنساء والأطفال إلى القصر بعد ما يعطى منهم الوزير طائفة، ويفرّق ما بقي من النساء على الجهات والأقارب، فيستخدمونهنّ ويربونهنّ حتى يتقنّ الصنائع، ويدفع الصغار من الأسرى إلى الاستادين فيربونهم ويتعلمون الكتابة والرماية، ويقال لهم الترابي، وفيهم من صار أميرا من صبيان خاص الخليفة، من الأسرى من كان يستراب به فيقتل، ومن كان منهم شيخا لا ينتفع به ضربت عنقه وألقي في بئر كانت في خرائب مصر، تعرف ببئر المنامة، ولم يعرف قط عن الدولة الفاطمية أنها فادت أسيرا من الفرنج بمال ولا بأسير مثله، وكان المنفق في الأسطول كلّ سنة خارجا عن العدد والآلات. ولم يزل الأسطول على ذلك إلى أن كانت وزارة شاور، ونزل مري ملك الفرنج على بركة الحبش، فأمر شاور بتحريق مصر وتحريق مراكب الأسطول، فحرّقت ونهبها العبيد فيما نهبوا، فلما كان زوال الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، اعتنى أيضا بأمر الأسطول وأفرد له ديوانا عرف بديوان الأسطول، وعين لهذا الديوان الفيوم بأعمالها، والحبس الجيوشي في البرّين الشرقيّ والغربيّ، وهو من البرّ الشرقيّ بهتين والأميريّة والمنية، ومن البرّ الغربيّ ناحية سفط ونهيا ووسيم والبساتين خارج القاهرة، وعين له أيضا الخراج، وهو أشجار من سنط لا تحصى كثرة، في البهنساوية وسفط ريشين والأشمونين والأسيوطية والأخميمية والقوصية، لم تزل بهذه النواحي لا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار، وقد ذكر خبر هذا الخراج في ذكر أقسام مال مصر من هذا الكتاب، وعين له أيضا النطرون، وكان قد بلغ ضمانه ثمانية آلاف دينار، ثم أفرد لديوان الأسطول مع ما ذكر الزكاة التي كانت تجبى بمصر، وبلغت في سنة زيادة على خمسين ألف دينار، وأفرد له المراكب الديوانية وناحية أشناي وطنبدي، وسلّم هذا الديوان لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فأقام في مباشرته وعمالته صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر، وتقرّر ديوان الأسطول الذي ينفق في

رجاله نصف وربع دينار، بعد ما كان نصف وثمن دينار. فلما مات السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، استمرّ الحال في الأسطول قليلا ثم قلّ الاهتمام به، وصار لا يفكر في أمره إلا عند الحاجة إليه، فإذا دعت الضرورة إلى تجهيزه طلب له الرجا لو قبض عليهم من الطرقات وقيدوا في السلاسل نهارا وسجنوا في الليل حتى لا يهربوا، ولا يصرف لهم إلّا شيء قليل من الخبز ونحوه، وربما أقاموا الأيام بغير شيء كما يفعل بالأسرى من العدوّ فصارت خدمة الأسطول عارا يسبّ به الرجال، وإذا قيل لرجل في مصر يا أسطوليّ، غضب غضبا شديدا، بعد ما كان خدّام الأسطول يقال لهم المجاهدون في سبيل الله، والغزاة في أعداء الله، ويتبرّك بدعائهم الناس. ثم لما انقرضت دولة بني أيوب وتملك الأتراك المماليك مصر، أهملوا أمر الأسطول إلى أن كانت أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، فنظر في أمر الشواني الحربية، واستدعى برجال الأسطول، وكان الأمراء قد استعملوهم في الحراريق وغيرها، وندبهم للسفر وأمر بمدّ الشواني وقطع الأخشاب لعمارتها وإقامتها على ما كانت عليه في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، واحترز على الخراج ومنع الناس من التصرّف في أعواد العمل، وتقدّم بعمارة الشواني في ثغري الإسكندرية ودمياط، وصار ينزل بنفسه إلى الصناعة بمصر ويرتب ما يجب ترتيبه من عمل الشواني ومصالحها، واستدعى بشواني الثغور إلى مصر فبلغت زيادة على أربعين قطعة سوى الحراريق والطرائد، فإنها كانت عدّة كثيرة، وذلك في شوال سنة تسع وستين وستمائة، ثم سارت تريد قبرس، وقد عمل ابن حسون رئيس الشواني في أعلامها الصلبان، يريد بذلك أنها تفى إذا عبرت البحر على الفرنج حتى تطرقهم على غفلة، فكره الناس منه ذلك، فلما قاربت قبرس تقدّم ابن حسون في الليل ليهجهم المينا فصدم الشونة المقدّمة شعبا فانكسرت، وتبعتها بقية الشواني فتكسرت الشواني كلها، وعلم بذلك متملك قبرس فأسر كلّ من فيها، وأحاط بما معهم وكتب إلى السلطان يقرّعه ويوبخه، وأن شوانيه قد تكسرت، وأخذ ما فيها وعدّتها إحدى عشرة شونة، وأسر رجالها. فحمد السلطان الله تعالى وقال: الحمد لله، منذ ملكني الله تعالى ما خذل لي عكسر، ولا ذلّت لي راية، وما زلت أخشى العين، فالحمد لله تعالى، بهذا ولا بغيره، وأمر بإنشاء عشرين شونة، وأحضر خمس شواني كانت على مدينة قوص من صعيد مصر، ولازم الركوب إلى صناعة العمارة بمصر كلّ يوم في مدّة شهر المحرّم سنة سبعين وستمائة إلى أن تنجزت، فلما كان في نصف المحرّم سنة إحدى وسبعين وستمائة، زاد النيل حتى لعبت الشواني بين يديه، فكان يوما مشهودا، في سنة اثنتين وتسعين وستمائة تقدّم السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون إلى الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس

بتجهيز أمير الشواني، فنزل إلى الصناعة واستدعى الرئيس وهيأ جميع ما تحتاج إليه الشواني حتى كملت عدّتها، نحو ستين شونة، وشحنها بالعدد وآلات الحرب، ورتب بها عدّة من المماليك السلطانية، وألبسهم السلاح، فأقبل الناس لمشاهدتهم من كلّ أوب قبل ركوب السلطان بثلاثة أيام، وصنعوا لهم قصورا من خشب وأخصاص القش على شاطىء النيل خارج مدينة مصر وبالروضة، واكتروا الساحات التي قدّام الدور والزرابي بالمائتي درهم، كلّ زريبة ما دونها، بحيث لم يبق بيت بالقاهرة ومصر إلا وخرج أهله أو بعضهم لرؤية ذلك، فصار جمعا عظيما، وركب السلطان من قلعة الجبل بكرة، والناس قد ملأ وأما بين المقياس إلى بستان الخشاب إلى بلاق، وونف السلطان ونائبه الأمير بيدر وبقية الأمراء قدّام دار النحاس، ومنع الحجاب من التعرّض لطرد العامّة، فبرزت الشواني واحدة بعد واحدة، وقد عمل في كل شونة برج وقلعة تحاصر، والقتال عليها ملح، والنفط يرمى عليها، وعدّة من النقابين في أعمال الحيلة، في النقب، وما منهم إلّا من أظهر في شونته عملا معجبا وصناعة غريبة يفوق بها على صاحبه، وتقدّم ابن موسى الراعي وهو في مركب نيلية فقرأ قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود/ 41] ثم تلاها بقراءة قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [آل عمران/ 26] إلى آخر الآية، هذا والشواني تتواصل بمحاربة بعضها بعضا إلى أن أذن لصلاة الظهر، فمضى السلطان بعسكره عائد إلى القلعة، فأقام الناس بقية يومهم وتلك الليلة على ما هم عليه من اللهو في اجتماعهم، وكان شيئا يجلّ وصفه، وأنفق فيه مال لا يعدّ، بحيث بلغت أجرة المركب في هذا اليوم ستمائة درهم فما دونها، وكان الرجل الواحد يؤخذ منه أجرة ركوبه في المركب خمسة دراهم، وحصل لعدّة من النواتية أجرة مراكبهم عن سنة في هذا اليوم، وكان الخبز يباع اثنا عشر رطلا بدرهم، فلكثرة اجتماع الناس بمصر بيع سبعة أرطال بدرهم، فبلغ خبر الشواني إلى بلاد الفرنج فبعثوا رسلهم بالهدايا يطلبون الصلح. فلما كان المحرّم سنة اثنتين وسبعمائة في سلطنة الناصر محمد بن قلاون، جهزت الشواني بالعدد والسلاح والنفطية والأزودة، وعين لها جماعة من أجناد الحلقة، وألزم كلّ أمير بإرسال رجلين من عدّته، وألزم أمراء الطبلخاناه والعشروات بإخراج كلّ أمير من عدّته رجلا، وندب الأمير سيف الدين كهرداش المنصوريّ الزراق إلى السفر بهم ومعه جماعة من مماليك السلطان الزراقين، وزينت الشواني أحسن زينة، فخرج معظم الناس لرؤيتها وأقاموا يومين بلياليهما على الساحل بالبرّين، وكان جمعا عظيما إلى الغاية، وبلغت أجرة المركب الصغير مائة درهم لأجل الفرجة، ثم ركب السلطان بكرة يوم السبت ثاني عشر المحرّم ومعه الأمير سلار النائب، والأمير بيبرس الجاشنكير، وسائر الأمراء، والعسكر، فوقفت المماليك

على البرّ نحو بستان الخشاب، وعدّى الأمراء في الحراريق إلى الروضة، وخرجت الشواني واحدة بعد واحدة، فلعبت منها ثلاثة وخرجت الرابعة وفيها الأمير أقوش القاري من مينا الصناعة حتى توسط البحر، فلعب بها الريح إلى أن مالت وانقلبت، فصار أعلاها أسفلها فتداركها الناس ورفعوا ما قدروا عليه من العدد والسلاح، وسلمت الرجال فلم يعدم منهم سوى أقوش وحده، فتنكد الناس وعاد الأمراء إلى القلعة بالسلطان، وجهز شونة عوضا عن التي غرقت وساروا إلى مينا طرابلس، ثم ساروا ومعهم عدّة من طرابلس فأشرقوا من الغد على جزيرة أرواد من أعمال قبرس، وقاتلوا أهلها وقتلوا أكثرهم وملكوها في يوم الجمعة ثامن عشري صفر، واستولوا على ما فيها وهدموا أسوارها وعادوا إلى طرابلس، وأخرجوا من الغنائم الخمس للسلطان، واقتسموا ما بقي منها، وكان معهم مائتان وثمانون أسيرا، فسرّ السلطان بذلك سرورا كثيرا. صناعة المقس: قال ابن أبي طيّ في تاريخه عند ذكر وفاة المعز لدين الله، أنه أنشأ دار الصناعة التي بالمقس، وأنشأ بها ستمائة مركب لم ير مثلها في البحر على ميناء. وقال المسبحي: أن العزيز بالله بن المعز هو الذي بنى دار الصناعة التي بالمقس، وعمل المراكب التي لم ير مثلها فيما تقدم كبرا ووثاقة وحسنا. وقال في حوادث سنة ست وثمانين وثلاثمائة: ووقعت نار في الأسطول وقت صلاة الجمعة، لست بقين من شهر ربيع الآخر، فأحرقت خمس عشاريات وأتت على جميع ما في الأسطول من العدّة والسلاح واتهموا الروم النصارى، وكانوا مقيمين بدار ماتك بجوار الصناعة التي بالمقس، وحملوا على الروم هم وجموع من العامّة معهم، فنهبوا أمتعة الروم وقتلوا منهم مائة رجل وسبعة رجال، وطرحوا جثثهم في الطرقات، وأخذ من بقي فحبس بصناعة المقس، ثم حضر عيسى بن نسطورس خليفة أمير المؤمنين العزيز بالله في الأموال ووجوهها بديار مصر والشام والحجاز، ومعه يانس الصقلبيّ، وهو يومئذ خليفة العزيز بالله على القاهرة عند مسيره إلى الشام، ومعهما مسعود الصقلبيّ متولي الشرطة، وأحضروا الروم من الصناعة فاعترفوا بأنهم الذين أحرقوا الأسطول، فكتب بذلك إلى العزيز بالله وهو مبرّز يريد السفر إلى الشام، وذكر له في الكتاب خبر من قتل من الروم وما نهب، وأنه ذهب في النهب ما يبلغ تسعين ألف دينار، فطاف أصحاب الشرط في الأسواق بسجل فيه الأمر برد ما نهب من دار ماتك وغيرها، والتوعد لمن ظهر عنده منه شيء، وحفظ أبو الحسن يانس البلد وضبط الناس، وأمر عيسى بن نسطورس أن يمدّ للوقت عشرون مركبا، وطرح الخشب وطلب الصناع وبات في الصناعة، وجدّ الصناع في العمل، وأغلب أحداث الناس وعامّتهم يلعبون برءوس القتلى ويجرّون بأرجلهم في الأسواق والشوارع، ثم قرنوا بعضهم إلى بعض على ساحل النيل بالمقس وأحرقوا يوم السبت، وضرب بالحرس على البلد، أن لا يتخلف أحد ممن نهب شيئا حتى يحضر ما نهبه ويردّه، ومن علم عليه بشيء أو كتم شيئا أو جحده أو أخره، حلت به العقوبة

الشديدة، وتتبع من نهب فقبض على عدّة قتل منهم عشرون رجلا ضربت أعناقهم، وضرب ثلاثة وعشرون رجلا بالسياط، وطيف بهم وفي عنق كلّ واحد رأس رجل ممن قتل من الروم، وحبس عدّة أناس، وأمر بمن ضربت أعناقهم فصلبوا عند كوم دينار، وردّ المصريون إلى المطبق، وكان ضرب من ضرب من النهابة وقتل من قتل منهم برقاع كتبت لهم، تناول كلّ واحد منهم رقعة فيها مكتوب إما بقتل أو ضرب، فأمضى فيهم بحسب ما كان في رقاعهم من قتل أو ضرب، واشتدّ الطلب على النهاية فكان الناس يدل بعضهم على بعض، فإذا أخذ أحد ممن اتهم بالنهب حلف بالأيمان المغلظة أنه ما بقى عنده شيء. وجدّ عيسى بن نسطورس في عمل الأسطول وطلب الخشب، فلم يدع عند أحد خشبا علم به إلّا أخذه منه، وتزايد إخراج النهابة لما نهبوه، فكانوا يطرحونه في الأزقة والشوارع خوفا من أن يعرفوا به، وحبس كثير ممن أحضر شيئا أو عرف عليه من النهب، فلما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى ضربت أعناقهم كلهم على يد أبي أحمد جعفر صاحب يانس، فإنه قدم في عسكر كثير من اليانسية حتى ضربت أعناق الجماعة، وأغلقت الأسواق يومئذ وطاف متولى الشرطة وبين يديه أرباب النفط بعددهم والنار مشتعلة، واليانسية ركاب بالسلاح، وقد ضرب جماعة وشهرهم بين يديه وهم ينادي عليهم هذا جزاء من أثار الفتن ونهب حريم أمير المؤمنين، فمن نظر فليعتبر فما تقال لهم عثرة ولا ترحم لهم عبرة في كلام كثير من هذا الجنس، فاشتدّ خوف الناس وعظم فزعهم، فلما كان من الغد نودي: معاشر الناس قد آمن الله من أخذ شيئا أو نهب شيئا على نفسه وما له، فليردّ من بقي عنده شيء من النهب، وقد أجلناكم من اليوم إلى مثله، وفي سابع جمادى الآخرة نزل ابن نسطورس إلى الصناعة وطرح مركبين في غاية الكبر من التي استعملها بعد حريق الأسطول، وفي غرّة شعبان نزل أيضا وطرح بين يديه أربعة مراكب كبارا من المنشأة بعد الحريق، واتفق موت العزيز بالله وهو سائر إلى الشام في مدينة بلبيس. فلما قام من بعده ابنه الحاكم بأمر الله في الخلافة أمر في خامس شوال بحط الذين صلبهم ابن نسطورس، فتسلمهم أهلهم وأعطى لأهل كلّ مصلوب عشرة دنانير برسم كفنه ودفنه، وخلع على عيسى بن نسطورس وأقرّه في ديوان الخاص، ثم قبض عليه في ليلة الأربعاء سابع المحرّم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة واعتقله إلى ليلة الاثنين سابع عشريه، فأخرجه الأستاذ برجوان وهو يومئذ يتولى تدبير الدولة إلى المقس، وضرب عنقه، فقال وهو ماض إلى المقس: كلّ شيء قد كنت أحسبه إلّا موت العزيز بالله، ولكن الله لا يظلم أحدا، والله إني لأذكر وقد ألقيت السهام للقوم المأخوذين في نهب دار ماتك، وفي بعضها مكتوب يقتل وفي أخرى يضرب، فأخذ شاب ممن قبض عليه رقعة منها منها فجاء فيها يقتل، فأمرت به إلى القتل، فصاحت أمّه ولطمت وجهها وحلفت أنها وهو ما كانا ليلة النهب في شيء من أعمال مصر، وإنما ورد أمصر بعد النهب بثلاثة أيام، وناشدتني الله تعالى

أن أجعله من جملة من يضرب بالسوط، وأن يعفى من القتل، فلم ألتفت إليها وأمرت بضرب عنقه، فقالت أمّه: إن كنت لا بدّ قاتله فاجعله آخر من يقتل لأتمتع به ساعة، فأمرت به فجعل أوّل من ضرب عنقه، فلطخت بدمه وجمهها وسبقتني وهي منبوشة الشعر ذاهلة العقل إلى القصر، فلما وافيت قالت لي أقتلته؟ كذلك. يقتلك الله، فأمرت بها فضربت حتى سقطت إلى الأرض، ثم كان من الأمر ما ترون مما أنا صائر إليه، وكان خبره عبرة لمن اعتبر، وفي نصف شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ركب الحاكم بأمر الله إلى صناعة المقس لتطرح المراكب بين يديه. صناعة الجزيرة: هذه الصناعة كانت بجزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة، وهي أوّل صناعة عملت بفسطاط مصر، بنيت في سنة أربع وخمسين من الهجرة، وكان قبل بنائها هناك خمسمائة فاعل تكون مقيمة أبدا معدّة لحريق يكون في البلاد أو هدم، ثم اعتنى الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بإنشاء المراكب الحربية في هذه الصناعة وأطافها بالجزيرة، ولم تزل هذه الصناعة إلى أيام الملك الأمير أبي بكر محمد بن طفج الإخشيد، فأنشأ صناعة بساحل فسطاط مصر، وجعل موضع هذه الصناعة البستان المختار كما قد ذكر في موضعه من هذا الكتاب، صناعة مصر: هذه الصناعة كانت بساحل مصر القديم، يعرف موضعها بدار خديجة بنت الفتح بن خاقان، امرأة الأمير أحمد بن طولون، إلى أن قدم الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أميرا على مصر من قبل الخليفة الراضي، عوضا عن أحمد بن كيغلغ في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وقد كثرت الفتن، فلم يدخل عيسى بن أحمد السلميّ أبو مالك كبير المغاربة في طاعته، ومضى ومعه بحكم وعليّ بن بدر ونظيف النوشريّ وعليّ المغربيّ إلى الفيوم، فبعث إليهم الإخشيد صاعدين الكلكم بمراكبه، فقاتلوه وقتلوه وأخذوا مراكبه، وركب فيها عليّ بن بدر وبحكم وقدموا مدينة مصر أوّل يوم من ذي القعدة، فأرسوا بجزيرة الصناعة، وركب الإخشيد في جيشه ووقف حيالهم، والنيل بينهم وبينه، فكره ذلك وقال: صناعة يحول بينها وبين صاحبها الماء ليست بشيء، فأقام بحكم وعليّ بن بدر إلى آخر النهار ومضوا إلى جهة الإسكندرية وعاد الإخشيد إلى داره فأخذ في تحويل الصناعة من موضعها بالجزيرة إلى دار خديجة بنت الفتح، في شعبان سة خمس وعشرين وثلاثمائة وكان إذ ذاك عندها سلّم ينزل منه إلى الماء، وعند ما ابتدأ في إنشاء المراكب بها صاحت به امرأة فأمر بأخذها إليه، فسألته أن يبعث معها من يحمل المال، فسيّر معها طائفة، فأتت بهم إلى دار خديجة هذه ودلتهم على موضع منها فأخرجوا منه عينا وورقا وحليا وغيره، وطلبت المرأة فلم توجد ولا عرف لها خبر، وكانت مراكب الأسطول مع ذلك تنشأ في الجزيرة وفي صناعتها إلى أيام الخليفة الآمر بأحكام الله تعالى، فلما ولي المأمون بن البطائحيّ أنكر ذلك وأمر أن يكون إنشاء الشواني والمراكب النيلية الديوانية بصناعة مصر هذه، وأضاف إليها دار

ذكر الميادين

الزبيب، وأنشأ بها منظرة لجلوس الخليفة يوم تقدمة الأسطول ورميه، فأقرّ إنشاء الحربيات والشلنديات بصناعة الجزيرة، وكان لهذه الصناعة دهليز ماد بمساطب مفروشة بالحصر العبدانية بسطا وتازيرا، وفيها محل ديوان الجهاد، وكان يعرف في الدولة الفاطمية أن لا يدخل من باب هذه الصناعة أحد راكبا إلّا الخليفة والوزير إذا ركبا في يوم فتح الخليج عند وفاء النيل، فإن الخليفة كان يدخل من بابها ويشقّها راكبا والوزير معه حتى يركب النيل إلى المقياس، كما قد ذكر في موضعه من ذا الكتاب، ولم تزل هذه الصناعة عامرة إلى ما قبل سنة سبعمائة، ثم صارت بستانا عرف ببستان ابن كيسان، ثم عرف في زمننا ببستان الطواشيّ، وكان فيما بين هذه الصناعة والروضة بحر، ثم تربى جرف عرف موضعه بالجرف، وأنشئ هناك بستان عرف ببستان الجرف، وصار في جملة أوقاف خانقاه المواصلة، وقيل لهذا الجرف بين الزقاقين، وكان فيه عدّة دور وحمّام وطواحين وغير ذلك، ثم خرّب من بعد سنة ست وثمانمائة، وخرب بستان الجرف أيضا، وإلى اليوم بستان الطواشي فيه بقية، وهو على يسرة من يريد مصر من طريق المراغة، وبظاهره حوض ماء ترده الدواب، ومن وراء البستان كيمان فيها كنيسة للنصارى. قال ابن المتوّج: وكان مكان بستان ابن كيسان صناعة العمارة، وأدركت فيه بابها، وبستان الجرف المقابل لبستان ابن كيسان كان مكانه بحر النيل، وإن الجرف تربى به. ذكر الميادين ميدان ابن طولون: كان قد بناه وتأنق فيه تأنقا زائدا، وعمل فيه المناخ وبركة الزئبق والقبة الذهبية، وقد ذكر خبر هذا الميدان عند ذكر القطائع من هذا الكتاب. ميدان الإخشيد: هذا الميدان أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أمير مصر، بجوار بستانه الذي يعرف اليوم في القاهرة بالكافوريّ، ويشبه أن يكون موضع هذا الميدان اليوم حيث المكان المعروف بالبندقانيين وحامة الوزيرية، وما جاور ذلك. وكان لهذا البستان بابان من حديد قلعهما القائد جوهر عند ما قدم القرمطيّ إلى مصر يريد أخذها، وجعلهما على باب الخندق الذي حفره بظاهر القاهرة قريبا من مدينة عين شمس، وذلك في سنة ستين وثلاثمائة وكان هذا الميدان من أعظم أماكن مصر، وكانت فيه الخيول السلطانية في الدولة الإخشيدية. ميدان القصر: هذا الميدان موضعه الآن في القاهرة، يعرف بالخرنشف، عمل عند بناء القاهرة بجوار البستان الكافوريّ، ولم يزل ميدانا للخلفاء الفاطميين، يدخل إليه من باب التبانين الذي موضعه الآن يعرف بقبو الخرنشف، فلما زالت الدولة الفاطمية تعطل وبقي إلى أن بنى به الغز اصطبلات بالخرنشف، ثم حكر وبني فيه، فصار من أخطاط القاهرة. ميدان قراقوش: هذا الميدان خارج باب الفتوح.

ميدان الملك العزيز: هذا الميدان كان بجوار خليج الدكر، وكان موضعه بستانا. قال القاضي الفاضل في متجددات ثالث عشري شهر رمضان، سنة أربع وتسعين وخمسمائة: خرج أمر الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، بقطع النخل المثمر المستغل تحت اللؤلؤة بالبستان المعروف بالبغدادية، وهذا البستان كان من بساتين القاهرة الموصوفة، وكان منظره من المناظر المستحسنة، وكان له مستغل، وكان قد عنى الأوّلون به لمجاورته اللؤلؤة، وأطلال جميع مناظرها عليه، وجعل هذا البستان ميدانا وحرث أرضه وقطع ما فيه من الأصول. انتهى. ثم حكر الناس أرض هذا البستان وبنوا عليها، وهو الآن داثر فيه كيمان وأتربة انتهى. الميدان الصالحيّ: هذا الميدان كان بأراضي اللوق من برّ الخليج الغربيّ، وموضعه الآن من جامع المطباخ بباب اللوق إلى قنطرة قدادار التي على الخليج الناصريّ، ومن جملته الطريق المملوكة الآن من باب اللوق إلى القنطرة المذكورة، وكان أوّلا بستانا يعرف ببستان الشريف ابن ثعلب، فاشتراه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، بثلاثة آلاف دينار مصرية، من الأمير حصن الدين ثعلب بن الأمير فخر الدين إسماعيل بن ثعلب الجعفريّ، في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وجعله ميدانا وأنشأ فيه مناظر جليلة تشرف على النيل الأعظم، وصار يركب إليه ويلعب فيه بالكرة، وكان عمل هذا الميدان سببا لبناء القنطرة التي يقال لها اليوم قنطرة الخرق على الخليج الكبير لجوازه عليها، وكان قبل بنائها موضعها موردة سقائي القاهرة، وما برح هذا الميدان تلعب فيه الملوك بالكرة من بعد الملك الصالح إلى أن انحسر ماء النيل من تجاهه، وبعد عنه، فأنشأ الملك الظاهر ميدانا على النيل. وفي سلطنة الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ النجميّ، قال له منجمه أنّ امرأة تكون سببا في قتله، فأمر أن تخرب الدور والحوانيت التي من قلعة الجبل بالتبانة إلى باب زويلة، وإلى باب الخرق وإلى باب اللوق إلى الميدان الصالحيّ، وأمر أن لا يترك باب مفتوح بالأماكن التي يمرّ عليها يوم ركوبه إلى الميدان، ولا تفتح أيضا طاقة، وما زال باب هذا الميدان باقيا وعليه طوارق مدهونة إلى ما بعد سنة أربعين وسبعمائة، فأدخله صلاح الدين بن المغربيّ في قيسارية الغزل التي أنشأ هناك، ولأجل هذا الباب قيل لذلك الخط باب اللوق، ولما خرب هذا الميدان حكر وبني موضعه ما هنالك من المساكن، ومن جملته حكر مرادي، وهو على يمنة من سلك من جامع الطباخ إلى قنطرة قدادار، وهو في أوقاف خانقاه قوصون وجامع قوصون بالقرافة، وهذا الحكر اليوم قد صار كيمانا بعد كثرة العمارة به.

الميدان الظاهريّ: هذا الميدان كان بطرف أراضي اللوق يشرف على النيل الأعظم، وموضعه الآن تجاه قنطرة قدادار من جهة باب اللوق، أنشأه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ الصالحيّ، لما انحسر ماء النيل وبعد عن ميدان أستاذه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وما زال يلعب فيه بالكرة هو ومن بعده من ملوك مصر، إلى أن كانت سنة أربع عشرة وسبعمائة، فنزل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إليه وخرّب مناظره وعمله بستانا من أجل بعد البحر عنه، وأرسل إلى دمشق فحمل إليه منها سائر أصناف الشجر، وأحضر معها خولة الشام والمطعمين، فغرسوها فيه وطعموها، وما زال بستانا عظيما، ومنه تعلم الناس بمصر تطعيم الأشجار في بساتين جزيرة الفيل، وجعل السلطان فواكه هذا البستان مع فواكه البستان الذي أنشأه بسرياقوس تحمل بأسرها إلى الشراب خاناه السلطانية بقلعة الجبل، ولا يباع منا شيء البتة، وتصرف كلفهما من الأموال الديوانية، فجادت فواكه هذين البستانين وكثرت حتى حاكت بحسنها فواكه الشام لشدجة العناية والخدمة بهما، ثم إنّ السلطان لما اختص بالأمير قوصون أنعم بهذا البستان عليه، فعمر تجاهه الزريبة التي عرفت بزريبة قوصون على النيل، وبنى الناس الدور الكثيرة هناك سميا لما حفر الخليج الناصري، فإن العمارة عظمت فيما بين هذا البستان والبحر وفيما بينه وبين القاهرة ومصر، ثم إنّ هذا البستان خرب لتلاشي أحواله بعد قوصون، وحكرت أرضه وبنى الناس فوقها الدور التي على يسرة من صعد القنطرة من جهة باب اللوق يريد الزريبة، ثم لما خرب خط الزريبة خرب ما عمر بأرض هذا البستان من الدور، منذ سنة ست وثمانمائة والله تعالى أعلم. ميدان بركة الفيل: هذا الميدان كان مشرفا على بركة الفيل قبالة الكبش، وكان أوّلا اصطبل الجوق برسم خيول المماليك السلطانية، إلى أن جلس الأمير زين الدين كتبغا على تخت الملك وتلقب بالملك العادل، بعد خلعه الملك الناصر محمد بن قلاون في المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة، فلما دخلت سنة خمس وتسعين كان الناس في أشدّ ما يكون من غلاء الأسعار وكثرة الموتان، والسلطان خائف على نفسه ومتحرّز من وقوع فتنة، وهو مع ذلك ينزل من قلعة الجبل إلى الميدان الظاهريّ بطرف اللوق، فحسن بخاطره أن يعمل إصطبل الجوق المذكور ميدانا عوضا عن ميدان اللوق، وذكر ذلك للأمراء فأعجبهم ذلك، فأمر بإخراج الخيل منه وشرعه في عمله ميدانا، وبادر الناس من حينئذ إلى بناء الدور بجانبه، وكان أوّل من أنشأ هناك الأمير علم الدين سنجر الخازن في الموضع الذي عرف اليوم بحكر الخازن، وتلاه الناس في العمارة والأمراء، وصار السلطان ينزل إلى هذا الميدان من القلعة فلا يجد في طريقه أحدا من الناس سوى أصحاب الدكاكين من الباعة لقلة الناس وشغلهم بما هم فيه من الغلاء والوباء، ولقد رآه شخص من الناس وقد نزل إلى الميدان والطرقات خالية فأنشد ما قيل في الطبيب ابن زهر:

قل للغلا أنت وابن زهر ... بلغتما الحدّ والنهايه ترفقا بالورى قليلا ... في واحد منكما كفايه وما برح هذا الميدان باقيا إلى أن عمّر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون قصر الأمير بكتمر الساقي على بركة الفيل، فأدخل فيه جميع أرض هذا الميدان، وجعله إصطبل الأمير بكتمر الساقي، في سنة سبع عشرة وسبعمائة، وهو باق إلى وقتنا هذا. ميدان المهاري: هذا الميدان بالقرب من قناطر السباع في برّ الخليج الغربيّ، كان من جملة جنان الزهريّ، أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة عشرين وسبعمائة، ومن وراء هذا الميدان بركة ماء كان موضعها كرم القاضي الفاضل رحمة الله عليه. قال جامع السيرة الناصرية: وكان الملك الناصر محمد بن قلاون له شغف عظيم بالخيل، فعمل ديوانا ينزل فيه كلّ فرس بشأنه واسم صاحبه وتاريخ الوقت الذي حضر فيه، فإذا حملت فرس من خيول السلطان أعلم به وترقب الوقت الذي تلد فيه، واستكثر من الخيل حتى احتاج إلى مكان برسم نتاجها، فركب من قلعة الجبل في سنة عشرين وسبعمائة، وعين موضعا يعمله ميدانا برسم المهاري، فوقع اختياره على أرض بالقرب من قناطر السباع، وما زال واقفا بفرسه حتى حدّد الموضع وشرع في نقل الطين البليز إليه، وزرعه من النخل وغيره، وركب على الآبار التي فيه السواقي، فلم يمض سوى أيام حتى ركب إليه ولعب فيه بالكرة مع الخاصكية، ورتب فيه عدّة حجور للنتاج وأعدّلها سوّاسا وأميرا خورية وسائر ما يحتاج إليه، وبني فيه أماكن ولازم الدخول إليه في ممرّه إلى الميدان الذي أنشأه على النيل بموردة الملح. فلما كان بعد أيام وأشهر حسن في نفسه أن يبني تجاه هذا الميدان على النيل الأعظم بجوار جامع الطيبرسي زريبة، ويبرز بالمناظر التي ينشئها في الميدان إلى قرب البحر، فنزل بنفسه وتحدّث في ذلك، فكثّر المهندسون المصروف في عينه وصعّبوا الأمر من جهة قلة الطين هناك، وكان قد أدركه السفر للصعيد، فترك ذلك وما برحت الخيول في هذا الميدان إلى أن مات الملك الظاهر برقوق في سنة إحدى وثمانمائة، واستمرّ بعده في أيام ابنه الملك الناصر فرج، إلّا أنه تلاشى أمره عما كان قبل ذلك، ثم انقطعت منه الخيول وصار براحا خاليا. ميدان سرياقوس: كان هذا الميدان شرقيّ ناحية سرياقوس بالقرب من الخانقاه، أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وبنى فيه قصورا جليلة وعدّة منازل للأمراء، وغرس فيه بستانا كبيرا نقل إليه من دمشق سائر الأشجار التي تحمل الفواكه، وأحضر معها خولة بلاد الشام حتى غرسوها وطعموا الأشجار، فأفلح

فيه الكرم والسفرجل وسائر الفواكه، فلما كمل في سنة خمس وعشرين خرج ومعه الأمراء والأعيان ونزل القصور التي هناك، ونزل الأمراء والأعيان على منازلهم في الأماكن التي بنيت لهم، واستمرّ يتوجه إليه في كلّ سنة ويقيم به الأيام ويلعب فيه بالكرة إلى أن مات، فعملل ذلك أولاده الذين ملكوا من بعده. فكان السلطان يخرج في كل سنة من قلعة الجبل بعد ما تنقضي أيام الركوب إلى الميدان الكبير الناصريّ وعلى النيل، ومعه جميع أهل الدولة من الأمراء والكتاب وقاضي العسكر وسائر أرباب الرتب، ويسير إلى السرحة بناحية سرياقوس وينزل بالقصور ويركب إلى الميدان هناك للعب الكرة، ويخلع الأمراء وسائر أهل الدولة، ويقيم في هذه السرحة أياما، فيمرّ للناس في إقامتهم بهذه السرحة أوقات لا يمكن وصف ما فيها من المسرّات، ولا حصر ما ينفق فيها من المآكل والهبات من الأموال، ولم يزل هذا الرسم مستمرّ إلى سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وهي آخر سرحة سار إليها السلطان بسرياقوس، ومن هذه السنة انقطع السلطان الملك الظاهر برقوق عن الحركة لسرياقوس، فإنه اشتغل في سنة ثمانمائة بتحرّك المماليك عليه من وقت قيام الأمير علي باي إلى أن مات. وقام من بعده ابنه الملك الناصر فرج، فما صفا الوقت في أيامه من كثرة الفتن وتواتر الغلوات والمحن، إلى أن نسي ذلك وأهمل أمر الميدان والقصور وخرب، وفيه إلى اليوم بقية قائمة. ثم بيعت هذه القصور في صفر سنة خمس وعشرين وثمانمائة بمائة دينار، لينقض خشبها وشبابيكها وغيرها، فنقضت كلها، وكان من عادة السلطان إذا خرج إلى الصيد لسرياقوس أو شبرا أو البحيرة أنه ينعم على أكابر أمراء الدولة قدرا وسنّا، كلّ واحد بألف مثقال ذهيبا، وبرذون خاص مسرج ولمجم، وكنبوش مذهب، وكان من عادته إذا مرّ في متصيدانه بإقطاع أمير كبير قدّم له من الغنم والإوز والدجاج وقصب السكر والشعير ما تسمو همة مثله إليه، فيقبله السلطان منه وينعم بخلعة كاملة، وربما أمر لبعضهم بمبلغ مال. وكانت عادة الأمراء أن يركب الأمير منهم حيث يركب في المدينة وخلفه جنيب، وأما أكابرهم فيركب بجنيبين، هذا في المدينة والحاضرة، وهكذا يكون إذا خرج إلى سرياقوس وغيرها من نواحي الصعيد، ويكون في الخروج إلى سرياقوس وغيرها من الأسفار لكلّ أمير طلب يشتمل على أكثر مماليكه، وقدّامهم خزانة محمولة على جمل واحد يجرّه راكب آخر على جمل، والمال على جملين، وربما زاد بعضهم على ذلك. وأمام الخزانة عدّة جنائب تجرّ على أيدي مماليك ركّاب خيل وهجن، وركّاب من العرب على هجن، وأمامها الهجن بأكوارها مجنوبة، وللطبلخانات قطار واحد، وهو أربعة، ومركوب الهجان والمال قطاران، وربما زاد بعضهم، وعدد الجنائب في كثرتها وقلتها إلى رأي الأمير وسعة نفسه، والجنائب منها ما هو مسرح ملجم، ومنها ما هو بعباءة لا غير، وكان يضاهي بعضهم بعضا في

الملابس الفاخرة والسروح المحلاة والعدد الملحية. وكان من رسوم السلطان في خروجه إلى سرياقوس وغيرها من الأسفار أن لا يتكلف إظهار كلّ شعار السلطنة، بل يكون الشعار في موكبه السائر فيه جمهور مماليكه مع المقدّم عليهم واستاداره، وأمامهم الخزائن والجنائب والهجن، وأما هو نفسه فإنه يركب ومعه عدّة كبيرة من الأمراء الكبار والصغار من الغرباء والخواص، وجملة من خواص مماليكه، ولا يركب في السير برقبة ولا بعصائب، بل يتبعه جنائب خلفه، ويقصد في الغالب تأخير النزول إلى الليل، فإذا جاء الليل حملت قدّامة فوانيس كثيرة ومشاعل، فإذا قارب مخيمه تلقى بشموع موكبية في سمعدانات كفت، وصاحت الجاويشية بين يديه، ونزل الناس كافة إلّا حملة السلاح، فإنهم وراءه، والوشاقية أيضا وراءه، وتمشي الطبر دارية حوله حتى إذا وصل القصور بسرياقوس أو الدهليز من المخيم نزل عن فرسه ودخل إلى الشقة، وهي خيمة مستديرة متسعة، ثم منها إلى شقة مختصرة، ثم منها إلى اللاجوق، وبدائر كلّ خيمة من جميع جوانبها من داخل سور خركاه، وفي صدر اللاجوق قصر صغير من خشب برسم المبيت فيه، وينصب بإزاء الشقة الحمّام بقدور الرصاص، والحوض على هيئة الحمام المبنيّ في المدن، إلّا أنه مختصر. فإذا نام السلطان طافت به المماليك دائرة بعد دائرة، وطاف بالجميع الحرس، وتدور الزفة حول الدخليز في كلّ ليلة، وتدور بسرياقوس حول القصر في كلّ ليلة مرّتين، الأولى منذ يأوي إلى النوم، والثانية عند قعوده من النوم، وكلّ زفة يدور بها أمير جاندار، وهو من أكابر الأمراء، وحوله الفوانيس والمشاعل والطبول والبياتة، وينام على باب الدهليز النقباء وأرباب النوب من الخدم، ويصحب السلطان في السفر غالب ما تدعو الحاجة إليه حتى يكاد يكون معهم مارستان لكثرة من معه من الأطباء وأرباب الكحل والجراح والأشربة والعقاقير، وما يجري مجرى ذلك، وكل من عاده طبيب ووصف له ما يناسبه، يصرف له من الشراب خاناه أو الدواء خاناه المحمولين في الصحبة. والله أعلم. الميدان الناصريّ: هذا الميدان من جملة أراضي بستان الخشاب، فيما بين مدينة مصر والقاهرة، وكان موضعه قديما غامرا بماء النيل، ثم عرف ببستان الخشاب، فلما كانت سنة أربع عشرة وسبعمائة هدم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون الميدان الظاهريّ، وغرس فيه أشجارا كما تقدّم، وأنشأ هذا الميدان من أراضي بستان الخشاب، فإنه كان حينئذ مطلا على النيل، وتجهز في سنة ثمان عشرة وسبعمائة للركوب إليه، وفرّق الخيول على جميع الأمراء واستجدّ ركوب الأوجاقية بكوا في الزركس على صفة الطاسات فوق رؤوسهم، وسمّاهم الجفتاوات، فيركب منهم اثنان بثوبي حرير أطلس أصفر، وعلى رأس كلّ منهما كوفية الذهب، وتحت كل واحد فرس أبيض بحلية ذهب، ويسيران معا بين يدي السلطان في ركوبه من قلعة الجبل، إلى الميدان، وفي عودته منه إلى القلعة، وكان السلطان إذا ركب

ذكر قلعة الجبل

إلى هذا الميدان للعب الأكرة يفرّق حوائص ذهب على الأمراء المقدّمين، وركوبه إلى هذا الميدان دائما يوم السبت في قوّة الحرّ بعد وفاء النيل مدّة شهرين من السنة، فيفرّق في كلّ ميدان على اثنين بالنوبة، فمنهم من تجيء نوبته بعد ثلاث سنين أو أربع سنين، وكان من مصطلح الملوك أن تكون تفرقة السلطان الخيول على الأمراء في وقتين، أحدهما عند ما يخرج إلى مرابط خيله في الربيع عند اكتمال تربيعها، وفي هذا الوقت يعطي أمراء المئين الخيول مسرجة ملجمة بكنابيش مذهبة، ويعطي أمراء الطبلخانات خيلا عريا. والوقت الثاني يعطي الجميع خيولا مسرجة ملجمة بلا كنابيش، بفضة خفيفة، وليس لأمراء العشروات خظ في ذلك إلّا ما يتفقدهم به على سبيل الأنعام، ولخاصكية السلطان المقرّبين من أمراء المئين وأمراء الطبلخانات زيادة كثيرة من ذلك، بحيث يصل إلى بعضهم المائة فرس في السنة. وكان من شعار السلطان أن يركب إلى اليميدان وفي عنق الفرس رقبة حرير أطلس أصفر بزرگش ذهب، فتستر من تحت أذني الفرس إلى حيث السرج، ويكون قدّامه اثنان من الأوشاقية راكبين على حصانين اشهبين برقبتين نظير ما هو راكب به، كأنهما معدّان لأن يركبهما، وعلى الأوشاقيين المذكورين قبا آن اصفران من حرير بطراز مزركش بالذهب، وعلى رأسهما قبعان مزركشان، وغاشية السرج محمولة أمام السلطان، وهي أديم مزركش مذهب يحملها بعض الركابدارية قدّامة وهو ماش في وسط الموكب، ويكون قدّامة فارس يشبب بشبابة لا يقصد بنغمها إلا طراب، بل ما يقرع بالمهابة سامعة، ومن خلف السلطان الجنائب، وعلى رأسه العصائب السلطانية، وهي صفر مطرزة بذهب بألقابه واسمه، وهذا لا يختص بالركوب إلى الميدان، بل يعمل هذا الشعار أيضا إذا ركب يوم العيد أو دخل إلى القاهرة أو إلى مدينة من مدن الشام، ويزداد هذا الشعار في يوم العيدين ودخول المدينة برفع المظلة على رأسه، ويقال لها الحبر، وهو أطلس أصفر مزركش من أعلاه قبة وطائر من فضة مذهبة، يحملها يومئذ بعض أمراء المئين الأكابر، وهو راكب فرسه إلى جانب السلطان، ويكون أرباب الوظائف والسلاحدارية كلهم خلف السلطان، ويكون حوله وأمامه الطبردارية، وهم طائفة من الاكراد ذوي الإقطاعات والأمرة، ويكونون مشاة وبأيديهم الأطباء المشهورة. ذكر قلعة الجبل قال ابن سيده في كتاب المحكم: القلعة بتحريك القاف واللام والعين وفتحها، الحصن الممتنع في جبل، وجمعها قلاع وقلع، وأقلعوا بهذه البلاد بنوها فجعلوها كالقلعة. وقيل: القلعة بسكون اللام، حصن مشرف، وجمعه قلوع، وهذه القلعة على قطعة من الجبل وهي تتصل بجبل المقطم، وتشرف على القاهرة ومصر والنيل والقرافة، فتصير

القاهرة في الجهة البحرية منها، ومدينة مصر والقرافة الكبرى وبركة الحبش في الجهة القبلية الغربية، والنيل الأعظم في غربيها، وجبل المقطم من ورائها في الجهة الشرقية. وكان موضعها أوّلا يعرف بقبة الهواء، ثم صار من تحته ميدان أحمد بن طولون، ثم صار موضعها مقبرة فيها عدّة مساجد، إلى أن أنشأها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، أوّل الملوك بديار مصر، على يدّ الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسديّ في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وصارت من بعده دار الملك بديار مصر إلى يومنا هذا، وهي ثامن موضع صار دار المملكة بديار مصر. وذلك أن دار الملك كانت أوّلا قبل الطوفان مدينة أمسوس، ثم صار تخت الملك بعبد الطوفان بمدينة منف إلى أن خرّبها بخت نصر، ثم لما ملك الإسكندر بن فيليبس سار إلى مصر وجدّد بناء الإسكندرية فصارت دار المملكة من حينئذ بعد مدينة منف الإسكندرية، إلى أن جاء الله تعالى بالإسلام، وقدم عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيوش المسلمين إلى مصر وفتح الحصن واختط مدينة فسطاط مصر، فصارت دار الإمارة من حينئذ بالفسطاط إلى أن زالت دولة بني أمية، وقدمت عساكر بني العباس إلى مصر وبنوا في ظاهر الفسطاط العسكر، فصار الأمراء من حينئذ تارة ينزلون في العسكر وتارة في الفسطاط، إلى أن بنى أحمد بن طولون القصر والميدان، وأنشأ القطائع بجانب العسكر، فصارت القطائع منازل الطولونية إلى أن زالت دولتهم، فسكن الأمراء بعد زوال دولة بني طولون بالعسكر إلى أن قدم جوهر القائد من بلاذ المغرب بعساكر المعز لدين الله وبنى القاهرة المعزية، فصارت القاهرة من حينئذ دار الخلافة ومقرّ الإمامة ومنزل الملك، إلى أن انقضت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فلما استبدّ بعدهم بأمر سلطنة مصر بنى قلعة الجبل هذه ومات، فسكنها من بعده الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، واقتدى به من ملك مصر من بعده من أولاده إلى أن انقرضوا على يد مماليكهم البحرية وملكوا مصر من بعدهم، فاستقرّوا بقلعة الجبل إلى يومنا هذا، وسأجمع إن شاء الله تعالى من أخبار قلعة الجبل هذه وذكر من ملكها ما فيه كفاية. والله أعلم. اعلم أن أوّل ما عرف من خبر موضع قلعة الجبل، أنه كان فيه قبة تعرف بقبة الهواء، قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر: وابتنى حاتم بن هرثمة القبة التي تعرف بقبة الهواء، وهو أوّل من ابتناها، وولي مصر إلى أن صرف عنها في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة. قال: ثم مات عيسى بن منصور أمير مصر في قبة الهواء بعد عزله، لاحدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، ولما قدم أمير المؤمنين المأمون إلى مصر في سنة سبع عشرة ومائتين، جلس بقبة الهواء هذه، وكان بحضرته سعيد بن عفير، فقال المأمون: لعن الله فرعون حيث يقول: أليس لي ملك مصر، فلو رأى العراق وخصبها. فقال سعيد بن عفير: يا أمير المؤمنين لا تقل هذا، فإن الله عز وجل قال:

وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف/ 137] فما ظنك يا أمير المؤمنين بشيء دمّره الله هذا بقيته ثم قال سعيد: لقد بلغنا أن أرضا لم تكن أعظم من مصر، وجميع أهل الأرض يحتاجون إليها، وكانت الأنهار بقناطر وجسور بتقدير، حتى أنّ الماء يجري تحت منازلهم وأفنيتهم، يرسلونه متى شاؤوا ويحبسونه متى شاؤوا، وكانت البساتين متصلة لا تنقطع، ولقد كانت الأمة تضع المكتل على رأسها فيمتلىء مما يسقط من الشجر، وكانت المرأة تخرج حاسرة لا تحتاج إلى خمار لكثرة الشجر، وفي قبة الهواء حبس المأمون الحارث بن مسكين. قال الكنديّ في كتاب الموالي: قدم المأمون مصر وكان بها رجل يقال له الحضرميّ، يتظلم من ابن أسباط وابن تميم، فجلس الفضل بن مروان في المسجد الجامع، وحضر مجلسه يحيى بن أكثم وابن أبي داود، وحضر إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد، وكان على مظالم مصر، وحضر جماعة من فقهاء مصر وأصحاب الحديث، وأحضر الحارث بن مسكين ليولي قضاء مصر، فدعاه الفضل بن مروان، فبينما هو يكلمه إذ قال الحضرميّ للفضل: سل أصلحك الله الحارث عن ابن أسباط وابن تميم. قال: ليس لهذا أحضرناه. قال: أصلحك الله سله، فقال الفضل للحارث: ما تقول في هذين الرجلين فقال: ظالمين غاشمين. قال: ليس لهذا أحضرناك، فاضطرب المسجد وكان الناس متوافرين، فقام الفضل وصار إلى المأمون بالخبر وقال: خفت على نفسي من ثوران الناس مع الحارث، فأرسل المأمون إلى الحارث فدعاه، فابتدأه بالمسألة فقال: ما تقول في هذين الرجلين؟ فقال: ظالمين غاشمين. قال: هل ظلماك بشيء؟ قال: لا. قال: فعاملتهما؟ قال: لا. قال: فكيف شهدت عليهما؟ قال: كما شهدت أنك أمير المؤمنين ولم أرك قط إلّا الساعة، وكما شهدت أنك غزوت ولم أحضر غزوك. قال: اخرج من هذه البلاد فليست لك ببلاد، وبع قليلك وكثيرك، فإنك لا تعاينها أبدا. وحبسه في رأس الجبل في قبة ابن هرثمة، ثم انحدر المأمون إلى البشرود وأحضره معه، فلما فتح البشرود أحضر الحارث، فلما دخل عليه سأله عن المسألة التي سأله عنها بمصر، فردّ عليه الجواب بعينه، فقال: فأيّ شيء تقول في خروجنا هذا؟ قال: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، أنّ الرشيد كتب إليه في أهل دهلك يسأله عن قتالهم فقال: إن كانوا خرجوا عن ظلم من السلطان فلا يحلّ قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا العصا فقتالهم حلال. فقال المأمون: أنت تيس ومالك أتيس منك، ارجل عن مصر. قال: يا أمير المؤمنين إلى الثغور؟ قال الحق بمدينة السلام. فقال له أبو صالح الحرّانيّ: يا أمير المؤمنين تغفر زلته؟ قال: يا شيخ تشفعت فارتفع. ولما بنى أحمد بن طولون القصر والميدان تحت قبة الهواء هذه، كان كثيرا ما يقيم

فيها، فإنها كانت تشرف على قصره، واعتنى بها الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وجعل لها الستور الجليلة والفرش العظيمة، في كلّ فصل ما يناسبه. فلما زالت دولة بني طولون وخرب القصر والميدان، كانت قبة الهواء مما خرب، كما تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب، ثم عمل موضع قبة الهواء مقبرة وبني فيها عدّة مساجد. قال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ النسابة في كتاب النقطة في الخطط: والمساجد المبنية على الجبل، المتصلة باليحاميم المطلة على القاهرة المعزية التي فيها المسجد المعروف بسعد الدولة، والترب التي هناك، تحتوي القلعة التي بناها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب علي الجميع، وهي التي نعتها بالقاهرة، وبنيت هذه القلعة في مدّة يسيرة، وهذه المساجد هي مسجد سعد الدولة، ومسجد معز الدولة. والي مصر، ومسجد مقدّم بن عليان من بني بويه الديلميّ، ومسجد العدّة بناه أحد الأستاذين الكبار المستنصرية، وهو عدّة الدولة، وكان بعد مسجد معز الدولة، ومسجد عبد الجبار بن عبد الرحمن بن شبل بن عليّ رئيس الرؤساء. وكافي الكفاة أبي يعقوب بن يوسف، الوزير بهمدان، ابن عليّ. بناه وانتقل بالإرث إلى ابن عمه القاضي الفقيه أبي الحجاج يوسف بن عبد الجبار بن شبل، وكان من أعيان السادة، ومسجد قسطة، وكان غلاما أرمنيا من غلمان المظفر بن أمير الجيوش، مات مسموما من أكلة هريسة. وقال الحافظ أبو الطاهر السلفيّ: سمعت أبا منصور قسطة الأرمنيّ والي الاسكندرية يقول: كان عبد الرحمن خطيب ثغر عسقلان يخطب بظاهر البلد في عيد من الأعياد، فقيل له: قد قرب منا العدو. فنزل عن المنبر وقطع الخطبة، فبلغه أن قوما من العسكرية عابوا عليه فعله، فخطب في الجمعة الأخرى داخل البلد في الجامع خطبة بليغة قال فيها: قد زعم قوم أن الخطيب فزع، وعن المنبر نزع، وليس ذلك عارا على الخطيب، فإنما ترسه الطيلسان وحسامه اللسان، وفرسه خشب لا تجري من الفرسان، وإنما العار على من تقلد الحسام وسنّ السنان، وركب الجياد الحسان، وعند اللقاء يصيح إلى عسقلان. وكان قسطة هذا من عقلاء الأمراء المائلين إلى العدل، المثابرين على مطالعة الكتب، وأكثر ميله إلى التواريخ وسير المتقدّمين، وكان مسجده بعد مسجد شقيق الملك، ومسجد الديلميّ، وكان على قرنة الجبل المقابل للقلعة من شرقيها إلى البحريّ، وقبره قدّام الباب. وتربة ولخشى الأمير والد السلطان رضوان بن ولخشى، المنعوت بالأفضل، كان من الأعيان الفضاء الأدباء، ضرب على طريقة ابن البوّاب، وأبي عليّ بن مقلة، وكتب عدّة ختمات، وكان كريما شجاعا يلقّب فحل الأمراء، وكانت هذه التربة آخر الصف، ومسجد شقيق الملك الأستاذ خسروان صاحب بيت المال أضيف إلى سور القلعة البحري إلى المغرب قليلا، ومسجد أمين الملك صارم الدولة مفلح صاحب الملجس الحافظيّ كان بعد مسجد

ذكر بناء قلعة الجبل

القاضي أبي الحجاج، المعروف بمسجد عبد الجبار، وهو في وسط القلعة، بعده تربة لاون أخي يانس، ومسجد القاضي النبيه، كان لمام الدولة غنّام، ومات رسولا ببلاد الشام، وشراه منه وأنشأه القاضي النبيه، وقبره به، وكان القاضي من الأعيان. وقال ابن عبد الظاهر: أخبرني والدي قال: كنا نطلع إليها، يعني إلى المساجد التي كانت موضع قلعة الجبل، قبل أن تسكن في ليالي الجمع، نبيت متفرّجين كما نبيت في جواسق الجبل والقرافة. قال مؤلفه رحمه الله: وبالقلعة الآن مسجد الردينيّ، وهو أبو الحسن علي بن مرزوق بن عبد الله الردينيّ الفقيه المحدّث المفسر، كان معاصرا لأبي عمر وعثمان بن مرزوق الحوفيّ، وكان ينكر على أصحابه، وكانت كلمته مقبولة عند الملوك، وكان يأوي بمسجد سعد الدولة، ثم تحوّل منه إلى مسجد عرف بالردينيّ، وهو الموجود الآن بداخل قلعة الجبل، وعليه وقف بالإسكندرية، وفي هذا المسجد قبر يزعمون أنه قبره، وفي كتب المزارات بالقرافة، أنّه توفي ودفن بها في سنة أربعين وخمسمائة، بخط سارية شرقيّ تربة الكيروانيّ، واشتهر قبره بإجابة الدعاء عنده. ذكر بناء قلعة الجبل وكان سبب بنائها أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، لما أزال الدولة الفاطمية من مصر واستبدّ بالأمر، لم يتحوّل من دار الوزارة بالقاهرة، ولم يزل يخاف على نفسه من شيعة الخلفاء الفاطميين بمصر، ومن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سلطان الشام، رحمة الله عليه، فامتنع أوّلا من نور الدين بأن سير أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب في سنة تسع وستين وخمسمائة، إلى بلاد اليمن لتصير له مملكة تعصمه من نور الدين، فاستولى شمس الدولة على ممالك اليمن، وكفى الله تعالى صلاح الدين أمر نور الدين ومات في تلك السنة، فحلاله الجوّ وأمن جانبه، وأحبّ أن يجعل لنفسه معقلا بمصر، فإنه كان قد قسم القصرين بين أمرائه وأنزلهم فيهما، فيقال أنّ السبب الذي دعاه إلى اختيار مكان قلعة الجبل، أنه علق اللحم بالقاهرة فتغير بعد يوم وليلة، فعلق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغير إلا بعد يومين وليلتين، فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك، وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ، فشرع في بنائها وبنى سور القاهرة الذي زاده في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وهدم ما هنالك من المساجد وأزال القبور وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة تجاه مصر، وكانت كثيرة العدد، ونقل ما وجد بها من الحجارة وبنى به السور والقلعة وقناطر الجيزة، وقصد أن يجعل السور يحيط بالقاهرة والقلعة ومصر، فمات السلطان قبل أن يتم الغرض من السور والقلعة، فأهمل العمل إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في قلعة الجبل

واستنابته في مملكة مصر وجعله وليّ عهد، فأتم بناء القلعة وأنشأ بها الآدر السلطانية، وذلك في سنة أربع وستمائة، وما برح يسكنها حتي مات، فاستمرّت من بعده دار مملكة مصر إلى يومنا هذا، وقد كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يقيم بها أياما، وسكنها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين في أيام أبيه مدّة، ثم انتقل منها إلى دار الوزارة. قال ابن عبد الظاهر: وسمعت حكاية تحكى عن صلاح الدين أنه طلعها ومعه أخوه الملك العادل، فلما رآها التفت إلى أخيه وقال: يا سيف الدين، قد بنيت هذه القلعة لأولادك. فقال: يا خوند منّ الله عليك أنت وأولادك وأولاد أولادك بالدنيا. فقال: ما فهمت ما قلت لك، أنا نجيب ما يأتي لي أولاد نجباء، وأنت غير نجيب فأولادك يكونون نجباء، فسكت. قال مؤلفه رحمه الله: وهذا الذي ذكره صلاح الدين يوسف من انتقال الملك عنه إلى أخيه وأولاد أخيه ليس هو خاصا بدولته، بل اعتبر ذلك في الدول تجد الأمر ينتقل عن أولاد القائم بالدولة إلى بعض أقاربه، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائم بالملة الإسلامية، ولما توفي صلى الله عليه وسلم انتقل أمر القيام بالملة الإسلامية بعده إلى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ، فهو رضي الله عنه يجتمع من النبي صلى الله عليه وسلم، في مرّة بن كعب، ثم انتقل الأمر بعد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم إلى بني أمية كان القائم بالدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، فلم تفلح أولاده وصارت الخلافة إلى مروان بن الحكم بن العاص بن أمية، فتوارثها بنو مروان حتى انقضت دولتهم بقيام بني العباس رضي الله عنه، فكان أول من قام من بني العباس عبد الله بن محمد السفاح، ولما مات انتقلت الخلافة من بعده إلى أخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور، واستقرّت في بنيه إلى أن انقرضت الدولة العباسية من بغداد. وكذا وقع في دول العجم أيضا، فأول ملوك بني بوبه، عماد الدين أبو عليّ الحسن بن بويه، والقائم من بعده في السلطنة أخوه حسن بن بويه، وأوّل ملوك بني سلجوق، طغريل، والقائم من بعده في السلطنة ابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق، وأوّل قائم بدولة بني أيوب، السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولما مات اختلف أولاده فانتقل ملك مصر والشام وديار بكر والحجاز واليمن إلى أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، واستمرّ فيهم إلى أن انقرضت الدولة الأيوبية، فقام بمملكة مصر المماليك الأتراك، وأوّل من قام منهم بمصر الملك المعز أيبك، فلما مات لم يفلح ابنه عليّ فصارت المملكة إلى قطز، وأوّل من قام بالدولة الجركسية الملك الظاهر برقوق، وانتقلت المملكة من بعد ابنه الملك الناصر فرج إلى الملك المؤيد شيخ المحموديّ الظاهريّ، وقد جمعت في هذا

ذكر صفة القلعة

فصلا كبيرا، وقلما تجد الأمر بخلاف ما قلته لك ولله عاقبة الأمور. قال ابن عبد الظاهر: والملك الكامل هو الذي اهتم بعمارتها وعمارة أبراجها، البرج الأحمر وغيره، فكملت في سنة أربع وستمائة، وتحوّل إليها من دار الوزارة ونقل إليها أولاد العاضد وأقاربه وسجنهم في بيت فيها، فلم يزالوا فيه إلى أن حوّلوا منه في سنة إحدى وسبعين وستمائة. قال: وفي آخر سنة اثنتين وثمانين وسنمائة شرع السلطان الملك المنصور قلاون في عمارة برج عظيم على جانب باب السرّ الكبير، وبنى علوه مشترفات وقاعات مرخمة لم ير مثلها، وسكنها في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، ويقال أن قراقوش كان يستعمل في بناء القلعة والسور خمسين ألف أسير. البئر التي بالقلعة: هذه البئر من العجائب، استنبطها قراقوش. قال ابن عبد الظاهر: وهذه البئر من عجائب الأبنية، تدور البقر من أعلاها فتنقل الماء من نقالة في وسطها، وتدور أبقار في وسطها تنقل الماء من أسفلها، ولها طريق إلى الماء ينزل البقر إلى معينها في مجاز، وجميع ذلك حجر منحوت ليس فيه بناء، وقيل أن أرضها مسامّة أرض بركة الفيل وماؤها عذب. سمعت من يحكي من المشايخ أنها لما نقرت جاء ماؤها حلوا، فأراد قراقوش أو نوّا به الزيادة في مائها، فوسع نقر الجبل فخرجت منه عين مالحة غيرت حلاوتها. وذكر القاضي ناصر الدين شافع بن عليّ في كتاب عجائب البنيان، أنه ينزل إلى هذه البئر بدرج نحو ثلاثمائة درجة. ذكر صفة القلعة وصفة قلعة الجبل أنها بناء على نشزعال، يدور بها سور من حجر بأبراج وبدنات حتى تنتهي إلى القصر الأبلق، ثم من هناك تتصل بالدور السلطانية على غير أوضاع أبراج الغلال، ويدخل إلى القلعة من بابين، أحدهما بابها الأعظم المواجه للقاهرة، ويقال له الباب المدرّج، وبداخله يجلس والي القلعة، ومن خارجه تدق الخليلية قبل المغرب. والباب الثاني باب القرافة، وبين البابين ساحة فسيحة في جانبها بيوت، وبجانبها القبليّ سوق للمآكل، ويتوصل من هذه الساحة إلى دركاه جليلة كان يجلس بها الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول، وفي وسط الدركاه باب القلعة، ويدخل منه في دهليز فسيح إلى ديار وبيوت وإلى الجامع الذي تقام به الجمعة، ويمشي من دهليز باب القلعة في مداخل أبواب إلى رحبة فسيحة في صدرها الإيوان الكبير المعدّ لجلوس السلطان في يوم المواكب، وإقامة دار العدل. وبجانب هذه الرحبة ديار جليلة، ويمرّ منها إلى باب القصر الأبلق، وبين يدي باب القصر رحبة دون الأولى يجلس بها خواص الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة الدائمة بالقصر، وكان بجانب هذه الرحبة محاذيا لباب القصر خزانة القصر، ويدخل من باب القصر في دهاليز خمسة إلى قصر عظيم، ويتوصل منه إلى الإيوان الكبير بباب خاص، ويدخل منه

أيضا إلى قصور ثلاثة، ثم إلى دور الحرم السلطانية، وإلى البستان والحمّام والحوش، وباقي القلعة فيه دور ومساكن للماليك السلطانية وخواص الأمراء بنسائهم وأولادهم ومماليكهم ودواوينهم وطشتخاناتهم «1» وفرشخاناتهم «2» وشربخاناتهم «3» ومطابخهم وسائر وظائفهم، وكانت أكابر أمراء الألوف وأعيان أمراء الطبلخاناه والعشراوات تسكن بالقلعة إلى آخر أيام الناصر محمد بن قلاون، وكان بها أيضا طباق المماليك السلطانية ودار الوزارة، وتعرف بقاعة الصاحب، وبها قاعة الإنشاء وديوان الجيش وبيت المال وخزانة الخاص، وبها الدور السلطانية من الطشتخاناه والركابخاناه والحوائجخاناه والزردخاناه، وكان بها الجب الشنيع لسجن الأمراء، وبها دار النيابة، وبها عدّة أبراج يحبس بها الأمراء والمماليك، وبها المساجد والحوانيت والأسواق، وبها مساكن تعرف بخرائب التتر، كانت قدر حارة خرّبها الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، ومن حقوق القلعة الإصطبل السلطانيّ، وكان ينزل إليه السلطان من جانب إيوان القصر، ومن حقوقها أيضا الميدان، وهو فاصل بين الإصطبلات وسوق الخيل من غربيه، وهو فسيح المدى وفيه يصلي السلطان صلاة العيدين، وفيه يلعب بالأكرة مع خواصه، وفيه تعمل المدّات أوقات المهمات أحيانا، ومن رأى القصور والإيوان الكبير والميدان الأخضر والجامع يقرّ لملوك مصر بعلوّ الهمم وسعة الإنفاق والكرم. باب الدرفيل: هذا الباب بجانب خندق القلعة، ويعرف أيضا بباب المدرج، وكان يعرف قديما بباب سارية، ويتوصل إليه من تحت دار الضيافة وينتهي منه إلى القرافة، وهو فيما بين سور القلعة والجبل. والدرفيل هو الأمير حسام الدين لاجين الأيدمريّ، المعروف بالدرفيل، دوادار الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، مات في سنة اثنتين وسبعين وستمائة. دار العدل القديمة: هذه الدار موضعها الآن تحت القلعة، يعرف بالطبلخاناه، والذي بنى دار العدل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ، في سنة إحدى وستين وستمائة، وصار يجلس بها لعرض العساكر في كلّ اثنين وخميس، وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة، وصار يجلس بها لعرض العساكر في كلّ اثنين وخميس، وابتدأ بالحضور في أوّل سنة اثنتين وستين وستمائة، فوقف إليه ناصر الدين محمد بن أبي نصر وشكا أنه أخذ له بستان في أيام المعز أيبك، وهو بأيدي المقطعين، وأخرج كتابا مثبتا وأخرج من

ديوان الجيش ما يشهد بأن البستان ليس من حقوق الديوان، فأمر بردّه عليه فتسلمه. وأحضرت مرافعة في ورقة مختومة رفعها خادم أسود في مولاه القاضي شمس الدين شيخ الحنابلة، تضمنت أنه يبغض السلطان ويتمنى زوال دولته، فإنه لم يجعل للحنابلة مدرّسا في المدرسة التي أنشأها بخط بين القصرين، ولم يولّ قاضيا حنبليا، وذكر عنه أمورا قادحة، فبعث السلطان الورقة إلى الشيخ، فحضر إليه وحلف أنه ما جرى منه شيء، وأن هذا الخادم طردته فاختلق عليّ ما قال. فقبل السلطان عذره وقال: ولو شتمتني أنت في حلّ، وأمر بضرب الخادم مائة عصا. وغلت الأسعار بمصر حتى بلغ أردب القمح نحو مائة درهم، وعدم الخبز، فنادى السلطان في الفقراء أن يجتمعوا تحت القلعة، ونزل في يوم الخميس سابع ربيع الآخر منها وجلس بدار العدل هذه ونظر في أمر السعر وأبطل التسعير، وكتب مرسوما إلى الأمراء ببيع خمسمائة أردب، في كلّ يوم ما بين مائتين إلى ما دونهما، حتى لا يشتري الخزان شيئا، وأن يكون البيع للضعفاء والأرامل فقط دون من عداهم، وأمر الحجاب فنزلوا تحت القلعة وكتبوا أسماء الفقراء الذين تجمعوا بالرميلة، وبعث إلى كلّ جهة من جهات القاهرة ومصر وضواحيهما حاجبا لكتابة أسماء الفقراء، وقال: والله لو كان عندي غلة تكفي هؤلاء لفرّقتها، ولما انتهى إحضار الفقراء أخذ منهم لنفسه ألوفا، وجعل باسم ابنه الملك السعيد ألوفا، وأمر ديوان الجيش فوزع باقيهم، على كلّ أمير من الفقراء بعدّة رجاله، ثم فرّق ما بقي على الأجناد، ومفاردة الحلقة، والمقدّمين، والبحرية، وجعل طائفة التركمان ناحية وطائفة الأكراد ناحية، وقرّر لكلّ واحد من الفقراء كفايته لمدّة ثلاثة أشهر، فلما تسلم الأمراء والأجناد ما خصهم من الفقراء فرّق من بقي منهم على الأكابر والتجار والشهود، وعين لأرباب الزوايا مائة أردب قمح في كلّ يوم، تخرج من الشون السلطانية إلى جامع أحمد بن طولون وتفرّق على من هناك، ثم قال: هؤلاء المساكين الذين جمعناهم اليوم ومضى النهار لا بدّ لهم من شيء، وأمر ففرّق في كلّ منهم نصف درهم ليتقوّت به في يومه، ويستمرّ له من الغد ما تقرّر، فأنفق فيهم جملة مال، وأعطى للصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا طائفة كبيرة من العميان، وأخذ الأتابك سيف الدين أقطاي طائفة التركمان، ولم يبق أحد من الخواص والأمراء الحواشي ولا من الحجاب والولاة وأرباب المناصب وذوي المراتب وأصحاب الأموال حتى أخذ جماعة من الفقراء على قدر حاله. وقال السلطان للأمير صارم الدين المسعوديّ والي القاهرة: خذ مائة فقير وأطعمهم لله تعالى. فقال: نعم قد أخذتهم دائما. فقال له السلطان هذا شيء فعلته ابتداء من نفسك، وهذه المائة خذها لأجلي. فقال للسلطان: السمع والطاعة، وأخذ مائة فقير زيادة على المائة التي عينت له، وانقضى النهار في هذا العمل وشرع الناس في فتح الشون والمخازن وتفرقة الصدقات على الفقراء، فنزل سعر القمح ونقص الأردب عشرين درهما، وقلّ وجود

الفقراء إلى أن جاء شهر رمضان، وجاء المغلّ الجديد، فأوّل يوم من بيع الجديد نقص سعر أردب القمح أربعين درهما ورقا، وفي اليوم الذي جلس فيه السلطان بدار العدل للنظر في أمور الأسعار قرئت عليه قصة ضمان دار الضرب، وفيها أنه قد توقفت الدراهم وسألوا إبطال الناصرية، فإن ضمانهم بمبلغ مائتي ألف وخمسين ألف درهم، فوقع عليها يحط عنهم منها مبلغ خمسين ألف درهم وقال: نحط هذا ولا نؤذي الناس في أموالهم. وفي مستهل شهر رجب منها جلس أيضا بدار العدل، فوقف له بعض الأجناد بصغير يتيم ذكر أنه وصيه، وشكا من قضيته. فقال السلطان لقاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، أنّ الأجناد إذا مات أحد منهم استولى خجداشه على موجوده، فيموت الوصيّ، ويكبر اليتيم فلا يجد له مالا، وتقدّم إليه أن لا يمكّن وصيا من الانفراد بتركة ميت، ولكن يكون نظر القاضي شاملا له، وتصير أموال الأيتام مضبوطة بأمناء الحكم. ثم أنه استدعى نقباء العساكر وأمرهم بذلك، فاستمرّ الحال فيه على ما ذكر. وفي خامس عشري شعبان سنة ثلاث وستين وستمائة، جلس بدار العدل واستدعى تاج الدين ابن القرطبيّ وقال له: قد أضجرتني مما تقول عندي مصالح لبيت المال، فتحدّث الآن بما عندك، فتكلّم في حق قاضي القضاة تاج الدين، وفي حق متولي جزيرة سواكن، وفي حق الأمراء، وأنهم إذا مات منهم أحد أخذ ورثته أكثر من استحقاقهم، فأنكر عليه وأمر بحبسه، وتحدّث السلطان في أمر الأجناد وأنه إذا مات أحدهم في مواطن الجهاد لا يصل إليه شاهد حتى يشهد عليه بوصيته، وأنه يشهد بعض أصحابه، فإذا حضر إلى القاهرة لا تقبل شهادته، وكان الجنديّ في ذلك الوقت لا تقبل شهادته، فرأى السلطان أن كلّ أمير يعين من جماعته عدّة ممن يعرف خيره ودينه ليسمع قولهم، وألزم مقدّمي الأجناد بذلك، فشرع قاضي القضاة في اختيار رجال جياد من الأجناد وعينهم لقبول شهادتهم، ففرحت العساكر بذلك. وجلس أيضا في تاسع عشرية بدار العدل فوقف له شخص وشكا أن الأملاك الديوانية لا يمكن أحد من سكانها أن ينتقل منها، فأنكر السلطان ذلك وأمر أن من انقضت مدّة إجارته وأراد الخلوّ فلا يمنع من ذلك، وله في ذلك عدّة أخبار كلها صالحة، رحمه الله تعالى. وما برحت دار العدل هذه باقية إلى أن استجدّ السلطان الملك المنصور قلاون الإيوان فهجرت دار العدل هذه إلى أن كانت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، فهدمها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، وعمل موضعها الطبلخاناه، فاستمرّت طبلخاناه إلى يومنا، إلّا أنه كان في أيام عمارتها إنما يجلس بها دائما في أيام الجلوس نائب دار العدل ومعه القضاة، وموقع دار العدل والأمراء، فينظر نائب دار العدل. في أمور المتظلمين، وتقرأ عليه

ذكر النظر في المظالم

القصص، وكان الأمر على ذلك في أيام الظاهر بيبرس وأيام ابنه الملك السعيد بركة، ثم أيام الملك المنصور قلاون. الإيوان: المعروف بدار العدل، هذا الإيوان أنشأه السلطان الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحيّ النجميّ، ثم جدّده ابنه السلطان الملك الأشرف خليل، واستمرّ جلوس نائب دار العدل به، فلما عمل الملك الناصر محمد بن قلاون الروك أمر بهدم هذا الإيوان، فهدم وأعاد بناءه على ما هو عليه الآن، وزاد فيه، وأنشأ به قبة جليلة، وأقام به عمدا عظيمة نقلها إليه من بلاد الصعيد ورخمه، ونصب في صدره سرير الملك، وعمله من العاج والأبنوس، ورفع سمك هذا الإيوان وعمل أمامه رحبة فسيحة مستطيلة، وجعل بالإيوان باب سرّ من داخل القصر، وعمل باب الإيوان مسبوكا من حديد بصناعة بديعة تمنع الداخل إليه، وله منه باب يغلق، فإذا أراد أن يجلس فتح حتى ينظر منه ومن تخاريم الحديد بقية العسكر الواقفين بساحة الإيوان، وقرّر للجلوس فيه بنفسه يوم الاثنين ويوم الخميس، فاستمرّ الأمر على ذلك، وكان أوّلا دون ما هو اليوم، فوسع في قبته وزاد في ارتفاعه وجعل قدّامه دركاة كبيرة، فجاء من أعظم المباني الملوكية، وأوّل ما جلس فيه عند انتهاء عمل الروك بعد ما رسم لنقيب الجيش أن يستدعي سائر الأجناد، فلما تكامل حضورهم جلس وعين أن يحضر في كلّ يوم مقدّما ألوف بمضافيهما، فكان المقدّم يقف بمضافيه ويستدعي بمضافيه من تقدمته على قدر منازلهم، فيتقدّم الجنديّ إلى السلطان فيسأله أنت ابن من ومملوك من، ثم يعطيه مثالا، واستمرّ على ذلك من مستهل المحرّم سنة خمس عشرة وسبعمائة إلى مستهل صفر منها، وما برح بعد ذلك يواظب على الجلوس به في يومي الاثنين والخميس، وعنده أمراء الدولة والقضاة والوزير وكاتب السرّ وناظر الجيش وناظر الخاص وكتاب الدست، وتقف الأجناد بين يديه على قدر أقدارهم، فلما مات الملك الناصر اقتدى به في ذلك أولاده من بعده، واستمرّوا على الجلوس بالإيوان إلى أن استبدّ بمملكة مصر الملك الظاهر برقوق، فالتزم ذلك أيضا، إلّا أنه صار يجلس فيه إذا طلعت الشمس جلوسا يسيرا يقرأ عليه فيه بعض قصص لا لمعنى سوى إقامة رسوم المملكة فقط، وكان من قبله من ملوك بني قلاون إنما يجلسون بالإيوان سحرا على الشمع، وكان موضع جلوس السلطان في الإيوان للنظر في المظالم، فأعرض الملك الظاهر عن ذلك وجعل لنفسه يومين يجلس فيهما بالإصطبل السلطانيّ للحكم بين الناس، كما سيأتي ذكره عن قريب إن شاء الله تعالى، وصار الإيوان في أيام الظاهر برقوق وأيام ابنه الملك الناصر فرج، وأيام الملك المؤيد شيخ، إنما هو شيء من بقايا الرسوم الملوكية لا غير. ذكر النظر في المظالم اعلم أنّ النظر في المظالم عبارة عن قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر

المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، وكان من شروط الناظر في المظالم أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وتثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفتي الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين، وهي خطة حدثت لفساد الناس، وهي كلّ حكم يعجز عنه القاضي، فينظر فيه من هو أقوى منه يدا. وأوّل من نظر في المظالم من الخلفاء، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. وأوّل من أفرد للظلامات يوما يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة النظر، عبد الملك بن مروان، فكان إذا وقف منها على مشكل، واحتاج فيها إلى حكم ينفذ، ردّه إلى قاضيه ابن إدريس الأزديّ، فينفذ فيه أحكامه. وكان ابن إدريس هو المباشر، وعبد الملك الآمر، ثم زاد الجور، فكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أوّل من ندب نفسه للنظر في المظالم فردّها، ثم جلس لها خلفاء بني العباس، وأوّل من جلس منهم المهديّ محمد، ثم الهادي موسى، ثم الرشيد هارون، ثم المأمون عبد الله، وآخر من جلس منهم المهتديّ بالله محمد بن الواثق، وأوّل من أعلم أنه جلس بمصر من الأمراء للنظر في المظالم، الأمير أبو العباس أحمد بن طولون، فكان يجلس لذلك يومين في الأسبوع، فلما مات وقام من بعده ابنه أبو الجيش خمارويه، جعل على المظالم بمصر محمد بن عبيدة بن حرب، في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائتين، ثم جلس لذلك الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيديّ، وابتدأ ذلك في سنة أربعين وثلاثمائة وهو يومئذ خليفة الأمير أبي القاسم أونوجور بن الإخشيد، فعقد مجلسا صار يجلس فيه كلّ يوم سبت، ويحضر عنده الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات، وسائر القضاة والفقهاء والشهود، ووجوه البلد، وما برح على ذلك مدّة أيامه بمصر إلى أن مات، فلم ينتظم أمر مصر بعده إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر بجيوش المعز لدين الله أبي تميم معدّ، فكان يجلس للنظر في المظالم ويوقع على رقاع المتظلمين، فمن توقيعاته بخطه على قصة رفعت إليه، سوء الاجترام أوقع بكم طول الانتقام، وكفر الأنعام أخركم من حفظ الذمام، فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاجتناب، لأنكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعدّيتم، فابتداؤكم ملوم وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة تقتضي إلّا الذم لكم والإعراض عنكم، ليرى أمير المؤمنين رأيه فيكم. ولما قدم المعز لدين الله، إلى مصر وصارت دار خلافة، استقرّ النظر في المظالم، مدّة يضاف إلى قاضي القضاة، وتارة ينفرد بالنظر فيه أحد عظماء الدولة، فلما ضعف جانب المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر، وكانت الشدّة العظمى بمصر، قدم أمير الجيوش بدر الجمالي إلى القاهرة وولي الوزارة، فصار أمر الدولة كله راجعا إليه، واقتدى به من بعده من الوزراء، وكان الرسم في ذلك أن الوزير صاحب السيف يجلس للمظالم بنفسه، ويجلس

قبالته قاضي القضاة، وبجانبه شاهدان معتبران، ويجلس بجانب الوزير الموقع بالقلم الدقيق، ويليه صاحب ديوان المال، ويقف بين يدي الوزير صاحب البلاد واسفهسلار العساكر، وبين أيديهما الحجاب والنوّاب على طبقاتهم، ويكون هذا الجلوس يومين في الأسبوع، وآخر من تقلد المظالم في الدولة الفاطمية، رزيك بن الوزير الأجلّ، الملك الصالح طلائع بن رزيك، في وزارة أبيه، وكتب له سجل عن الخليفة منه، وقد قلدك أمير المؤمنين النظر في المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم، وكانت الدولة إذا خلت من وزير صاحب سيف، جلس للنظر في المظالم صاحب الباب في باب الذهب من القصر، وبين يديه الحجاب والنقباء، وينادي مناد بحضرته يا أرباب الظلامات، فيحضرون إليه، فمن كانت ظلامته مشافهة أرسلت إلى الولاة أو القضاة رسالة بكشفها، ومن تظلم من أهل النواحي التي خارج القاهرة ومصر. فإنه يحضر قصة فيها شرح ظلامته، فيتسلمها الحاجب منه حتى تجتمع القصص فيدفعها إلى الموقّع بالقلم الدقيق، فيوقع عليها، ثم تحمل بعد توقيعه عليها إلى الموقّع بالقلم الجليل، فيبسط ما أشار إليه الموقع بالقلم الدقيق، ثم تحمل التواقيع في خريطة إلى ما بين يدي الخليفة فيوقع عليها، ثم تخرج في خريطتها إلى الحاجب فيقف على باب القصر ويسلم كلّ توقيع إلى صاحبه. وأوّل من بنى دار العدل من الملوك، السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمة الله تعالى عليه بدمشق، عند ما بلغه تعدّي ظلم نوّاب أسد الدين شير كوه بن شادي إلى الرعية، وظلمهم الناس، وكثرة شكواهم إلى القاضي كمال الدين الشهرزوريّ، وعجزه عن مقاومتهم، فلما بنيت دار العدل أحضر شير كوه نوّابه وقال: إن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلّا بسببي، والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه، فامضوا إلى كلّ من كان بينكم وبينه منازعة في ملك أو غيره فافصلوا الحال معه وأرضوه بكلّ طريق أمكن ولو أتى على جميع ما بيدي. فقالوا إن الناس إذا علموا بذلك اشتطوا في الطلب. فقال: لخروج أملاكي عن يدي أسهل عليّ من أن يراني نور الدين بعين أني ظالم، أو يساوي بيني وبين أحد من العامّة في الحكومة. فخرج أصحابه وعملوا ما أمرهم به من إرضاء أخصامهم، وأشهدوا عليهم. فلما جلس نور الدين بدار العدل في يومين من الأسبوع، وحضر عنده القاضي والفقهاء، أقام مدّة لم يحضر أحد يشكو شير كوه، فسأل عن ذلك فعرّف بما جرى منه ومن نوّابه، فقال الحمد الله الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا. وجلس أيضا السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في يومي الاثنين والخميس لإظهار العدل، ولما تسلطن الملك المعز أيبك التركمانيّ أقام الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ في نيابة السلطنة بديار مصر، فواظب الجلوس في المدارس الصالحية بين القصرين ومعه نوّاب دار العدل ليرتب الأمور وينظر في المظالم، فنادى بإراقة الخمور وإبطال ما عليها من المقرّر، وكان قد كثر الإرجاف بمسير الملك

ذكر خدمة الإيوان المعروف بدار العدل

الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب الشام لأخذ مصر، فلما انهزم الملك الناصر واستبدّ الملك المعز أيبك، أحدث وزيره من المكوس شيئا كثيرا، ثم إنّ الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ بنى دار العدل وجلس بها للنظر في المظالم. كما تقدّم، فلما بنى الإيوان الملك الناصر محمد بن قلاون واظب الجلوس يوم الاثنين والخميس فيه، وصار يفصل فيه الحكومات في الأحايين إذا أعيي من دونه فصلها، فلما استبدّ الملك الظاهر برقوق بالسلطنة عقد لنفسه مجلسا بالإصطبل السلطانيّ من قلعة الجبل، وجلس فيه يوم الأحد ثامن عشري شهر رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وواظب ذلك في يومي الأحد والأربعاء، ونظر في الجليل والحقير، ثم حوّل ذلك إلى يومي الثلاثاء والسبت، وأضاف إليهما يوم الجمعة بعد العصر، وما زال على ذلك حتى مات، فلما ولى ابنه الملك الناصر فرج بعده واستبدّ بأمره، جلس للنظر في المظالم بالإصطبل اقتداء بأبيه، وصار كاتب السرّ فتح الدين فتح الله يقرأ القصص عليه، كما كان يقرؤها على أبيه، فانتفع أناس وتضرّر آخرون بذلك، وكان الضرر أضعاف النفع، ثم لما استبدّ الملك المؤيد شيخ بالمملكة جلس أيضا للنظر في المظالم كما جلسا، والأمر على ذلك مستمرّ إلى وقتنا هذا، وهو سنة تسع عشرة وثمانمائة. وقد عرف النظر في المظالم منذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام بحكم السياسة، وهو يرجع إلى نائب السلطنة وحاجب الحجاب، ووالي البلد ومتولى الحرب بالأعمال، وسيرد إن شاء الله تعالى الكلام في حكم السياسة عن قريب. ذكر خدمة الإيوان المعروف بدار العدل كانت العادة أنّ السلطان يجلس بهذا الإيوان بكرة الاثنين والخميس طول السنة خلا شهر رمضان، فإنه لا يجلس فيه هذا المجلس، وجلوسه هذا إنما هو للمظالم، وفيه تكون الخدمة العامّة واستحضار رسل الملوك غالبا، فإذا جلس للمظالم كان جلوسه على كرسيّ إذا قعد عليه يكاد تلحق الأرض رجله، وهو منصوب إلى جانب المنبر الذي هو تخت الملك وسرير السلطنة، وكانت العادة أوّلا أن يجلس قضاة القضاة من المذاهب الأربعة عن يمينه، وأكبرهم الشافعيّ، وهو الذي يلي السلطان، ثم إلى جانب الشافعيّ الحنفيّ، ثم المالكيّ، ثم الحنبليّ، وإلى جانب الحنبليّ الوكيل عن بيت المال، ثم الناظر في الحسبة بالقاهرة، ويجلس على يسار السلطان كاتب السرّ، وإن كان الوزير من أرباب السيوف، كان واقفا على بعد مع بقية أرباب الوظائف، وإن كان نائب السلطنة، فإنه يقف مع أرباب الوظائف، ويقف من وراء السلطان صفان عن يمينه ويساره من السلاحدارية والجمدارية والخاصكية، ويجلس على بعد بقدر خمسة عشر ذراعا عن يمنته ويسرته ذو والسنّ والقدر من أكابر أمراء المئين، ويقال لهم أمراء المشورة، ويليهم من أسفل منهم أكابر الأمراء وأرباب الوظائف، وهم

وقوف، وبقية الأمراء وقوف من وراء أمراء المشورة، ويقف خلف هذه الحلقة المحيطة بالسلطان الحجاب والدوادارية، لإعطاء قصص الناس وإحضار الرسل وغيرهم من الشكاة وأصحاب الحوائج والضرورات، فيقرأ كاتب السرّ وموقعو الدست القصص على السلطان، فإن احتاج إلى مراجعة القضاة راجعهم فيما يتعلق بالأمور الشرعية والقضايا الدينية، وما كان متعلقا بالعسكر فإن كانت القصص في أمراء الإقطاعات قرأها ناظر الجيش، فإن احتاج إلى مراجعة في أمر العسكر تحدّث مع الحاجب وكاتب الجيش فيه، وما عدا ذلك يأمر فيه السلطان بما يراه، وكانت العادة الناصرية أن تكون الخدمة في هذا الإيوان على ما تقدّم ذكره في بكرة يوم الاثنين، وأما بكرة يوم الخميس فإن الخدمة على مثل ذلك، إلّا أنّه لا يتصدّى السلطان فيه لسماع القصص، ولا يحضره أحد من القضاة ولا الموقعين ولا كاتب الجيش، إلا إن عرضت حاجة إلى طلب أحد منهم، وهذا القعود عادته طول السنة ما عدا رمضان. وقد تغير بعد الأيام الناصرية هذا الترتيب، فصارت قضاة القضاة تجلس عن يمنة السلطان ويسرته، فيجلس الشافعيّ عن يمينه ويليه المالكيّ ويليه قاضي العسكر، ثم محتسب القاهرة، ثم مفتي دار العدل الشافعيّ. ويجلس الحنفيّ عن يسرة السلطان، ويليه الحنبليّ، وصارت القصص تقرأ والقضاة وناظر الجيش يحضرون في يوم الخميس أيضا، وكانت العادة أيضا أنه إذا ولي أحد المملكة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون، فإنه عند ولايته يحضر الأمراء إلى داره بالقلعة وتفاض عليه الخلعة الخليفية السوداء، ومن تحتها فرجية خضراء وعمامة سوداء مدوّرة، ويقلد بالسيف العربيّ المذهب، ويركب فرس النوبة ويسير والأمراء بين يديه، والغاشية قدّامه، والجاويشية تصيح، والشبابة السلطانية ينفخ بها، والطبردارية حواليه إلى أن يعبر من باب النحاس إلى درج هذا الإيوان، فينزل عن الفرس ويصعد إلى التخت فيجلس عليه، ويقبّل الأمراء الأرض بين يديه، ثم يتقدّمون إليه ويقبلون يده على قدر رتبهم، ثم مقدمو الحلقة، فإذا فرغوا حضر القضاة والخليفة، فتفاض التشاريف على الخليفة، ويجلس مع السلطان على التخت، ويقلد السلطان المملكة بحضور القضاة والأمراء، ويشهد عليه بذلك، ثم ينصرف ومعه القضاة، فيمدّ السماط للأمراء، فإذا انقضى أكلهم قام السلطان ودخل المقصورة وانصرف الأمراء. ومما قيل في هذا الإيوان لمّا بناه السلطان الملك الناصر: شرّفت إيوانا جلست بصدره ... فشرحت بالإحسان منه صدورا قد كاد يستعلي الفراقد رفعة ... إذ حاز منك الناصر المنصورا ملك الزمان ومن رعية ملكه ... من عدله لا يظلمون نقيرا لا زال منصور اللواء مؤيدا ... أبد الزمان وضدّه مقهورا وقيل أيضا:

يا ملكا أطلع من وجهه ... إيوانه لما بدا بدرا أنسيتنا بالعدل كسرى ولن ... نرضى لنا جبرا به كسرا القصر الأبلق: هذا القصر يشرف على الإصطبل، أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في شعبان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وانتهت عمارته في سنة أربع عشرة، وأنشأ بجواره جنينة، ولما كمل عمل فيه سماطا حضره الأمراء وأهل الدولة، ثم أفيضت عليهم الخلع وحمل إلى كلّ أمير من أمراء المئين ومقدّمي الألوف ألف دينار، ولكلّ من مقدّمي الحلقة خمسمائة درهم، ولكلّ من أمراء الطبلخاناه عشرة آلاف درهم فضة، عنها خمسمائة دينار، فبلغت النفقة على هذا المهم خمسمائة ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم. وكانت العادة أن يجلس السلطان بهذا القصر كلّ يوم للخدمة ما عدا يومي الاثنين والخميس، فإنه يجلس للخدمة بدار العدل، كما تقدّم ذكره، وكان يخرج إلى هذا القصر المطلّ على الإصطبل، وتارة يقعد دونه على الأرض والأمراء وقوف على ما تقدّم، خلا أمراء المشورة والقرباء من السلطان فإنه ليس لهم عادة بحضور هذا المجلس، ولا يحضر هذا المجلس من الأمراء الكبار إلّا من دعت الحاجة إلى حضوره، ولا يزال السلطان جالسا إلى الثالثة من النهار، فيقوم ويدخل إلى قصوره الجوّانيية، ثم إلى دار حريمه ونسائه، ثم يخرج في أخريات النهار إلى قصوره الجوّانية فينظر في مصالح ملكه، ويعبر إليه إلى قصوره الجوّانية خاصته من أرباب الوظائف في الأشغال المتعلقة به، على ما تدعو الحاجة إليه، ويقال لها خدمة القصر، وهذا القصر تجاه بابه رحبة يسلك إليها من الرحبة التي تجاه الإيوان، فيجلس بالرحبة التي على باب القصر خواص الأمراء قبل دخولهم إلى خدمة القصر، ويمشي من باب القصر في دهاليز مفروشة بالرخام، قد فرش فوقه أنواع البسط إلى قصر عظيم البناء شاهق في الهواء، بإيوانين أعظمهما الشماليّ، يطلّ منه على الإصطبلات السلطانية، ويمتدّ النظر إلى سوق الخيل والقاهرة وظواهرها إلى نحو النيل وما يليه من بلاد الجيزة وقراها، وفي الإيوان الثاني القبليّ باب خاص لخروج السلطان وخواصه منه إلى الإيوان الكبير أيام الموكب، ويدخل من هذا القصر إلى ثلاثة قصور جوّانية، منها واحد مسامت لأرض هذا القصر، واثنان يصعد إليهما بدرج، في جميعها شبابيك حديد تشرف على مثل منظرة القصر الكبير، وفي هذه القصور كلها مجاري الماء مرفوعا من النيل بدواليب تديرها الأبقار من مقرّه إلى موضع ثم إلى آخر حتى ينتهي الماء إلى القلعة ويدخل إلى القصور السلطانية وإلى دور الأمراء الخواص المجاورين للسلطان، فيجري الماء في دورهم، وتدور به حماماتهم، وهو من عجائب الأعمال لرفعته من الأرض إلى السماء قريبا من خمسمائة ذراع من مكان إلى مكان، ويدخل من هذه القصور إلى دور الحريم، وهذه القصور جميعها من ظاهرها مبنية بالحجر الأسود والحجر الأسفر، موزرة من داخلها

بالرخام والفصوص المذهبة المشجرة بالصدف والمعجون وأنواع الملوّنات، وسقوفها كلها مذهبة قد موّهت باللازورد، والنور يخرق في جدرانها بطاقات من الزجاج القبرسيّ الملوّن كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع الأراضي قد فرشت بالرخام المنقول إليها من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله، وتشرف الدور السلطانية من بعضها على بساتين وأشجار وساحات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور الدواجن، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذه القصور والبساتين والأحواش مفصلا. وكان بهذا القصر الأبلق رسوم وعوايد تغير كثير منها وبطل معظمها، وبقيت إلى الآن بقايا من شعار المملكة ورسوم السلطنة، وسأقص من أنباء ذلك إن شاء الله تعالى ما لا تراه بغير هذا الكتاب مجموعا، والله يؤتي فضله من يشاء. الأسمطة السلطانية: وكانت العادة أن يمدّ بالقصر في طرفي النهار من كلّ يوم أسمطة جليلة لعامّة الأمراء خلا البرّانيين، وقليل ما هم. فبكرة يمدّ سماط أوّل لا يأكل منه السلطان، ثم ثان بعده يسمى الخاص، قد يأكل منه السلطان وقد لا يأكل، ثم ثالث بعده ويسمى الطارئ ومنه مأكول السلطان. وأما في آخر النهار فيمتدّ سماطان، الأوّل والثاني المسمى بالخاص، ثم إن استدعي بطارىء حضّر، وإلّا فلا، ما عدا المشويّ فإنه ليس له عادة محفوظة النظام، بل هو على حسب ما يرسم به، وفي كلّ هذه الأسمطة يؤكل ما عليها ويفرّق نوالات، ثم يسقى بعدها الأقسماء المعمولة من السكر والأفاويه المطيبة بماء الورد المبرّدة، وكانت العادة أن يبيت في كلّ ليلة بالقرب من السلطان أطباق فيها أنواع من المطجنات والبوارد والقطر والقشطة والجبن المقليّ والموز والسكباج، وأطباق فيها من الأقسماء والماء البارد برسم أرباب النوبة في السهر حول السلطان، ليتشاغلوا بالمأكول والمشروب عن النوم، ويكون الليل مقسوما بينهم بساعات الرمل، فإذا انتهت نوبة نبهت التي تليها، ثم ذهبت هي فنامت إلى الصباح، هكذا أبدا سفرا أو حضرا، وكانت العادة أيضا أن يبيت في المبيت السلطانيّ من القصر أو المخيم إن كان في السرحة المصاحف الكريمة لقراءة من يقرأ من أرباب النوبة، ويبيت أيضا الشطرنج ليتشاغل به عن النوم. وبلغ مصروف السماط في كلّ يوم عيد الفطر من كلّ سنة، خمسين ألف درهم، عنها نحو ألفين وخمسمائة دينار، تنهبه الغلمان والعامّة، وكان يعمل في سماط الملك الظاهر برقوق في كل يوم خمسة آلاف رطل من اللحم، سوى الأوز والدجاج، وكان راتب المؤيد شيخ في كلّ يوم لسماطه وداره ثمانمائة رطل من اللحم، فلما كان في المحرّم سنة ست وعشرين وثمانمائة، سأل الملك الأشرف برسباي عن مقدار ما يطبخ له في كلّ يوم بكرة وعشيا فقيل له: ستمائة رطل في الوجبتين، فأمر أن يطبخ بين يديه، لأنه بلغه أنه يوخذ مما ذكر لشادّ الشرابخاناه، ونحوه مائة وعشرون رطلا، فجعل راتب اللحم في كل يوم بزيادة أيام الخدمة، ونقصان أيام عدة الخدمة، خمسمائة رطل وستة أرطال عن وجبتي الغداء والعشاء، ومن الدجاج ستة وعشرين

ذكر العلامة السلطانية

طائرا ولعمل المأمونية رطلين ونصفا من السكر، وما يعمل برسم الجمدارية فإنه بعسل النحل. ذكر العلامة السلطانية قد جرت العادة أن السلطان يكتب خطه على كل ما يأمر به، فأمّا مناشير الأمراء والجند وكلّ من له إقطاع فإنه يكتب عليه علامته، وكتبها الملك الناصر محمد بن قلاون، الله أملي، وعمل ذلك الملوك بعده إلى اليوم، وأما تقاليد النوّاب، وتواقيع أرباب المناصب من القضاة والوزراء والكتاب، وبقية أرباب الوظائف، وتواقيع أرباب الرواتب والإطلاقات، فإنه يكتب عليها اسمه واسم أبيه إن كان أبوه ملكا، فيكتب مثلا محمد بن قلاون، أو شعبان بن حسين، أو فرج بن برقوق، وإن لم يكن أبوه ممن تسلطن كبرقوق أو شيخ، فإنه يكتب اسمه فقط، ومثاله برقوق، أو شيخ. وأما كتب البريد وخلاص الحقوق والظلامات، فإنه يكتب أيضا عليها اسمه، وربما كرّم المكتوب إليه فكتب إليه أخوه فلان، أو والده فلان، وأخوه يكتب للأكابر من أرباب الرتب والذي يعلم عليه السلطان، أما إقطاع فالرسم فيه أن يقال خرج الأمر الشريف، وأما وظائف ورواتب وإطلاقات، فالرسم في ذلك أن يقال رسم بالأمر الشريف، وأعلى ما يعلم عليه ما افتتح بخطبة أولها الحمد لله، ثم ما افتتح بخطبة أوّلها أما بعد حمد الله، حتى يأتي على خرج الأمر في المناشير، أو رسم بالأمر في التواقيع، ثم بعد هذا أنزل الرتب، وهو أن يفتتح في المناشير، خرج الأمر وفي التواقيع رسم بالأمر، وتمتاز المناشير المفتتح فيها بالحمد لله. أوّل الخطبة، أن تطغر بالسواد وتتضمن اسم السلطان وألقابه، وقد بطلت الطغرافي وقتنا هذا، وكانت العادة أن يطالع نوّاب المملكة السلطان بما يتجدّد عندهم تارة على أيدي البريدية، وتارة على أجنحة الحمام، فتعود إليهم الأجوبة السلطانية وعليها العلامة، فإذا ورد البريديّ أحضره أمير جاندار، وهو من أمراء الألوف، والدوادار وكاتب السرّ بين يدي السلطان، فيقبّل البريديّ الأرض، ويأخذ الدوادار الكتاب فيمسحه بوجه البريدي، ثم يناول للسلطان فيفتحه، ويجلس حينئذ كاتب السرّ ويقرأ على السلطان سرّا، فإن كان أحد من الأمراء حاضرا تنحى حتى يفرغ من القراءة، ويأمر السلطان فيه بأمر، وإن كان الخبر على أجنحة الحمام، فإنه يكتب في ورق صغير خفيف ويحمل على الحمام الأزرق، وكان لحمام الرسائل مراكز كما كان للبريد مراكز، وكان بين كلّ مركزين من البريد أميال، وفي كلّ مركز عدّة خيول كما بيناه في ذكر الطريق فيما بين مصر والشام، وكانت مراكز الحمام كلّ مركز منها ثلاثة مراكز من مراكز البريد، فلا يتعدّى الحمام ذلك المركز، وينقل عند نزوله المركز على ما على جناحه إلى طائر حتى يسقط بقلعة الجبل، فيحضره البرّاج، ويقرأ كاتب السرّ البطاقة، وكلّ هذا مما يعلم عليه بالقصر، ومما كان يحضر إلى القصر بالقلعة في كلّ يوم ورقة الصباح، يرفعها والى القاهرة ووالي مصر، وتشتمل على إنهاء ما تجدّد في كل يوم وليلة بحارات البلدين وأخطاطهما من حريق أو قتل قتيل أو سرقة سارق ونحو ذلك، ليأمر السلطان فيه بأمره.

الأشرفية: هذا القصر المعروف بالأشرفية أنشأ الملك الأشرف خليل بن قلاون في سنة اثنتين وتسعين وستمائة، ولما فرغ صنع به مهما عظيما لم يعمل مثله في الدولة التركية، وختن أخاه الملك الناصر محمد بن قلاون، وابن أخيه الأمير موسى بن الصالح عليّ بن قلاون، وجمع سائر أرباب الملاهي، وجميع الأمراء، ووقف الخزاندارية بأكياس الذهب، فلما قام الأمراء من الخاصكية للرقص، نثر الخزاندارية على كلّ من قام للرقص حتى فرغ الختان، فأنعم على كلّ أمير من الأمراء بفرس كامل القماش، وألبس خلعة عظيمة، وأنعم على عدّة منهم كلّ واحد بألف دينار وفرس، وأنعم على ثلاثين من الأمراء الخاصكية لكل واحد مبلغ خمسة آلاف دينار، وأنعم على البليبل المغني بألف دينار، وكان الذي عمل في هذا المهم من الغنم ثلاثة آلاف رأس، ومن البقر ستمائة رأس، ومن الخيل خمسمائة أكديس، ومن السكر برسم المشروب ألف قنطار وثمانمائة قنطار، وبرسم الحلوى مائة وستون قنطارا، وبلغت النفقة على هذا المهمّ في عمل السماط والمشروب والأقبية والطراز والسروج وثياب النساء مبلغ ثلاثمائة ألف دينار عينا. البيسرية: ومن جملة دور القلعة قاعة البيسرية، أنشأها السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون، وكان ابتداء بنائها في أوّل يوم من شعبان سنة إحدى وستين وسبعمائة، ونهاية عمارتها في ثامن عشري ذي الحجة من السنة المذكورة، فجاءت من الحسن في غاية لم ير مثلها، وعمل لهذه القاعة من الفرش والبسط ما لا تدخل قيمته تحت حصر، فمن ذلك تسعة وأربعون ثريا برسم وقود القناديل، جملة ما دخل فيها من الفضة البيضاء الخالصة المضروبة مائتا ألف وعشرون ألف درهم، وكلها مطلية بالطهب، وجاء ارتفاع بناء هذه القاعة طولا في السماء ثمانية وثمانين ذراعا، وعمل السلطان بها برجا يبيت فيه، من العاج والأبنوس، مطعّم يجلس بين يديه، وأكناف وباب يدخل منه إلى أرض كذلك، وفيه مقرنص قطعة واحدة يكاد يذهل الناظر إليه، بشبابيك ذهب خالص، وطرازات ذهب مصوغ، وشرافات ذهب مصوغ، وقبة مصوغة من ذهب صرف، فيه ثمانية وثلاثون ألف مثقال من الذهب، وصرف في مؤنه وأجره تتمة ألف درهم فضة، عنها خمسون ألف دينار، ذهبا، وبصدر إيوان هذه القاعة شباك حديد يقارب باب زويلة يطل على جنينة بديعة الشكل. الدهيشة: عمّرها السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون، في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وذلك أنه بلغه عن الملك المؤيد عماد الدين صاحب حماه أنه عمر بحماه دهيشة لم يبن مثلها، فقصد مضاهاته، وبعث الأمير أقجبا وابجيج المهندس لكشف دهيشة حماه، وكتب لنائب حلب ونائب دمشق بحمل ألفي حجر بيض، وألفي حجر حمر من حلب ودمشق، وحشرت الجمال لحملها حتى وصلت إلى قلعة

الجبل، وصرف في حمولة كلّ حجر من حلب اثنا عشر درهما، ومن دمشق ثمانية دراهم، واستدعى الرخام من سائر الأمراء وجميع الكتاب، ورسم بإحضار الصناع للعمل، ووقع الشروع فيها حتى تمت في شهر رمضان منها، وقد بلغ مصروفها خمسمائة ألف درهم، سوى ما قدم من دمشق وحلب وغير هما، وعمل لها من الفرش والبسط والآلات ما يجلّ وصفه، وحضر بها سائر الأغاني، وكان مهما عظيما. السبع قاعات: هذه القاعات تشرف على الميدان وباب القرافة، عمّرها الملك الناصر محمد بن قلاون، وأسكنها سراريه، ومات عن ألف ومائتي وصيفة مولدة، سوى من عداهنّ من بقية الأجناس. الجامع بالقلعة: هذا الجامع أنشأه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وكان قبل ذلك هناك جامع دون هذا، فهدمه السلطان وهدم المطبخ والحوائجخاناه والفراشخاناه، وعمله جامعا، ثم أخربه في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، وبناه هذا البناء، فلما تم بناؤه جلس فيه واستدعى جميع مؤذني القاهرة ومصر، وجميع القرّاء والخطباء، وعرضوا بين يديه، وسمع تأذينهم وخطابتهم وقراءتهم، فاختار منهم عشرين مؤذنا رتبهم فيه، وقرّر فيه درس فقه، وقارئا يقرأ في المصحف، وجعل عليه أوقافا تكفيه وتفيض، وصار من بعده من الملوك يخرجون أيام الجمع إلى هذا الجامع ويحضر خاصة الأمراء معه من القصر، ويجيء باقيهم من باب الجامع، فيصلي السلطان عن يمين المحراب في مقصورة خاصة به، ويجلس عنده أكابر خاصته، ويصلي معه الأمراء خصتهم وعامّتهم خارج المقصورة عن يمنتها ويسرتها على مراتبهم، فإذا انقضت الصلاة دخل إلى قصوره ودور حرمه، وتفرّق كلّ أحد إلى مكانه. وهذا الجامع متسع الأرجاء مرتفع البناء، مفروش الأرض بالرخام، مبطن السقوف بالذهب، وبصدره قبة عالية يليها مقصورة مستورة، هي والرواقات بشبابيك الحديد المحكمة الصنعة، ويحف صحنه رواقات من جهاته. الدار الجديدة: هذه الدار عند باب سرّ القلعة المطل على سوق الخيل، عمّرها الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ في سنة أربع وستين وستمائة، وعمل بها في جمادى الأولى منها دعوة للأمراء عند فراغها. خزانة الكتب: وقع بها الحريق يوم الجمعة رابع صفر سنة إحدى وتسعين وستمائة، فتلف بها من الكتب في الفقه والحديث والتاريخ وعامة العلوم شيء كثير جدا، كان من ذخائر الملوك، فانتهبها الغلمان وبيعت أوراقا محرّقة، ظفر الناس منها بنفائس غريبة ما بين ملاحم وغيرها، وأخذوها بأبخس الأثمان.

القاعة الصالحية: عمّرها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكانت سكن الملوك إلى أن أحترقت في سادس ذي الحجة سنة أربع وثمانين وستمائة، واحترق معها الخزانة السلطانية. باب النحاس: هذا الباب من داخل الستارة، وهو أجل أبواب الدور السلطانية، عمّره الناصر محمد بن قلاون، وزاد في سعة دهليزه. باب القلة: عرف بذلك من أجل أنه كان هناك قلة بناها الملك الظاهر بيبرس، وهدمها الملك المنصور قلاون في يوم الأحد عاشر شهر رجب سنة خمس وثمانين وستمائة، وبنى مكانها قبة، فرغت عمارتها في شوّال منها، ثم هدمها الملك الناصر محمد بن قلاون وجدّد باب القلة على ما هو عليه الآن، وعمل له بابا ثانيا. الرفرف: عمّره الملك الأشرف خليل بن قلاون، وجعله عاليا يشرف على الجيزة كلها، وبيّضه وصوّر فيه أمراء الدولة وخواصها، وعقد عليه قبة على عمد، وزخرفها، وكان مجلسا يجلس فيه السلطان، واستمرّ جلوس الملوك به حتى هدمه الملك الناصر حمد بن قلاون في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وعمل بجواره برجا بجوار الإصطبل، نقل إليه المماليك. الجب: كان بالقلعة جب يحبس فيه الأمراء، وكان مهولا مظلما كثير الوطاويط كريه الرائحة، يقاسي المسجون فيه ما هو كالموت أو أشدّ منه، عمره الملك المنصور قلاون في سنة إحدى وثمانين وستمائة، فلم يزل إلى أن قام الأمير بكتمر الساقي في أمره مع الملك الناصر محمد بن قلاون، حتى أخرج من كان فيه من المحابيس ونقلهم إلى الأبراج وردمه، وعمّر فوق الردم طباقا، في سنة تسع وعشرين وسبعمائة. الطبلخاناه تحت القلعة: ذكر هشام بن الكلبيّ: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قدم الشام، تلقاه المقلسون من أهل الأديان بالسيوف والريحان، فكره عمر رضي الله عنه النظر إليهم وقال: ردّوهم. فقال له أبو عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه، إنها سنة الأعاجم، فإن منعتهم ظنوا أنه نقض لعهدهم. فقال عمر رضي الله عنه: دعوهم والتقليس: الضرب بالطبل أو الدف. وهذه الطبلخاناه الموجودة الآن تحت القلعة فيما بين باب السلسلة وباب المدرج، كانت دار العدل القديمة التي عمرها الملك الظاهر بيبرس، وتقدّم خبرها. فلما كانت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، هدمها الناصر محمد بن قلاون وبناها هذه الطبلخاناه الموجودة الآن تحت قلعة الجبل، فيما بين باب السلسلة وباب المدرج، وصار ينزل إلى عمارتها كلّ قليل، وتولى شدّ العمارة بها آق سنقر شادّ العمائر، ووجد في أساسها أربعة قبور كبار،

المقدار عليها قطع رخام منقوش عليها أسماء المقبورين وتاريخ وفاتهم، فنبشوا ونقلوا قريبا من القلعة، فكانوا خلقا كبيرا عظيما في الطول والعرش، على بعضهم ملاءة ديبقية ملوّنة، ساعة مستها الأيدي تمزقت وتطايرت هباء، وفيهم اثنان عليهما آلة الحرب وعدّة الجهاد، وبهما آثار الدماء والجراحات، وفي وجه أحد هما ضربة سيف بين عينيه، والجرح مسدود بقطنة، فلما أمسكت القطنة ورفعت عن الجرح فوق الحاجب، نبع من تحتها دم يظنّ أنه جرح طريّ، فكان في ذلك موعظة وذكرى، وكانت الطبلخاناه ساحة بغير سقف، فلما ولي الأمير سودون داز أمير أخور، وسكن الإصطبل السلطانيّ، عمّر هذه الطباق فوق الطباق، وكان الغرض من عمارتها صحيحا، فإن المدرسة الأشرفية كانت حينئذ قائمة تجاه الطبلخاناه، ولما كان زمان الفتن بين أمراء الدولة، تحصن فوقها طائفة ليرموا على الإصطبل والقلعة، فأراد بناء هذه الطباق فوق الطباق أن يجعل بها رماة، حتى لا يقدر أحد يقيم فوق المدرسة الأشرفية، وقد بطل ذلك، فإن الملك الناصر فرج بن برقوق هدم المدرسة الأشرفية، كما ذكر في هذا الكتاب عند ذكر المدارس. الطباق بساحة الإيوان: عمّرها الملك الناصر محمد بن قلاون، وأسكنها المماليك السلطانية، وعمر حارة تختص بهم، وكانت الملوك تعني بها غاية العناية، حتى أن الملك المنصور قلاون كان يخرج في غالب أوقاته إلى الرحبة عند استحقاق حضور الطعام للمماليك، ويأمر بعرضه عليه ويتفقد لحمهم ويختبر طعامهم في جودته ورداءته، فمتى رأى فيه عيبا اشتدّ على المشرف والاستادار ونهر هما وحلّ بهما منه أيّ مكروه، وكان يقول: كلّ الملوك عملوا شيئا يذكرون به ما بين مال وعقار، وأنا عمّرت أسوارا وعملت حصونا مانعة لي ولأولادي وللمسلمين، وهم المماليك، وكانت المماليك أبدا تقيم بهذه الطبقات لا تبرح فيها، فلما تسلطن الملك الأشرف خليل بن قلاون سمح للمماليك أن ينزلوا من القلعة في النهار ولا يبتوا إلا بها، فكان لا يقدر أحد منهم أن يبيت بغيرها، ثم أنّ الملك الناصر محمد بن قلاون سمح لهم بالنزول إلى الحمام يوما في الأسبوع، فكانوا ينزلون بالنوبة مع الخدّام، ثم يعودون آخر نهارهم، ولم يزل هذا حالهم إلى أن انقرضت أيام بني قلاون، وكانت للمماليك بهذه الطباق عادات جميلة، أوّلها أنه إذا قدم بالمملوك تاجره عرضه على السلطان ونزله في طبقات جنسه وسلمه لطواشيّ برسم الكتابة، فأوّل ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كلّ طائفة لها فقيه يحضر إليها كلّ يوم ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى ومعرفة الخط والتمرّن بآداب الشريعة، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الرسم إذ ذاك أن لا تجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شبّ الواحد من المماليك علّمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدّمة، فإذا صار إلى سنّ البلوغ أخذ في تعليمه أنواع الحرب من رمى السهام ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كلّ طائفة معلم حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج إليه، وإذا ركبوا إلى لعب الرمح أو رمي النشاب لا يجسر جندي ولا

أمير أن يحدّثهم أو يدنو منهم، فينقل إذن إلى الخدمة ويتنقل في أطوارها رتبة بعد رتبة إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتدّ ساعده في رماية النشاب، وحسن لعبه بالرمح، ومرن على ركوب الخيل، ومنهم من يصير في رتبة فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر، هذا ولهم أزمّة من الخدّام، وأكابر من رؤوس النوب يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشدّ المؤاخذة، ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإن عثر أحد من مؤدّبيه الذي يعلّمه القرآن، أو الطواشيّ الذي هو مسلّم إليه، أو رأس النوبة الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف ذنبا، أو أخلّ برسم، أو ترك أدبا من آداب الدين أو الدنيا، قابله على ذلك بعقوبة مؤلمة شديدة بقدر جرمه، وبلغ من تأديبهم أن مقدّم المماليك كان إذا أتاه بعض مقدّمي الطباق في السحر، يشاور على مملوك أنه يغتسل من جنابة، فيبعث من يكشف عن سبب جنابته، إن كان من احتلام فينظر في سراويله، هل فيه جنابة أم لا، فإن لم يجد به جنابة جاءه الموت من كلّ مكان، فلذلك كانوا سادة يدبرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جارة أو تعدّى، وكانت لهم الإدرارات الكثيرة من اللحوم والأطعمة والحلاوات والفواكه والكسوات الفاخرة والمعاليم من الذهب والفضة، بحيث تتسع أحوال غلمانهم، ويفيض عطاؤهم على من قصدهم. ثم لما كانت أيام الظاهر برقوق، راعى الحال في ذلك بعض الشيء إلى أن زالت دولته في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فلما عاد إلى المملكة رخص للمماليك في سكنى القاهرة، وفي التزوّج، فنزلوا من الطباق من القلعة ونكحوا نساء أهل المدينة، واخلدوا إلى البطالة، ونسوا تلك العوائد، ثم تلاشت الأحوال في أيام الناصر فرج بن برقوق، وانقطعت الرواتب من اللحوم وغيرها حتى عن مماليك الطباق مع قلة عددهم، ورتب لكلّ واحد منهم في اليوم مبلغ عشرة دراهم من الفلوس، فصار غذاؤهم في الغالب الفول المصلوق، عجزا عن شراء اللحم وغيره، وهذا وبقي الجلب من المماليك إنما هم الرجال الذين كانوا في بلادهم ما بين ملاح سفينة ووقاد في تنور خباز، ومحوّل ماء في غيط أشجار ونحو ذلك، واستقرّ رأي الناصر على أن تسليم المماليك للفقيه يتلفهم، بل يتركون وشؤونهم، فبدّلت الأرض غير الأرض، وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدرا، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين، ما فيهم إلّا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب، لا جرم أن خربت أرض مصر والشام، من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات، بسوء إبالة الحكام، وشدّة عبث الولاة، وسوء تصرّف أولي الأمر، حتى أنه ما من شهر إلّا ويظهر من الخلل العام ما لا يتدارك فرطه، وبلغت عدّة المماليك السلطانية في أيام الملك المنصور قلاون ستة آلاف وسبعمائة، فأراد ابنه الأشرف

خليل تكميل عدّتها عشرة آلاف مملوك، وجعلهم طوائف، فأفرد طائفتي الأرمن والجركس وسماها البرجية لأنه أسكنها في أبراج بالقلعة، فبلغت عدّتهم ثلاثة آلاف وسبعمائة، وأفرد جنس الخطا والقبجاق وأنزلهم بقاعة عرفت بالذهبية والزمرذية، وجعل منهم جمدارية وسقاة، وسماهم خاصكية، وعمل البرجية سلاحدارية وجمقدارية وجاشنكيرية وأوشاقية، ثم شغف الملك الناصر محمد بن قلاون بجلب المماليك من بلاد أزبك وبلاد توريز وبلاد الروم وبغداد، وبعث في طلبهم وبذل الرغائب للتجار في حملم إليه، ودفع فيهم الأموال العظيمة، ثم أفاض على من يشتريه منهم أنواع العطاء من عامّة الأصناف دفعة واحدة في يوم واحد، ولم يراع عادة أبيه ومن كان قبله من الملوك في تنقل المماليك في أطوار الخدم حتى يتدرب ويتمرّن، كما تقدّم، وفي تدريجه من ثلاثة دنانير في الشهر إلى عشرة دنانير، ثم نقله من الجامكية إلى وظيفة من وظائف الخدمة، بل اقتضى رأيه أن يملأ أعينهم بالعطاء الكثير دفعة واحدة، فأتاه من المماليك شيء كثير رغبة فيما لديه، حتى كان الأب يبيع ابنه للتاجر الذي يجلبه إلى مصر، وبلغ ثمن المملوك في أيامه إلى مائة ألف درهم فما دونها، وبلغت نفقات المماليك في كلّ شهر إلى سبعين ألف درهم، ثم تزايدت حتى صارت في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة مائتين وعشرين ألف درهم. دار النيابة: كان بقلعة الجبل دار نيابة بناها الملك المنصور قلاون في سنة سبع وثمانين وستمائة، سكنها الأمير حسام الدين طرنطاي، ومن بعده من نوّاب السلطنة، وكانت النوّاب تجلس بشباكها حتى هدمها الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وأبطل النيابة وأبطل الوزارة أيضا، فصار موضع دار النيابة ساحة، فلما مات الملك الناصر أعاد الأمير قوصون دار النيابة عند استقراره في نيابة السلطنة، فلم تكمل حتى قبض عليه، فولي نيابة السلطنة الأمير طشتمر حمص أخضر وقبض عليه، فتولى بعد نيابة السلطنة الأمير شمس الدين آق سنقر في أيام الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاون، فجلس بها في يوم السبت أوّل صفر سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة في شباك دار النيابة، وهو أوّل من جلس بها من النوّاب بعد تجديدها، وتوارثها النوّاب بعده، وكانت العادة أن يركب جيوش مصر يومي الاثنين والخميس في الموكب تحت القلعة، فيسيرون هناك من رأس الصوة إلى باب القرافة، ثم تقف العسكر مع نائب السلطنة وينادى على الخيل بينهم، وربما نودي على كثير من آلات الجند والخيم والجركاوات والأسلحة، وربما نودي على كثير من العقار، ثم يطلعون إلى الخدمة السلطانية بالإيوان بالقلعة على ما تقدّم ذكره، فإذا مثل النائب في حضرة السلطان، وقف في ركن الإيوان إلى أن تنقضي الخدمة، فيخرج إلى دار النيابة والأمراء معه، ويمدّ السماط بين يديه كما يمدّ سماط السلطان، ويجلس جلوسا عاما للناس، ويحضره أرباب الوظائف، وتقف قدّامه الحجاب، وتقرأ القصص، وتقدّم إليه الشكاة، ويفصل أمورهم.

فكان السلطان يكتفي بالنائب ولا يتصدّى لقراءة القصص عليه وسماع الشكوى، تعويلا منه على قيام النائب بهذا الأمر، وإذا قرئت القصص على النائب نظر، فإن كان مرسومه يكفي فيها أصدره عنه، وما لا يكفي فيه إلّا مرسوم السلطان أمر بكتابته عن السلطان وأصدره، فيكتب ذلك وينبه فيه على أنه بإشارة النائب، ويميز عن نوّاب السلطان بالممالك الشامية بأن يعبر عنه بكافل المملكة الشريفة الإسلامية، وما كان من الأمور التي لا بدّ له من إحاطة علم السلطان بها، فإنه إما أن يعلمه بذلك منه إليه وقت الاجتماع به، أو يرسل إلى السلطان من يعلمه به، ويأخذ رأيه فيه وكان ديوان الإقطاع، وهو الجيش في زمان النيابة ليس لهم خدمة إلا عند النائب، ولا اجتماع إلّا به، ولا يجتمع ناظر الجيش بالسلطان في أمر من الأمور، فلما أبطل الملك الناصر محمد بن قلاون النيابة، صار ناظر الجيش يجتمع بالسلطان، واستمرّ ذلك بعد إعادة النيابة، وكان الوزير وكاتب السرّ يراجعان النائب في بعض الأمور دون بعض، ثم اضمحلت نيابة السلطنة في أيام الناصر محمد بن قلاون، وتلاشت أوضاعها، فلما مات أعيدت بعده ولم تزل إلى أثناء أيام الظاهر برقوق، وآخر من وليها على أكثر قوانينها الأمير سودون الشيخيّ، وبعده لم يل النيابة أحد في الأيام الظاهرية، ثم إن الناصر فرج بن برقوق أقام الأمير تمراز في نيابة السلطنة، فلم يسكن دار النيابة في القلعة، ولا خرج عما يعرفه من حال حاجب الحجاب، ولم يل النيابة بعد تمراز أحد إلى يومنا هذا، وكانت حقيقة النائب أنه السلطان الثاني، وكانت سائر نوّاب الممالك الشامية وغيرها تكاتبه في غالب ما تكاتب فيه السلطان، ويراجعونه فيه، كما يراجع السلطان، وكان يستخدم الجند ويخرج الإقطاعات من غير مشاورة، ويعين الأمر لكن بمشاورة السلطان، وكان النائب هو المتصرّف المطلق التصرّف في كلّ أمر، فيراجع في الجيش والمال والخبر، وهو البريد، وكلّ ذي وظيفة لا يتصرّف إلّا بأمره، ولا يفصل أمرا معضلا إلّا مراجعته، وهو الذي يستخدم الجند ويرتب في الوظائف إلّا ما كان منها جليلا كالوزارة والقضاء وكتابة السرّ والجيش، فإنه يعرض على السلطان من يصلح، وكان قل أن لا يجاب في شيء يعينه، وكان من عدا نائب السلطنة بديار مصر يليه في رتبة النيابة، وكلّ نوّاب الممالك تخاطب بملك الأمراء إلّا نائب السلطنة بمصر فإنه يسمى كافل الممالك، تمييزا له وإبانة عن عظيم محله، وبالحقيقة ما كان يستحق اسم نيابة السلطنة بعد النائب بمصر سوى نائب الشام بدمشق فقط، وإنما كانت النيابة تطلق أيضا على أكابر نوّاب الشام، وليس لأحد منهم من التصرّف ما كان لنائب دمشق، إلّا أن نيابة السلطنة بحلب تلي رتبة نيابة السلطنة بدمشق، وقد اختلت الآن الرسوم، واتضعت الرتب، وتلاشت الأحوال، وعادت أسماء لا معنى لها، وخيالات حاصلها عدم. والله يفعل ما يشاء.

ذكر جيوش الدولة التركية وزيها وعوايدها

ذكر جيوش الدولة التركية وزيّها وعوايدها اعلم أنه قد كان بقلعة الجبل مكان معدّ لديوان الجيش، وأدركت منه بقية إلى أثناء دولة الظاهر برقوق، وكان ناظر الجيش، وسائر كتاب الجيش لا يبرحون في أيام الخدمة نهارهم مقيمين بديوان الجيش، وكانت لهذا الديوان عوايد قد تغير أكثرها ونسي غالب رسومه، وكانت جيوش الدولة التركية بديار مصر على قسمين، منهم من هو بحضرة السلطان، ومنهم من هو في أقطار المملكة وبلادها وسكان بادية كالعرب والتركمان. وجندها مختلط من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وغالبهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات، أكابرهم من له إمرة مائة فارس، وتقدمة ألف فارس، ومن هذا القبيل تكون أكابر النوّاب، وربما زاد بعضهم بالعشرة فوارس والعشرين. ثم أمراء الطبلخاناه، ومعظمهم من تكون له إمرة أربعين فارسا، وقد يوجد فيهم من له أزيد من ذلك إلى السبعين، ولا تكون الطبلخاناه لأقل من أربعين. ثم أمراء العشراوات، ممن تكون له إمرة عشرة، وربما كان فيهم من له عشرون فارسا ولا يعدّون في أمراء العشراوات. ثم جند الحلقة، وهؤلاء تكون مناشيرهم من السلطان، كما أنّ مناشير الأمراء من السلطان، وأما أجناد الأمراء فمناشيرهم من أمرائهم، وكان منشور الأمير يعين فيه للأمير ثلث الإقطاع ولأجناده الثلثان، فلا يمكن الأمير ولا مباشروه أن يشاركوا أحدا من الأجناد فيما يخصهم إلّا برضاهم، وكان الأمير لا يخرج أحدا من أجناده حتى يتبين للنائب موجب يقتضي إخراجه، فحينئذ يخرجه نائب السلطان ويقيم عند الأمير عوضه، وكان لكل أربعين جنديا من جند الحلقة مقدّم عليهم، ليس له عليهم حكم إلّا إذا خرج العسكر لقتال، فكانت مواقف اوربعين مع مقدّمهم وترتيبهم في موقفهم إليه ويبلغ بمصر إقطاع بعض أكابر أمراء المئني المقدّمين من السلطان مائتي ألف دينار جيشية، وربما زاد على ذلك، وأما غيرهم فدون ذلك، يعبر أقلها إلى ثمانين ألف دينار وما حولها. وأمّا الطبلخاناه فمن ثلاثين ألف دينار إلى ثلاثة وعشرين ألف دينار، وأما العشراوات فأعلاها سبعة آلاف دينار إلى ما دونها، وأما إقطاعات أجناد الحلقة فأعلاها ألف وخمسمائة دينار، وهذا القدر وما حوله إقطاعات أعيان مقدّمي الحلقة، ثم بعد ذلك الأجناد بابات، حتى يكون أدناهم مائتين وخمسين دينارا، وسيرد تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى وأما إقطاعات جند الأمراء فإنها على ما يراه الأمير من زيادة بينهم ونقص. وأما إقطاعات الشام فإنها لا تقارب هذا، بل تكون على الثلثين مما ذكرنا، ما خلا نائب السلطنة بدمشق فإنه يقارب إقطاعه أعلى إقطاعات أكابر أمراء مصر المقرّبين. وجميع جند الأمراء تعرض بديوان الجيش ويتبت اسم الجندي وحليته، ولا يستبدل أميره به غير إلّا بتنزيل من عوّض به وعرضه. وكانت للأمراء على السلطان في كلّ سنة ملابس ينعم بها عليهم، ولهم في ذلك حظ

وافر، وينعم على أمراء المئين بخيول مسرجة ملجمة، ومن عداهم بخيول عري، ويميز خاصتهم على عامتهم، وكان لجميع الأمراء من المئين والطبلخاناه والعشراوات على السلطان الرواتب الجارية في كلّ يوم، من اللحم وتوابله كلها والخبز، والشعير لعليق الخيل، والزيت. ولبععضهم الشمع والسكّر والكسوة في كلّ سنة. وكذلك لجميع ممليك السلطان وذوي الوظائف من الجند، وكانت العادة إذا نشأ لأحد الأمراء ولد، أطلق له دنانير ولحم وخبز وعليق، حتى يتأهل للإقطاع في جملة الحلقة، ثم منهم من ينتقل إلى إمرة عشرة أو إلى إمرة طبلخاناه، بحسب الحظ، واتفق للأميرين طرنطاي وكتبغا أنّ كلا منهما زوّج ولده بابنة الآخر، وعمل لذلك المهم العظيم، ثم سأل الأمير طرنطاي، وهو إذ ذاك نائب السلطان، الأمير بيلبك الأيدمريّ والأمير طيبرس أن يسألا السلطان الملك المنصور قلاون في الإنعام على ولده وولد الأمير كتبغابا قطاعين في الحلقة، فقال لهما: والله لو رأيتهما في مصاف القتال يضربان بالسيف، أو كانا في زحف قدّامي، أستقبح أن أعطي لهما أخبازا في الحلقة، خشية أن يقال أعطى الصبيان الأخباز، ولم يجب سؤالهما هذا. وهم من قد عرفت. لكن كان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، إذا مات الجنديّ أعطى إقطاعه لولده، فإن كان صغيرا رتب معه من يلى أمره حتى يكبر، فكان أجناده يقولون: الإقطاعات أملاكنا يرثها أولادنا الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها. وبه اقتدى كثير من ملوك مصر في ذلك. وللأمراء المقدّمين حوائص ذهب في وقت الركوب إلى الميدان، ولكلّ أمير من الخواص على السلطان مرتب من السكر والحلوى في شهر رمضان، ولسائرهم الأضحية في عيد الأضحى على مقادير رتبهم، ولهم البرسيم لتربيع دوابهم، ويكون في تلك المدجة بدل العليق المرتب لهم، وكانت الخيول السلطانية تفرّق على الأمراء مرّتين في كلّ سنة، مرّة عند ما يخرج السلطان إلى مرابط خيوله في الربيع عند اكتمال تربيعها، ومرّة عند لعبه بالأكرة في الميدان. ولخاصة السلطان المقرّبين زيادة كثيرة من ذلك، بحيث يصل إلى بعضهم في السنة مائة فرس، ويفرّق السلطان أيضا الخيول على المماليك السلطانية في أوقات أخر، وربما يعطى بعض مقدّمي الحلقة، ومن نفق له فرس من المماليك، يحضر من لحمه والشهادة بأنه نفق، فيعطى بدله. ولخاصة السلطان المقرّبين أنعام من الإنعامات، كالعقارات والأبنية الضخمة التي ربما أنفق على بعضها زيادة على مائة ألف دينار، ووقع هذا في الأيام الناصرية مرارا، كما ذكر عند ذكر الدول من هذا الكتاب، ولهم أيضا كساوى القماش المنوّع، ولهم عند سفرهم إلى الصيد وغيره العلوفات والأنزال، وكانت لهم آداب لا يخلّون بها، منها أنهم إذا أدخلوا إلى الخدمة بالإيوان أو القصر، وقف كلّ أمير في مكانه المعروف به، ولا يجسر أحد منهم ولا من المماليك أن يحدّث رفيقه في الخدمة ولا بكلمة واحدة، ولا يلتفت إلى نحوه أيضا، ولا يجسر أحد منهم ولا من المماليك أن يجتمع بصاحبه في نزهة ولا في رمي النشاب ولا غير ذلك، ومن بلغ السلطان

عنه أنه اجتمع بآخر نفاه أو قبض عليه. واختلف زي الأمراء والعساكر في الدولة التركية، وقد بينا ما كان عليه زيّهم حتى غيره الملك المنصور قلاون عند ذكر سوق الشرابشيين، وصار زيهم إذا دخلوا إلى الخدمة، بالأقبية التترية والكلاوات فوقها، ثم القباء الإسلاميّ فوقها، وعليه تشدّ المنطقة والسيف. ويتميز الأمراء والمقدّمون وأعيان الجند بلبس أقبية قصيرة الأكمام فوق ذلك، وتكون أكمامها أقصر من القباء التحتانيّ، بلا تفاوت كبير في قصر الكمّ والطول، وعلى رؤوسهم كلهم كلوتات صغار غالبها من الصوف الملطيّ الأحمر، وتضرب ويلف فوقها عمائم صغار، ثم زادوا في قدر الكلوتات وما يلفّ فوقها في أيام الأمير بلبغا الخاصكيّ، القائم بدولة الأشرف شعبان بن حسين، وعرفت بالكلوتات الطرخانية، وصاروا يسمون تلك الصغيرة ناصرية، فلما كانت أيام الظاهر برقوق بالغوا في كبر الكلوتات، وعملوا في شدّتها عوجا، وقيل لها كلوتات جركسية، وهم على ذلك إلى اليوم. ومن زيهم لبس المهماز على الإخفاف، ويعمل المنديل في الحياصة «1» على الصولق من الجانب الأيمن، ومعظم حوائص المماليك فضة، وفيهم من كان يعملها من الذهب، وربما عملت باليشم وكانت حوائص أمراء المئين الأكابر، التي تخرج إليهم مع الخلع السلطانية من خزانة الخاص، يرصّع ذهبها بالجواهر. وكان معظم العسكر يلبس الطراز، ولا يكفت مهمازه بالذهب، ولا يلبس الطراز إلّا من له إقطاع في الحلقة، وأما من هو بالحامكية أو من أجناد الأمراء، فلا يكفت مهمازه بالذهب ولا يلبس طرازا، وكانت العساكر من الأمراء وغيرهم تلبس المنوّع من الكمخا والخطاي والكبخي والمخمل والإسكندرانيّ والشرب ومن النصافي والأصواف الملوّنة. ثم بطل لبس الحرير في أيام الظاهر برقوق، واقتصروا إلى اليوم على لبس الصوف الملوّن في الشتاء، ولبس النصافي المصقول في الصيف. وكانت العادة أن السلطان يتولى بنفسه استخدام الجند، فإذا وقف قدّامه من يطلب الإقطاع المحلول، ووقع اختياره على أحد، أمر ناظر الجيش بالكتابة له، فيكتب ورقة مختصرة تسمى المثال، مضمونها حيز فلان كذا، ثم يكتب فوقه اسم المستقرّ له، ويناولها السلطان فيكتب عليها بخطه، يكتب ويعطيها الحاجب لمن رسم له، فيقبّل الأرض، ثم يعاد المثال إلى ديوان الجيش فيحفظ شاهدا عندهم، ثم تكتب مربعة مكملة بخطوط جميع مباشري ديوان الإقطاع، وهم كتاب ديوان الجيش، فيرسمون علاماتهم عليها، ثم تحمل إلى ديوان الإنشاء والمكاتبات، فيكتب المنشور ويعلّم عليه السلطان كما تقدّم ذكره، ثم يكمل المنشور بخطوط كتاب ديوان الجيش بعد المقابلة على حجة أصله. واستجدّ السلطان الملك المنصور قلاون طائفة سمّاها البحرية، وهي أن البحرية

الصالحية لما تشتتوا عند قتل الفارس أقطاي في أيام المعز أيبك، بقيت أولادهم بمصر في حالة رذيلة، فعندما أفضت السلطنة إلى قلاون جمعهم ورتب لهم الجوامك والعليق واللحم والكسوة، ورسم أن يكونوا جالسين على باب القلعة، وسمّاهم البحرية، وإلى اليوم طائفة من الأجناد تعرف بالبحرية. وأما البلاد الشامية، فليس للنائب بالمملكة مدخل في تأمير أمير عوض أمير مات، بل إذا مات أمير سواء كان كبيرا أو صغيرا طولع السلطان بموته فأمّر عوضه، إما ممن في حضرته ويخرجه إلى مكان الخدمة، أو ممن هو في مكان الخدمة، أو ينقل من بلد آخر، من يقع اختياره عليه. وأما جند الحلقة فإنهم إذا مات أحدهم استخدم النائب عوضه، وكتب المثال على نحو من ترتيب السلطان، ثم كتب المربعة وجهزها مع البريد إلى حضرة السلطان فيقابل عليها في ديوان الإقطاع، ثم إن أمضاها السلطان كتب عليها يكتب، فتكتب المربعة من ديوان الإقطاع، ثم يكتب عليها المنشور كما تقدّم في الجند الذين بالحضرة، وإن لم يمضها السلطان أخرج الإقطاع لمن يريد. ومن مات من الأمراء والجند قبل استكمال مدّة الخدمة حوسب ورثته على حكم الاستحقاق، ثم إمّا يرتجع منهم أو يطلق لهم على قدر حصول العناية بهم، وإقطاعات الأمراء والجند منها ما هو بلاد يستغلها مقطعها كيف شاء، ومنها ما هو نقد على جهات يتناولها منها، ولم يزل الحال على ذلك حتى راك الملك الناصر محمد بن قلاون البلاد كما تقدّم في أوّل هذا الكتاب، عند الكلام على الخراج ومبلغه، فأبطل عدّة جهات من المكوس وصارت الإقطاعات كلها بلادا، والذي استقرّ عليه الحال في إقطاعات الديار المصرية مما رتبه الملك الناصر محمد بن قلاون في الروك الناصريّ، وهو عدة الجيوش المنصورة بالديار المصرية أربعة وعشرون ألف فارس، تفصيل ذلك: أمراء الألوف ومماليكهم ألفان وأربعمائة وأربعة وعشرون فارسا، تفصيل ذلك: نائب ووزير وألوف خاصكية ثمانية أمراء، وألوف خرجية أربعة عشر أميرا، ومماليكهم ألفان وأربعمائة فارس. أمراء طبلخاناه ومماليكهم ثمانية آلاف ومائتا فارس، تفصيل ذلك: خاصكية أربعة وخمسون أميرا، وخرجية مائة وستة وأربعون أميرا، ومماليكهم ثمانية آلاف فارس. كشاف وولاة بالأقاليم خمسمائة وأربعة وسبعون، تفصيل ذلك: ثغر الإسكندرية واحد، والبحيرة واحد، والغربية واحد، والشرقية واحد، والمنوفيه واحد وقطيا واحد، وكاشف الجيزة واحد، والفيوم واحد، والبهنسا واحد، والأشمونين واحد، وقوص واحد، واسوان واحد، وكاسف الوجه البحريّ واحد، وكاشف الوجه القبليّ واحد. ومماليكهم خمسمائة وستون. أمراء العشراوات ومماليكهم ألفان ومائتا فارس، تفصيل ذلك: خاصكية ثلاثون، وخرجية مائة وسبعون أميرا، ومماليكهم ألفان. ولاة الأقاليم سبعة وسبعون أميرا، تفصيلهم: أشمون الرّمان واحد، وقليوب واحد،

والجيزة واحد، وتروجا واحد، وحاجب الإسكندرية واحد، واطفيح واحد، ومنفلوط واحد، ومماليكهم سبعون فارسا. مقدّموا الحلقة والأجناد أحد عشر ألفا ومائة وستة وسبعون فارسا، تفصيل ذلك: مقدّموا المماليك السلطانية أربعون، مقدّموا الحلقة مائة وثمانون، نقباء الألوف أربعة وعشرون نقيبا، مماليك السلطان وأجناد الحلقة عشرة آلاف وتسعمائة واثنان وثلاثون فارسا، تفصيل ذلك: مماليك السلطان ألفا مملوك، أجناد الخلقة ثمانية آلاف وتسعمائة واثنان وثلاثون فارسا. عبرة ذلك الخاصكية، الألوف والنائب والوزير، كلّ منهم مائة ألف دينار، وكلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع ألف ألف درهم، بما فيه من ثمن الغلال، كلّ أردب واحد من القمح بعشرين درهما، والحبوب كلّ أردب منها بعشرة دراهم، من ذلك الكلف مائة ألف درهم، والخالص تسعمائة ألف درهم. الألوف الخرجية، كلّ منهم خمسة وثمانون ألف دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع ثمانمائة ألف وخمسون ألفا، بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح فيه، من ذلك الكلف سبعون ألف درهم، والخالص لكلّ منهم سبعمائة وثمانون ألف درهم. الطبلخاناه الخاصكية، كلّ منهم أربعون ألف دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع أربعمائة ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح فيه، من ذلك الكلف خمسة وثلاثون ألف درهم، والخالص لكلّ منهم ثلاثمائة وخمسة وستون ألف درهم. الطبلخاناه الخرجية ثلاثون ألف دينار، كلّ دينار ثمانية دراهم، الارتفاع مائتا ألف وأربعون ألف درهم، بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلف أربعة وعشرون ألف درهم، والخالص مائتا ألف وستة عشر ألف درهم. العشراوات الخاصكية كل منهم عشرة آلاف دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع مائة ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلف سبعة آلاف درهم، والخالص لكلّ منهم ثلاثة وتسعون ألف درهم. العشراوات الخرجية كلّ منهم سبعة آلاف دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع سبعون ألف درهم، بما فيه من ثمن الغلال، على ما شرح. من ذلك الكلف خمسة آلاف درهم، والخالص لكلّ منهم خمسة وستون ألف درهم. الكشّاف لكلّ منهم عشرون ألف دينار، كلّ دينار ثمانية دراهم، الارتفاع مائة ألف وستون ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلفة خمسة عشر ألف درهم، والخالص مائة ألف وخمسة وأربعون ألف درهم.

الولاة الاصطبلخاناه، كلّ منهم خمسة عشر ألف دينار، كلّ دينار ثمانية دراهم، الارتفاع مائة وعشرون ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلف عشرة آلاف درهم، والخالص لكلّ منهم مائة ألف وعشرة آلاف درهم. الولاة العشراوات، لكلّ منهم خمسة آلاف دينار، كلّ دينار سبعة دراهم، الارتفاع خمسة وثلاثون ألف درهم، بما فيه من ثمن المغل على ما شرح، من ذلك الكلف ثلاثة آلاف درهم، والخالص لكلّ منهم اثنان وثلاثون ألف درهم. مقدّمو مماليك السلطان، كلّ منهم ألف ومائتا دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، الارتفاع اثنا عشر ألف درهم بما فيه من ثمن الغلال على ما شرح، من ذلك الكلف ألف درهم، والخالص لكلّ منهم أحد عشر ألف درهم. مقدّموا الحلقة، كلّ منهم ألف دينار، كلّ دينار تسعة دراهم، الارتفاع تسعة آلاف درهم بما فيه من ثمن الغلال، من ذلك الكلف تسعمائة درهم، والخالص لكلّ منهم ثمانية آلاف درهم ومائة درهم. نقباء الألوف لكل منهم أربعمائة دينار، كلّ دينار تسعة دراهم، الارتفاع ثلاثة آلاف وستمائة درهم، بما فيه من ثمن الغلال، من ذلك الكلف أربعمائة درهم، والخالص لكلّ منهم ثلاثة آلاف ومائتا درهم. مماليك السلطان ألفان، بابة أربعمائة مملوك، لكلّ منهم ألف وخمسمائة دينار، كلّ دينار عشرة دراهم، عنها لأخمسة عشر ألف درهم، بابة خمسمائة مملوك، كل واحد ألف وثلثمائة دينار، سعره عشرة دراهم، عنها ثلاثة عشر ألف درهم، بابة خمسمائة مملوك، لكل منهم ألف دينار ومائتا دينار، عنها اثنا عشر ألف درهم. بابة ستمائة مملوك، لكل واحد ألف دينار، عنها عشرة آلاف درهم. اجناد الحلقة ثمانئة آلاف وتسعمائة واثنان وثلاثون فارسا، بابه ألف وخمسمائة فارس لكلّ منهم تسعمائة دينة بتسعة آلاف درهم، بابة ألف وثلاثمائة وخمسين جنديا لكلّ منهم ثمانمائة دينار بثمانية آلاف درهم، بابة ألف وثلاثمائة وخمسين جنديا كل منهم سبعمائة دينار عنها سبعة آلاف درهم. بابة ألف وثلاثمائة جنديّ لكلّ منهم ستمائة دينار بستة آلاف درهم، بابة ألف وثلاثمائة كلّ منهم بخمسمائة دينار بخمسة آلاف درهم. بابة ألف ومائة جنديّ لكلّ منهم أربعمائة دينار بأربعة آلاف درهم، بابة ألف واثنين وثلاثين جنديا لكل منهم ثلاثمائة دينار سعر عشرة دراهم عنها ثلاثة آلاف درهم. وأرباب الوظائف من الأمراء بعد النيابة والوزارة، أمير سلاح والدوادار، والحجبة، وأمير جاندار، والاستادار، والمهندار، ونقيب الجيوش، والولاة.

ذكر الحجبة

فلما مات الملك الناصر محمد بن قلاون، حدث بين أجناد الحلقة نزول الواحد منهم عن إقطاعه لآخر بمال، أو مقايضة الإقطاعات بغيرها فكثر الدخيل في الأجناد بذلك، واشترت السوقة والأراذل الإقطاعات، حتى صار في زمننا أجناد الحلقة أكثرهم أصحاب حرف وصناعات، وخربت منهم أراضي إقطاعاتهم. وأوّل ما حدث ذلك أن السلطان الملك الكامل شعبان بن محمد بن قلاون، لما تسلطن في شهر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، تمكن منه الأمير شجاع الدين أغرلوشادّ الدواوين، واستجدّ أشياء منها المقايضة بالإقطاعات في الحلقة، والنزول عنها. فكان من أراد مقايضة أحد بإقطاعه، حمل كلّ منهما مالا لبيت المال يقرّر عليهما، ومن اختار حيزا بالحلقة، يزن على قدر عبرته في عبرته في السنة دنانير يحملها لبيت المال، فإن كانت عبرة الحيز الذي يريده خمسمائة دينار في السنة، حمل خمسمائة دينار، ومن أراد النزول عن إقطاعه حمل مالا لبيت المال بحسب ما يقرّر عليه اغرلو، وأفرد لذلك ولما يؤخذ من طالبي الوظائف والولايات ديوانا سمّاه ديوان البدل، وكان يعين في المنشور الذي يخرج بالمقايضة، المبلغ الذي يقوم به كلّ من الجنديين، وكان ابتداء هذا في جمادى الأولى من السنة المذكورة، فقام الأمراء في ذلك مع السلطان حتى رسم بإبطاله، فلما ولي الأمير منجك اليوسفيّ الوزارة وسيره في المال، فتح في سنة تسع وأربعين باب النزول والمقايضات، فكان الجنديّ يبيع إقطاعه لكلّ من بذل له فيه مالا، فأخذ كثير من العامّة الإقطاعات، فكان يبذل في الإقطاع مبلغ عشرين ألف درهم، وأقل منه على قدر متحصله، وللوزير رسم معلوم، ثم منع من ذلك، فلما كانت نيابة الأمير سيف الدين قيلاي في سنة ثلاث وخمسين، مشى أحوال الأجناد في المقايضات والنزولات، فاشترى الإقطاعات الباعة وأصحاب الصنائع، وبيعت تقادم الحلقة، وانتدب لذلك جماعة عرفت بالمهيسين بلغت عدّتهم نحو الثلاثمائة مهيس، وصاروا يطوفون على الأجناد ويرغبونهم في النزول عن إقطاعاتهم أو المقايضة بها، وجعلوا لهم على كلّ ألف درهم مائة درهم، فلما فحش الأمر أبطل الأمير شيخون العمري النزولات والمقايضات عندما استقرّ رأس نوبة، واستقل بتدبير أمور الدولة، وتقدّم لمباشري ديوان الجيش أن لا يأخذوا رسم المنشور والمحاسبة سوى ثلاثة دراهم، بعد ما كانوا يأخذون عشرين درهما. ذكر الحجبة وكانت رتبة الحجبة في الدولة التركية جليلة، وكانت تلي رتبة نيابة السلطنة، ويقال لأكبر الحجبة حاجب الحجاب. وموضوع الحجبة أن متوليها بنصف من الأمراء والجند، تارة بنفسه وتارة بمشاورة السلطان وتارة بمشاورة النائب، وكان إليه تقديم من يعرض ومن يردّ، وعرض الجند، فإن لم يكن نائب السلطنة فإنه هو المشار إليه في الباب، والقائم مقام النوّاب في كثير من الأمور، وكان حكم الحاجب لا يتعدّى النظر في مخاصمات الأجناد

ذكر أحكام السياسة

واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، ولم يكن أحد من الحجاب فيما سلف يتعرّض للحكم في شيء من الأمور الشرعية، كتداعي الزوجين وأرباب الديون، وإنما يرجع ذلك إلى قضاة الشرع، ولقد عهدنا دائما أن الواحد من الكتاب أو الضمان ونحوهم، يفرّ من باب الحاجب ويصير إلى باب أحد القضاة ويستجير بحكم الشرع فلا يطمع أحد بعد ذلك في أخذه من باب القاضي، وكان فيهم من يقيم الأشهر والأعوام في ترسيم القاضي حماية له من أيدي الحجاب، ثم تغير ما هنالك وصار الحاجب اليوم اسما لعدّة جماعة من الأمراء، ينتصبون للحكم بين الناس لا لغرض إلّا لتضمين أبوابهم بمال مقرّر في كلّ يوم على رأس نوبة النقباء، وفيهم غيروا حد ليس لهم على الأمرة إقطاع، وإنما يرتزقون من مظالم العباد، وصار الحاجب اليوم يحكم في كلّ جليل وحقير من الناس، سواء كان الحكم شرعيا أو سياسيا بزعمهم، وإن تعرّض قاض من قضاة الشرع لأخذ غريم من باب الحاجب، لم يمكّن من ذلك، ونقيب الحاجب اليوم مع رذالة الحاجب وسفالته، وتظاهره من المنكر بما لم يكن يعهد مثله، يتظاهر به أطراف السوقة، فإنه يأخذ الغريم من باب القاضي ويتحكم فيه من الضرب وأخذ المال بما يختار، فلا ينكر ذلك أحد البتة، وكانت أحكام الحجاب أوّلا يقال لها حكم السياسة، وهي لفظة شيطانية لا يعرف أكثر أهل زمننا اليوم أصلها، ويتماهلون في التلفظ بها ويقولون: هذا الأمر مما لا يمشي في الأحكام الشرعية، وإنما هو من حكم السياسة، ويحسبونه هينا، وهو عند الله عظيم، وسأبين معنى ذلك، وهو فصل عزيز. ذكر أحكام السياسة اعلم أن الناس في زمنا، بل ومنذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام، يرون أن الأحكام على قسمين: حكم الشرع، وحكم السياسة. ولهذه الجملة شرح، فالشريعة هي ما شرّع الله تعالى من الدين وأمر به، كالصلاة والصيام والحج وسائر أعمال البرّ، واشتقّ الشرع من شاطىء البحر، وذلك أن الموضع الذي على شاطىء البحر تشرع فيه الدواب، وتسميه العرب الشريعة، فيقولون للإبل إذا وردت شريعة الماء وشربت: قد شرع فلان إبله، وشرّعها، بتشديد الراء إذا أوردها شريعة لماء، والشريعة والشراع والشرعة، المواضع التي ينحدر الماء فيها. ويقال: شرّع الدين يشرّعه شرعا بمعنى سنّه. قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى/ 13] ويقال: ساس الأمر سياسة، بمعنى قام به. وهو سائس من قوم ساسة وسوس، وسوّسه القوم. جعلوه يسوسهم، والسوس الطبع والخلق، فيقال: الفصاحة من سوسه والكرم من سوسه، أي من طبعه. فهذا أصل وضع السياسة في اللغة. ثم رسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال.

والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبا متعدّدة. والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرّمها وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا، وإنما هي كلمة مغليّة، أصلها ياسه، فحرّفها أهل مصر وزادوا بأوّلها سينا فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظنّ من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلّا ما قلت لك. واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام. وذلك أن جنكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق، لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة، قرّر قواعد وعقوبات أثبتها في كاتب، سمّاه ياسه، ومن الناس من يسميه يسق، والأصل في اسمه ياسه، ولما تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه فالتموه بعده حتى قطع الله دابرهم. وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره، فصار الياسه حكما بتّا بقي في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه. وأخبرني العبد الصالح الداعي إلى الله تعالى، أبو هاشم أحمد بن البرهان، رحمه الله: أنه رأى نسخة من الياسة بخزانة المدرسة المستنصرية ببغداد، ومن جملة ما شرعه جنكزخان في الياسه أن: من زنى قتل، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن. ومن لاط قتل، ومن تعمّد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد، أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان وأعان أحد هما على الآخر قتل. ومن بال في الماء أو على الرماد قتل. ومن أعطي بضاعة فخسر فيها فإنه يقتل بعد الثالثة. ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قتل ومن وجد عبدا هاربا أو أسيرا قد هرب ولم يردّه على من كان في يده قتل. وأنّ الحيوان تكتّف قوائمه ويشقّ بطنه ويمرس قلبه إلى أن يموت ثم يؤكل لحمه. وأنّ من ذبح حيوانا كذبيحة المسلمين ذبح. ومن وقع حمله أو قوسه أو شيء من متاعه وهو يكرّ أو يفرّ في حالة القتال وكان وراءه أحد، فإنه ينزل ويناول صاحبه ما سقط منه، فإن لم ينزل ولم يناوله قتل. وشرط أن لا يكون على أحد من ولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مؤنة ولا كلفة، وأن لا يكون على أحد من الفقراء ولا القرّاء ولا الفقهاء ولا الأطباء ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفة ولا مؤنة، وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى، وجعل ذلك كله قربة إلى الله تعالى، وألزم قومه أن لا يأكل أحد من يد أحد حتى يأكل المناول منه أوّلا، ولو أنه أمير، ومن يناوله أسير. وألزمهم أن لا يتخصص أحد بأكل شيء وغيره يراه، بل يشركه معه في أكله. وألزمهم أن لا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه، ولا يتخطى أحد نارا ولا مائدة ولا الطبق الذي يؤكل عليه، وأنّ

من مرّ بقوم وهم يأكلون فله أن ينزل ويأكل معهم من غير إذنهم، وليس لأحد منعه. وألزمهم أن لا يدخل أحد منهم يده في الماء، ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه به، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى، ومنه أن يقال لشيء أنه نجس، وقال: جميع الأشياء طاهرة، ولم يفرق بين طاهر ونجس. وألزمهم أن لا يتعصبوا لشيء من المذاهب، ومنعهم من تفخيم الألفاظ ووضع الألقاب، وإنما يخاطب السلطان ومن دونه ويدعى باسمه فقط، وألزم القائم بعده بعرض العساكر وأسلحتها إذا أرادوا الخروج إلى القتال. وأنّه يعرض كلّ ما سافر به عسكره، وينظر حتى الإبرة والخيط، فمن وجده قد قصر في شيء مما يحتاج إليه عند عرضه أياه عاقبه. وألزم نساء العساكر بالقيام بما على الرجال من السخر والكلف في مدّة غيبتهم في القتال، وجعل على العساكر إذا قدمت من القتال كلفة يقومون بها للسلطان ويؤدّونها إليه. وألزمهم عند رأس كلّ سنة بعرض سائر بناتهم الأبكار على السلطان ليختار منهنّ لنفسه وأولاده. ورتب لعساكره أمراء وجعلهم أمراء ألوف وأمراء مئين وأمراء عشراوات، وشرّع أن أكبر الأمراء إذا أذنب وبعث إليه الملك أخس من عنده حتى يعاقبه فإنه يلقي نفسه إلى الأرض بين يدي الرسول وهو ذليل خاضع، حتى يمضي فيه ما أمر به الملك من العقوبة، ولو كانت بذهاب نفسه. وألزمهم أن لا يتردّد الأمراء لغير الملك، فمن تردّد منهم لغير الملك قتل، ومن تغير عن موضعه الذي يرسم له بغير إذن قتل. وألزم السلطان بإقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة، وجعل حكم الياسه لولده جقتاي بن جنكز خان، فلما مات التزم من بعده من أولاده وأتباعهم حكم الياسه، كالتزام أوّل المسلمين حكم القرآن، وجعلوا ذلك دينا لم يعرف عن أحد منهم خالفته بوجه. فلما كثرت وقائع التتر في بلاد المشرق والشمال وبلاد القبجاق، وأسروا كثيرا منهم وباعوهم، تنقلوا في الأقطار، واشترى الملك الصالح نجم الدين أيوب جماعة منهم سماهم البحرية، ومنهم من ملك ديار مصر، وأوّلهم المعز أيبك. ثم كانت لقطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت، وهزم التتار وأسر منهم خلقا كثيرا صاروا بمصر والشام، ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملؤوا مصر والشام، وخطب للملك بركة بن يوشي بن جنكز خان على منابر مصر والشام والحرمين، فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغل، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم، هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد ملئت قلوبهم رعبا من جنكز خان وبنيه، وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم، وكانوا إنما ربّوا بدار الإسلام ولقّنوا القرآن وعرفوا أحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء، وفوّضوا القاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وناطوبه أمر الأوقاف والأيتام، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية، كتداعي الزوجين وأرباب الديون ونحو ذلك، واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى

الرجوع لعادة جنكز خان والاقتداء بحكم الياسة، فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم، والأخذ على يد قويهم، وانصاف الضعيف منه على مقتضى ما في الياسة، وجعلوا إليه مع ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف في أمور الإقطاعات، لينفذ ما استقرّت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب، وكانت من أجلّ القواعد وأفضلها حتى تحكم القبط في الأموال وخراج الأراضي، فشرّعوا في الديوان ما لم يأذن به الله تعالى، ليصير لهم ذلك سبيلا إلى أكل مال الله تعالى بغير حقه، وكان مع ذلك يحتاج الحاجب إلى مراجعة النائب أو السلطان في معظم الأمور. هذا وستر الحياء يومئذ مسدول، وظلّ العدل صاف، وجناب الشريعة محترم، وناموس الحشمة مهاب، فلا يكاد أحد أن يزيغ عن الحق، ولا يخرج عن قضية الحياء، إن لم يكن له وازع من دين، كان له ناه من عقل. ثم تقلص ظلّ العدل، وسفرت أوجه الفجور، وكشّر الجور أنيابه، وقلت المبالاة، وذهب الحياء والحشمة من الناس، حتى فعل من شاء ما شاء، وتعدّت منذ عهد المحن التي كانت في سنة ست وثمانمائة الحجاب، وهتكوا الحرمة، وتحكموا بالجور تحكما خفي معه نور الهدى، وتسلطوا على الناس مقتا من الله لأهل مصر وعقوبة لهم بما كسبت أيديهم، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. وكان أوّل ما حكم الحجاب في الدولة التركية بين الناس بمصر، أن السلطان الملك الكامل شعبان بن الناصر محمد بن قلاون، استدعى الأمير شمس الدين آق سنقر الناصريّ، نائب طرابلس، ليوليه نيابة السلطنة بديار مصر عوضا عن الأمير سيف الدين بيغوا، أميرا حاجبا كبيرا، يحكم بين الناس، فخلع عليه في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبعمائة، فحكم بين الناس كما كان نائب السلطنة يحكم، وجلس بين يديه موقعان من موقعي السلطان لمكاتبة الولاة بالأعمال ونحوهم، فاستمرّ ذلك. ثم رسم في جمادى الآخرة منها أن يكون الأمير رسلان يصل حاجبا مع بيغوا يحكم بالقاهرة على عادة الحجاب، فلما انقضت دولة الكامل بأخيه الملك المظفر حاجي بن محمد، استقرّ الأمير سيف الدين أرقطاي نائب السلطنة، فعاد أمر الحجاب إلى العادة القديمة، إلى أن كانت ولاية الأمير سيف الدين جرجي الحجابة في أيام السلطان الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاون، فرسم له أن يتحدّث في أرباب الديون ويفصلهم من غرمائهم بأحكام السياسة، ولم تكن عادة الحجاب فيما تقدّم أن يحكموا في الأمور الشرعية، وكان سبب ذلك ووقوف تجار العجم للسلطان بدار العدل في أثناء سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وذكروا أنهم ما خرجوا من بلادهم إلّا لكثرة ما ظلمهم التتار وجاروا عليهم، وأن التجار بالقاهرة اشتروا منهم عدّة بضائع وأكلوا أثمانها، ثم هم يثبتون على يد القاضي الحنفيّ أعسارهم، وهم في سجنه، وقد أفلس بعضهم فرسم للأمير جرجي بإخراج غرمائهم من السجن وخلاص ما في قبلهم للتجار،

وأنكر على قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ الحنفيّ ما عمله، ومنع من التحدث في أمر التجار والمدينين، فأخرج جرجي غرماء التجار من السجن وعاقبهم، حتى أخذ للتجار أموالهم منهم شيئا بعد شيء، وتمكن الحجاب من حينئذ من التحكم على الناس بما شاؤوا. أمير جاندار: موضوع أمير جاندار، التسلم لباب السلطان، ولرتبة البرد دارية، وطوائف الركابية، والحرامانية، والجندارية. وهو الذي يقدم البريد إذا قدم مع الدوادار وكاتب السرّ، وإذا أراد السلطان تقرير أحد من الأمراء على شيء أو قتله بذنب، كان ذلك على يد أمير جاندار، وهو أيضا المتسلم للزردخاناه، وكانت أرفع السجون قدرا، ومن اعتقل بها لا تطول مدّته بها، بل يقتل أو يخلى سبيله، وهو الذي يدور بالزفة حول السلطان في سفره مساء وصباحا. الأستادار: إليه أمر البيوت السلطانية كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان، وهو الذي كان يمشي بطلب السلطان في السرحات والأسفار، وله الحكم في غلمان السلطان وباب داره، وإليه أمور الجاشنكيرية. وإن كان كبيرهم نظيره في الأمرة من ذوي المئين، وله أيضا الحديث المطلق والتصرّف التام في استدعاء ما يحتاجه كلّ من في بيت من بيوت السلطان من النفقات والكساوى، وما يجري مجرى ذلك. ولم تزل رتبة الأستادار على ذلك حتى كانت أيام الظاهر برقوق، فأقام الأمير جمال الدين محمود بن عليّ بن اصفر عيّنه استادارا وناط به تدبير أموال المملكة، فتصرّف في جميع ما يرجع إلى أمر الوزير وناظر الخاص، وصارا يتردّدان إلى بابه ويمضيان الأمور برأيه، فجلت من حينئذ رتبة الأستادار، بحيث أنه صار في معنى ما كان فيه الوزير في أيام الخلفاء، سيما إذا اعتبرت حال الأمير جمال الدين يوسف الاستادار في أيام الناصر فرج بن برقوق، كما ذكرناه عند ذكر المدارس من هذا الكتاب، فإنك تجده إنما كان كالوزير العظيم، لعموم تصرّفه ونفوذ أمره في سائر أحوال المملكة، واستقرّ ذلك لمن ولي الاستادارية من بعده، والأمر على هذا إلى اليوم. أمير سلاح: هذا الأمير هو مقدّم السلاحدارية، والمتولي لحمل سلاح السلطان فى المجامع الجامعة، وهو المتحدّث في السلاح خاناه وما يستعمل بها وما يقدم إليها ويطلق منها، وهو أبدا من أمراء المئين. الدوادار: ومن عادة الدولة أن يكون بها من أمرائها من يقال له الدوادار، وموضوعه لتبليغ الرسائل عن السلطان، وابلاغ عامّة الأمور، وتقديم القصص إلى السلطان، والمشاورة على من يحضر إلى الباب، وتقديم البريد هو أمير جاندار وكاتب السرّ، وهو الذي يقدم إلى السلطان كل ما تؤخذ عليه العلامة السلطانية من المناشير والتواقيع والكتب، وكان يخرج عن

السلطان بمرسوم مما يكتب، فيعين رسالته في المرسوم، واختلفت آراء ملوك الترك في الدوادار، فتارة كان من أمراء العشراوات والطبلخاناه، وتارة كان من أمراء الألوف. فلما كانت أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون، ولي الأمير اقتمر الحنليّ وظيفة الدوادارية، وكان عظيما في الدولة، فصار يخرج المراسيم السلطانية بغير مشاورة، كما يخرج نائب السلطنة، ويعين في المرسوم إذ ذاك انه كتب برسالته، ثم نقل إلى نيابة السلطنة وأقام الأشرف عوضة الأمير طاش تمر الدوادار، وجعله من أكبر أمراء الألوف، فاقتدى به الملك الظاهر برقوق وجعل الأمير يونس الدوادار من أكبر أمراء الألوف، فعظمت منزلته وقويت مهابته، ثم لما عادت الدولة الظاهرية بعد زوالها، ولي الدوادارية الأمير بوطا، فتحكم تحكما زائدا عن المعهود في الدوادارية، وتصرّف كتصرّف النوّاب، وولّى وعزل وحكم في القضايا المعضلة، فصار ذلك من بعده عادة لمن ولي الدوادارية، سيما لما ولي الأمير يشبك والأمير حكم الدوادارية في أيام الناصر فرج، فإنهما تحكمت في جليل أمور الدولة وحقيرها، من المال والبريد والأحكام والعزل والولاية، وما برح الحال على هذا في الأيام الناصرية، وكذلك الحال في الأيام المؤيدية يقارب ذلك. نقابة الجيوش: هذه الرتبة كانت في الدولة التركية من الرتب الجليلة، ويكون متوليها كأحد الحجاب الصغار، وله تحلية الجند في عرضهم، ومعه يمشي النقباء، فإذا طلب السلطان أو النائب أو حاجب الحجاب أميرا أو جنديا، كان هو المخاطب في الإرسال إليه، وهو الملزوم بإحضاره، وإذا أمر أحد منهم بالترسيم على أمير أو جنديّ، كان نقيب الجيش هو الذي يرسم عليه، وكان من رسمه أنه هو الذي يمشي بالحراسة السلطانية في الموكب حالة السرحة، وفي مدّة السفر، ثم انحطت اليوم هذه الرتبة، وصار نقيب الجيش عبارة عن كبير من النقباء المعدّين لترويع خلق الله تعالى، وأخذ أموالهم بالباطل على سبيل القهر، عند طلب أحد إلى باب الحاجب، ويضيفون إلى أكلهم أموال الناس بالباطل افتراءهم على الله تعالى بالكذب، فيقولون على المال الذي يأخذونه باطلا هذا حق الطريق، والويل لمن نازعهم في ذلك، وهم أحد أسباب خراب الإقليم كما بين في موضعه من هذا الكتاب، عند ذكر الأسباب التي أوجبت خراب الإقليم. الولاية: وهي التي يسميها السلف الشرطة، وبعضهم يقول صاحب العسس، والعسس الطواف بالليل لتتبع أهل الريب يقال: عس يعس عسا وعسسا. وأوّل من عس بالليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أمره أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه بعس المدينة. خرّج أبو داود عن الأعمش عن زيد قال: أتى عبد الله بن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال عبد الله رضي الله عنه: إنّا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وذكر الثعلبيّ عن زيد بن وهب أنه قال: قيل لابن مسعود رضي الله عنه، هل لك في

الوليد بن عتبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال: إنّا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء نأخذ به، وكان عمر رضي الله عنه يتولى في خلافته العسس بنفسه، ومعه مولاه أسلم رضي الله عنه، وكان ربما استصحب معه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. قاعة الصاحب: وكانت وظيفة الوزارة أجلّ رتب أرباب الأقلام، لأنّ متوليها ثاني السلطان إذ أنصف وعرف حقه، إلّا أن ملوك الدولة التركية قدّموا رتبة النيابة على الوزارة، فتأخرت الوزارة حتى قعد بها مكانها، ووليها في الدولة التركية أناس من أرباب السيوف وأناس من أرباب الأقلام، فصار الوزير إذا كان من أرباب الأقلام يطلق عليه اسم الصاحب، بخلاف ما إذا كان من أرباب السيوف فإنه لا يقال له الصاحب، وأصل هذه الكلمة في إطلاقها على الوزير، أنّ الوزير إسماعيل بن عباد كان يصحب مؤيد الدولة أبا منصور بويه بن ركن الدولة الحسن بن بويه الديلميّ، صاحب بلاد الرّيّ، وكان مؤيد الدولة شديد الميل إليه والمحبة له، فسماه الصاحب، وكان الوزير حينئذ أبو الفتح عليّ بن العميد يعاديه لشدّة تمكنه من مؤيد الدولة، فتلقب الوزراء بعد ابن عباد بالصاحب، ولا أعلم أحدا من وزراء خلفاء بني العباس، ولا وزراء الخلفاء الفاطميين قيل له الصاحب، وقد جمعت في وزراء الإسلام كتابا جليل القدر، وأفردت وزراء مصر في تصنيف بديع، والذي أعرف، أنّ الوزير صفيّ الدين عبد الله بن شكر وزير العادل والكامل من ملوك مصر من بني أيوب، كان يقال له الصاحب، وكذلك من بعده من وزراء مصر إلى اليوم. وكان وضع الوزير أنّه أقيم لنفاذ كلمة السلطان وتمام تصرّفه، غير أنها انحطت عن ذلك بنيابة السلطنة، ثم انقسم ما كان للوزير إلى ثلاثة هم: الناظر في المال، وناظر الخاص، وكاتب السرّ، فإنه يوقع في دار العدل ما كان يوقع فيه الوزير بمشاورة واستقلال. ثم تلاشت الوزارة في أيام الظاهر برقوق بما أحدثه من الديوان المفرد، وذلك أنه لما ولي السلطنة أفرد إقطاعه لما كان أميرا قبل سلطنته، وجعل له ديوانا سمّاه الديوان المفرد، وأقام فيه ناظرا وشاهدين وكتابا، وجعل مرجع هذا الديوان إلى الأستادار، وصرف ما يتحصل منه في جوامك مماليك استجدّها شيئا بعد شيء حتى بلغت خمسة آلاف مملوك، وأضاف إلى هذا الديوان كثيرا من أعمال الديار المصرية، وبذلك قوي جانب الاستادار، وضعفت الوزارة حتى صار الوزير قصار نظره التحدّث في أمر المكوس، فيستخرجها من جهاتها ويصرفها في ثمن اللحم وحوايج المطبخ وغير ذلك، ولقد كان الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ يقول: الوزارة اليوم عبارة عن حوايج كاش عفش، يشتري اللحم والحطب وحوايج الطعام، وناظر الخاص غلام صلف يشتري الحرير والصوف والنصافي والسنجاب، وأمّا ما كان للوزراء ونظار الخاص في القديم فقد بطل، ولقد صدق فيما قال، فإنّ الأمر على هذا. وما رأينا الوزارة من بعد انحطاط رتبتها يرتفع قدر متوليها إلّا إذا أضيفت إلى الأستادارية، كما وقع للأمير جمال الدين يوسف الأستادار، والأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج.

وأما من ولي الوزارة بمفردها، سيما من أرباب الأقلام، فإنما هو كاتب كبير يتردّد ليلا ونهارا إلى باب الأستادار، ويتصرّف بأمره ونهيه، وحقيقة الوزارة اليوم أنها انقسمت بين أربعة وهم: كاتب السرّ، والأستادار، وناظر الخاص، والوزير. فأخذ كاتب السرّ من الوزارة التوقيع على القصص بالولايات والعزل ونحو ذلك في دار العدل وفي داره. وأخذ الأستادار التصرّف في نواحي أرض مصر، والتحدّث في الدواوين السلطانية، وفي كشف الأقاليم، وولاة النواحي، وفي كثير من أمور أرباب الوظائف، وأخذ ناظر الخاص جانبا كبيرا من الأموال الديوانية السلطانية، ليصرفها في تعلقات الخزانة السلطانية، وبقي للوزير شيء يسير جدّا من النواحي، والتحدّث في المكوس، وبعض الدواوين، ومصارف المطبخ السلطاني والسواقي، وأشياء أخر، وإليه مرجع ناظر الدولة، وشادّ الدواوين، وناظر بيت المال، وناظر الأهراء ومستوفي الدولة، وناظر الجهات، وأمّا ناظر البيوت وناظر الإصطبلات، فإنه أمرهما يرجع إلى غيره. والله أعلم. نظر الدولة: هذه الوظيفة يقال لمتوليها ناظر النظار، ويقال له ناظر المال، وهو يعرف اليوم بناظر الدولة، وتلي رتبته رتبة الوزارة، فإذا غاب الوزير وتعطلت الوزارة من وزير، قام ناظر الدولة بتدبير الدولة، وتقدّم إلى شادّ الدواوين بتحصيل الأموال وصرفها في النفقات والكلف، واقتصر الملك الناصر محمد بن قلاون على ناظر الدولة مدّة أعوام من غير تولية وزير، ومشّى أمور الدولة على ذلك حتى مات، ولا بدّ أن يكون مع ناظر الدولة مستوفون يضبطون كلّيّات المملكة وجزئياتها، ورأس المستوفين مستوفي الصحبة، وهو يتحدّث في سائر المملكة مصرا وشاما، ويكتب مراسيم يعلّم عليها السلطان، فتكون تارة بما يعمل في البلاد، وتارة بالإطلاقات، وتارة باستخدام كتّاب في صغار الأعمال، ومن هذا النحو وما يجري مجراه. ديوان النظر: وهي وظيفة جليلة تلي نظر الدولة، وبقية المستوفين كلّ منهم حديثه مقيد، لا يتعدّى حديثه قطرا من أقطار المملكة، وهذا الديوان، أعني ديوان النظر، هو أرفع دواوين المال، وفيه تثبت التواقيع والمراسيم السلطانية، وكلّ ديوان من دواوين المال إنما هو فرع هذا الديوان، وإليه يرفع حسابه وتتناهى أسبابه، وإليه يرجع أمر الاستيمار الذي يشتمل على أرزاق ذوي الأقلام وغيرهم. مياومة ومشاهرة ومسانهة من الرواتب، وكانت أرزاق ذوي الأقلام مشاهرة من مبلغ عين وغلة، وكان لأعيانهم الرواتب الجارية في اليوم من اللحم بتوابله أو غير توابله، والخبز والعليق لدوابهم، وكان لأكابرهم السكر والشمع والزيت والكسوة في كلّ سنة والأضحية، وفي شهر رمضان السكر والحلوى، وأكثرهم نصيبا الوزير، وكان معلومه في الشهر مائتين وخمسين دينارا جيشية، مع الأصناف المذكورة والغلة، وتبلغ نظير المعلوم. ثم ما دون ذلك من المعلوم لمن عدا الوزير وما دون دونه، وكان معلوم القضاة والعلماء أكثره خمسون دينارا في كلّ شهر، مضافا لما بيدهم من

المدارس التي يستدرون من أوقافها، وكان أيضا يصرف على سبيل الصدقات الجارية والرواتب الدارة على جهات، ما بين مبلغ وغلة وخبز ولحم وزيت وكسوة وشعير، هذا سوى الأرض من النواحي التي يعرف المرتب عليها بالرزق الإحباسية، وكانوا يتوارثون هذه المرتبات ابنا عن أب، ويرثها الأخ عن أخيه، وابن العم عن ابن العمّ، بحيث أنّ كثيرا ممن مات وخرج ادراره من مرتبة لأجنبيّ، لما جاء قريبه وقدّم قصته يذكر فيها أولويته بما كان لقريبه، أعيد إليه ذلك المرتب ممن كان خرج باسمه. نظر البيوت: كان من الوظائف الجليلة، وهي وظيفة متوليها منوط بالأستادار، فكلّ ما يتحدّث فيه أستادار السلطان فإنه يشاركه في التحدّث، وهذا كان أيام كون الأستادار ونظره لا يتعدّى بيوت السلطان، وما تقدّم ذكره، فأما منذ عظم قدر الأستادار ونفذت كلمته في جمهور أموال الدولة، فإن نظر البيوت اليوم شيء لا معنى له. نظر بيت المال: كان وظيفة جليلة معتبرة، وموضوع متوليها التحدّث في حمول المملكة مصرا وشاما إلى بيت المال بقلعة الجبل، وفي صرف ما ينصرف منه، تارة بالوزن، وتارة بالتسبيب بالأقلام، وكان أبدا يصعد ناظر بيت المال ومعه شهود بيت المال وصيرفيّ بيت المال وكاتب المال إلى قلعة الجبل، ويجلس في بيت المال، فيكون له هناك أمر ونهي وحال جليلة لكثرة الحمول الواردة، وخروج الأموال المصروفة في الرواتب لأهل الدولة، وكانت أمرا عظيما، بحيث أنها بلغت في السنة نحو أربعمائة ألف دينار، وكان لا يلي نظر بيت المال إلا من هو من ذوي العدالات المبرزة، ثم تلاشى المال وبيت المال، وذهب الاسم والمسمّى، ولا يعرف اليوم بيت المال من القلعة، ولا يدرى ناظر بيت المال من هو. نظر الإصطبلات: هذه الوظيفة جليلة القدر إلى اليوم، وموضوعها الحديث في أموال الإصطبلات والمناخات وعليقها وأرزاق من فيها من المستخدمين، وما بها من الاستعمالات والإطلاق، وكل ما يبتاع لها أو يبتاع بها، وأوّل من استجدّها الملك الناصر محمد بن قلاون، وهو أوّل من زاد في رتبة أمير اخور واعتنى بالأوجاقية والعرب الركابة، وكان أبوه المنصور قلاون يرغب في خيل برقة أكثر من خيل العرب، ولا يعرف عنه أنه اشترى فرسا بأكثر من خمسة آلاف درهم، وكان يقول خيل برقة نافعة، وخيل العرب زينة، بخلاف الناصر محمد، فإنه شغف باستدعاء الخيول من عرب آل مهنا وآل فضل وغيرهم، وبسببها كان يبالغ في إكرام العرب ويرغبهم في أثمان خيولهم حتى خرج عن الحدّ في ذلك، فكثرت رغبة آل مهنا وغيرهم في طلب خيول من عداهم من العربان، وتتبعوا عتاق الخيل من مظانها، وسمحوا بدفع الأثمان الزائدة على قيمتها حتى أتتهم طوائف العرب بكرائم خيولهم، فتمكنت آل مهنا من السلطان وبلغوا في أيامه الرتب العلية، وكان لا يحب خيول برقة، وإذا أخذ منها شيئا أعدّه للتفرقة على الأمراء البرّانيين، ولا يسمح بخيول آل مهنا إلّا

لأعز الأمراء وأقرب الخاصكية منه، وكان جيد المعرفة بالخيل، شياتها وأنسابها، لا يزال يذكر أسماء من أحضرها إليه ومبلغ ثمنها، فلما اشتهر عنه ذلك جلب إليه أهل البحرين والحساء والقطيف وأهل الحجاز والعراق كرائم خيولهم، فدفع لهم في الفرس من عشرة آلاف درهم إلى عشرين إلى ثلاثين ألف درهم، عنها ألف وخمسمائة مثقال من الذهب، سوى ما ينعم به على مالكه من الثياب الفاخرة له ولنسائه، ومن السكر ونحوه، فلم تبق طائفة من العرب حتى قادت إليه عتاق خيلها، وبلغ من رغبة السلطان فيها أنه صرف في أثمانها دفعة واحدة من جهة كريم الدين ناظر الخاص ألف ألف درهم في يوم واحد، وتكرّر هذا منه غير مرّة، وبلغ ثمن الفرس الواحد من خيول آل مهنا السنتين ألف درهم والسبعين ألف درهم، واشترى كثيرا من الحجور بالثمانين ألفا والتسعين ألفا، واشترى بنت الكرشاء بمائة ألف درهم، عنها خمسة آلاف مثقال من الذهب، هذا سوى الإنعامات بالضياع من بلاد الشام، وكان من عنايته بالخيل لا يزال يتفقدها بنفسه، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به إلى الجشار «1» ، وتنزى «2» الفحول المعروفة عنده على الحجور «3» بين يديه، وكتّاب الإصطبل تؤرّخ تاريخ نزوها، واسم الحصان، والحجرة، فتوالدت عنده خيول كثيرة اغتنى بها عن الجلب، ومع ذلك فلم تكن عنده في منزلة ما يجلب منها، وبهذا ضخمت سعادة آل مهنا وكثرت أموالهم وضياعهم، فعزّ جانبهم وكثر عددهم وهابهم من سواهم من العرب، وبلغت عدّة خيول الجشارات في أيامه نحو ثلاثة آلاف فرس، وكان يعرضها في كلّ سنة ويدوّغ أولادها بين يديه ويسلمها للعربان الركابة، وينعم على الأمراء الخاصكية بأكثرها، ويتبجح بها ويقول: هذه فلانة بنت فلان، وهذا فلان بن فلانة، وعمره كذا، وشراء أم هذا كذا وكذا، كان لا يزال يؤكد على الأمراء في تضمير الخيول، ويلزم كلّ أمير أن يضمر أربعة أفراس، ويتقدّم لأمير اخور أن يضمر للسلطان عدّة منها ويوصيه بكتمان خبرها، ثم يشيع أنها لأيدغمش أمير اخور، ويرسلها مع الخيل في حلبة السباق خشية أن يسبقها فرس أحد من الأمراء فلا يحتمل ذلك، فإنه ممن لا يطيق شيئا ينقص ملكه، وكان السباق في كلّ سنة بميدان القبق، ينزل بنفسه وتحضر الأمراء بخيولها المضمرة، فيجريها وهو على فرسه حتى تنقضي نوبها، وكانت عدّتها مائة وخمسين فرسا فما فوقها، فاتفق أنه كان عند الأمير قطلو بغا الفخريّ حصان أدهم سبق خيل مصر كلها في ثلاث سنين متوالية أيام السباق، وبعث إليه الأمير مهنا فرسا شهباء على أنها إن سبقت خيل مصر فهي للسلطان، وإن سبقها فرس ردّت إليه ولا يركبها عند السابق إلّا بدويّ قادها، فركب السلطان للسباق في أمرائه على عادته ووقف معه سليمان وموسى ابنا مهنا، وأرسلت الخيول من بركة الحاج على عادتها وفيها

فرس مهنا، وقد ركبها البدويّ عريا بغير سرج، فأقبلت سائر الخيول تتبعها حتى وصلت المدى وهي عري بغير سرج، والبدويّ عليها بقميص وطاقية، فلما وقفت بين يدي السلطان صاح البدويّ: السعادة لك اليوم يا مهنا، لا شقيت. فشق على السلطان أن خيله سبقت، وأبطل التضمير من خيله، وصارت الأمراء تضمر على عادتها، ومات الناصر محمد عن أربعة آلاف وثمانمائة فرس، وترك زيادة على خمسة آلاف من الهجن الأصائل والنوق المهريات والقرشيات، سوى أتباعها. وبطل بعده السباق، فلما كانت أيام الظاهر برقوق عني بالخيل أيضا ومات عن سبعة آلاف فرس وخمسة عشر ألف جمل. ديوان الإنشاء: وكان بجوار قاعة الصاحب بقلعة الجبل ديوان الإنشاء، يجلس فيه كاتب السرّ، وعنده موقعو الدرج وموقعو الدست في أيام المواكب طول النهار، ويحمل إليهم من المطبخ السلطانيّ المطاعم، وكانت الكتب الواردة وتعليق ما يكتب من الباب السلطانيّ موضوعة بهذه القاعة، وأنا جلست بها عند القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله العمريّ أيام مباشرتي التوقيع السلطانيّ، إلى نحو السبعين والسبعمائة، فلما زالت دولة الظاهر برقوق ثم عادت اختلت أمور كثيرة منها أمر قاعة الإنشاء بالقلعة، وهجرت وأخذ ما كان فيها من الأوراق، وبيعت بالقنطار، ونسي رسمها، وكتابة السرّ رتبة قديمة، ولها أصل في السنّة، فقد خرّج أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستانيّ في كتاب المصاحف من حديث الأعمش، عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كلّ أحد، فهل تستطيع أن تعلّم كتاب العبرانية أو قال السريانية» فقلت نعم. قال: فتعلمتها في سبع عشرة ليلة، ولم يزل خلفاء الإسلام يختارون لكتابة سرّهم الواحد بعد الواحد، وكان موضوع كتابة السرّ في الدولة التركية على ما استقرّ عليه الأمر في أيام الناصر محمد بن قلاون، أنّ لمتوليها المسمى بكاتب السرّ وبصاحب ديوان الإنشاء، ومن الناس من يقول ناظر ديوان الإنشاء، قراءة الكتب الواردة على السلطان وكتابة أجوبتها، إما بخطه أو بخط كتاب الدست أو كتاب الدرج بحسب الحال، وله تفسير الأجوبة بعد أخذ علامة السلطان عليها، وله تصريف المراسيم ورودا وصدورا، وله الجلوس بين يدي السلطان بدار العدل لقراءة القصص والتوقيع عليها بخطه في المجلس. فصار يوقع فيما كان يوقع عليه بقلم الوزارة، وصار إليه التحدّث في مجلس السلطان عند عقد المشورة وعند اجتماع الحكام لفصل أمر مهم، وله التوسط بين الأمراء والسلطان فيما يندب إليه عند الاختلاف أو التدبير، وإليه ترجع أمور القضاة ومشايخ العلم ونحوهم في سائر المملكة مصرا وشاما، فيمضي من أمورهم ما أحب ويشاور السلطان فيما لا بدّ من مشاورته فيه، وكانت العادة أن يجلس تحت الوزير، فلما عظم، تمكن القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ من الدولة، جلس فوق الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم البشيري، فاستمرّ ذلك لمن بعده ورتبة كاتب السرّ

أجلّ الرتب، وذلك أنها منتزعة من الملك. فإن الدولة العباسية صار خلفاؤها في أوّل أمرهم منذ عهد أبي العباس السفاح إلى أيام هارون الرشيد يستبدّون بأمورهم، فلما صارت الخلافة إلى هارون ألقى مقاليد الأمور إلى يحيى بن جعفر البرمكيّ، فصار يحيى يوقع على رقاع الرافعين بخطه في الولايات وإزالة الظلامات وإطلاق الأرزاق والعطيات، فجلّت لذلك رتبته، وعظمت من الدولة مكانته، وكان هو أوّل من وقع من وزراء خلفاء بني العباس، وصار من بعده من الوزراء يوقعون على القصص كما كان يوقع، وربما انفرد رجل بديوان السرّ وديوان الترسل، ثم أفردت في أخريات دولة بني العباس واستقلّ بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزراء، وكانوا ببغداد يقال لهم كتاب الإنشاء، وكبيرهم يدعى رئيس ديوان الإنشاء، ويطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء، وتارة كاتب السرّ، ومرجع هذا الديوان إلى الوزير، وكان يقال له الديوان العزيز، وهو الذي يخاطبه الملوك في مكاتبات الخلفاء. وكان في الدولة السلجوقية يسمى ديوان الإنشاء بديوان الطغرا، وإليه ينسب مؤيد الدين الطغراءي والطغراهي طرّة المكتوب، فيكتب أعلى من البسملة بقلم غليظ القاب الملك، وكانت تقوم عندهم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب، ويستغني بها عن علامة السلطان، وهي لفظة فارسية، وفي بلاد المغرب يقال لرئيس ديوان الإنشاء صاحب القلم الأعلى، وأما مصر فإنه كان بها في القديم لما كانت دار إمارة ديوان البريد، ويقال لمتوليه صاحب البريد، وإليه مرجع ما يرد من دار الخلافة على أيدي أصحاب البريد من الكتب، وهو الذي يطالع بأخبار مصر، وكان لأمراء مصر كتاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل إلى الخليفة وغيره، فلما صارت مصر دار خلافة كان القائد جوهر يوقع على قصص الرافعين إلى أن قدم المعز لدين الله، فوقع وجعل أمر الأموال وما يتعلق بها إلى يعقوب بن كلس، وعسلوج بن الحسن، فوليا أموال الدولة، ثم فوّض العزيز بالله أمر الوزارة ليعقوب بن كلس، فاستبدّ بجميع أحوال المملكة، وجرى مجرى يحيى بن جعفر البرمكيّ، وكان يوقع. ومع ذلك ففي أمراء الدولة من يلي البريد، وجرى الأمر فيما بعد على أن الوزراء يوقعون، وقد يوقع الخليفة بيده، فلما كانت أيام المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر وصرف أبا جعفر محمد بن جعفر بن المغربيّ عن وزارته، أفرد له ديوان الإنشاء فوليه مدّة طويلة، وأدرك أيام أمير الجيوش بدر الجماليّ، وصار يلي ديوان الإنشاء بعده الأكابر إلى أن انقرضت الدولة، وهو بيد القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيساني، فاقتدت بهم الدولة الأيوبية، ثم الدولة التركية في ذلك، وصار الأمر على هذا إلى اليوم، وصار متولي رتبة كتابة السرّ أعظم أهل الدولة، إلّا أنه في الدولة التركية يكون معه من الأمراء واحد يقال له الدوادار، منزلته منزلة صاحب البريد في الزمن الأوّل، ومنزلة كاتب السرّ منزلة صاحب ديوان الإنشاء، إلّا أنّه يتميز بالتوقيع على القصص، تارة بمراجعة السلطان وتارة بغير

مراجعة، فلذلك يحتاج إليه سائر أهل الدولة من أرباب السيوف والأقلام، ولا يستغني عن حسن سفارته نائب الشام، فمن دونه، ولله الأمر كله. وأما في الدولة الأيوبية فإن كتاب الدرج كانوا في الدولة الكاملية قليلين جدا وكانوا في غاية الصيانة والنزاهة وقلة الخلطة بالناس، واتفق أنّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير كان من جملتهم، فسمع الملك الصالح نجم الدين أيوب عنه أنه يحضر في السماعات، فصرفه من ديون الإنشاء وقال: هذا الديوان لا يحتمل مثل هذا. وكانت العادة أن لا يحضر كتاب الإنشاء الديوان يوم الجمعة، فعرض للملك الصالح في بعض أيام الجمع شغل مهم، فطلب بعض الموقعين فلم يجد أحدا منهم، فقيل له أنهم لا يحضرون يوم الجمعة، فقال: استخدموا في الديوان كاتبا نصرانيا يقعد يوم الجمعة لمهم يطرأ، فاستخدم الأمجد بن العسال كاتب الدرج لهذا المعنى. نظر الجيش: قد تقدّم أنّه كان يجلس بالقلعة دواوين الجيش في أيام الموكب، وتقدّم في ذكر الإقطاعات وذكر النيابة ما يدل على حال متولي نظر الجيش، ولا بدّ مع ناظر الجيش أن يكون من المستوفين، من يضبط كليّات المملكة وجزئياتها في الإقطاعات وغيرها. نظر الخاص: هذه الوظيفة وإن كان لها ذكر قديم من عهد الخلفاء الفاطميين، فإن متوليها لم يبلغ من جلالة القدر ما بلغ إليه في الدولة التركية، وذلك أن الملك الناصر محمد بن قلاون لما أبطل الوزارة، وأقام القاضي كريم الدين الكبير في وظيفة نظر الخاص، صار متحدّثا فيما هو خاص بمال السلطان، يتحدّث في مجموع الأمر الخاص بنفسه، وفي القيام بأخذ رأيه فيه، فبقي تحدّثه فيه وبسببه كأنه هو الوزير، لقربه من السلطان وزيادة تصرّفه. وإلى ناظر الخاص التحدّث في الخزانة السلطانية، وكانت بقلعة الجبل، وكانت كبيرة الوضع لأنها مستودع أموال المملكة، وكان نظر الخزانة منصبا جليلا، إلى أن استحدثت وظيفة نظر الخاص فضعف أمر نظر الخزانة، وأمر الخزانة أيضا، وصارت تسمى الخزانة الكبرى، وهو اسم أكبر من مسماه، ولم يبق بها إلّا خلع يخلع منها أو ما يحضر إليها ويصرف أوّلا فأوّلا، وصار نظر الخزانة مضافا إلى ناظر الخاص، وكان الرسم أن لا يلي نظر الخزانة إلّا القضاة أو من يلحق بهم، وما برحت الخزانة بقلعة الجبل حتى عملها الأمير منطاش سجنا لمماليك الظاهر برقوق، في سنة تسعين وسبعمائة، فتلاشت من حينئذ ونسي أمرها، وصارت الخلع ونحوها عند ناظر الخاص في داره، وكانت لأهل الدولة في الخلع عوايد وهم على ثلاثة أنواع، أرباب السيوف والأقلام والعلماء، فأما أرباب السيوف فكانت خلع أكابر أمراء المئين الأطلس الأحمر الروميّ، وتحته الأطلس الأصفر الروميّ، وعلى الفوقانيّ طرز زركش ذهب، وتحته سنجاب، وله سجف من ظاهره، مع الغشاء قندس وكلوتة زركش بذهب وكلاليب ذهب وشاش لانس رفيع موصول به، في طرفيه حرير

أبيض مرقوم بألقاب السلطان مع نقوش باهرة من الحرير الملوّن، مع منطقة ذهب، ثم تختلف أحوال المنطقة بحسب مقاديرهم، فأعلاها ما عمل بين عمدها بواكر وسطى ومجنبتان بالبلخس والزمرّد واللؤلؤ، ثم ما كان ببيكارية واحدة مرصعة، ثم ما كان ببيكارية واحدة غير مرصعة. وأما من تقلد ولاية كبيرة منهم فإنه يزاد سيفا محلى بذهب يحضر من السلاح خاناه، ويحليه ناظر الخلوص، ويزاد فرسا مسرجا ملجما بكنبوش ذهب، والفرس من الإصطبل، وقماشه من الركاب خاناه، ومرجع العمل في سروج الذهب والكنابيش إلى ناظر الخاص. وكان رسم صاحب حماه من أعلى هذه الخلع، ويعطى بدل الشاش اللانس شاش من عمل الإسكندرية حرير شبيه بالطول، وينسج بالذهب يعرف بالمثمر، ويعطى فرسين أحد هما كما ذكر والآخر يكون عوض كنبوشه زناري أطلس أحمر، وكانت لنائب الشام على ما استقرّ في أيام الناصر محمد بن قلاون مثل هذا، وزيد لتنكر تركيبة زركش ذهب دائرة بالقباء الفوقانيّ. ودون هذه الرتبة في الخلع نوع يسمّى طرزوحش، يعمل بدار الطراز التي كانت بالإسكندرية وبمصر وبدمشق، وهو مجوّخ جاخات كتابة بألقاب السلطان، وجاخات طرزوحش، وجاخات ألوان ممتزجة بقصب مذهب، يفصل بين هذه الجاخات نقوش وطراز، هذا يكون من القصب، وربما كبر بعضهم فركب عليه طرازا مزركشا بالذهب، وعليه فرو سنجاب وقندس كما تقدّم، وتحت القباء الطرزوحش قباء من المقترح الإسكندراني الطرح، وكلوتة زركش بكلاليب وشاش على ما تقدّم، وحياصة ذهب، فتارة تكون ببيكارية وتارة لا يكون بها بيكارية، وهذه لأصاغر أمراء المئين ومن يلحق بهم. ودون هذه الرتبة في الخلع، كمخا عليه نقش من لون آخر غير لونه، وقد يكون من نوع لونه بتفاوت بينهما، وتحته سنجاب بقندس، والبقية كما تقدّم، إلا أن الحياصة والشاش لا يكونان بأطراف رقم، بل تكون مجوّخة بأخضر وأصفر مذهب، والحياصة لا تكون ببيكارية. ودون هذه المرتبة، كمخا تكون واحدة بسنجاب مقندس، والبقية على ما ذكر، وتكون الكلوتة خفيفة الذهب، وجانباها يكاد أن يكونان خاليين بالجملة، ولا حياصة له. ودون هذه الرتبة، مجوّم، لون واحد، والبقية على ما ذكر خلا الكوتة والكلاليب. ودون هذه الرتبة مجوم مقندس، وهو قباء ملوّن بجاخات من أحمر وأخضر وأزرق وغير ذلك من الألوان، بسنجاب وقندس وتحته قباء إمّا أزرق أو أخضر، وشاش أبيض بأطراف من نسبة ما تقدّم ذكره، ثم دون هذا من هذا النوع.

وأما الوزراء والكتاب فأجلّ ما كانت خلعهم الكمخا الأبيض المطرّز برقم حرير ساذج، وسنجاب مقندس، وتحته كمخا أخضر وبقيار، كان من عمل دمياط مرقوم، وطرحه. ثم دون هذه الرتبة عدم السنجاب، بل يكون القندس بدائر الكمين وطول الفرج، ودونها ترك الطرحة، ودونها أن يكون التحتانيّ مجوما ودون هذا أن يكون الفوقانيّ من الكمخا لكنه غير أبيض، ودونه أن يكون الفوقانيّ مجوما أبيض، ودونه أن يكون تحته عنابيّ. وأما القضاة والعلماء فإن خلعهم من الصوف بغير طراز، ولهم الطرحة، وأجلّهم أن يكون أبيض وتحته أخضر، ثم ما دون ذلك وكانت العادة أن أهبة الخطباء وهي السواد تحمل إلى الجوامع من الخزانة، وهي دلق مدوّر وشاش أسود وطرحة سوداء وعلمان أسودان مكتوبان بأبيض أو بذهب، وثياب المبلغ قدّام الخطيب مثل ذلك خلا الطرحة، وكانت العادة إذا خلقت الأهبة المذكورة أعيدت إلى الخزانة وصرف عوضها، وكانت للسلطان عادات بالخلع: تارة في ابتداء سلطنته، وتشمل حينئذ الخلع سائر أرباب المملكة، بحيث خلع في يوم واحد عند إقامة الأشرف كجك بن الناصر محمد بن قلاون ألف ومائتا تشريف في وقت لعبه بالكرة، على أناس جرت عوايدهم بالخلع في ذلك الوقت، كالجوكندارية والولاة، ومن له خدمة في ذلك. وتارة في أوقات الصيد عند ما يسرح، فإذا حصل أحد شيئا مما يصيده خلع عليه، وإذا أحضر أحد إليه غزالا أو نعاما خلع عليه قباء مسجفا مما يناسب خلعة مثله على قدره، وكذلك يخلع على البزدارية وجملة الجوارح ومن يجري مجراهم عند كلّ صيد. وكانت العادة أيضا أن ينعم على غلمان الطشت خاناه والشراب خاناه والفراش خاناه ومن يجري مجراهم في كلّ سنة عند أوان الصيد. وكانت العادة أن من يصل إلى الباب من البلاد أو يرد عليه أو يهاجر من مملكة أخرى إليه أن ينعم عليه مع الخلع بأنواع الإدرارات والأرزاق والإنعامات، وكذلك التجار الذين يصلون إلى السلطان ويبيعون عليه لهم مع الخلع الرواتب الدائمة من الخبز واللحم والتوابل والحلوى والعليق والمسامحات، بنظير كلّ ما يباع من الرقيق المماليك والجواري، مع ما يسامحون به أيضا من حقوق أخرى تطلق، وكلّ واحد من التجار إذا باع على السلطان ولو رأسا واحدا من الرقيق، فله خلعة مكملة بحسبه خارجا عن الثمن وعما ينعم به عليه، أو يسفر به من مال السبيل على سبيل القرض ليتاجر به. وأما جلّابة الخيل من عرب الحجاز والشام والبحرين وبرقة وبلاد المغرب، فإن لهم الخلع والرواتب والعلوفات والأنزال ورسوم الإقامات، خارجا عن مسامحات تكتب لهم بالمقرّرات عن تجارة يتجرون بها مما أخذوه من أثمان الخيول، وكان يثمّن الفرس بأزيد من قيمته، حتى ربما بلغ ثمنه على السلطان الذي يأخذه محضره نظير قيمته عليه عشر مرّات،

غير الخلع وسائر ما ذكر، ولم يبق اليوم سوى ما يخلع على أرباب الدولة، وقد استجدّ في الأيام الظاهرية، وكثر في أيام الناصر فرج نوع من الخلع يقال له الجبة، يلبسه الوزير ونحوه من أرباب الرتب العلية، جعلوا ذلك ترفعا عن لبس الخلعة، ولم تكن الملوك تلبس من الثياب إلا المتوسط، وتجعل حوائصها بغير ذهب، فلم تزد حياصة الناصر محمد على مائة درهم فضة، ولم يزد أيضا سقط سرجه على مائة درهم فضة على عباءة صوف تدمري أو شامي. فلما كانت دولة أولاده بالغوا في الترف وخالفوا فيه عوايد أسلافهم، ثم سلك الظاهر برقوق في ملابسه بعض ما كان عليه الملوك الأكابر لا كله، وترك لبس الحرير. الميدان بالقلعة: هذا الميدان من بقايا ميدان أحمد بن طولون الذي تقدّم ذكره عند ذكر القطائع من هذا الكتاب، ثم بناه الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في سنة إحدى عشرة وستمائة، وعمر إلى جانبه بركا ثلاثا لسقيه وأجرى الماء إليها، ثم تعطل هذا الميدان مدّة، فلما قام من بعده ابنه الملك العادل أبو بكر محمد بن الكامل محمد اهتم به، ثم اهتم به الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل اهتماما زائدا، وجدّد له ساقية أخرى، وأنشأ حوله الأشجار، فجاء من أحسن شيء يكون إلى أن مات، فتلاشى أمر الميدان بعده وهدمه الملك المعز أيبك سنة إحدى وخمسين وستمائة. وعفت آثاره. فلما كانت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ابتدأ الملك الناصر محمد بن قلاون عمارته، فاقتطع من باب الإصطبل إلى قريب باب القرافة، وأحضر جميع جمال الأمراء فنقلت إليه الطين حتى كساه كله، وزرعه وحفر به الآبار وركب عليها السواقي، وغرس فيه النخل الفاخر والأشجار المثمرة، وأدار عليه هذا السور الحجر الموجود الآن، وبنى حوضا للسبيل من خارجه، فلما كمل ذلك نزل إليه ولعب فيه الكرة مع أمرائه وخلع عليهم، واستمرّ يلعب فيه يومي الثلاثاء والسبت، وصار القصر الأبلق يشرف على هذا الميدان، فجاء ميدانا فسيح المدى يسافر النظر في أرجائه، وإذا ركب السلطان إليه نزل من درج تلي قصره الجوّاني، فينزل السلطان إلى الإصطبل الخاص، ثم إلى هذا الميدان وهو راكب وخواص الأمراء في خدمته، فيعرض الخيول في أوقات الإطلاقات ويلعب فيه الكرة، وكان فيه عدّة أنواع الوحوش المستحسنة المنظر، وكانت تربط به أيضا الخيول للتفسح، وفي هذا الميدان يصلي السلطان أيضا صلاة العيدين، ويكون نزوله إليه في يوم العيد، وصعوده من باب خاص من دهليز القصر غير المعتاد النزول منه، فإذا ركب من باب قصره ونزل إلى منفذه من الإصطبل إلى هذا الميدان، ينزل في دهليز سلطانيّ قد ضرب له على أكمل ما يكون من الأبهة، فيصلّي ويسمع الخطبة، ثم يركب ويعود إلى الإيوان الكبير ويمدّ به السماط ويخلع على حامل القبة والطير وعلى حامل السلام والاستادار والجاشنكير وكثير من أرباب الوظائف، وكانت العادة أن تعدّ للسلطان أيضا خلعة العيد، على أنه يلبسها كما كانت العادة في أيام الخلفاء، فينعم بها على بعض أكابر أمراء المئين، ولم يزل الحال على هذا إلى أن كانت سنة ثمانمائة، فصلّى الملك

الظاهر برقوق صلاة عيد النجر بجامع القلعة، لتخوّفه بعد واقعة الأمير علي باي، فهجر الميدان واستمرّت صلاة العيد بجامع القلعة من عامئذ طول الأيام الناصرية والمؤيدية. الحوش: ابتدئ العمل فيه على أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وكان قياسه أربعة فدادين، وكان موضعه بركة عظيمة قد قطع ما فيها من الحجر لعمارة قاعات القلعة، حتى صارت غورا كبيرا، ولما شرع في العمل، رتب على كلّ أمير من أمراء المئين مائة رجل ومائة بهيمة، لنقل التراب برسم الردم، وعلى كلّ أمير من أمراء الطبلخاناه بحسبه، وندب الأمير أقبغا عبد الواحد شاد العمل، فحضر من عند كلّ من الأمراء أستاداره ومعه جنده ودوا به للعمل، وأحضر الأساري، وسخّر والي القاهرة ووالي مصر الناس، وأحضرت رجال النواحي، وجلس أستاذار كلّ أمير في خيمة ووزع العمل عليهم بالأقصاب، ووقف الأمير أقبغا يستحث الناس في سرعة العمل، وصار الملك الناصر يحضر في كلّ يوم بنفسه، فنال الناس من العمل ضرر زائد، وأخرق أقبغا بجماعة من أماثل الناس، ومات كثير من الرجال في العمل لشدّة العسف وقوّة الحرّ، وكان الوقت صيفا، فانتهى عمله في ستة وثلاثين يوما، وأحضر إليه من بلاد الصعيد ومن الوجه البحريّ ألفي رأس غنم وكثيرا من الأبقار البلق لتوقف في هذا الحوض، فصار مراح غنم ومربط بقر، وأجرى الماء إلى هذا الحوش من القلعة، وأقام الأغنام حوله، وتتبع في كلّ المراحات من عيذاب وقوص إلى ما دونهما من البلاد، حتى يؤخذ ما بهما من الأغنام المختارة، وجلبها من بلاد النوبة ومن اليمن، فبلغت عدّتها بعد موته ثلاثين ألف رأس سوى اتباعها، وبلغ البقل الأخضر الذي يشترى لفراخ الإوز في كلّ يوم خمسين درهما، عنها زيادة على مثقالين من الذهب. فلما كانت أيام الظاهر برقوق عمل المولد النبويّ بهذا الحوض في أوّل ليلة جمعة من شهر ربيع الأوّل في كلّ عام، فإذا كان وقت ذلك ضربت خيمة عظيمة بهذا الحوض، وجلس السلطان وعن يمينه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصر البلقينيّ، ويليه الشيخ المعتقد إبراهيم برهان الدين بن محمد بن بهادر بن أحمد بن رفاعة المغربيّ، ويليه ولد شيخ الإسلام، ومن دونه وعن يسار السلطان الشيخ أبو عبد الله محمد بن سلامة التوزريّ المغربيّ، ويليه قضاة القضاة الأربعة، وشيوخ العلم، ويجلس الأمراء على بعد من السلطان، فإذا فرغ القرّاء من قراءة القرآن الكريم، قام المنشدون واحدا بعد واحد، وهم يزيدون على عشرين منشدا، فيدفع لكلّ واحد منهم صرّة فيها أربعمائة درهم فضة، ومن كلّ أمير من أمراء الدولة شقة حرير، فإذا انقضت صلاة المغرب مدّت أسمطة الأطعمة الفائقة، فأكلت وحمل ما فيها، ثم مدّت أسمطة الحلوى السكرية من الجوارشات والعقائد ونحوها، فتؤكل وتخطفها الفقهاء، ثم يكون تكميل إنشاد المنشدين ووعظهم إلى نحو ثلث الليل، فإذا فرغ المنشدون قام القضاة وانصرفوا، وأقيم السماع بقية الليل،

ذكر المياه التي بقلعة الجبل

واستمرّ ذلك مدّة أيامه، ثم أيام ابنه الملك الناصر فرج. ذكر المياه التي بقلعة الجبل وجميع مياه القلعة من ماء النيل، تنقل من موضع إلى موضع حتى تمرّ في جميع ما يحتاج إليه بالقلعة، وقد اعتنى الملوك بعمل السواقي التي تنقل الماء من بحر النيل إلى القلعة عناية عظيمة، فأنشأ الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أربع سواق على بحر النيل، تنقل الماء إلى السور، ثم من السور إلى القلعة. وعمل نقالة من المصنع الذي عمله الظاهر بيبرس بجوار زاوية تقيّ الدين رجب، التي بالرميلة تحت القلعة إلى بئر الإصطبل. فلما كانت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، عزم الملك الناصر على حفر خليج من ناحية حلوان إلى الجبل الأحمر المطلّ على القاهرة، ليسوق الماء إلى الميدان الذي عمله بالقلعة، ويكون حفر الخليج في الجبل، فنزل لكشف ذلك ومعه المهندسون، فجاء قياس الخليج طولا اثنين وأربعين ألف قصبة، فيمرّ الماء فيه من حلوان حتى يحاذي القلعة، فإذا حاذاها بنى هناك خبايا تحمل الماء إلى القلعة، ليصير الماء بها غزيرا كثيرا دائما صيفا وشتاء لا ينقطع، ولا يتكلف لحلمه ونقله، ثم يمرّ من محاذاة القلعة حتى ينتهي إلى الجبل الأحمر فيصبّ من أعلاه إلى تلك الأرض حتى تزرع، وعند ما أراد الشروع في ذلك طلب الأمير سيف الدين قطاوبك بن قراسنقر الجاشنكير، أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق، بعد ما فرغ من بناء القناة وساق العين إلى القدس، فحضر ومعه الصناع الذين عملوا قناة عين بيت المقدس على خيل البريد إلى قلعة الجبل، فأنزلوا، ثم أقيمت لهم الجرايات والرواتب وتوجهوا إلى حلوان، ووزنوا مجرى الماء وعادوا إلى السلطان وصوّبوا رأيه فيما قصد والتزموا بعمله، فقال: كم تريدون؟ قالوا: ثمانين ألف دينار. فقال: ليس هذا بكثير. فقال: كم تكون مدّة العمل فيه حتى يفرغ؟ قالوا: عشر سنين. فاستكثر طول المدّة. ويقال أنّ الفخر ناظر الجيش هو الذي حسن لهم أن يقولوا هذه المدّة، فإنه لم يكن من رأيه عمل هذا الخليج، وما زال يخيل للسلطان من كثرة المصروف عليه ومن خراب القرافة ما حمله على صرف رأيه عن العمل، وأعاد قطلوبك والصناع إلى دمشق، فمات قطلوبك عقيب ذلك في سنة تسع وعشرين وسبعمائة في ربيع الأوّل. فلما كانت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، اهتم الملك الناصر بسوق الماء إلى القلعة وتكثيره بها لأجل سقي الأشجار وملء الفساقي، ولأجل مراحات الغنم والأبقار، فطلب المهندسين والبنائين ونزل معهم وسار في طول القناطر التي تحمل الماء من النيل إلى القلعة، حتى انتهى إلى الساحل، فأمر بحفر بئر أخرى ليركب عليها القناطر حتى تتصل بالقناطر العتيقة، فيجتمع الماء من بئرين ويصير ماء واحدا يجري إلى القلعة، فيسقي الميدان وغيره، فعمل ذلك، ثم أحبّ الزيادة في الماء أيضا، فركب ومعه المهندسون إلى بكرة

الجيش، وأمر بحفر خليج صغير يخرج من البحر ويمرّ إلى حائط الرصد، وينقر في الحجر تحت الرصد عشر آبار يصبّ فيها الخليج المذكور، ويركّب على الآبار السواقي لتنقل الماء إلى القناطر العتيقة التي تحمل الماء إلى القلعة. زيادة لمائها، وكان فيما بين أوّل هذا المكان الذي عيّن لحفر الخليج وبين آخره تحت الرشد، أملاك كثيرة. وعدّة بساتين، فندب الأمير أقبغا عبد الوحد لحفر هذا الخليج وشراء الأملاك من أربابها، فحفر الخليج وأجراه في وسط بستان الصاحب بهاء الدين بن حنا، وقطع أنشابه وهدم الدور، وجمع عامّة الحجارين لقطع الحجر، ونقر الآبار، وصار السلطان يتعاهد النزول للعمل كلّ قليل، فعمل عمق الخليج من فم البحر أربع قصبات، وعمق كلّ بئر في الحجر أربعين ذراعا، فقدّر الله تعالى موت الملك الناصر قبر تمام هذا العمل، فبطل ذلك وانطمّ الخليج بعد ذلك، وبقيت منه إلى اليوم قطعة بجوار رباط الآثار، وما زالت الحائط قائمة من حجر في غاية الإتقان من إحكام الصناعة. وجودة البناء عند سطح الجرف الذي يعرف اليوم بالرصد، قائما من الأرض في طول الجرف إلى أعلاه، حتى هدمه الأمير يلبغا السالميّ في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، وأخذ ما كان به من الحجر فرمّ به القناطر التي تحمل إلى اليوم حتى يصل إلى القلعة، وكانت تعرف بسواقي السلطان، فلما هدمت جهل أكثر الناس أمرها ونسوا ذكرها. المطبخ: كان أوّلا موضعه في مكان الجامع، فأدخله السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون فيما زاده في الجامع، وبنى هذا المطبخ الموجود الآن، وعمل عقوده بالحجارة خوفا من الحريق، وكانت أحوال المطبخ متسعة جدا سيما في سلطنة الأشرف خليل بن قلاون، فإنه تبسط في المآكل وغيرها، حتى لقد ذكر جماعة من الأعيان أنهم أقاموا مدّة سفرهم معه يرسلون كلّ يوم عشرين درهما فيشترى لهم بها مما يأخذه الغلمان، أربع خوافق صيني مملوءة طعاما مفتخرا بالقلوبات ونحوها، في كلّ خافقية ما ينيف على خمسة عشر رطل لحم، أو عشرة أطيار دجار سمان، وبلغ راتب الحوايج خاناه في أيام الملك العادل كتبغا كلّ يوم عشرين ألف رطل لحم، وراتب البيوت والجرايات غير أرباب الرواتب في كلّ يوم سبعمائة أردب قمحا، واعتبر القاضي شرف الدين عبد الوهاب النشو ناظر الخاص أمر المطبخ السلطانيّ في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، فوجد عدّة الدجاج الذي يذبح في كلّ يوم للسماط والمخاطي التي تخص السلطان ويبعث بها إلى الأمراء سبعمائة طائر، وبلغ مصروف الحوايج خاناه في كلّ يوم ثلاثة عشر ألف درهم، فأكثر أولاد الناصر من مصروفها حتى توقفت أحوال الدولة في أيام الصالح إسماعيل، وكتبت أوراق بكلف الدولة في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، فبلغت في السنة ثلاثين ألف ألف درهم، ومنها مصروف الحوايج خاناه في كلّ يوم اثنان وعشرون ألف درهم. وبلغ في أيام الناصر محمد بن قلاون راتب السكّر في شهر رمضان خاصة من كل سنة، ألف قنطار، ثم تزايد حتى بلغ في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة ثلاثة آلاف قنطار، عنها ستمائة ألف درهم، عنها ثلاثون ألف

دينار مصرية، وكان راتب الدور السلطانية في كل يوم من أيام شهر رمضان ستين قنطارا من الحلوى برسم التفرقة للدور وغيرها، وكانت الدولة قد توقفت أحوالها فوفر من المصروف في كلّ يوم أربعة آلاف رطل لحم، وستمائة كماجة سميذ، وثلاثمائة أردب من الشعير، ومبلغ ألفي درهم في كلّ شهر وأضيف إلى ديوان الوزارة سوق الخيل والدواب والجال، وكانت بيد عدّة أجناد عوّضوا عنها إقطاعات بالنواحي. واعتبر في سنة ست وأربعين وسبعمائة متحصل الحاج عليّ الطباخ، فوجد له على المعاملين في كل يوم خمسمائة درهم، ولابنه أحمد في كلّ يوم ثلاثمائة درهم سوى الأطعمة المفتخرة وغيرها، وسوى ما كان يتحصّل له في عمل المهمات مع كثرتها، ولقد تحصل له من ثمن الروس والأكارع وسقط الدجاج والأوز في مهم عمله للأمير بكتمر الساقي، ثلاثة وعشرون ألف درهم، عنها نحو ألفين ومائتي دينار، فأوقعت الحوطة عليه وصودر، فوجد له خمسة وعشرون دارا على البحر وفي عدّة أماكن. واعتبر مصروف الحوائج خاناه في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، فكان في كلّ يوم اثنين وعشرين ألف رطل من اللحم. أبراج الحمام: كان بالقلعة أبراج برسم الحمام التي تحمل البطائق، وبلغ عدّتها على ما ذكره ابن عبد الظاهر في كتاب تمائم الحمائم، إلى آخر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وستمائة، ألف طائر وتسعمائة طائر، وكان بها عدّة من المقدّمين، لكلّ مقدّم منهم جزء معلوم، وكانت الطيور المذكورة لا تبرح في الأبراج بالقلعة، ما عدا طائفة منها فإنها في برج بالبرقية خارج القاهرة، يعرف ببرج الفيوم، رتبه الأمير فخر الدين عثمان بن قزل أستادار الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وقيل له برج الفيوم، فإن جيمع الفيول كانت في إقطاع ابن قزل، وكانت البطائق ترد إليه من الفيوم، ويبعثها من القاهرة إلى الفيوم من هذا البرج، فاستمرّ هذا البرج يعرف بذلك. وكان بكلّ مركز حمام في سائر نواحي المملكة مصرا وشاما، ما بين أسوان إلى الفرات، فلا تحصى عدّة ما كان منها في الثغور والطرقات الشامية والمصرية، وجميعها تدرج وتنقل من القلعة إلى سائر الجهات، وكان لها بغال الحمل من الإصطبلات السلطانية، وجاميكات البرّاجين والعلوفات تصرف من الأهراء السلطانية، فتبلغ النفقة عليها من الأموال ما لا يحصى كثرة، وكانت ضريبة العلف لكل مائة طائر ربع ويبة فول في كلّ يوم، وكانت العادة أن لا تحمل البطاقة إلّا في جناح الطائر، لأمور منها حفظ البطاقة من المطر وقوّة الجناح، ثم إنهم عملوا البطاقة في الذنب، وكانت العادة إذا بطق من قلعة الجبل إلى الإسكندرية فلا يسرّح الطائر إلّا من منية عقبة بالجيزة، وهي أوّل المراكز، وإذا سرّح إلى الشرقية لا يطلق إلّا من مسجد تبر خارج القاهرة، وإذا سرّح إلى دمياط لا يسرّح إلّا من ناحية بيسوس، وكان يسير مع البرّاجين من يوصلهم إلى هذه الأماكن من الجاندارية، وكذلك كانت العادة في كلّ مملكة يتوخى الإبعاد

ذكر ملوك مصر منذ بنيت قلعة الجبل

في التسريح عن مستقر الحمّام، والقصد بذلك أنها لا ترجع إلى أبراجها من قريب، وكان يعمل في الطيور السلطانية علائم، وهي داغات في أرجلها أو على مناقيرها، ويسميها أرباب الملعوب الاصطلاح، وكان الحمام إذا سقط بالبطاقة لا يقطع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة، وكانت لهم عناية شديدة بالطائر، حتى أن السلطان إذا كان يأكل وسقط الطائر لا يمهل حتى يفرغ من الأكل، بل يحل البطاقة ويترك الأكل، وهكذا إذا كان نائما لا يمهل بل ينبه. قال ابن عبد الظاهر: وهذا الذي رأينا عليه ملوكنا، وكذلك في الموكب وفي لعب الأكرة، لأنه بلمحة يفوت ولا يستدرك المهم العظيم، إمّا من واصل أو هارب، وإمّا من متجدّد في الثغور. قال: وينبغي أن تكتب البطائق في ورق الطير المعروف بذلك، ورأيت الأوائل لا يكتبون في أولها بسملة، وتؤرّخ بالساعة واليوم لا بالسنين، وأنا أورخها بالسنة، ولا يكثر في نعوت المخاطب فيها، ولا يذكر حشو في الألفاظ، ولا يكتب إلّا لبّ الكلام وزبدته، ولا بدّ وأن يكتب سرّح الطائر ورفيقه، حتى إن تأخر الواحد ترقّب حضوره، أو تطلب ولا يعمل للبطائق هامش ولا تجمّل، ويكتب آخرها حسبلة، ولا تعنون إلّا إذا كانت منقولة، مثل أن تسرّح إلى السلطان من مكان بعيد، فيكتب لها عنوان لطيف حتى لا يفتحها أحد، وكلّ وال تصل إليه يكتب في ظهرها أنها وصلت إليه ونقلها، حتى تصل مختومة. قال: ومما شاهدته وتوليت أمره، أنّه في شهور سنة ثمان وثمانين وستمائة، حضر من جهة نائب الصبيبة نيف وأربعون طائرا صحبة البرّاجين، ووصل كتابه أنه درجها إلى مصر، فأقامت مدّة لم يكن شغل تبطق فيه فقال برّاجوها: قد أزفّ الوقت عليها في القرنصة، وجرى الحديث مع الأمير بيدار نائب السلطنة، فتقرّر كتب بطائق على عشرة منها بوصولها لا غير، وسرّحت يوم أربعاء جميعها، فاتفق وقوع طائرين منها، فأحضرت بطائقهما وحصل الاستهزاء بها، فلما كان بعد مدّة وصل كتاب السلطان أنها وصلت إلى الصبيبة في ذلك اليوم بعينه، وبطق بذلك في ذلك اليوم بعينه إلى دمشق، ووصل الخبر إلى دمشق في يوم واحد، وهذا مما أنا مصرّفه وحاضره والمشير به. قال مؤلفه رحمه الله: قد بطل الحمام من سائر المملكة إلّا ما ينقل من قطيا إلى بلبيس ومن بلبيس إلى قلعة الجبل، ولا تسل بعد ذلك عن شيء. وكأني بهذا القدر وقد ذهب، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم. ذكر ملوك مصر منذ بنيت قلعة الجبل اعلم أن الذين ولوا أرض مصر في الملة الإسلامية على ثلاثة أقسام. القسم الأول: من ولي بفسطاط مصر، منذ فتح الله تعالى أرض مصر، على أيدي العرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وتابعيهم فصارت دار إسلام، إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر من بلاد إفريقية بعساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى القاهرة، وهؤلاء

ذكر من ملك مصر من الأكراد

يقال لهم امراء مصر، ومدّتهم ثلاثمائة وسبع وثلاثون سنة وسبعة أشهر وستة عشر يوما أوّلها يوم الجمعة مستهل المحرم، سنة عشرين من الهجرة، وآخرها يوم الاثنين سادس عشر شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وعدّة هؤلاء الأمراء مائة واثنا عشر أميرا. القسم الثاني: من وليّ بالقاهرة منذ بنيت إلى أن مات الإمام العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله رحمه الله، وهؤلاء يقال لهم الخلفاء الفاطميون، ومدّتهم بمصر مائتا سنة وثماني سنين وأربعة أشهر واثنان وعشرون يوما، أوّلها يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وآخرها يوم الأحد عاشر المحرّم، سنة سبع وستين وخمسمائة. وعدّة هؤلاء الخلفاء أحد عشر خليفة. والقسم الثالث: من ملك مصر بعد موت العاضد إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه، ويقال لهم الملوك والسلاطين، وهم ثلاثة أقسام: القسم الأول ملوك بني أيوب، وهم أكراد. والقسم الثاني البحرية وأولادهم، وهم مماليك أتراك لبني أيوب. والقسم الثالث مماليك أولاد البحرية، وهم جراكسة، وقد تقدّم في هذا الكتاب ذكر الأمراء والخلفاء، وستقف إن شاء الله تعالى على ذكر من ملك من الأكراد والأتراك والجراكسة، وتعرف أخبارهم على ما شرطنا من الاختصار، إذ قد وضعت لبسط ذلك كتابا سميته كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، وجردت تراجمهم في كتاب التاريخ الكبير المقفى، فتطلبهما تجد فيهما ما لا تحتاج بعده إلى سواهما في معناهما. ذكر من ملك مصر من الأكراد اعلم أن الناس قد اختلفوا في الأكراد، فذكر العجم أنّ الأكراد فضل طعم الملك بيوراسف، وذلك أنه كان يأمر أن يذبح له كلّ يوم إنسانان ويتخذ طعامه من لحومهما، وكان له وزير يسمى أرماييل، وكان يذبح واحدا ويستحيي واحدا ويبعث به إلى جبال فارس، فتوالدوا في الجبال وكثروا. ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود عليهما السلام، حين سلب ملكه ووقع على نسائه المنافقات الشيطان الذي يقال له الجسد، وعصم الله تعالى منه المؤمنات، فعلق منه المنافقات، فلما ردّ الله تعالى على سليمان عليه السلام ملكه، ووضع هؤلاء الإماء الحوامل من الشيطان قال: أكردوهم إلى الجبال والأودية، فربتهم أمّهاتهم وتناكحوا وتناسلوا، فذلك بدء نسب الأكراد. والأكراد عند الفرس من ولد كرد بن اسفندام بن منوشهر، وقيل هم ينسبون إلى كرد بن مرد بن عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر، وقيل هم من ولد عمر ومزيقيا بن عامر ابن ماء السماء، وقيل من بني حامد بن طارق، من بقية أولاد حميد بن زهير بن الحارث بن

أسد بن عبد العزى بن قصيّ. وهذه أقوال الفقهاء لهم ممن أراد الحظوة لديهم لما صار الملك إليهم. وإنما هم قبيل من قبائل العجم، وهم قبائل عديدة: كورانية بنو كوران وهذبانية وبشتوية وشاصنجانية وسرنجية وبزولية ومهرانية وزردارية وكيكانية وجاك وكرودنيلية وروادية ودسنية وهكارية وحميدية ووركجية ومروانية وجلانية وسنيكية وجوني. وتزعم المروانية أنها من بني مروان بن الحكم، ويزعم بعض الهكارية أنها من ولد عتبة بن أبي سفيان بن حرب. وأوّل من ملك مصر من الأكراد الأيوبية. السلطان الملك الناصر صلاح الدين: أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أبي الشكر أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ، من قبيل الروادية، أحد بطون الهذبانية. نشأ أبوه أيوب وعمه أسد الدين شير كوه ببلد دوين من أرض أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج، ودخلا بغداد وخدما مجاهد الدين بهروز، شحنة «1» بغداد، فبعث أيوب إلى قلعة تكريت وأقامه بها مستحفظا لها، ومعه أخوه شير كوه وهو أصغر منه سنا، فخدم أيوب الشهيد زنكي لما انهزم، فشكر له خدمته، واتفق بعد ذلك أنّ شير كوه قتل «2» رجلا بتكريت فطرد هو وأخوه أيوب من قلعتها، فمضيا إلى زنكي بالموصل فآواهما وأقطعهما إقطاعا عنده، ثم رتب أيوب بقلعة بعلبك مستحفظا، ثم أنعم عليه بإمرة، واتصل شير كوه بنور الدين محمود بن زنكي في أيام أبيه وخدمه، فلما ملك حلب بعد أبيه كان لنجم الدين أيوب عمل كثير في أخذ دمشق لنور الدين، فتمكنا في دولته، حتى بعث شير كوه مع الوزير شاور بن مجير السعديّ إلى مصر، فسار صلاح الدين في خدمته من جملة أجناده، وكان من أمر شير كوه ما كان حتى مات. فأقيم بعده في وزارة العاضد ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الآخرة، سنة أربع وستين وخمسمائة، ولقبه بالملك الناصر، وأنزله بدار الوزارة من القاهرة، فاستمال قلوب الناس وأقبل على الجدّ وترك اللهو وتعاضد هو والقاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ رحمه الله على إزالة الدولة الفاطمية، وولى صدر الدين بن درباس قضاء القضاة، وعزل قضاة الشيعة، وبنى بمدينة مصر مدرسة للفقهاء المالكية، ومدرسة للفقهاء الشافعية، وقبض على أمراء الدولة وأقام أصحابه عوضهم، وأبطل المكوس بأسرها من أرض مصر، ولم يزل يدأب في إزالة الدولة حتى تم له ذلك،

وخطب لخليفة بغداد المستنصر بأمر الله أبي محمد بن الحسن العباسيّ، وكان العاضد مريضا فتوفي بعد ذلك بثلاثة أيام، واستبدّ صلاح الدين بالسلطنة من أوّل سنة سبع وستين وخمسمائة، واستدعى أباه نجم الدين أيوب وإخوته من بلاد الشام، فقدموا عليه بأهاليهم. وتأهب لغزو الفرنج وسار إلى الشوبك وهي بيد الفرنج، فواقعهم وعاد إلى أيلة فجبى الزكوات من أهل مصر وفرّقها على أصنافها، ورفع إلى بيت المال سهم العاملين وسهم المؤلفة وسهم المقاتلة وسهم المكاتبين، وأنزل الغز بالقصر الغربيّ وأحاط بأموال القصر وبعث بها إلى الخليفة ببغداد، وإلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بالشام، فأتته الخلع الخليفية فلبسها، ورتب نوب الطبلخاناه في كلّ يوم ثلاث مرّات، ثم سار إلى الإسكندرية، وبعث ابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب على عسكر إلى برقة، وعاد إلى القاهرة. ثم سار في سنة ثمان وخمسين إلى الكرك وهي بيد الفرنج فحصرها وعاد بغير طائل، فبعث أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه ابن أيوب إلى بلاد النوبة، فأخذ قلعة إبريم وعاد بغنائم وسبي كثير، ثم سار لأخذ بلاد اليمن فملك زبيد وغيرها، فلما مات نور الدين محمود بن زنكي توجه السلطان صلاح الدين في أوّل صفر سنة سبعين إلى الشام وملك دمشق بغير مانع، وأبطل ما كان يؤخذ بها من المكوس كما أبطلها من ديار مصر، وأخذ حمص وحماه، وحاصر حلب وبها الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن العادل نور الدين محمود بن زنكي، فقاتله أهلها قتالا شديدا، فرحل عنها إلى حمص وأخذ بعلبك بغير حصار، ثم عاد إلى حلب، فوقع الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام مع المعرّة وكفر طاب، ولهم ما بأيديهم، وعاد فأخذ بغزاس بعد حصار، وأقام بدمشق، وندب قراقوس التقويّ لأخذ بلاد المغرب، فأخذ أيجلن وعاد إلى القاهرة. وكانت بين السلطان وبين الحبيين وقعة هزمهم فيها وحصرهم بحلب أياما، وأخذ بزاعة ومنبج وعزاز، ثم عاد إلى دمشق. وقدم القاهرة في سادس عشرى ربيع الأوّل سنة اثنتين وسبعين بعد ما كانت لعساكره حروب كثيرة مع الفرنج، فأمر ببناء سور يحيط بالقاهرة ومصر وقلعة الجبل، وأقام على بنائه الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ، فشرع في بناء قلعة الجبل وعمل السور وحفر الخندق حوله، وبدأ السلطان بعمل مدرسة بجوار قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه في القرافة، وعمل مارستانا بالقاهرة، وتوجه إلى الإسكندرية فصام بها شهر رمضان، وسمع الحديث على الحافظ أبي طاهر أحمد السلفيّ، وعمر الأسطول وعاد إلى القاهرة، وأخرج قراقوش التقويّ إلى بلاد المغرب، وأمر بقطع ما كان يؤخذ من الحجاج، وعوّض أمير مكة عنه في كلّ سنة ألفي دينار وألف أردب غلة، سوى إقطاعه بصعيد مصر وباليمن، ومبلغه ثمانية آلاف أردب.

ثم سار من القاهرة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى عسقلان وهي بيد الفرنج، وقتل وأسر وسبى وغنم، ومضى يريدهم بالرملة فقاتل البرنس أرياط متملك الكرك قتالا شديدا، ثم عاد إلى القاهرة، ثم سار منها في شعبان يريد الفرنج وقد نزلوا على حماه حتى قدم دمشق وقد رحلوا عنها، فواصل الغارات على بلاد الفرنج وعساكره تغزو بلاد المغرب، ثم فتح بيت الأحزان من عمل صفد وأخذه من الفرنج عنوة، وسار في سنة ست وسبعين لحرب فتح الدين فليح «1» أرسلان صاحب قونيه من بلاد الروم، وعاد ثم توجه إلى بلاد الأرمن، وعاد فخرّب حصن بهنسا «2» ومضى إلى القاهرة فقدمها في ثالث عشر شعبان. ثم خرج إلى الإسكندرية وسمع بها موطأ الإمام مالك على الفقيه أبي طاهر بن عوف، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة ومدرسة، وجدّد حفر الخليج ونقل فوهته، ثم مضى إلى دمياط وعاد إلى القاهرة، ثم سار في خامس المحرّم سنة ثمان وسبعين على إيلة، فأغار على بلاد الفرنج ومضى إلى الكرك، فعاثت عساكره ببلاد طبرية وعكا، وأخذ الشقيف من الفرنج، ونزل السلطان بدمشق وركب إلى طبرية فواقع الفرنج، وعاد فتوجه إلى حلب ونازلها ثم مضى إلى البيرة على الفرات، وعدّى إلى الرها فأخذها، وملك حرّان والرقّة ونصيبين، وحاصر الموصل فلم ينل منها غرضا، فنازل سنجار حتى أخذها، ثم مضى على حرّان إلى آمد فأخذها وسار على عين تاب إلى حلب، فملكها في ثامن عشر صفر سنة تسع وسبعين، وعاد إلى دمشق وعبر الأران «3» وحرّق بيسان على الفرنج وخرّب لهم عدّة حصون وعاد إلى دمشق، ثم سار إلى الكرك فلم ينل منها غرضا، وعاد ثم خرج في سنة ثمانين من دمشق فنازل الكرك، ثم رحل عنها إلى نابلس فحرّقها وأكثر من الغارات حتى دخل دمشق، ثم سار منها إلى حماه ومضى حتى بلغ حرّان، ونزل على الموصل وحصرها، ثم سار عنها إلى خلاط فلم يملكها، فمضى حتى أخذ ميافارقين وعاد إلى الموصل، ثم رحل عنها وقد مرض إلى حرّان، فتقرّر الصلح مع المواصلة على أن خطبوا له بها وبديار بكر وجميع البلاد الأرتقية، وضرب السكة فيها باسمه، ثم سار إلى دمشق فقدمها في ثاني ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين، وخرج منها في أوّل سنة ثلاث وثمانين، ونازل الكرك والشوبك وطبرية، فملك طبرية في ثالث عشري ربيع الآخر من الفرنج، ثم واقعهم على حطين «4» وهم في خمسين ألفا، فهزمهم بعد وقائع عديدة وأسر منهم عدّة ملوك، ونازل عكا حتى تسلمها في ثاني جمادى الأولى، وأنقذ منها أربعة آلاف أسير مسلم من الأسر، وأخذ مجدل يافا وعدّة حصون، منها الناصرية وقيسارية وحيفا وصفورية والشقيف والغولة والطور وسبسطية

ونابلس وتبنين وصرخد وصيدا وبيروت وجبيل، وأنقذ من هذه البلاد زيادة على عشرين ألف أسير مسلم كانوا في أسر الفرنج، وأسر من الفرنج مائة ألف إنسان، ثم ملك منهم الرملة وبلد الخليل عليه السلام وبيت لحم من القدس ومدينة عسقلان ومدينة غزة وبيت جبريل، ثم فتح بيت المقدس «1» في يوم الجمعة سابع عشري رجب وأخرج منه ستين ألفا من الفرنج بعد ما أسر ستة عشر ألفا ما بين ذكر وأنثى، وقبض من مال المفاداة ثلاثمائة ألف دينار مصرية، وأقام الجمعة بالأقصى وبنى بالقدس مدرسة للشافعية، وقرّر على من يرد كنيسة قمامة «2» من الفرنج قطيعة يؤديها، ثم نازل عكا وصور ونازل في سنة أربع وثمانين حصن كوكب، وندب العساكر إلى صفد والكرك والشوبك. وعاد إلى دمشق فدخلها سادس ربيع الأوّل وقد غاب عنها في هذه الغزوة أربعة عشر شهرا وخمسة أيام، ثم خرج منها بعد خمسة أيام فشنّ الغارات على الفرنج وأخذ منهم أنطرسوس «3» وخرّب سورها وحرّقها وأخذ جبلة واللاذقية وصهيون والشغر وبكاس وبقراص، ثم عاد إلى دمشق آخر شعبان بعد ما دخل حلب، فملكت عساكره الكرك والشوبك والسلع في شهر رمضان، وخرج بنفسه إلى صفد وملكها من الفرنج في رابع عشر شوّال، وملك كوكب في نصف ذي القعدة وسار إلى القدس، ومضى بعد النحر إلى عسقلان ونزل بعكا وعاد إلى دمشق أوّل صفر سنة خمس وثمانين، ثم سار منها في ثالث ربيع الأوّل ونازل شقيف أرنون وحارب الفرنج حروبا كثيرة، ومضى إلى عكا وقد نزل الفرنج عليها وحصروا من بها من المسلمين، فنزل بمرج عكا وقاتل الفرنج من أوّل شعبان حتى انقضت السنة. وقد خرج الألمان من قسطنطينية في زيادة ألف ألف يريد بلاد الإسلام، فاشتدّ الأمر ودخلت سنة ست وثمانين والسلطان بالخرّوبة على حصار الفرنج، والإمداد تصل إليه، وقدم الألمان طرسوس يريد بيت المقدس، فخرّب السلطان سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل، وقوي الفرنج بقدوم ابن الألمان إليهم تقوية لهم، وقد مات أبوه بطرسوس وملك بعده، فقدّر الله تعالى موته أيضا على عكا، ودخلت سنة سبع وثمانين، فملك الفرنج عكا في سابع عشر جمادى الآخرة وأسروا من بها من المسلمين وحاربوا السلطان وقتلوا جميع من أسروه من المسلمين وساروا إلى عسقلان فرحل السلطان في أثرهم وواقعهم بأرسوف، فانهزم من معه وهو ثابت حتى عادوا إليه، فقاتل الفرنج وسبقهم إلى عسقلان وخرّبها، ثم مضى إلى الرملة وخرّب حصنها وخرّب كنيسة له ودخل القدس

فأقام بها إلى عاشر رجب سنة ثمان وثمانين، ثم سار إلى يافا فأخذها بعد حروب وعاد إلى القدس وعقد الهدنة بينه وبين الفرنج مدّة ثلاث سنين وثلاثة أشهر، أوّلها حادي عشر شعبان، على أنّ للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وأنطاكية، ونودي بذلك، فكان يوما مشهودا، وعاد السلطان إلى دمشق فدخلها خامس عشري شوّال وقد غاب عنها أربع سنين، فمات بها في يوم الأربعاء سابع عشري صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة، عن سبع وخمسين سنة، منها مدّة ملكه بعد موت العاضد، اثنتان وعشرون سنة وستة عشر يوما، فقام من بعده بمصر ولده. السلطان الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان «1» : وقد كان يومئذ ينوب عنه بمصر وهو مقيم بدار الوزارة من القاهرة، وعنده جلّ عساكر أبيه من الأسدية والسلاحية والأكراد، فأتاه ممن كان عند أخيه الملك الأفضل عليّ، الأمير فخر الدين جهاركس، والأمير فارس الدين ميمون القصريّ، والأمير شمس الدين سنقر الكبير، وهم عظماء الدولة، فأكرمهم. وقدم عليه القاضي الفاضل فبالغ في كرامته، وتنكر ما بينه وبين أخيه الأفضل، فسار من مصر لمحاربته وحصره بدمشق، فدخل بينهما العادل أبو بكر حتى عاد العزيز إلى مصر على صلح فيه دخل، فلم يتم ذلك، وتوحش ما بينهما وخرج العزيز ثانيا إلى دمشق، فدبر عليه عمه العادل حتى كاد أن يزول ملكه وعاد خائفا، فسار إليه الأفضل والعادل حتى نزلا بلبيس، فجرت أمور آلت إلى الصلح، وأقام العادل مع العزيز بمصر، وعاد الأفضل إلى مملكته بدمشق، فقام العادل بتدبير أمور الدولة، وخرج بالعزيز لمحاربة الأفضل فحصراه بدمشق حتى أخذاها منه بعد حروب وبعثاه إلى صرخد، وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق حتى مات العزيز في ليلة العشرين من محرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة، عن سبع وعشرين سنة وأشهر، منها مدّة سلطنته بعد أبيه ست سنين تنقص شهرا واحدا، فأقيم بعده ابنه. السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد «2» : وعمره تسع سنين وأشهر بعهد من أبيه، وقام بأمور الدولة بهاء الدين قراقوش الأسديّ الأتابك، فاختلف عليه أمراء الدولة وكاتبوا الملك الأفضل عليّ بن صلاح الدين، فقدم من صرخد في خامس ربيع الأوّل، فاستولى على الأمور ولم يبق للمنصور معه سوى الاسم، ثم سار به من القاهرة في ثالث رجب يريد أخذ دمشق من عمه العادل بعد ما قبض على عدّة من الأمراء، وقد توجه العادل إلى ماردين، فحصر الأفضل دمشق، وقد بلغ العادل خبره فعاد وسار يريده حتى دخل دمشق، فجرت حروب كثيرة آلت إلى عود الأفضل إلى مصر بمكيدة دبرها عليه العادل، وخرج العادل في أثره وواقعه على بلبيس فكسره في سادس ربيع الآخر سنة ست وتسعين،

والتجأ إلى القاهرة وطلب الصلح، فعوّضه العادل صرخد ودخل إلى القاهرة في يوم السبت ثامن عشره، وأقام بأتابكية المنصور ثم خلعه في يوم الجمعة حادي عشر شوّال، وكانت سلطنته سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما، واستبدّ بالسلطنة بعده عمّ أبيه. السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب «1» : فخطب له بديار مصر وبلاد الشام وحرّان والرها وميافارقين، وأخرج المنصور وإخوته من القاهرة إلى الرها، واستناب ابنه الملك الكامل محمدا عنه، وعهد إليه بعده بالسلطنة، وحلف له الأمراء، فسكن قلعة الجبل واستمرّ أبوه في دار الوزارة، وفي أيامه توقفت زيادة النيل ولم يبلغ سوى ثلاثة عشر ذراعا تنقص ثلاثة أصابع، وشرقت أراضي مصر إلّا الأقل، وغلت او سعار وتعذر وجود الأقوات حتى أكلت الجيف، وحتى أكل الناس بعضهم بعضا، وتبع ذلك فناء كبير وامتدّ ذلك ثلاث سنين، فبلغت عدّة من كفنه العادل وحده من الأموات في مدّة يسيرة نحو مائتي ألف وعشرين ألف إنسان، فكان بلاء شنيعا، وعقب ذلك تحرّك الفرنج على بلاد المسلمين في سنة تسع وتسعين، فكانت معهم عدّة حروب على بلاد الشام آلت إلى أن عقد العادل معهم الهدنة، فعاودوا الحرب في سنة ستمائة وعزموا على أخذ القدس، وكثر عيثهم وفسادهم، وكانت لهم وللمسلمين شؤون آلت إلى نزولهم على مدينة دمياط في رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة، والعادل يومئذ بالشام، فخرج الملك الكامل لمحاربتهم، فمات العادل بمرج الصفر في يوم الخميس سابع جمادى الآخرة منها وحمل إلى دمشق، فكانت مدّة سلطنته بديار مصر تسع عشرة سنة وشهرا واحدا وتسعة عشر يوما وقام من بعده ابنه. السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد «2» : بعهد أبيه. فأقام في السلطنة عشرين سنة وخمسة وأربعين يوما ومات بدمشق يوم الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة. وأقيم بعده ابنه. السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر: فاشتغل باللهو عن التدبير، وخرجت عنه حلب، واستوحش منه الأمراء لتقريبه الشباب، وسار أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب من بلاد الشرق إلى دمشق وأخذها في أوّل جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وجرت له أمور آخرها أنه سار إلى مصر فقبض الأمراء على العادل وخلعوه يوم الجمعة ثامن ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة، فكانت سلطنته سنتين وثلاثة أشهر وتسعة. وقام بعده بالسلطنة أخوه. السلطان الملك الصالح نجم الدين أبو الفتوح أيوب «3» : فاستولى على قلعة الجبل في

ذكر دولة المماليك البحرية

يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة وجلس على سرير الملك بها، وكان قد خطب له قبل قدومه، فضبط الأمور وقام بأعباء المملكة أتم قيام، وجمع الأموال التي أتلفها أخوه، وقبض على الأمراء ونظر في عمارة أرض مصر، وحارب عربان الصعيد، وقدّم مماليكه وأقامهم أمراء، وبنى قلعة الروضة وتحوّل من قلعة الجبل إليها وسكنها، وملك مكة وبعث لغزو اليمن، وعمر المدارس الصالحية بين القصرين من القاهرة، وقرّر بها دروسا أربعة للشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، وفي أيامه نزل الفرنج على دمياط في ثالث عشري صفر سنة سبع وأربعين وعليهم الملك روادفرنس «1» وملكوها، وكان السلطان بدمشق، فقدم عند ما بلغه حركة الفرنج ونزل أشموم «2» طناح وهو مريض، فمات بناحية المنصورة مقابل الفرنج، في يوم الأحد رابع عشر شعبان منها، وكانت مدّة سلطنته بعد أخيه تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوما، فقامت أمّ ولده خليل واسمها شجرة الدرّ «3» بالأمر، وكتمت موته واستدعت ابنه توران شاه من حصن كيفا وسلمت إليه مقاليد الأمور. فقام من بعده ابنه. السلطان الملك المعظم غياث الدين توران شاه: وقد سار من حصن كيفا في نصف شهر رمضان فمرّ على دمشق وتسلطن بقلعتها في يوم الاثنين لليلتين بقيتا منه، وركب إلى مصر فنزل الصالحية طرف الرمل لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، فأعلن حينئذ بموت الصالح ولم يكن أحد قبل ذلك يتفوّه بموت السلطان، بل كانت الأمور على حالها والخدمة تعمل بالدهليز والسماط يمدّ وشجرة الدرّ تدبر أمور الدولة، وتوهم الكافة أن السلطان مريض ما لأحد عليه سبيل، ولا وصول، ثم سار المعظم من الصالحية إلى المنصورة، فقدمها يوم الخميس حادي عشريه، فأساء تدبير نفسه وتهدّد البحرية حتى خافوه، وهم يومئذ جمرة العسكر، فقتلوه بعد سبعين يوما في يوم الاثنين تاسع عشري المحرّم سنة ثمان وأربعين وستمائة، وبموته انقضت دولة بني أيوب من ديار مصر بعد ما أقامت إحدى وثمانين سنة وسبعة عشر يوما، وملك منهم ثمانية ملوك. ذكر دولة المماليك البحرية وهم الملوك الأتراك، وكان ابتداء أمر هذه الطائفة، أنّ السلطان الملك الصالح نجم

الدين أيوب، كان قد أقرّه أبوه السلطان الملك الكامل محمد ببلاد الشرق، وجعل ابنه العادل أبا بكر وليّ عهده في السلطنة بمصر، فلما مات قام من بعده العادل في السلطنة، وتنكر ما بينه وبين ابن عمه الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن العادل أبي بكر بن أيوب، وهو نائب دمشق، فاستدعى الصالح نجم الدين من بلاد الشرق ورتب ابنه المعظم ثوران شاه على بلاد الشرق، وأقرّه بحصن كيفا، وقدم دمشق وملكها، فكاتبه أمراء مصر تحثه على أخذها من أخيه العادل، وخامر عليه بعضهم، فسار من دمشق في رمضان سنة ست وثلاثين، فانزعج العادل انزعاجا كبيرا وكتب إلى الناصر داود صاحب الكرك، فسار إليه ليعاونه على أخيه الصالح، فاتفق مسير الملك الصالح إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب من حماه وأخذه دمشق للملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد، في سابع عشري صفر سنة سبع وثلاثين، والملك الصالح نجم الدين أيوب يومئذ على نابلس، فانحلّ أمره وفارقه من معه حتى لم يبق معه إلّا مماليكه، وهم نحو الثمانين، وطائفة من خواصه نحو العشرين، وأما الجميع فإنهم مضوا إلى دمشق وكان الناصر داود قد فارق العادل وسار من القاهرة مغاضبا له إلى الكرك، ومضى إلى الصالح نجم الدين أيوب وقبضه بنابلس في ثاني عشر ربيع الأول منها وسجنه بالكرك، فأقام مماليك الصالح بالكرك حتى خلص من سجنه في سابع عشري شهر رمضان منها، فاجتمع عليه مماليكه وقد عظمت مكانتهم عنده، وكان من أمره ما كان حتى ملك مصر، فرعى لهم ثباتهم معه حين تفرّق عنه الأكراد، وأكثر من شرائهم وجعلهم أمراء دولته وخاصته وبطانته والمحيطين بدهليزه، إذا سافر وأسكنهم معه في قلعة الروضة، وسماهم البحرية، وكانوا دون الألف مملوك، قيل ثمانمائة، وقيل سبعمائة وخمسون، كلهم أتراك. فلما مات الملك الصالح بالمنصورة أحس الفرنج بشيء من ذلك، فركبوا من مدينة دمياط وساروا على فارسكور، وواقعوا العسكر في يوم الثلاثاء أوّل شهر رمضان سنة سبع وأربعين، ونزلوا بقرية شرمشاح، ثم بالبرمون، ونزلوا تجاه المنصورة، فكانت الحروب بين الفريقين إلى خامس ذي القعدة، فلم يشعر المسلمون إلّا والفرنج معهم في المعسكر، فقتل الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وانهزم الناس، ووصل روادفرنس ملك الفرنج إلى باب قصر السلطان، فبرزت البحرية وحملوا على الفرنج حملة منكرة حتى أزاحوهم وولوا، فأخذتهم السيوف والدبابيس وقتل من أعيانهم ألف وخمسمائة، فظهرت البحرية من يومئذ واشتهرت، ثم لما قدم الملك المعظم توران شاه أخذ في تهديد شجرة الدرّ ومطالبتها بمال أبيه، فكاتبت البحرية تذكرهم بما فعلته من ضبط المملكة حتى قدم المعظم، وما هي فيه من الخوف منه، فشق ذلك عليهم، وكان قد وعد الفارس أقطاي المتوجه إليه من المنصورة لاستدعائه من حصن كيفا بإمرة، فلم يف له، فتنكر له وهو من أكابر البحرية، وأعرض مع ذلك عن البحرية وأطرح جانب الأمراء وغيرهم حتى قتلوه، وأجمعوا على أن يقيموا بعده في السلطنة سرّية أستاذهم.

الملكة عصمة الدين أم خليل شجرة الدر الصالحية: فأقاموها في السلطنة وحلفوا لها في عاشر صفر، ورتبوا الأمير عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ أحد البحرية مقدّم العسكر، وسار عز الدين أيبك الروميّ من العسكر إلى قلعة الجبل، وأنهى ذلك إلى شجرة الدرّ، فقامت بتدبير المملكة وعلمت على التواقيع بما مثاله والدة خليل، ونقش على السكة اسمها ومثاله، المستعصمة الصالحية ملكة المسلمين والدة المنصور خليل خليفة أمير المؤمنين، وكانت البحرية قد تسلمت مدينة دمياط من الملك روادفرنس بعد ما قرّر على نفسه أربعمائة ألف دينار، وعاد العسكر من المنصورة إلى القاهرة في تاسع صفر وحلفوا لشجرة الدرّ في ثالث عشره، فخلعت عليهم وأنفقت فيهم الأموال، ولم يوافق أهل الشام على سلطنتها، وطلبوا الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب حلب فسار إليهم بدمشق وملكها، فانزعج العسكر بالقاهرة، وتزوّج الأمير عز الدين أيبك التركمانيّ بالملكة شجرة الدرّ، ونزلت له عن السلطنة وكانت مدّتها ثمانين يوما. وملك بعدها. السلطان الملك المعز عز الدين أيبك الجاشنكير التركمانيّ الصالحيّ «1» : أحد المماليك الأتراك البحرية، وكان قد انتقل إلى الملك الصالح من أولاد ابن التركمانيّ، فعرف بالتركمانيّ، ورقّاه في خدمه حتى صار من جملة الأمراء ورتبة جاشنكيره «2» ، فلما مات الصالح وقدّمته البحرية عليهم في سلطنة شجرة الدرّ، كتب إليهم الخليفة المستعصم من بغداد يذمّهم على إقامة امرأة، ووافق مع ذلك أخذ الناصر لدمشق، وحركتهم لمحاربته، فوقع الاتفاق على إقامة أيبك في السلطنة، فأركبوه بشعار السلطنة في يوم السبت آخر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة، ولقبوه بالملك المعز، وجلس على تخت الملك بقلعة الجبل، فورد الخبر من الغد بأخذ الملك المغيث عمر بن العادل الصغير الكرك والشوبك، وأخذ الملك السعيد قلعة الصبيبة، فاجتمع رأي الأمراء على إقامة الأشرف مظفر الدين موسى بن الناصر، ويقال المسعود يوسف بن الملك المسعود يوسف، ويقال طسز، ويقال أيضا اقسيس بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، شريكا للمعز في السلطنة، فأقاموه معه وعمره نحو ست سنين، في خامس جمادى الأولى، وصارت المراسيم تبرز عن الملكين، إلّا أن الأمر والنهي للمعز، وليس للأشرف سوى مجرّد الاسم، وولى المعز الوزارة لشرف الدين أبي سعيد هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وهو أوّل قبطيّ وليّ وزارة مصر، وخرج المعز بالعساكر وعربان مصر لمحاربة الناصر يوسف في

ثالث ذي القعدة، وخيم بمنزلة الصالحية وترك الأشرف بقلعة الجبل، واقتتل مع الناصر في عاشره، فكانت النصرة له على الناصر، وعاد في ثاني عشره، فنزل بالناس من البحرية بلاء لا يوصف ما بين قتل ونهب وسبي، بحيث لو ملك الفرنج بلاد مصر ما زادوا في الفساد على ما فعله البحرية، وكان كبراؤهم ثلاثة، الأمير فارس الدين أقطاي، وركن الدين بيبرس البند قداريّ، وبليان الرشيديّ، ثم في محرّم سنة تسع وأربعين خرج المعز بالأشرف والعساكر فنزل بالصالحية وأقام بها نحو سنتين، والرسل تتردّد بينه وبين الناصر، وأحدث الوزير الأسعد هبة الله الفائزيّ مظالم لم تعهد بمصر قبله، فورد الخبر في سنة خمسين بحركة التتر على بغداد، فقطع المعز من الخطبة اسم الأشرف وانفرد بالسلطنة وقبض على الأشرف وسجنه، وكان الأشرف موسى آخر ملوك بني أيوب بمصر، ثم إن المعز جمع الأموال فأحدث الوزير مكوسا كثيرة سماها الحقوق السلطانية، وعاد المعز إلى قلعة الجبل في سنة إحدى وخمسين وأوقع بعرب الصعيد وقبض على الشريف حصن الدين ثعلب بن ثعلب، وأذلّ سائر عرب الوجهين القبليّ والبحريّ وأفناهم قتلا وأسرا وسبيا، وزاد في القطيعة على من بقي منهم حتى ذلوا وقلوا، ثم قتل الفارس أقطاي، ففرّ منه معظم البحرية، بيبرس وقلاون في عدد كثير منهم إلى الشام وغيرها، ولم يزل إلى أن قتلته شجرة الدرّ في الحمام ليلة الأربعاء رابع عشري ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين وستمائة، فكانت مدّته سبع سنين تنقص ثلاثة وثلاثين يوما، وكان ظلوما غشوما سفاكا للدماء، أفنى عوالم كثيرة بغير ذنب وقام من بعده ابنه. السلطان الملك المنصور نور الدين عليّ بن المعز أيبك «1» : في يوم الخميس خامس عشري ربيع الأوّل وعمره خمس عشرة سنة، فدبر أمره نائب أبيه الأمير سيف الدين قطز، ثم خلعه في يوم السبت رابع عشري ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة، فكانت مدّته سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام، وقام من بعده. السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز «2» : في يوم السبت، وأخرج المنصور بن المعز منفيا هو وأمّه إلى بلاد الأشكريّ، وقبض على عدّة من الأمراء، وسار فأوقع بجمع هولاكو على عين جالوت وهزمهم في يوم الجمعة خامس عشري رمضان، سنة ثمان وخمسين، وقتل منهم وأسر كثيرا بعد ما ملكوا بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم بالله عبد الله، وأزالوا دولة بني العباس وخرّبوا بغداد وديار بكر وحلب ونازلوا دمشق فملكوها، فكانت هذه الوقعة أوّل هزيمة عرفت للتتر منذ قاموا، ودخل المظفر قطز إلى دمشق وعاد منها يريد مصر، فقتله الأمير ركن الدين بيبرس البندقداريّ قريبا من المنزلة الصالحية في يوم السبت

نصف ذي القعدة منها، فكانت مدّته سنة تنقص ثلاثة عشر يوما، وقام من بعده. السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبرس البند قداريّ «1» الصالحيّ «2» : التركيّ الجنس أحد المماليك البحرية، وجلس على تخت السلطنة بقلعة الجبل في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين، فلم يزل حتى مات بدمشق في يوم الخميس سابع عشري المحرّم، سنة ست وسبعين وستمائة، فكانت مدّته سبع عشرة سنة وشهرين واثني عشر يوما، وقام من بعده ابنه. السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد بركة قان» : وهو يومئذ بقلعة الجبل ينوب عن أبيه، وقد عهد إليه بالسلطنة وزوّجه بابنة الأمير سيف الدين قلاون الألفيّ، فجلس على التخت في يوم الخميس سادس عشري صفر، سنة ست وسبعين، إلى أن خلعه الأمراء في سابع ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين، وكانت مدّته سنتين وشهرين وثمانية أيام، لم يحسن فيها تدبير ملكه، وأوحش ما بينه وبين الأمراء. فأقيم بعده أخوه. السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر بيبرس «4» : وعمره سبع سنين وأشهر، وقام بتدبيره الأمير قلاون أتابك العساكر، ثم خلعه بعد مائة يوم وبعث به إلى الكرم، فسجن مع أخيه بركة بها. وقام من بعده. السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الألفيّ العلائيّ الصالحيّ «5» : أحد المماليك الأتراك البحرية، كان قبجاقي الجنس من قبيلة مرج أغلى، فجلب صغيرا واشتراه الأمير علاء الدين آق سنقر الساقي العادليّ بألف دينار، وصار بعد موته إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب في سنة سبع وأربعين وستمائة، فجعله من جملة البحرية، فتنقلت به الأحوال حتى صار أتابك العساكر في أيام العادل سلامش، وذكر اسمه مع العادل على المنابر، ثم جلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأحد العشرين من شهر رجب سنة ثمان وسبعين، وتلقب بالملك المنصور وأبطل عدّة مكوس، فثار عليه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بدمشق وتسلطن ولقب نفسه بالملك الكامل، في يوم الجمعة رابع عشري ذي الحجة، فبعث إليه وهزمه واستعاد دمشق، ثم قدمت التتر إلى بلاد حلب وعاثوا بها، فتوجه إليهم السلطان بعساكره وأوقع بهم على حمص في يوم الخميس رابع عشري رجب، سنة

ثمانين وستمائة، وهزمهم بعد مقتلة عظيمة وعاد إلى قلعة الجبل، وتوجه في سنة أربع وثمانين حتى نازل حصن المرقب ثمانية وثلاثين يوما وأخذه عنوة من الفرنج، وعاد إلى القلعة، ثم بعث العسكر فغزا بلاد النوبة في سنة سبع وثمانين وعاد بغنائم كثيرة، ثم سار في سنة ثمان وثمانين لغزو الفرنج بطرابلس، فنازلها أربعة وثلاثين يوما حتى فتحها عنوة في رابع ربيع الآخر وهدمها جميعها، وأنشأ قريبا منها مدينة طرابلس الموجودة الآن، وعاد إلى قلعة الجبل وبعث لغزو النوبة ثانيا عسكرا فقتلوا وأسروا وعادوا، ثم خرج لغزو الفرنج بعكا، وهو مريض، فمات خارج القاهرة ليلة السبت سادس ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة، فكانت مدّته إحدى عشرة سنة وشهرين وأربعة وعشرين يوما. وقام من بعده ابنه. السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل: في يوم الأحد سابع ذي القعدة المذكور، وسار لفتح عكا في ثالث ربيع الأوّل سنة تسعين وستمائة، ونصب عليها اثنين وتسعين منجنيقا وقاتل من بها من الفرنج أربعة وأربعين يوما حتى فتحها عنوة، في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وهدمها كلها بما فيها، وحرّقها وأخذ صور وحيفا وعتليت وانطرسوس وصيدا، وهدمها وأجلى الفرنج من الساحل فلم يبق منهم أحد ولله الحمد، وتوجه إلى دمشق وعاد إلى مصر فدخل قلعة الجبل يوم الاثنين تاسع شعبان، ثم خرج في ثامن ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وستمائة بعد ما نادى بالنفير للجهاد، فدخل دمشق وعرض العساكر ومضى منها فمرّ على حلب ونازل قلعة الروم، ونصب عليها عشرين منجنيقا حتى فتحها بعد ثلاثة وثلاثين يوما عنوة، وقتل من بها من النصارى الأرمن وسبى نساءهم وأولادهم، وسماها قلعة المسلمين، فعرفت بذلك، وعاد إلى مصر فدخل قلعة الجبل في يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة، وسار في رابع المحرّم سنة اثنتين وتسعين حتى بلغ مدينة قوص من صعيد مصر، ونادى فيها بالتجهز لغزو اليمن، وعاد ثم سار مخفا على الهجن في البريّة إلى الكرك، ومضى إلى دمشق فقدمها في تاسع جمادى الآخرة، وقصد غزو بهنسا وأخذها من الأرمن، فقدموا إليه وسلموها من تلقاء أنفسهم وسلموا أيضا مرعش وتل حمدون، ومضى من دمشق في ثاني رجب، وعبر من حمص إلى سلمية «1» وهجم على الأمير مهنا بن عيسى وقبضه وإخوته وحملهم في الحديد إلى قلعة الجبل، وعاد إلى دمشق ثم رجع إلى مصر فقدم قلعة الجبل في ثامن عشري رجب، ثم توجه للصيد فبلغ الطرّانة، وانفرد في نفر يسير ليصطاد، فاقتحم عليه الأمير بيدار في عدّة معه وقتلوه في يوم السبت ثاني عشر المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، فكانت مدّته ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام، ثم حمل ودفن بمدرسة الأشرفية «2» وأقيم من بعده أخوه.

السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون «1» : وعمره سبع سنين، وقام الأمير زين الدين كتبغا بتدبيره، ثم خلعه بعد سنة تنقص ثلاثة أيام، وقام من بعده. السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوريّ: أحد مماليك الملك المنصور قلاون، وجلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأربعاء حادي عشر المحرّم، سنة أربع وتسعين، وتلقب بالملك العادل، فكانت أيامه شرّ أيام لما فيها من قصور مدّ النيل وغلاء الأسعار وكثرة الوباء في الناس، وقدوم الأويراتية «2» . فقام عليه نائبه الأمير حسام الدين لاجين وهو عائد من دمشق بمنزلة العرجاء، في يوم الاثنين ثامن عشري المحرّم سنة ست وتسعين، ففرّ إلى دمشق واستولى لاجين على الأمر، فكانت مدّته سنتين وسبعة عشر يوما، وقدم لاجين بالعسكر إلى مصر وقام في السلطنة: السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ: أحد مماليك المنصور قلاون، وجلس على التخت بقلعة الجبل وتلقب بالملك المنصور في يوم الاثنين ثامن عشري المحرّم المذكور، واستناب مملوكه منكوتمر فنفرت القلوب عنه حتى قتل في ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة، فكانت مدّته سنتين وشهرين وثلاثة عشر يوما، ودبر الأمراء بعده أمور الدولة حتى قدم من الكرك. السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون: وأعيد إلى السلطنة مرّة ثانية في يوم الاثنين سادس جمادى الأولى، وقام بتدبير الأمور الأميران سلار نائب السلطنة، وبيبرس الجاشنكير أستادار، حتى سار كأنه يريد الحج، فمضى إلى الكرك وانخلع من السلطنة، فكانت مدّته تسع سنين وستة أشهر وثلاثة عشر يوما، فقام من بعده. السلطان الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير: أحد مماليك المنصور قلاون، في يوم السبت ثالث عشري ذي الحجة، سنة ثمان وسبعمائة، حتى فرّ من قلعة الجبل في يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان، سنة تسع وسبعمائة، فكانت مدّته عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما. ثم قدم من الشام في العساكر: السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون: وأعيد إلى السلطنة مرّة ثالثة في يوم الخميس ثاني شوّال منها، فاستبدّ بالأمر حتى مات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وكانت مدّته الثالثة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة وعشرين

يوما، ودفن بالقبة المنصورية على أبيه، وأقيم بعده ابنه. السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر: بعهد أبيه في يوم الخميس حادي عشري ذي الحجة، وقام الأمير قوصون بتدبير الدولة، ثم خلعه بعد تسعة وخمسين يوما، في يوم الأحد لعشرين من صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وأقام بعده أخاه: السلطان الملك الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر محمد بن قلاون: ولم يكمل له من العمر ثمان سنين «1» فتنكرت قلوب الأمراء على قوصون وحاربوه وقبضوا عليه كما ذكر في ترجمته، وخلعوا الأشرف في يوم الخميس أوّل شعبان، فكانت مدّته خمسة أشهر وعشرة أيام، وقام الأمير أيدغمش بأمر الدولة، وبعث يستدعي من بلاد الكرم: السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن الناصر محمد بن قلاون: وكان مقيما بقلعة الكرك من أيام أبيه، فقدم على البريد في عشرة من أهل الكرك ليلة الخميس ثامن عشري شهر رمضان، وعبر الدور من قلعة الجبل بمن قدم معه، واحتجب عن الأمراء ولم يخرج لصلاة العيد، ولا حضر السماط على العادة إلى أن لبس شعار السلطنة، وجلس على التخت في يوم الاثنين عاشر شوّال، وقلوب الأمراء نافرة منه لإعراضه عنهم، فساءت سيرته، ثم خرج إلى الكرك في يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة، واستخلف الأمير آق سنقر السلاريّ نائب الغيبة. فلما وصل قبة النصر نزل عن فرسه ولبس ثياب العرب ومضى مع خواصه أهل الكرك على البريد، وترك الأطلاب فسارت على البرّ حتى وافته بالكرك، فردّ العسكر إلى بلد الخليل وأقام بقلعة الكرك، وتصرّف أقبح تصرّف، فخلعه الأمراء في يوم الأربعاء حادي عشري المخرّم، سنة ثلاث وأربعين، فكانت مدّته ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوما. وأقاموا بعده أخاه. السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل: في يوم الخميس ثاني عشري المحرّم المذكور، وقام الأمير أرغون زوج أمّه بتدبير المملكة مع مشاركة عدّة من الأمراء، وسارت الأمراء والعساكر لقتال الناصر أحمد في الكرك حتى أخذ وقتل، فلما أحضرت رأسه إلى السلطان الصالح ورآها فزع، ولم يزل يعتاده المرض حتى مات ليلة الخميس رابع عشر ربيع الآخر سنة ست وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّته ثلاث سنين وشهرين وأحد عشر يوما. وقام بعده أخوه. السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان: بعهد أخيه وجلس على التخت من غد، فأوحش ما بينه وبين الأمراء حتى ركبوا عليه، فركب لقتالهم فلم يثبت من معه وعاد إلى القلعة منهزما، فتبعه الأمراء وخلعوه، وذلك في يوم الاثنين مستهلّ جمادى الآخرة سنة سبع

وأربعين وسبعمائة، فكانت مدّته سنة وثمانية وخمسين يوما. فأقيم بعده أخوه. السلطان الملك المظفر زين الدين حاجي: من يومه، فساءت سيرته وانهمك في اللعب، فركب الأمراء عليه، فركب إليهم وحاربهم فخانه من معه وتركوه حتى أخذ وذبح في يوم الأحد، ثاني عشر رمضان، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وكانت مدّته سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوما. وأقيم من بعده أخوه. السلطان الملك الناصر بدر الدين أبو المعالي حسن بن محمد: في يوم الثلاثاء رابع عشرة، وعمره إحدى عشرة سنة، فلم يكن له من الأمر شيء، والقائم بالأمر الأمير شيخو العمريّ، فلما أخذ في الاستبداد بالتصرّف خلع وسجن في يوم اثنين ثامن عشري جمادى الآخرة، سنة اثنتين وخمسين، فكانت مدّته أربع سنين تنقص خمسة عشر يوما، منها تحت الحجر ثلاث سنين ونيف، ومدّة استبداده نحو من تسعة أشهر. وأقيم من بعده أخوه. السلطان الملك الصالح صلاح الدين صالح: في يوم الاثنين المذكور، فكثر لهوه وخرج عن الحدّ في التبذل واللعب، فثار عليه الأميران شيخو وطاز وقبضا عليه وسجناه بالقلعة، في يوم الاثنين ثاني شوّال، سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فكانت مدّته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وأعيد السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون: في يوم الاثنين المذكور، فأقام حتى قام عليه مملوكه الأمير يلبغا الخاصكيّ وقتله في ليلة الأربعاء، تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين، فكانت مدّته هذه ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام. وأقيم من بعده ابن أخيه السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن المظفر حاجي بن محمد بن قلاون: وعمره أربع عشرة سنة، في يوم الأربعاء المذكور، وقام بالأمر الأمير يلبغا، ثم خلعه وسجنه بالقلعة في يوم الاثنين رابع عشر شعبان، سنة أربع وستين وسبعمائة. وأقام بعده السلطان الملك الأشرف زين الدين أبا المعالي شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن المنصور قلاون: وعمره عشر سنين، في يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان المذكور، ولم يل من بني قلاون من أبوه لم يتسلطن سواه، فأقام تحت حجر يلبغا حتى قتل يلبغا في ليلة الأربعاء عاشر ربيع الآخر، سنة ثمان وستين وسبعمائة، فأخذ يستبدّ بملكه حتى انفرد بتدبيره، إلى أن قتل في يوم الثلاثاء سادس ذي القعدة، سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، بعد ما أقيم بدله ابنه في السلطنة، فكانت مدّته أربع عشرة سنة وشهرين وخمسة عشر يوما. فقام بالأمر ابنه السلطان الملك المنصور علاء الدين عليّ بن شعبان بن حسين: وعمره

ذكر دولة المماليك الجراكسة

سبع سنين، في يوم السبت ثالث ذي القعدة المذكور، وأبوه حيّ، فلم يكن حظه من السلطنة سوى الاسم حتى مات في يوم الأحد، ثالث عشري صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، فكانت مدّته خمس سنين وثلاثة أشهر وعشرين يوما. فأقيم بعده أخوه السلطان الملك الصالح زين الدين حاجي: في يوم الاثنين رابع عشري صفر المذكور، فقام بأمر الملك وتدبير الأمور الأمير الكبير برقوق، حتى خلعه في يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فكانت مدّته سنة وشهرين ينقصان أربعة أيام، وبه انقضت دولة المماليك البحرية الأتراك وأولادهم، ومدّتهم مائة وست وثلاثون سنة وسبعة أشهر وتسعة أيام، أوّلها يوم الخميس عاشر صفر سنة ثمان وأربعين وستمائة، وآخرها يوم الثلاثاء ثامن عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وعدّتهم أربعة وعشرون ذكرا، ما بين رجل وصبيّ، وامرأة واحدة، وأوّلهم امرأة وآخرهم صبيّ ولما أقيم الناصر حسن بعد أخيه المظفر حاجي طلب المماليك الجراكسة الذين قرّبهم المظفر بسفارة الأمير أغرلو، فإنه كان يدّعي أنه كان جركسيّ الجنس، وجلبهم من أماكن حتى ظهروا في الدولة وكبرت عمائمهم وكلوتاتهم، فأخرجوا منفيين أنحس خروج، فقدموا على البلاد الشامية والله تعالى أعلم. ذكر دولة المماليك الجراكسة وهم واللاض والروس أهل مدائن عامرة، وجبال ذات أشجار، ولهم أغنام وزروع، وكلهم في مملكة صاحب مدينة سراي قاعدة خوارزم، وملوك هذه الطوائف لملك سراي كالرعية، فإن داروه وهادوه كفّ عنهم، وإلّا غزاهم وحصرهم، وكم مرجة قتلت عساكره منهم خلائق، وسبت نساءهم وأولادهم، وجلبتهم رقيقا إلى الأقطار، فأكثر المنصور قلاون من شرائهم، وجعلهم وطائفة اللاض جميعا في أبراج القلعة، وسماهم البرجية، فبلغت عدّتهم ثلاثة آلاف وسبعمائة، وعمل منهم أوشاقية «1» وجمقدارية وجاشنكيرية وسلاحدارية، وأوّلهم: السلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق بن آنص: أخذ من بلاد الجركس وبيع ببلاد القرم، فجلبه خواجا فخر الدين عثمان بن مسافر إلى القاهرة، فاشتراه منه الأمير الكبير يلبغا الخاصكيّ وأعتقه وجعله من جملة مماليكه الأجلاب، فيعرف ببرقوق العثمانيّ. فلما قتل يلبغا أخرج الملك الأشرف الأجلاب من مصر، فسار منهم برقوق إلى الكرك، فأقام في عدّة منهم مسجونا بها عدّة سنين، ثم أفرج عنه وعمن كان معه، فمضوا إلى دمشق وخدموا عند الأمير منجك نائب الشام حتى طلب الأشرف اليلبغاوية، فقدم برقوق في جملتهم واستقرّ في

خدمة ولدي السلطان عليّ وحاجي مع من استقرّ من خشداشيته «1» ، فعرفوا باليلبغاوية إلى أن خرج السلطان إلى الحج، فثاروا بعد سفره وسلطنوا ابنه عليا، وحكم في الدولة منهم الأمير قرطاي الشهابيّ، فثار عليه خشداشية أينبك البدريّ، فأخرجه إلى الشام وقام بعده بتدبير الدولة، وخرج إلى الشام فثارت عليه اليلبغاوية وفيهم برقوق، وقد صار من جملة الأمراء، فعاد قبل وصوله بلبيس، ثم قبض عليه، وقام بتدبير الدولة غير واحد في أيام يسيرة، فركب برقوق في يوم الأحد ثالث عشري ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وسبعمائة، وقت الظهيرة، في طائفة من خشداشيته وهجم على باب السلسلة وقبض على الأمير يلبغا الناصريّ، وهو القائم بتدبير الدولة، وملك الإصطبل وما زال به حتى خلع الصالح حاجي وتسلطن في يوم الأربعاء تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة وقت الظهر، فغير العوائد وأفنى رجال الدولة، واستكثر من جلب الجراكسة إلى أن ثار عليه الأمير يلبغا الناصريّ، وهو يومئذ نائب حلب، وسار إليه ففرّ من قلعة الجبل في ليلة الثلاثاء خامس جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين، وملك الناصريّ القلعة وأعاد الصالح حاجي ولقبه بالملك المنصور، وقبض على برقوق وبعثه إلى الكرك فسجنه بها، فثار الأمير منطاش على الناصري وقبض عليه وسجنه بالإسكندرية، وخرج يريد محاربة برقوق وقد خرج من سجن الكرك، وسار إلى دمشق في عسكر، فحاربه برقوق على شقجب ظاهر دمشق وملك ما معه من الخزائن، وأخذ الخليفة والسلطان حاجي والقضاة وسار إلى مصر، فقدمها يوم الثلاثاء رابع عشر صفر سنة اثنتين وتسعين، واستبدّ بالسلطنة حتى مات ليلة الجمعة للنصف من شوّال سنة إحدى وثمانمائة، فكانت مدّته أتابكا وسلطانا إحدى وعشرين سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوما، خلع فيها ثمانية أشهر وتسعة أيام. وقام من بعده ابنه. السلطان الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج: في يوم الجمعة المذكور، وعمره نحو العشر سنين، فدبر أمر الدولة الأمير الكبير ايتمش، ثم ثار به الأمير يشبك وغيره، ففرّ إلى الشام وقتل بها، ولم تزل أيام الناصر كلها كثيرة الفتن والشرور والغلاء والوباء، وطرق بلاد الشام فيها الأمير تيمورلنك فخرّبها كلها وحرّقها، وعمها بالقتل والنهب والأسر حتى فقد منها جميع أنواع الحيوانات، وتمزق أهلها في جميع أقطار الأرض، ثم دهمها بعد رحيله عنها جراد لم يترك بها خضراء، فاشتدّ بها الغلاء على من تراجع إليها من أهلها، وشنع موتهم، واستمرّت بها مع ذلك الفتن، وقصر مدّ النيل بمصر حتى شرقت الأراضي إلّا قليلا، وعظم الغلاء والفناء، فباع أهل الصعيد أولادهم من الجوع، وصاروا أرقاء مملوكين، وشمل الخراب الشنيع عامّة أرض مصر وبلاد الشام من حيث يصب النيل من الجنادل إلى حيث مجرى الفرات، وابتلى مع ذلك بكثرة فتن الأميرين نوروز الحافظي

وشيخ المحموديّ، وخروجهما ببلاد الشام عن طاعته، فتردّد لمحاربتهما مرارا حتى هزماه ثم قتلاه بدمشق، في ليلة السبت سادس عشر صفر سنة خمس عشرة وثمانمائة، فكانت مدّته منذ مات أبوه إلى أن فرّ في يوم الأحد خامس عشري ربيع الأول سنة ثمان وثمانمائة، واختفى، وأقيم بعده أخوه عبد العزيز، ولقب الملك المنصور ست سنين وخمسة أشهر وأحد عشر يوما، وأقام الناصر في الاختفاء سبعين يوما ثم ظهر في يوم السبت خامس عشر جمادي الآخرة، واستولى على قلعة الجبل واستبدّ بملكه أقبح استبداد، إلى أن توجه لحرب نوروز وشيخ وقاتلهما على اللجون، في يوم الاثنين ثالث عشر المحرّم، سنة خمس عشرة، فانهزم إلى دمشق وهما في إثره، وقد صار الخليفة المستعين بالله في قبضتهما ومعه مباشر والدولة، فنزلا على دمشق وحصراه، ثم ألزما الخليفة بخلعة من السلطنة فلم يجد بدّا من ذلك وخلعه في يوم السبت خامس عشرية، ونودي بذلك في الناس، فكانت مدّته الثانية ست سنين وعشرة أشهر سواء. وأقيم من بعده الخليفة المستعين بالله أمير المؤمنين أبو الفضل العباس بن محمد العباسي: وأصل هؤلاء الخلفاء بمصر، أنّ أمير المؤمنين المستعصم بالله عبد الله آخر خلفاء بني العباس، لما قتله هولاكو بن تولي بن جنكزخان في صفر سنة ست وخمسين وستمائة ببغداد وخلت الدنيا من خليفة، وصار الناس بغير إمام قرشيّ إلى سنة تسع وخمسين، فقدم الأمير أبو القاسم أحمد بن الخليفة الظاهر أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر العباسيّ من بغداد إلى مصر، في يوم الخميس تاسع رجب منها، فركب السلطان الملك الظاهر بيبرس إلى لقائه وصعد به قلعة الجبل، وقام بما يجب من حقه وبايعه بالخلافة وبايعه الناس، وتلقب بالمستنصر، ثم توجّه لقتال التتر ببغداد فقتل في محاربتهم، لأيام خلت من المحرّم سنة ستين وستمائة، فكانت خلافته قريبا من سنة. ثم قدم من بعده الأمير أبو العباس أحمد بن أبي عليّ الحسن بن أبي بكر من ذرية الخليفة الراشد بالله أبي جعفر منصور بن المسترشد، في سابع عشري ربيع الأوّل، فأنزله السلطان في برج بقلعة الجبل وأجرى عليه ما يحتاج إليه، ثم بايعه في يوم الخميس ثامن المحرّم سنة إحدى وستين بعد ما أثبت نسبه على قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، ولقّبه بالحاكم بأمر الله، وبايعه الناس كافة، ثم خطب من الغد وصلى بالناس الجمعة في جامع القلعة، ودعي له من يومئذ على منابر أراضي مصر كلها قبل الدعاء للسلطان، ثم خطب له على منابر الشام، واستمرّ الحال على الدعاء له ولمن جاء من بعده من الخلفاء، وما زال بالبرج إلى أن منعه السلطان من الاجتماع بالناس في المحرّم سنة ثلاث وستين، فاحتجب وصار كالمسجون زيادة على سبع وعشرين سنة، بقية أيام الظاهر بيبرس وأيام ولديه محمد بركة وسلامش، وأيام قلاون. فلما صارت السلطنة إلى الأشرف خليل بن قلاون أخرجه من سجنه مكرّما، في يوم الجمعة العشرين من شهر رمضان، سنة

تسعين وستمائة، وأمره فصعد منبر الجامع بالقلعة وخطب وعليه سواده، وقد تقلد سيفا محلّى، ثم نزل فصلى بالناس صلاة الجمعة قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وخطب أيضا خطبة ثالثة في يوم الجمعة تاسع عشري ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين، وحج سنة أربع وتسعين، ثم منع من الاجتماع بالناس، فامتنع حتى أفرج عنه المنصور لاجين في سنة ست وتسعين وأسكنه بمناظر الكبش، وأنعم عليه بكسوة له ولعياله، وأجرى عليه ما يقوم به، وخطب بجامع القلعة خطبة رابعة وصلى بالناس الجمعة، ثم حج سنة سبع وتسعين، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، سنة إحدى وسبعمائة، فكانت خلافته مدّة أربعين سنة ليس له فيها أمر ولا نهي، إنما حظه أن يقال أمير المؤمنين، وكان قد عهد إلى ابنه الأمير أبي عبد الله محمد المستمسك، ثم من بعده لأخيه أبي الربيع سليمان المستكفي، فمات المستمسك في حياته، واشتدّ جزعه عليه، فعهد لابنه إبراهيم بن محمد المستمسك. فلما مات الحاكم أقيم من بعده ابنه المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بعده له، فشهد وقعة شقجب مع الملك الناصر محمد بن قلاون وعليه سواده، وقد أرخى له عذبة طويلة وتقلد سيفا عربيا محلى، ثم تنكر عليه وسجنه في برج بالقلعة نحو خمسة أشهر، وأفرج عنه وأنزله إلى داره قريبا من المشهد النفيسيّ بتربة شجرة الدر، فأقام نحو ستة أشهر وأخرجه إلى قوص في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وقطع راتبه وأجرى له بقوص ما يتقوّت به، فمات بها في خامس شعبان سنة أربعين. وعهد إلى ولده، فلم يمض الملك الناصر محمد عهده، وبويع ابن أخيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بيعة خفية لم تظهر، في يوم الاثنين خامس عشري شعبان المذكور، وأقام الخطباء أربعة أشهر لا يذكرون في خطبهم الخليفة، ثم خطب له في يوم الجمعة سابع ذي القعدة منها، ولقب بالواثق بالله، فلما مات الناصر محمد وأقيم بعده ابنه المنصور أبو بكر استدعى أبو القاسم أحمد بن أبي الربيع سليمان، وأقيم في الخلافة ولقب بالحاكم بعد ما كان يلقب بالمستنصر، وكني بأبي العباس، في يوم السبت سلخ ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وفاستمرّ حتى مات في يوم الجمعة رابع شعبان، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. فأقيم بعده أخوه المعتضد بالله أبو بكر، وكنيته أبو الفتح بن أبي الربيع سليمان، في يوم الخميس سابع عشرة واستقرّ مع ذلك في نظر مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها ليستعين بما يريد إلى ضريحها من نذر العامّة على قيام أوده، فإن مرتب الخلفاء كان على مكس الصاغة، وحسبه أن يقوم بما لا بدّ منه في قوتهم، فكانوا أبدا في عيش غير موسع، فحسنت حال المعتضد بما يبيعه من الشمع المحمول إلى المشهد النفيسيّ ونحوه إلى أن توفي يوم

الثلاثاء عاشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين، وكان يبلغ بالكاف، وحج مرّتين إحداهما سنة أربع وخسمسين، والثانية سنة ستين. فأقيم بعده ابنه المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بعهده إليه في يوم الخميس ثاني عشرة، وخلع عليه بين يدي السلطان الملك المنصور محمد بن الملك المظفر حاجي، وفوّض إليه نظر المشهد، ونزل إلى داره فلم يزل حتى تنكر له الأمير أينبك في أوّل ذي القعدة سنة ثمان وسبعين بعد قتل الملك الأشرف شعبان بن حسين، وأخرجه ليسير إلى قوص. وأقام عوضه في الخلافة ابن عمه زكريا بن إبراهيم بن محمد في ثالث عشري صفر سنة تسع وسبعين، وكان قد أمر بردّ المتوكل من نفيه، فردّ إلى منزله من يومه، فأقام به حتى رضي عنه أينبك وأعاده في العشرين من ربيع الأوّل منها إلى خلافته، ثم سخط عليه الظاهر برقوق وسجنه مقيدا في يوم الاثنين أوّل رجب سنة خمس وثمانين، وقد وشي به أنه يريد الثورة وأخذ الملك. وأقيم بعده في الخلافة الواثق بالله أبو حفص عمر بن المعتصم أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحاكم، في يوم الاثنين المذكور، فما زال خليفة حتى مات يوم السبت تاسع شوّال سنة ثمان وثمانين. فأقام الظاهر بعده في الخلافة أخاه زكريا بن إبراهيم في يوم الخميس ثامن عشرية، ولقب بالمستعصم، وركب بالخلعة وبين يديه القضاة من القلعة إلى منزله، فلما أشرف الظاهر برقوق على زوال ملكه وقرب الأمير يلبغا الناصريّ نائب حلب بالعساكر، استدعى المتوكل على الله من محبسه وأعاده إلى الخلافة، وخلع عليه في يوم الأربعاء أوّل جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين، وبالغ في تعظيمه، وأنعم عليه، فلم يزل على خلافته حتى توفي ليلة الثلاثاء ثامن عشري رجب سنة ثمان وثمانمائة، وهو أوّل من اتسعت أحواله من الخلفاء بمصر، وصار له إقطاعات ومال. فأقيم في الخلافة بعده ابنه المستعين بالله أبو الفضل العباس، وخلع عليه في يوم الاثنين رابع شعبان بالقلعة بين يدي الناصر فرج بن برقوق، ونزل إلى داره ثم سار مع الناصر إلى الشام، وحضر معه وقعة اللجون حتى انهزم، فدعاه الأميران شيخ ونوروز فمضى من موقفه إليهما ومعه مباشر والدولة، فأنزلاه ووكلا به وسارا به لحصار الناصر، ثم ألزماه حتى خلعه من السلطنة، وأقامه شيخ في السلطنة وبايعه ومن معه، في يوم السبت خامس عشري المحرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة، وبعث إلى نوروز وهو بشماليّ دمشق حتى بايعه، فنالوا بإقامته أغراضهم من قتل الناصر وانتظام أمرهم، ثم سار به شيخ إلى مصر وأقام نوروز بدمشق، فلما قدم به أسكنه القلعة ونزل هو بالحراقة من باب السلسلة، وقام بجميع الأمور وترك الخليفة في غاية الحصر، حتى استبدّ بالسلطنة، فكانت مدّة الخليفة منذ أقاموه سلطانا

سبعة أشهر وخمسة أيام، ونقل الخليفة إلى بعض دور القلعة ووكل به من يحفظه وأهله وقام من بعده بالسلطانة. السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحموديّ: أحد مماليك الظاهر برقوق، في يوم الاثنين أوّل شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، فسجن الخليفة في برج بالقلعة ثم حمله إلى الإسكندرية، فسجنه بها، ولم يزل سلطانا حتى مات في يوم الاثنين ثامن المحرّم سنة أربع وعشرين، فكانت مدّته ثمان سنين وخمسة أشهر وستة أيام. فأقيم بعده ابنه. السلطان الملك المظفر شهاب الدين أبو السعادات أحمد: وعمره سنة واحدة ونصف، فقام بأمره الأمير ططر، وفرّق ما جمعه المؤيد من الأموال، وخرج بالمظفر يريد محاربة الأمراء بالشام، فظفر بهم، وخلع المظفر، وكانت مدّته ثمانية أشهر تنقص سبعة أيام. وقام بعده. السلطان الملك الظاهر أبو الفتح ططر: أحد مماليك الظاهر برقوق، وجلس على التخت بقلعة دمشق في يوم الجمعة تاسع عشري شعبان، سنة أربع وعشرين، وقدم إلى قلعة الجبل وهو موعوك البدن، في يوم الخميس رابع شوّال، فثقل في مرضه من يوم الاثنين ثاني عشرية حتى مات في الأحد، رابع عشري ذي الحجة، فكانت مدّته ثلاثة أشهر ويومين، فأقيم بعده ابنه. السلطان الملك الصالح ناصر الدين محمد: وعمره نحو عشر سنين، فقام بأمره الأمير برسباي الدقاقيّ، ثم خلعه بعد أربعة أشهر وأربعة أيام. وقام من بعده. السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي: أحد مماليك الظاهر برقوق، وجلس على تخت الملك في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر، سنة خمس وعشرين وثمانمائة. هذا آخر الجزء الثالث من أصل مصنفه الإمام المقريزيّ رحمه الله تعالى ورضي عنه. ووجد على هامش بعض النسخ ما صورته: وتوفي الأشرف برسباي ثالث عشر ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، فكانت مدّته ست عشرة سنة وتسعة شهور، ثم قام من بعده ولده: الملك العزيز يوسف، وسنّه نحو خمس عشرة سنة، ثم خلع في تاسع عشر ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، فكانت مدّته نحو ثلاثة أشهر. وقام من بعده الملك الظاهر جقمق في تاسع عشر ربيع المذكور، وخلع نفسه من الملك في مرض موته، وتولى بعده بعهده ولده. الملك المنصور عثمان في حادي عشري المحرّم سنة سبع وخمسين وثمانمائة، فكانت مدّة الظاهر جقمق أربع عشرة سنة ونحو عشرة شهور، ثم خلع ولده المنصور عثمان في سابع ربيع الأوّل سنة سبع وخمسين وثمانمائة،

فأقام في الملك أحدا وأربعين يوما، وتولى عوضه الملك الأشرف أينال: في ثامن من ربيع الأوّل سنة سبع وخمسين وثمانمائة، وخلع نفسه في مرض موته في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثمانمائة، فكانت مدّته ثمان سنين وشهرين، وتولى بعده ولده الملك المؤيد أحمد ثم خلع في ثامن عشر رمضان سنة خمس وستين وثمانمائة، فكانت مدّته أربعة أشهر. وتولى الملك الظاهر خشقدم تاسع عشر رمضان، سنة خمس وستين وثمانمائة، ومات عشر شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وسبعين، فكانت مدّته نحو ست سنين ونصف. ثم تولى الملك الظاهر بلباي في حادي عشر الشهر المذكور، ثم خلع في سابع جمادى الأولى من السنة المذكورة، فكانت مدّته ستة وخمسين يوما. ثم تولى الملك الظاهر تمربغا في ثامن جمادى الأولى المذكور، ثم خلع في العشر الأول من شهر رجب الفرد، سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، وكانت مدّته نحو تسعة وخمسين يوما، وتولى الملك الأشرف قايتباي في ثاني عشر رجب من السنة المذكورة، وتوفي في ثاني عشري ذي القعدة سنة إحدى وتسعمائة، فكانت مدّته تسعا وعشرين سنة وأربعة شهور وأياما. وتولى بعده ولده الملك الناصر محمد في التاريخ المذكور، ثم قتل بالجيزة في آخر يوم الأربعاء، النصف من ربيع الأوّل سنة أربع وتسعمائة، فكانت مدّته سنتين وثلاثة أشهر وأياما. ثم تولى خاله الملك الظاهر قانصوه الأشرفيّ قايتباي في ضحوة يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل المذكور، ثم خلع في سابع ذي الحجة سنة خمس وتسعمائة، فكانت مدّته نحو عشرين شهرا. وتولى عوضه الملك الأشرف جان بلاط الأشرفيّ قايتباي، وأتانا خبرة بمنزله الجديدة في العود من المدينة الشريفة، في يوم الجمعة سادس عشري ذي الحجة سنة خمس وتسعمائة، فكانت مدّته ستة شهور وأياما، ثم خلع في يوم السبت ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ست وتسعمائة وتولى الملك العادل طومان باي الأشرفيّ قايتباي ثم خلع سلخ رمضان من السنة المذكورة، فكانت مدّته نحو مائة يوم، وتولى بعده الملك الأشرف قانصوه الغوريّ الأشرفيّ قايتباي مستهل شوال من السنة المذكورة، انتهى والله تعالى أعلم بالصواب. تم الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع وأوله: «ذكر المساجد الجامعة» .

الجزء الرابع

الجزء الرابع ذكر المساجد الجامعة بسم الله الرّحمن الرّحيم اعلم أن أرض مصر لما فتحت في سنة عشرين من الهجرة، واختط الصحابة رضي الله عنهم فسطاط مصر كما تقدّم، لم يكن بالفسطاط غير مسجد واحد، وهو الجامع الذي يقال له في مدينة مصر الجامع العتيق، وجامع عمرو بن العاص. وما برح الأمر على هذا إلى أن قدم عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من العراق، في طلب مروان بن محمد في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فنزل عسكره في شماليّ الفسطاط، وبنوا هناك الأبنية، فسمي ذلك الموضع بالعسكر، وأقيمت هناك الجمعة في مسجد، فصارت الجمعة تقام بمسجد عمرو بن العاص وبجامع العسكر، إلى أن بنى الأمير أحمد بن طولون جامعه على جبل يشكر، في سنة تسع وخمسين ومائتين، حين بنى القطائع، فتلاشى من حينئذ جامع العسكر، وصارت الجمعة تقام بجامع عمرو وبجامع ابن طولون، إلى أن قدم جوهر القائد من بلاد القيروان بالمغرب، ومعه عساكر مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ، فبنى القاهرة وبنى الجامع الذي يعرف بالجامع الأزهر في سنة ستين وثلاثمائة، فكانت الجمعة تقام في جامع عمرو، وجامع ابن طولون، والجامع الأزهر، وجامع القرافة الذي يعرف اليوم بجامع الأولياء. ثم إنّ العزيز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدين الله، بنى في ظاهر القاهرة من جهة باب الفتوح الجامع الذي يعرف اليوم بجامع الحاكم، في سنة ثمانين وثلاثمائة، وأكمله ابنه الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور، وبنى جامع المقس، وجامع راشدة، فكانت الجمعة تقام في هذه الجوامع كلها إلى أن انقرضت دولة الخلفاء الفاطميين، في سنة سبع وستين وخمسمائة، فبطلت الخطبة من الجامع الأزهر، واستمرّت فيما عداه. فلما كانت الدولة التركية حدث بالقاهرة والقرافة ومصر وما بين ذلك عدّة جوامع، أقيمت فيها الجمعة، وما برح الأمر يزداد حتى بلغ عدد المواضع التي تقام بها الجمعة، فيما بين مسجد تبر خارج القاهرة من بحريها إلى دير الطين قبليّ مدينة مصر، زيادة على مائة موضع. وسيأتي من ذكر ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. وقد بلغت عدّة المساجدة التي تقام بها الجمعة مائة وثلاثين مسجدا. منها: بمدينة مصر: جامع عمرو بن العاص، والجامع الجديد، والمدرسة المعزية، وجامع ابن اللبان،

وجامع القرّاء، وجامع تقيّ الثمار، وجامع راشدة، وجامع الفيلة، وجامع دير الطين، وجامع بساتين الوزير. ومنها بالقرافة: جامع الأولياء، وجامع الأفرم، وخانكاه بكتمر، وجامع ابن عبد الظاهر، وجامع الجوّاني، وجامع الضراب، وجامع قوصون، وجامع الشافعيّ، وجامع الديليّ، وجامع محمود، وجامع بقرب تربة الست. ومنها بالروضة: جامع المقياس، وجامع عين، وجامع الرئيس، وجامع الأباريقيّ، وجامع المقسيّ. ومنها بالحسينية خارج القاهرة: جامع أحمد الزاهد، وجامع آل ملك، وجامع كزاي، وجامع الكافوريّ، بالقرب من السميساطية، وجامع الخندق، وجامع نائب الكرك، وجامع سويقة الجميزة، وجامع قيدار، وجامع ابن شرف الدين، وجامع الظاهر، وجامع الحاج كمال التاجر، تجدّد هو وجامع سويقة الجميزة في أيام الظاهر برقوق. ومنها خارج القاهرة مما يلي النيل: جامع كوم الريش، جامع جزيرة الفيل، جامع أمين الدين بن تاج الدين موسى، جامع الفخر على النيل، جامع الأسيوطي، جامع الواسطيّ، جامع ابن بدر، جامع الخطيري، جامع ابن غازي، جامع المقس، جامع ابن التركمانيّ، جامع بنت التركمانيّ، جامع الطواشي، جامع باب الرخاء، جامع الزاهد، جامع ميدان القمح، جامع صاروجا، جامع ابن زيد، جامع بركة الرطليّ، جامع الكيمختي، جامع باب الشعرية، جامع ابن مياله، جامع ابن المغربيّ، جامع العجميّ بقنطرة الموسكي، الجامع المعلق بقنطرة الموسكي أيضا، جامع الجاكي بسويقة الريش، جامع السروجيّ بسويقة الريش أيضا، جامع البكجريّ، جامع ابن حسون بالدكة، جامع ابن المغربيّ على الخليج، جامع الطباخ بخط اللوق، جامع الست نصيرة بخط باب اللوق حيث كان الكوم، فحفر فإذا بقبر عرف بالست نصيرة، وعمل عليه مسجد وأقيمت به الجمعة في أيام الظاهر برقوق. جامع شاكر بجوار قنطرة قدادار عمّر سنة ست وعشرين وثمانمائة، جامع غيط القاصد خلف قنطرة قدادار، جامع الجزيرة الوسطى، جامع كريم الدين بخط الزريبة، جامع ابن غلامها بخط الزريبة أيضا، الجامع الأخضر، جامع سويقة الموفق، جامع سلطان شاه بباب الخرق، جامع زين الدين الخشاب خارج باب الروق، كان زاوية للفقراء فأقيمت به الجمعة بعد سنة ثمانمائة، جامع منكلي بسويقة القيمريّ. ومنها فيما بين القاهرة ومصر: جامع بشتاك، جامع الإسماعيليّ على البركة الناصرية، جامع الست مسكة، جامع آق سنقر بمجرى السقائين، جامع الشيخ محمد بن حسن الحنفيّ، جامع ست حدق بالمريس، جامع الطيبرسيّ، جامع الرحمة عمارة الصاحب أمين الدين عبد الله بن غنام، جامع منشأة المهرانيّ، جامع يونس بالسبع سقايات على البركة، جامع بركة الاستادار بحدرة ابن قيحة، جامع ابن طولون، جامع المشهد النفيسيّ، جامع

ذكر الجوامع

البقليّ بالقبيبات، جامع شيخو، جامع قانباي برلس، سويقة منعم، جامع الماس، جامع قوصون، جامع الصالح بمدرسة الناصر حسن بسوق الخيل، جامع الجاي، جامع الماردينيّ، جامع أصلم. ومنها بقلعة الجبل: الجامع الناصريّ، جامع التوبة، جامع الإصطبل، الجامع المؤيدي. ومنها: خارج القاهرة بالترب وما قرب من القلعة: تربة جوش، وتربة الظاهر برقوق، وتربة طشتمر حمص أخضر بالصحراء، جامع الخضري، جامع التوبة، الجامع المؤيدي. ومنها بالقاهرة: الجامع الأزهر، والجامع الحاكميّ، والجامع الأقمر، ومدرسة الظاهر برقوق، والمدرسة الصالحية، والحجازية، والمشهد الحسينيّ، وجامع الفاكهاني، والزمامية، والصاحبية، والبوبكرية، والجامع المؤيديّ، والأشرفية، وجامع الدواداري قريبا من البرقية، وجامع التوبة بالبرقية، مدرسة ابن البقريّ، والباسطية. ذكر الجوامع اعلم أنه لما اتصلت مباني القاهرة المعزية بمباني مدينة فسطاط مصر، بحيث صارتا كأنهما مدينة واحدة، واتخذ أهل القاهرة وأهل مصر القرافتين لدفن أمواتهم، ذكرت ما في هذه المواضع الأربع من المساجد الجامعة، وأضفت إليها ما في جزيرة فسطاط مصر التي يقال لها الروضة من الجوامع أيضا، فإنها منتزه أهل البلدين، وجمعت إلى ذلك ما في ظواهر القاهرة ومصر من الجوامع، مع التعريف بحال من أسسها. وبالله التوفيق. الجامع العتيق هذا الجامع بمدينة فسطاط مصر، ويقال له تاج الجوامع، وجامع عمرو بن العاص، وهو أوّل مسجد أسس بديار مصر في الملة الإسلامية بعد الفتح. خرّج الحافظ أبو القاسم بن عساكر من حديث معاوية بن قرّة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من صلّى صلاة مكتوبة في مسجد مصر من الأمصار، كانت له كحجة متقبلة، فإن صلّى تطوّعا كانت له كعمرة مبرورة. وعن كعب: من صلّى في مسجد مصر من الأمصار صلاة فريضة، عدلت حجة متقبلة، ومن صلّى صلاة تطوع عدلت عمرة متقبلة، فإن أصيب في وجهه ذلك، حرّم لحمه ودمه على النار أن تطعمه، وذنبه على من قتله. وأول مسجد بني في الإسلام مسجد قبا، ثم مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال هشام بن عمار: حدّثنا المغيرة بن المغيرة، حدّثنا يحيى بن عطاء الخراسانيّ عن أبيه. قال: لما افتتح عمر البلدان، كتب إلى أبي موسى وهو على البصرة يأمره أن يتخذ مسجدا للجماعة، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك، وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على

مصر بمثل ذلك، وكتب إلى أمراء أجناد الشام أن لا يتبدّدوا إلى القرى، وأن ينزلوا المدائن، وأن يتخذوا في كلّ مدينة مسجدا واحدا، ولا تتخذ القبائل مساجد، فكان الناس متمسكين بأمر عمر وعهده. وقال أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن حفص الكنديّ، في كتاب أخبار مسجد أهل الراية الأعظم: وأوّل أمره وبنائه وزيادة الأمراء فيه وغيرهم، ومجالس الحكام والفقهاء منه وغير ذلك، قال هبيرة بن أبيض عن شيخه تجيب: أن قيسبة بن كلثوم التجيبيّ أحد بني سوم، سار من الشام إلى مصر مع عمرو بن العاص، فدخلها في مائة راحلة وخمسين عبدا وثلاثين فرسا، فلما أجمع المسلمون وعمرو بن العاص على حصار الحصن، نظر قيسبة بن كلثوم فرأى جنانا تقرب من الحصن، فعرّج إليها في أهله وعبيده، فنزل وضرب فيها فسطاطه وأقام فيها طول حصارهم الحصن حتى فتحه الله عليهم ثم خرج قيسبة مع عمرو إلى الإسكندرية وخلف أهله فيها، ثم فتح الله عليهم الإسكندرية، وعاد قيسبة إلى منزله هذا فنزله، واختط عمرو بن العاص داره مقابل تلك الجنان التي نزلها قيسبة، وتشاور المسلمون أين يكون المسجد الجامع، فرأوا أن يكون منزل قيسبة، فسأله عمرو فيه وقال: أنا أختط لك يا أبا عبد الرحمن حيث أحببت. فقال قيسبة: لقد علمتم يا معاشر المسلمين أني حزت هذا المنزل وملكته، وإني أتصدّق به على المسلمين وارتحل، فنزل مع قومه بني سوم واختط فيهم، فبني مسجدا في سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وفي ذلك يقول أبو قبان بن نعيم بن بدر التجيبي: وبابليون «1» قد سعدنا بفتحها ... وحزنا لعمر الله فيأ ومغنما وقيسبة الخير بن كلثوم داره ... أباح حماها للصلاة وسلّما فكلّ مصلّ في فنانا صلاته ... تعارف أهل المصر ما قلت فاعلما وقال أبو مصعب قيس بن سلمة الشاعر في قصيدته التي امتدح فيها عبد الرحمن بن قيسبة: وأبوك سلّم داره وأباحها ... لجباه قوم ركّع وسجود وقال الليث بن سعد: كان مسجدنا هذا حدائق وأعنابا. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ: ومن جملة مزارعها جامع مصر، وقد بقي إلى الآن من جملة الأنشاب التي كانت في البستان في موضع الجامع، شجرة زنزلخت، وهي باقية إلى الآن خلف المحراب الكبير والحائط الذي به المنبر، ومن العلماء من قال: إنّ هذه الشجرة باقية من عهد موسى عليه السلام، وكان لها نظير شجرة أخرى في الورّاقين، احترقت في حريق مصر سنة أربع وستين وخمسمائة، وظهر بالجامع العتيق بئر البستان التي كانت به، وهي اليوم يستقي منها الناس الماء بموضع حلة الفقيه ابن الجيزيّ المالكيّ.

قال الكنديّ: وقال يزيد بن أبي حبيب: سمعت أشياخنا ممن حضر مسجد الفتح يقولون: وقف على إقامة قبلة المسجد الجامع ثمانون رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيهم الزبير بن العوام، والمقداد، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعقبة بن عامر، رضي الله عنهم. وفي رواية أسس مسجدنا هذا أربعة من الصحابة، أبو ذر، وأبو بصيرة، ومحمئة بن جزء الزبيديّ ونبيه بن صواب. وقال عبد الله بن أبي جعفر: أقام محرابنا هذا عبادة بن الصامت، ورافع بن مالك، وهما نقيبان. وقال داود بن عقبة: أن عمرو بن العاص بعث ربيعة بن شرحبيل بن حسنة، وعمرو بن علقمة القرشيّ، ثم العدويّ، يقيمان القبلة، وقال لهما: قوما إذا زالت الشمس. أو قال: انتصفت الشمس، فاجعلاها على حاجبيكما ففعلا. وقال الليث: إنّ عمرو بن العاص كان يمدّ الحبال حتى أقيمت قبلة المسجد. وقال عمرو بن العاص: شرّقوا القبلة تصيبوا الحرم. قال: فشرّقت جدّا، فلما كان قرّة بن شريك تيامن بها قليلا، وكان عمرو بن العاص إذا صلّى في مسجد الجامع يصلي ناحية الشرق إلّا الشيء اليسير، وقال رجل من تجيب: رأيت عمرو بن العاص دخل كنيسة فصلّى فيها ولم ينصرف عن قبلتهم إلّا قليلا، وكان الليث وابن لهيعة إذا صليا تيامنا، وكان عمر بن مروان عمّ الخلفاء إذا صلّى في المسجد الجامع تيامن. وقال يزيد بن حبيب في قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ، هي قبلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي نصبها الله عز وجل مقابل الميزاب، وهي قبلة أهل مصر وأهل الغرب، وكان يقرأها فلنولينك قبلة نرضاها بالنون. وقال هكذا أقرأناها أبو الخير. وقال الخليل بن عبد الله الأزديّ: حدّثني رجل من الأنصار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل فقال: ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده، فأماط كلّ جبل بينه وبين الكعبة، فوضع المسجد وهو ينظر إلى الكعبة، وصارت قبلته إلى الميزاب. وقال ابن لهيعة: سمعت أشياخنا يقولون: لم يكن لمسجد عمرو بن العاص محراب مجوّف، ولا أدري بناه مسلمة أو بناه عبد العزيز. وأوّل من جعل المحراب قرّة بن شريك. وقال الواقديّ: حدّثنا محمد بن هلال قال: أوّل من أحدث المحراب المجوّف عمر بن عبد العزيز، ليالي بني مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذكر عمر بن شيبة أن عثمان بن مظعون تفل في القبلة فأصبح مكتئبا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا؟ قال: لا شيء إلّا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي، فعمدت الى القبلة فغسلتها، ثم عملت خلوقا «1» فخلقتها، فكانت أوّل من خلق القبلة. وقال أبو سعيد سلف الحميريّ: أدركت مسجد عمرو بن العاص طوله خمسون ذراعا

في عرض ثلاثين ذراعا، وجعل الطريق يطيف به من كلّ جهة، وجعل له بابان يقابلان دار عمرو بن العاص، وجعل له بابان في بحريه، وبابان في غربيه، وكان الخارج إذا خرج من زقاق القناديل وجد ركن المسجد الشرقيّ محاذيا لركن دار عمرو بن العاص الغربيّ، وذلك قبل أن أخذ من دار عمرو بن العاص ما أخذ، وكان طوله من القبلة إلى البحري مثل طول دار عمرو بن العاص، وكان سقفه مطاطأ جدّا ولا صحن له، فإذا كان الصيف جلس الناس بفنائه من كلّ ناحية، وبينه وبين دار عمرو سبع أذرع. قلت: وأوّل من جلس على منبر أو سرير ذي أعواد ربيعة بن محاسن. وقال القضاعيّ في كتاب الخطط: وكان عمرو بن العاص قد اتخذ منبرا، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعزم عليه في كسره ويقول: أما يحسبك أن تقوم قائما والمسلمون جلوس تحت عقبيك، فكسره. قال مؤلفه رحمه الله: وفي سنة إحدى وستين ومائة، أمر المهديّ محمد بن أبي جعفر المنصور بتقصير المنابر وجعلها بقدر منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال القضاعيّ: وأوّل من صلّى عليه من الموتى داخل الجامع، أبو الحسين سعيد بن عثمان صاحب الشرط، في النصف من صفر، وكانت وفاته فجأة، فأخرج ضحوة يوم الأحد السادس عشر من صفر، وصلّي عليه خلف المقصورة وكبّر عليه خمسا، ولم يعلم أحد قبله صلّي عليه في الجامع. وذكر عمر بن شيبة في تاريخ المدينة، أنّ أوّل من عمل مقصورة بلبن، عثمان بن عفان، وكانت فيها كوى تنظر الناس منها إلى الإمام، وأن عمر بن عبد العزيز عملها بالساج. قال القضاعيّ: ولم تكن الجمعة تقام في زمن عمرو بن العاص بشيء من أرض مصر إلّا في هذا الجامع. قال أبو سعيد عبد الرحمن بن يونس: جاء نفر من بحافق إلى عمرو بن العاص فقالوا: إنا نكون في الريف، أفنجمع في العيدين الفطر والأضحى ويؤمنّا رجل منا؟ قال: نعم. قالوا: فالجمعة؟ قال: لا، ولا يصلي الجمعة بالناس إلّا من أقام الحدود وآخذ بالذنوب وأعطى الحقوق. وأوّل من زاد في هذا الجامع مسلمة بن مخلد الأنصاريّ سنة ثلاث وخمسين وهو يومئذ أمير مصر من قبل معاوية. قال الكنديّ في كتاب أخبار مسجد أهل الراية: ولما ضاق المسجد بأهله شكى ذلك إلى مسلمة بن مخلد، وهو الأمير يومئذ، فكتب فيه إلى معاوية بن أبي سفيان، فكتب إليه يأمره بالزيادة فيه، فزاد فيه من شرقيه مما يلي دار عمرو بن العاص، وزاد فيه من بحريه، ولم يحدث فيه حدثا من القبليّ ولا من الغربيّ، وذلك في سنة ثلاث وخمسين، وجعل له رحبة في البحريّ منه كان الناس يصيفون فيها، ولا طه بالنورة وزخرف جدرانه وسقوفه، ولم يكن المسجد الذي لعمر، وجعل فيه نورة ولا زخرف، وأمر بابتناء منار المسجد الذي في الفسطاط، وأمر أن يؤذنوا في وقت واحد، وأمر مؤذني الجامع أن يؤذنوا للفجر إذا مضى نصف الليل، فإذا فرغوا من أذانهم أذن كلّ مؤذن في الفسطاط في وقت واحد. قال ابن لهيعة فكان لأذانهم دويّ شديد، فقال عابد بن هشام الأزديّ: ثم السلامانيّ لمسلمة بن مخلد:

لقد مدّت لمسلمة الليالي ... على رغم العداة من الأمان وساعده الزمان بكلّ سعد ... وبلغه البعيد من الأماني أمسلم فارتقي لا زلت تعلو ... على الأيام مسلم والزمان لقد أحكمت مسجدنا فأضحى ... كأحسن ما يكون من المباني فتاه به البلاد وساكنوها ... كما تاهت بزينتها الغواني وكم لك من مناقب صالحات ... وأجدل بالصوامع للأذان كأنّ تجاوب الأصوات فيها ... إذا ما الليل ألقى بالجران «1» كصوت الرعد خالطه دويّ ... وأرعب كلّ مختطف الجنان وقيل أنّ معاوية أمره ببناء الصوامع للأذان، قال: وجعل مسلمة للمسجد الجامع أربع صوامع في أركانه الأربع، وهو أوّل من جعلها فيه، ولم تكن قبل ذلك. قال: وهو أوّل من جعل فيه الحصر، وإنما كان قبل ذلك مفروضا بالحصباء، وأمر أن لا يضرب بناقوس عند الأذان يعني الفجر، وكان السلّم الذي يصعد منه المؤذنون في الطريق، حتى كان خالد بن سعيد، فحوّله داخل المسجد. قال القاضي القضاعيّ: ثم إن عبد العزيز بن مروان هدمه في سنة تسع وسبعين من الهجرة، وهو يومئذ أمير مصر من قبل أخيه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وزاد فيه من ناحية الغرب، وأدخل فيه الرحبة التي كانت في بحريه، ولم يجد في شرقيه موضعا يوسعه به. وذكر أبو عمر الكنديّ في كتاب الأمراء أنه زاد فيه من جوانبه كلها، ويقال أنّ عبد العزيز بن مروان لما أكمل بناء المسجد خرج من دار الذهب عند طلوع الفجر، فدخل المسجد فرأى في أهله خفة، فأمر بأخذ الأبواب على من فيه، ثم دعا بهم رجلا رجلا، فيقول للرجل: ألك زوجة؟ فيقول لا، فيقول زوّجوه، ألك خادم؟ فيقول لا، فيقول أخدموه. أحججت؟ فيقول: لا. فيقول أحجوه. أعليك دين؟ فيقول: نعم. فيقول إقضوا دينه. فأقام المسجد بعد ذلك دهرا عامرا ولم يزل إلى اليوم. وذكر أن عبد الله بن عبد الملك بن مروان في ولايته على مصر، من قبل أخيه الوليد، أمر برفع سقف المسجد الجامع، وكان مطاطأ، وذلك في سنة تسع وثمانين. ثم إن قرّة بن شريك العبسيّ هدمه مستهلّ سنة اثنتين وتسعين بأمر الوليد بن عبد الملك، وهو يومئذ أمير مصر من قبله، وابتدأ في بنيانه في شعبان من السنة المذكورة، وجعل على بنائه يحيى بن حنظلة، مولى بني عامر بن لؤيّ، وكانوا يجمعون الجمعة في قيسارية العسل حتى فرغ من بنائه، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، ونصب المنبر الجديد في سنة أربع وتسعين، ونزع المنبر الذي كان في المسجد، وذكر أنّ عمرو بن العاص كان جعله فيه، فلعله بعد وفاة عمر بن

الخطاب رضي الله عنه. وقيل هو منبر عبد العزيز بن مروان، وذكر أنه حمل إليه من بعض كنائس مصر، وقيل أنّ زكريا بن برقني ملك النوبة أهداه إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبعث معه نجاره حتى ركبه، واسم هذا النجار بقطر من أهل دندرة، ولم يزل هذا المنبر في المسجد حتى زاد قرّة بن شريك في الجامع، فنصب منبرا سواه على ما تقدّم شرحه، ولم يكن يخطب في القرى إلّا على العصا إلى أن ولي عبد الملك بن موسى بن نصير اللخمي مصر، من قبل مروان بن محمد، فأمر باتخاذ المنابر في القرى، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وذكر أنه لا يعرف منبرا أقدم منه، يعني من منبر قرّة بن شريك بعد منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل كذلك إلى أن قلع وكسر في أيام العزيز بالله بنظر الوزير يعقوب بن كلس، في يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الأوّل سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وجعل مكانه منبر مذهب، ثم أخرج هذا المنبر إلى الإسكندرية وجعل في جامع عمرو بها، وأنزل إلى الجامع المنبر الكبير الذي هو به الآن، وذلك في أيام الحاكم بأمر الله في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وأربعمائة، وصرف بنو عبد السميع عن الخطابة، وجعلت خطابة الجامع العتيق لجعفر بن الحسن بن خداع الحسينيّ، وجعل إلى أخيه الخطابة بالجامع الأزهر، وصرف بنو عبد السميع بن عمر بن الحسين بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس من جميع المنابر بعد أن أقاموا هم، وسلفهم فيها ستين سنة. وفي شهر ربيع الأوّل من هذه السنة وجد المنبر الجديد الذي نصب في الجامع قد لطخ بعذرة، فوكّل به من يحفظه وعمل له غشاء من أدم مذهب في شعبان من هذه السنة، وخطب عليه ابن خداع وهو مغشى، وزيادة قرّة من القبليّ والشرقيّ، وأخذ بعض دار عمرو وابنه عبد الله بن عمرو فأدخله في المسجد، وأخذ منهما الطريق الذي بين المسجد وبينهما، وعوّض ولد عمرو ما هو في أيديهم اليوم من الرباع، وأمر قرّة بعمل المحراب المجوّف على ما تقدّم شرحه، وهو المحراب المعروف بعمرو، لأنه في سمت محراب المسجد القديم الذي بناه عمرو، وكانت قبلة المسجد القديم عند العمد المذهبة في صف التوابيت اليوم، وهي أربعة عمد، اثنان في مقابلة اثنين، وكان قرّة أذهب رؤوسها، وكانت مجالس قيس، ولم يكن في المسجد عمد مذهبة غيرها، وكانت قديما حلقة أهل المدينة، ثم روق أكثر العمد وطوّق في أيام الإخشيد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، ولم يكن للجامع أيام قرّة بن شريك غير هذا المحراب، فأمّا المحراب الأوسط الموجود اليوم فعرف بمحراب عمر بن مروان عمّ الخلفاء، وهو أخو عبد الملك وعبد العزيز، ولعله أحدثه في الجدار بعد قرّة، وقد ذكر قوم أن قرة عمل هذين المحرابين، وصار للجامع أربعة أبواب، وهي الأبواب الموجودة في شرقيه الآن، آخرها باب إسرائيل وهو باب النحاسين، وفي غربيه أربعة أبواب شارعة في زقاق كان يعرف بزقاق البلاط، وفي بحريه ثلاثة أبواب، وبيت المال الذي في علو الفوّارة بالجامع بناه أسامة بن زيد التنوخيّ متولي الخراج بمصر، سنة سبع وتسعين في أيام سليمان بن عبد الملك، وأمير

مصر يومئذ عبد الملك بن رفاعة الفهميّ، وكان مال المسلمين فيه، وطرق المسجد في ليلة سنة خمس وأربعين ومائة في ولاية يزيد بن حاتم المهلبيّ من قبل المنصور، طرقه قوم ممن كان بايع عليّ بن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان أوّل علويّ قدم مصر، فنهبوا بيت المال ثم تضاربوا عليه بسيوفهم، فلم يصل إليهم منه إلّا اليسير، فأنفذ إليهم يزيد من قتل منهم جماعة وانهزموا، فنهبوا بيت المال ثم تضاربوا عليه بسيوفهم، فلم يصل إليهم منه إلّا اليسير، فأنفذ إليهم يزيد من قتل منهم جماعة وانهزموا، وذكر أن هذا المكان تسوّر عليه لص في إمارة أحمد بن طولون وسرق منه بدرتي دنانير، فظفر به أحمد بن طولون واصطنعه وعفا عنه. وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة أمر العزيز بالله بعمل الفوّارة تحت قبة بيت المال، فعملت وفرغ منها في شهر رجب سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، ثم زاد فيه صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو يومئذ أمير مصر من قبل أبي العباس السفاح، في مؤخرة أربع أساطين، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وهو أوّل من ولى مصر لبني العباس. فيقال أنه أدخل في الجامع دار الزبير بن العوّام رضي الله عنه، وكانت غربيّ دار النحاس، وكان الزبير تخلى عنها ووهبها لمواليه، لخصومة جرت بين غلمانه وغلمان عمرو بن العاص، واختط الزبير فيما يلي الدار المعروفة به الآن، ثم اشترى عبد العزيز بن مروان دار الزبير من مواليه، فقسّمها بين ابنه الأصبغ وأبي بكر، فلما قدم صالح بن عليّ أخذها عن أمّ عاصم بنت عاصم بن أبي بكر، وعن طفل يتيم وهو حسان بن الأصبغ فأدخلها في المسجد، وباب الكحل من هذه الزيادة، وهو الباب الخامس من أبواب الجامع الشرقية الآن، وعمر صالح بن عليّ أيضا مقدّم المسجد الجامع عند الباب الأوّل موضع البلاطة الحمراء، ثم زاد فيه موسى بن عيسى الهاشميّ، وهو يومئذ أمير مصر من قبل الرشيد في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، الرحبة التي في مؤخره، وهي نصف الرحبة المعروفة بأبي أيوب، ولما ضاق الطريق بهذه الزيادة أخذ موسى بن عيسى دار الربيع بن سليمان الزهريّ شركة بني مسكين بغير عوض للربيع، ووسع بها الطريق وعوّض بني مسكين، ووصل عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولى خراعة أميرا من قبل المأمون في شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين، وتوجه إلى الإسكندرية مستهلّ صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين، ورجع إلى الفسطاط في جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وأمر بالزيادة في المسجد الجامع، فزيد فيه مثله من غربيه، وعاد ابن طاهر إلى بغداد لخمس بقين من رجب من السنة المذكورة، وكانت زيادة ابن طاهر المحراب الكبير وما في غربيه إلى حدّ زيادة الخازن، فأدخل فيه الزقاق المعروف أوّلا بزقاق البلاط، وقطعة كبيرة من دار الرمل، ورحبة كانت بين يدي دار الرمل، ودورا ذكرها القضاعيّ. وذكر بعضهم أن موضع فسطاط عمرو بن العاص حيث المحراب والمنبر، قال: وكان

الذي تمم زيادة عبد الله بن طاهر بعد مسيره إلى بغداد، عيسى بن يزيد الجلوديّ، وتكامل ذرع الجامع، سوى الزيادتين، مائة وتسعين ذراعا بذراع العمل طولا، في مائة وخمسين ذراعا عرضا. ويقال أنّ ذرع جامع ابن طولون مثل ذلك سوى الرواق المحيط بجوانبه الثلاثة. ونصب عبد الله بن طاهر اللوح الأخضر، فلما احترق الجامع احترق ذلك اللوح، فجعل أحمد بن محمد العجيفيّ هذا اللوح مكان ذلك، وهو هذا اللوح الأخضر الباقي إلى اليوم، ورحبة الحارث هي الرحبة البحرية من زيادة الخازن، وكانت رحبة يتبايع الناس فيها يوم الجمعة، وذكر أبو عمر الكنديّ في كتاب الموالي: أن أبا عمرو الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف مولى محمد بن ريان بن عبد العزيز بن مروان، لما ولي القضاء من قبل المتوكل على الله في سنة سبع وثلاثين ومائتين، أمر ببناء هذه الرحبة ليتسع الناس بها، وحوّل سلّم المؤذنين إلى غربيّ المسجد، وكان عند باب إسرائيل، وبلّط زيادة بن طاهر، وأصلح بنيان السقف، وبنى سقاية في الحذائين، وأمر ببناء الرحبة الملاصقة لدار الضرب ليتسع الناس بها، وزيادة أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع ابن أخت أبي الوزير أحمد بن خالد، صاحب الخراج في أيام المعتصم، كان أبو أيوب هذا أحد عمال الخراج زمن أحمد بن طولون، وزيادته في بقية الرحبة المعروفة برحبة أبي أيوب. والمحراب المنسوب إلى أبي أيوب هو الغربيّ من هذه الزيادة عند شباك الحذائين، وكان بناؤها في سنة ثمان وخمسين ومائتين، ويقال أن أبا أيوب مات في سجن أحمد بن طولون بعد أن نكبه واصطفى أمواله، وذلك في سنة ست وستين ومائتين، وأدخل أبو أيوب في هذه الزيادة أماكن ذكرها. قال: وكان قد وقع في مؤخر المسجد الجامع حريق، فعمر وزيدت هذه الزيادة في أيام أحمد بن طولون، ووقع في الجامع في ليلة الجمعة لتسع خلون من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، حريق أخذ من بعد ثلاث حنايا من باب إسرائيل إلى رحبة الحارث بن مسكين، فهلك فيه أكثر زيادة عبد الله بن طاهر والرواق الذي عليه اللوح الأخضر، فأمر خمارويه بن أحمد بن طولون بعمارته على يد أحمد بن محمد العجيفيّ، فأعيد على ما كان عليه، وأنفق فيه ستة آلاف وأربعمائة دينار، وكتب اسم خمارويه في دائر الرواق الذي عليه اللوح الأخضر، وهي موجودة الآن، وكانت عمارته في السنة المذكورة. وأمر عيسى النوشزي في ولايته الثانية على مصر، في سنة أربع وتسعين ومائتين، بإغلاق المسجد الجامع فيما بين الصلوات، فكان يفتح للصلاة فقط، وأقام على ذلك أياما، فضجّ أهل المسجد ففتح لهم. وزاد أبو حفص العباسيّ في أيام نظره في قضاء مصر، خلافة لأخيه محمد، الغرفة التي يؤذن فيها المؤذنون في السطح، وكانت ولايته في رجب من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وكان إمام مصر والحرمين، وإليه إقامة الحج، ولم يزل قاضيا بمصر خلافة لأخيه إلى أن صرف من القضاء بالخصيبيّ، في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وتوفي في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة بعد قدومه من الحج، ثم زاد فيه أبو بكر محمد بن عبد الله الخازن

رواقا واحدا من دار الضرب، وهو الرواق ذو المحراب والشباكين المتصل برحبة الحارث، ومقداره تسع أذرع، وكان ابتداء ذلك في رجب سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ومات قبل تمام هذه الزيادة، وتممها ابنه عليّ بن محمد، وفرغت في العشر الأخر من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وزاد فيه الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس بأمر العزيز بالله، الفوّارة التي تحت قبة بيت المال، وهو أوّل من عمل فيه فوّارة، وزاد فيه أيضا مساقف الخشب المحيطة بها على يد المعروف بالمقدسيّ الأطروش، متولي مسجد بيت المقدس، وذلك في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة ونصب فيها حباب الرخام التي للماء. وفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة جدّد بياض المسجد الجامع وقلع شيء كثير من الفسيفساء الذي كان في أروقته، وبيض مواضعه، ونقشت خمسة ألواح وذهّبت ونصبت على أبوابه الخمسة الشرقية، وهي التي عليها الآن، وكان ذلك على يد برجوان الخادم، وكان اسمه ثابتا في الألواح فقلع بعد قتله. وقال المسبحيّ في تاريخه، وفي سنة ثلاث وأربعمائة أنزل من القصر إلى الجامع العتيق بألف ومائتين وثمانية وتسعين مصحفا، ما بين ختمات وربعات، فيها ما هو مكتوب كله بالذهب، ومكن الناس من القراءة فيها، وأنزل إليه أيضا بتور من فضة عمله الحاكم بأمر الله برسم الجامع، فيه مائة ألف درهم فضة، فاجتمع الناس وعلّق بالجامع بعد أن قلعت عتبتا الباب حتى أدخل به، وكان من اجتماع الناس لذلك ما يتجاوز الوصف. قال القضاعيّ: وأمر الحاكم بأمر الله بعمل الرواقين اللذين في صحن المسجد الجامع، وقلع عمد الخشب وجسر الخشب التي كانت هناك، وذلك في شعبان سنة ست وأربعمائة، وكانت العمد والجسر قد نصبها أبو أيوب أحمد بن محمد بن شجاع، في سنة سبع وخمسين ومائتين، زمن أحمد بن طولون، لأنّ الحرّ اشتدّ على الناس فشكوا ذلك إلى ابن طولون، فأمر بنصب عمد الخشب وجعل عليها الستائر في السنة المذكورة، وكان الحاكم قد أمر بأن تدهن هذه العمد الخشب بدهن أحمر وأخضر، فلم يثبت عليها، ثم أمر بقلعها وجعلها بين الرواقين. وأوّل ما عملت المقاصير في الجوامع في أيام معاوية بن أبي سفيان، سنة أربع وأربعين، ولعل قرّة بن شريك لما بنى الجامع بمصر عمل المقصورة. وفي سنة إحدى وستين ومائة، أمر المهديّ بنزع المقاصير من مساجد الأمصار، وبتقصير المنابر، فجعلت على مقدار منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أعيدت بعد ذلك. ولما ولي مصر موسى بن أبي العباس من أهل الشاش، من قبل أبي جعفر اشناس، أمر المعتصم أن يخرج المؤذنون إلى خارج المقصورة، وهو أوّل من أخرجهم، وكانوا قبل ذلك يؤذنون داخلها، ثم أمر الإمام المستنصر بالله بن الظاهر بعمل الحجر المقابل للمحراب، وبالزيادة في المقصورة في شرقيها وغربيها، حتى اتصلت بالحذائين من جانبيها، وبعمل منطقة فضة في صدر المحراب الكبير أثبت عليها اسم أمير المؤمنين، وجعل لعمودي المحراب أطواق فضة، وجرى ذلك على يد عبد الله بن محمد بن عبدون، في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة.

قال مؤلفه رحمه الله: ولم تزل هذه المنطقة الفضة إلى أن استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على مملكة مصر، بعد موت الخليفة العاضد لدين الله، في محرّم سنة سبع وستين وخمسمائة، فقلع مناطق الفضة من الجوامع بالقاهرة، ومن جامع عمرو بن العاص بمصر، وذلك في حادي عشر شهر ربيع الأوّل من السنة المذكورة. قال القضاعيّ: وفي شهر رمضان من سنة أربعين وأربعمائة جدّدت الخزانة التي في ظهر دار الضرب في طريق الشرطة، مقابلة لظهر المحراب الكبير، وفي شعبان من سنة إحدى وأربعين وأربعمائة أذهب بقية الجدار القبليّ حتى اتصل الإذهاب من جدار زيادة الخازن إلى المنبر، وجرى ذلك على يد القاضي أبي عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى بن أبي زكريا. وفي شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، عملت لموقف الإمام في زمن الصيف مقصورة خشب ومحراب ساج منقوش بعمودي صندل، وتقلع هذه المقصورة في الشتاء إذا صلّى الإمام في المقصورة الكبيرة. وفي شعبان سنة أربع وأربعين وأربعمائة، زيد في الخزانة مجلس من دار الضرب، وطريق المستحم، وزخرف هذا المجلس وحسّن، وجعل فيه محراب ورخّم بالرخام الذي قلع من المحراب الكبير حين نصب عبد الله بن محمد بن عبدون منطقة الفضة في صدر المحراب الكبير، وجرت هذه الزيادة على يد القاضي أبي عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى. وفي ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، عمر القاضي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أبي زكريا غرفة المؤذنين بالسطح، وحسّنها وجعل لها روشنا على صحن الجامع، وجعل بعدها ممرقا ينزل منه إلى بيت المال، وجعل للسطح مطلعا من الخزانة المستجدّة في ظهر المحراب الكبير، وجعل له مطلعا آخر من الديوان الذي في رحبة أبي أيوب. وفي شعبان من سنة خمس وأربعين وأربعمائة، بنيت المئذنة التي فيما بين مئذنة غرفة والمئذنة الكبيرة، على يد القاضي أبي عبد الله أحمد بن زكريا. انتهى ما ذكره القضاعيّ. وفي سنة أربع وستين وخمسمائة تمكن الفرنج من ديار مصر وحكموا في القاهرة حكما جائرا، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم، وتيقنوا أنه لا حامي للبلاد من أجل ضعف الدولة، وانكشفت لهم عورات الناس، فجمع مري ملك الفرنج بالساحل جموعه، واستجدّ قوما قوّى بهم عساكره، وسار إلى القاهرة من بلبيس بعد أن أخذها وقتل كثيرا من أهلها، فأمر شاور بن مجير السعديّ وهو يومئذ مستول على ديار مصر وزارة للعاضد بإحراق مدينة مصر، فخرج إليها في اليوم التاسع من صفر من السنة المذكورة عشرون ألف قارورة نفط،

وعشرة آلاف مشعل مضرمة بالنيران، وفرّقت فيها. ونزل مري بجموع الفرنج على بركة الحبش، فلما رأى دخان الحريق تحوّل من بركة الحبش ونزل على القاهرة مما يلي باب البرقية، وقاتل أهل القاهرة وقد انحشر الناس فيها، واستمرّت النار في مصر أربعة وخمسين يوما، والنهابة تهدم ما بها من المباني وتحفر لأخذ الخبايا إلى أن بلغ مري قدوم أسد الدين شيركوه بعسكر من جهة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، فرحل في سابع شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، وتراجع المصريون شيئا بعد شيء إلى مصر، وتشعث الجامع، فلما استبدّ السلطان صلاح الدين بمملكة مصر بعد موت العاضد، جدّد الجامع العتيق بمصر في سنة ثمان وستين وخمسمائة، وأعاد صدر الجامع والمحراب الكبير ورخمه ورسم عليه اسمه، وجعل في سقاية قاعة الخطابة قصبة إلى السطح، يرتفق بها أهل السطح، وعمر المنظرة التي تحت المئذنة الكبيرة، وجعل لها سقاية، وعمر في كنف دار عمرو الصغرى البحريّ مما يلي الغربيّ، قصبة أخرى إلى محاذاة السطح، وجعل لها ممشاة من السطح إليها يرتفق بها أهل السطح، وعمر غرفة الساعات وحرّرت، فلم تزل مستمرّة إلى أثناء أيام الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ، أوّل من ملك من المماليك، وجدّد بياض الجامع وأزال شعثه، وجلى عمده، وأصلح رخامه، حتى صار جميعه مفروشا بالرخام وليس في سائر أرضه شيء بغير رخام حتى تحت الحصر. ولما تقلد قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن الأعز أبي القاسم خلف بن رشيد الدين محمود بن بدر، المعروف بابن بنت الأعز العلائي الشافعيّ، قضاء القضاة بالديار المصرية، ونظر الأحباس في ولايته الثانية أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداريّ، كشف الجامع بنفسه، فوجد مؤخره قد مال إلى بحريه، ووجد سوره البحريّ قد مال وانقلب علوه عن سمت سفله، ورأى في سطح الجامع غرفا كثيرة محدثة، وبعضها مزخرف، فهدم الجميع ولم يدع بالسطح سوى غرفة المؤذنين القديمة وثلاث خزائن لرؤساء المؤذنين لا غير، وجمع أرباب الخبرة فاتفق الرأي على إبطال جريان الماء إلى فوّارة الفسقية، وكان الماء يصل إليها من بحر النيل، فأمر بإبطاله لما كان فيه من الضرر على جدر الجامع، وعمر بغلات بالزيادة البحرية تشدّ جدار الجامع البحريّ، وزاد في عمد الزيادة ما قوّى به البغلات المذكورة، وسدّ شباكين كانا في الجدار المذكور ليتقوّى بذلك، وأنفق المصروف على ذلك من مال الأحباس، وخشي أن يتداعى الجامع كله إلى السقوط، فحدّث الصاحب الوزير بهاء الدين عليّ بن محمد بن سليم بن حنا في مفاوضة السلطان في عمارة ذلك من بيت المال، فاجتمعا معا بالسلطان الملك الظاهر بيبرس وسألاه في ذلك، فرسم بعمارة الجامع، فهدم الجدار البحريّ من مقدّم الجامع، وهو الجدار الذي فيه اللوح الأخضر، وحط اللوح وأزيلت العمد والقواصر العشر، وعمر الجدار المذكور وأعيدت العمد والقواصر كما كانت، وزيد في العمد أربعة قرن، بها أربعة مما هو تحت اللوح الأخضر، والصف الثاني منه،

وفصل اللوح الأخضر أجزاء وجدّد غيره وأذهب وكتب عليه اسم السلطان الملك الظاهر، وجليت العمد كلها وبيض الجامع بأسره، وذلك في شهر رجب سنة ست وستين وستمائة، وصلّى فيه شهر رمضان بعد فراغه، ولم تتعطل الصلاة فيه لأجل العمارة. ولما كان في شهور سنة سبع وثمانين وستمائة، شكا قاضي القضاة تقيّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهاب ابن بنت الأعز للسلطان الملك المنصور قلاون، سوء حال جامع عمرو بمصر، وسوء حال الجامع الأزهر بالقاهرة، وأن الأحباس على أسوأ الأحوال، وأن مجد الدين بن الحباب أخرب هذه الجهة لما كان يتحدّث فيها، وتقرّب بجزيرة الفيل الوقف الصلاحيّ على مدرسة الشافعية إلى الأمير علم الدين الشجاعيّ، وذكر له بأن في أطيانها زيادة، فقاسوا ما تجدّد بها من الرمال وجعلوه للوقف، وأقطعوا الأطيان القديمة الجارية في الوقف، وتقرّب أيضا إليه بأن في الأحباس زيادة، من جملتها بالأعمال الغربية ما مبلغه في السنة ثلاثون ألف درهم، وأن ذلك لجهة عمارة الجامعين، وسأل السلطان في إعادة ذلك وإبطال ما أقطع منه، فلم يجب إلى ذلك، وأمر الأمير حسام الدين طرنطاي بعمارة الجامع الأزهر، والأمير عز الدين الأفرم بعمارة جامع عمرو، فحضر الأفرم إلى الجامع بمصر ورسم على مباشري الأحباس، وكشف المساجد لغرض كان في نفسه، وبيض الجامع وجرّد نصف العمد التي فيه، فصار العمود نصفه الأسفل أبيض وباقيه بحاله، ودهن واجهة غرفة الساعات بالسيلقون، وأجرى الماء من البئر التي بزقاق الأقفال إلى فسقية الجامع، ورمى ما كان بالزيادات من الأتربة، وبطر العوام به فيما فعله بالجامع، فصاروا يقولون نقل الديماس من البحر إلى الجامع، لكونه دهن الغرفة بالسيلقون، وألبس العواميد للشيخ العريان، لكونه جرّد نصفها التحتانيّ، فصار أبيض الأسفل أسمر الأعلى، كما كان الشيخ العريان، فإن نصفه الأسفل كان مستورا بمئزر أبيض، وأعلاه عريان، ولم يفعل بالجامع سوى ما ذكر. ولما حدثت الزلزلة في سنة اثنتين وسبعمائة، تشعث الجامع، فاتفق الأمير أن بيبرس الجاشنكير، وهو يومئذ أستادار الملك الناصر محمد بن قلاون، والأمير سلار، وهو نائب السلطنة، وإليهما تدبير الدولة، على عمارة الجامعين بمصر والقاهرة، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس عمارة الجامع الحاكميّ بالقاهرة، وتولى الأمير سلار عمارة جامع عمرو بمصر، فاعتمد سلار على كاتبه بدر الدين بن الخطاب، فهدم الحدّ البحريّ من سلّم السطح إلى باب الزيادة البحرية والشرقية، وأعاده على ما كان عليه، وعمل بابين جديدين للزيادة البحرية والغربية، وأضاف إلى كلّ عمود من الصف الأخير المقابل للجدار الذي هدمه عمودا آخر تقوية له، وجرّد عمد الجامع كلها وبيض الجامع بأسره، وزاد في سقف الزيادة الغربية رواقين، وبلط سفل ما أسقف منها، وخرّب بظاهر مصر وبالقرافتين عدّة مساجد وأخذ عمدها ليرخم بها صحن الجامع، وقلع من رخام الجامع الذي كان تحت الحصر كثيرا

من الألواح الطوال، ورص الجميع عند باب الجامع المعروف بباب الشراربيين، فنقل من هناك إلى حيث شاء، ولم يعمل منه في صحن الجامع شيء البتة، وكان فيما نقل من ألواح الرخام ما طوله أربعة أذرع في عرض ذراع وسدس، ذهب بجميع ذلك. ولما ولي علاء الدين بن مروانة نيابة دار العدل، قسم جامعي مصر والقاهرة، فجعل جامع القاهرة مع نبيه الدين بن السعرتيّ، وجامع عمرو مع بهاء الدين بن السكريّ، فسقفت الزيادة البحرية الشرقية، وكانت قد جعلت حاصلا للحصر، وجعل لها دار بزين بين البابين يمنع الجانبين من المارّ، من باب الجامع إلى باب الزيادة المسلوك منه إلى سوق النحاسين، وبلط أرضها، ورقع بعض رخام صحن الجامع، وبلط المجازات، وعمل عضائد أعتاب تحوز الصحن عن مواضع الصلاة. ولما كان في شهور سنة ست وتسعين وستمائة، اشترى الصاحب تاج الدين دارا بسوق الأكفانيين وهدمها، وجعل مكانها سقاية كبيرة، ورفعها إلى محاذاة سطح الجامع، وجعل لها ممشى يتوصل إليها من سطح الجامع، وعمل في أعلاها أربعة بيوت يرتفق بهم في الخلاء، ومكانا برسم أزيار الماء العذب، وهدم سقاية الغرفة التي تحت المئذنة المعروفة بالمنظرة، وبناها برجا كبيرا من الأرض إلى العلوّ، حيث كان أوّلا، وجعل بأعلى هذا البرج بيتا مرتفقا يختص بالغرفة المذكورة، كما كان أوّلا، وبيتا ثانيا من خارج الغرفة يرتفق به من هو خارج الغرفة ممن يقرب منها. وعمر القاضي صدر الدين أبو عبد الله محمد بن البارنباريّ، سقاية في ركن دار عمرو البحريّ الغربيّ من داره الصغرى، بعد ما كانت قد تهدّمت، فأعادها كأحسن ما كانت، ثم إن الجامع تشعث ومالت قواصره ولم يبق إلا أن يسقط، وأهل الدولة بعد موت الملك الظاهر برقوقا في شغل من اللهو عن عمل ذلك، فانتدب الرئيس برهان الدين إبراهيم بن عمر بن عليّ المحليّ رئيس التجار يومئذ بديار مصر، لعمارة الجامع بنفسه وذويه، وهدم صدر الجامع بأسره فيما بين المحراب الكبير إلى الصحن طولا وعرضا وأزال اللوح الأخضر وأعاد البناء كما كان أوّلا، وجدّد لوحا أخضر بدل الأوّل ونصبه كما كان، وهو الموجود الآن، وجرّد العمد كلها، وتتبع جدار الجامع فرمّ شعثها كله، وأصلح من رخام الصحن ما كان قد فسد، ومن السقوف ما كان قد وهى، وبيض الجامع كله، فجاء كما كان وعاد جديدا بعد ما كاد أن يسقط، ولا أقام الله عز وجل هذا الرجل مع ما عرف من شحه وكثرة ضنته بالمال، حتى عمره. فشكر الله سعيه وبيض محياه، وكان انتهاء هذا العمل في سنة أربع وثمانمائة، ولم يتعطل منه صلاة جمعة ولا جماعة في مدّة عمارته. قال ابن المتوج إن ذرع هذا الجامع اثنان وأربعون ألف ذراع بذراع البز المصريّ القديم، وهو ذراع الحصر المستمرّ إلى الآن، فمن ذلك مقدّمة ثلاثة عشر ألف ذراع وأربعمائة وخمسة وعشرون ذراعا، ومؤخره مثل ذلك، وصحنه سبعة آلاف وخمسمائة ذراع، وكلّ من جانبيه الشرقيّ والغربيّ ثلاثة آلاف وثمانمائة وخمسة وعشرون ذراعا،

وذرعه كله بذراع العمل ثمانية وعشرون ألف ذراع، وعدد أبوابه ثلاثة عشر بابا، منها في القبليّ باب الزيز لخته الذي يدخل منه الخطيب، كان به شجرة زيزلخت عظيمة، قطعت في سنة ست وستين وسبعمائة، وفي البحري ثلاثة أبواب، وفي الشرقيّ خمسة، وفي الغربيّ أربعة، وعدد عمده ثلاثمائة وثمانية وسبعون عمودا، وعدد مآذنه خمس، وبه ثلاث زيادات، فالبحرية الشرقية كانت لجلوس قاضي القضاة بها في كل أسبوع يومين، وكان بهذا الجامع القصص. قال القضاعيّ: روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يقص في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان رضي الله عنهم، وإنما كان القصص في زمن معاوية رضي الله عنه. وذكر عمر بن شيبة قال: قيل للحسن متى أحدث القصص؟ قال: في خلافة عثمان بن عفان. قيل: من أوّل من قص؟ قال: تميم الداري. وذكر عن ابن شهاب قال: أوّل من قص في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تميم الداري، استأذن عمر أن يذكر الناس فأبى عليه حتى كان آخر ولايته، فاذن له أن يذكر في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر، فاستأذن تميم عثمان بن عفان رضي الله عنه في ذلك فأذن له أن يذكر يومين في الجمعة، فكان تميم يفعل ذلك. وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أنّ عليا رضي الله عنه قنت، فدعا على قوم من أهل حربه، فبلغ ذلك معاوية، فأمر رجلا يقص بعد الصبح وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام، قال يزيد: وكان ذلك أول القصص. وروي عن عبد الله بن مغفل قال: أمّنا عليّ رضي الله عنه في المغرب، فلما رفع رأسه من الركعة الثالثة ذكر معاوية أوّلا، وعمرو بن العاص ثانيا، وأبا الأعور، يعني السلميّ ثالثا، وكان أبو موسى الرابع. وقال الليث بن سعد: هما قصصان، قصص العامّة، وقصص الخاصة، فأما قصص العامّة فهو الذي يجتمع إليه النفر من الناس يعظهم ويذكرهم، فذلك مكروه ولمن فعله ولمن استمعه، وأما قصص الخاصة فهو الذي جعله معاوية، ولّى رجلا على القصص، فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عز وجل وحمده ومجده وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ودعا للخليفة ولأهل ولايته ولحشمه وجنوده، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة. ويقال أن أوّل من قص بمصر سليمان بن عتر التجيبي، في سنة ثمان وثلاثين، وجمع له القضاء إلى القصص، ثم عزل عن القضاء وأفرد بالقصص، وكانت ولايته على القصص والقضاء سبعا وثلاثين سنة، منها سنتان قبل القضاء. ويقال أنه كان يختم القرآن في كلّ ليلة ثلاث مرّات، وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ويسجد في المفصل، ويسلّم

تسليمة واحدة، ويقرأ في الركعة الأولى بالبقرة، وفي الثانية بقل هو الله أحد، ويرفع يديه في القصص إذا دعا. وكان عبد الملك بن مروان شكا إلى العلماء ما انتشر عليه من أمور رعيته وتحوّفه من كلّ وجه. فأشار عليه أبو حبيب الحمصيّ القاضي بأن يستنصر عليهم برفع يديه إلى الله تعالى، فكان عبد الملك يدعو ويرفع يديه، وكتب بذلك إلى القصاص فكانوا يرفعون أيديهم بالغداة والعشي. وفي هذا الجامع مصحف أسماء، وهو الذي تجاه المحراب الكبير. قال القضاعيّ: كان السبب في كتب هذا المصحف، أنّ الحجاج بن يوسف الثقفيّ كتب مصاحف وبعث بها إلى الأمصار، ووجه إلى مصر بمصحف منها، فغضب عبد العزيز بن مروان من ذلك، وكان الوالي يومئذ من قبل أخيه عبد الملك وقال: يبعث إلى جند أنا فيه بمصحف؟ فأمر فكتب له هذا المصحف الذي في المسجد الجامع اليوم، فلما فرغ منه قال: من وجد فيه حرفا خطأ فله رأس أحمر وثلاثون دينارا، فتداوله القرّاء، فأتى رجل من قراء الكوفة اسمه زرعة بن سهل الثقفيّ فقرآه تهجيا، ثم جاء إلى عبد العزيز بن مروان فقال له: إني قد وجدت في المصحف حرفا خطأ. فقال: مصحفي؟ قال نعم. فنظر فإذا فيه إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة. فإذا هي مكتوبة نجعة، قد قدّمت الجيم قبل العين، فأمر بالمصحف فأصلح ما كان فيه، وأبدلت الورقة، ثم أمر له بثلاثين دينارا وبرأس أحمر، ولما فرغ من هذا المصحف كان يحمل إلى المسجد الجامع غداة كلّ جمعة، من دار عبد العزيز، فيقرأ فيه ثم يقص ثم يردّ إلى موضعه. فكان أوّل من قرأ فيه عبد الرحمن بن حجيرة الخولانيّ، لأنه كان يتولى القصص والقضاء يومئذ، وذلك في سنة ست وسبعين، ثم تولى بعده القصص أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزنيّ، وكان قاضيا بالاسكندرية قبل ذلك، ثم توفي عبد العزيز في سنة ست وثمانين، فبيع هذا المصحف في ميراثه، فاشتراه ابنه أبو بكر بألف دينار، ثم توفي أبو بكر فاشترته أسماء ابنة أبي بكر بن عبد العزيز بسبعمائة دينار، فأمكنت الناس منه وشهرته، فنسب إليها. فلما توفيت أسماء اشتراه أخوها الحكم بن عبد العزيز بن مروان من ميراثها بخمسمائة دينار، فأشار عليه توبة بن نمر الحضرميّ القاضي، وهو متولي القصص يومئذ بالمسجد الجامع، بعد عقبة بن مسلم الهمدانيّ، وإليه القضاء. وذلك في سنة ثمان عشرة ومائة، فجعله في المسجد الجامع، وأجرى على الذي يقرأ فيه ثلاثة دنانير في كل شهر من غلة الإصطبل، فكان توبة أوّل من قرأ فيه بعد أن أقرّ في الجامع، وتولى القصص بعد توبة أبو اسماعيل خير بن نعيم الحضرميّ القاضي، في سنة عشرين ومائة، وجمع له القضاء والقصص، فكان يقرأ في المصحف قائما، ثم يقص وهو جالس، فهو أوّل من قرأ في المصحف قائما، ولم تزل الأئمة يقرءون في المسجد الجامع في هذا المصحف في كلّ يوم جمعة، إلى أن ولي القصص أبو رجب العلاء بن عاصم الخولانيّ، في سنة اثنتين وثمانين ومائة فقرأ فيه يوم الاثنين، وكان قد جعل المطلب الخزاعيّ أمير مصر، من قبل

المأمون، رزق أبي رجب العلاء عشرة دنانير على القصص، وهو أوّل من سلّم في الجامع تسليمتين بكتاب ورد من المأمون يأمر فيه بذلك، وصلّى خلفه محمد بن إدريس الشافعيّ حين قدم إلى مصر، فقال: هكذا تكون الصلاة، ما صليت خلف أحد أتم صلاة من أبي رجب ولا أحسن. ولما ولي القصص حسن بن الربيع بن سليمان، من قبل عنبسة بن إسحاق أمير مصر، من قبل المتوكل في سنة أربعين ومائتين، أمر أن تترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، فتركها الناس. وأمر أن تصلّى التراويح خمس تراويح، وكانت تصلّى قبل ذلك ست تراويح، وزاد في قراءة المصحف يوما، فكان يقرأ يوم الاثنين ويوم الخميس ويوم الجمعة. ولما ولي حمزة بن أيوب بن إبراهيم الهاشميّ القصص بكتاب من المكتفي، في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، صلّى في مؤخر المسجد حين نكس، وأمر أن يحمل إليه المصحف ليقرأ فيه، فقيل له انه لم يحمل المصحف إلى أحد قبلك، فلو قمت وقرأت فيه في مكانه. فقال: لا أفعل، ولكن ائتوني به فإن القرآن علينا أنزل، وإلينا أتى. فأتي به، فقرأ فيه في المؤخر وهو أوّل من قرأ في المصحف في المؤخر، ولم يقرأ في المصحف بعد ذلك في المؤخر إلى أن تولى أبو بكر محمد بن الحسن السوسيّ الصلاة والقصص، في اليوم العشرين من شعبان، سنة ثلاث وأربعمائة، فنصب المصحف في مؤخر الجامع حيال الفوّارة وقرأ فيه أيام نكس الجامع، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى الآن. ولما تولى القصص أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلم الملطيّ، في سنة إحدى وثلاثمائة عزم على القراءة في المصحف في كلّ يوم، فتكلم عليّ بن قديد في ذلك ومنع منه وقال: أعزم على أن يخلق المصحف ويقطعه، أيرى عبد العزيز بن مروان حيا فيكتب له مثله، فرجع إلى القراءة ثلاثة أيام. وكان قد حضر إلى مصر رجل من أهل العراق وأحضر مصحفا ذكر أنه مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأنه الذي كان بين يديه يوم الدار، وكان فيه أثر الدم، وذكر أنه استخرج من خزائن المقتدر، ودفع المصحف إلى عبد الله بن شعيب المعروف بابن بنت وليد القاضي، فأخذه أبو بكر الخازن وجعله في الجامع، وشهره وجعل عليه خشبا منقوشا، وكان الإمام يقرأ فيه يوما، وفي مصحف أسماء يوما، ولم يزال على ذلك إلى أن رفع هذا المصحف واقتصر على القراءة في مصحف أسماء، وذلك في أيام العزيز بالله، لخمس خلون من المحرّم سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وقد أنكر قوم أن يكون هذا المصحف مصحف عثمان رضي الله عنه، لأن نقله لم يصح، ولم يثبت بحكاية رجل واحد. ورأيت أنا هذا المصحف وعلى ظهر مما نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، هذا المصحف الجامع لكتاب الله جل ثناؤه وتقدّست أسسماؤه، حمله المبارك مسعود بن سعد

الهيتيّ لجماعة المسلمين القرّاء للقرآن التالين له، المتقرّبين إلى الله جلّ ذكره بقراءته، والمتعلمين له، ليكون محفوظا أبدا ما بقي ورقه، ولم يذهب اسمه ابتغاء ثواب الله عز وجلّ، ورجاء غفرانه، وجعله عدّة ليوم فقره وفاقته وحاجته إليه، أنا له الله ذلك برأفته، وجعل ثوابه بينه وبين جماعة من نظر فيه، وقد درس ما بعد هذا الكلام من ظهر المصحف، والمندرس يشبه أن يكون: وتبصر في ورقه، وقصد بابداعه فسطاط مصر في المسجد الجامع، جامع المسلمين العتيق، ليحفظ حفظ مثله مع سائر مصاحف المسلمين، فرحم الله من حفظه ومن قرأ فيه ومن عنى به، وكان ذلك في يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وصلّى الله على محمد سيد المرسلين وعلى آله وسلّم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قال ابن المتوّج: ودليل بطلان ما قاله هذا المعترض، ظهور التعصب على عثمان رضي الله عنه من تجيب وخلفائهم، أن الناس قد جرّبوا هذا المصحف، وهو الذي على الكرسيّ الغربيّ من مصحف أسماء، أنه ما فتح قط إلّا وحدث حادث في الوجود لتحقيق ما حدث أوّلا. والله أعلم. قال القضاعيّ: ذكر المواضع المعروفة بالبركة من الجامع يستحبّ الصلاة والدعاء عندها. منها البلاطة التي خلف الباب الأوّل في مجلس ابن عبد الحكم، ومنها باب البرادع، روي عن رجل من صلحاء المصريين يقال له أبو هارون الخرقيّ قال: رأيت الله عز وجلّ في منامي، فقلت له يا رب أنت تراني وتسمع كلامي؟ قال: نعم. ثم قال أتريد أن أريك بابا من أبواب الجنة؟ قلت نعم. يا رب، فأشار إلى باب أصحاب البرادع أو الباب الأقصى مما يلي رحبة حارث، وكان أبو هارون هذا يصلي الظهر والعصر فيما بينهما. وقال ابن المتوّج: وعند المحراب الصغير الذي في جدار الجامع الغربيّ، ظاهر المقصورة، فيما بين بابي الزيادة الغربية الدعاء عنده مستجاب. قال: من ذلك باب مقصورة عرفة، ومنها عند خرزة البئر التي بالجامع، ومنها قبال اللوح الأخضر، ومنها زاوية فاطمة، ويقال أنها فاطمة ابنة عفان، لمّا وصى والدها أن تترك لله في الجامع فتركت في هذا المكان فعرف بها، ومنها سطح الجامع والطواف به سبع مرّات، يبدأ بالأولى من باب الخزانة الأولى التي يستقبلها الداخل من باب السطح، وهو يتلو إلى أن يصل إلى زاوية السطح التي عند المئذنة المعروفة بعرفة، يقف عندها ثم يدعو بما أراد، ثم يمرّ وهو يتلو إلى أن يصل إلى الركن الشرقيّ عند المئذنة المشهورة بالكبيرة، ثم يدعو بما أراد ويمرّ إلى الركن البحريّ الشرقيّ، فيقف محاذيا لغرفة المؤذنين ويدعو، ثم يمرّ وهو يتلو إلى المكان الذي ابتدأ منه. يفعل ذلك سبع مرّات، فإنّ حاجته تقضى. قال القضاعيّ: ولم يكن الناس يصلّون بالجامع بمصر صلاة العيد، حتى كانت سنة

ست، ويقال سنة ثمان وثلاثمائة. فصلّى فيه رجل يعرف بعليّ بن أحمد بن عبد الملك الفهميّ، يعرف بابن أبي شيخة صلاة الفطر، ويقال أنه خطب من دفتر نظرا، وحفظ عنه اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلّا وأنتم مشركون. فقال بعض الشعراء: وقام في العيد لنا خاطب ... فحرّض الناس على الكفر وتوفي سنة تسع وثلاثمائة. وبالجامع زوايا يدرّس فيها الفقه: منها زاوية الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، يقال أنه درّس بها الشافعيّ فعرفت به، وعليها أرض بناحية سندبيس وقفها السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولم يزل يتولى تدريسها أعيان الفقهاء وجلة العلماء. ومنها الزاوية المجدية بصدر الجامع، فيما بين المحراب الكبير ومحراب الخمس، داخل المقصورة الوسطى بجوار المحراب الكبير، رتبها مجد الدين أبو الأشبال الحارث بن مهذب الدين أبي المحاسن مهلب بن حسن بن بركات بن عليّ بن غياث المهلبيّ الأزديّ البهنسيّ الشافعيّ، وزير الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب بحرّان، وقرّر في تدريسها قريبه قاضي القضاة وجيه الدين عبد الوهاب البهنسيّ، وعمل على هذه الزاوية عدّة أوقاف بمصر والقاهرة، ويعدّ تدريسها من المناصب الجليلة، وتوفي المجد في صفر سنة ثمان وعشرين وستمائة بدمشق، عن ثلاث وستين سنة. ومنها الزاوية الصاحبية، حول عرفة رتبها الصاحب تاج الدين محمد بن فخر الدين محمد بن بهاء الدين بن حنا، وجعل لها مدرّسين أحدهما مالكيّ والآخر شافعيّ، وجعل عليها وقفا بظاهر القاهرة بخط البراذعيين. ومنها الزاوية الكمالية بالمقصورة المجاورة لباب الجامع الذي يدخل إليه من سوق الغزل، رتبها كمال الدين السمنوديّ، وعليها فندق بمصر موقوف عليها. ومنا الزاوية التاجية، أمام المحراب الخشب، رتبها تاج الدين السطحيّ، وجعل عليها دورا بمصر موقوفة عليها. ومنها الزاوية المعينية في الجانب الشرقيّ من الجامع، رتبها معين الدين الدهر وطيّ، وعليها وقف بمصر. ومنها الزاوية العلائية، تنسب لعلاء الدين الضرير، وهي في صحن الجامع، وهي لقراءة ميعاد. ومنها الزاوية الزينية، رتبها الصاحب زين الدين بقراءة ميعاد أيضا، ذكر ذلك ابن المتوّج. وأخبرني المقرئ الأديب المؤرخ الضابط شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن الحسن الأوحديّ رحمه الله قال: أخبرني المؤرّخ ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات، قال: أخبرني العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفيّ، أنه أدرك بجامع عمرو بن العاص بمصر قبل الوباء، الكائن في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بضعا وأربعين حلقة لإقراء العلم، لا تكاد تبرح منه. قال ابن المأمون: حدّثني القاضي المكين بن حيدرة وهو من أعيان الشهود بمصر، أن من جملة الخدم التي كانت بيد والده مشارقة الجامع العتيق، وأنّ القومة

ذكر المحاريب التي بديار مصر وسبب اختلافها وتعيين الصواب فيها وتبيين الخطأ منها

بأجمعهم كانوا يجتمعون قبل ليلة الوقود عنده، إلى أن يعملوا ثمانية عشر ألف فتيلة، وأن المطلق برسمه خاصة في كلّ ليلة ترسم وقوده أحد عشر قنطار أو نصف زيتا طيبا. ذكر المحاريب التي بديار مصر وسبب اختلافها وتعيين الصواب فيها وتبيين الخطأ منها اعلم أن محاريب ديار مصر التي يستقبلها المسلمون في صلواتهم أربعة محاريب. أحدها محراب الصحابة رضي الله عنهم، الذي أسسوه في البلاد التي استوطنوها، والبلاد التي كثر ممرّهم بها من إقليم مصر، وهو محراب المسجد الجامع بمصر، المعروف بجامع عمرو، ومحراب المسجد الجامع بالجيزة، وبمدينة بلبيس، وبالإسكندرية، وقوص، وأسوان، وهذه المحاريب المذكورة على سمت واحد، غير أن محاريب ثغر أسوان أشدّ تشريقا من غيرها، وذلك أن أسوان مع مكة شرّفها الله تعالى في الإقليم الثاني، وهو الحدّ الغربيّ من مكة بغير ميل إلى الشمال، ومحراب بلبيس مغرّب قليلا. والمحراب الثاني محراب مسجد أحمد بن طولون، وهو منحرف عن سمت محراب الصحابة، وقد ذكر في سبب انحرافه أقوال منها: أنّ أحمد بن طولون لما عزم على بناء هذا المسجد، بعث إلى محراب مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخذ سمته، فإذا هو مائل عن خط سمت القبلة المستخرج بالصناعة نحو العشر درج إلى جهة الجنوب، فوضع حينئذ محراب مسجده هذا مائلا عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب بنحو ذلك، اقتداء منه بمحراب مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منامه، وخط له المحراب، فلما أصبح وجد النمل قد أطاف بالمكان الذي خطه له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام. وقيل غير ذلك. وأنت إن صعدت إلى سطح جامع ابن طولون، رأيت محرابه مائلا عن محراب جامع عمرو بن العاص إلى الجنوب، ورأيت محراب المدارس التي حدثت إلى جانبه قد انحرفت عن محرابه إلى جهة الشرق، وصار محراب جامع عمرو فيما بين محراب ابن طولون والمحاريب الأخر، وقد عقد مجلس بجامع ابن طولون في ولاية قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة، حضره علماء الميقات، منهم الشيخ تقيّ الدين محمد بن محمد بن موسى الغزوليّ، والشيخ أبو الطاهر محمد بن محمد، ونظروا في محرابه، فأجمعوا على أنه منحرف عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب مغربا بقدر أربع عشرة درجة، وكتب بذلك محضر وأثبت على ابن جماعة. والمحراب الثالث: محراب جامع القاهرة، المعروف بالجامع الأزهر، وما في سمته من بقية محاريب القاهرة، وهي محاريب يشهد الامتحان بتقدّم واضعها في معرفة استخراج القبلة، فإنها على خط سمت القبلة من غير ميل عنه ولا انحراف البتة.

والمحراب الرابع: محاريب المساجد التي في قرى بلاد الساحل، فإنها تخالف محاريب الصحابة، إلّا أنّ محراب جامع منية غمر قريب من سمت محاريب الصحابة، فإن الوزير أبا عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالمأمون البطائحيّ، وزير الخليفة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي بالله، أنشأ جامعا بمنية زفتا في سنة ست عشرة وخمسمائة، فجعل محرابه على سمت المحاريب الصحيحة. وفي قرافة مصر بجوار مسجد الفتح عدّة مساجد تخالف محاريب الصحابة مخالفة فاحشة، وكذلك بمدينة مصر الفسطاط غير مسجد على هذا الحكم. فأما محاريب الصحابة التي بفسطاط مصر والإسكندرية، فإن سمتها يقابل مشرق الشتاء، وهو مطالع برج العقرب مع ميل قليل إلى ناحية الجنوب، ومحاريب مساجد القرى وما حول مسجد الفتح بالقرافة، فإنها تستقبل خط نصف النهار الذي يقال له خط الزوال، وتميل عنه إلى جهة المغرب، وهذا الاختلاف بين هذين المحرابين اختلاف فاحش يفضي إلى إبطال الصلاة. وقد قال ابن عبد الحكم: قبلة أهل مصر أن يكون القطب الشماليّ على الكتف الأيسر، وهذا سمت محاريب الصحابة. قال: وإذا طلعت منازل العقرب وتكملت صورته، فمحاذاته سمت القبلة لديار مصر وبرقة وإفريقية وما والاها، وفي الفرقدين والقطب الشماليّ كفاية للمستدلين، فإنهم إن كانوا مستقبلين في مسيرهم من الجنوب جهة الشمال، استقبلوا القطب والفرقدين، وإن كانوا سائرين إلى الجنوب من الشمال استدبروها، وإن كانوا سائرين إلى الشرق من المغرب جعلوها على الأذن اليسرى، وإن كانوا سائرين من الشرق إلى المغرب جعلوها على الأذن اليمنى، وإن كان مسيرهم إلى النكباء «1» التي بين الجنوب والصبا جعلوها على الكتف الأيسر، وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الجنوب والدبور جعلوها على الكتف الأيمن، وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الشمال والدبور جعلوها على الحاجب الأيمن، وإن كان مسيرهم إلى النكباء التي بين الشمال والصبا جعلوها على الحاجب الأيسر. وإذا عرف ذلك فإنه يستحيل تصويب محرابين مختلفين في قطر واحد إذا زاد اختلافهما على مقدار ما يتسامح به في التيامن والتياسر، وبيان ذلك أن كلّ قطر من أقطار الأرض كبلاد الشام وديار مصر ونحوهما من الأقطار، قطعة من الأرض واقعة في مقابلة جزء من الكعبة، والكعبة تكون في جهة من جهات ذلك القطر، فإذا اختلف محرابان في قطر واحد، فإنا نتيقن أن أحدهما صواب والآخر خطأ، إلّا أن يكون القطر قريبا من مكّة، وخطته التي هو محدود بها متسعة اتساعا كثيرا يزيد على الجزء الذي يخصه لو وزعت الكعبة أجزاء متماثلة، فإنه حينئذ يجوز التيامن والتياسر في محاريبه، وذلك مثل بلاد البجة، فإنها على الساحل الغربيّ من بحر القلزم، ومكة واقعة في شرقيها ليس بينهما إلّا مسافة البحر

فقط وما بين جدّة ومكة من البرّ، وخطة بلاد الجبة مع ذلك واسعة مستطيلة على الساحل، أوّلها عيذاب، وهي محاذية لمدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتميل عنها في الجنوب ميلا قليلا، والمدينة شامية عن مكة بنحو عشرة أيام، وآخر بلاد البجة من ناحية الجنوب سواكن، وهي مائلة في ناحية الجنوب عن مكة ميلا كثيرا، وهذا المقدار من طول بلاد البجة يزيد على الجزء الذي يخص هذه الخطة من الأرض لو وزعت الأرض أجزاء متساوية إلى الكعبة، فيتعين والحالة هذه التيامن أو التياسر في طرفي هذه البلاد لطلب جهة الكعبة. وأما إذا بعد القطر عن الكعبة بعدا كثيرا، فإنه لا يضرّ اتساع خطته، ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر، لاتساع الجزء الذي يخصه من الأرض، فإن كلّ قطر منها له جزء يخصه من الكعبة، من أجل أن الكعبة من البلاد المعمورة كالكرة من الدائرة، فالأقطار كلها في استقبال الكعبة، محيطة بها كاحاطة الدائرة بمركزها، وكل قطر فإنه يتوجه إلى الكعبة في جزء يخصه، والأجزاء المنقسمة إذا قدّرت الأرض كالدائرة فإنها تتسع عند المحيط وتتضايق عند المركز، فإذا كان القطر بعيدا عن الكعبة فإنه يقع في متسع الحدّ ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر، وبخلاف ما إذا قرب القطر من الكعبة، فإنه يقع في متضايق الجزء ويحتاج عند ذلك إلى تيامن أو تياسر، فإنّ فرضنا أن الواجب إصابة عين الكعبة في استقبال الصلاة لمن بعد عن مكة، وقد علمت ما في هذه المسألة من الاختلاف بين العلماء، فإنه لا يتسامح في اختلاف المحاريب بأكثر من قدر التيامن والتياسر الذي لا يخرج عن حدّ الجهة، فلو زاد الاختلاف حكم ببطلان أحد المحرابين، ولا بدّ اللهمّ إلّا أن يكونا في قطرين بعيدين بعضهما من بعض، وليسا على خط واحد من مسامته الكعبة، وذلك كبلاد الشام وديار مصر، فإن البلاد الشامية لها جانبان وخطتها متسعة مستطيلة في شمال مكة، وتمتدّ أكثر من الجزء الخاص بها بالنسبة إلى مقدار بعدها عن الكعبة، ووفي هذين القطرين يجري ما تقدّم ذكره في أرض البجة، إلّا أنّ التيامن والتياسر ظهوره في البلاد الشامية أقل من ظهوره في أرض البجة، من أجل بعد البلاد الشامية عن الكعبة، وقرب أرض البجة، وذلك أن البلاد الشامية وقعت في متسع الجزء الخاص بها، فلم يظهر أثر التيامن والتياسر ظهورا كثيرا كظهوره في أرض البجة، لأنّ البلاد الشامية لها جانب شرقيّ وجانب غربيّ ووسط، فجانبها الغربيّ هو أرض بيت المقدس وفلسطين إلى العريش، أوّل حدّ مصر، وهذا الجانب من البلاد الشامية يقابل الكعبة على حدّ مهب النكباء التي بين الجنوب والصبا، وأمّا جانب البلاد الشامية الشرقيّ، فإنه ما كان مشرّقا عن مدينة دمشق إلى حلب والفرات، وما يسامت ذلك من بلاد الساحل، وهذه الجهة تقابل الكعبة مشرقا عن أوسط مهب الجنوب قليلا، وأما وسط بلاد الشام فإنها دمشق وما قاربها، وتقابل الكعبة على وسط مهب الجنوب، وهذا هو سمت مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع ميل يسير عنه إلى ناحية المشرق. وأما مصر فإنها تقابل الكعبة فيما بين الصبا ومهب النكباء التي بين الصبا والجنوب،

ولذلك لما اختلف هذان القطران، أعني مصر والشام في محاذاة الكعبة، اختلفت محاريبهما، وعلى ذلك وضع الصحابة رضي الله عنهم محاريب الشام ومصر على اختلاف السمتين، فأما مصر بعينها وضواحيها وما هو في حدّها أو على سمتها أو في البلاد الشامية وما في حدّها أو على سمتها، فإنه لا يجوز فيها تصويب محرابين مختلفين اختلافا بينا، فإن تباعد القطر عن القطر بمسافة قريبة أو بعيدة، وكان القطران على سمت واحد في محاذاة الكعبة لم يضرّ حينئذ تباعدهما، ولا تختلف محاريبهما، بل تكون محاريب كلّ قطر منهما على حدّ واحد وسمت واحد، وذلك كمصر وبرقة وأفريقية وصقلية والأندلس، فإن هذه البلاد وان تباعد بعضها عن بعض فإنها كلها تقابل الكعبة على حدّ واحد، وسمتها جميعها سمت مصر من غير اختلاف البتة، وقد تبين بما تقرّر حال الأقطار المختلفة من الكعبة في وقوعها منها. وأما اختلاف محاريب مصر فإن له أسبابا، أحدها حمل كثير من الناس قوله صلّى الله عليه وسلّم، الذي رواه الحافظ أبو عيسى الترمذيّ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «ما بين المشرق والمغرب قبلة على العموم» وهذا الحديث قد روي موقوفا على عمر وعثمان وعليّ وابن عباس ومحمد ابن الحنفية رضي الله عنهم، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. قال أحمد بن حنبل: هذا في كلّ البلدان. قال: هذا المشرق وهذا المغرب وما بينهما قبلة، قيل له: فصلاة من صلّى بينهما جائزة؟ قال: نعم، وينبغي أن يتحرّى الوسط، وقال أحمد بن خالد قول عمر: ما بين المشرق والمغرب قبلة، قاله: بالمدينة فمن كانت قبلته مثل قبلة المدينة فهو في سعة مما بين المشرق والمغرب، ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال. وقال أبو عمر بن عبد البرّ: لاختلاف بين أهل العلم فيه. قال مؤلفه رحمه الله: إذا تأمّلت وجدت هذا الحديث يختص بأهل الشام والمدينة. وما على سمت تلك البلاد شمالا وجنوبا فقط، والدليل على ذلك أنه يلزم من حمله على العموم إبطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار، والله سبحانه قد افترض على الكافة أن يتوجهوا إلى الكعبة في الصلاة حيثما كانوا بقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة/ 144] وقد عرفت إن كنت تمهرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز، فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق، ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب، ومن كان في الجهة الشمالية من الكعبة فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب، ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة كانت صلاته إلى جهة الشمال، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن

قبلته فيما بين الشمال والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق. فقد ظهر ما يلزم من القول بعموم هذا الحديث من خروج أهل المشرق الساكنين به، وأهل المغرب أيضا عن التوجه إلى الكعبة في الصلاة عينا وجهة، لأنّ من كان مسكنه من البلاد ما هو في أقصى المشرق من الكعبة، لو جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه لكان إنما يستقبل حينئذ جنوب أرضه ولم يستقبل قط عين الكعبة ولا جهتها، فوجب ولا بدّ حمل الحديث على أنه خاص بأهل المدينة والشام، وما على سمت ذلك من البلاد، بدليل أن المدينة النبوية واقعة بين مكة وبين أوسط الشام على خط مستقيم، والجانب الغربيّ من بلاد الشام التي هي أرض المقدس وفلسطين يكون عن يمين من يستقبل بالمدينة الكعبة، والجانب الشرقيّ الذي هو حمص وحلب وماو إلى ذلك واقع عن يسار من استقبل الكعبة بالمدينة، والمدينة واقعة في أواسط جهة الشام على جهة مستقيمة، بحيث لو خرج خط من الكعبة ومرّ على استقامة إلى المدينة النبوية لنفذ منها إلى أوسط جهة الشام سواء، وكذلك لو خرج خط من مصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتوجه على استقامة، لوقع فيما بين الميزاب من الكعبة وبين الركن الشاميّ، فلو فرضنا أن هذا الخط خرق الموضع الذي وقع فيه من الكعبة ومرّ لنفذ إلى بيت المقدس على استواء من غير ميل ولا انحراف البتة، وصار موقع هذا الخط فيما بين نكباء الشمال والدبور، وبين القطب الشمالي. وهو إلى القطب الشماليّ أقرب وأميل، ومقابلته ما بين أوسط الجنوب ونكباء الصبا والجنوب، وهو إلى الجنوب أقرب، والمدينة النبوية، مشرّقة عن هذا السمت، ومغرّبة عن سمت الجانب الآخر من بلاد الشام، وهو الجانب الغربيّ تغريبا يسيرا، فمن يستقبل مكة بالمدينة يصير المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه، وما بينهما فهو قبلته، وتكون حينئذ الشام بأسرها وجملة بلادها خلفه، فالمدينة على هذا في أوسط جهات البلاد الشامية. ويشهد بصدق ذلك ما رويناه من طريق مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رقيت على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعدا لحاجته، مستقبل الشام مستدبر القبلة، وله أيضا من حديث ابن عمر بينا الناس في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستدار إلى الكعبة. فهذا أعزك الله أوضح دليل أنّ المدينة بين مكة والشام على حدّ واحد، وأنها في أوسط جهة بلاد الشام، فمن استقبل بالمدينة الكعبة فقد استدبر الشام، ومن استدبر بالمدينة الكعبة فقد استقبل الشام، ويكون حينئذ الجانب الغربيّ من بلاد الشام وما على سمته من البلاد جهة القبلة عندهم أن يجعل الواقف مشرق الصيف عن يساره، ومغرب الشتاء عن يمينه، فيكون ما بين ذلك قبلته. وتكون قبلة الجانب الشرقي من بلاد الشام وما على سمت ذلك من

البلدان، أن يجعل المصلي مغرب الصيف عن يمينه، ومشرق الشتاء عن يساره، وما بينهما قبلته. ويكون أوسط البلاد الشامية التي هي حدّ المدينة النبوية قبلة المصلي بها، أن يجعل مشرق الاعتدال عن يساره، ومغرب الاعتدال عن يمينه، وما بينهما قبلة له، فهذا أوضح استدلال على أن الحديث خاص بأهل المدينة، وما على سمتها من البلاد الشامية، وما وراءها من البلدان المسامتة لها. وهكذا أهل اليمن وما على سمت اليمن من البلاد، فإن القبلة واقعة فيما هنالك بين المشرق والمغرب لكن على عكس وقوعها في البلاد الشامية، فإنه تصير مشارق الكواكب في البلاد الشامية التي على يسار المصلي، واقعة عن يمين المصلي في بلاد اليمن، وكذلك كل ما كان من المغرب عن يمين المصلي بالشام، فإنه ينقلب عن يسار المصلي باليمن، وكلّ من قام ببلاد اليمن مستقبلا الكعبة فإنه يتوجه إلى بلاد الشام فيما بين المشرق والمغرب، وهذه الأقطار سكانها هم المخاطبون بهذا الحديث، وحكمه لازم لهم، وهو خاص بهم دون من سواهم من أهل الأقطار الأخر، ومن أجل حمل هذا الحديث على العموم كان السبب في اختلاف محاريب مصر. السبب الثاني: في اختلاف محاريب مصر، أن الديار المصرية افتتحها المسلمون كانت خاصة بالقبط والروم مشحونة بهم، ونزل الصحابة رضي الله عنهم من أرض مصر في موضع الفسطاط الذي يعرف اليوم بمدينة مصر وبالإسكندرية، وتركوا سائر قرى مصر بأيدي القبط، كما تقدّم في موضعه من هذا الكتاب، ولم يسكن أحد من المسلمين بالقرى، وإنما كانت رابطة تخرج إلى الصعيد حتى إذا جاء أوان الربيع انتشر الأتباع في القرى لرعي الدواب، ومعهم طوائف من السادات، ومع ذلك فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهي الجند عن الزرع، ويبعث إلى أمراء الأجناد بإعطاء الرعية أعطياتهم وأرزاق عيالهم، وينهاهم عن الزرع. روى الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم في كتاب فتوح مصر، من طريق ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن بكر بن عمر، وعن عبد الله بن هبيرة: أن عمر بن الخطاب أمر بناذره أن يخرج إلى أمراء الأجناد يتقدّمون إلى الرعية، أنّ عطاءهم قائم، وأنّ أرزاق عيالهم سابل، فلا يزرعون ولا يزارعون. قال ابن وهب: وأخبرني شريك بن عبد الرحمن المراديّ قال: بلغنا أن شريك بن سميّ الغطفانيّ أتى إلى عمرو بن العاص فقال: إنكم لا تعطونا ما يحسبنا، أفتأذن لي بالزرع؟ فقال له عمرو: ما أقدر على ذلك. فزرع شريك من غير إذن عمرو، فلما بلغ ذلك عمرا كتب إلى عمر بن الخطاب يخبره أن شريك بن سميّ الغطفانيّ حرث بأرض مصر، فكتب إليه عمر أن ابعث إليّ به، فلما انتهى كتاب عمر إلى عمرو، أقرأه شريكا. فقال شريك لعمرو: وقتلتني يا عمرو. فقال عمرو: ما أنا بالذي قتلتك، أنت صنعت هذا بنفسك. فقال له: إذا كان هذا من رأيك فأذن لي بالخروج من غير كتاب، ولك عليّ عهد الله أن أجعل يدي في يده، فأذن له

بالخروج، فلما وقف على عمر قال: تؤمنني يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن أيّ الأجناد أنت؟ قال: من جند مصر، قال: فلعلك شريك بن سميّ الغطفانيّ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: لأجعلنك نكالا لمن خلفك. قال: أو تقبل مني ما قبل الله تعالى من العباد؟ قال: وتفعل؟ قال: فكتب إلى عمرو بن العاص أن شريك بن سميّ جاءني تائبا فقبلت منه. قال: وحدّثنا عبد الله بن صالح بن عبد الرحمن بن شريح عن أبي قبيل، قال: كان الناس يجتمعون بالفسطاط إذا قفلوا، فإذا حضر مرافق الريف خطب عمرو بن العاص الناس فقال: قد حضر مرافق الريف ربيعكم فانصرفوا، فإذا حمض اللبن واشتدّ العود وكثر الذباب فحيّ على فسطاطكم، ولا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه وأهزل جواده. وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال: كان عمرو يقول للناس إذا قفلوا من غزوهم: أنه قد حضر الربيع، فمن أحبّ منكم أن يخرج بفرسه يربعه فليفعل، ولا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه وأهزل فرسه، فإذا حمض اللبن وكثر الذباب ولوى العود فارجعوا إلى قيروانكم. وعن ابن لهيعة عن الأسود بن مالك الحميريّ عن بجير بن ذاخر المعافريّ قال: رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرا، وذلك بعد حميم النصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع إذا أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس، فذعرت فقلت: يا أبت من هؤلاء؟ فقال: يا بنيّ هؤلاء الشرط فأقام المؤذنون الصلاة، فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلا ربعة قصير القامة، وافر الهامة، أدعج أبلج، عليه ثياب موشاة كأن به العقبان تأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة، فحمد الله وأثنى عليه حمدا موجزا، وصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحض على الزكاة وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد وينهي عن الفضول وكثرة العيال، وإخفاض الحال في ذلك فقال: يا معشر الناس إيّاكم وخلالا أربعا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى الذلة بعد العزة، إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القال، في غير درك ولا نوال. ثم أنه لا بدّ من فراغ يؤول إليه المرء في توديع جسمه والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه، فيجوز من الخير عاطلا، وعن حلال الله وحرامه غافلا. يا معشر الناس: إنه قد تدلت الجوزاء وذلت الشعري، وأقلعت السماء وارتفع الوباء، وقلّ الندى وطاب المرعى، ووضعت الحوامل ودرجت السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر، فحيّ لكم على بركة الله تعالى إلى ريفكم، فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، واربعوا خيلكم وأسمنوها وصنونوها وأكرموها، فإنها جنتكم من عدوّكم، وبها مغانمكم وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا، وإياكم والمومسات

المعسولات، فإنهنّ يفسدن الدين ويقصرن الهمم. حدّثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله سيفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لهم فيكم صهرا وذمّة، فكفوا أيديكم، وعفوا فروجكم، وغضوا أبصاركم» ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، وتشوّق قلوبهم إليكم، وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية، وحدّثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ولم يا رسول الله؟ قال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة» فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم، فإذا يبس العود وسخن الماء وكثرت الذباب وحمض اللبن وصوّح البقل وانقطع الورد من الشجر، فحيّ إلى فسطاطكم، على بركة الله، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا واستحفظ الله عليكم. قال فحفظت ذلك عنه. فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لما حكيت له خطبته أنه يا بنيّ يحذر الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط كما حذرهم على الريف والدعة. قال: وكان إذا جاء وقت الربيع كتب لكلّ قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا، وكانت القرى التي يأخذ فيها معظمهم منوف وسمنود وأهناس وطحا، وكان أهل الراية متفرّقين، فكان آل عمرو بن العاص وآل عبد الله بن سعد يأخذون في منوف ووسيم، وكانت هذيل تأخذ في ببا وبوصير، وكانت عدوان تأخذ في بوصير وقرى عك، والذي يأخذ فيه معظمهم بوصير ومنوف وسندبيس وارتيب، وكانت بلى تأخذ في منف وطرّانية، وكانت فهم تأخذ في اتريب وعين شمس ومنوف، وكانت مهرة جذام تأخذ في مناونمي وبسطة ووسيم، وكانت لخم تأخذ في الفيوم وطرّانية وقربيط، وكانت جذام تأخذ في قربيط وطرّانية، وكانت حضر موت تأخذ في ببا وعين شمس واتريب، وكانت مراد تأخذ في منف والفيوم ومعهم عبس بن زوف، وكانت حمير تأخذ في بوصير وقرى أهناس، وكانت خولان تأخذ في قرى أهناس والقيس والبهنسا، وآل وعلة يأخذون في سفط من بوصير، وآل ابرهة يأخذون في منف وغفار، وأسلم يأخذون مع وائل من جذام وسعد في بسطة وقربيط وطرّانية، وآل يسار بن ضبة في أتريب، وكانت المعافر. تأخذ في أتريب وسخا ومنوف، وكانت طائفة من تجيب ومراد يأخذون باليدقون، وكان بعض هذه القبائل ربما جاور بعضا في الربيع، ولا يوقف في معرفة ذلك على أحد إلا أن معظم القبائل كانوا يأخذون حيث وصفنا، وكان يكتب لهم بالربيع فيربعون ما أقاموا وباللبن، وكان لغفار وليث أيضا مربع باتريب. قال: وأقامت مدلج بخربتا فاتخذوها منزلا، وكان معهم نفر من حمير حالفوهم فيها، فهي منازلهم. ورجعت خشين وطائفة من لخم

وجذام فنزلوا أكناف ضان وأبليل وطرانية، ولم تكن قيس بالحوف الشرقيّ قديما، وإنما أنزلهم به ابن الحبحاب، وذلك أنه وفد إلى هشام بن عبد الملك فأمر له بفريضة خمسة آلاف رجل، فجعل ابن الحبحاب الفريضة في قيس، وقدم بهم فأنزلهم الجوف الشرقيّ بمصر، فانظر أعزك الله ما كان عليه الصحابة وتابعوهم عند فتح مصر من قلة السكنى بالريف، ومع ذلك فكانت القرى كلها في جميع الإقليم أعلاه وأسفله مملوءة بالقبط والروم، ولم ينتشر الإسلام في قرى مصر إلا بعد المائة من تاريخ الهجرة، وعند ما أنزل عبيد الله بن الحبحاب مولى سلول قيسا بالحوف الشرقيّ، فلما كان في المائة الثانية من سني الهجرة، كثر انتشار المسلمين بقرى مصر ونواحيها، وما برحت القبط تنقض وتحارب المسلمين إلى ما بعد المائتين من سني الهجرة. قال أبو عمرو محمد بن يوسف الكنديّ في كتاب أمراء مصر: وفي امرة الحرّ بن يوسف أمير مصر، كتب عبيد الله بن الحبحاب صاحب خراج مصر إلى هشام بن عبد الملك، بأن أرض مصر تحتمل الزيادة، فزاد على كلّ دينار قيراطا، فنقضت كورة تنو ونمى وقريط وطرانية وعامّة الحوف الشرقيّ، فبعث إليهم الحرّ بأهل الديوان فحاربوهم فقتل منهم خلق كثير، وذلك أوّل نقض القبط بمصر، وكان نقضهم في سنة تسع ومائة، ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر، ثم نقض أهل الصعيد وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة، فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر أهل الديوان، فقتلوا من القبط ناسا كثيرا، فظفر بهم وخرج بحنس، وهو رجل من القبط من سمنود، فبعث إليه عبد الملك بن مروان موسى بن نصير أمير مصر فقتل بحنس في كثير من أصحابه، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وخالفت القبط أيضا برشيد، فبعث إليهم مروان بن محمد الحمار لما دخل مصر، فارّا من بني العباس، عثمان بن أبي سبعة، فهزمهم وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا، ونابذوا العمال وأخرجوهم في سنة خمسين ومائة، وصاروا إلى شبراسنباط، وانضم إليهم أهل البشرود والأوسية والنخوم، فأتى الخبر يزيد بن حاتم فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان ووجوه أهل مصر، فخرجوا إليهم ولقيهم القبط وقتلوا من المسلمين، فألقى المسلمون النار في عسكر القبط وانصرف العسكر إلى مصر منهزما. وفي ولاية موسى بن عليّ بن رباح على مصر، خرج القبط ببلهيت في سنة ست وخمسين ومائة، فخرج إليهم عسكر فهزمهم، ثم نقضت القبط في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين مع من نقض من أهل أسفل الأرض من العرب، وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة العمال فيهم، فكانت بينهم وبين الجيوش حروب امتدّت إلى أن قدم الخليفة عبد الله أمير المؤمنين المأمون إلى مصر، لعشر خلون من المحرّم، سنة سبع عشرة ومائتين، فعقد على جيش بعث به إلى الصعيد وارتحل هو إلى سخا، وأوقع الأفشين بالقبط

في ناحية البشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين، فحكم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال، فبيعوا وسبي أكثرهم، وتتبع كلّ من يومأ إليه بخلاف، فقتل ناسا كثيرا، ورجع إلى الفسطاط في صفر، ومضى إلى حلوان، وعاد لثمان عشرة خلت من صفر فكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوما. فانظر أعزك الله كيف كانت إقامة الصحابة، إنما هي بالفسطاط والإسكندرية، وأنه لم يكن لهم كثير إقامة بالقرى، وأن النصارى كانوا متمكنين من القرى، والمسلمون بها قليل، وأنهم لم ينتشروا بالنواحي إلا بعد عصر الصحابة والتابعين، يتبين لك أنهم لم يؤسسوا في القرى والنواحي مساجد، وتفطن لشيء آخر، وهو أن القبط ما برحوا كما تقدّم يثبتون لمحاربة المسلمين، دالة منهم بما هم عليه من القوة والكثرة، فلما أوقع بهم المأمون الوقعة التي قلنا غلب المسلمون على أماكنهم من القرى لما قتلوا منهم وسبوا، وجعلوا عدّة من كنائس النصارى مساجد، وكنائس النصارى مؤسسة على استقبال المشرق واستدبار المغرب، زعما منهم أنهم أمروا باستقبال مشرق الاعتدال، وأنه الجنة، لطلوع الشمس منه، فجعل المسلمون أبواب الكنائس محاريب عند ما غلبوا عليها. وصيروها مساجد، فجاءت موازية لخط نصف النهار، وصارت منحرفة عن محاربي الصحابة انحرافا كثيرا يحكم بخطئها وبعدها عن الصواب كما تقدّم. السبب الثالث: تساهل كثير من الناس في معرفة أدلة القبلة، حتى أنك لتجد كثيرا من الفقهاء لا يعرفون منازل القمر صورة وحسابا، وقد علم من له ممارسة بالرياضيات أن بمنازل القمر يعرف وقت الحسر وانتقال الفجر في المنازل، وناهيك بما يترتب على معرفة ذلك من أحكام الصلاة والصيام، وهذه المنازل التي للقمر من بعض ما يستدل به على القبلة، والطرقات، وهي من مبادي العلم، وقد جهلوه، فمن أعوزه الأدنى فحريّ به أن يجهل ما هو أعلى منه وأدق. السبب الرابع: الاعتذار بنجم سهيل، فإن كثيرا ما يقع الاعتذار عن مخالفة محاريب المتأخرين بأنها بنيت على مقابلة سهيل، ومن هناك يقع الخطأ، فإن هذا أمر يحتاج فيه إلى تحرير، وهو أن دائرة سهيل مطلعها جنوب مشرق الشتاء قليلا، وتوسطها في أوسط الجنوب، وغروبها يميل عن أوسط الجنوب قليلا، فلعل من تقدّم من السلف أمر ببناء المساجد في القرى على مقابلة مطالع سهيل، ومطلعه في سمت قبلة مصر تقريبا، فجهل من قام بأمر البنيان فرق ما بين مطالع سهيل وتوسطه وغروبه، وتساهل فوضع المحراب على مقابلة توسط سهيل، وهو أوسط الجنوب، فجاء المحراب حينئذ منحرفا عن السمت الصحيح انحرافا لا يسوغ التوجه إليه البتة. السبب الخامس: أن المحاريب الفاسدة بديار مصر أكثرها في البلاد الشمالية التي تعرف بالوجه البحريّ، والذي يظهر أن الغلط دخل على من وضعها من جهة ظنه أن هذه

البلاد لها حكم بلاد الشام، وذلك أن بلاد مصر التي في الساحل كثيرة الشبه ببلاد الشام في كثرة أمطارها وشدّة بردها، وحسن فواكهها، فاستطرد الشبه حتى في المحاريب ووضعها على سمت المحاريب الشامية، فجاء شيئا خطأ، وبيان ذلك أن هذه البلاد ليست بشمالية عن الشام حتى يكون حكمها في استقبال الكعبة كالحكم في البلاد الشامية، بل هي مغرّبة عن الجانب الغربيّ من الشام بعدّة أيام، وسمتاهما مختلفان في استقبال الكعبة، لاختلاف القطرين، فإن الجانب الغربيّ من الشام كما تقدّم يقابل ميزاب الكعبة على خط مستقيم، وهو حيث مهب النكباء التي بين الشمال والدبور «1» ، ووسط الشام كدمشق وما والاها شمال مكة من غير ميل، وهم يستقبلون أوسط الجنوب في صلاتهم، بحيث يكون القطب الشماليّ المسمى بالجدي وراء ظهورهم، والمدينة النبوية بين هذا الحدّ من الشام وبين مكة مشرّقة عن هذا الحدّ قليلا، فإذا كانت مصر مغرّبة عن الجانب الغربيّ من الشام بأيام عديدة، تعين ووجب أن تكون محاريبها ولا بدّ مائلة إلى جهة المرق بقدر بعد مصر وتغريبها عن أوسط الشام، وهذا أمر يدركه الحس ويشهد لصحته العيان، وعلى ذلك أسس الصحابة رضي الله عنهم المحاريب بدمشق وبيت المقدس مستقبلة ناحية الجنوب، وأسسوا المحاريب بمصر مستقبلة المشرق مع ميل يسير عنه إلى ناحية الجنوب، فرض- رحمه الله- نفسك في التمييز، وعوّد نظرك التأمّل، وأربأ بنفسك أن تقاد كما تقاد البهيمة بتقليدك من لا يؤمن عليه الخطأ. فقد نهجت لك السبيل في هذه المسألة، وألنت لك من القول، وقرّبت لك حتى كأنك تعاين الأقطار، وكيف موقعها من مكة. ولي هنا مزيد بيان، فيه الفرق بين إصابة العين وإصابة الجهة، وهو أن المكلف لو وقف وفرضنا أنه خرج خط مستقيم من بين عينيه ومرّ حتى اتصل بجدار الكعبة من غير ميل عنها إلى جهة من الجهات، فإنه لا بدّ أن ينكشف لبصره مدى عن يمينه وشماله، ينتهي بصره إلى غيره إن كان لا ينحرف عن مقابلته، فلو فرضنا امتداد خطين من كلا عيني الواقف، بحيث يلتقيان في باطن الرأس على زاوية مثلثة، ويتصلان بما انتهى إليه البصر من كلا الجانبين، لكان ذلك شكلا مثلثا يقسمه الخط الخارج من بين العينين إلى الكعبة بنصفين، حتى يصير ذلك الشكل بين مثلثين متساويين، فالخط الخارج من بين عيني مستقبل الكعبة الذي فرق بين الزاويتين، هو مقابلة العين التي اشترط الشافعيّ رحمه الله وجوب استقباله من الكعبة عند الصلاة، ومنتهى ما يكشف بصر المستقبل من الجانبين، هو حدّ مقابلة الجهة التي قال جماعة من علماء الشريعة بصحة استقباله في الصلاة، والخطان الخارجان من العينين إلى طرفيه هما آخر الجهة من اليمين والشمال، فمهما وقعت صلاة المستقبل على الخط الفاصل بين الزاويتين، كان قد استقبل عين الكعبة، ومهما وقعت صلاته منحرفة عن يمين الخط أو يساره بحيث لا يخرج استقباله عن منتهى حدّ الزاويتين المحدودتين بما يكشف بصره من الجانبين، فإنه مستقبل جهة الكعبة، وإن خرج

استقباله عن حدّ الزاويتين من أحد الجانبين، فإنه يخرج في استقباله عن حدّ جهة الكعبة، وهذا الحدّ في الجهة يتسع ببعد المدى، ويضيق بقربه، فأقصى ما ينتهي إليه اتساعه ربع دائرة الأفق، وذلك أن الجهات المعتبرة في الاستقبال أربع، المشرق والمغرب والجنوب والشمال، فمن استقبل جهة من هذه الجهات كان أقصى ما ينتهي إليه سعة تلك الجهة ربع دائرة الأفق، وإن انكشف لبصره أكثر من ذلك فلا عبرة به من أجل ضرورة تساوي الجهات، فإنا لو فرضنا إنسانا وقف في مركز دائرة واستقبل جزأ من محيط الدائرة، لكانت كلّ جهة من جهاته الأربع التي هي وراءه وأمامه ويمينه وشماله، تقابل ربعا من أرباع الدائرة، فتبين بما قلنا أن أقصى ما ينتهي إليه اتساع الجهة قدر ربع دائرة الأفق، فأيّ جزء من أجزاء دائرة الأفق، قصده الواقف بالاستقبال في بلد من البلدان، كانت جهة ذلك الجزء المستقبل ربع دائرة الأفق، وكان الخط الخارج من بين عيني الواقف إلى وسط تلك الجهة هو مقابلة العين، ومنتهى الربع من جانبيه يمنة ويسرة هو منتهى الجهة التي قد استقبلها، فما خرج من محاريب بلد من البلدان عن حدّ جهة الكعبة لا تصح الصلاة لذلك المحراب بوجه من الوجوه، وما وقع في جهة الكعبة صحت الصلاة إليه عند من يرى أنّ الفرض في استقبال الكعبة إصابة جهتها، وما وقع في مقابلة عين الكعبة فهو الأسدّ الأفضل الأولى عند الجمهور. وإن أنصفت علمت أنه مهما وقع الاستقبال في مقابلة جهة الكعبة، فإنه يكون سديدا، وأقرب منه إلى الصواب ما وقع قريبا من مقابلة العين يمنة أو يسرة، بخلاف ما وقع بعيدا عن مقابلة العين، فإنه بعيد من الصواب، ولعله هو الذي يجري فيه الخلاف بين علماء الشريعة والله أعلم. وحيث تقرّر الحكم الشرعيّ بالأدلة السمعية والبراهين العقلية في هذه المسألة، فاعلم أن المحاريب المخالفة لمحاريب الصحابة التي بقرافة مصر وبالوجه البحريّ من ديار مصر، واقعة في آخر جهة الكعبة من مصر، وخارجة عن حدّ الجهة، وهي مع ذلك في مقابلة ما بين البجة والنوبة، لا في مقابلة الكعبة، فإنها منصوبة على موازاة خط نصف النهار، ومحاريب الصحابة على موازاة مشرق الشتاء تجاه مطالع العقرب مع ميل يسير عنها إلى ناحية الجنوب، فإذا جعلنا مشرق الشتاء المذكور مقابلة عين الكعبة لأهل مصر، وفرضنا جهة ذلك الجزء ربع دائرة الأفق، صار سمت المحاريب التي هي موازية لخط نصف النهار خارجا عن جهة الكعبة، والذي يستقبلها في الصلاة يصلي إلى غير شطر المسجد الحرام، وهو خطر عظيم فاحذره. واعلم أن صعيد مصر واقع في جنوب مدينة مصر، وقوص واقعة في شرقيّ الصعيد، وفيما بين مهب ريح الجنوب والصبا من ديار مصر، فالمتوجه من مدينة قوص إلى عيذاب

يستقبل مشرق الشتاء، سواء إلى أن يصل إلى عيذاب ولا يزال كذلك إذا سار من عيذاب حتى ينتهي في البحر إلى جدّة، فإذا سار من جدّة في البرّ استقبل المشرق كذلك حتى يحل بمكة، فإذا عاد من مكة استقبل المغرب، فاعرف من هذا أن مكة واقعة في النصف الشرقيّ من الربع الجنوبيّ بالنسبة إلى أرض مصر، وهذا هو سمت محاريب الصحابة التي بديار مصر والإسكندرية، وهو الذي يجب أن يكون سمت جميع محاريب إقليم مصر. برهان آخر: وهو أن من سار من مكة يريد مصر على الجادّة، فإنه يستقبل ما بين القطب الشماليّ الذي هو الجدي، وبين مغرب الصيف مدّة يومين، وبعض اليوم الثالث، وفي هذه المدّة يكون مهب النكباء التي بين الشمال والمغرب تلقاء وجهه، ثم يستقبل بعد ذلك في مدّة ثلاثة أيام أوسط الشمال، بحيث يبقى الجدي تلقاء وجهه إلى أن يصل إلى بدر، فإذا سار من بدر إلى المدينة النبوية صار مشرق الصيف تلقاء وجهه تارة ومشرق الاعتدال تارة إلى أن ينتهي إلى المدينة، فإذا رجع من المدينة إلى الصفراء، استقبل مغرب الشتاء إلى أن يعدل إلى ينبع، فيصير تارة يسير شمالا وتارة يسير مغربا، ويكون ينبع من مكة على حد النكباء التي بين الشمال ومغرب الصيف، فإذا سار من ينبع استقبل ما بين الجدي ومغرب الثريا، وهو مغرب الصيف، وهبت النكباء تلقاء وجهه إلى أن يصل إلى مدين، فإذا سار من مدين استقبل تارة الشمال وأخرى مغرب الصيف حتى يدخل إيلة، ومن إيلة لا يزال يستقبل مغرب الاعتدال تارة ويميل عنه إلى جهة الجنوب مع استقبال مغرب الشتاء أخرى، إلى أن يصل إلى القاهرة ومصر، فلو فرضنا خطا خرج من محاريب مصر الصحيحة التي وضعها الصحابة، ومرّ على استقامة من غير ميل ولا انحراف لا تصل بالكعبة ولصق بها. واعلم أن أهل مصر والإسكندرية وبلاد الصعيد وأسفل الأرض وبرقة وإفريقية وطرابلس المغرب وصقلية والأندلس وسواحل المغرب إلى السوس الأقصى والبحر المحيط وما على سمت هذه البلاد، يستقبلون في صلاتهم من الكعبة ما بين الركن الغربيّ إلى الميزاب، فمن أراد أن يستقبل الكعبة في شيء من هذه البلاد فليجعل بنات نعش إذا غربت خلف كتفه الأيسر، وإذا طلعت على صدغه الأيسر، ويكون الجدي على أذنه اليسرى، ومشرق الشمس تلقاء وجهه أو ريح الشمال خلف أذنه اليسرى، أو ريح الدبور خلف كتفه الأيمن، أو ريح الجنوب التي تهب من ناحية الصعيد على عينه اليمنى، فإنه حينئذ يستقبل من الكعبة سمت محاريب الصحابة الذين أمرنا الله باتباع سبيلهم، ونهانا عن مخالفتهم بقوله عز وجل: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء/ 155] ألهمنا الله بمنه اتباع طريقهم، وصيرنا بكرمه من حزبهم وفريقهم إنه على كلّ شيء قدير.

جامع العسكر

جامع العسكر هذا الجامع بظاهر مصر، وهو حيث الفضاء الذي هو اليوم فيما بين جامع أحمد بن طولون وكوم الجارح بظاهر مدينة مصر، وكان إلى جانب الشرطة والدار التي يسكنها أمراء مصر، ومن هذه الدار إلى الجامع باب، وكان يجمع فيه الجمعة، وفيه منبر ومقصورة، وهذا الجامع بناه الفضل بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس في ولايته إمارة مصر، ملاصقا لشرطة العسكر التي كانت يقال لها الشرطة العليا، في سنة تسع وستين ومائة، فكانوا يجمعون فيه، وكانت ولاية الفضل إمارة مصر من قبل المهديّ محمد بن أبي جعفر المنصور على الصلاة والخراج، فدخلها سلخ المحرّم سنة تسع وستين ومائة، في عسكر من الجند عظيم أتى بهم من الشام، ومصر تضطرم لما كان في الحوف، ولخروج دحية بن مصعب بن الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، فقام في ذلك وجهز الجنود حتى أسر دحية وضرب عنقه في جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وكان يقول أنا أولى الناس بولاية مصر لقيامي في أمر دحية، وقد عجز عنه غيري، حتى كفيت أهل مصر أمره، فعزله موسى الهادي لما استخلف بعد موت أبيه المهديّ، بعد ما أقرّه فندم الفضل على قتل دحية وأظهر توبة وسار إلى بغداد، فمات عن خمسين سنة، في سنة اثنتين وسبعين ومائة، ولم يزل الجامع بالعسكر إلى أن ولي عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب مولى خزاعة على صلاة مصر وخراجها، من قبل عبد الله أمير المؤمنين المأمون في ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة ومائتين، فزاد في عمارته، وكان الناس يصلون فيه الجمعة قبل بناء جامع أحمد بن طولون، ولم يزل هذا الجامع إلى ما بعد الخمسمائة من سني الهجرة. قال ابن المأمون في تاريخه من حوادث سنة سبع عشرة وخمسمائة، وكان يطلق في الأربع ليالي الوقود، وهي مستهلّ رجب ونصفه، ومستهلّ شعبان ونصفه، برسم الجوامع الستة، الأزهر والأنور والأقمر بالقاهرة، والطولونيّ والعتيق بمصر، وجامع القرافة والمشاهد التي تتضمن الأعضاء الشريفة، وبعض المساجد التي يكون لأربابها وجاهة جملة كثيرة من الزيت الطيب، ويختص بجامع راشدة وجامع ساحل الغلة بمصر، والجامع بالمقس يسير، ويعني بجامع ساحل الغلة جامع العسكر، فإنّ العسكر حينئذ كان قد خرب وحملت أنقاضه، وصار الجامع بساحل مصر، وهو الساحل القديم المذكور في موضعه من هذا الكتاب. ذكر العسكر كان مكان العسكر في صدر الإسلام يعرف بعد الفتح بالحمراء القصوى، وهي كما تقدّم خطة بني الأزرق وخطة بني روبيل وخطة بني يشكر بن جزيلة من لخم، ثم دثرت هذه الحمراء وصارت صحراء، فلما زالت دولة بني أمية ودخلت المسودة إلى مصر في طلب

مروان بن محمد الجعديّ، في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وهي خراب فضاء يعرف بعضه بجبل يشكر، نزل صالح بن عليّ بن عبد الله بن عباس، وأبو عون عبد الملك بن يزيد بعسكرهما في هذا الفضاء، وأمر عبد الملك أبو عون أصحابه بالبناء فيه، فبنوا. وسمي من يومئذ بالعسكر، وصار أمراء مصر إذا قدموا ينزلون فيه من بعد أبي عون. وقال الناس من عهده كنا بالعسكر، خرجنا إلى العسكر، وكنت في العسكر. فصارت مدينة الفسطاط والعسكر. ونزل الأمراء من عهد أبي عون بالعسكر، فلما ولي يزيد بن حاتم إمارة مصر، وقام عليّ بن محمد بن عبد الله بن حسن وطرق المسجد، كتب أبو جعفر المنصور إلى يزيد بن حاتم يأمره أن يتحوّل من العسكر إلى الفسطاط، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر، وذلك في سنة ست وأربعين ومائة، إلى أن قدم الأمير أبو العباس أحمد بن طولون من العراق أميرا على مصر، فنزل بالعسكر بدار الإمارة التي بناها صالح بن عليّ بعد هزيمة مروان وقتله، وكان لها باب إلى الجامع الذي بالعسكر، وكان الأمراء ينزلون بهذه الدار إلى أن نزلها أحمد بن طولون، ثم تحوّل منها إلى القطائع، وجعلها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون عند إمارته على مصر ديوانا للخراج، ثم فرّقت حجرا حجرا بعد دخول محمد بن سليمان الكاتب إلى مصر، وزوال دولة بني طولون، وسكن محمد بن سليمان أيضا بدار في العسكر عند المصلّى القديم، ونزلها الأمراء من بعده إلى أن ولي الإخشيد محمد بن طفج فنزل بالعسكر أيضا، ولما بنى أحمد بن طولون القطائع اتصلت مبانيها بالعسكر، وبنى الجامع على جبل يشكر، فعمر ما هناك عمارة عظيمة، بحيث كانت هناك دار على بركة قارون أنفق عليها كافور الإخشيديّ مائة ألف دينار، وسكنها. وكان هناك مارستان أحمد بن طولون أنفق عليه وعلى مستغله ستين ألف دينار. وقدمت عساكر المعز لدين الله مع كاتبه وغلامه جوهر القائد في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة والعسكر عامر، غير أنه منذ بنى أحمد بن طولون القطائع هجر اسم العسكر، وصار يقال مدينة الفسطاط والقطائع، فلما خرّب محمد بن سليمان الكاتب قصر ابن طولون وميدانه، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، صارت القطائع فيها المساكن الجليلة، حيث كان العسكر، وأنزل المعز لدين الله عمه أبا عليّ في دار الإمارة، فلم يزل أهله بها إلى أن خربت القطائع في الغلاء الكائن بمصر في خلافة المستنصر، أعوام بضع وخمسين وأربعمائة. فيقال أنه كان هنالك ما ينيف على مائة ألف دار، ولا ينكر ذلك. فانظر ما بين سفح الجبل حيث القلعة الآن، وبين ساحل مصر القديم الذي يعرف اليوم بالكبارة، وما بين كوم الجارح من مصر، وقناطر السباع، فهناك كانت القطائع والعسكر، ويخص العسكر من ذلك ما بين قناطر السباع وحدرة ابن قميحة إلى كوم الجارح، حيث الفضاء الذي يتوسط فيما بين قنطرة السدّ وباب المخدم من جهة القرافة، فهناك كان العسكر. ولما استولى

جامع ابن طولون

الخراب في المحنة زمن المستنصر، أمر الوزير الناصر للدين عبد الرحمن البازوريّ ببناء حائط يستر الخراب إذا توجه الخليفة إلى مصر، فيما بين العسكر والقطائع وبين الطريق، وأمر فبنى حائط آخر عند جامع ابن طولون. فلما كان في خلافة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي بالله، أمر وزيره أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالمأمون البطائحيّ، فنودي مدّة ثلاثة أيام في القاهرة ومصر، بأن من كان له دار في الخراب أو مكان يعمره، ومن عجز عن عمارته يبيعه أو يؤجره، من غير نقل شيء من أنقاضه، ومن تأخر بعد ذلك فلا حق له ولا حكر يلزمه، وأباح تعمير جميع ذلك بغير طلب حق، فعمر الناس ما كان منه مما يلي القاهرة، من حيث مشهد السيدة نفيسة إلى ظاهر باب زويلة، ونقلت أنقاض العسكر، فصار الفضاء الذي يوصل إليه من مشهد السيدة نفيسة، ومن الجامع الطولونيّ، ومن قنطرة السدّ، ويسلك فيه إلى حيث كوم الجارح. والعامر الآن من العسكر جبل يشكر الذي فيه جامع ابن طولون وما حوله إلى قناطر السباع. كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. جامع ابن طولون هذا الجامع موضعه يعرف بجبل يشكر. قال ابن عبد الظاهر: وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل أنّ موسى عليه السّلام ناجى ربه عليه بكلمات. وابتدأ في بناء هذا الجامع الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بعد بناء القطائع، في سنة ثلاث وستين ومائتين. قال جامع السيرة الطولونية: كان أحمد بن طولون يصلّى الجمعة في المسجد القديم الملاصق للشرطة، فلما ضاق عليه بنى الجامع الجديد، مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون، ومنه بنى العين. فلما أراد بناء الجامع قدّر له ثلاثمائة عمود، فقيل له: ما تجدها، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب، فتحمل ذلك، فأنكر ذلك ولم يختره، وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصرانيّ الذي تولى له بناء العين، وكان قد غضب عليه وضربه ورماه في المطبق الخبر. فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلّا عمودي القبلة، فأحضره وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، فقال له: ويحك ما تقول في بناء الجامع؟ فقال: أنا أصوّره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمد إلّا عمودي القبلة. فأمر بأن تحضر له الجلود، فأحضرت، وصوّره له فأعجبه واستحسنه، وأطلقه وخلع عليه، وأطلق له للنفقة عليه مأئة ألف دينار. فقال له: أنفق، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك. فوضع النصرانيّ يده في البناء في الموضع الذي هو فيه، وهو جبل يشكر، فكان ينشر منه ويعمل الجيرو يبني إلى أن فرغ من جميعه، وبيّضه وخلّقه وعلّق فيه القناديل بالسلاسل الحسان الطوال، وفرش فيه الحصر، وحمل إليه صناديق المصاحف، ونقل إليه القرّاء والفقهاء، وصلّى فيه بكار بن قتيبة القاضي، وعمل الربيع بن سليمان بابا فيما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من بنى لله مسجدا

ولو كمفحص «1» قطاة، بنى الله له بيتا في الجنة» . فلما كان أوّل جمعة صلاها فيه أحمد بن طولون وفرغت الصلاة، جلس محمد بن الربيع خارج المقصورة، وقام المستملي وفتح باب المقصورة، وجلس أحمد بن طولون، ولم ينصرف والغلمان قيام وسائر الحجاب حتى فرغ المجلس، فلما فرغ المجلس خرج إليه غلام بكيس فيه ألف دينار وقال: يقول لك الأمير نفعك الله بما علّمك، وهذه لأبي طاهر، يعني ابنه، وتصدّق أحمد بن طولون بصدقات عظيمة فيه، وعمل طعاما عظيما للفقراء والمساكين، وكان يوما عظيما حسنا. وراح أحمد بن طولون ونزل في الدار التي عملها فيه للإمارة، وقد فرشت وعلّقت وحملت إليها الآلات والأواني وصناديق الأشربة وما شاكلها، فنزل بها أحمد وجدّد طهره وغير ثيابه وخرج من بابها إلى المقصورة، فركع وسجد شكرا لله تعالى على ما أعانه عليه من ذلك ويسره له. فلما أراد الانصراف، خرج من المقصورة حتى أشرف على الفوّارة، وخرج إلى باب الريح. فصعد النصرانيّ الذي بنى الجامع ووقف إلى جانب المركب النحاس وصاح: يا أحمد بن طولون، يا أمير الأمان، عبدك يريد الجائزة ويسأل الأمان، أن لا يجري عليه مثل ما جرى في المرّة الأولى. فقال له أحمد بن طولون: انزل فقد أمّنك الله، ولك الجائزة. فنزل وخلع عليه وأمر له بعشرة آلاف دينار، وأجرى عليه الرزق الواسع إلى أن مات. وراح أحمد بن طولون في يوم الجمعة إلى الجامع، فلما رقى الخطيب المنبر وخطب، وهو أبو يعقوب البلخيّ، دعا للمعتمد ولولده، ونسي أن يدعو لأحمد بن طولون، ونزل عن المنبر، فأشار أحمد إلى نسيم الخادم أن أضربه خمسمائة سوط. فذكر الخطيب سهوه وهو على مراقي المنبر، فعاد وقال: الحمد لله، وصلّى الله على محمد وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه/ 115] اللهمّ وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين. وزاد في الشكر والدعاء له بقدر الخطبة ثم نزل، فنظر أحمد إلى نسيم أن أجعلها دنانير، ووقف الخطيب على ما كان منه، فحمد الله تعالى على سلامته وهنأه الناس بالسلامة. ورأى أحمد بن طولون الصنّاع يبنون في الجامع عند العشاء، وكان في شهر رمضان فقال: متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارا لعيالهم وأولادهم، اصرفوهم العصر. فصارت سنّة إلى اليوم بمصر. فلما فرغ شهر رمضان، قيل له: قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى رسمهم. فقال: قد بلغني دعاؤهم، وقد تبرّكت به، وليس هذا مما يوفر العمل علينا. وفرغ منه في شهر رمضان سنة خمس وستين ومائتين، وتقرّب الناس إلى ابن طولون بالصلاة فيه، وألزم أولادهم كلهم صلاة الجمعة في فوّارة الجامع، ثم يخرجون بعد الصلاة إلى مجلس

الربيع بن سليمان ليكتبوا العلم، مع كلّ واحد منهم ورّاق وعدّة غلمان. وبلغت النفقة على هذا الجامع في بنائه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. ويقال أنّ أحمد بن طولون رأى في منامه كأنّ الله تعالى قد تجلّى ووقع نوره على المدينة التي حول الجامع، إلّا الجامع فإنه لم يقع عليه من النور شيء، فتألم وقال: والله ما بنيته إلّا لله خالصا، ومن المال الحلال الذي لا شبهة فيه. فقال له معبّر حاذق: هذا الجامع يبقى ويخرب كل ما حوله، لأنّ الله تعالى قال: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف/ 143] فكل شيء يقع عليه جلال الله عز وجل لا يثبت. وقد صحّ تعبير هذه الرؤيا، فإن جميع ما حول الجامع خرب دهرا طويلا، كما تقدّم في موضعه من هذا الكتاب، وبقي الجامع عامرا، ثم عادت العمارة لما حوله كما هي الآن. قال القضاعيّ رحمه الله، وذكر أن السبب في بنائه، أنّ أهل مصر شكوا إليه ضيق الجامع يوم الجمعة من جنده وسودانه، فأمر بإنشاء المسجد الجامع بجبل يشكر بن جديلة من لخم، فابتدأ بنيانه في سنة ثلاث وستين ومائتين، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائتين، وقيل أنّ أحمد بن طولون قال: أريد أن أبنى بناء، إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي. فقيل له: يبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر القويّ النار إلى السقف، ولا يجعل فيه أساطين رخام، فإنه لا صبر لها على النار، فبناه هذا البناء وعمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب فيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة، وبناه على بناء جامع سامراء، وكذلك المنارة، وعلّق فيه سلاسل النحاس المفرغة، والقناديل المحكمة، وفرشه بالحصر العبدانية والسامانية. حديث الكنز: قال جامع السيرة: لما ورد على أحمد بن طولون كتاب المعتمد بما استدعاه من ردّ الخراج بمصر إليه، وزاده المعتمد مع ما طلب الثغور الشامية، رغب بنفسه عن المعادن ومرافقها، فأمر بتركها، وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال، ومنع المتقبلين من الفسخ على المزارعين، وخطر الارتفاق على العمال، وكان قبل إسقاط المرافق بمصر، قد شاور عبد الله بن دسومة في ذلك، وهو يومئذ أمين على أبي أيوب متولي الخراج. فقال: إن أمنني الأمير تكلمت بما عندي. فقال له: قد أمنك الله عز وجلّ. فقال: أيها الأمير، إنّ الدنيا والآخرة ضرّتان والحازم من لم يخلط إحداهما مع الأخرى، والمفرّط من خلط بينهما، فيتلف أعماله ويبطل سعيه، وأفعال الأمير أيّده الله الخير وتوكله توكل الزهاد، وليس مثله من ركب خطة لم يحكمها، ولو كنا نثق بالنصر دائما طول العمر، لما كان شيء عندنا آثر من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر، كثير المصائب، مدفوع إلى الآفات، وترك الإنسان ما قد أمكنه وصار في يده تضييع، ولعل الذي

حماه، نفسه يكون سعادة لمن يأتي من بعده، فيعود ذلك توسعة لغيره بما حرمه هو، ويجتمع للأمير أيده الله بما قد عزم على إسقاطه من المرافق في السنة بمصر دون غيرها مائة ألف دينار، وإنّ فسخ ضياع الأمراء والمتقبلين في هذه السنة، لأنها سنة ظمأ توجب الفسيخ، زاد مال البلد وتوفر توفرا عظيما ينضاف إلى مال المرافق، فيضبط به الأمير أيّده الله أمر دنياه، وهذه طريقة أمور الدنيا وأحكام أمور الرياسة والسياسة، وكلّ ما عدل الأمير أيده الله إليه من أمر غير هذا، فهو مفسد لدنياه، وهذا رأيي، والأمير أيده الله على ما عساه يراه. فقال له: ننظر في هذا إن شاء الله. وشغل قلبه كلامه، فبات تلك الليلة بعد أن مضى أكثر الليل يفكر في كلام ابن دسومة، فرأى في منامه رجلا من إخوانه الزهاد بطرسوس وهو يقول له: ليس ما أشار به عليك من استشرته في أمر الارتفاق «1» والفسخ «2» برأي تحمد عاقبته، فلا تقبله. ومن ترك شيئا لله عز وجلّ عوّضه الله عنه، فأمض ما كنت عزمت عليه. فلما أصبح أنفذ الكتب إلى سائر الأعمال بذلك، وتقدّم به في سائر الدواوين بإمضائه، ودعا بابن دسومة فعرّفه بذلك، فقال له: قد أشار عليك رجلان، الواحد في اليقظة والآخر ميت في النوم، وأنت إلى الحيّ أقرب وبضمانه أوثق. فقال: دعنا من هذا، فلست أقبل منك. وركب في غد ذلك اليوم إلى نحو الصعيد، فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه، وهو رمل، فسقط الغلام في الرمل، فإذا بفتق، ففتح فأصيب فيه من المال ما كان مقداره ألف ألف دينار، وهو الكنز الذي شاع خبره، وكتب به إلى العراق أحمد بن طولون بخير المعتمد به ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البرّ وغيرها، فبنى منه المارستان، ثم أصاب بعده في الجبل مالا عظيما، فبنى منه الجامع ووقف جميع ما بقي من المال في الصدقات، وكانت صدقاته ومعروفه لا تحصى كثرة. ولما انصرف من الصحراء وحمل المال أحضر ابن دسومة وأراه المال وقال له: بئس الصاحب والمستشار أنت، هذا أوّل بركة مشورة الميت في النوم، ولولا أنني أمنتك لضربت عنقك، وتغيّر عليه وسقط محله عنده، ورفع إليه بعد ذلك أنه قد أجحف بالناس وألزمهم أشياء ضجوا منها، فقبض عليه وأخذ ماله وحبسه، فمات في حبسه. وكان ابن دسومة واسع الحيلة بخيل الكف زاهدا في شكر الشاكرين، لا يهش إلى شيء من أعمال البرّ. وكان أحمد بن طولون من أهل القرآن، إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرّع. وقال ابن عبد الظاهر: سمعت غير واحد يقول إنه لما فرغ أحمد بن طولون من بناء هذا الجامع، أسرّ للناس بسماع ما يقوله الناس فيه من العيوب. فقال رجل: محرابه صغير،

وقال آخر: ما فيه عمود. وقال آخر: ليست له ميضأة. فجمع الناس وقال: أما المحراب فإني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد خطه لي، فأصبحت فرأيت النمل قد أطافت بالمكان الذي خطه لي، وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إمّا أن تكون من مسجد أو كنيسة فنزهته عنها، وأما الميضأة فإني نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهرته منها، وها أنا أبنيها خلفه، ثم أمر ببنائها. وقيل أنه لما فرغ من بنائه رأى في منامه كأن نارا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ما حوله، فلما أصبح قص رؤياه، فقيل له: أبشر بقبول الجامع، لأنّ النار كانت في الزمان الماضي إذا قبل الله قربانا نزلت نار من السماء أخذته، ودليله قصة قابيل وهابل. قال: ورأيت من يقول أنه عمّر ما حوله حتى كان خلفه مسطبة ذراع في ذراع، أجرتها في كلّ يوم اثنا عشر درهما، في بكرة النهار، لشخص يبيع الغزل ويشتريه، والظهر لخباز، والعصر لشيخ يبيع الحمص والفول. وقيل عن أحمد بن طولون أنه كان لا يعبث بشيء قط، فاتفق أنه أخذ درجا أبيض بيده وأخرجه ومدّه واستيقظ لنفسه وعلم أنه قد فطن به، وأخذ عليه لكونه لم تكن تلك عادته، فطلب المعمار على الجامع وقال: تبني المنارة التي للتأذين هكذا، فبنيت على تلك الصورة، والعامّة يقولون أن العشاري الذي على المنارة المذكورة يدور مع الشمس، وليس صحيحا وإنما يدور مع دوران الرياح، وكان الملك الكامل قد اعتنى بوقودها ليلة النصف من شعبان، ثم أبطلها. وقال المسبحيّ: إن الحاكم أنزل إلى جامع ابن طولون ثمانمائة مصحف وأربعة عشر مصحفا. وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة في ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى، احترقت الفوّارة التي كانت بجامع ابن طولون فلم يبق منها شيء، وكانت في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها، وهي مذهبة على عشر عمد رخام وستة عشر عمود رخام في جوانبها، مفروشة كلها بالرخام، وتحت القبة قصعة رخام فسحتها أربعة أذرع، في وسطها فوّارة تفور بالماء، وفي وسطها قبة مزوّقة يؤذن فيها، وفي أخرى على سلمها، وفي السطح علامات الزوال، والسطح بدرابزين ساج، فاحترق جميع هذا في ساعة واحدة. وفي المحرّم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة أمر العزيز بالله بن المعز ببناء فوّارة عوضا عن التي احترقت، فعمل ذلك على يد راشد الحنفيّ، وتولى عمارتها ابن الرومية وابن البناء، وماتت أمّ العزيز في سلخ ذي القعدة من السنة والله أعلم. تجديد الجامع: وكان من خبر جامع ابن طولون أنه لما كان غلاء مصر في زمان المستنصر، وخربت القطائع والعسكر، عدم الساكن هناك وصار ما حول الجامع خرابا، وتوالت الأيام على ذلك وتشعث الجامع وخرب أكثره، وصار أخيرا ينزل فيه المغاربة بأباعرها ومتاعها عند ما تمرّ بمصر أيام الحج، فهيأ الله جلّ جلاله لعمارة هذا الجامع، أن كان بين الملك الأشرف خليل بن قلاون وبين الأمير بيدر أمور موشحة تزايدت وتأكدت،

إلى أن جمع بيدر من يثق به وقتل الأشرف بناحية تروجه في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر مدرسته، وكان ممن وافق الأمير بيدرا على قتل الأشرف، الأمير حسام الدين لاجين المنصوريّ، والأمير قراسنقر، فلما قتل بيدر في محاربة مماليك الأشرف له، فرّ لاجين وقراسنقر من المعركة، فاختفى لاجين بالجامع الطولونيّ، وقراسنقر في داره بالقاهرة، وصار لاجين يتردّد بمفرده من غير أحد معه في الجامع وهو حينئذ خراب لا ساكن فيه، وأعطى الله عهدا إن سلّمه الله من هذه المحنة ومكنه من الأرض أن يجدّد عمارة هذا الجامع ويجعل له ما يقوم به، ثم إنه خرج منه في خفية إلى القرافة فأقام بها مدّة، وراسل قراسنقر فتحيل في لحاقه به، وعملا أعمالا إلى أن اجتمعا بالأمير زين الدين كتبغا المنصوري، وهو إذ ذاك نائب السلطنة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، والقائم بأمور الدولة كلها، فأحضرهما إلى مجلس السلطان بقلعة الجبل بعد أن أتقن أمرهما مع الأمراء ومماليك السلطان، فخلع عليهما وصار كلّ منهما إلى داره وهو آمن، فلم تطل أيام الملك الناصر في هذه الولاية حتى خلعه الأمير كتبغا وجلس على تخت الملك، وتلقب بالملك العادل، فجعل لاجين نائب السلطنة بديار مصر، وجرت أمور اقتضت قيام لاجين على كتبغا وهم بطريق الشام، ففرّ كتبغا إلى دمشق واستولى لاجين على دست المملكة، وسار إلى مصر وجلس على سرير الملك بقلعة الجبل، وتلقب بالملك المنصور في المحرّم من سنة ست وتسعين وستمائة، فأقام قراسنقر في نيابة السلطنة بديار مصر، وأخرج الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى كرك الشوبك، فجعله في قلعتها، وأعانه أهل الشام على كتبغا حتى قبض عليه وجعله نائب حماه، فأقام بها مدّة سنين بعد سلطنة مصر والشام وخلع على الأمير علم الدين سنجر الدواداريّ وأقامه في نيابة دار العدل، وجعل إليه شراء الأوقاف على الجامع الطولونيّ، وصرف إليه كلّ ما يحتاج إليه في العمارة، وأكد عليه في أن لا يسخّر فيه فاعلا ولا صانعا، وأن لا يقيم مستحثا للصناع، ولا يشتري لعمارته شيئا مما يحتاج إليه من سائر الأصناف إلّا بالقيمة التامة، وأن يكون ما ينفق على ذلك من ماله، وأشهد عليه بوكالته، فابتاع منية أندونة من أراضي الجيزة، وعرفت هذه القرية بأندونة، كاتب بمصر كان نصرانيا في زمن أحمد بن طولون، وممن نكبه وأخذ منه خمسين ألف دينار، واشترى أيضا ساحة بجوار جامع أحمد بن طولون مما كان في القديم عامرا ثم خرب، وحكرها وعمر الجامع، وأزال كلّ ما كان فيه من تخريب، وبلطه وبيضه ورتب فيه دروسا لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة التي عمل أهل مصر عليها الآن، ودرسا يلقى فيه تفسير القرآن الكريم، ودرسا لحديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ودرسا للطب، وقرّر للخطيب معلوما، وجعل له إماما راتبا، ومؤذنين وفرّاشين وقومة، وعمل بجواره مكتبا لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله عز وجلّ، وغير ذلك من أنواع القربات ووجوه البرّ، فبلغت النفقة على عمارة الجامع وثمن مستغلاته عشرين ألف دينار، فلما شاء الله سبحانه أن يهلك لاجين، زيّن له

سوء عمله، عزل الأمير قراسنقر من نيابة السلطنة، فعزله وولى مملوكه منكوتمر، وكان عسوفا عجولا حادّا، ولاجين مع ذلك يركن إليه ويعوّل في جميع أموره عليه ولا يخالف قوله ولا ينقض فعله، فشرع منكوتمر في تأخير أمراء الدولة من الصالحية والمنصورية، وأعجل في إظهار التهجم لهم والإعلان بما يريده من القبض عليهم وإقامة أمراء غيرهم، فتوحشت القلوب منه وتمالأت على بغضه، ومشى القوم بعضهم إلى بعض وكاتبوا إخوانهم من أهل البلاد الشامية، حتى تمّ لهم ما يريدون، فواعد جماعة منهم إخوانهم على قتل السلطان لاجين ونائبه منكوتمر، فما هو إلّا أن صلّى السلطان العشاء الآخرة من ليلة الجمعة العاشر من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وستمائة، وإذا بالأمير كرجي وكان ممن هو قائم بين يديه، تقدّم ليصلح الشمعة، فضربه بسيف قد أخفاه معه أطار به زنده، وانقض عليه البقية ممن واعدوهم بالسيوف والخناجر، فقطعوه قطعا، وهو يقول الله الله، وخرجوا من فورهم إلى باب القلة من قلعة الجبل، فإذا بالأمير طفج قد جلس في انتظارهم ومعه عدّة من الأمراء، وكانوا إذ ذاك يبيتون بالقلعة دائما، فأمروا بإحضار منكوتمر من دار النيابة بالقلعة وقتلوه بعد مضيّ نصف ساعة من قتل أستاذه الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ رحمه الله. فلقد كان مشكور السيرة. وفي سنة سبعة وستين وسبعمائة جدّد الأمير يلبغا العمريّ الخاصكيّ درسا بجامع ابن طولون، فيه سبعا مدرّسين للحنفية، وقرّر لكلّ فقيه من الطلبة في الشهر أربعين درهما وأردب قمح، فانتقل جماعة من الشافعية إلى مذهب الحنفية. وأوّل من ولّي نظره بعد تجديده الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ وهو إذ ذاك دوادار السلطان الملك المنصور لاجين، ثم ولّي نظره قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، ثم من بعده الأمير مكين في أيام الناصر محمد بن قلاون، فجدّد في أوقافه طاحونا وفرنا وحوانيت. فلما مات وليه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، ثم ولّاه الناصر للقاضي كريم الدين الكبير، فحدّد فيه مئذنتين، فلما نكبه السلطان عاد نظره إلى قاضي القضاة الشافعيّ، وما برح إلى أيام الناصر حسن بن محمد بن قلاون، فولّاه للأمير صرغتمش، وتوفر في مدّة نظره من مال الوقف مائة ألف درهم فضة، وقبض عليه وهي حاصلة، فباشره قاضي القضاة إلى أيام الأشرف شعبان بن حسين، ففوّض نظره إلى الأمير الجاي اليوسفيّ إلى أن غرق، فتحدّث فيه قاضي القضاة الشافعيّ إلى أن فوّض السلطان الملك الظاهر برقوق نظره إلى الأمير قطلو بغا الصفويّ، في العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وكان الأمير منطاش مدّة تحكمه في الدولة فوّضه إلى المذكور في أواخر شوّال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ثم عاد نظره إلى القضاة بعد الصفويّ وهو بأيديهم إلى اليوم. وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جدّد الرواق البحريّ الملاصق للمئذنة، الحاج عبيد الله محمد بن عبد الهادي الهويديّ البازدار مقدّم الدولة. وجدّد ميضأة بجانب الميضأة القديمة، وكان عبيد

ذكر دار الإمارة

هذا بازدارا، ثم ترقّى حتى صار مقدّم الدولة، في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، ثم ترك زيّ المقدّمين وتزيّا بزيّ الأمراء، وحاز نعمة جليلة وسعادة طائلة حتى مات يوم السبت رابع عشر صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة. ذكر دار الإمارة وكان بجوار الجامع الطولونيّ دار أنشأها الأمير أحمد بن طولون عندما بني الجامع، وجعلها في الجهة القبلية، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة بجوار المحراب والمنبر، وجعل في هذه الدار جميع ما يحتاج إليه من الفرش والستور والآلات، فكان ينزل بها إذا راح إلى صلاة الجمعة، فإنها كانت تجاه القصر والميدان، فيجلس فيها ويجدّد وضوءه ويغير ثيابه، وكان يقال لها دار الإمارة، وموضعها الآن سوق الجامع حيث البزازين وغيرهم، ولم تزل هذه الدار باقية إلى أن قدم الإمام المعز لدين الله أبو تميم معدّ من بلاد المغرب، فكان يستخرج فيها أموال الخراج. قال الفقيه الحسن بن إبراهيم بن زولاق في كتاب سيرة المعز: ولست عشرة بقيت من المحرّم، يعني من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة قلّد المعز لدين الله الخراج وجميع وجوه الأعمال والحسبة والسواحل والأعشار والجوالي والأحباس والمواريث والشرطيين، وجميع ما ينضاف إلى ذلك، وما يطرأ في مصر وسائر الأعمال، أبا الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، وعسلوج بن الحسن، وكتب لهما سجلا بذلك قريء يوم الجمعة على منبر جامع أحمد بن طولون، وجلسا غد هذا اليوم في دار الإمارة في جامع أحمد بن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأعمال، ثم خربت هذه الدار فيما خرب من القطائع والعسكر، وصار موضعها ساحة إلى أن حكرها الدويداريّ عند تجديد عمارة الجامع كما تقدّم، وقد ذكر بناء القيسارية في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر الأسواق. ذكر الأذان بمصر وما كان فيه من الاختلاف اعلم أن أوّل من أذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلال بن رباح، مولى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، بالمدينة الشريفة وفي الأسفار، وكان ابن أمّ مكتوم واسمه عمرو بن قيس بن شريح من بني عامر بن لؤيّ، وقيل اسمه عبد الله، وأمّه أمّ مكتوم، واسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة من بني مخزوم، ربما أذن بالمدينة، وأذن أبو محذورة، واسمه أوس، وقيل سمرة بن معير بن لوذان بن ربيعة بن معير بن عريج بن سعد بن جمح، وكان استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أن يؤذن مع بلال، فأذن له وكان يؤذن في المسجد الحرام، وأقام بمكة ومات بها ولم يأت المدينة. قال ابن الكلبيّ: كان أبو محذورة لا يؤذن للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة إلّا في الفجر، ولم يهاجر وأقام بمكة.

وقال ابن جريج: علّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبا محذورة الأذان بالجعرانة حين قسم غنائم حنين، ثم جعله مؤذنا في المسجد الحرام. وقال الشعبيّ: أذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلال وأبو محذورة وابن أمّ مكتوم، وقد جاء أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يؤذن بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند المنبر، وقال محمد بن سعد عن الشعبيّ: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة مؤذنين، بلال وأبو محذورة وعمرو بن أمّ مكتوم، فإذا غاب بلال أذن أبو محذورة، وإذا غاب أبو محذورة أذن ابن أمّ مكتوم. قلت: لعلّ هذا كان بمكة. وذكر ابن سعد أنّ بلالا أذن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر رضي الله عنه، وأن عمر رضي الله عنه أراده أن يؤذن له فأبى عليه فقال له: إلى من ترى أن أجعل النداء؟ فقال: إلى سعد القرظ فإنه قد أذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعاه عمر رضي الله عنه فجعل النداء إليه وإلى عقبه من بعده، وقد ذكر أن سعد القرظ كان يؤذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقباء. وذكر أبو داود في «مراسيله» والدارقطنيّ في «سننه» ، قال بكير بن عبد الله الأشج: كانت مساجد المدينة تسعة سوى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كلهم يصلون بأذان بلال رضي الله عنه. وقد كان عند فتح مصر الأذان إنما هو بالمسجد الجامع المعروف بجامع عمرو، وبه صلاة الناس بأسرهم، وكان من هدى الصحابة والتابعين رضي الله عنهم المحافظة على الجماعة وتشديد النكير على من تخلف عن صلاة الجماعة. قال أبو عمرو الكندي في ذكر من عرّف على المؤذنين بجامع عمرو بن العاص بفسطاط مصر، وكان أوّل من عرّف على المؤذنين أبو مسلم سالم بن عامر بن عبد المراديّ، وهو من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أذن لعمر بن الخطاب، سار إلى مصر مع عمرو بن العاص يؤذن له حتى افتتحت مصر، فأقام على الأذان وضمّ إليه عمرو بن العاص تسعة رجال يؤذنون هو عاشرهم، وكان الأذان في ولده حتى انقرضوا. قال أبو الخير: حدّثني أبو مسلم وكان مؤذنا لعمرو بن العاص، أن الأذان كان أوّله لا إله إلا الله، وآخره لا إله إلّا الله، وكان أبو مسلم يوصي بذلك حتى مات ويقول: هكذا كان الأذان. ثم عرّف عليهم أخوه شرحبيل بن عامر وكانت له صحبة، وفي عرافته زاد مسلمة بن مخلد في المسجد الجامع وجعل له المنار، ولم يكن قبل ذلك، وكان شرحبيل أوّل من رقي منارة مصر للأذان، وأن مسلمة بن مخلد اعتكف في منارة الجامع، فسمع أصوات النواقيس عالية بالفسطاط فدعا شرحبيل بن عامر، فأخبره بما ساءه من ذلك. فقال شرحبيل: فإني أمدّد بالأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر، فإنههم أيها الأمير أن ينقسوا إذا أذنت، فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقيس وقت الأذان، ومدّد شرحبيل ومطط أكثر الليل إلى أن مات شرحبيل سنة خمس وستين.

وذكر عن عثمان رضي الله عنه أنه أوّل من رزق المؤذنين، فلما كثرت مساجد الخطبة أمر مسلمة بن مخلد الأنصاريّ في إمارته على مصر ببناء المنار في جميع المساجد خلا مساجد تجيب وخولان، فكانوا يؤذنون في الجامع أوّلا، فإذا فرغوا أذن كلّ مؤذن في الفسطاط في وقت واحد، فكان لأذانهم دويّ شديد. وكان الأذان أوّلا بمصر كأذان أهل المدينة، وهو الله أكبر الله أكبر وباقيه كما هو اليوم، فلم يزل الأمر بمصر على ذلك في جامع عمرو بالفسطاط، وفي جامع العسكر، وفي جامع أحمد بن طولون وبقية المساجد إلى أن قدم القائد جوهر بجيوش المعز لدين الله وبنى القاهرة، فلما كان في يوم الجمعة الثامن من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، صلّى القائد جوهر الجمعة في جامع أحمد بن طولون، وخطب به عبد السميع بن عمر العباسيّ بقلنسوة وسبني وطيلسان دبسيّ، وأذن المؤذنون حيّ على خير العمل، وهو أوّل ما أذن به بمصر، وصلّى به عبد السميع الجمعة فقرأ سورة الجمعة إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ وقنت في الركعة الثانية وانحط إلى السجود ونسي الركوع، فصاح به عليّ بن الوليد قاضي عسكر جوهر بطلت الصلاة أعد ظهرا أربع ركعات، ثم أذن بحيّ على خير العمل في سائر مساجد العسكر إلى حدود مسجد عبد الله، وأنكر جوهر على عبد السميع أنه لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في كلّ سورة، ولا قرأها في الخطبة، فأنكره جوهر ومنعه من ذلك. ولأربع بقين من جمادى الأولى المذكور، أذّن في الجامع العتيق بحيّ على خير العمل، وجهروا في الجامع بالبسملة في الصلاة، فلم يزل الأمر على ذلك طول مدّة الخلفاء الفاطميين، إلّا أن الحاكم بأمر الله في سنة أربعمائة أمر بجمع مؤذني القصر وسائر الجوامع، وحضر قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ، وقرأ أبو عليّ العباسيّ سجلا فيه الأمر بترك حيّ على خير العمل في الأذان، وأن يقال في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم، وأن يكون ذلك من مؤذني القصر عند قولهم السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله، فامتثل ذلك. ثم عاد المؤذنون إلى قول حيّ على خير العمل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعمائة، ومنع في سنة خمس وأربعمائة مؤذني جامع القاهرة ومؤذني القصر من قولهم بعد الأذان السلام على أمير المؤمنين، وأمرهم أن يقولوا بعد الأذان، الصلاة رحمك الله. ولهذا الفعل أصل. قال الواقديّ: كان بلال رضي الله عنه يقف على باب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول: السلام عليك يا رسول الله، وربما قال: السلام عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة، السلام عليك يا رسول الله. قال البلاذريّ وقال غيره: كان يقول السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، الصلاة يا رسول الله. فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة كان سعد القرظ يقف على بابه فيقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله ورحمة الله

وبركاته، حي على الصلاة حيّ على الفلاح، الصلاة يا خليفة رسول الله. فلما استخلف عمر رضي الله عنه كان سعد يقف على بابه فيقول: السلام عليك يا خليفة خليفة رسول الله ورحمة الله، حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، الصلاة يا خليفة خليفة رسول الله. فلما قال عمر رضي الله عنه للناس: أنتم المؤمنين وأنا أميركم. فدعي أمير المؤمنين، استطالة لقول القائل يا خليفة خليفة رسول الله، ولمن بعده خليفة خليفة رسول الله. كان المؤذن يقول: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، الصلاة يا أمير المؤمنين. ثم إن عمر رضي الله عنه أمر المؤذن فزاد فيها رحمك الله. ويقال أنّ عثمان رضي الله عنه زادها، وما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا على الخلفاء وأمراء الأعمال، ثم يقيمون الصلاة بعد السلام، فيخرج الخليفة أو الأمير فيصلي بالناس. هكذا كان العمل مدّة أيام بني أمية، ثم مدّة خلافة بني العباس أيام كانت الخلفاء وأمراء الأعمال تصلي بالناس. فلما استولى العجم وترك خلفاء بني العباس الصلاة بالناس، ترك ذلك كما ترك غيره من سنن الإسلام، ولم يكن أحد من الخلفاء الفاطميين يصلي بالناس الصلوات الخمس في كل يوم، فسلم المؤذنون في أيامهم على الخليفة بعد الأذان للفجر فوق المنارات، فلمّا انقضت أيامهم وغير السلطان صلاح الدين رسومهم لم يتجاسر المؤذنون على السلام عليه احتراما للخليفة العباسيّ ببغداد، فجعلوا عوض السلام على الخليفة السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستمرّ ذلك قبل الأذان للفجر في كلّ ليلة بمصر والشام والحجاز، وزيد فيه بأمر المحتسب صلاح الدين عبد الله البرلسيّ، الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، وكان ذلك بعد سنة ستين وسبعمائة، فاستمرّ ذلك. ولمّا تغلب أبو عليّ بن كتيفات بن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ على رتبة الوزارة في أيام الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله، في سادس عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسجن الحافظ وقيده واستولى على سائر ما في القصر من الأموال والذخائر، وحملها إلى دار الوزارة، وكان إماميا متشدّدا في ذلك، خالف ما عليه الدولة من مذهب الإسماعيلية، وأظهر الدعاء للإمام المنتظر، وأزال من الأذان حيّ على خير العمل، وقولهم محمد وعليّ خير البشر، وأسقط ذكر إسماعيل بن جعفر الذي تنتسب إليه الإسماعيلية، فلما قتل في سادس عشر المحرّم سنة ست وعشرين وخمسمائة، عاد الأمر إلى الخليفة الحافظ وأعيد إلى الأذان ما كان أسقط منه. وأوّل من قال في الأذان بالليل محمد وعليّ خير البشر، الحسين المعروف بأمير كابن شكنبه، ويقال أشكنبه، وهو اسم أعجميّ معناه الكرش، وهو عليّ بن محمد بن عليّ بن

إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وكان أوّل تأذينه بذلك في أيام سيف الدولة بن حمدان بحلب في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. قاله الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة، ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه حيّ على خير العمل، ومحمد وعليّ خير البشر إلى أيام نور الدين محمود. فلما فتح المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلاوية، استدعى أبا الحسن عليّ بن الحسن بن محمد البلخيّ الحنفيّ إليها، فجاء ومعه جماعة من الفقهاء وألقى بها الدروس، فلما سمع الأذان أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان وقال لهم: مروهم يؤذنوا الأذان المشروع، ومن امتنع كبوه على رأسه. فصعدوا وفعلوا ما أمرهم به، واستمرّ الأمر على ذلك. وأمّا مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم إلى أن استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر، وأزال الدولة الفاطمية في سنة سبع وستين وخمسمائة، وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وعقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله، فأبطل من الأذان قول حيّ على خير العمل، وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة، وفيه تربيع التكبير وترجيع الشهادتين، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في مصر، فصار يؤذن في بعض المدارس التي للحنيفة بأذان أهل الكوفة، وتقام الصلاة أيضا على رأيهم، وما عدا ذلك فعلى ما قلنا، إلّا أنه في ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو شيء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسيّ بعد سنة ستين وسبعمائة، فاستمرّ إلى أن كان في شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ومتولي الأمر بديار مصر الأمير منطاش، القائم بدولة الملك الصالح المنصور، أمير حاج المعروف بحاجي بن شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون. فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة جمعة، وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه فقال لهم: أتحبون أن يكون هذا السلام في كلّ أذان؟ قالوا: نعم. فبات تلك الليلة وأصبح متواجدا يزعم أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منامه، وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب فيبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كلّ أذان، فمضى إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبديّ وكان شيخا جهولا وبلهانا مهولا سيء السيرة في الحسبة والقضاء، متهافتا على الدرهم ولو قاده إلى البلاء، لا يحتشم من أخذ البرطيل والرشوة، ولا يراعي في مؤمن إلّا ولا ذمّة قد ضرى على الآثام، وتجسد من أكل الحرام، يرى أن العلم إرخاء العذبة ولبس الجبة، ويحسب أنّ رضي الله سبحانه في ضرب العباد بالدرة وولاية الحسبة، لم تحمد الناس قط أياديه، ولا شكرت أبدا مساعيه، بل جهالاته شائعة وقبائح أفعاله ذائعة، أشخص غير مرّة إلى مجلس المظالم، وأوقف مع من أوقف للمحاكمة بين يدي السلطان من أجل عيوب فوادح، حقق فيها شكاته عليه القوادح، وما زال في السيرة

مذموما ومن العامّة والخاصة ملوما. وقال له: رسول الله يأمرك أن تتقدّم لسائر المؤذنين بأن يزيدوا في كل أذان قولهم الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، كما يفعل في ليالي الجمع، فأعجب الجاهل هذا القول، وجهل أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأمر بعد وفاته إلّا بما يوافق ما شرّعه الله على لسانه في حياته، وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن الزيادة فيما شرعه حيث يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى/ 21] وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم ومحدثات الأمور» فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة، وتمت هذه البدعة واستمرّت إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام، وصارت العامّة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الأذان الذي لا يحلّ تركه، وأدّى ذلك إلى أن زاد بعض أهل الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين ماتوا، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وأما التسبيح في الليل على المآذن، فإنه لم يكن من فعل سلف الأمّة، وأوّل ما عرف من ذلك أن موسى بن عمران صلوات الله عليه، لما كان ببني إسرائيل في التيه بعد غرق فرعون وقومه، اتخذ بوقين من فضة مع رجلين من بني إسرائيل، ينفخان فيهما وقت الرحيل ووقت النزول، وفي أيام الأعياد، وعند ثلث الليل الأخير من كلّ ليلة، فتقوم عند ذلك طائفة من بني لاوي سبط موسى عليه السّلام ويقولون نشيدا منزلا بالوحي، فيه تخويف وتحذير وتعظيم لله تعالى، وتنزيله له تعالى، إلى وقت طلوع الفجر، واستمر الحال على هذا كلّ ليلة مدّة حياة موسى عليه السّلام، وبعده أيام يوشع بن نون، ومن قام في بني إسرائيل من القضاة إلى أن قام بأمرهم داود عليه السّلام وشرع في عمارة بيت المقدس، فرتّب في كلّ ليلة عدّة من بني لاوي يقومون عند ثلث الليل الآخر، فمنهم من يضرب بالآلات كالعود والسطير والبربط والدف والمزمار. ونحو ذلك، ومنهم من يرفع عقيرته بالنشائد المنزلة بالوحي على نبيّ الله موسى عليه السّلام، والنشائد المنزلة بالوحي على داود عليه السّلام. ويقال أنّ عدد بني لاوي هذا كان ثمانين وثلاثين ألف رجل، قد ذكر تفصيلهم في كتاب الزبور، فإذا قام هؤلاء ببيت المقدس، قام في كلّ محلة من محال بيت المقدس رجال يرفعون أصواتهم بذكر الله سبحانه من غير آلات، فإنّ الآلات كانت مما يختص ببيت المقدس فقط، وقد نهوا عن ضربها في غير البيت، فيتسامع من قرية بيت المقدس، فيقوم في كلّ قرية رجال يرفعون أصواتهم بذكر الله تعالى حتى يهمّ الصوت بالذكر جميع قرى بني إسرائيل ومدنهم، وما زال الأمر على ذلك في كلّ ليلة إلى أن خرّب بخت نصر بيت المقدس وجلا بني إسرائيل إلى بابل، فبطل هذا العمل وغيره من بلاد بني إسرائيل مدّة جلائهم في بابل سبعين سنة، فلما اعاد بنو إسرائيل من بابل وعمروا البيت العمارة

الجامع الأزهر

الثانية، أقاموا شرائعهم وعاد قيام بني لاوي بالبيت في الليل، وقيام أهل محال القدس وأهل القرى والمدن على ما كان العمل عليه أيام عمارة البيت الأولى، واستمرّ ذلك إلى أن خرب القدس بعد قتل نبيّ الله يحيى بن زكريا، وقيام اليهود على روح الله ورسوله عيسى ابن مريم صلوات الله عليهم على يد طيطش، فبطلت شرائع بني إسرائيل من حينئذ وبطل هذا القيام فيما بطل من بلاد بني إسرائيل. وأما في الملة الإسلامية فكان ابتداء هذا العمل بمصر، وسببه أن مسلمة بن مخلد أمير مصر بنى منارا لجامع عمرو بن العاص، واعتكف فيه فسمع أصوات النواقيس عالية، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين فقال: إني أمدّد الأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر، فإنههم أيها الأمير أن ينقسوا إذا أذنت. فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقيس وقت الأذان، ومدّد شرحبيل ومطط أكثر الليل، ثم إن الأمير أبا العباس أحمد بن طولون كان قد جعل في حجرة تقرب منه رجالا تعرف بالمكبرين، عدّتهم اثنا عشر رجلا، يبيت في هذه الحجرة كلّ ليلة أربعة يجعلون الليل بينهم عقبا، فكانوا يكبرون ويسبحون ويحمدون الله سبحانه في كلّ وقت ويقرءون القرآن بألحان، ويتوسلون ويقولون قصائد زهية، ويؤذنون في أوقات الأذان، وجعل لهم أرزاقا واسعة تجري عليهم. فلما مات أحمد بن طولون وقام من بعده ابنه أبو الجيش خمارويه، أقرّهم بحالهم وأجراهم على رسمهم مع أبيه، ومن حينئذ اتخذ الناس قيام المؤذنين في الليل على المآذن، وصار يعرف ذلك بالتسبيح. فلما ولي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب سلطنة مصر وولى القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الهدبانيّ المارانيّ الشافعيّ، كان من رأيه ورأي السلطان اعتقاد مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعريّ في الأصول، فحمل الناس إلى اليوم على اعتقاده، حتى يكفّر من خالفه، وتقدّم الأمر إلى المؤذنين أن يعلنوا في وقت التسبيح على المآذن بالليل بذكر العقيدة التي تعرف بالمرشدة، فواظب المؤذنون على ذكرها في كلّ ليلة بسائر جوامع مصر والقاهرة إلى وقتنا هذا. ومما أحدث أيضا، التذكير في يوم الجمعة من أثناء النهار بأنواع من الذكر على المآذن، ليتهيأ الناس لصلاة الجمعة، وكان ذلك بعد السبعمائة من سني الهجرة. قال ابن كثير رحمه الله في يوم الجمعة سادس ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة، رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مآذن دمشق كما يذكر في مآذن الجامع الأمويّ، ففعل ذلك. الجامع الأزهر هذا الجامع أوّل مسجد أسس بالقاهرة، والذي أنشأه القائد جوهر الكاتب الصقليّ، مولى الإمام أبي تميم معدّ الخليفة أمير المؤمنين المعز لدين الله لما اختط القاهرة، وشرع في بناء هذا الجامع في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين

وثلاثمائة، وكمل بناؤه لتسع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة وجمع فيه، وكتب بدائر القبة التي في الرواق الأوّل، وهي على يمنة المحراب والمنبر، ما نصه بعد البسملة: مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم معدّ الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين، على يد عبده جوهر الكاتب الصقليّ، وذلك في سنة ستين وثلاثمائة. وأوّل جمعة جمعت فيه في شهر رمضان لسبع خلون منه سنة إحدى وستين وثلاثمائة. ثم إن العزيز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدين الله جدّد فيه أشياء، وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة سأل الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس الخليفة العزيز بالله في صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كلّ واحد منهم من الرزق الناض، وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلّى العصر، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كلّ سنة، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وخلع عليهم العزيز يوم عيد الفطر، وحملهم على بغلات. ويقال أنّ بهذا الجامع طلسما، فلا يسكنه عصفور، ولا يفرّخ به، وكذا سائر الطيور من الحمام واليمام وغيره، وهو صورة ثلاثة طيور منقوشة، كلّ صورة على رأس عمود، فمنها صورتان في مقدّم الجامع بالرواق الخامس، منهما صورة في الجهة الغربية في العمود، وصورة في أحد العمودين اللذين على يسار من استقبل سدّة المؤذنين، والصورة الأخرى في الصحن في الأعمدة القبلية مما يلي الشرقية، ثم إن الحاكم بأمر الله جدّده ووقف على الجامع الأزهر وجامع المقس والجامع الحاكميّ ودار العلم بالقاهرة رباعا بمصر، وضمّن ذلك كتابا نسخته: هذا كتاب، أشهد قاضي القضاة مالك بن سعيد بن مالك الفارقيّ، على جميع ما نسب إليه مما ذكر ووصف فيه، من حضر من الشهود في مجلس حكمه وقضائه بفسطاط مصر، في شهر رمضان سنة أربعمائة، أشهدهم وهو يومئذ قاضي، عبد الله ووليه المنصور أبي عليّ الإمام الحاكم بأمر الله المؤمنين بن الإمام العزيز بالله صلوات الله عليهما على القاهرة المعزية ومصر والإسكندرية والحرمين حرسهما الله، وأجناد الشام والرقة والرحبة ونواحي المغرب، وسائر أعمالهنّ وما فتحه الله ويفتحه لأمير المؤمنين من بلاد الشرق والغرب، بمحضر رجل متكلم أنّه صحت عنده معرفة المواضع الكاملة، والحصص الشائعة، التي يذكر جميع ذلك، ويحدد في هذا الكتاب، وأنها كانت من أملاك الحاكم إلى أن حبسها على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة، والجامع براشدة، والجامع بالمقس، اللذين أمر بإنشائهما وتأسيس بنائهما، وعلى دار الحكمة بالقاهرة المحروسة التي وقفها، والكتب التي فيها قبل تاريخ هذا الكتاب، ومنها ما يخص الجامع الأزهر والجامع براشدة ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة. مشاعا، جميع ذلك غير مقسوم، ومنها ما يخص الجامع بالمقس، على شرائط يجري ذكرها، فمن ذلك ما تصدّق به على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة، والجامع براشدة، ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة،

جميع الدار المعروفة بدار الضرب، وجميع القيسارية المعروفة بقيسارية الصوف، وجميع الدار المعروفة بدار الخرق الجديدة، الذي كله بفسطاط مصر، ومن ذلك ما تصدّق به على جامع المقس، جميع أربعة الحوانيت والمنازل التي علوها والمخزنين الذي ذلك كله بفسطاط مصر بالراية في جانب المغرب من الدار المعروفة كانت بدار الخرق، وهاتان الداران المعروفتان بدار الخرق في الموضع المعروف بحمام الفار، ومن ذلك جميع الحصص الشائعة من أربعة الحوانيت المتلاصقة التي بفسطاط مصر بالراية، أيضا بالموضع المعروف بحمام الفار، وتعرف هذه الحوانيت بحصص القيسيّ، بحدود ذلك كله، وأرضه وبنائه وسفله وعلوه وغرفه ومرتفقاته وحوانيته وساحاته وطرقه وممرّاته ومجاري مياهه، وكل حق هو له داخل فيه وخارج عنه، وجعل ذلك كله صدقة موقوفة محرّمة محبسة بتة بتلة، لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا تمليكها، باقية على شروطها جارية على سبلها المعروفة في هذا الكتاب، لا يوهنها تقادم السنين، ولا تغير بحدوث حدث، ولا يستثنى فيها ولا يتأوّل، ولا يستفتي بتجدّد تحبيسها مدى الأوقات، وتستمرّ شروطها على اختلاف الحالات حتى يرث الله الأرض والسماوات، على أن يؤجر ذلك في كلّ عصر من ينتهي إليه ولايتها ويرجع إليه أمرها، بعد مراقبة الله واجتلاب ما يوفر منفعتها من إشهارها عند ذوي الرغبة في إجارة أمثالها، فيبتدأ من ذلك بعمارة ذلك على حسب المصلحة وبقاء العين ومرمّته من غير إجحاف بما حبس ذلك عليه. وما فضل كان مقصوما على ستين سهما فمن ذلك للجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة المذكور في هذا الإشهاد، الخمس، والثمن، ونصف السدس، ونصف التسع، يصرف ذلك فيما فيه عمارة له ومصلحة، وهو من العين المعزيّ الوازن ألف دينار واحدة وسبعة وستون دينارا ونصف دينار وثمن دينار، من ذلك للخطيب بهذا الجامع أربعة وثمانون دينارا، ومن ذلك لثمن ألف ذراع حصر عبدانيّة تكون عدّة له بحيث لا ينقطع من حصره عند الحاجة إلى ذلك، ومن ذلك لثمن ثلاثة عشر ألف ذراع حصر مظفورة لكسوة هذا الجامع في كلّ سنة عند الحاجة إليها مائة دينار واحدة وثمانية دنانير، ومن ذلك لثمن ثلاثة قناطير زجاج وفراخها اثنا عشر دينارا ونصف وربع دينار، ومن ذلك لثمن عود هنديّ للبخور في شهر رمضان وأيام الجمع مع ثمن الكافور والمسك، وأجرة الصانع خمسة عشر دينارا، ومن ذلك لنصف قنطار شمع بالفلفليّ سبعة دنانير، ومن ذلك لكنس هذا الجامع ونقل التراب وخياطة الحصر وثمن الخيط وأجرة الخياطة خمسة دنانير، ومن ذلك لثمن مشاقة لسرج القناديل عن خمسة وعشرين رطلا بالرطل الفلفليّ دينار واحد، ومن ذلك لثمن فحم للبخور عن قنطار واحد بالفلفليّ نصف دينار، ومن ذلك لثمن أردبين ملحقا للقناديل ربع دينار، ومن ذلك ما قدّر لمؤنة النحاس والسلاسل والتنانير والقباب التي فوق سطح الجامع أربعة وعشرون دينارا، ومن ذلك لثمن سلب ليف وأربعة أحبل وست دلاء أدم نصف دينار، ومن ذلك لثمن

قنطارين خرقا لمسح القناديل نصف دينار، ومن ذلك لثمن عشر قفاف للخدمة وعشرة أرطال قنب لتعليق القناديل ولثمن مائتين مكنسة لكنس هذا الجامع دينار واحد وربع دينار، ومن ذلك لثمن أزيار فخار تنصب على المصنع ويصبّ فيها الماء مع الجرة حملها ثلاثة دنانير، ومن ذلك لثمن زيت وقود هذا الجامع راتب السنة ألف رطل ومائتا رطل مع أجرة الحمل سبعة وثلاثون دينارا ونصف، ومن ذلك لأرزاق المصلين يعني الأئمة وهم ثلاثة وأربعة قومة ومسة عشر مؤذنا خمسمائة دينار وستة وخمسون دينارا ونصف، منها للمصلين لكلّ رجل منهم ديناران وثلثا دينار وثمن دينار في كلّ شهر من شهور السنة، والمؤذنون والقومة لكلّ رجل منهم ديناران في كلّ شهر، ومن ذلك للمشرف على هذا الجامع في كلّ سنة أربعة وعشرون دينارا، ومن ذلك لكنس المصنع بهذا الجامع ونقل ما يخرج منه من الطين والوسخ دينار واحد، ومن ذلك لمرمّة ما يحتاج إليه في هذا الجامع في سطحه وأترابه وحياطته وغير ذلك مما قدّر لكلّ سنة ستون دينارا، ومن ذلك لثمن مائة وثمانين حمل تبن ونصف حمل جارية لعلف رأسي بقر للمصنع الذي لهذا الجامع ثمانية دنانير ونصف وثلث دينار، ومن ذلك للتبن لمخزن يوضع فيه بالقاهرة أربعة دنانير، ومن ذلك لثمن فدّانين قرط لتربيع رأسي البقر المذكورين في النة سبعة دنانير، ومن ذلك لأجرة متولي العلف وأجرة السقاء والحبال والقواديس وما يجري مجرى ذلك خمسة عشر دينارا ونصف، ومن ذلك لأجرة قيم الميضأة إن عملت بهذا الجامع اننا عشر دينارا. وإلى هنا انقضى حديث الجامع الأزهر، وأخذ في ذكر جامع راشدة ودار العلم وجامع المقس، ثم ذكر أن تنانير الفضة ثلاثة تنانير، وتسعة وثلاثون قنديلا فضة، فللجامع الأزهر تنوران وسبعة وعشرون قنديلا، ومنها لجامع راشدة تنور واثنا عشر قنديلا، وشرط أن تعلق في شهر رمضان وتعاد إلى مكان جرت عادتها أن تحفظ به، وشرط شروطا كثيرة في الأوقاف منها: أنه إذا فضل شيء واجتمع يشترى به ملك، فإن عاز شيئا واستهدم ولم يف الريع بعمارته بيع وعمر به، وأشياء كثيرة، وحبس فيه أيضا عدّة آدر وقياسر لا فائدة في ذكرها، فإنها مما خربت بمصر. قال ابن عبد الظاهر عن هذا الكتاب: ورأيت منه نسخة، وانتقلت إلى قاضي القضاة تقيّ الدين بن رزين، وكان بصدر هذا الجامع في محرابه منطقة فضة، كما كان في محراب جامع عمرو بن العاص بمصر، قلع ذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب في حادي عشر ربيع الأوّل سنة تسع وستين وخمسمائة، لأنه كان فيها انتهاء خلفاء الفاطميين، فجاء وزنها خمسة آلاف درهم نقرة، وقلع أيضا المناطق من بقية الجوامع. ثم أن المستنصر جدّد هذا الجامع أيضا، وجدّده الحافظ لدين الله، وأنشأ فيه مقصورة لطيفة تجاور الباب الغربيّ الذي في مقدّم الجامع بداخل الرواقات، عرفت بمقصورة فاطمة، من أجل أن فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها رؤيت بها في المنام، ثم أنه جدّد في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ.

قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر في كتاب سيرة الملك الظاهر: لما كان يوم الجمعة الثامن عشر من ربيع الأوّل سنة خمس وستين وستمائة، أقيمت الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة، وسبب ذلك أن الأمير عز الدين أيدمر الحليّ كان جار هذا الجامع من مدّة سنين، فرعى وفقه الله حرمة الجار، ورأى أن يكون كما هو جاره في دار الدنيا، أنه غدا يكون ثوابه جاره في تلك الدار، ورسم بالنظر في أمره وانتزع له أشياء مغصوبة كان شيء منها في أيدي جماعة، وحاط أموره حتى جمع له شيئا صالحا، وجرى الحديث في ذلك، فتبرّع الأمير عز الدين له بجملة مستكثرة من المال الجزيل، وأطلق له من السلطان جملة من المال، وشرع في عمارته فعمّر الواهي من أركانه وجدارنه وبيّضه وأصلح سقوفه وبلطه وفرشه وكساه، حتى عاد حرما في وسط المدينة، واستجدّ به مقصورة حسنة، وآثر فيه آثارا صالحة يثيبه الله عليها، وعمل الأمير بيلبك الخازندار فيه مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله، ورتب في هذه المقصورة محدّثا يسمع الحديث النبويّ والرقائق، ووقف على ذلك الأوقاف الدارّ، ورتب به سبعة لقراءة القرآن، ورتب به مدرّسا أثابه الله على ذلك. ولما تكمّل تجديده تحدّث في إقامة جمعة فيه، فنودي في المدينة بذلك، واستخدم له الفقيه زين الدين خطيبا، وأقيمت الجمعة فيه في اليوم المذكور، وحضر الأتابك فارس الدين، والصاحب بها الدين عليّ بن حنا، وولده الصاحب فخر الدين محمد، وجماعة من الأمراء والكبراء، وأصناف العالم على اختلافهم، وكان يوم جمعة مشهودا، ولما فرغ من الجمعة جلس الأمير عز الدين الحليّ والأتابك والصاحب وقرىء القرآن ودعى للسلطان، وقام الأمير عز الدين ودخل إلى داره ودخل معه الأمراء، فقدّم لهم كلّ ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وانفصلوا، وكان قد جرى الحديث في أمر جواز الجمعة في الجامع وما ورد فيه. من أقاويل العلماء، وكتب فيها فتيا أخذ فيها خطوط العلماء بجواز الجمعة في هذا الجامع وإقامتها، فكتب جماعة خطوطهم فيها، وأقيمت صلاة الجمعة به واستمرّت، ووجد الناس به رفقا وراحة لقربه من الحارات البعيدة من الجامع الحاكميّ. قال وكان سقف هذا الجامع قد بني قصيرا فزيد فيه بعد ذلك وعلى ذراعا، واستمرّت الخطبة فيه حتى بني الجامع الحاكميّ، فانتقلت الخطبة إليه، فإن الخليفة كان يخطب فيه خطبة وفي الجامع الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون خطبة، وفي جامع مصر خطبة، وانقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالسلطنة، فإنه قلد وظيفة القضاء لقاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلد واحد كما هو مذهب الإمام الشافعيّ، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر وأقرّ الخطبة بالجامع الحاكميّ من أجل أنه أوسع. فلم يزل الجامع الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه مائة عام، من حين استولى

السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهر بيبرس كما تقدّم ذكره. ثم لما كانت الزلزلة بديار مصر في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة، سقط الجامع الأزهر والجامع الحاكميّ وجامع مصر وغيره، فتقاسم أمراء الدولة عمارة الجوامع، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عمارة الجامع الحاكميّ، وتولى الأمير سلار عمارة الجامع الأزهر، وتولى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار عمارة جامع الصالح، فجدّدوا مبانيها وأعادوا ما تهدّم منها. ثم جدّدت عمارة الجامع الأزهر على يد القاضي نجم الدين محمد بن حسين بن عليّ الأسعرديّ، محتسب القاهرة، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة. ثم جدّدت عمارته في سنة إحدى وستين وسبعمائة، عند ما سكن الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجامدار الناصريّ، في دار الأمير فخر الدين أبان الزاهديّ الصالحيّ النجميّ بخط الأبارين بجوار الجامع الأزهر، بعد ما هدمها وعمرها داره التي تعرف هناك إلى اليوم بدار بشير الجامدار، فأحب لقربه من الجامع أن يؤثر فيه أثرا صالحا، فاستأذن السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في عمارة الجامع، وكان أثيرا عنده خصيصا به، فأذن له في ذلك. وكان قد استجدّ بالجامع عدّة مقاصير ووضعت فيه صناديق وخزائن حتى ضيقته، فأخرج الخزائن والصناديق ونزع تلك المقاصير، وتتبع جدرانه وسقوفه بالإصلاح حتى عادت كأنها جديدة، وبيّض الجامع كله وبلطه، ومنع الناس من المرور فيه، ورتب فيه مصحفا وجعل له قارئا، وأنشأ على باب الجامع القبليّ حانوتا لتسبيل الماء العذب في كلّ يوم، وعمل فوقه مكتب سبيل لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز، ورتب للفقراء المجاورين طعاما يطبخ كلّ يوم، وأنزل إليه قدورا من نحاس جعلها فيه، ورتب فيه درسا للفقهاء من الحنفية يجلس مدرّسهم لإلقاء الفقه في المحراب الكبير، ووقف على ذلك أوقافا جليلة باقية إلى يومنا هذا، ومؤذنو الجامع يدعون في كلّ جمعة وبعد كلّ صلاة للسلطان حسن إلى هذا الوقت الذي نحن فيه. وفي سنة أربع وثمانين وسبعمائة ولي الأمير الطواشي بهادر المقدّم على المماليك السلطانية نظر الجامع الأزهر، فتنجز مرسوم السلطان الملك الظاهر برقوق بأنّ من مات من مجاوري الجامع الأزهر عن غير وارث شرعيّ وترك موجودا فإنه يأخذه المجاورون بالجامع، ونقش ذلك على حجر عند الباب الكبير البحريّ. وفي سنة ثمانمائة هدمت منارة الجامع، وكانت قصيرة، وعمّرت أطول منها، فبلغت النفقة عليها من مال السلطان خمسة عشر ألف درهم نقرة، وكملت في ربيع الآخر من السنة المذكورة، فعلّقت القناديل فيها ليلة الجمعة من هذا الشهر، وأوقدت حتى اشتعل الضوء من أعلاها إلى أسفلها، واجتمع القرّاء والوعاظ بالجامع وتلوا ختمة شريفة، ودعوا للسلطان فلم تزل هذه المئذنة إلى شوّال سنة سبع عشرة وثمانمائة، فهدمت لميل ظهر فيها، وعمل بدلها منارة من حجر على باب الجامع

البحريّ، بعد ما هدم الباب وأعيد بناؤه بالحجر، وركبت المنارة فوق عقده، وأخذ الحجر لها من مدرسة الملك الأشرف خليل التي كانت تجاه قلعة الجبل، وهدمها الملك الناصر فرج بن برقوق، وقام بعمارة ذلك الأمير تاج الدين التاج الشوبكيّ والي القاهرة ومحتسبها، إلى أن تمت في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وثمانمائة، فلم تقم غير قليل ومالت حتى كادت تسقط، فهدمت في صفر سنة سبع وعشرين، وأعيدت. وفي شوّال منها ابتدئ بعمل الصهريج الذي بوسط الجامع، فوجد هناك آثار فسقية ماء، ووجد أيضا رمم أموات، وتمّ بناؤه في ربيع الأوّل، وعمل بأعلاه مكان مرتفع له قبة يسبل فيه الماء، وغرس بصحن الجامع أربع شجرات، فلم تفلح وماتت، ولم يكن لهذا الجامع ميضأة عندما بني، ثم عملت ميضأته حيث المدرسة الأقبغاوية إلى أن بنى الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسته المعروفة بالمدرسة الأقبغاوية هناك، وأما هذه الميضأة التي بالجامع الآن فإن الأمير بدر الدين جنكل بن البابا بناها، ثم زيد فيها بعد سنة عشر وثمانمائة ميضأة المدرسة الأقبغاوية. وفي سنة ثمان عشرة وثمانمائة ولي نظر هذا الجامع الأمير سودوب القاضي حاجب الحجاب، فجرت في أيام نظره حوادث لم يتفق مثلها، وذلك أنه لم يزل في هذا الجامع منذ بني عدّة من الفقراء يلازمون الإقامة فيه، وبلغت عدّتهم في هذه الأيام سبعمائة وخمسين رجلا ما بين عجم وزيالعة، ومن أهل ريف مصر ومغاربة، ولكلّ طائفة رواق يعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو، ومجالس الوعظ وحلق الذكر، فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الإنس بالله والارتياح وترويح النفس ما لا يجده في غيره، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البرّ من الذهب والفضة والفلوس إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى، وكلّ قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات، لا سيما في المواسم. فأمر في جمادى الأولى من هذه السنة بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة فيه، وإخراج ما كان لهم فيه من صناديق وخزائن وكراسي المصاحف، زعما منه أن هذا العمل مما يثاب عليه، وما كان إلّا من أعظم الذنوب وأكثرها ضررا، فإنه حلّ بالفقراء بلاء كبير من تشتت شملهم وتعذر الأماكن عليهم، فساروا في القرى وتبذلوا بعد الصيانة، وفقد من الجامع أكثر ما كان فيه من تلاوة القرآن ودراسة العلم وذكر الله، ثم لم يرضه ذلك حتى زاد في التعدّي، وأشاع أن أناسا يبيتون بالجامع ويفعلون فيه منكرات، وكانت العادة قد جرت بمبيت كثير من الناس في الجامع ما بين تاجر وفقيه وجنديّ وغيرهم، منهم من يقصد بمبيته البركة، ومنهم من لا يجد مكانا يأويه، ومنهم من يستروح بمبيته هناك خصوصا في ليالي الصيف وليالي شهر رمضان، فإنه يمتلئ صحنه وأكثر رواقاته. فلما كانت ليلة الأحد الحادي عشر من جمادى الآخرة، طرق الأمير سودوب الجامع بعد العشاء الآخرة والوقت صيف، وقبض على جماعة وضربهم في الجامع، وكان قد جاء معه من الأعوان والغلمان

جامع الحاكم

وغوغاء العامّة ومن يريد النهب جماعة، فحلّ بمن كان في الجامع أنواع البلاء، ووقع فيهم النهب، فأخذت فرشهم وعمائمهم، وفتشت أوساطهم وسلبوا ما كان مربوطا عليها من ذهب وفضة، وعمل ثوبا أسود للمنبر وعلمين مزوّقين، بلغت النفقة على ذلك خمسة عشر ألف درهم، على ما بلغني، فعاجل الله الأمير سودوب وقبض عليه السلطان في شهر رمضان وسجنه بدمشق. جامع الحاكم هذا الجامع بني خارج باب الفتوح، أحد أبواب القاهرة، وأوّل من أسسه أمير المؤمنين العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معدّ، وخطب فيه وصلّي بالناس الجمعة، ثم أكمله ابنه الحاكم بأمر الله. فما وسّع أمير الجيوش بدر الجماليّ القاهرة وجعل أبوابها حيث هي اليوم، صار جامع الحاكم داخل القاهرة، وكان يعرف أوّلا بجامع الخطبة، ويعرف اليوم بجامع الحاكم، ويقال له الجامع الأنور. قال الأمير مختار عز الملك محمد بن عبيد الله بن أحمد المسبحيّ في تاريخ مصر: وفيه يعني شهر رمضان، سنة ثمانين وثلاثمائة خط أساس الجامع الجديد بالقاهرة مما يلي باب الفتوح من خارجه، وبديء بالبناء فيه، وتحلق فيه الفقهاء الذين يتحلقون في جامع القاهرة، يعني الجامع الأزهر، وخطب فيه العزيز بالله. وقال في حوادث سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة لأربع خلون من شهر رمضان، صلّى العزيز بالله في جامعه صلاة الجمعة، وخطب، وكان في مسيره بين يديه أكثر من ثلاثة آلاف، وعليه طيلسان وبيده القضيب، وفي رجله الحذاء. وركب لصلاة الجمعة في رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة إلى جامعه ومعه ابنه منصور، فجعلت المظلة على منصور وسار العزيز بغير مظلة. وقال في حوادث سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة: وأمر الحاكم بأمر الله أن يتم بناء الجامع الذي كان الوزير يعقوب بن كلس بدأ في بنيانه عند باب الفتوح، فقدّر للنفقة عليه أربعون ألف دينار، فابتدىء في العمل فيه. وفي صفر سنة إحدى وأربعمائة زيد في منارة جامع باب الفتوح، وعمل لها أركان طول كلّ ركن مائة ذراع، وفي سنة ثلاث وأربعمائة أمر الحاكم بأمر الله بعمل تقدير ما يحتاج إليه جامع باب الفتوح من الحصر والقناديل والسلاسل، فكان تكسير ما ذرع للحصر ستة وثلاثين ألف ذراع، فبلغت النفقة على ذلك خمسة آلاف دينار. قال: وتمّ بناء الجامع الجديد بباب الفتوح، وعلّق على سائر أبوابه ستور ديبقية عملت له، وعلّق فيه تنانير فضة عدّتها أربع، وكثير من قناديل فضة، وفرش جميعه بالحصر التي عملت له، ونصب فيه المنبر وتكامل فرشه وتعليقه، وأذن في ليلة الجمعة سادس شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة لمن بات في الجامع الأزهر أن يمضوا إليه، فمضوا. وصار

الناس طول ليلتهم يمشون من كلّ واحد من الجامعين إلى الآخر بغير مانع لهم، ولا اعتراض من أحد من عسس القصر، ولا أصحاب الطوف إلى الصبح. وصلّى فيه الحاكم بأمر الله بالناس صلاة الجمعة، وهي أوّل صلاة أقيمت فيه بعد فراغه. وفي ذي القعدة سنة أربع وأربعمائة حبس الحاكم عدّة قياسر وأملاك على الجامع الحاكميّ بباب الفتوح. قال ابن عبد الظاهر: وعلى باب الجامع الحاكميّ مكتوب أنّه أمر بعمله الحاكم أبو عليّ المنصور في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وعلى منبره مكتوب أنه أمر بعمل هذا المنبر للجامع الحاكميّ المنشأ بظاهر باب الفتوح في سنة ثلاث وأربعمائة، ورأيت في سيرة الحاكم، وفي يوم الجمعة أقيمت الجمعة في الجامع الذي كان الوزير أنشأه بباب الفتوح. ورأيت في سيرة الوزير المذكور، في يوم الأحد عاشر رمضان سنة تسع وسبعين وثلاثمائة خط أساس الجامع الجديد بالقاهرة خارج الطابية مما يلي باب الفتوح. قال: وكان هذا الجامع خارج القاهرة، فجدّد بعد ذلك باب الفتوح، وعلى البدنة التي تجاور باب الفتوح وبعض البرج مكتوب: إنّ ذلك بني سنة ثلاثين وأربعمائة في زمن المستنصر بالله، ووزارة أمير الجيوش، فيكون بينهما سبع وثمانون سنة. قال: والفسقية وسط الجامع بناها الصاحب عبد الله بن عليّ بن شكر وأجرى الماء إليها، وأزالها القاضي تاج الدين بن شكر، وهو قاضي القضاة في سنة ستين وستمائة، والزيادة التي إلى جانبه قيل إنها بناء ولده الظاهر عليّ ولم يكملها، وكان قد حبس فيها الفرنج فعملوا فيها كنائس، هدمها الملك الناصر صلاح الدين، وكان قد تغلب عليها وبنيت إصطبلات. وبلغني أنها كانت في الأيام المتقدّمة قد جعلت أهراء للغلال. فلما كان في الأيام الصالحية ووزارة معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ للملك الصالح أيوب ولد الكامل، ثبت عند الحاكم أنها من الجامع، وأن بها محرابا، فانتزعت وأخرج الخيل منها وبني فيها ما هو الآن في الأيام المعزية على يد الركن الصيرفيّ، ولم يسقف. ثم جدّد هذا الجامع في سنة ثلاث وسبعمائة. وذلك أنه لما كان يوم الخميس ثالث عشري ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة، تزلزلت أرض مصر والقاهرة وأعمالهما ورجل كلّ ما عليهما واهتز، وسمع للحيطان قعقعة، وللسقوف قرقعة، ومارت الأرض بما عليها وخرجت عن مكانها، وتخيل الناس أن السماء قد انطبقت على الأرض، فهربوا من أماكنهم وخرجوا عن مساكنهم، وبرزت النساء حاسرات، وكثر الصراخ والعويل، وانتشرت الخلائق فلم يقدر أحد على السكون والقرار لكثرة ما سقط من الحيطان، وخرّ من السقوف والمآذن وغير ذلك من الأبنية، وفاض ماء النيل فيضا غير المعتاد، وألقى ما كان عليه من المراكب التي بالساحل قدر رمية سهم، وانحسر عنها فصارت على الأرض بغير ماء، واجتمع العالم في الصحراء خارج القاهرة وباتوا ظاهر باب البحر بحرمهم وأولادهم في الخيم، وخلت المدينة وتشعثت جميع البيوت حتى لم يسلم ولا بيت من سقوط أو تسقط أو ميل، وقام الناس في الجوامع يبتهلون ويسألون الله سبحانه طول يوم الخميس وليلة الجمعة ويوم الجمعة.

فكان مما تهدّم في هذه الزلزلة: الجامع الحاكميّ، فإنه سقط كثير من البدنات التي فيه، وخرب أعالي المئذنتين، وتشعثت سقوفه وجدرانه، فانتدب لذلك الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ونزل إليه ومعه القضاة والأمراء، فكشفه بنفسه وأمر برمّ ما تهدّم منه، وإعادة ما سقط من البدنات. فأعيدت وفي كلّ بدنة منها طاق، وأقام سقوف الجامع وبيّضه حتى عاد جديدا، وجعل له عدّة أوقاف بناحية الجيزة وفي الصعيد وفي الإسكندرية، تغلّ كلّ سنة شيئا كثيرا، ورتب فيه دروسا أربعة لإقراء الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة، ودرسا لإقراء الحديث النبويّ، وجعل لكل درس مدرّسا وعدة كثيرة من الطلبة، فرتّب في تدريس الشافعية قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ، وفي تدريس الحنفية قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجيّ الحنفيّ، وفي تدريس المالكية قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ، وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة شرف الدين الجوّانيّ، وفي درس الحديث الشيخ سعد الدين مسعودا الحارثيّ، وفي درس النحو الشيخ أثير الدين أبا حيان، وفي درس القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفيّ، وفي التصدير لإفادة العلوم علاء الدين عليّ بن إسماعيل القونويّ، وفي مشيخة الميعاد المجد عيسى بن الخشاب، وعمل فيه خزانة كتب جليلة، وجعل فيه عدّة متصدّرين لتلقين القرآن الكريم، وعدّة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن، ومعلما يقرئ أيتام المسلمين كتاب الله عز وجلّ، وحفر فيه صهريجا بصحن الجامع ليملأ في كل سنة من ماء النيل، ويسبل منه الماء في كلّ يوم ويستقي منه الناس يوم الجمعة، وأجرى على جميع من قرّره فيه معاليم داره، وهذه الأوقاف باقية إلى اليوم، إلّا أن أحوالها اختلت كما اختلّ غيرها، فكان ما أنفق عليه زيادة على أربعين ألف دينار. وجرى في بنائه لهذا الجامع أمر يتعجب منه، وهو ما حدّثني به شيخنا الشيخ المعروف المسند المعمر أبو عبد الله محمد بن ضرغام بن شكر المقري بمكة، في سنة سبع وثمانين وسبعمائة قال: أخبرني من حضر عمارة الأمير بيبرس للجامع الحاكميّ عند سقوطه في سنة الزلزلة، أنّه لما شرع البناة في ترميم ما وهي من المئذنة التي هي من جهة باب الفتوح، ظهر لهم صندوق في تضاعيف البنيان، فأخرجه الموكل بالعمارة وفتحه، فإذا فيه قطن ملفوف على كف إنسان بزنده وعليه أسطر مكتوبة لم يدر ما هي، والكف طرية كأنها قريبة عهد بالقطع، ثم رأيت هذه الحكاية بخط مؤلف السيرة الناصرية موسى بن محمد بن يحيى، أحد مقدّمي الحلقة. ثم جدّد هذا الجامع وبلط جميعه في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في ولايته الثانية، على يد الشيخ قطب الدين محمد الهرماس في سنة ستين وسبعمائة، ووقف قطعة أرض على الهرماس وأولاده، وعلى زيادة في معلوم الإمام بالجامع، وعلى ما يحتاج إليه في زيت الوقود ومرمّة في سقفه وجدرانه، وجرى في عمارة الجامع على يد الهرماس ما حدّثني به الشيخ المعمر شمس الدين محمد بن عليّ إمام

الجامع الطيبرسيّ بشاطئ النيل، قال: أخبرني محمد بن عمر البوصيريّ قال: حدّثنا قطب الدين محمد الهرماس، أنه رأى بالجامع الحاكميّ حجرا ظهر من مكان قد سقط منقوش عليه هذه الأبيات الخمسة: إنّ الذي أسررت مكنون اسمه ... وكتمته كيما أفوز بوصله مال له جذر تساوى في الهجا ... طرفاه يضرب بعضه في مثله فيصير ذاك المال إلّا أنّه ... في النصف منه تصاب أحرف كله وإذا نطقت بربعه متكلما ... من بعد أوّله نطقت بكله لا نقط فيه إذا تكامل عدّه ... فيصير منقوطا بجملة شكله قال وهذه الأبيات لغز في الحجر المكرّم. وقال العلامة شمس الدين محمد بن النقاش في كتاب العبر في أخبار من مضى وغبر: وفي هذه السنة، يعني سنة إحدى وستين وسبعمائة، صودر الهرماس وهدمت داره التي بناها أمام الجامع الحاكميّ، وضرب ونفي هو وولده. فلما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرون من ذي القعدة استفتى السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في وقف حصة طندتا، وهي الأرض التي كان قد سأله الهرماس أن يقفها على مصالح الجامع الحاكميّ فعين له خمسمائة وستين فدّانا من طين طندتا، وطلب الموقعين وأمرهم أن يكتبوا صورة وقفها ويحضروه ليشهدوا عليه به، وكان قد تقرّر من شروطه في أوقافه ما قيل أنه رواية عن أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه، من أنّ للواقف أن يشترط في وقفه التغيير والزيادة والنقص وغير ذلك، فأحضر الكركيّ الموقع إليه الكتاب مطويا، فقرأ منه طرّته وخطبته وأوّله، ثم طواه وأعاده إليه مطويا وقال: اشهدوا بما فيه دون قراءة وتأمل، فشهدوا هم بالتفصيل الذي كتبوه وقرّروه مع الهرماس، ولما اطلع السلطان على ذلك بعد نفي الهرماس طلب الكركيّ وسأله عن هذه الواقعة فأجاب بما قد ذكرنا والله أعلم بصحة ذلك. غير أن المعلوم المقرّر أن السلطان ما قصد إلّا مصالح الجامع، نعم سأله أزدمر الخازندار، هل وقفت حصة لطيفة على أولاد الهرماس فإنه قد ذكر ذلك؟ فقال: نعم أنا وقفت عليهم جزأ يسيرا لم أعلم مقداره، وأما التفصيل المذكور في كتاب الوقف فلم أتحققه ولم أطلع عليه، فاستفتى المفتين في هذه الواقعة، فأمّا المفتون كابن عقيل وابن السبكيّ والبلقينيّ والبسطاميّ والهنديّ وابن شيخ الجبل والبغداديّ ونحوهم، فأجابوا ببطلان الحكم المترتب على هذه الشهادة الباطلة، وبطلان التنفيذ، وكان الحنفيّ حكم والبقية نفذوا، وأما الحنفيّ فقال: إنّ الوقف إذا صدر صحيحا على الأوضاع الشرعية فإنه لا يبطل بما قاله الشاهد، وهو جواب عن نفس الواقعة، وأما الشافعيّ فكتب ما مضمونه: إنّ الحنفيّ إن اقتضى مذهبه بطلان ما صححه أوّلا نفذ بطلانه، وحاصل ذلك أن القضاة أجابوا بالصحة، والمفتين أجابوا بالبطلان. فطلب

السلطان المفتين والقضاة، فلم يحضر من الحكام غير نائب الشافعيّ، وهو تاج الدين محمد بن إسحاق بن المناويّ، والقضاة الثلاثة الشافعيّ والحنفيّ والحنبليّ وجدوا مرضى لم يمكنهم الحضور إلى سرياقوس، فإن السلطان كان قد سرح إليها على العادة في كلّ سنة، فجمعهم السلطان في برج من القصر الذي بميدان سرياقوس عشاء الآخرة، وذكر لهم القضية وسألهم عن حكم الله تعالى في الواقعة. فأجاب الجميع بالبطلان، غير المناوي فإنه قال: مذهب أبي حنيفة أن الشهادة الباطلة إذا اتصل بها الحكم صح ولزم. فصرخت عليه المفتون شافعيهم وحنفيهم. أمّا شافعيهم فإنه قال: ليس هذا مذهبك ولا مذهب الجمهور، ولا هو الراجح في الدليل والنظر. وقال له ابن عقيل: هذا مما ينقض به الحكم لو حكم به حاكم وادّعى قيام الإجماع على ذلك. وقال له سراج الدين البلقينيّ: ليس هذا مذهب أبي حنيفة، ومذهبه في العقود والفسوخ ما ذكرت من أن حكم الحاكم يكون هو المعتمد في التحليل والتحريم، وأمّا الأوقاف ونحوها فحكم الحاكم فيها لا أثر له كمذهب الشافعيّ، وادّعوا أن الإجماع قائم على ذلك، وقاموا على المناويّ في ذلك قومة عظيمة فقال: نحن نحكم بالظاهر. فقالوا له: ما لم يظهر الباطن بخلافه. فقال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: نحن نحكم بالظاهر. قالوا هذا الحديث كذب على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإنما الحديث الصحيح حديث: «إنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض الحديث» قال المناويّ: الأحكام ما هي بالفتاوى. قالوا له: فبماذا تكون؟ أفي الوجود حكم شرعيّ بغير فتوى من الله ورسوله؟ وكان قد قال في مجلس ابن الدريهم: القائم على نفيس اليهوديّ المدعوّ برأس الجالوت بين اليهود لا يلتفت لقول المفتي. فقيل له: في هذا المجلس ها أنت قد قلت مرّتين أنّ المفتين لا يعتبر قولهم، وأنّ الفتاوى لا يعتدّ بها، وقد أخطأت في ذلك أشدّ الخطأ، وأنبأت عن غاية الجهل، فإن منصب الفتوى أوّل من قام به ربّ العالمين إذ قال في كتابه المبين: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء/ 176] وقال يوسف عليه السّلام: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ [يوسف/ 41] وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: «قد أفتاني الله ربي فيما استفتيته» وكلّ حكم جاء على سؤال سائل تكفل ببيانه قرآن أو سنة فهو فتوى، والقائم به مفت، فكيف تقول لا يلتفت إلى الفتوى أو إلى المفتين؟ فقال سراج الدين الهنديّ وغيره: هذا كفر، ومذهب أبي حنيفة أن من استخف بالفتوى أو المفتين فهو كافر، فاستدرك نفسه بعد ذلك وقال: لم أرد إلّا أنّ الفتوى إذا خالف المذهب فهي باطلة. قالوا له: وأخطأت في ذلك أيضا، لأنّ الفتوى قد تخالف المذهب المعين ولا تخالف الحق في نفس الأمر. قال: فأردت بالفتوى التي تخالف الحقّ. قالوا: فأطلقت في موضع التقييد وذلك خطأ. فقال السلطان حينئذ: فإذا قدّر هذا وادّعيت أن الفتوى لا أثر لها، فنبطل

المفتين والفتوى من الوجود. فتلكأ وحار وقال: كيف أعمل في هذا؟ فتبين لبعض الحاضرين أنه استشكل المسألة، ولم يتبين له وجهها. فقال: لا شك أنّ مولانا السلطان لم ينكر صدور الوقف، وإنما أنكر المصارف، وأن تكون الجهة التي عينها هي هرماس وشهوده وقضاته، وللسلطان أن يحكم فيها بعلمه، ويبطل ما قرّروه من عند أنفسهم. قال: كيف يحكم لنفسه؟ قيل له: ليس هذا حكما لنفسه، لأنه مقرّ بأصل الوقف، وهو للمستحقين ليس له فيه شيء، وإنما بطل وصف الوقف، وهو المصرف الذي قرّر على غير جهة الوقف، وله أن يوقع الشهادة على نفسه بحكم أن مصرّف هذا الوقف الجهة الفلانية دون الفلانية. ولم يزالوا يذكرون له أوجها تبين بطلان الوقف إمّا بأصله أو بوصفه إلى أن قال: يبطل بوصفه دون أصله، وأذعن لذلك بعد إتعاب من العلماء. وإزعاج شديد من السلطان في بيان وجوه ذكروها تبين وجه الحق، وأنه إنما وقفه على مصالح الجامع المذكور. وهذا مما لا يشك فيه عاقل ولا يرتاب. فالتفت بعد ذلك وقال للحاضرين: كيف نعمل في إبطاله؟ فقالوا: بما قرّرناه من إشهاد السلطان على نفسه بتفصيل صحيح، وأنه لم يزل كذلك منذ صدر منه الوقف إلى هذا الحدّ، وغير ذلك من الوجوه. فجعل يوهم السلطان أن الشهود الذين شهدوا في هذا الوقف متى بطل هذا الوقف ثبت عليهم التساهل وجرحوا بذلك، وقدح ذلك في عدالتهم، ومتى جرحوا الآن لزم بطلان شهادتهم في الأوقاف المتقدّمة على هذا التاريخ، وخيل بذلك للسلطان حتى ذكر له إجماع المسلمين على أن جرح الشاهد لا ينعطف على ما مضى من شهاداته السالفة ولو كفر، والعياذ بالله، وهذا مما لا خلاف فيه. ثم استقرّ رأيه على أن يبطله بشاهدين يشهدان أن السلطان لمّا صدر منه هذا الوقف كان قد اشترط لنفسه التغيير والتبديل والزيادة والنقص وقام على ذلك. قال مؤلفه رحمه الله: انظر تثبت القضاة، وقايس بين هذه الواقعة وما كان من تثبت القاضي تاج الدين المناوي، وهو يومئذ خليفة الحكم ومصادمته الجبال، وبين ما ستقف عليه من التساهل والتناقض في خبر أوقاف مدرسة جمال الدين يوسف الأستادار، وميّز بعقلك فرق ما بين القضيتين. وهذه الأرض التي ذكرت هي الآن بيد أولاد الهرماس بحكم الكتاب الذي حاول السلطان نقضه، فلم يوافق المناويّ. والجامع الآن متهدّم وسقوفه كلها ما من زمن إلّا ويسقط منها الشيء بعد الشيء فلا يعاد، وكانت ميضأة هذا الجامع صغيرة بجوار ميضأته الآن، فيما بينها وبين باب الجامع، وموضعها الآن مخزن تعلوه طبقة عمرها شخص من الباعة يعرف بابن كرسون المراحليّ، وهذه الميضأة الموجودة الآن أحدثت وأنشأ الفسقية التي فيها ابن كرسون في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، وبيّض مئذنتي الجامع، واستجدّ المئذنة التي بأعلى الباب المجاور للمنبر رجل من الباعة، وكملت في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة، وخرق سقف الجامع حتى صار المؤذنون ينزلون من السطح إلى الدكة التي يكبرون فوقها وراء الإمام.

«هيئة صلاة الجمعة في أيام الخلفاء الفاطميين» قال المسبحيّ: وفي يوم الجمعة غرّة رمضان سنة ثمانين وثلاثمائة ركب العزيز بالله إلى جامع القاهرة بالمظلة المذهبة وبين يديه نحو خمسة آلاف ماش، وبيده القضيب، وعليه الطيلسان والسيف. فخطب وصلّى صلاة الجمعة وانصرف، فأخذ رقاع المتظلمين بيده وقرأ منها عدّة في الطريق، وكان يوما عظيما ذكرته الشعراء. قال ابن الطوير: إذا انقضى ركوب أوّل شهر رمضان استراح في أوّل جمعة، فإذا كانت الثانية ركب الخليفة إلى الجامع الأنور الكبير في هيئة المواسم بالمظلة وما تقدّم ذكره من الآلات، ولباسه فيه ثياب الحرير البيض توقيرا للصلاة من الذهب، والمنديل والطيلسان المقوّر الشعريّ، فيدخل من باب الخطابة والوزير معه بعد أن يتقدّمه في أوائل النهار صاحب بيت المال، وهو المقدّم ذكره في الأستاذين، وبين يديه الفرش المختصة بالخليفة إذا صار إليه في هذا اليوم، وهو محمول بأيدي الفرّاشين المميزين، وهو ملفوف في العراضي الديبقية، فيفرش في المحراب ثلاث طرّاحات أماسامان، أو ديبقيّ أبيض، أحسن ما يكون من صنفهما، كلّ منهما منقوش بالحمرة. فتجعل الطرّاحات متطابقات، ويعلّق ستران يمنة ويسرة، وفي الستر الأيمن كتابة مرقومة بالحرير الأحمر واضحة، منقوطة أوّلها البسملة والفاتحة وسورة الجمعة، وفي الستر الأيسر مثل ذلك، وسورة إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قد أسبلا وفرشا في التعليق بجانبي المحراب لاصقين بجسمه، ثم يصعد قاضي القضاة المنبر وفي يده مدخنة لطيفة خيزران يحضرها إليه صاحب بيت المال فيها جمرات، ويجعل فيها ندّ مثلث لا يشمّ مثله إلّا هناك، فيجز الذروة التي عليها الغشاء كالقبة لجلوس الخليفة للخطابة، ويكرّر ذلك ثلاث دفعات، فيأتي الخليفة في هيئة موقرة من الطبل والبوق، وحوالي ركابه خارج أصحاب الركاب القرّاء، وهم قرّاء الحضرة من الجانبين يطرّبون بالقراءة نوبة بعد نوبة، يستفتحون بذلك من ركوبه من الكرسيّ على ما تقدّم طول طريقه إلى قاعة الخطابة من الجامع، ثم تحفظ المقصورة من خارجها بترتيب أصحاب الباب واسفهسلار العساكر، ومن داخلها إلى آخرها صبيان الخاص وغيرهم ممن يجري مجراهم، ومن داخلها من باب خروجه إلى المنبر واحد فواحد، فيجلس في القاعة، وإن احتاج إلى تجديد وضوء فعل، والوزير في مكان آخر، فإذا أذّن بالجمعة دخل إليه قاضي القضاة فقال له: السلام على أمير المؤمنين الشريف القاضي ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله. فيخرج ماشيا وحواليه الأستاذون المحنكون، والوزير وراءه، ومن يليهم من الخواص وبأيديهم الأسلحة من صبيان الخاص، وهم أمراء وعليهم هذا الاسم، فيصعد المنبر إلى أن يصل إلى الذروة تحت تلك القبة المبخرة، فإذا استوى جالسا والوزير على باب المنبر ووجهه إليه، فيشير إليه بالصعود فيصعد إلى أن يصل إليه، فيقبل يديه ورجليه بحيث يراه الناس، ثم يزرر عليه تلك القبة لأنها كالهودج، ثم ينزل مستقبلا، فيقف ضابطا لباب المنبر، فإن لم يكن ثمّ وزير صاحب سيف، زرّر عليه قاضي القضاة كذلك،

ووقف صاحب الباب ضابطا للمنبر. فيخطب خطبة قصيرة من مسطور يحضر إليه من ديوان الإنشاء، يقرأ فيها آية من القرآن الكريم، ولقد سمعته مرّة في خطابته بالجامع الأزهر وقد قرأ في خطبته رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ الآية، ثم يصلي على أبيه وجدّه، يعني بهما محمدا صلّى الله عليه وسلّم وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ويعظ الناس وعظا بليغا قليل اللفظ، وتشتمل الخطبة على ألفاظ جزلة، ويذكر من سلف من آبائه حتى يصل إلى نفسه فقال: وأنا أسمعه، اللهمّ وأنا عبدك وابن عبدك لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا، ويتوسل بدعوات فخمة تليق بمثله، ويدعو للوزير إن كان، وللجيوش بالنصر والتأليف، وللعساكر بالظفر وعلى الكافرين، والمخالفين بالهلاك والقهر، ثم يختم بقوله اذكروا الله يذكركم. فيطلع إليه من زرّر عليه ويفك ذلك التزرير وينزل القهقرى، وسبب التزرير عليهم قراءتهم من مسطور لا كعادة الخطباء، فينزل الخليفة ويصير على تلك الطرّاحات الثلاث في المحراب وحده إماما، ويقف الوزير وقاضي القضاة صفا، ومن ورائهما الأستاذون المحنكون والأمراء المطوّقون وأرباب الرتب من أصحاب السيوف والأقلام والمؤذنون وقوف، وظهورهم إلى المقصورة لحفظه، فإذا سمع الوزير الخليفة أسمع القاضي فأسمع القاضي المؤذنين وأسمع المؤذنون الناس، هذا والجامع مشحون بالعالم للصلاة وراءه، فيقرأ ما هو مكتوب في الستر الأيمن في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية ما هو مكتوب في الستر الأيسر، وذلك على طريق التذكار خيفة الارتجاج، فإذا فرغ خرج الناس وركبوا أوّلا فأوّلا وعاد طالبا القصر والوزير وراءه، وضربت البوقات والطبول في العود، فإذا أتت الجمعة الثانية ركب إلى الجامع الأزهر من القشاشين على المنوال الذي ذكرناه والقالب الذي وصفناه، فإذا كانت الجمعة الثالثة أعلم بركوبه إلى مصر للخطابة في جامعها، فيزين له من باب القصر أهل القاهرة إلى جامع ابن طولون، ويزين له أهل مصر من جامع ابن طولون إلى الجامع بمصر، يرتب ذلك والي مصر، كلّ أهل معيشة في مكان، فيظهر المختار من الآلات والستور المثمنات ويهتمون بذلك ثلاثة أيام بلياليهنّ والوالي مارّ وعائد بينهم، وقد ندب من يحفظ الناس ومتاعهم، فيركب يوم الجمعة المذكور شاقا لذلك كله على الشارع الأعظم إلى مسجد عبد الله الخراب اليوم، إلى دار الأنماط إلى الجامع بمصر، فيدخل إليه من المعونة، ومنها باب متصل بقاعة الخطيب بالزيّ الذي تقدّم ذكره في خطبة الجامعين بالقاهرة، وعلى ترتيبهما. فإذا قضى الصلاة عاد إلى القاهرة من طريقه بعينها شاقا بالزينة إلى أن يصل إلى القصر، ويعطى أرباب المساجد التي يمرّ عليها كلّ واحد دينارا. وقال ابن المأمون: ووصل من الطراز الكسوة المختصة بغرّة شهر رمضان وجمعتيه برسم الخليفة للغرّة بدلة كبيرة موكبية مكملة مذهبة، وبرسم الجامع الأزهر للجمعة الأولى من الشهر بدلة موكبية حرير مكملة منديلها وطيلسانها بياض، وبرسم الجامع الأنور للجمعة

جامع راشدة

الثانية بدلة منديلها وطيلسانها شعريّ، وما هو برسم أخي الخليفة للغرّة خاصة بدلة مذهبة، وبرسم أربع جهات للخليفة أربع حلل مذهبات، وبرسم الوزير للغرّة خلعة مذهبة مكملة موكبية، وبرسم الجمعتين بدلتان حريرتان، ولم يكن لغير الخليفة وأخيه والوزير في ذلك شيء فنذكره. جامع راشدة هذا الجامع عرف بجامع راشدة لأنه في خطة راشدة. قال القضاعيّ: خطة راشدة بن أدوب بن جديلة من لخم، هي متاخمة للخطة التي قبلها إلى الدير المعروف كان بأبي تكموس، ثم هدم وهو الجامع الكبير الذي براشدة، وقد دثرت هذه الخطة، ومنها المقبرة المعروفة بمقبرة راشدة، والجنان التي كانت تعرف بكهمس بن معر، ثم عرفت بالماردانيّ، وهي اليوم تعرف بالأمير تميم. وقال المسبحيّ في حوادث سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وابتدئ بناء جامع راشدة في سابع عشر ربيع الآخر، وكان مكانه كنيسة حولها مقابر لليهود والنصارى، فبني بالطوب ثم هدم وزيد فيه وبنى بالحجر، وأقيمت به الجمعة، وقال: في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وفيه، يعني شهر رمضان، فرش جامع راشدة وتكامل فرشه وتعليق قناديله وما يحتاج إليه، وركب الحاكم بأمر الله عشية يوم الجمعة الخامس عشر منه وأشرف عليه. وقال: في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وفيه، يعني شهر رمضان، صلّى الحاكم بجامعه الذي أنشأه براشدة صلاة الجمعة، وخطب. وفي شهر رمضان سنة أربعمائة أنزل بقناديل وتنور من فضة زنتها ألوف كثيرة، فعلّقت بجامع راشدة. وفي سنة إحدى وأربعمائة هدم وابتدئ في عمارته من صفر، وفي شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة صلّى الحاكم في جامع راشدة صلاة الجمعة وعليه عمامة بغير جوهر، وسيف محلى بفضة بيضاء دقيقة، والناس يمشون بركابه من غير أن يمنع أحد منه، وكان يأخذ قصصهم ويقف وقوفا طويلا لكلّ منهم، واتفق يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وأربعمائة أن خطب فيه خطبتان معا على المنبر، وذلك أنّ أبا طالب عليّ بن عبد السميع العباسيّ استقرّ في خطابته بإذن قاضي القضاة أبي العباس أحمد بن محمد بن العوّام، بعد سفر العفيف البخاريّ إلى الشام، فتوصل ابن عصفورة إلى أن خرج له أمر أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله، أن يخطب. فصعدا جميعا المنبر ووقف أحدهما دون الآخر وخطبا معا، ثم بعد ذلك استقرّ أبو طالب خطيبا، وأن يكون ابن عصفورة يخلفه. وقال ابن المتوّج: هذا الجامع فيما بين دير الطين والفسطاط، وهو مشهور الآن بجامع راشدة، وليس بصحيح. وإنما جامع راشدة كان جامعا قديم البناء بجوار هذا الجامع، عمر في زمن الفتح، عمرته راشدة، وهي قبيلة من القبائل كقبيلة تجيب ومهرة نزلت في هذا المكان، وعمروا فيه

جامعا كبيرا أدركت أنا بعضه ومحرابه، وكان فيه نخل كثير من نخل المقل، ومن جملة ما رأيت فيه نخلة من المقل عددت لها سبعة رؤوس مفرّعة منها، فذاك الجامع هو المعروف بجامع راشدة، وأما هذا الموجود الآن فمن عمارة الحاكم، ولم يكن في بناء الجوامع أحسن من بنائه، وقيل عمرته حظية الخليفة وكان اسمها راشدة وليس بصحيح، والأوّل هو الصحيح. وفيه الآن نخل وسدر وبئر وساقية رجل، وهو مكان خلوة وانقطاع ومحل عبادة وفراغ من تعلقات الدنيا. قال مؤلفه: هذا وهم من ابن المتوّج في موضعين: أولهما أن راشدة عمرت هذا الجامع في زمن فتح مصر، وهذا قول لم يقله أحد من مؤرخي مصر، فهذا الكنديّ، ثم القضاعيّ، وعليهما يعوّل في معرفة خطط مصر. ومن قبلهما ابن عبد الحكم، لم يقل أحد منهم أن راشدة عمرت زمن الفتح مسجدا، ولا يعرف من هذا السلف رحمهم الله في جند من أجناد الأمصار التي فتحتها الصحابة رضي الله عنهم أنهم أقاموا خطبتين في مسجد واحد، وقد حكينا ما تقدّم عن المسبحيّ وهو مشاهد ما نقله من بناء الجامع المذكور في موضع الكنيسة بأمر الحاكم بأمر الله، وتغييره لبنائه غير مرّة، وتبعه القضاعيّ على ذلك، وقد عدّ القضاعيّ والكنديّ في كتابيهما المذكور فيهما خطط مصر ما كان بمصر من مساجد الخطبة القديمة والمحدثة، وذكرا مساجد راشدة، ولم يذكرا فيها جامعا اختطته راشدة، وذكرا هذا الدير، وعين القضاعيّ اسمه، هدم وبني في مكانه جامع راشدة، وناهيك بهما معرفة لآثار مصر وخططها. والوهم الثاني: الاستدلال على الوهم الأوّل بمشاهدة بقايا مسجد قديم ولا أدري كيف يستدل بذلك، فمن أنكر أن يكون قد كان هناك مسجد، بل المدّعي أنه كان لراشدة مساجد، لكن كونها اختطت جامعا هذا غير صحيح. وقال ابن أبي طيّ في أخبار سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة في كتابه تاريخ حلب: كانت النصارى اليعقوبية قد شرعوا في إنشاء كنيسة كانت قد اندرست لهم بظاهر مصر في الموضع المعروف براشدة، فثار قوم من المسلمين وهدموا ما بنى النصارى وأنهي إلى الحاكم ذلك، قيل له إنّ النصارى ابتدأوا بناءها، وقال النصارى إنها كانت قبل الإسلام، فأمر الحاكم الحسين بن جوهر بالنظر في حال الفريقين، فمال في الحكم مع النصارى، وتبين للحاكم ذلك، فأمر أن تبنى تلك الكنيسة مسجدا جامعا، فبنى في أسرع وقت، وهو جامع راشدة. وراشدة اسم للكنيسة، وكان بجواره كنيستان إحداهما لليعقوبية والأخرى للنسطورية، فهدمتا أيضا وبنيتا مسجدين، كان في حارة الروم بالقاهرة آدر للروم وكنيستان لهم، فهدمتا وجعلتا مسجدين أيضا، وحوّل الروم إلى الموضع المعروف بالحمراء وأسس الروم ثلاث كنائس عوضا عما هدم لهم، وهذا أيضا مصرّح بأن جامع راشدة أسسه الحاكم، وفيه وهم لكونه جعل راشدة اسما للكنيسة، وإنما راشدة اسم لقبيلة من العرب نزلوا عند الفتح هناك فعرفت تلك البقاع بخطة راشدة، وقد

جامع المقس

جدّد جامع راشدة مرارا، وأدركته عامرا تقام فيه الجمعة ويمتلئ بالناس لكثرة من حوله من السكان، وإنما تعطل من إقامة الجمعة بعد حوادث سنة ست وثمانمائة. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة: راشدة بطن من لخم، وهم ولد راشدة بن الحارث بن أدّ بن جديلة من لخم بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد، وقيل راشدة بن أدوب، ويقال لراشدة خالفة، ولهم خطة بمصر بالجبل المعروف بالرصد، المطلّ على بركة الحبش، وقد دثرت الخطة ولم يبق في موضعها إلّا الجامع الحاكميّ المعروف بجامع راشدة. جامع المقس هذا الجامع أنشأه الحاكم بأمر الله على شاطىء النيل بالمقس في «1» لأنّ المقس كان خطة كبيرة، وهي بلد قديم من قبل الفتح، كما تقدّم ذكر ذلك في هذا الكتاب. وقال في الكتاب الذي تضمن وقف الحاكم بأمر الله الأماكن بمصر على الجوامع، كما ذكر في خبر الجامع الأزهر ما نصه: ويكون جميع ما بقي مما تصدّق به على هذه المواضع، يصرف في جميع ما يحتاج إليه في جامع المقس المذكور، من عمارته، ومن تمن الحصر العبدانية والمظفورة، وثمن العود للبخور، وغيره على ما شرح من الوظائف في الذي تقدّم، وكان لهذا الجامع نخل كثير في الدولة الفاطمية، ويركب الخليفة إلى منظرة كانت بجانبه عند عرض الأسطول فيجلس بها لمشاهدة ذلك كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر المناظر، وفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة انشقت زريبة من هذا الجامع في شهر رمضان لكثرة زيادة ماء النيل، وخيف على الجامع السقوط فأمر بعمارتها. ولما بنى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب هذا السور الذي على القاهرة، وأراد أن يوصله بسور مصر من خارج باب البحر إلى الكوم الأحمر، حيث منشأة المهرانيّ اليوم، وكان المتولي لعمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش الأسديّ، أنشأ بجوار جامع المقس برجا كبيرا عرف بقلعة المقس في مكان المنظرة التي كانت للخلفاء، فلما كان في سنة سبعين وسبعمائة جدّد بناء هذا الجامع الوزير الصاحب شمس الدين عبد الله المقسيّ، وهدم القلعة وجعل مكانها جنينة، واتهمه الناس بأنه وجد هنالك مالا كثيرا، وأنه عمر منه الجامع المذكور، فصار العامّة اليوم يقولون جامع المقسيّ، ويظنّ من لا علم عنده أن هذا الجامع من إنشائه، وليس كذلك، بل إنما جدّده وبيضه، وقد انحسر ماء النيل عن تجاه هذا الجامع كما ذكر في خبر بولاق والمقس، وصار هذا الجامع اليوم على حافة الخليج الناصريّ، وأدركنا ما حوله في غاية العمارة، وقد تلاشت المساكن التي هناك وبها إلى اليوم بقية يسيرة، ونظر هذا الجامع اليوم بيد أولاد الوزير المقسيّ، فإنه جدّده وجعل عليه أوقافا لمدرّس وخطيب وقومة ومؤذنين وغير ذلك.

وقال جامع السيرة الصلاحية: وهذا المقسم على شاطىء النيل يزار، وهناك مسجد يتبرّك به الأبرار، وهو المكان الذي قسمت فيه الغنيمة عند استيلاء الصحابة رضي الله عنهم على مصر، فلما أمر السلطان صلاح الدين بإدارة السور على مصر والقاهرة، تولى ذلك بهاء الدين قراقوش وجعل نهايته التي تلي القاهرة عند المقس، وبنى فيه برجا يشرف على النبل، وبنى مسجده جامعا، واتصلت العمارة منه إلى البلد، وصار تقام فيه الجمع والجماعات. العزيز بالله: أبو النصر نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معدّ، ولد بالمهدية من بلاد أقريقية في يوم الخميس الرابع عشر من المحرّم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقدم مع أبيه إلى القاهرة، وولي العهد. فلما مات المعز لدين الله أقيم من بعده في الخلافة يوم الرابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة فأذعن له سائر عساكر أبيه واجتمعوا عليه، وسيّر بذهب إلى بلاد المغرب، فرّق في الناس، واقرّ يوسف بن ملكين على ولاية إفريقية، وخطب له بمكة، ووافى الشام عسكر القرامطة فصاروا مع أفتكين التركيّ، وقوي بهم وساروا إلى الرملة وقاتلوا عساكر العزيز بيافا، فبعث العزيز جوهر القائد بعساكر كثيرة وملك الرملة وحاصر دمشق مدّة، ثم رحل عنها بغير طائل، فأدركه القرامطة وقاتلوه بالرملة وعسقلان نحو سبعة عشر شهرا، ثم خلص من تحت سيوف افتكين وسار إلى العزيز فوافاه وقد برز من القاهرة، فسار معه ودخل العزيز إلى الرملة وأسر أفتكين في المحرّم سنة ثمان وستين وثلاثمائة فأحسن إليه وأكرمه إكراما زائدا. فكتب إليه الشريف أبو إسماعيل إبراهيم الرئيس يقول: يا مولانا لقد استحق هذا الكافر كلّ عذاب، والعجب من الإحسان إليه؟ فلما لقيه قال: يا إبراهيم قرأت كتابك في أمر أفتكين، وأنا أخبرك. اعلم أنا قد وعدناه الإحسان والولاية، فلما قبل وجاء إلينا نصب فازاته وخيامه حذاءنا، وأردنا منه الانصراف فلج وقاتل، فلما ولى منهزما وسرت إلى فازاته ودخلتها سجدت لله شكرا وسألته أن يفتح لي بالظفر به، فجيء به بعد ساعة أسيرا، أترى يليق بي غير الوفاء. ولما وصل العزيز إلى القاهرة اصطنع افتكين وواصله بالعطايا والخلع، حتى قال لقد احتشمت من ركوبي مع الخليفة مولانا العزيز بالله، ونظري إليه بما غمرني من فضله وإحسانه، فلما بلغ العزيز ذلك قال لعمه حيدرة: يا عمّ أحبّ أن أرى النعم عند الناس ظاهرة، وأرى عليهم الذهب والفضة والجواهر، ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار، وأن يكون ذلك كله من عندي. ومات بمدينة بلبيس من مرض طويل بالقولنج والحصاة، في اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة فحمل إلى القاهرة ودفن بتربة القصر مع آبائه. وكانت مدّة خلافته بعد أبيه المعز إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا، ومات وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما. وكان نقش

خاتمة: بنصر العزيز الجبار ينتصر الإمام نزار. ولما مات وحضر الناس إلى القصر للتعزية أفحموا عن أن يوردوا في ذلك المقام شيئا، ومكثوا مطرقين لا ينبسون، فقام صبيّ من أولاد الأمراء الكنانيين وفتح باب التعزية وأنشد: أنظر إلى العلياء كيف تضام ... ومآتم الأحساب كيف تقام خبرنني ركب الركاب ولم يدع ... للسفر وجه ترحل فأقاموا فاستحسن الناس إيراده وكأنه، طرّق لهم كيف يوردون المراثي، فنهض الشعراء والخطباء حينئذ وعزوا وأنشد كلّ واحد ما عمل في التعزية، وخلّف من الأولاد ابنه المنصور، وولي الخلافة من بعده، وابنة تدعى سيدة الملك، وكان أسمر طوالا، أصهب الشعر، أعين أشهل عريض المنكبين، شجاعا كريما حسن العفو والقدرة، لا يعرف سفك الدماء البتة، مع حسن الخلق والقرب من الناس، والمعرفة بالخيل وجوارح الطير، وكان محبا للصيد مغرىّ به حريصا على صيد السباع، ووزر له يعقوب بن كلس اثنتي عشرة سنة وشهرين وتسعة عشر يوما، ثم من بعده عليّ بن عمر العدّاس سنة واحدة، ثم أبو الفضل جعفر بن الفرات سنة، ثم أبو عبد الله الحسين بن الحسن البازيار سنة وثلاثة أشهر، ثم أبو محمد بن عمار شهرين، ثم الفضل بن صالح الوزيريّ أياما، ثم عيسى بن نسطورس سنة وعشرة أشهر. وكانت قضاته: أبو طاهر محمد بن أحمد، أبو الحسن عليّ بن النعمان، ثم أبو عبد الله محمد بن النعمان. وخرج إلى السفر أوّلا في صفر سنة سبع وستين، وعاد من العباسية وخرج ثانيا وظفر بأفتكين، وخرج ثالثا في صفر سنة اثنتين وسبعين، ورجع بعد شهر إلى قصره بالقاهرة، وخرج رابعا في ربيع الأوّل سنة أربع وستين، فنزل منية الأصبغ وعاد بعد ثمانية أشهر واثني عشر يوما، وخرج خامسا في عاشر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، فأقام مبرّزا أربعة عشر شهرا وعشرين يوما، ومات في هذه الخرجة ببلبيس. وهو أوّل من اتخذ من أهل بيته وزيرا، أثبت اسمه على الطرز، وقرن اسمه باسمه، وأوّل من لبس منهم الخفين والمنطقة، وأوّل من اتخذ منهم الأتراك واصطنعهم وجعل منهم القوّاد، وأوّل من رمى منهم بالنشاب، وأوّل من ركب منهم بالذؤابة الطويلة والحنك وضرب الصوالجة ولعب بالرمح، وأوّل من عمل مائدة في الشرطة السفلى في شهر رمضان يفطر عليها أهل الجامع العتيق، وأقام طعاما في جامع القاهرة لمن يحضر في رجب وشعبان ورمضان، واتخذ الحمير لركوبه إياها، وكانت أمّه أمّ ولد اسمها درزارة، وكان يضرب بأيامه المثل في الحسن، فإنها كانت كلها أعيادا وأعراسا لكثرة كرمه ومحبته للعفو واستعماله لذلك، ولا أعلم له بمصر من الآثار غير تأسيس الجامع الحاكميّ، وما عدا ذلك فذهب اسمه ومحي رسمه.

الحاكم بأمر الله: أبو عليّ منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معدّ، ولد بالقصر من القاهرة المعزية، ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاثمائة في الساعة التاسعة، والطالع من برج السرطان سبع وعشرون درجة، وسلّم عليه بالخلافة في مدينة بلبيس بعد الظهر من يوم الثلاثاء عشري شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة وسار إلى القاهرة في يوم الأربعاء بسائر أهل الدولة والعزيز في قبة على ناقة بين يديه، وعلى الحاكم دراعة مصمت وعمامة فيها الجوهر، وبيده رمح وقد تقلد السيف. ولم يفقد من جميع ما كان مع العساكر شيء، ودخل القصر قبل صلاة المغرب، وأخذ في جهاز أبيه العزيز بالله ودفنه، ثم بكر سائر أهل الدولة إلى القصر يوم الخميس، وقد نصب للحاكم سرير من ذهب عليه مرتبة مذهبة في الإيوان الكبير، وخرج من قصره راكبا عليه معممة الجوهر والناس وقوف في صحن الإيوان، فقبلوا له الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على السرير، فوقف من رسمه الوقوف، وجلس من له عادة أن يجلس، وسلّم الجميع عليه بالإمامة واللقب الذي اختير له، وهو الحاكم بأمر الله، وكان سنّه يومئذ إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وستة أيام، فجعل أبا محمد الحسن بن عمار الكنديّ واسطة، ولقب بأمين الدولة، وأسقط مكوسا كانت بالساحل، وردّ إلى الحسين بن جوهر القائد البريد والإنشاء، فكان يخلفه ابن سورين، وأقرّ عيسى بن نسطورس على ديوان الخاص، وقلد سليمان بن جعفر بن فلاح الشام، فخرج ينجو تكين من دمشق وسار منها لمدافعة سليمان بن جعفر بن فلاح، فبلغ الرملة وانضمّ إليه ابن الجرّاح الطائيّ في كثير من العرب، وواقع ابن فلاح فانهزم وفرّ، ثم أسر فحمل إلى القاهرة وأكرم، واختلف أهل الدولة على ابن عمار، ووقعت حروب آلت إلى صرفه عن الوساطة. وله في النظر أحد عشر شهرا غير خمسة أيام، فلزم داره وأطلقت له رسوم وجرايات، وأقيم الطواشي برجوان الصقليّ مكانه في الوساطة لثلاثة بقين من رمضان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فجعل كاتبه فهد بن إبراهيم يوقع عنه، ولقبه بالرئيس، وصرف سليمان بن فلاح عن الشام بجيش بن الصمصامة، وقلد فحل بن إسماعيل الكتاميّ مدينة صور، وقلد يانس الخادم برقة، وميسور الخادم طرابلس، ويمنا لخادم غزة وعسقلان، فواقع جيش الروم على فاهية وقتل منهم خمسة آلاف رجل، وغزا إلى أن دخل مرعش، وقلد وظيفة قضاء القضاء أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان في صفر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة بعد موت قاضي القضاة محمد بن النعمان، وقتل الأستاذ برجوان لاربع بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وله في النظر سنتان وثمانية أشهر غير يوم واحد، وردّ النظر في أمور الناس وتدبير المملكة والتوقيعات إلى الحسين بن جوهر، ولقب بقائد القوّاد، فخلفه الرئيس بن فهد، واتخذ الحاكم مجلسا في الليل يحضر فيه عدّة من أعيان الدولة، ثم أبطله ومات جيش بن الصمصامة في ربيع الآخر سنة تسعين وثلثمائة، فوصل ابنه بتركته إلى القاهرة ومعه

درج بخط أبيه فيه وصية، وثبت بما خلفه مفصلا، وأن ذلك جميعه لأمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، لا يستحق أحد من أولاده منه درهما، وكان مبلغ ذلك نحو المأئتي ألف دينار، وما بين عين ومتاع ودواب، قد أوقف جميع ذلك تحت القصر، فأخذ الحاكم الدرج ونظره ثم أعاده إلى أولاد جيش وخلع عليهم وقال لهم بحضرة وجوه الدولة: قد وقفت على وصية أبيكم رحمه الله وما وصى به من عين ومتاع، فخذوه هنيئا مباركا لكم فيه. فانصرفوا بجميع التركة، وولي دمشق فحل بن تميم، ومات بعد شهور فولي عليّ بن فلاح، وردّ النظر في المظالم لعبد العزيز بن محمد بن النعمان، ومنع الناس كافة من مخاطبة أحد أو مكاتبته بسيدنا ومولانا إلّا أمير المؤمنين وحده، وأبيح دم من خالف ذلك، وفي شوّال قتل ابن عمار. وفي سنة إحدى وتسعين واصل الحاكم الركوب في الليل كل ليلة، فكان يشق الشوارع والأزقة، وبالغ الناس في الوقود والزينة، وأنفقوا الأموال الكثيرة في المآكل والمشارب والغناء واللهو، وكثر تفرّجهم على ذلك حتى خرجوا فيه عن الحدّ، فمنع النساء من الخروج في الليل، ثم منع الرجال من الجلوس في الحوانيت. وفي رمضان سنة اثنتين وتسعين قلّد تموصلت بن بكّار دمسق، عوضا عن ابن فلاح، وابتدأ في عمارة جامع راشدة في سنة ثلاث وتسعين، وقتل فهد بن إبراهيم وله منذ نظر في الرياسة خمس سنين وتسعة أشهر واثنا عشر يوما، في ثامن جمادى الآخرة منها، وأقيم في مكانه عليّ بن عمر العدّاس، وسار الأمير ما روح لإمارة طبرية، ووقع الشروع في إتمام الجامع خارج باب الفتوح، وقطع الحاكم الركوب في الليل، ومات تموصلت فولي دمشق بعده مفلح اللحيانيّ الخادم، وقتل عليّ بن عمر العدّاس والأستاذ زيدان الصقليّ وعدّة كثيرة من الناس، وقلد إمارة برقة صندل الأسود في المحرّم سنة أربع وتسعين، وصرف الحسين بن النعمان عن القضاء في رمضان منها، وكانت مدّة نظره في القضاء خمس سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وإليه كانت الدعوة أيضا، فيقال له قاضي القضاة وداعي الدعاة، وقلد عبد العزيز بن محمد بن النعمان وظيفة القضاء والدعوة، مع ما بيده من النظر في المظالم. وفي سنة خمس وتسعين أمر النصارى واليهود بشدّ الزنار ولبس الغيار، ومنع الناس من أكل الملوخية والجرجير والتوكلية والدلينس، وذبح الأبقار السليمة من العاهة إلّا في أيام الأضحية، ومنع من بيع الفقاع وعمله البتة، وأن لا يدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وأن لا تكشف امرأة وجهها في طريق، ولا خلف جنازة، ولا تتبرّج، ولا يباع شيء من السمك بغير قشر، ولا يصطاده أحد من الصيادين، وتتبع الناس في ذلك كله وشدّد فيه، وضرب جماعة بسبب مخالفتهم ما أمروا به ونهوا عنه مما ذكر، وخرجت العساكر لقتال بني قرّة أهل البحيرة، وكتب على أبواب المساجد وعلى الجوامع بمصر وعلى أبواب الحوانيت والحجر والمقابر سبّ السلف ولعنهم، وأكره الناس على نقش ذلك وكتابته بالأصباغ في سائر المواضع، وأقبل الناس من

سائر النواحي فدخلوا في الدعوة وجعل لهم يومان في الأسبوع، وكثر الازدحام ومات فيه جماعة، ومنع الناس من الخروج بعد المغرب في الطرقات، وأن لا يظهر أحد بها لبيع ولا شراء، فخلت الطرق من المارّة وكسرت أواني الخمور وأريقت من سائر الأماكن، واشتدّ خوف الناس بأسرهم، وقويت الشناعات وزاد الاضطراب، فاجتمع كثير من الكتاب وغيرهم تحت القصر وضجوا يسألون العفو، فكتب عدّة أمانات لجميع الطوائف من أهل الدولة وغيرهم من الباعة والرعية، وأمر بقتل الكلاب فقتل منها ما لا ينحصر حتى فقدت، وفتحت دار الحكمة بالقاهرة وحمل إليها الكتب ودخل إليها الناس، فاشتدّ الطلب على الركابية المستخدمين في الركاب، وقتل منهم كثير، عفي عنهم وكتب لهم أمان، ومنع الناس كافة من الدخول من باب القاهرة، ومنع الناس من المشي ملاصق القصر، وقتل قاضي القضاة حسين بن النعمان وأحرق بالنار، وقتل عددا كثيرا من الناس ضربت أعناقهم. وفي سنة ست وتسعين خرج أبو ركوة يدعو إلى نفسه وادّعى أنه من بني أمية، فقام بأمره بنو قرّة لكثرة ما أوقع بهم الحاكم وبايعوه، واستجاب له لواته ومزاته وزنادة، وأخذ برقة وهزم جيوش الحاكم غير مرّة، وغنم ما معهم، فخرج لقتاله القائد فضل بن صالح في ربيع الأوّل وواقعه، فانهزم منه فضل واشتدّ الاضطراب بمصر، وتزايدت الأسعار واشتدّ الاستعداد لمحاربة أبي ركوة، ونزلت العساكر بالجيزة، وسار أبو ركوة فواقعه القائد فضل وقتل عدّة ممن معه، فعظم الأمر واشتدّ الخوف وخرج الناس فباتوا بالشوارع. خوفا من هجوم عساكر أبي ركوة، واستمرّت الحروب فانهزم أبو ركوة في ثالث ذي الحجة إلى الفيوم، وتبعه القائد فضل بعد أن بعث إلى القاهرة بستة آلاف رأس ومائة أسير إلى أن قبض عليه ببلاد النبوة، وأحضر إلى القاهرة فقتل بها، وخلع على القائد فضل، وسيّرت البشائر بقتله إلى الأعمال. وفي سنة سبع وتسعين أمر بمحوسبّ السلف فمحي سائر ما كتب من ذلك، وغلت الأسعار لنقص ماء النيل، فإنه بلغ ستة عشر أصبعا من سبعة عشر ذراعا، نقص، ومات ينجو تكين في ذي الحجة، واشتدّ الغلاء في سنة ثمان وتسعين، وولي عليّ بن فلاح دمشق، وقبض جميع ما هو محبس على الكنائس، وجعل في الديوان، وأحرق عدّة صلبان على باب الجامع بمصر، وكتب إلى سائر الأعمال بذلك. وفي سادس عشر رجب قرّر مالك بن سعيد الفارقيّ في وظيفة قضاء القضاة، وتسلم كتب الدعوة التي تقرأ بالقصر على الأولياء، وصرف عبد العزيز بن النعمان عن ذلك، وصرف قائد القوّاد الحسين بن جوهر عما كان يليه من النظر في سابع شعبان، وقرّر مكانه صالح بن عليّ الروذباديّ، وقرّر في ديوان الشام مكانه أبو عبد الله الموصليّ الكاتب، وأمر حسين بن جوهر وعبد العزيز بلزوم دورهما، ومنعا من الركوب وسائر أولادهما، ثم عفا

عنهما بعد أيام، وأمر بالركوب. وتوقفت زيادة النيل فاستسقى الناس مرّتين، وأمر بإبطال عدّة مكوس، وتعذر وجود الخبز لغلائة وقلته، وفتح الخليج في رابع توت، والماء على خمسة عشر ذراعا فاشتدّ الغلاء. وفي تاسع المحرّم وهو نصف توت نقص ماء النيل ولم يوف ستة عشر ذراعا، فمنع الناس من التظاهر بالغناء ومن ركوب البحر للتفرّج، ومنع من بيع المسكرات، ومنع الناس كافة من الخروج قبل الفجر وبعد العشاء إلى الطرقات واشتدّ الأمر على الكافة لشدّة ما داخلهم من الخوف مع شدّة الغلاء، وتزايد الأمراض في الناس والموت. فلما كان في رجب انحلت الأسعار، وقريء سجل فيه يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، وصلاة الخمسين للذي جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون، يخمّس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التربيع عليها المربعون، يؤذن بحيّ على خير العمل المؤذنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون، لا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما وصف، والحالف منهم بما حلف، لكلّ مسلم مجتهد في دينه اجتهاده. ولقب صالح بن عليّ الروذباديّ بثقة ثقات السيف والقلم، وأعيد القاضي عبد العزيز بن النعمان إلى النظر في المظالم، وتزايدت الأمراض وكثر الموت وعزت الأدوية، وأعيدت المكوس التي رفعت، وهدمت كنائس كانت بطريق المقس، وهدمت كنيسة كانت بحارة الروم من القاهرة، ونهب ما فيها، وقتل كثير من الخدّام ومن الكتاب ومن الصقالية، بعد ما قطعت أيدي بعضهم من الكتاب بالشطور على الخشبة من وسط الذراع، وقتل القائد فضل بن صالح في ذي القعدة، وفي حادي عشر صفر صرف صالح بن عليّ الروذباديّ، وقرّر مكانه ابن عبدون النصرانيّ الكاتب فوقّع عن الحاكم، ونظر وكتب بهدم كنيسة قماسة، وجدّد ديوان يقال له الديوان المفرد برسم من يقبض ماله من المقتولين وغيرهم، وكثرت الأمراض وعزت الأدوية، وشهر جماعة وجد عندهم فقاع وملوخية ودلينس وضربوا، وعدم دائر القصر واشتدّ الأمر على النصارى واليهود في إلزامهم لبس الغيار، وكتب إبطال أخذ الخمس والنجاوي والفطرة، وفرّ الحسين بن جوهر وأولاده، وعبد العزيز بن النعمان، وفرّ أبو القاسم الحسين بن المغربيّ، وكتب عدّة أمانات لعدّة طوائف من شدّة خوفهم، وقطعت قراءة مجالس الحكمة بالقصر، ووقع التشديد في المنع من المسكرات، وقتل كثير من الكتاب والخدّام والفرّاشين، وقتل صالح بن عليّ الروذباديّ في شوّال. وفي رابع المحرّم سنة إحدى وأربعمائة، صرف الكافي بن عبدون عن النظر والتوقيع، وقرّر بدله أحمد بن محمد القشوريّ الكاتب في الوساطة والسفارة، وحصر الحسين بن

جوهر وعبد العزيز بن النعمان إلى القاهرة، فأكرما. ثم صرف ابن القشوريّ بعد عشرة أيام من استقراره وضربت عنقه، وقرّر بدله زرعة بن عيسى بن نسطورس الكاتب النصرانيّ، ولقّب بالشافي، ومنع الناس من الركوب في المراكب في الخليج، وسدّت أبواب الدور التي على الخليج والطاقات المطلة عليه، وأضيف إلى قاضي القضاة مالك بن سعيد النظر في المظالم، وأعيدت مجالس الحكمة، وأخذ مال النجوى، وقتل ابن عبدون وأخذ ماله، وضرب جماعة وشهروا من أجل بيعهم الملوخية والسمك الذي لا قشر له، وبسبب بيع النبيذ، وقتل الحسين بن جوهر وعبد العزيز بن النعمان في ثاني عشر جمادي الآخرة سنة إحدى وأربعمائة، وأحيط بأموالهما، وأبطلت عدّة مكوس، ومنع الناس من الغناء واللهو ومن بيع المغنيات ومن الاجتماع بالصحراء. وفي هذه السنة خلع حسان بن مفرّج بن دغفل بن الجرّاح طاعة الحاكم، وأقام أبا الفتوح حسين بن جعفر الحسنيّ أمير مكة خليفة، وبايعه ودعا الناس إلى طاعته ومبايعته، وقاتل عساكر الحاكم. وفي سنة اثنتين وأربعمائة منع من بيع الزبيب وكوتب بالمنع من حمله، وألقي في بحر النيل منه شيء كثير، وأحرق شيء كثير، ومنع النساء من زيارة القبور، فلم ير في الأعياد بالمقابر امرأة واحدة، ومنع من الاجتماع على شاطىء النيل للتفرّج، ومنع من بيع العنب إلا أربعة أرطال فما دونها. ومنع من عصره وطرح كثير منه وديس في الطرقات، وغرّق كثير منه في النيل، ومنع من حمله وقطعت كروم الجيزة كلها، وسيّر إلى الجهات بذلك. وفي سنة ثلاث وأربعمائة نزع السعر وازدحم الناس على الخبز، وفي ثاني ربيع الأوّل منها هلك عيسى بن نسطورس، فأمر النصارى بلبس السواد وتعلق صلبان الخشب في أعناقهم، وأن يكون الصليب ذراعا في مثله، وزنته خمسة أرطال، وأن يكون مكشوفا بحيث يراه الناس، ومنعوا من ركوب الخيل، وأن يكون ركوبهم البغال والحمير بسروج الخشب والسيور السود بغير حلية، وأن يسدّوا الزنانير ولا يستخدموا مسلما ولا يشتروا عبدا ولا أمة، وتتبعت آثارهم في ذلك، فأسلم منهم عدّة، وقرّر حسين بن طاهر الوزان في الوساطة والتوقيع عن الحاكم في تاسع عشري ربيع الأوّل منها، ولقب أمين الأمناء، ونقش الحاكم على خاتمه: بنصر الله العظيم الوليّ ينتصر الإمام أبو علي. وضرب جماعة بسبب اللعب بالشطرنج، وهدمت الكنائس وأخذ جميع ما فيها ومالها من الرباع، وكتب بذلك إلى الأعمال فهدمت بها، وفيها لحق أبو الفتح بمكة ودعا للحاكم وضرب السكة باسمه، وأمر الحاكم أن لا يقبّل أحد له الأرض، ولا يقبّل ركابه، ولا يده عند السلام عليه في المواكب، فإنّ الانحناء إلى الأرض لمخلوق من صنيع الروم، وأن لا يزاد على قولهم السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ولا يصلّى أحد عليه في مكاتبة ولا مخاطبة، ويقتصر في مكاتبته على سلام الله وتحياته. ونوامي بركاته على أمير المؤمنين، ويدعي له بما يتفق من الدعاء لا غير، فلم يقل الخطباء يوم الجمع سوى اللهمّ صلّ على محمد المصطفى، وسلّم

على أمير المؤمنين عليّ المرتضى، اللهمّ وسلّم على أمراء المؤمنين آباء أمير المؤمنين، اللهمّ اجعل أفضل سلامك على عبدك وخليفتك، ومنع من ضرب الطبول والأبواق حول القصر، فصاروا يطوفون بغير طبل ولا بوق، وكثرت إنعامات الحاكم فتوقف أمين الأمناء حسين بن طاهر الوزان في إمضائها، فكتب إليه الحاكم بخطه بعد البسملة، الحمد لله كما هو أهله: أصبحت لا أرجو ولا أتقي ... إلّا إلهي وله الفضل جدّي نبيّ وإمامي أبي ... وديني الإخلاص والعدل المال مال الله عز وجلّ، والخلق عباد الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام وركب الحاكم يوم عيد الفطر إلى المصلي بغير زينة ولا جنائب ولا أبهة، سوى عشرة أفراس تقاد بسروج ولجم محلاة بفضة بيضاء خفيفة، وبنود ساذجة ومظلة بيضاء بغير ذهب عليه بياض، بغير طرز ولا ذهب ولا جوهر في عمامته، ولم يفرش المنبر، ومنع الناس من سبّ السلف، وضرب في ذلك وشهر وصلّى صلاة عيد النحر كما صلّى صلاة عيد الفطر من غير أبهة، ونحر عنه عبد الرحمن بن الياس بن أحمد بن المهديّ، وأكثر الحاكم من الركوب إلى الصحراء بحذاء في رجله وفوطة على رأيه. وفي سنة أربع وأربعمائة ألزم اليهود أن يكون في أعناقهم جرس إذا دخلوا الحمام، وأن يكون في أعناق النصارى صلبان، ومنع الناس من الكلام في النجوم، وأقيم المنجمون من الطرقات وطلبوا فتغيبوا ونفوا، وكثرت هبات الحاكم وصدقاته وعتقه، وأمر اليهود والنصارى بالخروج من مصر إلى بلاد الروم وغيرها، وأقيم عبد الرحيم بن الياس وليّ العهد، وأمر أن يقال في السلام عليه، السلام على ابن عمّ أمير المؤمنين، ووليّ عهد المسلمين وصار يجلس بمكان في القصر، وصار الحاكم يركب بدراعة صوف بيضاء، ويتعمم بفوطة. وفي رجله خذاء عربيّ بقبالين، وعبد الرحيم يتولى النظر في أمور الدولة كلها، وأفرط الحاكم في العطاء وردّ ما كان أخذ من الضياع والأملاك إلى أربابها، وفي ربيع الآخر أمر بقطع يدي أبي القاسم الجرجانيّ، وكان يكتب للقائد غين، ثم قطع يد غين فصار مقطوع اليدين، وبعث إليه الحاكم بعد قطع يديه بألف من الذهب والثياب، ثم بعد ذلك أمر بقطع لسانه، فقطع. وأبطل عدّة مكوس، وقتل الكلاب كلها، وأكثر من الركوب في الليل، ومنع النساء من المشي في الطرقات، فلم تر امرأة في طريق البتة، وأغلقت حماماتهنّ، ومنع الأساكفة من على خفافهنّ، وتعطلت حوانيتهم، واشتدّت الإشاعة بوقوع السيف في الناس، فتهاربوا وغلفت الأسواق، فلم يبع شيء. ودعي لعبد الرحيم بن الياس على المنابر، وضربت السكة باسمه بولاية العهد، وفي سنة خمس وأربعمائة قتل مالك بن سعيد الفارقيّ، في ربيع الآخر، وكانت مدّة نظره في قضاء القضاة ست سنين وتسعة أشهر وعشرة

جامع الفيلة

أيام، وبلغ إقطاعه في السنة خمسة عشر ألف دينار، وتزايد ركوب الحاكم حتى كان يركب في كلّ يوم عدّة مرّات، واشترى الحمير وركبها بدل الخيل. وفي جمادى الآخرة منها قتل الحسين بن طاهر الوزان، فكانت مدّة نظره في الوساطة سنتين وشهرين وعشرين يوما، فأمر أصحاب الدواوين بلزوم دواوينهم، وصار الحاكم يركب حمارا بشاشية مكشوفة بغير عمامة، ثم أقام عبد الرحيم بن أبي السيد الكاتب وأخاه أبا عبد الله الحسين في الوساطة والسفارة، وأقرّ في وظيفة قضاء القضاة أحمد بن محمد بن أبي العوام، وخرج الحاكم عن الحدّ في العطاء حتى أقطع نواتية المراكب والمشاعلية، وبنى قرّة، فما أقطع الإسكندرية والبحيرة ونواحيهما، وقتل ابني أبي السيد فكانت مدّة نظرهما اثنتين وستين يوما، وقلد الوساطة فضل بن جعفر بن الفرات، ثم قتله في اليوم الخامس من ولايته، وغلب بنو قرّة على الإسكندرية وأعمالها، وأكثر الحاكم من الركوب فركب في يوم ستة مرّات، مرّة على فرس، ومرّة على حمار، ومرّة في محفة تحمل على الأعناق، ومرّة في عشاري في النيل بغير عمامة، وأكثر من إقطاع الجند والعبيد الإقطاعات، وأقام ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن عليّ بن جعفر بن فلاح في الوساطة والسفارة، وولى عبد الرحيم بن الياس دمشق، فسار إليها في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعمائة، فأقام فيها شهرين ثم هجم عليه قوم فقتلوا جماعة ممن عنده، وأخذوه في صندوق وحملوه إلى مصر، ثم أعيد إلى دمشق فأقام بها إلى ليلة عيد الفطر وأخرج منها. فلما كان لليلتين بقيتا من شوّال سنة عشر وأربعمائة، فقد الحاكم وقيل أن أخته قتلته وليس بصحيح، وكان عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر، وكانت مدّة خلافته خمسا وعشرين سنة وشهرا، وكان جوادا سفاكا للدماء، قتل عددا لا يحصى، وكانت سيرته من أعجب السير، وخطب له على منابر مصر والشام وأفريقية والحجاز، وكان يشتغل بعلوم الأوائل، وينظر في النجوم وعمل رصدا واتخذ بيتا في المقطم ينقطع فيه عن الناس لذلك، ويقال أنه كان يعتريه جفاف في دماغه، فلذلك كثر تناقضه، وما أحسن ما قال فيه بعضهم، كانت أفعاله لا تعالى، وأحلام وساوسه لا تؤوّل، وقال المسبحيّ وفي محرّم سنة خمس عشرة وأربعمائة قبض على رجل من بني حسين ثار بالصعيد الأعلى، فأقرّ بأنه قتل الحاكم بأمر الله في جملة أربعة أنفس تفرّقوا في البلاد، وأظهر قطعة من جلدة رأس الحاكم، وقطعة من الفوطة التي كانت عليه، فقيل له لم قتلته؟ فقال: غيرة لله وللإسلام. فقيل له: كيف قتلته؟ فأخرج سكينا ضرب بها فؤاده فقتل نفسه. وقال هكذا قتلته. فقطع رأسه وأنفذ به إلى الحضرة مع ما وجد معه، وهذا هو الصحيح في خبر قتل الحاكم، لا ما تحكيه المشارقة في كتبهم من أن أخته قتلته. جامع الفيلة هذا الجامع بسطح الجرف المطلّ على بركة الحبش المعروف الآن بالرصد، بناه

الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ في شعبان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وبلغت النفقة على بنائه ستة آلاف دينار، وإنما قيل له جامع الفيلة لأنّ في قبلته تسع قباب في أعلاه ذات قناطر، إذا رآها الإنسان من بعيد شبهها بمدّرعين على فيلة، كالتي كانت تعمل في المواكب أيام الأعياد، وعليها السرير وفوقها المدّرعون أيام الخلفاء، ولما كمل أقام في خطابته الشريف الزكيّ أمين الدولة أبا جعفر محمد بن محمد بن هبة الله بن عليّ الحسينيّ الأفطسيّ النسابة الكاتب الشاعر الطرابلسيّ، بعد صرفه من قضاء الغربية، فلما رقى المنبر أوّل خطبة أقيمت في هذا الجامع قال: بسم الله الحمد لله، وأرتج عليه فلم يدر ما يقول، وكان هناك الشيخ أبو القاسم عليّ بن منجب بن الصيرفيّ الكاتب، وولده مختص الدولة أبو المجد، وأبو عبد الله بن بركات النحويّ، ووجوه الدولة. فلما أضجر من حضر نزل عن المنبر وقد حمّ، فتقدّم قيم الجامع وصلّى ومضى الشريف إلى داره فاعتلّ ومات. وكان قد ولي قضاء عسقلان وغيرها، ثم قدم إلى مصر فولي الحكم بالمحلة، وولي ديوان الأحباس، وكان أحد الأعيان الأدباء العارفين بالنسب، ومن الشعراء المجيدين والنحاة اللغويين، ولد بطرابلس الشام في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وقدم إلى القاهرة في سنة إحدى وخمسمائة، ومدح الأفضل، ومات في سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة وخمسمائة، وقد ترشح للنقابة بمصر ولم ينلها مع تطلعه إليها، وذيل كتاب أبي الغنائم الزيديّ النسابة، ومن شعره بديها، وقد نام مع جاريته على سطوح فطلع القمر عليهما فارتاعا من كشف الجيران عليهما: ولمّا تلاقينا وغاب رقيبنا ... ورمت التشكي في خلو وفي سرّ بدا ضوء بدر فافترقنا لضوئه ... فيا من رأى بدرا ينمُّ على بدر وأهل المطالب يذكرون أنّ الأفضل وجد بموضع الصهريج مطلبا، فختم عليه أشهرا إلى أن نقله وعمله صهريجا وبنى عليه هذا المسجد، وهذا الشرف الذي عليه جامع الفيلة منظرة في غاية الحسن، لأنّ في قبليه بركة الحبش وبستان الوزير المغربيّ والعدوية ودير النسطورية وبئر أبي سلامة، وهي بئر مدوّرة برسم الغنم، وبئر النعش، كان يستقي منها أصحاب الزوايا، وهي بجوار عفصة الصغرى، وهي بئر أبي موسى بن أبي خليد، وسميت بئر النعش لأنها على هيئة النعش، وماؤها يهضم الطعام وهو أصح الأمواه، وشرقيّ هذا الجبل: جبل المقطعم والجبانة والمغافر والقرافة وآخر الأكحول وريحان ورعين والكلاع والأكسوع، وغربيّ هذا الجبل: المعشوق والنيل وبستان اليهوديّ إلى القبلة، وطموه والأهرام وراشدة، وبحريّ هذا الجبل بستان الأمير تميم، وقنطرة خليج بني وائل، ودير المعدّلين، وعقبة بحصب، ومحرى قسطنطين، والشرف وغير ذلك. وهذا الجامع لا تقام فيه اليوم جمعة ولا جماعة لخراب ما حوله من القرافة وراشدة، وينزل فيه أحيانا طائفة من العرب بإبلهم يقال لهم المسلمية، وعما قليل يدثر كما دثر غيره.

جامع المقياس

جامع المقياس هذا الجامع بجوار مقياس النيل من جزيرة الفسطاط أنشأه ... «1» . الجامع الأقمر قال ابن عبد الظاهر: كان مكانه علافون، والحوض مكان المنظرة، فتحدث الخليفة الآمر مع الوزير المأمون بن البطائحيّ في إنشائه جامعا، فلم يترك قدّام القصر دكانا، وبني تحت الجامع المذكور في أيامه دكاكين ومخازن من جهة باب الفتوح، لا من صوب القصر، وكمل الجامع المذكور في أيامه، وذلك في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وذكر أن اسم الآمر والمأمون عليه. وقال غيره: واشترى له حمّام شمول ودار النحاس بمصر، وحبسهما على سدنته ووقود مصابيحه ومن يتولى أمره ويؤذن فيه، وما زال اسم المأمون والآمر على لوح فوق المحراب، وفيه تجديد الملك الظاهر بيبرس للجامع المذكور، ولم تكن فيه خطبة، لكنّه يعرف بالجامع الأقمر. فلما كان في شهر رجب سنة تسع وتسعين وسبعمائة، جدّده الأمير الوزير المشير الأستادار يلبغا بن عبد الله السالميّ، أحد المماليك الظاهرية، وأنشأ بظاهر بابه البحريّ حوانيت يعلوها طباق، وجدّد في صحن الجامع بركة لطيفة يصل إليها الماء من ساقية، وجعلها مرتفعة ينزل منها الماء إلى من يتوضأ من بزابيز نحاس، ونصب فيه منبرا، فكانت أوّل جمعة جمعت فيه رابع شهر رمضان من السنة المذكورة، وخطب فيه شهاب الدين أحمد بن موسى الحلبيّ أحد نوّاب القضاة الحنفية، وأرتج عليه، واستمرّ إلى أن مات في سابع عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانمائة، وبني على يمنة المحراب البحريّ مئذنة، وبيّض الجامع كله ودهن صدره بلازورد وذهب. فقلت له: قد أعجبني ما صنعت بهذا الجامع ما خلا تجديد الخطبة فيه وعمل بركة الماء. فإنّ الخطبة غير محتاج إليها هاهنا لقرب الخطب من هذا الجامع، وبركة الماء تضيق الصحن. وقد أنشأت ميضأة بجوار بابه الذي من جهة الركن المخلق، فاحتجّ لعمل المنبر بأن ابن الطوير قال فيه كتاب نزهة المقلتين في أخبار الدولتين، عند ذكر جلوس الخليفة في المواليد الستة: ويقدّم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك، ثم يحضر خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك. قال: فهذا أمر قد كان في الدولة الفاطمية، وما أنا بالذي أحدثته، وأما البركة ففيها عون على الصلاة لقربها من المصلين، وجعل فوق المحراب لوحا مكتوبا فيه ما كان فيه أوّلا، وذكر فيه تجديده لهذا الجامع، ورسم فيه نعوته وألقابه، وجدّد أيضا حوض هذا الجامع الذي تشرب منه الدواب، وهو في ظهر الجامع تجاه الركن المخلق، وبئر هذا الجامع قديمة قبل الملة الإسلامية، كانت في دير من ديارات النصارى بهذا الموضع.

فلما قدم القائد جوهر بجيوش المعز لدين الله في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أدخل هذا الدير في القصر، وهو موضع الركن المخلق تجاه الحوض المذكور، وجعل هذه البئر مما ينتفع به في القصر، وهي تعرف ببئر العظام، وذلك أن جوهر انقل من الدير المذكور عظاما كانت فيه من رمم قوم يقال أنهم من الحواريين، فسميت بئر العظام، والعامّة تقول إلى اليوم بئر المعظمة، وهي بئر كبيرة في غاية السعة، وأوّل ما أعرف من إضافتها إلى الجامع الأقمر، أنّ العماد الدمياطيّ ركب على فوهتها هذه المحال التي بها الآن، وهي من جيد المحال، وكان تركيبها بعد السبعمائة في أيام قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة الشافعيّ، وبهذا الجامع درس من قديم الزمان، ولم تزل مئذنته التي جدّدها السالميّ والبركة إلى سنة خمس عشرة وثمانمائة، فولي نظر الجامع بعض الفقهاء، فرأى هدم المئذنة من أجل ميل حدث بها، فهدمها وأبطل الماء من البركة لإفساد الماء بمروره جدار الجامع القبليّ، والخطبة قائمة به إلى الآن. الآمر بأحكام الله: أبو عليّ المنصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر لاعزاز دين الله أبي الحسن عليّ بن الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور، ولد يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم سنة تسعين وأربعمائة، وبويع له بالخلافة يوم مات أبوه وهو طفل له من العمر خمس سنين وأشهر وأيام، في يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة خمس وتسعين، أحضره الأفضل بن أمير الجيوش وبايع له ونصبه مكان أبيه، ونعته بالآمر بأحكام الله، وركب الأفضل فرسا وجعل في السرج شيئا وأركبه عليه لينمو شخص الآمر، وصار ظهره في حجر الأفضل، فلم يزل تحت حجره حتى قتل الأفضل ليلة عيد الفطر سنة خمس عشرة وخمسمائة، فاستوزر بعده القائد أبا عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ، ولقّبه بالمأمون، فقام بأمر دولته إلى أن قبض عليه في ليلة السبت رابع شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، فتفرّغ الآمر لنفسه ولم يبق له ضدّ ولا مزاحم، وبقي بغير وزير، وأقام صاحبي ديوان أحدهما جعفر بن عبد المنعم، والآخر سامريّ يقال له أبو يعقوب إبراهيم، ومعهما مستوف يعرف بابن أبي نجاح كان راهبا، ثم تحكم هذا الراهب في الناس وتمكن من الدواوين، فابتدأ في مطالبة النصارى، وحقق في جهاتهم الأموال وحملها أوّلا فأوّلا، ثم أخذ في مصادرة بقية المباشرين والمعاملين والضمناء والعمال، وزاد إلى أن عمّ ضرره جميع الرؤساء والقضاة والكتاب والسوقة، بحيث لم يخل أحد من ضرره. فلما تفاقم أمره قبض عليه الآمر وضرب بالنعال حتى مات بالشرطة، فجر إلى كرسيّ الجسر وسمّر على لوح وطرح في النيل، وحذف حتى خرج إلى البحر الملح. فلما كان يوم الثلاثاء رابع عشر ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وثب جماعة على الآمر وقتلوه، كما ذكر عند خبر الهودج، وكان كريما سمحا إلى الغاية، كثير النزهة محبا للمال والزينة، وكانت أيامه كلها لهوا وعيشة راضية لكثرة عطائه وعطاء حواشيه، بحيث لم يوجد بمصر

والقاهرة إذ ذاك من يشكو زمانه البتة إلى أن نكّد بالراهب على الناس، فقبحت سيرته وكثر ظلمه واغتصابه للأموال. وفي أيامه ملك الفرنج كثيرا من المعاقل والحصون بسواحل الشام، فملكت عكافي شعبان سنة سبع وتسعين، وغزة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة، وطرابلس في ذي الحجة منها، وبانياس وجبيل وقلعة تبنين فيها أيضا، وملكوا صور في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وكثرت المرافعات في أيامه، وأحدثت رسوم لم تكن، وعمر الهودج بالروضة، ودكة ببركة الحبش، وعمر تنيس ودمياط، وجدّد قصر القرافة، وكانت نفسه تحدّثه بالسفر والغارة إلى بغداد، ومن شعره في ذلك: دع اللوم عني لست مني بموثق ... فلا بدّلي من صدمة المتحقق وأسقي جيادي من فرات ودجلة ... وأجمع شمل الدين بعد التفرّق وقال: أما والذي حجت إلى ركن بيته ... جراثيم ركبان مقلدة شهبا لاقتحمنّ الحرب حتى يقال لي ... ملكت زمام الحرب فاعتزل الحربا وينزل روح الله عيسى ابن مريم ... فيرضى بنا صحبا ونرضى به صحبا وكان أسمر شديد السمرة، يحفظ القرآن ويكتب خطا ضعيفا، وهو الذي جدّد رسوم الدولة وأعاد إليها بهجتها بعد ما كان الأفضل أبطل ذلك، ونقل الدواوين والأسمطة من القصر بالقاهرة إلى دار الملك بمصر، كما ذكر هناك. وقضاته ابن ذكا النابلسيّ، ثم نعمة الله بن بشير، ثم الرشيد محمد بن قاسم الصقليّ، ثم الجليس بن نعمة الله بن بشير النابلسيّ، ثم صرفه ثانيا بمسلم بن الرسغيّ، وعزله بأبي الحجاج يوسف بن أيوب المغربيّ، ثم مات فولى محمد بن هبة الله بن ميسر، وكتاب إنشائه سنا الملك أبو محمد الزبيديّ الحسنيّ، والشيخ أبو الحسن بن أبي أسامة، وتاج الرياسة أبو القاسم بن الصيرفيّ، وابن أبي الدم اليهوديّ. وكان نقش خاتمه: الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين. ووقع في آخر أيامه غلاء قلق الناس منه، وكان جريئا على سفك الدماء وارتكاب المحظورات واستحسان القبائح، وقتل وعمره أربع وثلاثون سنة وتسعة أشهر وعشرون يوما، منها مدّة خلافته تسع وعشرون سنة وثمانية أشهر ونصف، وما زال محجورا عليه حتى قتل الأفضل، وكان يركب للنزهة دائما عند ما استبدّ، في يومي السبت والثلاثاء، ويتحوّل في أيام النيل بحرمه إلى اللؤلؤة على الخليج، واختص بغلاميه برغش وهزار الملوك. يلبغا السالميّ: أبو المعالي عبد الله الأمير سيف الدين الحنفيّ الصوفي الظاهريّ، كان اسمه في بلاده يوسف، وهو حرّ الأصل، وآباؤه مسلمون. فلما جلب من بلاد المشرق سمي

يلبغا، وقيل له السالميّ نسبة إلى سالم، تاجره الذي جلبه، فترقّى في خدم السلطان الملك الظاهر برقوق إلى أن ولّاه نظر خانقاه الصلاح سعيد السعداء، في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وسبعمائة، فأخرج كتاب الوقف وقصد أن يعمل بشرط الواقف، وأخرج منها جماعة من بياض الناس، فجرت أمور ذكرت في خبر الخانقاه. وفي سابع عشري صفر سنة ثمانمائة، أنعم عليه الملك الظاهر بإمرة عشرة عوضا عن الأمير بهادر فطيلس، ثم نقله إلى أمرة طبلخاناه، ثم جعله ناظرا على الخانقاه الشيخونية بالصليبة، في تاسع شعبان سنة إحدى وثمانمائة، فعسف بمباشر بها وأراد حملهم على مرّ الحق، فنفرت منه القلوب، ولما مرض الظاهر جعله أحد الأوصياء على تركته، فقام بتحليف المماليك السلطانية للملك الناصر فرج بن برقوق، والإنفاق عليهم بحضرة الناصر، فأنفق عليهم كل دينار من حساب أربعة وعشرين درهما، ولما انقضت النفقة نودي في البلدان أنّ صرف كل دينار ثلاثون درهما، ومن امتنع نهب ماله وعوقب، فحصل للناس من ذلك شدّة، وكان قد كثر القبض على الأمراء بعد موت الظاهر، فتحدّث مع الأمير الكبير ايتمش القائم بتدبير دولة الناصر فرج بعد موت أبيه في أن يكون على كلّ أمير من المقدّمين خمسون ألف درهم، وعلى كلّ أمير من الطبلخاناه عشرون ألف درهم، وعلى كلّ أمير عشرة خمسة آلاف درهم، وعلى كلّ أمير خمسة ألفا درهم وخمسمائة درهم. فرسم بذلك وعمل به مدّة ايام الناصر، وحصل به رفق للأمراء ومباشريهم، ثم خلع عليه واستقرّ أستادار السلطان عوضا عن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الملكيّ، في يوم الاثنين ثالث عشري ذي القعدة من السنة المذكورة، فأبطل تعريف منية بني خصيب، وضمان العرصة، وأخصاص الكيالين، وكتب بذلك مرسوما سلطانيا وبعث به إلى والي الأشمونين، وأبطل وفر الشون السلطانية، وما كان مقرّرا على البرددار «1» وهو في الشهر سبعة آلاف درهم، وما كان مقرّرا على مقدّم المستخرج، وهو في الشهر ثلاثة آلاف درهم، وكانت سماسرة الغلال تأخذ ممن يشتري شيئا من الغلة على كلّ أردب در همين سمسرة، وكيالة ولواحة وأمانة، فألزمهم أن لا يأخذوا عن كل أردب سوى نصف درهم، وهدّد على ذلك بالغرامة والعقوبة. وركب في صفر سنة ثلاث وثمانمائة إلى ناحية المنية وشبرا الخيمة من الضواحي بالقاهرة، وكسر منها ما ينيف على أربعين ألف جرّة خمر، وخرّب بها كنيسة كانت للنصارى، وحمل عدّة جرار فكسرها تحت قلعة الجبل، وعلى باب زويلة، وشدّد على النصارى، فلم يمكنه أمراء الدولة من حملهم على الصغار والمذلة في ملبسهم، وأمر فضرب الذهب كلّ دينار زنته مثقال واحدا، وأراد بذلك إبطال ما حدث من المعاملة بالذهب الإفرنجيّ، فضرب ذلك وتعامل الناس به مدّة، وصار يقال دينار سالميّ إلى أن

ضرب الناصر فرج دنانير وسماها الناصرية، وصار يحكم في الأحكام الشرعية، فقلق منه أمراء الدولة وقاموا في ذلك، فمنع من الحكم إلّا فيما يتعلق بالديوان المفرد وغيره مما هو من لوازم الأستادار، وأخذ في مخاشنة الأمراء عند ما عاد الناصر فرج وقد انهزم من تيمور لنك، وشرع في إقامة شعار المملكة والنفقة على العساكر التي رجعت منهزمة، فأخذ من بلاد الأمراء وبلاد السلطان عن كلّ ألف دينار فرسا أو خمسمائة درهم ثمنها، وجبى من أملاك القاهرة ومصر وظواهرهما أجرة شهر، وأخذ من الرزق عن كلّ فدّان عشرة دراهم، وعن الفدّان من القصب المزروع والقلقاس والنيلة نحو مائة درهم، وجبى من البساتين عن كلّ فدّان مائة درهم، وقام بنفسه وكبس الحواصل ليلا ونهارا ومعه جماعة من الفقهاء وغيرهم، وأخذ مما فيها من الذهب والفضة والفلوس نصف ما يجد، سواء كان صاحب المال غائبا أو حاضرا، فعمّ ذلك أموال التجار والأيتام وغيرهم من سائر من وجد له مال، وأخذ ما كان في الجوامع والمدارس وغيرها من الحواصل، فشمل الناس من ذلك ضرر عظيم، وصار يؤخذ من كل مائة درهم ثلاثة دراهم عن أجرة صرف، وستة دراهم عن أجرة الرسول، وعشرة دراهم عن أجرة نقيب، فنفرت منه القلوب وانطلقت الألسن بذمّه والدعاء عليه، وعرض مع ذلك الجند وألزم من له قدرة على السفر بالتجهز للسفر إلى الشام لقتال تيمور لنك، ومن وجده عاجزا عن السفر ألزمه بحمل نصف متحصل إقطاعه، فقبض عليه في يوم الاثنين رابع عشر رجب سنة ثلاث وثمانمائة، وسلّم للقاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب، وقرّر مكانه في الاستادارية، فلم يزل إلى يوم عيد الفطر من السنة المذكورة، فأمر بإطلاقه بعد أن حصر وأهين إهانة كبيرة، ثم قبض عليه وضرب ضربا مبرّحا حتى أشفى على الموت، وأطلق في نصف ذي القعدة وهو مريض، فأخرج إلى دمياط وأقام بها مدّة، ثم أحضر إلى القاهرة وقلّد وظيفة الوزارة في سنة خمس وثمانمائة، وجعل مشيرا، فأبطل مكوس البحيرة وهو ما يؤخذ على ما يذبح من البقر والغنم، واستعمل في أموره العسف، وترك مداراة الأمراء، واستعجل فقبض عليه وعوقب وسجن إلى أن أخرج في رمضان سنة سبع وثمانمائة وقلّد وظيفة الإشارة، وكانت للأمير جمال الدين يوسف الأستادار، فلم يترك عادته في الإعجاب برأيه والاستبداد بالأمور، واستعجال الأشياء قبل أوانها، فقبض عليه في ذي الحجة منها وسلّم للأمير جمال الدين يوسف، فعاقبه وبعث به إلى الإسكندرية، فسجن بها إلى أن سعى جمال الدين في قتله بمال بذله للناصر فيه حتى أذن له في ذلك، فقتل خنقا عصر يوم الجمعة وهو صائم السابع عشر من جمادى الآخرة، سنة إحدى عشرة وثمانمائة رحمه الله، وكان كثير النسك من الصلاة والصوم والصدقة، لا يخلّ بشيء من نوافل العبادات، ولا يترك قيام الليل سفرا ولا حضرا، ولا يصلي قط إلّا بوضوء جديد، وكلما أحدث توضأ، وإذا توضأ صلّى ركعتين، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ويخرج في كثرة الصدقات عن الحدّ، ويقرأ فيه كلّ ثلاثة أيام ختمة، ولا يترك أوراده في حال من

جامع الظافر

الأحوال مع المروءة والهمة، وسمع كثيرا من الحديث، وقرأ بنفسه على المشايخ، وكتب الخط المليح، وقرأ القراءات السبع، وعرف التصوّف والفقه والحساب والنجوم، إلّا أنه كان متهوّرا في أخذ الأموال عسوفا لجوجا مصمما لا ينقاد إلى أحد، ويستبدّ برأيه فيغلط غلطات لا تحتمل، ويستخف بغيره، ويعجب بنفسه، ويريد أن يجعل غاية الأمور بدايتها، فلذلك لم يتمّ له أمر. جامع الظافر هذا الجامع بالقاهرة في وسط السوق الذي كان يعرف قديما بسوق السرّاجين، ويعرف اليوم بسوق الشوّايين، كان يقال له الجامع الأفخر، ويقال له اليوم جامع الفاكهيين، وهو من المساجد الفاطمية، عمره الخليفة الظافر بنصر الله أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن الآمر بأحكام الله منصور، ووقف حوانيته على سدنته ومن يقرأ فيه. قال ابن عبد الظاهر: بناه الظافر، وكان قبل ذلك زريبة تعرف بدار الكباش، وبناه في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وسبب بنائه أن خادما رأى من مشرف عال ذباحا وقد أخذ رأسين من الغنم، فذبح أحدهما ورمى سكينته ومضى ليقضي حاجته، فأتى رأس الغنم الآخر وأخذ السكين بفمه ورماها في البالوعة، فجاء الجزّار يطوف على السكين، فلم يجدها، وأما الخادم فإنه استصرخ وخلصه منه، وطولع بهذه القضية أهل القصر، فأمروا بعمله جامعا، ويسمى الجامع الأفخر، وبه حلقة تدريس وفقهاء ومتصدّرون للقرآن، وأوّل ما أقيمت به الجمعة في ... «1» . جامع الصالح هذا الجامع من المواضع التي عمرت في زمن الخلفاء الفاطميين، وهو خارج باب زويلة. قال ابن عبد الظاهر: كان الصالح طلائع بن رزيك لما خيف على مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه إذ كان بعسقلان من هجمة الفرنج، وعزم على نقله، قد بنى هذا الجامع ليدفنه به، فلما فرغ منه لم يمكنه الخليفة من ذلك وقال: لا يكون إلّا داخل القصور الزاهرة، وبنى المشهد الموجود الآن ودفن به، وتمّ الجامع المذكور، واستمرّ جلوس زين الدين الواعظ به، وحضور الصالح إليه. فيقال أنّ الصالح لما حضرته الوفاة جمع أهله وأولاده وقال لهم في جملة وصيته: ما ندمت قط في شيء عملته إلّا في ثلاثة، الأوّل بنائي هذا الجامع على باب القاهرة، فإنه صار عونا لها. والثاني: توليتي لشاور الصعيد الأعلى. والثالث: خروجي إلى بلبيس بالعساكر وإنفاقي الأموال الجمة، ولم أتم بهم إلى الشام وأفتح بيت المقدس واستأصل ساقة الفرنج. وكان قد أنفق في العساكر في تلك الدفعة مائة

ألف دينار، وبنى في الجامع المذكور صهريجا عظيما، وجعل ساقية على الخليج قريب باب الخرق تملأ الصهريج المذكور أيام النيل، وجعل المجاري إليه، وأقيمت الجمعة فيه في الأيام المعزية في سنة بضع وخمسين وستمائة بحضور رسول بغداد الشيخ نجم الدين عبد الله البادرانيّ، وخطب به أصيل الدين أبو بكر الأسعرديّ، وهي إلى الآن، ولما حدثت الزلزلة سنة اثنتين وسبعمائة تهدّم، فعمر على يد الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار. طلائع بن رزيك: أبو الغارات الملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين، قدم في أوّل أمره إلى زيارة مشهد الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بأرض النجف من العراق في جماعة من الفقراء، وكان من الشيعة الإمامية، وإمام مشهد عليّ رضي الله عنه يومئذ السيد ابن معصوم، فزار طلائع وأصحابه وباتوا هنالك، فرأى ابن معصوم في منامه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول له: قد ورد عليك الليلة أربعون فقيرا، من جملتهم رجل يقال له طلائع بن رزيك من أكبر محبينا، قل له اذهب فقد وليناك مصر. فلما أصبح أمر أن ينادي: من فيكم طلائع بن رزيك فليقم إلى السيد ابن معصوم. فجاء طلائع وسلّم عليه، فقصّ عليه ما رأى، فسار حينئذ إلى مصر وترقى في الخدم حتى ولي منية بني خصيب، فلما قتل نصر بن عباس، الخليفة الظافر، بعث نساء القصر إلى طلائع يستغثن به في الأخذ بثار الظافر، وجعلن في طيّ الكتب شعور النساء، فجمع طلائع عندما وردت عليه الكتب الناس، وسار يريد القاهرة لمحاربة الوزير عباس، فعندما قرب من البلد فرّ عباس ودخل طلائع إلى القاهرة، فخلع عليه خلع الوزارة ونعت بالملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين، فباشر البلاد أحسن مباشرة، واستبدّ بالأمر لصغر سنّ الخليفة الفائز بنصر الله إلى أن مات، فأقام من بعده عبد الله بن محمد ولقبه بالعاضد لدين الله، وبايع له، وكان صغيرا لم يبلغ الحلم، فقويت حرمة طلائع وازداد تمكنه من الدولة، فثقل على أهل القصر لكثرة تضييقه عليهم، واستبداده بالأمر دونهم، فوقف له رجال بدهاليز القصر وضربوه حتى سقط على الأرض على وجهه، وحمل جريحا لا يعي إلى داره، فمات يوم الاثنين تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة، وكان شجاعا كريما جوادا فاضلا محبا لأهل الأدب جيد الشعر، رجل وقته فضلا وعقلا وسياسة وتدبيرا، وكان مهابا في شكله، عظيما في سطوته، وجمع أموالا عظيمة، وكان محافظا على الصلوات فرائضها ونوافلها، شديد المغالات في التشيع، صنف كتابا سماه الاعتماد في الردّ على أهل العناد، جمع له الفقهاء وناظرهم عليه، وهو يتضمن إمامة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والكلام على الأحاديث الواردة في ذلك، وله شعر كثير يشتمل على مجلدين في كلّ فن، فمنه في اعتقاده: يا أمة سلكت ضلالا بينا ... حتى استوى إقرارها وجحودها ملتم إلى أنّ المعاصي لم يكن ... إلّا بتقدير الإله وجودها

ذكر الأحباس وما كان يعمل فيها

لو صح ذا كان الإله بزعمكم ... منع الشريعة أن تقام حدودها حاشا وكلّا أنّ يكون إلهنا ... ينهى عن الفحشاء ثم يريدها وله قصيدة سماها الجوهرية، في الردّ على القدرية، وجدّد الجامع الذي بالقرافة الكبرى، ووقف ناحية بلقس على أن يكون ثلثاها على الأشراف من بني حسن وبني حسين ابني عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، وسبع قراريط منها على أشراف المدينة النبوية، وجعل فيها قيراطا على بني معصوم إمام مشهد عليّ رضي الله عنه، ولما ولى الوزارة مال على المستخدمين بالدولة وعلى الأمراء، وأظهر مذهب الإمامية وهو مخالف لمذهب القوم، وباع ولايات الأعمال للأمراء بأسعار مقرّرة، وجعل مدة كلّ متولى ستة أشهر، فتضرّر الناس من كثرة تردّد الولاة على البلاد، وتعبوا من ذلك، وكان له مجلس في الليل يحضره أهل العلم ويدوّنون شعره، ولم يترك مدّة أيامه غزو الفرنج وتسيير الجيوش لقتالهم في البرّ والبحر، وكان يخرج البعوث في كل سنة مرارا، وكان يحمل في كلّ عام إلى أهل الحرمين مكة والمدينة من الأشراف سائر ما يحتاجون إليه من الكسوة وغيرها، حتى يحمل إليهم ألواح الصبيان التي يكتب فيها، والأقلام والمداد وآلات النساء، ويحمل كلّ سنة إلى العلويين الذين بالمشاهد جملا كبيرة، وكان أهل العلم يغدون إليه من سائر البلاد، فلا يخيب أمل قاصد منهم. ولما كان في الليلة التي قتل صبيحتها قال: في هذه الليلة ضرب في مثلها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمر بقربة ممتلئة فاغتسل وصلّى على رأي الإمامية مائة وعشرين ركعة، أحيا بها ليله، وخرج ليركب فعثر وسقطت عمامته عن رأسه وتشوّشت، فقعد في دهليز دار الوزارة وأمر بإحضار ابن الضيف، وكان يتعمم للخلفاء والوزراء، وله على ذلك الجاري الثقيل، فلما أخذ في إصلاح العمامة قال رجل للصالح: نعيذ بالله مولانا، ويكفيه هذا الذي جرى أمرا يتطير منه، فإن رأى مولانا أن يؤخر الركوب فعل، فقال: الطيرة من الشيطان، ليس إلى تأخير الركوب سبيل، وركب فكان من ضربه ما كان، وعاد محمولا فمات منها كما تقدّم. ذكر الأحباس وما كان يعمل فيها اعلم أن الأحباس في القديم لم تكن تعرف إلّا في الرباع وما يجري مجراها من المباني، وكلها كانت على جهات برّ. فأما المسجد الجامع العتيق بمصر، فكان يلي إمامته في الصلوات الخمس، والخطابة فيه يوم الجمعة، والصلاة بالناس صلاة الجمعة أمير البلد، فتارة يجمع للأمير بين الصلاة والخراج، وتارة يفرد الخراج عن الأمير، فيكون الأمير إليه أمر الصلاة بالناس والحرب، والآخر أمر الخراج، وهو دون مرتبة أمير الصلاة والحرب، وكان الأمير يستخلف عنه في الصلاة صاحب الشرطة إذا شغله أمر، ولم يزل الأمر على ذلك إلى

أن ولي مصر عنبسة بن إسحاق بن شمر من قبل المستنصر بن المتوكل على الصلاة والخراج، فقدمها لخمس خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وأقام إلى مستهل رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وصرف فكان آخر من ولي مصر من العرب، وآخر أمير صلّى بالناس في المسجد الجامع، وصار يصلّى بالناس رجل يرزق من بيت المال، وكذلك المؤذنون ونحوهم، وأما الأراضي فلم يكن سلف الأمّة من الصحابة والتابعين يتعرّضون لها، وإنما حدث ذلك بعد عصرهم، حتى أنّ أحمد بن طولون لما بنى الجامع والمارستان والسقاية، وحبس على ذلك الأحباس الكثيرة، لم يكن فيها سوى الرباع ونحوها بمصر، ولم يتعرّض إلى شيء من أراضي مصر البتة، وحبس أبو بكر محمد بن عليّ الماردانيّ بركة الحبش وسيوط وغيرهما على الحرمين وعلى جهات برّ، وحبس غيره أيضا. فلما قدمت الدولة الفاطمية من الغرب إلى مصر، بطل تحبيس البلاد، وصار قاضي القضاة يتولى أمر الأحباس من الرباع، وإليه أمر الجوامع والمشاهد، وصار للإحباس ديوان مفرد، وأوّل ما قدم المعز أمر في ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بحمل مال الأحباس من المودع إلى بيت المال الذي لوجوه البرّ، وطولب أصحاب الأحباس بالشرائط ليحملوا عليها. وما يجب لهم فيها، وللنصف من شعبان ضمن الأحباس محمد بن القاضي أبي الطاهر محمد بن أحمد بألف ألف وخمسمائة ألف درهم في كلّ سنة، يدفع إلى المستحقين حقوقهم ويحمل ما بقي إلى بيت المال. وقال ابن الطوير: الخدمة في ديوان الأحباس وهو أوفر الدواوين مباشرة، ولا يخدم فيه إلّا أعيان كتّاب المسلمين من الشهود المعدّلين، بحكم أنها معاملة دينية، وفيها عدّة مدبرين ينوبون عن أرباب هذه الخدم في إيجاب أرزاقهم من ديوان الرواتب، وينجزون لهم الخروج بإطلاق أرزاقهم، ولا يوجب لأحد من هؤلاء خرج إلّا بعد حضور ورقة التعريف، من جهة مشارف الجوامع والمساجد باستمرار خدمته ذلك الشهر جميعه، ومن تأخر تعريفه تأخر الإيجاب له، وإن تمادى ذلك استبدل به، أو توفر ما باسمه لمصلحة أخرى، خلا جواري المشاهد فإنها لا توفر، لكنها تنقل من مقصر إلى ملازم، وكان يطلق لكل مشهد خمسون درهما في الشهر برسم الماء لزوّارها، ويجري من معاملة سواقي السبيل بالقرافة والنفقة عليها من ارتفاعه، فلا تخلو المصانع ولا الأحواض من الماء أبدا، ولا يعترض أحد من الانتفاع به، وكان فيه كاتبان ومعينان. وقال المسبحي في حوادث سنة ثلاث وأربعمائة: وأمر الحاكم بأمر الله بإثبات المساجد التي لا غلة لها، ولا أحد يقوم بها، وماله منها غلة لا تقوم بما يحتاج إليه، فأثبت في عمل، ورفع إلى الحاكم بأمر الله، فكانت عدّة المساجد على الشرح المذكور ثمانمائة وثلاثين مسجدا، ومبلغ ما تحتاج إليه من النفقة في كلّ شهر تسعة آلاف ومائتان وعشرون درهما. على أنّ لكلّ مسجد في كلّ شهر اثني عشر درهما. وقال في حوادث سنة خمس

وأربعمائة: وقريء يوم الجمعة ثامن عشري صفر سجل بتحبيس عدّة ضياع، وهي: اطفيح وصول وطوخ وست ضياع أخر، وعدّة قياسر وغيرها على القرّاء والفقهاء والمؤذنين بالجوامع، وعلى المصانع والقوّام بها، ونفقة المارستانات وأرزاق المستخدمين فيها وثمن الأكفان. وقال الشريف بن أسعد الجوّانيّ: كان القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام طافوا يوما على المساجد والمشاهد بمصر والقاهرة يبدأون بجامع المقس، ثم القاهرة، ثم المشاهد، ثم القرافة، ثم جامع مصر، ثم مشهد الرأس لنظر حصر ذلك وقناديله وعمارته وما تشعث منه، وما زال الأمر على ذلك إلى أن زالت الدولة الفاطمية. فلما استقرّت دولة بني أيوب أضيفت الأحباس أيضا إلى القاضي، ثم تفرّقت جهات الأحباس في الدولة التركية وصارت إلى يومنا هذا ثلاث جهات: الأولى تعرف بالأحباس، ويلي هذه الجهة دوادار السلطان، وهو أحد الأمراء ومعه ناظر الأحباس، ولا يكون إلّا من أعيان الرؤساء، وبهذه الجهة ديوان فيه عدّة كتاب ومدبر، وأكثر ما في ديوان الأحباس الرزق الإحباسية، وهي أراض من أعمال مصر على المساجد والزوايا للقيام بمصالحها، وعلى غير ذلك من جهات البرّ، وبلغت الرزق الإحباسية في سنة أربعين وسبعمائة عند ما حرّرها النشو ناظر الخاص في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، مائة ألف وثلاثين ألف فدّان، عمل النشو بها أوراقا، وحدّث السلطان في إخراجها عمن هي باسمه وقال: جميع هذه الرزق أخرجها الدواوين بالبراطيل والتقرّب إلى الأمراء والحكام، وأكثرها بأيدي أناس من فقهاء الأرياف لا يدرون الفقه، يسمون أنفسهم الخطباء، ولا يعرفون كيف يخطبون ولا يقرءون القرآن، وكثير منها بأسماء مساجد وزوايا معطلة وخراب، وحسن له أن يقيم شادّا وديوانا يسير في النواحي وينظر في المساجد التي هي عامرة، ويصرف لها من رزقها النصف، وما عدا ذلك يجري في ديوان السلطان. فعاجله الله وقبض عليه قبل عمل شيء من ذلك. الجهة الثانية تعرف بالأوقاف الحكمية بمصر والقاهرة، ويلي هذه الجهة قاضي القضاة الشافعيّ، وفيها ما حبس من الرباع على الحرمين وعلى الصدقات والأسرى وأنواع القرب، ويقال لمن يتولى هذه الجهة ناظر الأوقاف، فتارة ينفرد بنظر أوقاف مصر والقاهرة رجل واحد من أعيان نوّاب القاضي، وتارة ينفرد بأوقاف القاهرة ناطر من الأعيان، ويلي نظر أوقاف مصر آخر، ولكلّ من أوقاف البلدين ديوان فيه كتّاب وجباة، وكانت جهة عامرة يتحصل منها أموال جمة، فيصرف منها لأهل الحرمين أموال عظيمة في كلّ سنة، تحمل من مصر إليهم مع من يثق به قاضي القضاة، وتفرّق هناك صررا، ويصرف منها أيضا بمصر والقاهرة لطلبة العلم ولأهل الستر وللفقراء شيء كثير، إلّا أنها اختلت وتلاشت في زمننا هذا، وعما قليل إن دام ما نحن فيه لم يبق لها أثر البتة، وسبب ذلك أنه ولي قضاء الحنفية كمال الدين عمر بن العديم في أيام الملك الناصر فرج، وولاية الأمير جمال الدين يوسف

تدبير الأمور والمملكة، فتظاهرا معا على إتلاف الأوقاف، فكان جمال الدين إذا أراد أخذ وقف من الأوقاف، أقام شاهدين يشهدان بأن هذا المكان يضرّ بالجار والمارّ، وأن الحظ فيه. أن يستبدل به غيره، فيحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم باستبدال ذلك، وشره جمال الدين في هذا الفعل كما شره في غيره، فحكم له المذكور باستبدال القصور العامرة، والدور الجليلة بهذه الطريقة، والناس على دين ملكهم، فصار كلّ من يريد بيع وقف أو شراء وقف سعى عند القاضي المذكور بجاه أو مال، فيحكم له بما يريد من ذلك، واستدرج غيره من القضاة إلى نوع آخر، وهو أن تقام شهود القيمة فيشهدون بأن هذا الوقف ضارّ بالجار والمار، وأن الحظ والمصلحة في بيعه أنقاضا، فيحكم قاض شافعيّ المذهب ببيع تلك الأنقاض. واستمرّ الأمر على هذا إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه، ثم زاد بعض سفهاء قضاة زمننا في المعنى وحكم ببيع المساجد الجامعة إذا خرب ما حولها، وأخذ ذرية واقفها ثمن أنقاضها، وحكم آخر منهم ببيع الوقف ودفع الثمن لمستحقه من غير شراء بدل، فامتدّت الأيدي لبيع الأوقاف حتى تلف بذلك سائر ما كان في قرافتي مصر من الترب، وجميع ما كان من الدور الجليلة، والمساكن الأنيقة، بمصر الفسطاط ومنشأة المهرانيّ ومنشأة الكتاب وزريبة قوصون وحكر ابن الأثير وسويقة الموفق، وما كان في الحكورة من ذلك، وما كان بالجوّانية والعطوفية وغيرها من حارات القاهرة وغيرها، فكان ما ذكر أحد أسباب الخراب، كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب. الجهة الثالثة: الأوقاف الأهلية، وهي التي لها ناظر خاص، إمّا من أولاد الواقف أو من ولاة السلطان أو القاضي، وفي هذه الجهة الخوانك والمدارس والجوامع والترب، وكان متحصلها قد خرج عن الحدّ في الكثرة لما حدث في الدولة التركية من بناء المدارس والجوامع والترب وغيرهما، وصاروا يفردون أراضي من أعمال مصر والشامات، وفيها بلاد مقرّرة، ويقيمون صورة يتملكونها بها ويجعلونها وقفا على مصارف كما يريدون، فلما استبدّ الأمير برقوق بأمر بلاد مصر قبل أن يتلقب باسم السلطنة، همّ بارتجاع هذه البلاد وعقد مجلسا فيه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، وغيره. فلم يتهيأ له ذلك، فلما جلس على تخت الملك صار أمراؤه يستأجرون هذه النواحي من جهات الأوقاف، ويؤجرونها للفلاحين بأزيد مما استأجروا، فلما مات الظاهر فحش الأمر في ذلك واستولى أهل الدولة على جميع الأراضي الموقوفة بمصر والشامات، وصار أجودهم من يدفع فيها لمن يستحق ريعها عشر ما يحصل له، وإلّا فكثير منهم لا يدفع شيئا البتة، لا سيما ما كان من ذلك في بلاد الشام، فإنه استهلك وأخذ، ولذلك كان أسوأ الناس حالا في هذه المحن التي حدثت منذ سنة ست وثمانمائة الفقهاء، لخراب الموقوف عليها وبيعه واستيلاء أهل الدولة على الأراضي.

الجامع بجوار تربة الشافعي بالقرافة

الجامع بجوار تربة الشافعيّ بالقرافة هذا الجامع كان مسجدا صغيرا، فلما كثر الناس بالقرافة الصغرى عندما عمر السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب المدرسة بجوار قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وجعل لها مدرّسا وطلبة، زاد الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب في المسجد المذكور، ونصب به منبرا وخطب فيه، وصليت الجمعة به في سنة سبع وستمائة. جامع محمود بالقرافة هذا المسجد قديم والخطبة فيه متجدّدة، وينسب لمحمود بن سالم بن مالك الطويل، من أجناد السريّ بن الحكم أمير مصر بعد سنة مائتين من الهجرة. قال القضاعيّ: المسجد المعروف بمحمود، يقال أن محمودا هذا كان رجلا جنديا من جند السريّ بن الحكم أمير مصر، وأنه هو الذي بنى هذا المسجد، وذلك أنّ السريّ بن الحكم ركب يوما فعارضه رجل في طريقه فكلمه ووعظه بما غاظه، فالتفت عن يمينه فرأى محمودا، فأمره بضرب عنق الرجل ففعل. فلما رجع محمود إلى منزله تفكر وندم وقال: رجل يتكلم بموعظة بحق فيقتل بيدي وأنا طائع غير مكره على ذلك، فهلا امتنعت، وكثر أسفه وبكاؤه وآلى على نفسه أن يخرج من الجندية ولا يعود فيها، ولم ينم ليلته من الغمّ والندم، فلما أصبح غدا إلى السريّ فقال له: إني لم أنم في هذه الليلة على قتل الرجل، وأنا أشهد الله عز وجلّ وأشهدك أني لا أعود في الجندية، فأسقط اسمي منهم، وإن أردت نعمتي فهي بين يديك، وخرج من بين يديه وحسنت توبته وأقبل على العبادة، واتخذ المسجد المعروف بمسجد محمود وأقام فيه. وقال ابن المتوج: المسجد الجامع المشهور بسفح المقطم، هذا الجامع من مساجد الخطبة، وهو بسفح الجبل المقطم بالقرافة الصغرى، وأوّل من خطب فيه السيد الشريف شهاب الدين الحسين بن محمد قاضي العسكر، والمدرّس بالمدرسة الناصرية الصلاحية بجوار جامع عمرو، وبه عرفت بالشريفية وسفير الخلافة المعظمة، وتوفي في شوّال سنة خمس وخمسين وستمائة، وكان أيضا نقيب الأشراف. جامع الروضة بقلعة جزيرة الفسطاط قال ابن المتوج: هذا الجامع عمره السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان أمام بابه كنيسة تعرف بابن لقلق بترك اليعاقبة، وكان بها بئر مالحة، وذلك مما عدّ من عجائب مصر أن في وسط النيل جزيرة بوسطها بئر مالحة، وهذه البئر التي رأيتها كانت قبالة باب المسجد الجامع، وإنما ردمت بعد ذلك، وهذا الجامع لم يزل بيد بني الرّدّاد ولهم نوّاب عنهم فيه، ثم لما كانت أيام السلطان الملك المؤيد شيخ المحموديّ هدم هذا الجامع

جامع غين بالروضة

في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، ووسعه بدور كانت إلى جانبه، وشرع في عمارته فمات قبل الفراغ منه. جامع غين بالروضة قال ابن المتوّج: المسجد الجامع بروضة مصر يعرف بجامع غين، وهو القديم، ولم تزل الخطبة قائمة فيه إلى أن عمر جامع المقياس فبطلت الخطبة منه، ولم تزل الخطبة بطالة منه إلى الدولة الظاهرية، فكثرت عمائر الناس حوله في الروضة وقلّ الناس في القلعة، وصاروا يجدون مشقة في مشيهم من أوائل الروضة، وعمر الصاحب محيي الدين أحمد ولد الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا داره على خوخة الفقيه نصر قبالة هذا الجامع، فحسن له إقامة الجمعة في هذا الجامع لقربه منه ومن الناس، فتحدّث مع والده فشاور السلطان الملك الظاهر بيبرس، فوقع منه بموقع لكثرة ركوبه بحر النيل واعتنائه بعمارة الشواني ولعبها في البحر، ونظره إلى كثرة الخلائق بالروضة، ورسم بإقامة الخطبة فيه مع بقاء الخطبة بجامع القلعة لقوّة نيته في عمارتها على ما كانت عليه، فأقيمت الخطبة به في سنة ستين وستمائة، وولي خطابته أقضى القضاة جمال الدين بن الغفاريّ، وكان ينوب بالجيزة في الحكم، ثم ناب في الحكم بمصر عن قاضي القضاة وجيه الدين البهنسيّ، وكان إمامه في حال عطلته من الخطبة، فلما أقيمت فيه الخطبة أضيفت إليه الخطابة فيه مع الإمامة. غين أحد خدّام الخليفة الحاكم بأمر الله، خلع عليه في تاسع ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة، وقلده سيفا وأعطاه سجلا قرىء فإذا فيه أنه لقب بقائد القوّاد، وأمر أن يكتب بذلك ويكاتب به، وركب وبين يديه عشرة أفراس بسروجها ولجمها، وفي ذي القعدة من السنة المذكورة أنفذ إليه الحاكم خمسة آلف دينار، وخمسة وعشرين فرسا بسروجها ولجمها، وقلده الشرطتين والحسبة بالقاهرة ومصر والجيزة، والنظر في أمور الجميع وأموالهم وأحوالهم كلها، وكتب له سجلا بذلك قرىء بالجامع العتيق، فنزل إلى الجامع ومعه سائر العسكر والخلع عليه، وحمل على فرسين، وكان في سجله مراعاة أمر النبيذ وغيره من المسكرات، وتتبع ذلك والتشديد فيه، وفي المنع من عمل الفقاع وبيعه، ومن أكل الملوخيا والسمك الذي لا قشر له، والمنع من الملاهي كلها، والتقدّم بمنع النساء من حضور الجنائز، والمنع من بيع العسل، وأن لا يتجاوز في بيعه أكثر من ثلاثة أرطال لمن لا يسبق إليه ظنه أن يتخذ منه مسكرا، فاستمرّ ذلك إلى غرّة صفر سنة أربع وأربعمائة، فصرف عن الشرطتين والحسبة بمظفر الصقليّ. فلما كان يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر منها، أمر بقطع يدي كاتبه أبي القاسم عليّ بن أحمد الجرجانيّ فقطعتا جميعا، وذلك أنه كان يكتب عند السيدة الشريفة أخت الحاكم، فانتقل من خدمتها إلى خدمة غين خوفا على نفسه

جامع الأفرم

من خدمتها، فسخطت لذلك، فبعث إليها يستعطفها ويذكر في رقعته شيئا وقفت عليه، فارتابت منه فظنت أن ذلك حيلة عليها، وأنفذت الرقعة في طيّ رقعتها إلى الحاكم، فلما وقف عليها اشتدّ غضبه وأمر بقطع يديه جميعا فقطعتا، وقيل بل كان غين هو الذي يوصل رقاع عقيل صاحب الخبر إلى الحاكم في كلّ يوم، فيأخذها من عقيل وهي مختومة بخاتمه ويدفعها لكاتبه أبي القاسم الجرجانيّ، حتى يخلو له وجه الحاكم فيأخذها حينئذ من كاتبه ويوقفه عليها، وكان الجرجانيّ يفك الختم ويقرأ الرقاع، فلما كان في يوم من الأيام فك رقعة فوجد فيها طعنا على غين أستاذه، وقد ذكر فيها بسوء، فقطع ذلك الموضع وأصلحه وأعاد ختم الرقعة، فبلغ ذلك عقيلا صاحب الخبر فبعث إلى الحاكم يستأذنه في الاجتماع به خلوة في أمر مهم، فأذن له، وحدّثه بالخبر، فأمر حينئذ بقطع يدي الجرجانيّ فقطعتا، ثم بعد قطع يديه بخمسة عشر يوما في ثالث جمادى الأولى، قطعت يد غين الأخرى، وكان قد أمر بقطع يده قبل ذلك بثلاث سنين وشهر، فصار مقطوع اليدين معا، ولما قطعت يده حملت في طبق إلى الحاكم، فبعث إليه بالأطباء ووصله بألوف من الذهب وعدّة من أسفاط ثياب، وعاده جميع أهل الدولة، فلما كان ثالث عشره أمر بقطع لسانه فقطع وحمل إلى الحاكم، فسيّر إليه الأطباء ومات بعد ذلك. جامع الأفرم قال ابن المتوّج: هذا الجامع بسفح الرصد، عمره الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله المعروف بالأفرم أمير جاندار الملكيّ الصالحيّ النجميّ، في شهور سنة ثلاث وستين وستمائة، لما عمر المنظرة هناك، وعمر بجوارها رباطا للفقراء، وقرّرهم عدّة تنعقد بهم الجمعة، وقرّر إقامتهم فيه ليلا ونهارا، وقرّر كفايتهم وإعانتهم على الإقامة، وعمر لهم هذا الجامع يستغنون به عن السعي إلى غيره، وذكر أن الأفرم أيضا عمر مسجدا بجسر الشعيبية في شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة، جامعا هدم فيه عدّة مساجد. الجامع بمنشأة المهرانيّ قال ابن المتوّج: والسبب في عمارة هذا الجامع، أن القاضي الفاضل كان له بستان عظيم فيما بين ميدان اللوق وبستان الخشاب، الذي أكله البحر، وكان يمير مصر والقاهرة من ثماره وأعنابه، ولم تزل الباعة ينادون على العنب رحم الله الفاضل يا عنب إلى مدّة سنين عديدة بعد أن أكله البحر، وكان قد عمر إلى جانبه جامعا وبنى حوله، فسميت بمنشأة الفاضل، وكان خطيبه أخا الفقيه موفق الدين بن المهدويّ الديباجيّ العثمانيّ، وكان قد عمر بجواره دارا وبستانا وغرس فيه أشجارا حسنة، ودفع إليه ألف دينار مصرية في أوّل الدولة الظاهرية، وكان الصرف قد بلغ في ذلك الوقت كل دينار ثمانية وعشرين درهما

جامع دير الطين

ونصف درهم نقرة «1» ، فاستولى البحر على الجامع والدار والمنشأة، وقطع جميع ذلك حتى لم يبق له أثر، وكان خطيبه موفق الدين يسكن بجوار الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا، ويتردّد إليه وإلى والده محيي الدين، فوقف وضرع إليهما وقال: أكون غلام هذا الباب ويخرب جامعي، فرحمه الصاحب وقال: السمع والطاعة يدبر الله، ثم فكر في هذه البقعة التي فيها هذا الجامع الآن، وكانت تعرف بالكوم الأحمر، مرصدة لعمل أقمنة الطوب الآجرية، سميت بالكوم الأحمر، وكان الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا، قد عمر منظرة قبالة هذا الكوم، وهي التي صارت دار ابن صاحب الموصل، وكان فخر الدين كثير الإقامة فيها مدّة الأيام المعزية، فقلق من دخان الأقمنة التي على الكوم الأحمر، وشكا ذلك لوالده ولصهره الوزير شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ، فأمرا بتقويمه، فقوّم ما بين بستان الحليّ وبحر النيل وابتاعه الصاحب بهاء الدين، فلما مات ولده فخر الدين وتحدّث مع الملك الظاهر بيبرس في عمارة جامع هناك، ملّكه هذه القطعة من الأرض، فعمر السلطان بها هذا الجامع ووقف عليه بقية هذه الأرض المذكورة، في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وستمائة، وجعل النظر فيه لأولاده وذريته، ثم من بعدهم لقاضي القضاة الحنفيّ، وأوّل من خطب فيه الفقيه موفق الدين محمد بن أبي بكر المهدويّ العثمانيّ الديباجيّ إلى أن توفي يوم الأربعاء، ثالث عشر شوّال سنة خمس وثمانين وستمائة، وقد تعطلت إقامة الجمعة من هذا الجامع لخراب ما حوله، وقلة الساكنين هناك، بعد أن كانت تلك الخطة في غاية العمارة، وكان صاحبنا شمس الدين محمد بن الصاحب قد عزم على نقل هذا الجامع من مكانه، فاخترمته المنية قبل ذلك. جامع دير الطين قال ابن المتوّج: هذا الجامع بدير الطين في الجانب الشرقيّ، عمره الصاحب تاج الدين بن الصاحب فخر الدين ولد الصاحب بهاء الدين، المشهور بابن حنا، في المحرّم سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وذلك أنه لما عمر بستان المعشوق ومناظره وكثرت إقامته بها، وبعد عليه الجامع، وكان جامع دير الطين ضيقا لا يسع الناس، فعمر هذا الجامع وعمر فوقه طبقة يصلي فيها ويعتكف إذا شاء، ويخلو بنفسه فيها. وكان ماء النيل في زمنه يصل إلى جدار هذا الجامع، وولى خطابته للفقيه جمال الدين محمد ابن الماشطة، ومنعه من لبس السواد لأداء الخطبة، فاستمرّ إلى حين وفاته في عاشر رجب سنة تسع وسبعمائة، وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة سابع صفر سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وقد ذكرت ترجمة الصاحب تاج الدين عند ذكر رباط الآثار من هذا الكتاب.

محمد بن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا: أبو عبد الله الوزير الصاحب فخر الدين بن الوزير الصاحب بهاء الدين، ولد في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وتزوّج بابنة الوزير الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وناب عن والده في الوزارة، وولي ديوان الأحباس ووزارة الصحبة في أيام الظاهر بيبرس، وسمع الحديث بالقاهرة ودمشق، وحدّث، وله شعر جيد، ودرس بمدرسة أبيه الصاحب بهاء الدين التي كانت في زقاق القناديل بمصر، وكان محبا لأهل الخير والصلاح مؤثرا لهم متفقدا لأحوالهم، وعمر رباطا حسنا بالقرافة الكبرى، رتب فيه جماعة من الفقراء، ومن غريب ما يتعظ به الأريب أن الوزير الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير، الذي كان بنو حنا يعادونه، وعنه أخذوا الوزارة، مات في ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وستمائة بالسجن، فأخرج كما تخرج الأموات الطرحاء على الطرقات من الغرباء، ولم يشيع جنازته أحد من الناس مراعاة للصاحب بن حنا، وكان فخر الدين هذا يتنزه في أيام الربيع بمنية القائد، وقد نصبت له الخيام، وأقيمت المطابخ وبين يديه المطربون، فدخل عليه البشير بموت الوزير يعقوب بن الزبير، وأنه أخرج إلى المقابر من غير أن يشيع جنازته أحد من الناس، فسرّ بذلك ولم يتمالك نفسه وأمر المطربين فغنوه، ثم قام على رجليه ورقص هو وسائر من حضره، وأظهر من الفرح والخلاعة ما خرج به عن الحدّ، وخلع على البشير بموت المذكور خلعا سنية، فلم يمض على ذلك سوى أقلّ من أربعة أشهر ومات في حادي عشري شعبان من السنة المذكورة، ففجع به أبوه، وكانت له جنازة عظيمة، ولما دلّي في لحده قام شرف الدين محمد بن سعيد البوصيريّ، صاحب البردة، في ذلك الجمع الموفور بتربة ابن حنا من القرافة وأنشد: نم هنيئا محمد بن عليّ ... بجميل قدّمت بين يديكا لم تزل عوننا على الدهر حتّى ... غلبتنا يد المنون عليكا أنت أحسنت في الحياة إلينا ... أحسن الله في الممات إليكا فتباكى الناس، وكان لها محل كبير ممن حضر رحمة الله عليهم أجمعين. وفي هذا الجامع يقول السراج الورّاق: بنيتم على تقوى من الله مسجدا ... وخير مباني العابدين المساجد فقل في طراز معلم فوق بركة ... على حسنها الزاهي لها البحر حاسد لها حلل حسنى ولكن طرازها ... من الجامع المعمور بالله واحد هو الجامع الإحسان والحسن الذي ... أقرّ له زيد وعمرو وخالد وقد صافحت شهب الدجى شرفاته ... فما هي بين الشهب إلّا فراقد وقد أرشد الضلال عالي مناره ... فلا حائر عنه ولا عنه حائد

جامع الظاهر

ونالت نواقيس الديارات وجمة ... وخوف فلم يمدد إليهنّ ساعد فتبكى عليهنّ البطاريق في الدجى ... وهنّ لديهم ملقيات كواسد بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد جامع الظاهر هذا الجامع خارج القاهرة، وكان موضعه ميدانا، فأنشأه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ جامعا. قال جامع السيرة الظاهرية: وفي ربيع الآخر، يعني سنة خمس وستين وستمائة، اهتمّ السلطان بعمارة جامع بالحسينية، وسير الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا، وجماعة من المهندسين، لكشف مكان يليق أن يعمل جامعا، فتوجهوا لذلك واتفقوا على مناخ الجمال السلطانية. فقال السلطان لا والله لا جعلت الجامع مكان الجمال، وأولى ما جعلته ميداني الذي ألعب فيه بالكرة وهو نزهتي، فلما كان يوم الخميس ثامن شهر ربيع الآخر، ركب السلطان وصحبته خواصه والوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا والقضاة ونزل إلى ميدان قراقوش، وتحدّث في أمره وقاسه ورتب أموره وأمور بنائه، ورسم بأن يكون بقية الميدان وقفا على الجامع يحكر، ورسم بين يديه هيئة الجامع، وأشار أن يكون بابه مثل باب المدرسة الظاهرية، وأن يكون على محرابه قبة على قد رقبة الشافعيّ رحمة الله عليه، وكتب في وقته الكتب إلى البلاد بإحضار عمد الرخام من سائر البلاد، وكتب بإحضار الجمال والجواميس والأبقار والدواب من سائر الولايات، وكتب بإحضار الآلات من الحديد والأخشاب النقية برسم الأبواب والسقوف وغيرها، ثم توجه لزيارة الشيخ الصالح خضر بالمكان الذي أنشأه له، وصلّى الظهر هناك، ثم توجه إلى المدرسة بالقاهرة فدخلها والفقهاء والقرّاء على حالهم، وجلس بينهم، ثم تحدّث وقال: هذا مكان قد جعلته لله عز وجلّ، وخرجت عنه وقفا لله، إذا مت لا تدفنوني هنا. ولا تغيروا معالم هذا المكان فقد خرجت عنه لله تعالى. ثم قام من إيوان الحنفية وجلس بالمحراب في إيوان الشافعية، وتحدّث وسمع القرآن والدعاء، ورأى جميع الأماكن، ودخل إلى قاعة ولده الملك السعيد المبنية قريبا منها، ثم ركب إلى قلعة الجبل وولى عدّة مشدّين على عمارة الجامع، وكان إلى جانب الميدان قاعة ومنظرة عظيمة بناها السلطان الملك الظاهر، فلما رسم ببناء الجامع طلبها الأمير سيف الدين قشتمر العجميّ من السلطان فقال: الأرض قد خرجت عنها لهذا الجامع، فاستأجرها من ديوانه، والبناء والأصناف وهبتك إياها، وشرع في العمارة في منتصف جمادى الآخرة منها. وفي أوّل جمادى الآخرة سنة ست وستين وستمائة سار السلطان من ديار مصر يريد بلاد الشام، فنزل على مدينة يافا وتسلمها من الفرنج بأمان، في يوم الأربعاء العشرين من

جمادى الآخرة المذكور، وسير أهلها فتفرّقوا في البلاد، وشرع في هدمها وقسم أبراجها على الأمراء، فابتدأ في ذلك من ثاني عشريه، وقاسوا شدّة في هدمها لحصانتها وقوّة بنائها، لا سيما القلعة، فإنها كانت حصينة عالية الارتفاع ولها أساسات إلى الأرض الحقيقة، وباشر السلطان الهدم بنفسه وبخواصه ومماليكه، حتى غلمان البيوتات التي له، وكان ابتداء هدم القلعة في سابع عشريه، ونقضت من أعلاها ونظفت زلاقتها، واستمرّ الأجناد في ذلك ليلا ونهارا، وأخذ من أخشابها جملة، ومن ألواح الرخام التي وجدت فيها، ووسق منها مركبا من المراكب التي وجدت في يافا وسيرها إلى القاهرة، ورسم بأن يعمل من ذلك الخشب مقصورة في الجامع الظاهريّ بالميدان من الحسينية، والرخام يعمل بالمحراب، فاستعمل كذلك. ولما عاد السلطان إلى مصر في حادي عشري ذي الحجة منها وقد فتح في هذه السفرة يافا وطرابلس وأنطاكية وغيرها، أقام إلى أن أهلت سنة سبع وستين وستمائة، فلما كملت عمارة الجامع في شوّال منها ركب السلطان ونزل إلى الجامع وشاهده، فرآه في غاية ما يكون من الحسن وأعجبه نجازه في أقرب وقت ومدّة مع علوّ الهمة، فخلع على مباشريه، وكان الذي تولى بناءه الصاحب بهاء الدين بن حنا، والأمير علم الدين سنجر السروريّ متولى القاهرة، وزار الشيخ خضرا وعاد إلى قلعته، وفي شوّال منها تمت عمارة الجامع الظاهريّ ورتب به خطيبا حنفيّ المذهب، ووقف عليه حكر ما بقي من أرض الميدان، ونزل السلطان إليه ورتب أوقافه ونظر في أموره. بيبرس: الملك الظاهر ركن الدين البندقداريّ، أحد المماليك البحرية الذين اختص بهم السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وأسكنهم قلعة الروضة، كان أوّلا من مماليك الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ، فلما سخط عليه الملك الصالح أخذ مماليكه ومنهم الأمير بيبرس هذا، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة، وقدّمه على طائفة من الجمدارية، وما زال يترقى في الخدم إلى أن قتل المعز أيبك التركمانيّ الفارس أقطاي الجمدار في شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة، وكانت البحرية قد انحازت إليه فركبوا في نحو السبعمائة، فلما ألقيت إليهم رأس أقطاي تفرّقوا واتفقوا على الخروج إلى الشام، وكانت أعيانهم يومئذ بيبرس البندقداريّ، وقلاون الألفيّ، وسنقر الأشقر، وبيسرى، وترامق، وتنكز، فساروا إلى الملك الناصر صاحب الشام. ولم يزل بيبرس ببلاد الشام إلى أن قتل المعز أيبك، وقام من بعده ابنه المنصور عليّ، وقبض عليه نائبه الأمير سيف الدين قطز وجلس على تخت المملكة، وتلقب بالملك المظفر، فقدم عليه بيبرس فأمّره المظفر قطز، ولما خرج قطز إلى ملاقاة التتار وكان من نصرته عليهم ما كان، رحل إلى دمشق فوشى إليه بأن الأمير بيبرس قد تنكر له وتغير عليه، وأنه عازم على القيام بالحرب، فأسرع قطز بالخروج من دمشق إلى جهة مصر وهو

مضمر لبيبرس السوء، وعلم بذلك خواصه فبلغ ذلك بيبرس فاستوحش من قطز وأخذ كلّ منهما يحترس من الآخر على نفسه، وينتظر الفرصة، فبادر بيبرس وواعد الأمير سيف الدين بلبان الرشيديّ، والأمير سيف الدين بيدغان الركنيّ المعروف بسم الموت، والأمير سيف الدين بلبان الهارونيّ، والأمير بدر الدين آنص الأصبهانيّ، فلما قربوا في مسيرهم من القصر بين الصالحية والسعيدية عند القرين، انحرف قطز عن الدرب للصيد، فلما قضى منه وطره وعاد والأمير بيبرس يسايره هو وأصحابه، طلب بيبرس منه امرأة من سبي التتار فأنعم عليه بها، فتقدّم ليقبل يده وكانت إشارة بينه وبين أصحابه، فعند ما رأوا بيبرس قد قبض على يد السلطان المظفر قطز، بادر الأمير بكتوت الجوكندار وضربه بسيف على عاتقه أبانه واختطفه الأمير آنص وألقاه عن فرسه إلى الأرض، ورماه بهادر المغربيّ بسهم فقتله، وذلك يوم السبت خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة، ومضوا إلى الدهليز للمشورة، فوقع الاتفاق على الأمير بيبرس، فتقدّم إليه أقطاء المستعرب الجمدار المعروف بالأتابك وبايعه وحلف له، ثم بقية الأمراء وتلقب بالملك الظاهر، وذلك بمنزلة القصير. فلما تمت البيعة وحلف الأمراء كلهم قال له الأمير أقطاي المستعرب: ياخوند «1» ، لا يتم لك أمر إلّا بعد دخولك إلى القاهرة وطلوعك إلى القلعة، فركب من وقته ومعه الأمير قلاون والأمير بلبان الرشيديّ والأمير بيلبك الخارندار، وجماعة يريدون قلعة الجبل، فلقيهم في طريقهم الأمير عز الدين أيدمر الحلبيّ نائب الغيبة عن المظفر قطز، وقد خرج لتلقيه، فأخبروه بما جرى وحلفوه، فتقدّمهم إلى القلعة ووقف على بابها حتى وصلوا في الليل فدخلوا إليها، وكانت القاهرة قد زينت لقدوم السلطان الملك المظفر قطز، وفرح الناس بكسر التتار وعود السلطان، فما راعهم وقد طلع النهار إلّا والمشّا عليّ ينادي معاشر الناس ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر بيبرس، فدخل على الناس من ذلك غمّ شديد ووجل عظيم، خوفا من عود البحرية إلى ما كانوا عليه من الجور والفساد وظلم الناس. فأوّل ما بدأ به الظاهر أنه أبطل ما كان قطز أحدثه من المظالم عند سفره، وهو تصقيع الأملاك وتقويمها وأخذ زكاة ثمنها في كل سنة، وجباية دينار من كلّ إنسان، وأخذ ثلث الترك الأهلية، فبلغ ذلك في السنة ستمائة ألف دينار. وكتب بذلك مسموحا قريء على المنابر في صبيحة دخوله إلى القلعة، وهو يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة المذكور، وجلس بالإيوان وحلّف العساكر، واستناب الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار بالديار المصرية، واستقرّ الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكا على عادته، والأمير جمال الدين أقوش التجيبيّ أستادارا، والأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ أمير جاندار، والأمير لاجين الدرفيل وبلبان الروميّ دوادارية، والأمير بهاء الدين يعقوب الشهرزوريّ

أميراخور على عادته، وبهاء الدين عليّ بن حنا وزيرا، والأمير ركن الدين التاجي الركنيّ والأمير سيف الدين بكجريّ حجابا، ورسم بإحضار البحرية الذين تفرّقوا في البلاد بطالين، وسير الكتب إلى الأقطار بما تجدّد له من النعم، ودعاهم إلى الطاعة، فأذعنوا له وانقادوا إليه. وكان الأمير علم الدين سنجر الحلبيّ نائب دمشق لما قتل قطز جمع الناس وحلّفهم، وتلقب بالملك المجاهد، وثار علاء الدين الملقب بالملك السعيد بن صاحب الموصل في حلب وظلم أهلها، وأخذ منهم خمسين ألف دينار، فقام عليه جماعة ومقدّمهم الأمير حسام الدين لاجين العزيزيّ وقبضوا عليه، فسير الظاهر إلى لاجين بنيابة حلب. فلما دخلت سنة تسع وخمسين قبض الظاهر على جماعة من الأمراء المعزية، منهم الأمير سنجر الغتميّ، والأمير بهادر المعزيّ، والشجاع بكتوت، ووصل إلى السلطان الإمام أبو العباس أحمد بن الخليفة الظاهر العباسيّ من بغداد، في تاسع رجب، فتلقاه السلطان في عساكره وبالغ في إكرامه وأنزله بالقلعة، وحضر سائر الأمراء والمقدّمين والقضاة وأهل العلم والمشايخ بقاعة الأعمدة من القلعة بين يدي أبي العباس، فتأدّب السلطان الظاهر ولم يجلس على مرتبة ولا فوق كرسيّ، وحضر العربان الذين قدموا من العراق، وخادم من طواشية بغداد، وشهدوا بأن العباس أحمد ولد الخليفة الظاهر بن الخليفة الناصر، وشهد معهم بالاستفاضة الأمير جمال الدين يحيى نائب الحكم بمصر، وعلم الدين بن رشيق، وصدر الدين موهوب الجزريّ، ونجيب الدين الحرّانيّ، وسديد الزمنتيّ نائب الحكم بالقاهرة عند قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعيّ، وأسجل على نفسه بثبوت نسب أبي العباس أحمد، وهو قائم على قدميه، ولقّب بالإمام المستنصر بالله، وبايعه الظاهر على كتاب الله وسنة نبيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وأخذ أموال الله بحقها وصرفهاف ي مستحقها، فلما تمت البيعة قلد المستنصر بالله السلطان الملك الظاهر أمر البلاد الإسلامية، وما سيفتحه الله على يديه من بلاد الكفار، وبايع الناس المستنصر على طبقاتهم، وكتب إلى الأطراف بأخذ البيعة له، وإقامة الخطبة باسمه على المنابر، ونقشت السكة في ديار مصر باسمه، واسم الملك الظاهر معا. فلما كان يوم الجمعة سابع عشر رجب، خطب الخليفة بالناس في جامع القلعة، وركب السلطان في يوم الاثنين رابع شعبان إلى خيمة ضربت له بالبستان الكبير ظاهر القاهرة، وأفيضت عليه الخلع الخليفة، وهي جبة سوداء وعمامة بنفسجية وطوق من ذهب، وقلد بسيف عربيّ، وجلس مجلسا عاما حضره الخليفة والوزير وسائر القضاة والأمراء والشهود، وصعد القاضي فخر الدين بن لقمان كاتب السرّ منبرا نصب له، وقرأ تقليد السلطان المملكة، وهو بخطه من إنشائه، ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق ودخل من باب النصر، وشق القاهرة وقد زينت له، وحمل الصاحب بهاء الدين بن حنا التقليد على رأسه قدّام السلطان، والأمراء

مشاة بين يديه، وكان يوما مشهودا. وأخذ السلطان في تجهيز الخليفة ليسير إلى بغداد، فرتب له الطواشي بهاء الدين صندلا الصالحيّ شرابيا، والأمير سابق الدين بوزيا الصيرفيّ أتابكا، والأمير جعفرا أستادارا، والأمير فتح الدين بن الشهاب أحمد أمير جاندار، والأمير ناصر الدين بن صيرم خازندار، والأمير سيف الدين بلبان الشمسيّ وفارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموريّ دوادارية، والقاضي كمال الدين محمد السنجاريّ وزيرا، وشرف الدين أبا حامد كاتبا، وعين له خزانة وسلاحخاناه ومماليك عدّتهم نحو الأربعين، منهم سلاحدارية وجمدارية وزردكاشية ورمحدارية، وجعل له طشطخاناه وفراشخاناه وشرابخاناه، وإماما ومؤذنا وسائر أرباب الوظائف، واستخدم له خمسمائة فارس، وكتب لمن قدم معه من العراق بإقطاعات، وأذن له في الركوب والحركة حيث اختار، وحضر الملك الصالح إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وأخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة، وأخوهما المظفر، فأكرمهم السلطان وأقرّهم على ما بأيديهم، وكتب لهم تقاليد وجهزهم في خدمة الخليفة، وسار الخليفة في سادس شوّال والسلطان في خدمته إلى دمشق، فنزل السلطان في القلعة، ونزل الخليفة في التربة الناصرية بجبل الصالحية، وبلغت نفقة السلطان على الخليفة ألف ألف وستين ألف دينار، وخرج من دمشق في ثالث عشر ذي القعدة ومعه الأمير بلبان الرشيديّ، والأمير سنقر الروميّ، وطائفة من العسكر، وأوصاهما السلطان أن يكونا في خدمة الخليفة حتى يصل إلى الفرات، فإذا عبر الفرات أقاما بمن معهما من العسكر بالبرّ الغربيّ من جهات حلب لانتظار ما يتجدّد من أمر الخليفة، بحيث إن احتاج إليهم ساروا إليه، فسار إلى الرحبة وتركه أولاد صاحب الموصل وانصرفوا إلى بلادهم، وسار إلى مشهد عليّ فوجد الإمام الحاكم بأمر الله قد جمع سبعمائة فارس من التركمان وهو على عانة، ففارقه التركمان وصار الحاكم إلى المستنصر طائعا له، فأكرمه وأنزله معه وسارا إلى عانة، ورحلا إلى الحديثة، وخرجا منها إلى هيت، وكانت له حروب مع التتار في ثالث محرّم سنة ستين وستمائة، قتل فيها أكثر أصحابه، وفرّ الحاكم وجماعة من الأجناد، وفقد المستنصر فلم يوقف له على خبر، فحضر الحاكم إلى قلعة الجبل وبايعه السلطان والناس، واستمرّ بديار مصر في مناظر الكبش، وهو جدّ الخلفاء الموجودين اليوم. وفي سنة ست وستين قرّر الظاهر بديار مصر أربعة قضاة، وهم شافعيّ ومالكيّ وحنفيّ وحنبليّ، فاستمرّ الأمر على ذلك إلى اليوم، وحدث غلاء شديد بمصر، وعدمت الغلة، فجمع السلطان الفقراء وعدّهم وأخذ لنفسه خمسمائة فقير يمونهم، ولا بنه السعيد بركة خان خمسمائة فقير، وللنائب بيلبك الخازندار ثلاثمائة فقير، وفرّق الباقي على سائر الأمراء، ورسم لكلّ إنسان في اليوم برطلي خبز، فلم ير بعد ذلك في البلد أحد من الفقراء يسأل.

وفي ثالث شوّال سنة اثنتين وستين، أركب السلطان ابنه السعيد بركة بشعار السلطنة، ومشى قدّامه وشق القاهرة والكل مشاة بين يديه من باب النصر إلى قلعة الجبل، وزينت البلد، وفيها رتب السلطان لعب القبق بميدان العيد خارج باب النصر، وختن الملك السعيد ومعه ألف وستمائة وخمسة وأربعون صبيا من أولاد الناس، سوى أولاد الأمراء والأجناد، وأمر لكلّ صغير منهم بكسوة على قدره، ومائة درهم، ورأس من الغنم، فكان مهما عظيما، وأبطل ضمان المزر، وجهاته، وأمر بحرق النصارى في سنة ثلاث وستين، فتشفع فيهم على أن يحملوا خمسين ألف دينار فتركوا. وفي سنة أربع وستين افتتح قلعة صفد، وجهز العساكر إلى سيس ومقدّمهم الأمير قلاون الألفيّ، فحصر مدينة ابناس وعدّه قلاع. وفي سنة خمس وستين أبطل ضمان الحشيش من ديار مصر، وفتح يافا والشقيف وأنطاكية. وفي سنة سبع وستين حج فسار على غزة إلى الكرك، ومنها إلى المدينة النبوية، وغسل الكعبة بماء الورد بيده، ورجع إلى دمشق فأراق جميع الخمور، وقدم إلى مصر في سنة ثمان وستين. وفي سنة سبعين خرج إلى دمشق. وفي سنة إحدى وسبعين خرج من دمشق سائقا إلى مصر، ومعه بيسرى وأقوش الروميّ وجرسك الخازندار وسنقر الألفيّ، فوصل إلى قلعة الجبل، وعاد إلى دمشق فكانت مدّة غيبته أحد عشر يوما، ولم يعلم بغيبته من في دمشق حتى حضر، ثم خرج سائقا من دمشق يريد كبس التتار، فخاض الفرات وقدّامه قلاون وبيسرى، وأوقع بالتتار على حين غفلة، وقتل منهم شيئا كثيرا، وساق خلفهم بيسرى إلى سروج وتسلم السلطان البيرة. ووقع بمصر في سنة اثنتين وسبعين وباء هلك به خلق كثير. وفي سنة ثلاث وسبعين غزا السلطان سيس وافتتح قلاعا عديدة. وفي سنة أربع وسبعين تزوّج السعيد بن السلطان بابنة الأمير قلاون وخرج العسكر إلى بلاد النوبة، فواقع ملكهم وقتل منهم كثيرا وفرّ باقيهم. وفي سنة خمس وسبعين سار السلطان لحرب التتار، فواقعهم على الأبلستين وقد انضم إليهم الروم، فانهزموا وقتل منهم كثير، وتسلم السلطان قيسارية ونزل فيها بدار السلطان، ثم خرج إلى دمشق فوعك بها من إسهال وحمى مات منها يوم الخميس تاسع عشري محرّم سنة ست وسبعين وستمائة، وعمره نحو من سبع وخمسين سنة، ومدّة ملكه سبع عشرة سنة وشهران. وكان ملكا جليلا عسوفا عجولا كثير المصادرات لرعيته ودواوينه، سريع الحركة، فارسا مقداما، وترك من الذكور ثلاثة: السعيد محمد بركة خان، وملك بعده، وسلامش وملك أيضا، والمسعود خضر. ومن البنات سبع بنات، وكان طويلا مليح الشكل. وفتح الله على يديه مما كان مع الفرنج قيسارية وأرسوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وأنطاكية وبقراص والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكا وصافيتا ومرقية وحلبا. وناصف الفرنج على المرقب وبانياس وانطرسوس، وأخذ من صاحب سيس، دريساك

جامع ابن اللبان

ودركوس وتلميش وكفر دين ورعبان ومرزبان وكينوك وأدنة والمصيصة. وصار إليه من البلاد التي كانت مع المسلمين، دمشق وبعلبك وعجلون وبصرى وصرخد والصلت وحمص وتدمر والرحبة وتل ناشر وصهيون وبلاطيس وقلعة الكهف والقدموس والعليقة والخوابى والرصافة ومصياف والقليعة والكرك والشوبك. وفتح بلاد النوبة وبرقة وعمر الحرم النبويّ، وقبة الصخرة ببيت المقدس، وزاد في أوقاف الخليل عليه السّلام، وعمر قناطر شبرامنت بالجيزية، وسور الإسكندرية، ومنار رشيد، وردم فم بحر دمياط، ووعر طريقه، وعمر الشواني وعمر قلعة دمشق وقلعة الصبيبة، وقلعة بعلبك، وقلعة الصلت، وقلعة صرخد، وقلعة عجلون، وقلعة بصرى، وقلعة شيزر وقلعة حمص، وعمر المدرسة بين القصرين بالقاهرة، والجامع الكبير بالحسينية خارج القاهرة، وحفر خليج الإسكندرية القديم، وباشره بنفسه، وعمر هناك قرية سماها الظاهرية، وحفر بحر أشموم طناح على يد الأمير بلبان الرشيديّ، وجدّد الجامع الأزهر بالقاهرة، وأعاد إليه الخطبة، وعمر بلد السعيدية من الشرقية بديار مصر، وعمر القصر الأبلق بدمشق وغير ذلك. ولما مات كتم موته الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار عن العسكر، وجعله في تابوت وعلقه ببيت من قلعة دمشق، وأظهر أنه مريض، ورتب الأطباء يحضرون على العادة، وأخذ العساكر والخزائن ومعه محفة محمولة في الموكب محترمة، وأوهم الناس أن السلطان فيها وهو مريض، فلم يجسر أحد أن يتفوّه بموت السلطان، وسار إلى أن وصل إلى قلعة الجبل بمصر وأشيع موته رحمه الله تعالى. جامع ابن اللبان هذا الجامع بجسر الشعيبية المعروف بجسر الأفرم، عمره الأمير عز الدين أيبك الأفرم في سنة ثلاث وتسعين وستمائة. قال ابن المتوّج: وكان سبب عمارته أنه لما كثرت الخلائق في خطة هذا الجامع، قصد الأفرم أن يجعل خطبة في المسجد المعروف بمسجد الجلالة الذي ببركة الشقاف ظاهر سور الفسطاط المستجدّ، وأن يزيد فيه ويعمره كما يختار، فمنعه الفقيه مؤتمن الدين الحارث بن مسكين وردّه عن غرضه، فحسن له الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا عمارة هذا الجامع في هذه البقعة، لقربه منه فعمره في شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة، لكنه هدم بسببه عدّة مساجد، وعرف هذا الجامع في زمننا هذا بالشيخ محمد بن اللبان الشافعيّ، لإقامته فيه، وأدركناه عامرا، وقد انقطعت منه في هذه المحن إقامة الجمعة والجماعة لخراب ما حوله وبعد البحر عنه.

الجامع الطيبرسي

الجامع الطيبرسيّ هذا الجامع عمره الأمير علاء الدين طيبرس الخازندار نقيب الجيوش، بشاطئ النيل في أرض بستان الخشاب، وعمر بجواره خانقاه في جمادى الأولى سنة سبع وسبعمائة، وكان من أحسن منتزهات مصر وأعمرها، وقد خرب ما حوله من الحوادث والمحن التي بعد سنة ست وثمانمائة، بعد ما كانت العمارة منه متصلة إلى الجامع الجديد بمصر، ومنه إلى الجامع الخطيريّ ببولاق، ويركب الناس المراكب للفرجة من هذا الجامع إلى الجامعين المذكورين، مصعدين ومنحدرين في النيل، ويجتمع بهذا الجامع الناس للنزهة، فتمرّ به أوقات ومسرّات لا يمكن وصفها، وقد خرب هذا الجامع وأقفر من المساكين، وصار مخوفا بعد ما كان ملهى وملعبا، سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولطيبرس هذا المدرسة الطيبرسية بجوار الجامع الأزهر من القاهرة. الجامع الجديد الناصريّ هذا الجامع بشاطئ النيل من ساحل مصر الجديد، عمره القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش باسم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، وكان الشروع فيه يوم التاسع من المحرّم سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وانتهت عمارته في ثامن صفر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وأقيم في خطابته قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الشافعيّ، ورتب في إمامته الفقيه تاج الدين بن مرهف، فأوّل ما صلّى فيه صلاة الظهر من يوم الخميس ثامن صفر المذكور، وأقيمت فيه الجمعة يوم الجمعة تاسع صفر، وخطب عن قاضي القضاة بدر الدين ابنه جمال الدين، ولهذا الجامع أربعة أبواب، وفيه مائة وسبعة وثلاثون عمودا، منها عشرة من صوّان في غاية السمك والطول، وجملة ذرعه أحد عشر ألف ذراع وخمسمائة ذراع بذراع العمل، من ذلك طوله من قبليه إلى بحريه مائة وعشرون ذراعا، وعرضه من شرقيه إلى غربيه مائة ذراع، وفيه ستة عشر شباكا من حديد، وهو يشرف من قبليه على بستان العالمة، وينظر من بحريه بحر النيل، وكان موضع هذا الجامع في القديم غامرا بماء النيل، ثم انحسر عنه النيل وصار رملة في زمن الملك الصالح نجم الدين أيوب، يمرّغ الناس فيها دوابهم أيام احتراق النيل، فلما عمر الملك الصالح قلعة الروضة وحفر البحر، طرح الرمل في هذا الموضع، فشرع الناس في العمارة على الساحل، وكان موضع هذا الجامع شونة، وقد ذكر خبر ذلك عند ذكر الساحل الجديد بمصر فانظره، وما برح هذا الجامع من أحسن منتزهات مصر إلى أن خرب ما حوله، وفيه إلى الآن بقية وهو عامر. محمد بن قلاون: السلطان الملك الناصر أبو الفتح ناصر الدين بن الملك المنصور،

كان يلقب بحرفوش، وأمّه أشلون ابنة شنكاي، ولد يوم السبت النصف من المحرّم سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة الجبل من ديار مصر، وولى الملك ثلاث مرّات، الأولى بعد مقتل أخيه الملك الأشرف خليل بن قلاون في رابع عشر المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وعمره تسع سنين، تنقص يوما واحدا، فأقام في الملك سنة إلّا ثلاثة أيام وخلع بمملوك أبيه كتبغا المنصوريّ، يوم الأربعاء حادي عشر المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة، وأعيد إلى المملكة ثانيا بعد قتل الملك المنصور لاجين يوم الاثنين سادس جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة، فأقام عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوما، وعزل نفسه وسار إلى الكرك، فولي الملك من بعده الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وتلقب بالملك المظفر في يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وسبعمائة، ثم حضر من الكرك إلى الشام وجمع العساكر، فخامر على بيبرس معظم جيش مصر، وانحل أمره فترك الملك في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة، وطلع الملك الناصر إلى قلعة الجبل يوم عيد الفطر من السنة المذكورة، واستولى على ممالك مصر والشام والحجاز، فأقام في الملك من غير منازع له فيه إلى أن مات بقلعة الجبل في ليلة الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وعمره سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيام، وله في ولايته الثالثة مدّة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وعشرين يوما، وجملة إقامته في الملك عن المدد الثلاث ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام. ولما مات ترك ليلته ومن الغد حتى تمّ الأمر لابنه أبي بكر المنصور في يوم الخميس المذكور، ثم أخذ في جهازه فوضع في محفة بعد العشاء الآخرة بساعة وحمل على بغلين وأنزل من القلعة إلى الإصطبل السلطانيّ، وسار به الأمير ركن الدين بيبرس الأحمديّ أمير جاندار، والأمير نجم الدين أيوب والي القاهرة، والأمير قطلوبغا الذهبيّ، وعلم دار خوطا جار الدوادار وعبروا به إلى القاهرة من باب النصر، وقد غلقت الحوانيت كلها ومنع الناس من الوقوف للنظر إليه، وقدّام المحفة شمعة واحدة في يد علمدار، فلما دخلوا به من باب النصر كان قدامه مسرجة في يد شاب وشمعة واحدة، وعبروا به المدرسة المنصورية بين القصرين ليدفن عند أبيه الملك المنصور قلاون، وكان الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ ناظر المارستان قد جلس ومعه القضاة الأربعة وشيخ الشيوخ ركن الدين شيخ خانقاه سرياقوس، والشيخ ركن الدين عمر ابن الشيخ إبراهيم الجعبريّ، فحطت المحفة وأخرج منها فوضع بجانب الفسقية التي بالقبة، وأمر ابن أبي الظاهر مغسّل الأموات بتغسيله، فقال: هذا ملك ولا أنفرد بتغسيله إلّا أن يقوم أحد منكم ويجرّده على الدكه، فإني أخشى أن يقال كان معه فص أو خاتم أو في عنقه خرزة، فقام قطلوبغا الذهبيّ وعلمدار وجرّداه مع الغاسل من ثيابه، فكان على رأسه قبع أبيض من قطن ثيابه، وعلى بدنه بغلطاق صدر أبيض وسراويل، فنزعا وترك القميص عليه، وغسل به، ووجد في رجله الموجوعة بخشان

مفتوحان، فغسل من فوق القميص وكفن في نصفية، وعملت له أخرى طرّاحة ومخدّة، ووضع في تابوت من خشب، وصلّى عليه قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة الشافعيّ بمن حضر، وأنزل إلى قبر أبيه في سحلية من خشب قد ربطت بحبل، ونزل معه إلى القبر الغاسل والأمير سنجر الجاوليّ، ودفع إلى الغاسل ثلاثمائة درهم، فباع ما نابه من الثياب بثلاثة عشر درهما سوى القبع، فإنه فقد، وذكر الغاسل أنه كان محنكا بخرقة معقدة بثلاث عقد، فسبحان من لا يحول ولا يزول، هذا ملك أعظم المعمور من الأرض، مات غريبا وغسل طريحا ودفن وحيدا، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب. وفي ليلة السبت: قرأ القرّاء عند القبر بالقبة القرآن، وحضر بعض الأمراء، وترك من الأولاد اثني عشر ولدا ذكرا، وهم: أحمد، وهو أسنهم وكان بالكرك، وأبو بكر وتسلطن من بعده، وشقيقه رمضان، ويوسف، وإسماعيل، وتسلطن أيضا، وشعبان وتسلطن، وحسين، وكجك وتسلطن، وأمير حاج، وحسن ويدعى قماري وتسلطن، وصالح وتسلطن، ومحمد. وترك من البنات ثمانيا متزوّجات سوى من خلف من الصغار، وخلف من الزوجات جاريته طغاي، وإمّة الأمير تنكز نائب الشام. ومات وليس له نائب بديار مصر ولا وزير ولا حاجب متصرّف، سوى أن برسبغا الحاجب تحكم في متعلقات أمور الإقطاعات، وليس معه عصا الحجوبية، وبدر الدين بكتاش نقيب الجيوش، وأقبغا عبد الواحد أستادار السلطان ومقدّم المماليك، وبيبرس الأحمديّ أمير جاندار، ونجم الدين أيوب والي القاهرة، وجمال الدين حمال الكفاه ناظر الجيوش، والموفق ناظر الدولة، وصارم الدين أزبك شادّ الدواوين، وعز الدين عبد العزيز بن جماعة قاضي القضاة بديار مصر، ونائب دمشق الأمير ألطنبغا، ونائب ... «1» الأمير طشتمر حمص أخضر، ونائب طرابلس الحاج أرقطاي، ونائب صفد الأمير أصلم، ونائب غزة الأميراق سنقر السلاريّ، وصاحب حماه الملك الأفضل ناصر الدين محمد بن المؤيد إسماعيل. والأمراء مقدّموا الألوف بديار مصر يوم وفاته خمسة وعشرون أميرا. وهم: بدر الدين جنكلي بن البابا، والحاج آل ملك، وبيبرس الأحمديّ، وعلم الدين سنجر الجاوليّ، وسيف الدين كوكاي، ونجم الدين محمود وزير بغداد، هؤلاء برّانية كبار، والباقي مماليكه وخواصه وهم: ولده الأمير أبو بكر، والأمير قوصون، والأمير بشتاك، وطقزدمر، وأقبغا عبد الواحد الأستادار، وأيدغمش أميراخور، وقطلوبغا الفخريّ، ويلبغا اليحياويّ، وملكتمر الحجازيّ، وألطنبغا الماردانيّ، وبهادر الناصريّ، وآق سنقر الناصريّ، وقماري الكبير، وقماري أمير شكار، وطرغاي، وأرتبغا أمير جاندار، وبرسيغا الحاجب، وبلدغي ابن العجوز أمير سلاح، وبيغرا.

وكان السلطان أبيض اللون قد وخطه الشيب، وفي عينيه حول، وبرجله اليمنى ريح شوكة تنغص عليه أحيانا وتؤلمه، وكان لا يكاد يمس بها الأرض ولا يمشي إلّا متكئا على أحدا ومتوكئا على شيء، ولا يصل إلى الأرض إلّا أطراف أصابعه، وكان شديد البأس جيد الرأي، يتولى الأمور بنفسه، ويجود لخواصه، وكان مهابا عند أهل مملكته، بحيث أنّ الأمراء إذا كانوا عنده بالخدمة لا يجسر أحد أن يكلم آخر كلمة واحدة، ولا يلتفت بعضهم إلى بعض خوفا منه، ولا يمكن واحدا منهم أن يذهب إلى بيت أحد البتة، لا في وليمة ولا غيرها، فإن فعل أحد منهم شيئا من ذلك قبض عليه وأخرجه من يومه منفيا، وكان مسدّدا عارفا بأمور رعيته وأحوال مملكته، وأبطل نيابة السلطنة من ديار مصر من سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وأبطل الوزارة وصار يتحدّث بنفسه في الجليل من الأمور والحقير، ويستجلب خاطر كل أحد من صغير وكبير لا سيما حواشيه، فلذلك عظمت حاشية المملكة وأتباع السلطنة وتخوّلوا في النعم الجزيلة، حتى الخولة والكلابزية والأسرى من الأرمن والفرنج، وأعطى البازدارية الأخباز في الحلقة، فمنهم من كان إقطاعه الألف دينار في السنة، وزوّج عدّة منهم بجواريه، وأفنى خلقا كثيرا من الأمراء بلغ عددهم نحو المائتي أمير، وكان إذا كبر أحد من أمرائه قبض عليه وسلبه نعمته، وأقام بدله صغيرا من مماليكه إلى أن يكبر، فيمسكه ويقيم غيره، ليأمن بذلك شرّهم. وكان كثير التخيل حازما، حتى أنه إذا تخيل من ابنه قتله، وفي آخر أيامه شره في جمع المال، فصادر كثيرا من الدواوين والولاة وغيرهم، ورمى البضائع على التجار حتى خاف كل من له مال، وكان مخادعا كثير الحيل، لا يقف عند قول ولا يوف بعهد ولا يبرّ في يمين، وكان محبا للعمارة، وعمر عدّة أماكن منها: جامع قلعة الجبل، وهدمه مرّتين، وعمر القصر الأبلق بالقلعة ومعظم الأماكن التي بالقلعة، وعمر المجرى الذي ينقل الماء عليه من بحر النيل إلى القلعة على السور، وعمر الميدان تحت القلعة ومناظر الميدان على النيل، وعمر قناطر السباع على الخليج ومناظر سرياقوس والخانقاه بسرياقوس، وحفر الخليج الناصريّ بظاهر القاهرة، وعمر الجامع الجديد على شاطيء النيل بظاهر مصر، وجدّد جامع الفيلة الذي بالرصد، والمدرسة الناصرية بين القصرين من القاهرة، وغير ذلك مما يرد في موضعه من هذا الكتاب، وما زال يعمر منذ عاد إلى ولاية الملك في المرّة الثالثة إلى أن مات، وبلغ مصروف العمارة في كل يوم من أيامه سبعة آلاف درهم فضة، عنها ثلاثمائة وخمسون دينارا، سوى من يسخره من المقيدين وغيرهم في عمل ما يعمره، وحفر عدّة من الخلجانات والترع، وأقام الجسور بالبلاد حتى أنه كان ينصرف من الأخباز على ذلك ربع متحصل الإقطاعات، وحفر خليج الإسكندرية وبحر المحلة مرّتين، وبحر اللبينيّ بالجيزة، وعمل جسر شيبين، وعمل جسر أحباس بالشرقية والقليوبية مدّة ثلاث سنين متوالية، فلم ينجع، فأنشأه بنيانا، بالطوب والجير، وأنفق فيه أموالا عظيمة، وراك ديار مصر وبلاد الشام، وعرض الجيش بعد حضوره في سنة

الجامع بالمشهد النفيسي

اثنتي عشرة وسبعمائة، وقطع ثمانمائة من الجند، ثم قطع في مرّة أخرى ثلاثة وأربعين جنديا في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وقطع ثمانمائة من الجند، ثم قطع في مرّة أخرى ثلاثة وأربعين جنديا في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ثم قطع خمسة وستين أيضا في رمضان سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، قبل وفاته بشهرين. وفتح من البلاد جزيرة أرواد في سنة اثنتين وسبعمائة، وفتح ملطية في سنة خمس عشرة وسبعمائة، وفتح أناس في ربيع الأوّل سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وخرّبها، ثم عمرها الأرمن فأرسل إليها جيشا فأخذها ومعها عدّة بلاد من بلاد الأرم في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وأقام بها نائبا من أمراء حلب، وعمر قلعة جعبر بعد أن دثرت، وضربت السكة باسمه في شوّال سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، قبل موته تولى ذلك الشيخ حسن بن حسين بحضور الأمير شهاب الدين أحمد قريب السلطان، وقد توجه من مصر بهذا السبب، وخطب له أيضا في أرتنا ببلاد الروم، وضربت السكة باسمه، وكذلك بلاد ابن قرمان وجبال الأكراد وكثير من بلاد الشرق، وكان من الذكاء المفرط على جانب عظيم، يعرف مماليك أبيه ومماليك الأمراء بأسمائهم ووقائعهم، وله معرفة تامّة بالخيل وقيمها مع الحشمة والسيادة، لم يعرف عنه قط أنه شتم أحدا من خلق الله ولا سفه عليه ولا كلمه بكلمة سيئة، وكان يدعو الأمراء أرباب الأشغال بألقابهم، وكانت همته علية وسياسته جيدة وحرمته عظيمة إلى الغاية، ومعرفته بمهادنة الملوك لا مرمى وراءها، يبذل في ذلك من الأموال ما لا يوصف كثرة، فكان كتّابه ينفذ أمره في سائر أقطار الأرض كلها، وهو مع ما ذكرنا مؤيد في كلّ أموره مظفر في جميع أحواله مسعود في سائر حركاته، ما عانده أحد أو أضمر له سوأ إلّا وندم على ذلك أو هلك، واشتهر في حياته بديار مصر أنه إن وقعت قطرة من دمه على الأرض لا يطلع نيل مصر مدّة سبع سنين، فمتعه الله من الدنيا بالسعادة العظيمة في المدّة الطويلة مع كثرة الطمأنينة والأمن وسعة الأموال، واقتنى كلّ حسن ومستحسن من الخيل والغلمان والجواري، وساعده الوقت في كلّ ما يحب ويختار إلى أن أتاه الموت. الجامع بالمشهد النفيسيّ قال ابن المتوّج: هذا الجامع أمر بإنشائه الملك الناصر محمد بن قلاون، فعمر في شهور سنة أربع عشرة وسبعمائة، وولى خطابته علاء الدين محمد بن نصر الله بن الجوهريّ شاهد الخزانة السلطانية، وأوّل خطبته فيه يوم الجمعة ثامن صفر من السنة المذكورة، وحضر أمير المؤمنين المستكفي بالله أبو الربيع سليمان وولده وابن عمه والأمير كهرداش متولي شدّ العمائر السلطانية، وعمارة هذا الجامع ورواقاته والفسقية المستجدّة، وقيل أن جميع المصروف على هذا الجامع من حاصل المشهد النفيسيّ، وما يدخل إليه من النذور ومن الفتوح.

جامع الأمير حسين

جامع الأمير حسين هذا الجامع كان موضعه بستانا بجوار غيظ العدّة، أنشأه الأمير حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن حيدر بك مشرف الروميّ، قدم مع أبيه من بلاد الروم إلى ديار مصر في سنة خمس وسبعين وستمائة، وتخصص بالأمير حسام الدين لاجين المنصوريّ، قبل سلطنته، فكانت له منه مكانة مكينة، وصار أمير شكار، وكان فيه برّ وله صدقة وعنده تفقد لأصحابه، وأنشأ أيضا القنطرة المعروفة بقنطرة الأمير حسين على خليج القاهرة، وفتح الخوخة في سور القاهرة بجوار الوزيرية، وجرى عليه من أجل فتحها ما قد ذكر عند ذكرها في الخوخ من هذا الكاتب، وتوفي في سابع المحرّم سنة تسع وعشرين وسبعمائة، ودفن بهذا الجامع. جامع الماس هذا الجامع بالشارع خارج باب زويلة، بناه الأمير سيف الدين الماس الحاجب، وكمل في سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان الماس هذا أحد مماليك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، فرقاه إلى أن صار من أكبر الأمراء، ولما أخرج الأمير أرغون إلى نيابة حلب وبقي منصب النيابة شاغرا عظمت منزلة الماس، وصار في منزلة النيابة، إلّا أنه لم يسمّ بالنائب، ويركب الأمراء الأكابر والأصاغر في خدمته، ويجلس في باب القلة من قلعة الجبل في منزلة النائب، والحجاب وقوف بين يديه، وما برح على ذلك حتى توجه السلطان إلى الحجاز في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، فتركه في القلعة هو والأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك، والأمير أقبغا عبد الواحد، والأمير طشتمر حمص أخضر، هؤلاء الأربعة لا غير، وبقية الأمراء إما معله في الحجاز، وإما في إقطاعاتهم، وأمرهم أن لا يدخلوا القاهرة حتى يحضر من الحجاز، فلما قدم من الحجاز نقم عليه وأمسكه في صفر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وكان لغضب السلطان عليه أسباب منها، أنه لما أقام في غيبة السلطان بالقلعة كان يراسل الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك ويوادده، وبدت منه في مدّة الغيبة أمور فاحشة من معاشرة الشباب ومن كلام في حق السلطان، فوشى به أقبغا، وكان مع ذلك قد كثر ماله وزادت سعادته، فهوى شابا من أبناء الحسينية يعرف بعمير، وكان ينزل إليه ويجمع الاويراتية ويحضر الشباب ويشرب، فحرّك ذلك عليه ما كان ساكنا. ويقال أن السلطان لما مات الأمير بكتمر الساقي وجد في تركته جزدان فيه جواب الماس إلى بكتمر الساقي، انني حافظ القلعة إلى أن يرد عليّ منك ما أعتمده. فلما وقف السلطان على ذلك أمر النشو بن هلال الدولة وشاهد الخزانة بإيقاع الحوطة على موجوده، فوجدا له ستمائة ألف درهم فضة، ومائة ألف درهم فلوسا، وأربعة آلاف دينار ذهبا، وثلاثين حياصة ذهبا كاملة بكفتياتها وخلعها، وجواهر وتحفا، وأقام الماس عند أقبغا عبد الوحد ثلاثة أيام، وقتل خنقا

جامع قوصون

بمحبسه في الثاني عشر من صفر سنة أربعة وثلاثين وسبعمائة، وحمل من القلعة إلى جامعه فدفن به، وأخذ جميع ما كان في داره من الرخام فقلع منها وكان رخاما فاخرا إلى الغاية، وكان أسمر طوالا غتميا لا يفهم شيئا بالعربيّ، ساذجا يجلس في بيته فوق لباد على ما اعتماده، وبهذا الجامع رخام كثير نقله من جزائر البحر وبلاد الشام والروم. جامع قوصون هذا الجامع بالشارع خارج باب زويلة، ابتدأ عمارته الأمير قوصون في سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان موضعه دارا بجوار حارة المصامدة من جانبها الغربيّ، تعرف بدار أقوش نميله، ثم عرفت بدار الأمير جمال الدين قتال السبع الموصليّ، فأخذها من ولده وهدمها وتولى بناءه شادّ العمائر، واستعمل فيه الأسرى، كان قد حضر من بلاد توريز بناء فبنى مئذنتي هذا الجامع على مثالث المئذنة التي عملها خواجا علي شاه، وزير السلطان أبي سعيد في جامعه بمدينة توريز، وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثلاثين وسبعمائة، وخطب يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزوينيّ بحضور السلطان، ولما انقضت صلاة الجمعة أركبه الملك الناصر بغلة بخلعة سنية، ثم منعه السلطان الملك الناصر أن يستقرّ في خطابته، فولى فخر الدين شكر. قوصون: الأمير الكبير سيف الدين، حضر من بلاد بركة إلى مصر صحبة خوند ابنة أزبك امرأة الملك الناصر محمد بن قلاون في ثالث عشري ربيع الآخر سنة عشرين وسبعمائة، ومعه قليل عصيّ وطسما ونحو ذلك مما قيمته خمسمائة درهم ليتجر فيه، فطاف بذلك في أسواق القاهرة وتحت القلعة وفي داخل قلعة الجبل، فاتفق. في بعض الأيام أنه دخل إلى الإصطبل السلطانيّ ليبيع ما معه، فأحبه بعض الأوشاقية وكان صبيا جميلا طويلا له من العمر ما يقارب الثماني عشرة سنة، فصار يتردّد إلى الأوشاقيّ إلى أن رآه السلطان، فوقع منه بموقع، فسأل عنه فعرّف بأنه يحضر ليبيع ما معه، وأن بعض الأوشاقية تولع به، فأمر بإحضاره إليه وابتاع منه نفسه ليصير من جملة المماليك السلطانية، فنزله من جملة السقاة وشغف به وأحبه حبا كثيرا، فأسلمه للأمير بكتمر الساقي وجعله أمير عشرة، ثم أعطاه أمرة طبلخاناه، ثم جعله أمير مائة مقدّم ألف، ورقاه حتى بلغه أعلى المراتب، فأرسل إلى البلاد وأحضر إخوته، سوسون وغيره من أقاربه، وأمر الجميع واختص به السلطان، بحيث لم ينل أحد عنده ما ناله، وزوّجه بابنته، وتزوّج السلطان أخته، فلما احتضر السلطان جعله وصيا على أولاده، وعهد لابنه أبي بكر فأقيم في الملك من بعده، وأخذ قوصون في أسباب السلطنة، وخلع أبا بكر المنصور بعد شهرين وأخرج إلى مدينة قوص ببلاد الصعيد، ثم قتله، وأقام كجك ابن السلطان وله من العمر خمس سنين، ولقبه بالملك الأشرف، وتقلد نيابة السلطنة بديار مصر، فأمّر من حاشيته وأقاربه ستين أميرا، وأكثر من العطاء وبذل

جامع المارداني

الأموال والأنعام، فصار أمر الدولة كله بيده، هذا وأحمد بن السلطان الملك الناصر مقيم بمدينة الكرك، فخافه قوصون وأخذ في التدبير عليه فلم يتم له ما أراد من ذلك، وحرّك على نفسه ما كان ساكنا، فطلب أحمد الملك لنفسه وكاتب الأمراء والنوّاب بالمملكة الشامية والمصرية فأذعنوا إليه، وكان بمصر من الأمراء الأمير أيدغمش والأمير آل ملك وقماري والماردانيّ وغيرهم، فتخيل قوصون منهم وأخذ في أسباب القبض عليهم، فعلموا بذلك وخافوا الفوت فركبوا لحربه وحصروه بقلعة الجبل حتى قبضوا عليه في ليلة الأربعاء آخر شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، ونهبت داره وسائر دور حواشيه وأسبابه، وحمل إلى الاسكندرية صحبة الأمير قبلاي فقتل بها، وكان كريما يفرّق في كل سنة للأضحية ألف رأس غنما، وثلاثمائة بقرة، ويفرّق ثلاثين حياصة ذهبا، ويفرّق كلّ سنة عدّة أملاك فيها ما يبلغ ثمنه ثلاثين ألف درهم، وله من الآثار بديار مصر سوى هذا الجامع الخانقاه بباب القرافة، والجامع تجاهها، وداره التي بالرميلة تحت القلعة تجاه باب السلسلة وحكر قوصون. جامع الماردانيّ هذا الجامع بجوار خط التبانة خارج باب زويلة، كان مكانه أوّلا مقابر أهل القاهرة، ثم عمر أماكن. فلما كان في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، أخذت الأماكن من أربابها وتولى شراءها النشو. فلم ينصف في أثمانها، وهدمت وبني مكانها هذا الجامع، فبلغ مصروفه زيادة على ثلاثمائة ألف درهم، عنها نحو خمسة عشر ألف دينار، سوى ما حمل إليه من الأخشاب والرخام وغيره من جهة السلطنة، وأخذ ما كان في جامع راشدة من العمد فعملت فيه، وجاء من أحسن الجوامع، وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة رابع عشري رمضان سنة أربعين وسبعمائة، وخطب فيه الشيخ ركن الدين عمر بن إبراهيم الجعبريّ، ولم يتناول معلوما. ألطنبغا الماردانيّ الساقي: أمّره الملك الناصر محمد بن قلاون، وقدّمه وزوّجه ابنته، فلما مات السلطان وتلوى بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر، ذكر أنه وشى بأمره إلى الأمير قوصون وقال: قد عزم على إمساكك. فتحيل قوصون وخلع أبا بكر وقتله بقوص، هذا مع أن الطنبغا كان قد عظم عند المنصور أكثر مما كان عند أبيه، فلما أقيم الأشرف كجك وماج الناس وحضر الأمير قطلوبغا من الشام وشغب الأمراء على قوصون، كان ألطبغا أصل ذلك كله، ثم نزل إلى الأمير أيدغمش أمير أخور واتفق معه على أن يقبض على قوصون، وطلع إلى قوصون وشاغله وخذله عن الحركة طول الليل والأمراء الكبار المشايخ عنده، وما زال يساهره حتى نام، وكان من قيالم الأمراء وركوبهم عليه ما كان، إلى أن أمسك وأخرج إلى الاسكندرية، ولما قدم ألطنبغا نائب الشام وأقام، تقدّم الماردانيّ وقبض على سيفه ولم

جامع أصلم

يجسر غيره على ذلك، فقويت بهذه الحركان نفسه وصار يقف فوق التمرتاشيّ وهو اغاته فشق ذلك عليه وكتم في نفسه إلى أن ملك الصالح إسماعيل، فتمكن حينئذ التمرتاشيّ وصار الأمر له، وعمل على الماردانيّ فلم يشعر بنفسه إلا وقد أخرج على خمسة أرؤس من خيل البريد إلى نيابة حماه في شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين، فسار إليها وبقي فيها نحو شهرين إلى أن مات ايدغمش نائب الشام، ونقل طقزدمر من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فنقل الماردانيّ من نيابة حماه إلى نيابة حلب، وسار إليها في أوّل رجب من السنة المذكورة، وجاء الأمير يلبغا اليحياويّ إلى نيابة حماه، فأقام الماردانيّ يسيرا في حلب ومرض ومات مستهلّ صفر سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وكان شابا طويلا رقيقا حول الصورة، لطيفا معشق الخطرة كريما صائب الحدس عاقلا. جامع أصلم هذا الجامع داخل الباب المحروق، أنشأه الأمير بهاء الدين أصلم السلاحدار في سنة ست وأربعين وسبعمائة. أصلم: أحد مماليك الملك المنصور قلاون الألفيّ، فلما فرّقت المماليك السلطنية في نيابة كتبغا بعد قتل الملك الأشرف خليل بن قلاون، وسلطنة الناصر محمد بن قلاون، كان أصلم من نصيب الأمير سيف الدين أقوش المنصوريّ، ثم انتقل إلى الأمير سلار، فلما حضر الملك الناصر محمد من الكرك بعد سلطنة بيبرس الجاشنكير، خرج إليه أصلم بمنجا الملك وبشره بهروب بيبرس، فأنعم عليه بإمرة عشرة، ثم تنقل إلى أن صار أمير مائة مقدّم ألف، وخرج في التجريدة إلى اليمن، فلما عاد اعتقله السلطان خمس سنين لكلام نقل عنه، ثم أخرجه وأعاده إلى منزلته، ثم جهزه لنيابة صفد، ومات الناصر وأصلم بصفد، فخرج الأمير قوصون مع الطنبغا نائب الشام إلى حلب لإمساك طشتمر، فسار إلى قاري ثم رجع وانضمّ إلى الفخريّ وأقام عنده على خان لاجين، وتوجه معه صحبة عساكر الشام إلى مصر، فرسم له الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاون بامرة مائة في مصر على عادته، وكان أحد المشايخ، ويجلس رأس الحلقة، ويجيد رمي النشاب مع سلامة صدر وخير إلى أن مات في يوم السبت عاشر شعبان سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ونشأ بجوار هذا الجامع دارا سنية، وحوض ماء للسبيل، وبهذا الجامع درس وله أوقاف، وهو من أحسن الجوامع. جامع بشتاك هذا الجامع خارج القاهرة بخط قبو الكرمانيّ على بركة الفيل، عمره الأمير بشتاك، فكمل في شعبان سنة ست وثلاثين وسبعمائة، وخطب فيه تاج الدين عبد الرحيم بن قاضي القضاة جلال الدين القزوينيّ، في يوم الجمعة سابع عشرة، وعمر تجاهه خانقاه على الخليج

جامع آق سنقر

الكبير، ونصب بينهما ساباطا يتوصل به من أحدهما إلى الآخر، وكان هذا الخط يسكنه جماعة من الفرنج والأقباط، ويرتكبون من القبائح ما يليق بهم، فلما عمر هذا الجامع وأعلن فيه بالأذان وإقامة الصلوات، اشمأزت قلوبهم لذلك وتحوّلوا من هذا الخط، وهو من أبهج الجوامع وأحسنها رخاما، وأنزهها. وادركناه إذا قويت زيادة ماء النيل فاضت بركة الفيل وغرّقته فيصير لجة ماء، لكن منذ انحسر ماء النيل عن البلد إلى جهة الغرب بطل ذلك، وله من الآثار سوى ذلك، قصر بشتاك بين القصرين، وقد تقدّم ذكره. جامع آق سنقر هذا الجامع بسويقة السباعين على البركة الناصرية، عمره الأمير آق سنقر شادّ العمائر السلطانية، وإليه تنسب قنطرة آق سنقر التي على الخليج الكبير بخط قبو الكرمانيّ، قبالة الحبانية، وأنشأ أيضا دارا جليلة وحمامين بخط البركة الناصرية، وكان من جملة الأوشاقية في أوّل أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، ثم عمله أمير أخور ونقله منها فجعله شادّ العمائر السلطانية، وأقام فيها مدّة فأثرى ثراء كبيرا، وعمر ما ذكر، وجعل على الجامع عدّة أوقاف، فعزل وصودر والخرج من مصر إلى حلب، ثم نقل منها إلى دمشق، فمات بها في سنة أربعين وسبعمائة. جامع آق سنقر هذا الجامع قريب من قلعة الجبل فيما بين باب الوزير والتبانة، كان موضعه في القديم مقابر أهل القاهرة، وأنشأه الأمير آق سنقر الناصريّ، وبناه بالحجر وجعل سقوفه عقودا من حجارة، ورخمه واهتمّ في ثنائه اهتماما زائدا حتى كان يقعد على عمارته بنفسه، ويشيل التراب مع الفعلة بيده، ويتأخر عن غدائه اشتغالا بذلك، وأنشأ بجانبه مكتبا لإقراء أيتام المسلمين القرآن، وحانوتا لسقي الناس الماء العذب، ووجد عند حفر أساس هذا الجامع كثيرا من الأموات، وجعل عليه ضيعة من قرى حلب، تغلّ في السنة مائة وخمسين ألف درهم فضة، عنها نحو سبعة آلاف دينار، وقرّر فيه درسا فيه عدّة من الفقهاء، وولى الشيخ شمس الدين محمد بن اللبان الشافعيّ خطابته، وأقام له سائر ما يحتاج إليه من أرباب الوظائف، وبنى بجواره مكانا ليدفن فيه، ونقل إليه ابنه فدفنه هناك، وهذا الجامع من أجلّ جوامع مصر، إلّا أنه لما حدثت الفتن ببلاد الشام وخرجت النوّاب عن طاعة سلطان مصر منذ مات الملك الظاهر برقوق، امتنع حضور مغلّ وقف هذا الجامع لكونه في بلاد حلب، فتعطل الجامع من أرباب وظائفه إلّا الاذان والصلاة. وإقامة الخطبة في الجمع والأعياد، ولما كانت سنة خمس عشرة وثمانمائة أنشأ في وسطه الأمير طوغان الدوادار بكرة ماء، وسقفها ونصب عليها عمدا من رخام لحمل السقف، أخذها من جامع الخندق، فهدم الجامع بالخندق من أجل ذلك، وصار الماء ينقل إلى هذه البركة من ساقية الجامع التي

جامع آل ملك

كانت للميضأة، فلما قبض الملك المؤيد شيخ الظاهريّ على طوغان في يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأولى، سنة ست عشرة وثمانمائة، وأخرجه إلى الاسكندرية واعتقله بها، أخذ شخص الثور الذي كان يدير الساقية، فإن طوغان كان أخذه منه بغير ثمن كما هي عادة أمرائنا، فبطل الماء من البركة. آق سنقر: السلاريّ، الأمير شمس الدين أحد مماليك السلطان الملك المنصور قلاون، ولما فرّقت المماليك، في نيابة كتبغا على الأمراء، صار الأمير آق سنقر إلى الأمير سلار، فقيل له السلاريّ لذلك، ولما عاد الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك اختص به ورقاه في الخدم حتى صار أحد الأمراء المقدّمين، وزوّجه بابنته وأخرجه لنيابة صفد، فباشرها بعفة إلى الغاية، ثم نقله من نيابة صفد إلى نيابة غزة، فلما مات الناصر وأقيم من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر، وخلع بالأشرف كجك وجاء الفخريّ لحصار الكرك، قام آق سنقر بنصرة أحمد ابن السلطان في الباطن، وتوجه الفخريّ إلى دمشق لما توجه الطنبغا إلى حلب ليطرد طشتمر نائب حلب، فاجتمع به وقوّي عزمه، وقال له توجه أنت إلى دمشق واملكها وأنا أحفظ لك غزة، وقام في هذه الواقعة قياما عظيما وأمسك الدروب، فلم يحضر أحد من الشام أو مصر من البريد وغيره إلّا وقبض عليه وحمل إلى الكرك، وحلف الناس للناصر أحمد، وقام بأمره ظاهرا وباطنا، ثم جاء إلى الفخريّ وهو على خان لاجين وقوّي عزمه وعضذه، وما زال عنده بدمشق إلى أن جاء الطنبغا من حلب والتقوا، وهرب الطنبغا فاتبعه اق سنقر إلى غزة وأقام بها، ووصلت العساكر الشامية إلى مصر، فلما أمسك الناصر أحمد طشتمر النائب وتوجه به إلى الكرك، أعطى نيابة ديار مصر لآق سنقر، فباشر النيابة وأحمد في الكرك إلى أن ملك الملك الصالح إسماعيل بن محمد، فأقرّه على النيابة وسار فيها سيرة مشكورة، فكان لا يمنع أحدا شيئا طلبه كائنا من كان، ولا يردّ سائلا يسأل ولو كان ذلك غير ممكن، فارتزق الناس في أيامه واتسعت أحوالهم، وتقدّم من كان متأخرا حتى كان الناس يطلبون ما لا حاجة لهم به، ثم إن الصالح أمسكه هو وبيغرا أمير جاندار، وأولاجا الحاجب، وقراجا الحاجب، من أجل أنهم نسبوا إلى الممالاة والمداجاة مع الناصر أحمد، وذلك يوم الخميس رابع المحرّم سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وكان ذلك آخر العهد به، واستقرّ بعده في النيابة الحاج آل ملك، ثم أفرج عن بيغرا، وأولاجا، وقراجا في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة. جامع آل ملك هذا الجامع في الحسينية خارج باب النصر، أنشأه الأمير سيف الدين الحاج آل ملك، وكمل وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة تاسع جمادى الأول سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وهو من الجوامع المليحة، وكانت خطته عامرة بالمساكن وقد خربت.

جامع الفخر

آل ملك: الأمير سيف الدين أصله مما أخذ في أيام الملك الظاهر من كسب الأبلستين لما دخل إلى بلاد الروم في سنة ست وسبعين وستمائة، وصار إلى الأمير سيف الدين قلاون وهو أمير قبل سلطنته، فأعطاه لابنه الأمير عليّ، وما زال يترقى في الخدم إلى أن صار من كبار الأمراء المشايخ رؤوس المشورة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، وكان لما خلع الناصر وتسلطن بيبرس يتردّد بينهما من مصر إلى الكرك، فأعجب الناصر عقله وتأنيه، وسير من الكرك يقول للمظفر لا يعود يجيء إليّ رسولا غير هذا فلما قدم الناصر إلى مصر عظمه ولم يزل كبيرا موقرا مبجلا، فلما ولى الناصر أحمد السلطنة أخرجه إلى نيابة خماه، فأقام بها إلى أن تولى الصالح اسماعيل، فأقدمه إلى مصر وأقام بها على حاله إلى أن أمسك الأمير آق سنقر السلاريّ نائب السلطنة بديار مصر، فولاه النيابة مكانه، فشدّد في الخمر إلى الغاية، وحدّ شاربها وهدم خزانة البنود وأراق خمورها، وبنى بها مسجدا وسكرها للناس، فسكنت إلى اليوم كما تقدّم ذكره، وأمسك الزمام زمانا، وكان يجلس للحكم في الشباك بدار النيابة من قلعة الجبل طول نهاره لا يملّ ذلك ولا يسأم، وتروح أرباب الوظائف ولا يبقى عنده إلا النقباء البطالة، وكان له في قلوب الناس مهابة وحرمة إلى أن تولى الكامل شعبان، فأخرجه أوّل سلطنته إلى دمشق نائبا بها عوضا عن الأمير طقزدمر، فلما كان في أوّل الطريق حضر إليه من أخذه وتوجه به إلى صفد نائبا بها، فدخلها آخر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ثم سأل الحضور إلى مصر فرسم له بذلك، فلما توجه ووصل إلى غزة أمسكه نائبها ووجهه إلى الاسكندرية في سنة سبع وأربعين، فخنق بها. وكان خيرا فيه دين وعبادة يميل إلى أهل الخير والصلاح، وتعتقد بركته، وخرّج له أحمد بن أيبك الدمياطيّ مشيخة، وحدّث بها وقرئت عليه مرّات وهو جالس في شباك النيابة بقلعة الجبل، وعمر هذا الجامع ودارا مليحة عند المشهد الحسينيّ من القاهرة، ومدرسة بالقرب منها، وكان بركة من أحسن ما يكون، وخيله مشهورة موصوفة، وكان يقول كل أمير لا يقوّم رمحه ويسكب الذهب إلى أن يساوي السنان ما هو أمير، رحمة الله عليه. جامع الفخر في ثلاثة مواضع، في بولاق خارج القاهرة، وفي الروضة تجاه مدينة مصر، وفي جزيرة الفيل على النيل ما بين بولاق ومنية السيرج. أمّا جامع الفخر بناحية بولاق فإنه موجود تقام فيه الجمعة إلى اليوم، وكان أوّلا عند ابتداء بنائه يعرف موضعه بخط خص الكيالة، وهو مكان كان يؤخذ فيه مكس الغلال المبتاعة، وقد ذكر ذلك عند ذكر أقسام مال مصر من هذا الكاتب. وجامع الروضة باق تقام فيه الجمعة. وأما الجامع بجزيرة الفيل فإنه كان باقيا إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة، وصليت فيه الجمعة غير مرّة، ثم خرب وموضعه باق بجوار دار تشرف على النيل تعرف بدار الأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة،

قريبا من الدار الحجازية. والفخر: هذا هو محمد بن فضل الله القاضي فخر الدين ناظر الجيش، المعروف بالفخر، كان في نصرانيته متألها، ثم أكره على الإسلام فامتنع وهمّ بقتل نفسه، وتغيب أياما ثم أسلم وحسن إسلامه، وأبعد النصارى ولم يقرّب أحدا منهم، وحج غير مرّة، وتصدّق في آخر عمره مدّة في كل شهر بثلاثة آلاف درهم نقرة، وبنى عدّة مساجد بديار مصر، وأنشأ عدّة أحواض ماء للسبيل في الطرقات، وبنى مارستانا بمدينة الرملة، ومارستانا بمدينة بلبيس، وفعل أنواعا من الخير، وكان حنفيّ المذهب، وزار القدس عدّة مرار، وأحرم مرّة من القدس بالحج، وسار إلى مكة محرما، وكان إذا خدمه أحد مرّة واحدة صار صاحبه طول عمره، وكان كثير الإحسان، لا يزال في قضاء حوائج الناس مع عصبية شديدة لأصحابه، وانتفع به خلق كثير لوجاهته عند السلطان، وإقدامه عليه، بحيث لم يك لأحد من أمراء الدولة عند الملك الناصر محمد بن قلاون ماله من الإقدام، ولقد قال السلطان مرّة لجندي طلب منه إقطاعا: لا تطوّل، والله لو أنك ابن قلاون ما أعطاك القاضي فخر الدين حيزا يغلّ أكثر من ثلاثة آلاف درهم، وقال له السلطان في يوم من الأيام وهو بدار العدل: يا فخر الدين تلك القضية طلعت فاشوش. فقال له: ما قلت لك أنها عجوز نحس. يريد بذلك بنت كوكاي امرأة السلطان عند ما ادّعت أنها حبلى، وله من الأخبار كثير. وكان أوّلا كاتب المماليك السلطانية، ثم صار من كتابة المماليك إلى وظيفة نظر الجيش، ونال من الوجاهة ما لم ينله غيره في زمانه، وكان الأمير أرغون نائب السلطنة بديار مصر يكرهه، وإذا جلس للحكم يعرض عنه ويدير كتفه إلى وجه الفخر، فعمل عليه الفخر حتى سار للحج، فقال للسلطان: يا خوند ما يقتل الملوك إلّا النوّاب، بيدرا قتل أخاك الملك الأشرف، ولاجين قتل بسبب نائبه منكوتمر، وخيل للسلطان إلى أن أمر بمسير الأمير أرغون من طريق الحجاز إلى نيابة حلب، وحسن للسلطان أن لا يستوزر أحدا بعد الأمير الجماليّ، فلم يول أحدا بعده الوزارة، وصارت المملكة كلها من أحوال الجيوش، وأمور الأموال وغيرها متعلقة بالفخر، إلى أن غضب عليه السلطان ونكبه وصادره على أربعمائة ألف درهم نقرة، وولى وظيفة نظر الشيخ قطب الدين موسى بن شيخ السلامية، ثم رضي عن الفخر وأمر بإعادة ما أخذ منه من المال إليه، وهو أربعمائة ألف درهم نقرة، فامتنع وقال: أنا خرجت عنها للسلطان فليبين بها جامعا، وبنى بها الجامع الناصريّ المعروف الآن بالجامع الجديد خارج مدينة مصر بموردة الحلفاء، وزار مرّة القدس وعبر كنيسة قمامة «1» فسمع وهو يقول عند ما رأى الضوء بها: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. وباشر آخر عمره بغير معلوم، وكان لا يأخذ من ديوان السلطان معلوما سوى كماجة، ويقول أتبرّك بها،

جامع نائب الكرك

ولما مات في رابع عشر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وله من العمر ما ينيف على سبعين سنة، وترك موجودا عظيما إلى الغاية. قال: السلطان، لعنه الله، خمس عشرة سنة ما يدعني أعمل ما أريد، وأوصي للسلطان بمبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، فأخذ من تركته أكثر من ألف ألف درهم نقرة، ومن حين مات الفخر كثر تسلط السلطان الملك الناصر، وأخذه أموال الناس، وإلى الفخر تنسب قنطرة الفخر التي على فم الخليج الناصريّ المجاور لميدان السلطان بموردة الجبس، وقنطرة الفخر التي على الخليج المجاور للخليج الناصريّ، وأدركت ولده فقيرا يتكفف الناس بعد مال لا يحدّ كثرة. جامع نائب الكرك هذا الجامع بظاهر الحسينية مما يلي الخليج، كان عامرا وعمر ما حوله عمارة كبيرة، ثم خرب بخراب ما حوله من عهد الحوادث في سنة ست وثمانمائة، عمره الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك، وقد تقدّم ذكره عند ذكر الدور من هذا الكتاب. جامع الخطيريّ ببولاق هذا الجامع موضعه الآن بناحية بولاق خارج القاهرة، كان موضعه قديما مغمورا بماء النيل إلى نحو سنة سبعمائة، فلما انحسر ماء النيل عن ساحل المقس صار ما قدّام المقس رمالا لا يعلوها ماء النيل إلّا أيام الزيادة، ثم صارت بحيث لا يعلوها الماء البتة، فزرع موضع هذا الجامع بعد سنة سبعمائة، وصار منتزها يجتمع عنده الناس، ثم بنى هناك شرف الدين بن زنبور ساقية وعمر بجوارها رجل يعرف بالحاج محمد بن عز الفرّاش دارا تشرف على النيل، وتردّد إليها، فلما مات أخذها شخص يقال له تاج الدين بن الأزرق ناظر الجهات وسكنها، فعرفت بدار الفاسقين لكثرة ما يجري فيها من أنواع المحرّمات، فاتفق أن النشو ناظر الخاص قبض على ابن الأزرق وصادره، فباع هذه الدار في جملة ما باعه من موجوده، فاشتراها منه الأمير عز الدين أيدمر الخطيريّ وهدمها وبنى مكانها هذا الجامع وسماه جامع التوبة، وبالغ في عمارته وتأنق في رخامه، فجاء من أجلّ جوامع مصر وأحسنها، وعمل له منبرا من رخام في غاية الحسن، وركب فيه عدّة شبابيك من حديد تشرف على النيل الأعظم، وجعل فيه خزانة كتب جليلة نفيسة، ورتب فيه درسا للفقهاء الشافعية، ووقف عليه عدّة أوقاف منها: دار العظيمة التي هي في الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، وكان جملة ما أنفق في هذا الجامع أربعمائة ألف درهم نقرة، وكملت عمارته في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وأقيمت به الجمعة في يوم الجمعة عشري جمادى الآخر، فلما خلص ابن الأزرق من المصادرة، حضر إلى الأمير الخطيريّ وادّعى أنه باع داره وهو مكره، فدفع إليه ثمنها مرّة ثانية، ثم إن البحر قوي على هذا الجامع وهدمه، فأعاد بناءه بجملة كثيرة من المال، ورمى قدّام زريبته ألف مركب مملوءة بالحجارة، ثم انهدم بعد موته وأعيدت زريبته.

جامع قيدان

ايدمر الخطيريّ: الأمير عز الدين، مملوك شرف الدين أوحد بن الخطيريّ، الأمير مسعود بن خطير، انتقل إلى الملك الناصر محمد بن قلاون فرقاه حتى صار أحد أمراء الألوف، بعد ما حبسه بعد مجيئه من الكرك إلى مصر مدّة، ثم أطلقه وعظم مقداره إلى أن بقي يجلس رأس الميسرة ومعه أمرة مائة وعشرين فارسا، وكان لا يمكنه السلطان من المبيت في داره بالقاهرة، فينزل إليها بكرة ويطلع إلى القلعة بعد العصر كذا أبدا، فكانوا يرون ذلك تعظيما له، وكان منوّر الشيبة كريما يحب التزوّج الكثير والفخر، بحيث أنه لما زوّج السلطان ابنته بالأمير قوصون ضرب دينارين وزنهما أربعمائة مثقال ذهبا، وعشرة آلاف درهم فضة برسم نقوط امرأته في العرس إذا طلعت إلى زفاف ابنة السلطان على قوصون، وقيل له مرّة هذا السّكّر الذي يعمل في الطعام ما يضرّ أن يعمل غير مكرّر، فقال لا يعمل إلّا مكرّرا، فإنه يبقى في نفسي أنه غير مكرّر، وكان لا يلبس قباء مطرّزا ولا مصقولا، ولا يدع أحدا عنده يلبس ذلك، وكان يخرج الزكاة، وانشأ بجانب هذا الجامع ربعا كبيرا تنافس الناس في سكناه، ولم يزل على حاله حتى مات يوم الثلاثاء مستهلّ شهر رجب سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، ودفن بتربته خارج باب النصر، ولم يزل هذا الجامع مجمعا يقصده سائر الناس للتنزه فيه على النيل، ويرغب كل أحد في السكنى بجواره، وبلغت الأماكن التي بجواره من الأسواق والدور الغاية في العمارة، حتى صار ذلك الخط أعمر أخطاط مصر وأحسنها، فلما كانت سنة ست وثمانمائة انحسر ماء النيل عما تجاه جامع الخطيريّ، وصار رملة لا يعلوها الماء إلّا في أيام الزيادة، وتكاثر الرمل تحت شبابيك الجامع، وقربت من الأرض بعد ما كان الماء تحته لا يكاد يدرك قراره، وهو الآن عامر، إلّا أن الاجتماعات التي كانت فيه قبل انحسار النيل عما قبالته قلت، واتضع حال ما يجاوره من السوق والدور، ولله عاقبة الأمور. جامع قيدان هذا الجامع خارج القاهرة على جانب الخليج الشرقيّ ظاهر باب الفتوح مما يلي قناطر الإوز تجاه أرض البعل، كان مسجدا قديم البناء فجدّده الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي في محرّم سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وجدّد حوض السبيل الذي فيه، ثم إن الأمير مظفر الدين قيدان الروميّ عمل به منبرا لإقامة الخطبة يوم الجمعة، وكان عامرا بعمارة ما حوله، فلما حدث الغلاء في سنة ست وسبعين وسبعمائة، أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين خرب كثير من تلك النواحي، وبيعت أنقاضها، وكانت الغرقة أيضا، فصار ما بين القنطرة الجديدة المجاورة لسوق جامع الظاهر، وبين قناطر الأوز المقابلة لأرض البعل يبابا لا عامر له ولا ساكن فيه، وخرب أيضا ما وراء ذلك من شرقيه إلى جامع نائب الكرك، وتعطل هذا الجامع ولم يبق منه غير جدر آئلة إلى العدم، ثم جدّده مقدّم بعض المماليك السلطانية في

جامع الست حدق

حدود الثلاثين والثمانمائة، ثم وسع فيه الشيخ أحمد بن محمد الأنصاريّ العقاد الشهير بالأزراريّ، ومات في ثاني عشر ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة. جامع الست حدق هذا الجامع بخط المريس في جانب الخليج الكبير مما يلي الغرب، بالقرب من قنطرة السدّ التي خارج مدينة مصر، أنشأته الست حدق دادة الملك الناصر محمد بن قلاون، وأقيمت فيه الخطبة يوم الجمعة لعشرين من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وإلى حدق هذه ينسب حكر الست حدق الذي ذكر عند ذكر الأحكار من هذا الكتاب. جامع ابن غازي هذا الجامع خارج باب البحر من القاهرة بطريق بولاق، أنشأه نجم الدين بن غازي دلال المماليك، وأقيمت فيه الخطبة في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وإلى اليوم تقام فيه الجمعة، وبقية الأيام لا يزال مغلق الأبواب لقلة السكان حوله. جامع التركمانيّ هذا الجامع في المقس، وهو من الجوامع المليحة البناء، أنشأه الأمير بدر الدين محمد التركمانيّ، وكان ما حوله عامرا عمارة زائدة، ثم تلاشى من الوقت الذي كان فيه الغلاء زمن الملك الأشرف شعبان بن حسين، وما برح حاله يختل إلى أن كانت الحوادث والمحن من سنة ست وثمانمائة، فخرب معظم ما هنالك، وفيه إلى اليوم بقايا عامر لا سيما بجوار هذا الجامع. التركمانيّ محمد، وينعت بالأمير بدر الدين محمد بن الأمير فخر الدين عيسى التركمانيّ، كان أوّلا شادّا، ثم ترقى في الخدم حتى ولي الجيزة، وتقدّم في الدولة الناصرية، فولاه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون شادّ الدواوين، والدولة حينئذ ليس فيها وزير، فاستقلّ بتدبير الدولة مدّة أعوام، وكان يلي نظر الدولة تلك الأيام كريم الدين الصغير، فغص به وما زال يدبر عليه حتى أخرجه السلطان من ديار مصر، وعمله شادّ الدواوين بطرابلس، فأقام هناك مدّة سنتين ثم عاد إلى القاهرة بشفاعة الأمير تنكز نائب الشام، وولي كشف الوجه البحريّ مدّة، ثم أعطي أمرة طبلخاناه، وأعطي أخوه عليّ أمرة عشرة، وولده إبراهيم أيضا أمرة عشرة، وكان مهابا صاحب حرمة باسطة وكلمة نافذة، ومات عن سعادة طائلة بالمقس في ربيع الأوّل سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وهو أمير.

جامع شيخو

جامع شيخو هذا الجامع بسويقة منعم، فيما بين الصليبة والرميلة تحت قلعة الجبل، أنشأه الأمير الكبير سيف الدين شيخو الناصريّ، رأس نوبة الأمراء في سنة ست وخمسين وسبعمائة، ورفق بالناس في العمل فيه وأعطاهم أجورهم، وجعل فيه خطبة وعشرين صوفيا، وأقام الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود الروميّ الحنفيّ شيخهم، ثم لما عمر الخانقاه تجاه الجامع نقل حضور الأكمل والصوفية إليها، وزاد عدّتهم، وهذا الجامع من أجلّ جوامع ديار مصر. شيخو: الأمير الكبير سيف الدين، أحد مماليك الناصر محمد بن قلاون، حظي عند الملك المظفر حاجي بن محمد بن قلاون، وزادت وجاهته حتى شفع في الأمراء وأخرجهم من سجن الإسكندرية، ثم إنه استقرّ في أوّل دولة الملك الناصر حسن أحد أمراء المشورة، وفي آخر الأمر كانت القصص تقرأ عليه بحضرة السلطان في أيام الخدمة، وصار زمام الدولة بيده، فساسها أحسن سياسة بسكون وعدم شرّ، وكان يمنع كل حزب من الوثوب على الآخر، فعظم شأنه إلى أن رسم السلطان بإمساك الأمير يلبغاروس نائب السلطنة بديار مصر وهو مسافر بالحجاز، وكان شيخو قد خرج متصيدا إلى ناحية طنان بالغربية، فلما كان يوم السبت رابع عشري شوّال سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، أمسك السلطان الأمير منجك الوزير، وحلّف الأمراء لنفسه، وكتب تقليد شيخو بنيابة طرابلس، وجهزه إليه مع الأمير سيف الدين طينال الجاشنكير، فسار إليه وسفره من برّا، فوصل إلى دمشق ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة، فظهر مرسوم السلطان بإقامة شيخو في دمشق على إقطاع الأمير بيلبك السالميّ، وبتجهيز بيلبك إلى القاهرة، فخرج بيلبك من دمشق وأقام شيخو على إقطاعه بها، فما وصل بيلبك إلى القاهرة إلّا وقد وصل إلى دمشق وأقام شيخو على إقطاعه بها، فما وصل وتقييد مماليكه واعتقالهم بقلعة دمشق، فأمسك وجهّز مقيدا، فلما وصل إلى قطيا توجهوا به إلى الإسكندرية، فلم يزل معتقلا بها إلى أن خلع السلطان الملك الناصر حسن، وتولى أخوه الملك الصالح صالح، فأفرج عن شيخو ومنجك الوزير وعدّة من الأمراء، فوصلوا إلى القاهرة في رابع شهر رجب سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وأنزل في الأشرفية بقلعة الجبل، واستمرّ على عادته، وخرج مع الملك الصالح إلى الشام في واقعة يلبغاروس، وتوجه إلى حلب هو والأمير طاز وأرغون الكامليّ خلف يبلغاروس، وعاد مع السلطان إلى القاهرة وصمم حتى أمسك يلبغاروس ومن معه من الأمراء بعد ما وصلوا إلى بلاد الروم، وحزت رؤسهم، وأمسك أيضا ابن دلغار وأحضر إلى القاهرة ووسّط وعلّق على باب زويلة، ثم خرج بنفسه في طلب الأحدب الذي خرج بالصعيد وتجاوز في سفره قوص، وأمسك عدّة كثيرة ووسّطهم حتى سكنت الفتن بأرض مصر، وذلك في آخر سنة أربع وخمسين وأوّل سنة خمس وخمسين.

جامع الجاكي

ثم خلع الملك الصالح وأقام بدله الملك الناصر حسنا في ثاني شوّال، وأخرج الأمير طاز من مصر إلى حلب نائبا بها ومعه إخوته، وصارت الأمور كلها راجعة إليه، وزادت عظمته وكثرت أمواله وأملاكه ومستأجراته حتى كاد يكاثر أمواج البحر بما ملك، وقيل له قارون عصره. وعزيز مصره، وأنشأ خلقا كثيرا، فقوى بذلك حزبه وجعل في كل مملكة من جهته عدّة أمراء، وصارت نوّابه بالشام وفي كل مدينة أمراء كبار، وخدموه حتى قيل كان يدخل كل يوم ديوانه من إقطاعه وأملاكه ومستأجراته بالشام وديار مصر مبلغ مائتي ألف درهم نقرة، وأكثر، وهذا شيء لم يسمع بمثله في الدولة التركية، وذلك سوى الإنعامات السلطانية والتقادم التي ترد إليه من الشام ومصر، وما كان يأخذ من البراطيل على ولاية الأعمال، وجامعه هذا وخانقاهه التي بخط الصليبة لم يعمر مثلهما قبلهما، ولا عمل في الدولة التركية مثل أوقافهما، وحسن ترتيب المعاليم بهما، ولم يزل على حاله إلى أن كان يوم الخميس ثامن شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، فخرج عليه شخص من المماليك السلطانية المرتجعة عن الأمير منجك الوزير يقال له باي، فجاء وهو جالس بدار العدل وضربه بالسيف في وجهه وفي يده، فارتجت القلعة كلها وكثر هرج الناس حتى مات من الناس جماعة من الزحمة وركب من الأمراء الكبار عشرة وهم بالسلاح عليهم إلى قبة النصر خارج القاهرة، ثم أمسك باي فجاء وقرّر فلم يعترف بشيء على أحد وقال: أنا قدّمت إليه قصة لينقلني من الجامكية إلى الإقطاع فما قضى شغلي، فأخذت في نفسي من ذلك، فسجن مدّة ثم سمّر وطيف به الشوارع، وبقي شيخو عليلا من تلك الجراحة لم يركب إلى أن مات ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة، سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، ودفن بالخانقاه الشيخونية وقبره بها يقرأ عنده القرآن دائما. جامع الجاكيّ هذا الجامع كان بدرب الجاكي عند سويقة الريش من الحكر في برّ الخليج الغربيّ، أصله مسجد من مساجد الحكر، ثم زاد فيه الأمير بدر الدين محمد بن إبراهيم المهمندار، وجعله جامعا وأقام فيه منبرا في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، فصار أهل الحكر يصلون فيه الجمعة إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، فخرب الحكر وبيعت أنقاض معظم الدور التي هناك، وتعطل هذا الجامع من ذكر الله وإقامة الصلاة لخراب ما حوله، فحكم بعض قضاة الحنفية ببيع هذا الجامع، فاشتراه شخص من الوعاظ يعرف بالشيخ أحمد الواعظ الزاهد صاحب جامع الزاهد بخط المقس، وهدمه وأخذ أنقاضه فعملها في جامعه الذي بالمقس في أوّل سنة سبع عشرة وثمانمائة. جامع التوبة هذا الجامع بجوار باب البرقية في خط بين السورين، كان موضعه مساكن أهل الفساد

جامع صاروجا

وأصحاب الرأي، فلما أنشأ الأمير الوزير علاء الدين مغلطاي الجماليّ خانقاهه المعروفة بالجمالية قريبا من خزانة البنود بالقاهرة، كره مجاورة هذه الأماكن لداره وخانقاهه، فأخذها وهدمها وبنى هذا الجامع في مكانها، وسماه جامع التوبة، فعرف بذلك إلى اليوم، وهو الآن تقام فيه الجمعة، غير أنه لا يزال طول الأيام مغلق الأبواب لخلوّه من ساكن، وقد خرب كثير مما يجاوره، وهناك بقايا من أماكن. جامع صاروجا هذا الجامع مطلّ على الخليج الناصريّ بالقرب من بركة الحاجب التي تعرف ببركة الرطلي، كان خطة تعرف بجامع العرب، فأنشأ بها هذا الجامع ناصر الدين محمد أخو الأمير صار وجانقيب الجيش، بعد سنة ثلاثين وسبعمائة، وكانت تلك الخطة قد عمرت عمارة زائدة، وأدركت منها بقية جيدة إلى أن دثرت، فصارت كيمانا، وتقام الجمعة إلى اليوم في هذا الجامع أيام النيل. جامع الطباخ هذا الجامع خارج القاهرة بخط باب اللوق، بجوار بركة الشقاف، كان موضعه وموضع بركة الشقاف من جملة الزهريّ، أنشأه الأمير جمال الدين أقوش، وجدّده الحاج علي، الطباخ في المطبخ السلطانيّ أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، ولم يكن له وقف، فقام بمصالحه من ماله مدّة، ثم إنه صودر في سنة ست وأربعين وسبعمائة، فتعطل مدّة نزول الشدّة بالطباخ، ولم تقم فيه تلك المدّة الصلاة. عليّ بن الطباخ: نشأ بمصر وخدم الملك الناصر محمد بن قلاون. وهو بمدينة الكرك، فلما قدم إلى مصر جعله خوان سلار، وسلمه المطبخ السلطانيّ، فكثر ماله لطول مدّته. وكثرة تمكنه، ولم يتفق لأحد من نظرائه ما اتفق له من السعادة الطائلة، وذلك أن الأفراح وما كان يصنع من المهمات والأعراس ونحوها مما كان يعمل في الدور السلطانية وعند الأمراء والمماليك والحواشي مع كثرة ذلك في طول تلك الأعوام، كانت كلها إنما يتولى أمرها هو بمفرده، فما اتفق له في عمل مهم ابن بكتمر الساقي على ابنة الأمير تنكز نائب الشام، أن السلطان الملك الناصر استدعاه آخر النهار الذي عمل فيه المهم المذكور وقال له: يا حاج عليّ، اعمل لي الساعة لونا من طعام الفلاحين، وهو خروج رميس يكون ملهوج، فولى ووجهه معبس، فصاح به السلطان ويلك مالك معبس الوجه؟ فقال: كيف ما أعبس وقد حرمتني الساعة عشرين ألف درهم نقرة؟ فقال: كيف حرمتك؟ قال: قد تجمع عندي رؤس غنم وبقر وأكارع وكروش وأعضاد وسقط دجاج وأوز وغير ذلك مما سرقته من المهمّ، وأريد أقعد وأبيعه، وقد قلت لي أطبخ وبينما أفرغ من الطبيخ تلف الجميع، فتبسم السلطان وقال له: رح أطبخ وضمان الذي ذكرت عليّ، وأمر بإحضار والي القاهرة ومصر،

جامع الأسيوطي

فلما حضرا ألزمهما بطلب أرباب الزفر إلى القلعة وتفرقة ما ناب الطباخ من المهمّ عليهم، واستخراج ثمنه، فللحال حضر المذكورون وبيع عليهم ذلك فبلغ ثمنه ثلاثة وعشرين ألف درهم نقرة، وهذا مهمّ واحد من ألوف مع الذي كان له من المعاليم والجرايات ومنافع المطبخ. ويقال أنه كان يتحصل له من المطبخ السلطاني في كل يوم على الدوام والاستمرار مبلغ خمسمائة درهم نقرة، ولولده أحمد مبلغ ثلاثمائة درهم نقرة، فلما تحدّث النشو في الدولة خرّج عليه تخاريج وأغرى به السلطان، فلم يسمع فيه كلاما، وما زال على حاله إلى أن مات الملك الناصر وقام من بعده أولاده الملك المنصور أبو بكر، والملك الأشرف كجك، والملك الناصر أحمد، والملك الصالح إسماعيل، والملك الكامل شعبان، فصادره في سنة ست وأربعين وسبعمائة، وأخذ منه مالا كثيرا، ومما وجد له خمس وعشرون دارا مشرفة على النيل وغيره، فتفرقت حواشي الملك الكامل أملامه، فأخذت أم السلطان ملكه الذي كان على البحر، وكانت دارا عظيمة جدّا، وأخذت أنقاض داره التي بالمحمودية من القاهرة وأقيم عوضه بالمطبخ السلطانيّ وضرب ابنه أحمد. جامع الأسيوطيّ هذا الجامع بطرف جزيرة الفيل مما يلي ناحية بولاق، كان موضعه في القديم غامرا بماء النيل، فلما انحسر عن جزيرة الفيل وعمرت ناحية بولاق، أنشأ هذا الجامع القاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عمر السيوطيّ ناظر بيت المال، ومات في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ثم جدّد عمارته بعد ما تهدّم وزاد فيه ناصر الدين محمد بن محمد بن عثمان بن محمد المعروف بابن البارزيّ الحمويّ كاتب السرّ، وأجرى فيه الماء وأقام فيه الخطبة يوم الجمعة سادس عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، فجاء في أحسن هندام وأبدع زيّ، وصلّى فيه السلطان الملك المؤيد شيخ الجمعة في أول جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة. جامع الملك الناصر حسن هذا الجامع يعرف بمدرسة السلطان حسن، وهو تجاه قلعة الجبل فيما بين القلعة وبركة الفيل، وكان موضعه بيت الأمير يلبغا اليحياوي الذي تقدّم ذكره عند ذكر الدور، وابتدأ السلطان عمارته في سنة سبع وخمسين وسبعمائة، وأوسع دوره وعمله في أكبر قالب وأحسن هندام وأضخم شكل، فلا يعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذا الجامع، أقامت العمارة فيه مدّة ثلاث سنين لا تبطل يوما واحدا، وأرصد لمصروفها في كل يوم عشرون ألف درهم، عنها نحو ألف مثقال ذهبا. ولقد أخبرني الطواشي مقبل الشاميّ: أنه سمع السلطان حسنا يقول: انصرف على القالب الذي بني عليه عقد الإيوان الكبير مائة ألف درهم نقرة، وهذا القالب مما رمي على الكيمان بعد فراغ العقد المذكور.

قال: وسمعت السلطان يقول لولا أن يقال ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرف عليه، وفي هذا الجامع عجائب من البنيان منها: أن ذراع إيوانه الكبير خمسة وستون ذراعا في مثلها، ويقال أنه أكبر من إيوان كسرى الذي بالمدائن من العراق بخمسة أذرع، ومنه القبلة العظيمة التي لم يبن بديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن مثلها، ومنها المنبر الرخام الذي لا نظير له، ومنها البوّابة العظيمة، ومنها المدارس الأربع التي بدور قاعة الجامع إلى غير ذلك. وكان السلطان قد عزم على أن يبني أربع مناير يؤذن عليها، فتمت ثلاث مناير إلى أن كان يوم السبت سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة، فسقطت المنارة التي على الباب، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام الذين كانوا قد رتبوا بمكتب السبيل الذي هناك ومن غير الأيتام، وسلّم من الأيتام ستة أطفال، فأبطل السلطان بناء هذه المنارة وبناء نظيرتها، وتأخر هناك منارتان هما قائمتان إلى اليوم، ولما سقطت المنارة المذكورة لهجت عامّة مصر والقاهرة بأن ذلك منذر بزوال الدولة، فقال الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد بن عليّ بن محمد السبكيّ في سقوطها: أبشر فسعدك يا سلطان مصر أتى ... بشيره بمقال سار كالمثل إنّ المنارة لم تسقط لمنقصة ... لكن لسرّ خفيّ قد تبيّن لي من تحتها قرىء القرآن فاستمعت ... فالوجد في الحال أدّها إلى الميل لو أنزل الله قرآنا على جبل ... تصدّعت رأسه من شدّة الوجل تلك الحجارة لم تنقضّ بل هبطت ... من خشية الله لا للضعف والخلل وغاب سلطانها فاستوحشت ورمت ... بنفسها لجوى في القلب مشتعل فالحمد لله حظّ العين زال بما ... قد كان قدّره الرحمن في الأزل لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة ... شيدت بنيانها بالعلم والعمل ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت ... علما فليس بمصر غير مشتغل فاتفق قتل السلطان بعد سقوط المنارة بثلاثة وثلاثين يوما، ومات السلطان قبل أن يتم رخام هذا الجامع، فأتمه من بعده الطواشي بشير الجمدار، وكان قد جعل السلطان على هذا الجامع أوقافا عظيمة جدّا، فلم يترك منها إلّا شيء يسير وأقطع أكثر البلاد التي وقفت عليه بديار مصر والشام لجماعة من الأمراء وغيرهم، وصار هذا الجامع ضدّا لقلعة الجبل، قلما تكون فتنة بين أهل الدولة إلّا ويصعد عدّة من الأمراء وغيرهم إلى أعلاه ويصير الرمي منه على القلعة، فلم يحتمل ذلك الملك الظاهر برقوق وأمر فهدمت الدرج التي كان يصعد منها إلى المنارتين والبيوت التي كان يسكنها الفقهاء، ويتوصل من هذه الدرج إلى السطح الذي كان يرمى منه على القلعة، وهدمت البسطة العظيمة والدرج التي كانت بجانبي هذه البسطة التي كانت قدّام باب الجامع، حتى لا يمكن الصعود إلى الجامع، وسدّ من وراء الباب النحاس الذي لم يعمل فيما عهد باب مثله، وفتح شباك من شبابيك أحد مدارس هذا الجامع

ليتوصل منه إلى داخل الجامع عوضا عن الباب المسدود، فصار هذا الجامع تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة، وامتنع صعود المؤذنين إلى المنارتين، وبقي الأذان على درج هذا الباب، وكان ابتداء هدم ما ذكر في يوم الأحد ثامن صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، ثم لما شرع السلطان الملك المؤيد شيخ في عمارة الجامع بجوار باب زويلة اشترى هذا الباب النحاس والتنور النحاس الذي كان معلقا هناك بخمسمائة دينار، ونقلا في يوم الخميس سابع عشري شوّال سنة تسع عشرة وثمانمائة، فركب الباب على البوّابة وعلق التنور تجاه المحراب، فلما كان في يوم الخميس تاسع شهر رمضان سنة خمس وعشرين وثمانمائة، أعيد الأذان في المئذنتين كما كان، وأعيد بناء الدرج والبسطة، وركب باب بدل الباب الذي أخذه المؤيد، واستمرّ الأمر على ذلك. الملك الناصر أبو المعالي الحسن بن محمد بن قلاون: جلس على تخت الملك وعمره ثلاث عشرة سنة في يوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بعد أخيه الملك المظفر حاجي، وأركب من باب الستارة بقلعة الجبل وعليه شعار السلطنة وفي ركابه الأمراء إلى أن نزل بالإيوان السلطانيّ، ومدبر والدولة يومئذ الأمير يلبغاروس، والأمير ألجيبغا المظفريّ، والأمير شيخو، والأمير طاز، وأحمد شادّ الشرابخاناه، وأرغون الإسماعيليّ فخلع على يلبغاروس واستقرّ في نيابة السلطنة بديار مصر، عوضا عن الحاج أرقطاي، وقرّر أرقطاي في نيابة السلطنة بحلب، وخلع على الأمير سيف الدين منجك اليوسفيّ واستقرّ في الوزارة والاستادارية، وقرر الأمير أرغون شاه في نيابة السلطنة بدمشق. فلما دخلت سنة تسع وأربعين، كثر انكشاف الأراضي من ماء النيل بالبرّ الشرقيّ فيما يلي بولاق إلى مصر، فاهتم الأمراء بسدّ البحر مما يلي الجيزة، وفوّض ذلك للأمير منجك، فجمع مالا كثيرا وأنفقه على ذلك، فلم يفد، فقبض على منجك في ربيع الأوّل، وحدث الوباء العظيم في هذه السنة، وأخرج أحمد شادّ الشرابخاناه لنيابة صفد، وألجيبغا لنيابة طرابلس، فاستمرّ أجليبغا بها إلى شهر ربيع الأوّل سنة خمسين، فركب إلى دمشق وقتل أرغون شاه بغير مرسوم، فأنكر عليه وأمسك وقتل بدمشق. وفي سنة إحدى وخمسين سار من دمشق عسكر عدّته أربعة آلاف فارس، ومن حلب ألفا فارس إلى مدينة سنجار، ومعهم عدّة كثيرة من التركمان، فحصروها مدّة حتى طلب أهلها الأمان، ثم عادوا. وترشد السلطان واستبدّ بأمره وقبض على منحك ويلبغاروس، وقبض بمكة على الملك المجاهد صاحب اليمن، وقيد وحمل إلى القاهرة، فأطلق ثم سجن بقلعة الكرك. فلما كان يوم الأحد سابع عشر جمادى الآخرة ركب الأمراء على السلطان وهم: طاز وإخوته ويبلغا الشمسيّ، ويبغوا، ووقفوا تحت القلعة وصعد الأمير طاز وهو لابس إلى القلعة في عدّة وافرة، وقبض على السلطان وسجنه بالدور، فكانت مدّة ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر، وأقيم بدله أخوه الملك الصالح صالح فأقام السلطان حسن مجمعا على الاشتغال

بالعلم، وكتب بخطه نسخة من كتاب دلائل النبوّة للبيهقيّ إلى يوم الاثنين ثاني شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فأقامه الأمير شيخو العمريّ في السلطنة، وقبض على الصالح، وكانت مدّة سجنه ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما، فرسم بإمساك الأمير طاز وإخراجه لنيابة حلب. وفي ربيع الأول سنة سبع وخمين هبت ريح عاصفة من ناحية الغرب من أوّل النهار إلى آخر الليل، اصفرّ منها الجوّ، ثم احمرّ، ثم اسودّ فتلف منها شيء كثير. وفي شعبان سنة تسع وخمسين ضرب الأمير شيخو بعض المماليك بسيف فلم يزل عليلا حتى مات. وفي سنة تسع وخمسين كان ضرب الفلوس الجدد، فعمل كلّ فلس زنة مثقال، وقبض على الأمير طاز نائب حلب وسجن بالإسكندرية، وقرّر مكانه في نيابة حلب الأمير منجك اليوسفيّ، وأمسك الأمير صرغتمش في شهر رمضان منها، وكانت حرب بين مماليكه ومماليك السلطان، انتصر فيها المماليك السلطانية، وقبض على عدّة أمراء، فأنعم السلطان على مملوكه يلبغا العمريّ الخاصكيّ بتقدمة ألف عوضا عن تنكر بغا الماردانيّ أمير مجلس بحكم وفاته. وفي سنة ستين فرّ منجك من حلب، فلم يوقف له على خبر، فأقرّ على نيابة حلب الأمير بيدمر الخوارزميّ، وسار لغزو سيس فأخذ أدنه بأمان وأخذ طرسوس والمصيصة وعدّة بلاد وأقام بها نوّابا وعاد، فلما كانت سنة اثنتين وستين عدّى السلطان إلى برّ الجيزة وأقام بناحية كوم برا مدّة طويلة لوباء كان بالقاهرة، فتنكر الحال بينه وبني الأمير يلبغا إلى ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى، فركب السلطان في جماعة ليكبس على الأمير يلبغا، وكان قد أحسن بذلك وخرج عن الخيام وكمن بمكان وهو لابس في جماعته، فلم يظفر السلطان به، ورجع فثار به يلبغا فانكسر بمن معه وفرّ يريد قلعة الجبل، فتبعه يلبغا وقد انضم إليه جمع كثير، ودخل السلطان إلى القلعة فلم يثبت، وركب معه أيدمر الدوادار ليتوجه إلى بلاد الشام، ونزل إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشيّ أمير حاجب، فبعث في الحال إلى الأمير يبلغا يعلمه بمجيء السلطان إليه، فبعث من قبضه هو والأمير أيدمر، ومن حينئذ لم يوقف له على خبر البتة مع كثرة فحص أتباعه وحواشيه عن قبره وما آل إليه أمره، فكانت مدّة ولايته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر وأياما، وكان ملكا حازما مهابا شجاعا صاحب حرمة وافرة وكلمة نافذة ودين متين، حلف غير مرّة أنه ما لاط ولا شرب خمرا ولا زنى، إلّا أنه كان يبخل ويعجب بالنساء، ولا يكاد يصبر عنهنّ، ويبالغ في إعطائهنّ المال، وعادى في دولته أقباط مصر، وقصد اجتثات أصلهم، وكره المماليك، وشرع في إقامة أولاد الناس أمراء، وترك عشرة بنين وست بنات، وكان أشقر أنمش، وقتل وله من العمر بضع وعشرون سنة، ولم يكن قبله ولا بعده في الدولة التركية مثله.

جامع القرافة

جامع القرافة هذا الجامع يعرف الآن بجامع الأولياء، وهو القرافة الكبرى، وكان موضعه يعرف في القديم عند فتح مصر بخطة المغافر، وهو مسجد بني عبد الله بن مانع بن مورع يعرف بمسجد القبة. قال القضاعيّ: كان القرّاء يحضرون فيه، ثم بني عليه المسجد الجامع الجديد، بنته السيدة المعزية في سنة ست وستين وثلاثمائة وهي أمّ العزيز بالله نزار ولد المعز لدين الله، أمّ ولد من العرب يقال لها تغريد، وتدعى درزان، وبنته على يد الحسن بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب في شهر رمضان من السنة المذكورة، وهو على نحو بناء الجامع الأزهر بالقاهرة، وكان بهذا الجامع بستان لطيف في غربيه وصهريج، وبابه الذي يدخل منه ذو المصاطب الكبير الأوسط تحت المنار العالي الذي عليه مصفح بالحديد إلى حضرة المحراب، والمقصورة من عدّة أبواب، وعدّتها أربعة عشر بابا مربعة مطوّبة الأبواب، قدّام كلّ باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف، وهو مكندج مزوّق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ، وفيه مواضع مدهونة، والسقوف مزوّقة ملوّنة كلها، والحنايا والعقود التي على العمد مزوّقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبني المعلم المزوّقين شيوخ الكتاميّ والنازوك، وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوّقة في منحنى حافتيها شاذوران مدرّج بدرج وآلات سود وبيض وحمر وخضر وزرق وصفر، إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها شائلا رأسه إليها ظنّ أن المدرّج المزوّق كأنه خشب كالمقرنص، وإذا أتى إلى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أوّل القوس منها ورفع رأسه، رأى ذلك الذي توهمه مسطحا لا نتوء فيه، وهذه من أفخر الصنائع عند المزوّقين، وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم، وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها، فما يقدرون، وقد جرى مثل ذلك للقصير وابن عزيز في أيام البازوريّ سيد الوزراء الحسن بن عليّ بن عبد الرحمن، وكان كثيرا ما يحرّض بينهما ويغري بعضهما على بعض لانه كان أحبّ ما إليه كتاب مصوّرا، أو النظر إلى صورة، أو تزويق. ولما استدعي ابن عزيز من العراق فأفسده، وكان قد أتى به في محاربة القصير لأنّ القصير كان يشتط في أجرته ويلحق عجب فيه صنعته، وهو حقيق بذلك لأنه في عمل الصورة كابن مقلة في الخط، وابن عزيز كابن البوّاب، وقد أمعن شرح ذلك في الكتاب المؤلف فيه، وهو طبقات المصوّرين المنعوت، بضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوّقين من الناس، وكان البازوريّ قد أحضر بمجلسه القصير وابن عزيز فقال ابن عزيز: أنا أصوّر صورة إذا رآها الناظر ظنّ أنها خارجة من الحائط. فقال القصير: لكن أنا أصوّرها فإذا نظرها الناظر ظنّ أنها داخلة في الحائط، فقالوا هذا أعجب، فأمرهما أن يصنعا ما وعدا به، فصوّرا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين، هذه ترى كأنها داخلة في الحائط، وتلك ترى كأنها خارجه من الحائط، فصوّر القصير راقصة بثياب بيض في صورة

حنية دهنها أسود كأنها داخلة في صورة الحنية، وصوّر ابن عزيز راقصة بثياب حمر في صورة جنية صفراء كأنها بارزة من الحنية، فاستحسن البازوريّ ذلك وخلع عليهما ووهبهما كثيرا من الذهب. وكان بدار النعمان بالقرافة من عمل الكتاميّ صورة يوسف عليه السّلام في الجب وهو عريان، والجب كله أسود، إذا نظره الإنسان ظنّ أن جسمه باب من دهن لون الجبّ، وكان هذا الجامع من محاسن البناء، وكان بنو الجوهريّ، يعظمون بهذا الجامع على كرسيّ في الثلاثة أشهر، فتمرّ لهم مجالس مبجلة تروق وتشوق، ويقوم خادمهم وزهر البان، وهو شيخ كبير ومعه زنجلة إذا توسط أحدهم في الوعظ ويقول: وتصدّقي لا تأمني أن تسألي ... فإذا سالت عرفت ذلّ السائل ويدور على الرجال والنساء فيلقى له في الزنجلة ما يسره الله تعالى، فإذا فرغ من التطواف وضع الزنجلة أمام الشيخ، فإذا فرغ من وعظه فرّق على الفقراء ما قسم لهم، وأخذ الشيخ ما قسم له، وهو الباقي، ونزل عن الكرسيّ. وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون به في ليالي الصيف للحديث في القمر في صحنه، وفي الشتاء ينامون عند المنبر، وكان يحصل لقيمه القاضي أبي حفص الأشربة والحلوى وغير ذلك. قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة: حدّثني الأمير أبو عليّ تاج الملك جوهر المعروف بالشمس الجيوشيّ قال: اجتمعنا ليلة جمعة جماعة من الأمراء، بنو معز الدولة، وصالح، وحاتم، وراجح، وأولادهم، وغلمانهم، وجماعة ممن يلوذ بنا، كابن الموفق والقاضي ابن داود، وأبي المجد بن الصيرفيّ، وأبي الفضل روزبة، وأبي الحسن الرضيع، فعملنا سماطا وجلسنا واستدعينا بمن في الجامع وأبي حفص، فأكلنا ورفعنا الباقي إلى بيت الشيخ أبي حفص قيم الجامع، ثم تحدّثنا ونمنا، وكانت ليلة باردة، فنمنا عند المنبر وإذا إنسان نصف الليل ممن نام في هذا الجامع من عابري السبيل قد قام قائما وهو يلطم على رأسه ويصيح وامالاه وا مالاه، فقلنا له: ويلك ما شأنك وما الذي دهاك ومن سرقك وما سرق لك؟ فقال: يا سيدي أنا رجل من أهل طرا يقال لي أبو كريت الحاوي، أمسى عليّ الليل ونمت عندكم وأكلت من خيركم، وسع الله عليكم، ولي جمعة أجمع في سلتي من نواحي طرا والحيّ الكبير والجبل، كل غريبة من الحيات والأفاعي ما لم يقدر عليه قط حاو غيري، وقد انفتحت الساعة السلة وخرجت الأفاعي وأنا نائم لم أشعر. فقلت له: إيش تقول: فقال: أي والله يا للنجدات، فقلنا: يا عدوّ الله أهلكتنا ومعنا صبيان وأطفال؟ ثم إنّا نبهنا الناس وهربنا إلى المنبر وطلعنا وازدحمنا فيه، ومنا من طلع على قواعد العمد فتسلق وبقي واقفا، وأخذ ذلك الحاوي يحسس وفي يده كنف الحيات ويقول: قبضت الرقطاء، ثم يفتح السلة ويضع فيها، ثم يقول قبضت أم قرنين ويفتح ويضع فيها، ويقول قبضت الفلانيّ والفلانية من الثعابين والحيات وهي معه بأسماء، ويقول أبو تليس وأبو زعير

ونحن ونقول ايه؟ إلى أن قال: بس انزلوا ما بقي عليّ همّ، ما بقي يهمكم كبير شيء، قلنا كيف؟ قال ما بقي إلّا البتراء ورأسين انزلوا، فما عليكم منهما. قلنا كذا عليك لعنة الله يا عدوّ الله لا نزلنا للصبح فالمغرور من تغرّه. وصحنا بالقاضي أبي حفص القيم فأوقد الشمعة ولبس صباغات الخطيب خوفا على رجليه، وجاء فنزلنا في الضوء وطلعنا المئذنة فنمنا إلى بكرة، وتفرّق شملنا بعد تلك الليلة، وجمع القاضي القيم عياله ثاني يوم وأدخلوا عصيا تحت المنبر وسعفا وشالوا الحصر فلم يظهر لهم شيء، وبلغ الحديث والي القرافة ابن شعلة الكتاميّ، فأخذ الحاوي فلم يزل به حتى جمع ما قدر عليه وقال: ما أخليه إلّا إلى السلطان، وكان الوزير إذ ذاك يانس الأرمنيّ. وهذه القضية تشبه قضية جرت لجعفر بن الفضل بن الفرات وزير مصر المعروف بابن جرابة، وذلك أنه كان يهوى النظر إلى الحيات والأفاعي والعقارب وأم أربعة وأربعين وما يجري هذا المجرى من الحشرات، وكان في داره قاعة لطيفة مرخمة فيها سلل الحيات ولها قيم فرّاش حاو من الحواة، ومعه مستخدمون برسم الخدمة ونقل السلال وحطها، وكان كلّ حاو في مصر وأعمالها يصيد ما يقدر عليه من الحيات، ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها، وفي الكبار وفي الغريبة المنظر، وكان الوزير يثبهم على ذلك أو في ثواب، ويبذل لهم الجمل حتى يجتهدوا في تحصيلها، وكان له وقت يجلس فيه على دكه مرتفعة ويدخل المستخدمون والحواة فيخرجون ما في السلل ويطرحونه على ذلك الرخام، ويحرّشون بين الهوام وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه، فلما كان ذات يوم أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب وكان من أعيان كتاب أيامه وديوانه، وكان عزيزا عنده، وكان يسكن إلى جوار دار ابن الفرات يقول له فيها: نشعر الشيخ الجليل أدام الله سلامته، أنه لما كان البارحة عرض علينا الحواة الحشرات الجاري بها العادات، انساب إلى داره منها الحية البتراء، وذات القرنين، والعقربان الكبير، وأبو صوفة، وما حصلوا لنا إلّا بعد عناء ومشقة وبجملة بذلناها للحواة، ونحن نأمر الشيخ وفقه الله بالتقدّم إلى حاشيته وصبيته بصون ما وجد منها إلى أن تنفذ الحواة لأخذها وردّها إلى سللها، فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها، أتاني أمر سيدنا الوزير خلد الله نعمته وحرس مدّته بما أشار إليه في أمر الحشرات، والذي يعتمد عليه في ذلك أن الطلاق يلزمه ثلاثا إن بات هو وأحد من أهله في الدار والسلام. وفي سنة ست عشرة وخمسائة أمر الوزير أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالأجلّ المأمون البطائحيّ، وكيله أبا البركات محمد بن عثمان، برمّ شعث هذا الجامع وأن يعمر بجانبه طاحونا للسبيل، ويبتاع لها الدواب ويتخير من الصالحين الساكنين بالقرافة من يجعله أمينا عليها، ويطلق له ما يكفيه مع علف الدواب وجميع المؤن، ويشترط عليه أن يواسي بين الضعفاء ويحمل عنهم كلفة طحن أقواتهم، ويؤدّي الأمانة فيها، ولم يزل هذا

جامع الجيزة

الجامع على عمارته إلى أن احترق في السنة التي احترق فيها جامع عمرو بن العاص سنة أربع وستين وخمسمائة، عند نزول مرى ملك الفرنج على القاهرة وحصارها كما تقدّم ذكره عند ذكر خراب الفسطاط من هذا الكتاب، وكان الذي تولى إحراق هذا الجامع ابن سماقة بإشارة الأستاذ مؤتمن الخلافة جوهر، وهو الذي أمر المذكور بحريق جامع عمرو بمصر، وسئل عن ذلك فقال: لئلا يخطب فيه لبني العباس. ولم يبق من هذا الجامع بعد حريقه سوى المحراب الأخضر، وكان مؤذن هذا الجامع في أيام المستنصر ابن بقاء المحدّث ابن بنت عبد الغنيّ بن سعيد الحافظ، ثم جدّدت عمارة هذا الجامع في أيام المستنصر بعد حريقه، وأدركته لما كانت القرافة الكبرى عامرة بسكنى السودان التكاررة، وهو مقصود للبركة. فلما كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة، قلّ الساكن بالقرافة وصار هذا الجامع طول الأيام مغلوقا، وربما أقيمت فيه الجمعة. جامع الجيزة بناه محمد بن عبد الله الخازن في المحرّم سنة خمسين وثلاثمائة بأمر الأمير عليّ بن عبد الله بن الإخشيد، فتقدّم كافور إلى الخازن ببنائه، فإنه كان قد هدمه النيل وسقط في سنة أربعين وثلاثمائة، وعمل له مستغلا، وكان الناس قبل ذلك بالجيزة يصلون الجمعة في مسجد جامع همدان، وهو مسجد مزاحف بن عامر بن بكتل، وقيل أن عقبة بن عامر في إمرته على مصر أمرهم أن يجمعوا فيه. قال التميميّ: وشارف بناء جامع الجيزة مع أبي بكر الخازن أبو الحسن بن جعفر الطحاويّ، واحتاجوا إلى عمد للجامع، فمضى الخازن في الليل إلى كنيسة بأعمال الجيزة فقلع عمدها ونصب بدلها أركانا، وحمل العمد إلى الجامع، فترك أبو الحسن بن الطحاويّ الصلاة فيه مذ ذاك تورّعا. قال التميمي: وقد كان يعني ابن الطحاويّ يصلي في جامع الفسطاط القديم وبعض عمده أو أكثرها ورخامه من كنائس الإسكندرية وأرياف مصر، وبعضه بناء قرّة بن شريك عامل الوليد بن عبد الملك. جامع منجك هذا الجامع يعرف موضعه بالثغرة تحت قلعة الجبل خارج باب الوزير، أنشأه الأمير سيف الدين منجك اليوسفيّ في مدّة وزارته بديار مصر في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وصنع فيه صهريجا، فصار يعرف إلى اليوم بصهريج منجك، ورتب فيه صوفية وقرّر لهم في كل يوم طعاما ولحما وخبزا، وفي كلّ شهر معلوما، وجعل فيه منبرا ورتب فيه خطيبا يصلي بالناس فيه صلاة الجمعة، وجعل على هذا الموضع عدّة أوقاف منها ناحية بلقينة بالغربية، وكانت مرصدة برسم الحاشية، فقوّمت بخمسة وعشرين ألف دينار فاشتراها من بيت المال وجعلها وقفا على هذا المكان.

منجك: الأمير سيف الدين اليوسفيّ، لما امتنع أحمد بن الملك الناصر محمد بن قلاون بالكرك وقام في مملكة مصر بعده أخوه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وكان من محاصرته بالكرك ما كان إلى أن أخذ، فتوجه إليه وقطع رأسه وأحضرها إلى مصر، وكان حينئذ أحد السلاحدارية، فأعطى إمرة بديار مصر وتنقل في الدول إلى أن كانت سلطنة الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاون، فأخرجه من مصر إلى دمشق وجعله حاجبا بها موضع ابن طغريل، فلما قتل الملك المظفر وأقيم بعده أخوه الملك الناصر حسن أقيم الأمير سيف الدين يلبغاروس في نيابة السلطنة بديار مصر، وكان أخا منجك، فاستدعاه من دمشق وحضر إلى القاهرة في ثامن شوّال سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، فرسم له بإمرة تقدمة ألف، وخلع عليه خلع الوزارة فاستقرّ وزيرا وأستادارا، وخرج في دست الوزارة والأمراء في خدمته من القصر إلى قاعة الصاحب بالقلعة، فجلس بالشباك ونفذ أمور الدولة، ثم اجتمع الأمراء وقرأ عليهم أوراقا تتضمن ما على الدولة من المصروف، ووفر من جامكية المماليك مبلغ ستين ألف درهم في الشهر، وقطع كثيرا من جوامك الخدم والجواري والبيوتات السلطانية، ونقص رواتب الدور من زوجات السلطان وجواريه، وقطع رواتب الأغاني، وعرض الإسطبل السلطانيّ وقطع منه عدّة أميراخورية وسراخورية وسوّاس وغلمان، ووفر من راتب الشعير نحو الخمسين إردبا في كل يوم، وقطع جميع الكلابزية وكانوا خمسين جوقة، وأبقى منهم جوقتين، ووفر جماعة من الأسرى والعتالين والمستخدمين في العمائر، وأبطل العمارة من بيت السلطان، وكانت الحوائجخاناه تحتاج في كل يوم إلى أحد وعشرين ألف درهم نقرة، فاقتطع منها مبلغ ثلاثة آلاف درهم، وبقي مصروفها في اليوم ثمانية عشر ألف درهم نقرة، فاقتطع منها مبلغ ثلاثة آلاف درهم، وبقي القاضي موفق الدين ناظر الدولة وعلى القاضي علم الدين بن زنبور ناظر الخواص، ورسم أن لا يستقرّ في المعاملات سوى شاهد واحد وعامل وشاد بغير معلوم، وأغلظ على الكتاب والدواوين وهدّدهم وتوعدهم فخافوه، واجتمع بعضهم ببعض واشتوروا في أمرهم واتفقوا على مال يتوزعونه بينهم على قدر حال كل منهم وحملوه إلى منجك سرّا، فلم يمض من استقراره في الوزارة شهر حتى صار الكتاب وأرباب الدواوين أحباءه وأخلّاءه، وتمكنوا منه أعظم ما كانوا قبل وزارته، وحسنوا له أخذ الأموال، فطلب ولاة الأقاليم وقبض على أقبغا والي الغربية وألزمه بحمل خمسمائة ألف درهم نقرة، وولى عوضه الأمير استدمر القلنجيّ، ثم صرفه وولى بدله قطليجا مملوك بكتمر، واستقرّ باستدمر القلنجي في ولاية القاهرة، وأضاف له التحدّث في الجهات، وولى البحرية لرجل من جهته، وولى قوص لآخر وأوقع الحوطة على موجود إسماعيل الواقدي متولى قوص، وأخذ جميع خواصه، وولي طغاي كشف الوجه القبليّ عوضا عن علاء الدين عليّ بن الكورانيّ، وولى ابن المزوق قوص وأعمالها، وولى مجد الدين موسى الهدبانيّ الأشمونين عوضا عن ابن الأزكشيّ، وتسامعت

الولاة وأرباب الأعمال بأن الوزير فتح باب الأخذ على الولايات، فهرع الناس إليه من جهات مصر والشام وحلب وقصدوا بابه، ورتب عنده جماعة برسم قضاء الأشغال، فأتاهم أصحاب الأشغال والحوائج، وكان السلطان صغيرا حظه من السلطنة أن يجلس بالإيوان يومين في الأسبوع ويجتمع أهل الحل والعقد مع سائر الأمراء فيه، فإذا انقضت خدمة الإيوان خرج الأمير منكليبغا الفخريّ، والأمير بيغرا، والأمير يبلغا تتر والمجديّ، وأرلان وغيرهم من الأمراء، ويدخل إلى القصر الأمير يلبغاروس نائب السلطنة، والأمير سيف الدين منجك الوزير، والأمير سيف الدين شيخو العمريّ، والأمير الجيبغا المظفريّ، والأمير طيبرق، ويتفق الحال بينهم على ما يرونه، هذا والوزير أخو النائب متمكن تمكنا زائدا، وقدم من دمشق جماعة للسعي عند الوزير في وظائف منهم ابن السلعوس وصلاح الدين بن المؤيد وابن الأجل وابن عبد الحق، وتحدّثوا مع ابن الأطروش محتسب القاهرة في أغراضهم، فسعى لهم حتى تقرّروا فيما عينوا. ولما دخلت سنة تسع وأربعين عرف الوزير السلطان والأمراء أنه لما ولي الوزارة لم يجد في الإهراء ولا في بيت المال شيئا، وسأل أن يكون هذا بمحضر من الحكام، فرسم للقضاة بكشف ذلك فركبوا إلى الإهراء بمصر، وإلى بيت المال بقلعة الجبل، وقد حضر الدواوين وسائر المباشرين وأشهدوا عليهم أن الأمير منجك لما باشر الوزارة لم يكن بالإهراء ولا ببيت المال قدح غلة ولا دينار ولا درهم، وقرئت المحاضر على السلطان والأمراء، فلما كان بعد ذلك توقف أمر الدولة على الوزير فشكا إلى الأمراء من كثرة الرواتب، فاتفق الرأي على قطع نحو ستين سوّاقا، فقطعهم ووفر لحومهم وعليقهم وسائر ما باسمهم من الكساوي وغيرها، وقطع من العرب الركابة والنجابة، ومن أرباب الوظائف في بيت السلطان، ومن الكتاب والمباشرين ما جملته في اليوم أحد عشر ألف درهم وفتح باب المقايضات باقطاعات الأجناد، وباب النزول عن الإقطاعات بالمال، فحصل من ذلك مالا كثيرا، وحكم على أخيه نائب السلطنة بسبب ذلك، وصار الجنديّ يبيع إقطاعه لكل من أراد، سواء كان المنزول له جنيدا أو عامّيا، وبلغ ثمن الإقطاع من عشرين ألف درهم إلى ما دونها. وأخذ يسعى أن تضاف وظيفة نظر الخاص إلى الوزارة، وأكثر من الحط على ناظر الخاص، فاحترس ابن زنبور منه وشرع في إبعاده مرّة بعد مرّة مع الأمير شيخو، فمنع شيخو منجك من التحدّث في الخاص وخرج عليه فشق ذلك على منجك وافترقا عن غير رضى، فتغير يلبغاروس النائب على شيخو رعاية لأخيه. وسأل أن يعفى من النيابة، ويعفى منجك من الوزارة، واستقراره في الأستادارية والتحدّث في عمل حفر البحر، وأن يستقرّ أستدمر العمريّ المعروف برسلان بصل في الوزارة، فطلب وكان قد حضر من الكشف وألبس خلع الوزارة في يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر ربيع الأوّل، وكان منجك قد عزل من الوزارة في ثالث ربيع الأوّل المذكور، وتولى أمر شدّ البحر، فجبى من الأجناد من كل مائة

دينار درهما، ومن التجار والمتعيشين في مصر والقاهرة من كل واحد عشرة دراهم إلى خمسة دراهم إلى درهم، ومن أصحاب الأملاك والدور في مصر والقاهرة على كل قاعة ثلاثة دراهم، وعلى كل طبقة درهمين، وعلى كل مخزن أو اصطبل درهما، وجعل المستخرج في خان مسرور بالقاهرة، والمشدّ على المستخرج الأمير بيلك، فجبى مال كبير، وأما استدمر فإن أحوال الدولة توقفت في أيامه، فسأل في الإعفاء فأعفي وأعيد منجك إلى الوزارة بعد أربعين يوما، وقد تمنع تمنعا كبيرا، ولما عاد إلى الوزارة فتح باب الولايات بالمال، فقصده الناس وسعوا عنده، فولى وعزل وأخذ في ذلك مالا كثيرا. فيقال أنه أخذ من الأمير مازان لما نقله من المنوفية إلى الغربية، ومن ابن الغسانيّ لما نقله من الأشمونين إلى البهنساوية، ومن ابن سلمان لما ولاه منوف ستة آلاف دينار، ووفر إقطاع شادّ الدواوين وجعله باسم المماليك السلطانية، ووفر جوامكهم ورواتبهم، وشرع أوباش الناس في السعي عنده في الوظائف والمباشرات بمال، وأتوه من البلاد فقضى أشغالهم ولم يردّ أحدا طلب شيئا، ووقع في أيامه الفناء العظيم، فانحلت إقطاعات كثيرة، فاقتضى رأي الوزير أن يوفر الجوامك والرواتب التي للحاشية، وكتب لسائر أرباب الوظائف وأصحاب الأشغال والمماليك السلطانية مثالات بقدر جوامك كل منهم، وكذلك لأرباب الصدقات، فأخذ جماعة من الأقباط ومن الكتاب ومن الموقعين إقطاعات في نظير جوامكهم، وتوفر في الدولة مال كبير عن الجوامك والرواتب. ولما دخلت سنة خمسين رسم الأمير منجك الوزير لمتولي القاهرة بطلب أصحاب الأرباع، وكتابة جميع أملاك الحارات والأزقة، وسائر أخطاط مصر والقاهرة، ومعرفة أسماء سكانها، والفحص عن أربابها ليعرف من توفر عنه ملك بموته في الفناء، فطلبوا الجميع وأمعنوا في النظر، فكان يوجد في الحارة الواحدة والزقاق الواحد ما يزيد على عشرين دارا خالية لا يعرف أربابها، فختموا على ما وجدوه من ذلك ومن الفنادق والخانات والمخازن حتى يحضر أربابها. وفي شعبان عزل ولاة الأعمال وأحضرهم إلى القاهرة، وولى غيرهم وأضاف إلى كل وال كشف الجسور التي في عمله، وضمن الناس سائر جهات القاهرة ومصر، بحيث أنه لا يتحدّث أحد معه من المقدّمين والدواوين والشادّين، وزاد في المعاملات ثلاثمائة ألف درهم، وخلع عليه ونودي له بمصر والقاهرة، فاشتدّ ظلمه وعسفه وكثرت حوادثه. فلما كانت ليالي عيد الفطر، عرّف الوزير الأمراء أن سماط العيد ينصرف عليه جملة ولا ينتفع به أحد، فأبطله ولم يعمل تلك السنة. وفي ذي القعدة توقف حال الدولة ووقف مماليك السلطان وسائر المعاملين والحوائجكاشية، وانزعج السلطان والأمراء بسبب ذلك على الوزير، فاحتج بكثرة الكلف، وطلب الموفق ناظر الدولة فقال: إن الإنعامات قد كثرت والكلف تزايدت، وقد كانت الحوائجخاناه في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في اليوم ينصرف فيها مبلغ ثلاثة عشر ألف درهم، واليوم ينصرف فيها اثنان

وعشرون ألف درهم، فكتبت أوراق بمتحصل الدولة ومصروفها، وبمتحصل الخاص ومصروفه، فجاءت أوراق الدولة ومتحصلها عشرة آلاف ألف درهم، وكلفها أربعة عشر ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم، ووجد الأنعام من الخاص والجيش بما خرج من البلاد زيادة على إقطاعات الأمراء، فكان زيادة على عشرين ألف دينار سوى جملة من الغلال، وأن الذي استجدّ على الدولة من حين وفاة الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين إلى مستهل المحرّم سنة خمسين وسبعمائة. وكانت جملة الإنعامات والإقطاعات بنواحي الصعيد والفيوم وبلاد الملك والوجه البحريّ وما أعطى من الرزق للخدّام والجواري سبعمائة ألف ألف وألف ألف وستمائة ألف، معينة بأسماء أربابها من أمير وخادم وجارية، وكانت النساء قد أسرفن في عمل القمصان والبغالطيق، حتى كان يفضل من القميص كثير على الأرض، وسعة الكم ثلاثة أذرع، ويسمينه البهطلة، وكان يغرم على القميص ألف درهم وأكثر، وبلغ إزار المرأة إلى ألف درهم، وبلغ الخف والسرموزة إلى خمسمائة درهم، وما دونها إلى مائة درهم. فأمر الوزير منجك بقطع أكمام النساء وأخرق بهنّ، وأمر الوالي بتتبع ذلك، ونودي بمنع النساء من عمل ذلك، وقبض على جماعة منهنّ، وركب على سور القاهرة صور نساء عليهنّ تلك القمصان بهيئة نساء قد قتلن عقوبة على ذلك، فانكففن عن لبسها، ومنع الأساكفة من عمل الأخفاف المثمنة، ونودي في القياسر من باع إزار حرير ماله للسلطان، فنودي على إزار ثمنه سبعمائة وعشرون درهما فبلغ ثمانين درهما ولم يجسر أحد أن يشتريه، وبالغ الوزير في الفحص عن ذلك حتى كشف دكاكين غسالي الثياب وقطع ما وجد من ذلك، فامتنع النساء من لبس ما أحدثنه من تلك المنكرات، ولما عظم ضرر الفار أيضا من كثرة شكاية الناس فيه، فلم يسمع فيه الوزير قولا، وقام في أمره الأمير مغلطاي أميراخور، فاستوحش منه الوزير، واتفق أنه كان قد حج محمد بن يوسف مقدّم الدولة في محمل كبير بلغ عليق جماله في اليوم مائتي عليقة، ولما قدم في المحرّم مع الحاج أهدى للنائب وللوزير وللأمير طاز وللأمير صرغتمش هدايا جليلة، ولم يهد للأمير شيخو، ولا للأمير مغلطاي شيئا، ثم لما عاب عليه الناس ذلك أهدى بعد عدّة أيام للأمير شيخو هديه فردّها عليه، ثم أنه أنكر على الوزير في مجلس السلطان ما يفعله ولاة البر وما عليه مقدّم الدولة من كثرة المال، وأغلظ في القول، فرسم بعزل الولاة والقبض على المقدّم محمد بن يوسف وابن عمه المقدّم أحمد بن زيد، فلم يسع الوزير غير السكوت. فلما كان في رابع عشري شوّال سنة إحدى وخمسين، قبض على الوزير منجك وقيد ووقعت الحوطة على سائر حواصله، فوجدت له زردخاناه حمل خمسين جملا، ولم يظهر من النقد كثير مال، فأمر بعقوبته. فلما خوّف أقرّ بصندوق فيه جوهر وقال: سائر ما كان يتحصل لي من النقد كنت اشتري به أملاكا وضياعا وأصناف المتاجر، فأحيط بسائر أمواله وحمل إلى الإسكندرية مقيدا، واستقرّ الأمير بلبان السنانيّ نائب الكبيرة أستادارا عوض منجك

بعد حضوره منها، وأضيفت الوزارة إلى القاضي علم الدين بن زنبور ناظر الخاص، فلم يزل منجك مسجونا بالإسكندرية إلى أن خلع الملك الناصر حسن وأقيم بدله في المملكة أخوه الملك الصالح صالح، فأمر بالإفراج عن الأمير شيخو والأمير منجك فحضرا إلى القاهرة في رجب سنة اثنتين وخمسين، ولما استقرّ الأمير منجك بالقاهرة بعث إليه الأمير شيخو خمس رؤوس خيل وألفي دينار، وبعث إليه جميع الأمراء بالتقادم، وأقام بطالا يجلس على حصير فوقه ثوب سرج عتيق، وكلما أتاه أحد من الأمراء يبكي ويتوجع ويقول أخذ جميع مالي حتى صرت على الحصير، ثم كتب فتوى تتضمن أن رجلا مسجونا في قيد هدّد بالقتل إن لم يبع أملاكه، وأنّه خشي على نفسه القتل، فوكل في بيعها. فكتب له الفقهاء لا يصح بيع المكره. ودار على الأمراء وما زال بهم حتى تحدّثوا له مع السلطان في ردّ أملاكه عليه، فعارضهم الأمير صرغتمش، ثم رضي أن يردّ عليه من أملاكه ما أنعم به السلطان على مماليكه، فاستردّ عدّة أملاك وأقام إلى أن قام يلبغاروس بحلب فاختفى منجك وطلب فلم يوجد، وأطلق النداء عليه بالقاهرة ومصر وهدّد من أخفاه، وألزم عربان العائد باقتفاء أثره فلم يوقف له على خبر، وكبس عليه عدّة أماكن بالقاهرة ومصر وفتش عليه حتى في داخل الصهريج الذي بجامعه فأعيى أمره، وأدرك السلطان السفر لحرب يلبغاروس فشرع في ذلك إلى يوم الخميس رابع شعبان، فخرج الأمير طاز بمن معه. وفي يوم الاثنين سابعه، عرض الأمير شيخو والأمير صرغتمش أطلابهما، وقد وصل الأميرا طاز إلى بلبيس فحضر إليه من أخبره أنه رأى بعض أصحاب منجك، فسير إليه وأحضره وفتشه فوجد معه كتاب منجك إلى أخيه يلبغاروس، وفيه أنه مختف عند الحسام الصفديّ استاداره، فبعث الكتاب إلى الأمير شيخو فوافاه والأطلاب خارجة، فاستدعى بالحسام وسأله فأنكر فعاقبه الأمير صرغتمش فلم يعترف، فركب إلى بيت الحسام بجوار الجامع الأزهر وهجمه فإذا بمنجك ومعه مملوك، فكتفه وسار به مشهورا بين الناس وقد هرعوا من كلّ مكان إلى القلعة، فسجن بالإسكندرية إلى أن شفع فيه الأمير شيخو فأفرج عنه في ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين، ورسم أن يتوجه إلى صفد بطالا، فسار إليها من غير أن يعبر إلى القاهرة، فلما خلع الملك الصالح صالح وأعيد السلطان حسن في شوّال منها، نقل منجك من صفد وأنعم عليه بنيابة طرابلس عوضا عن أيتمش الناصريّ، فسار إليها وأقام بها إلى أن قبض على الأمير طاز نائب حلب في سنة تسع وخمسين، فولي منجك عوضا عنه ولم يزل بحلب إلى أن فرّ منها في سنة ستين، فلم يعرف له خبر، وعوقب بسببه خلق كثير، ثم قبض عليه بدمشق في سنة إحدى وستين فحمل إلى مصر وعليه بشت صوف عسليّ، وعلى رأسه مئزر صوف، فلم يؤاخذه السلطان وأعطاه إمرة طبلخاناه ببلاد الشام، وجعله طرخاناه يقيم حيث شاء من البلاد الإسلامية، وكتب له بذلك. فلما قتل السلطان حسن وأقيم من بعده في المملكة الملك المنصور محمد بن المظفر حاجي في جمادى الأولى سنة

الجامع الأخضر

اثنتين وستين، خامر الأمير بيدمر نائب الشام على الأمير يلبغا العمريّ القائم بتدبير دولة الملك المنصور، ووافقه جماعة من الأمراء منهم الأمير منجك، فخرج الأمير يلبغا بالمنصور والعساكر من قلعة الجبل إلى البلاد الشامية، فوافى دمشق ومشى الناس بينه وبين الأمير بيدمر حتى تمّ الصلح، وحلف الأمير يلبغا أنه لا يؤذي بيدمر ولا منجك، فنزلا من قلعة دمشق وقيدهما وبعث بهما إلى الإسكندرية فسجنا بها إلى أن خلع الأمير يلبغا المنصور وأقام بدله الملك الأشرف شعبان بن حسين وقتل الأمير يلبغا، فأفرج الملك الأشرف عن منجك وولاه نيابة السلطنة بدمشق عوضا عن الأمير عليّ الماردانيّ في جمادى الأولى سنة تسع وستين، فلم يزل في نيابة دمشق إلى أن حضر إلى السلطان زائرا في سنة سبعين بتقادم كثيرة جليلة، وعاد إلى دمشق وأقام بها إلى أن استدعاه السلطان في سنة خمس وسبعين إلى مصر وفوّض إليه نيابه السلطنة بديار مصر، وعمله أتابك العساكر وجعل تدبير المملكة إليه، وأن يخرج الأمّهات للبلاد الشامية، وأن يولي ولاة أقاليم مصر والكشاف ويخرج الإقطاعات بمصر من عبرة ستمائة دينار إلى ما دونها، وكانت عادة النوّاب قبله أن لا يخرج من الإقطاعات إلّا ما عبرته أربعمائة دينار فما دونها، فعمل النيابة على قالب جائر وحرمة وافرة إلى أن مات حتف أنفه في يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة ست وسبعين وسبعمائة، وله من العمر نيف وستون سنة، وشهد جنازته سائر الأعيان، ودفن بتربته المجاورة لجامعه هذا، وله سوى الجامع المذكور من الآثار بديار مصر خان منجك في القاهرة، ودار منجك برأس سويقة العزي بالقرب من مدرسة السلطان حسن، وله بالبلاد الشامية عدّة آثار من خانات وغيرها رحمه الله. الجامع الأخضر هذا الجامع خارج القاهرة بخط فم الخور، عرف بذلك لأنّ بابه وقبته فيهما نقوش وكتابات خضر، والذي أنشأه خازندار الأمير شيخو واسمه ... «1» . جامع البكجريّ هذا الجامع بحكر البكجريّ قريبا من الدكة، تعطلت الصلاة فيه منذ خربت تلك الجهات. جامع السروجيّ هذا الجامع بحكر ... «2» .

جامع كرجي

جامع كرجي هذا الجامع بحكر أقوش. جامع الفاخريّ هذا الجامع بسويقة الخادم الطواشي شهاب الدين فاخر المنصوريّ مقدّم المماليك السلطانية، ومات في سابع ذي الحجة سنة سبع وثمانمائة، وكان ذا مهابة وأخلاق حسنة مع سطوة شديدة، ولهم بلبان الفاخريّ الأمير سيف الدين نقيب الجيوش، مات في سنة سبع وتسعين وستمائة، وولي نقابة الجيش بعد طيبرس الوزيريّ، وكان جوادا عارفا بأمر الأجناد خيرا كثير الترف. جامع ابن عبد الظاهر هذا الجامع بالقرافة الصغرى قبليّ قبر الليث بن سعد، كان موضعه يعرف بالخندق، أنشأه القاضي فتح الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر الجذاميّ السعديّ الروحيّ من ولد روح بن زنباع الجذاميّ، بجوار قبر أبيه، وأوّل ما أقيمت به الخطبة في يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وكان يوما مشهودا لكثرة من حضر من الأعيان. ولد بالقاهرة في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع من ابن الجميزيّ وغيره، وحدّث وكتب في الإنشاء، وساد في دولة المنصور قلاون بعقله ورأيه وهمته، وتقدّم على والده القاضي محيي الدين وهو ماهر في الإنشاء والكتابة، بحيث كان من جملة من يصرّفهم بأمره ونهيه، وكان الملك المنصور يعتمد عليه ويثق به، ولما ولي القاضي فخر الدين بن لقمان الوزارة قال له الملك المنصور: من يلي عوضك كتابة السرّ؟ فقال القاضي: فتح الدين بن عبد الظاهر، فولّاه كتابة السرّ عوضا عن ابن لقمان، وتمكن من السلطان وحظي عنده، حتى أنّ الوزير فخر الدين بن لقمان ناول السلطان كتابا فأحضر ابن عبد الظاهر لقراءته على عادته، فلما أخذ الكتاب من السلطان أمر الوزير أن يتأخر حتى يقرأه فتأخر الوزير، ثم إن ابن لقمان صرف عن الوزارة وأعيد إلى ديوان الإنشاء فتأدّب معه، فلما ولي وزارة الملك الأشرف خليل بن قلاون شمس الدين بن السلعوس قال لفتح الدين: اعرض عليّ كل يوم ما تكتبه. فقال: لا سبيل لك إلى ذلك ولا يطلع على أسرار السلطان إلّا هو، فإن اخترتم وإلّا عينوا عوضي، فلما بلغ السلطان ذلك قال: صدق ولم يزل على حاله إلى أن مات، وأبوه حيّ بدمشق في النصف من شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فوجد في تركته قصيدة مرثية قد عملها في رفيقه تاج الدين أحمد بن سعيد بن محمّد بن الأثير لما مرض وطال مرضه، فاتفق أن عوفي ابن الأثير ولم يتأخر ابن عبد الظاهر بعد عافيته سوى ليال يسيرة ومرض ومات، فرثاه ابن الأثير بعد موته وولى

جامع بساتين الوزير التي على بركة الحبس جامع الخندق

وظيفة كتابة السرّ عوضا عنه، ولم يكن ابن عبد الظاهر مجيدا في صناعة الإنشاء إلّا أنه دبر الديوان وباشره أحسن مباشرة ومن شعره: إن شئت تنظرني وتنظر حالتي ... فانظر إذا هبّ النسيم قبولا فتراه مثلي رقة ولطافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا فهو الرسول إليك مني ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا ولم يزل هذا الجامع عامرا إلى أن حدثت المحن في سنة ست وثمانمائة، واختلت القرافة لخراب ما حوله، وهو اليوم قائم على أصوله. جامع بساتين الوزير التي على بركة الحبس «1» جامع الخندق هذا الجامع بناحية الخندق خارج القاهرة، ولم يزل عامرا بعمارة الخندق، فلما خربت مساكن الخندق تلاشى أمره ونقلت منه الجمعة وبقي معطلا إلى شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، فأخذ الأمير طوغان الحسنيّ الدوادار عمده الرخام وسقوفه وترك جدرانه ومنارته، وهي باقية وعما قليل تدثر كما دثر غيرها مما حولها. جامع جزيرة الفيل «2» جامع الطواشي هذا الجامع خارج القاهرة فيما بين باب الشعرية وباب البحر، أنشأه الطواشي جوهر السحرتيّ اللالا، وهو من خدّام الملك الناصر محمد بن قلاون، ثم إنه تأمّر في تاسع عشري شهر رجب سنة خمس وأربعين وسبعمائة. جامع كراي هذا الجامع بالريدانية خارج القاهرة، عمره الأمير سيف الدين كراي المنصوريّ في سنة إحدى وسبعمائة لكثرة ما كان هناك من السكان، فلما خربت تلك الأماكن تعطل هذا الجامع وهو الآن قائم وجميع ما حوله داثر، وعما قليل يدثر. جامع القلعة هذا الجامع بقلعة الجبل أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان عشرة

جامع قوصون

وسبعمائة، وكان أوّلا مكانه جامع قديم وبجواره المطبخ السلطانيّ والحوائجخاناه والفراشخاناه، فهدم الجميع وأدخلها في هذا الجامع، وعمره أحسن عمارة وعمل فيه من الرخام الفاخر الملوّن شيئا كثيرا، وعمر فيه قبة جليلة وجعل عليه مقصورة من حديد بديعة الصنعة، وفي صدر الجامع مقصورة من حديد أيضا برسم صلاة السلطان، فلما تمّ بناؤه جلس فيه السلطان بنفسه واستدعى جميع المؤذنين بالقاهرة ومصر وسائر الخطباء والقرّاء، وأمر الخطباء فخطب كلّ منهم بين يديه، وقام المؤذنون فأذنوا، وقرأ القرّاء، فاختار الخطيب جمال الدين محمد بن محمد بن الحسن القسطلانيّ خطيب جامع عمرو وجعله خطيبا بهذا الجامع، واختار عشرين مؤذنا رتبهم فيه، وجعل به قراء ودرسا وقاريء مصحف، وجعل له من الأوقاف ما يفضل عن مصارفه، فجاء من أجلّ جوامع مصر وأعظمها وبه إلى اليوم يصلي سلطان مصر صلاة الجمعة، والذي يخطب فيه ويصلي بالناس الجمعة قاضي القضاة الشافعيّ. جامع قوصون هذا الجامع داخل باب القرافة تجاه خانقاه قوصون، أنشأه الأمير سيف الدين قوصون، وعمر بجانبه حماما، فعمرت تلك الجهة من القرافة بجماعة الخانقاه والجامع، وهو باق إلى يومنا. جامع كوم الريش هذا الجامع عمارة دولات شاه. جامع الجزيرة الوسطى أنشأه الطواشي مثقال خادم تذكار ابنة الملك الظاهر بيبرس وهو عامر إلى يومنا هذا. جامع ابن صارم هذا الجامع بخط بولاق خارج القاهرة أنشأه محمد بن صارم شيخ بولاق فيما بين بولاق وباب البحر. جامع الكيمختي هذا الجامع يعرف اليوم بجامع الجنيّة، وهو بجانب موضع الكيمخت على شاطىء الخليج من جملة أرض الطبالة، كان موضعه دارا اشتراها معلم الكيمخت، وكان يعرف بالحمويّ، وعملها جامعا فضمن المعلم بعده رجل يعرف بالرومي فوقف عليه مواضع وجدّد له مئذنة في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانمائة، ووسع في الجامع قطعة كانت

جامع الست مسكة

منشرا، وكان قبل ذلك قد جدّد عمارته شخص يعرف بالفقيه زين الدين ريحان بعد سنة تسعين وسبعمائة، وعمر بجانبه مساكن، وهو الآن عامر بعمارة ما حوله. جامع الست مسكة هذا الجامع بالقرب من قنطرة آق سنقر التي على الخليج الكبير خارج القاهرة، أنشأته الست مسكة جارية الملك الناصر محمد بن قلاون، وأقيمت فيه الجمعة عاشر جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وقد ذكرت مسكة هذه عند ذكر الأحكار. جامع ابن الفلك هذا الجامع بسويقة الجميزة من الحسينية خارج القاهرة، أنشأه مظفر الدين بن الفلك. جامع التكروريّ هذا الجامع في ناحية بولاق التكروريّ، وهذه الناحية من جملة قرى الجيزة، كانت تعرف بمنية بولاق، ثم عرف ببولاق التكروريّ، فإنه كان نزل بها الشيخ أبو محمد يوسف بن عبد الله التكروريّ، وكان يعتقد فيه الخير وجرّبت بركة دعائه وحكيت عنه كرامات كثيرة، منها أن امرأة خرجت من مدينة مصر تريد البحر، فأخذ السودان ابنها وساروا به في مركب وفتحوا القلع، فجرت السفينة وتعلقت المرأة بالشيخ تستغيث به، فخرج من مكانه حتى وقف على شاطيء النيل ودعا الله سبحانه وتعالى فسكن الريح ووقفت السفينة عن السير، فنادى من في المركب يطلب منهم الصبيّ فدفعوه إليه وناوله لأمّه، وكان بمصر رجل دباغ أتاه عفص فأخذه منه أصحاب السلطان، فأتى إلى الشيخ وشكا إليه ضرورته، فدعا ربه فردّ الله عليه عفصه بسؤال أصحاب السلطان له في ذلك، وكان يقال له لم لا تسكن المدينة فيقول: إني أشمّ رائحة كريهة إذا دخلتها. ويقال أنه كان في خلافة العزيز بن المعز، وأن الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ جمع له جزأ في مناقبه، ولما مات بني عليه قبة وعمل بجانبه جامع جدّده ووسعه الأمير محسن الشهابيّ مقدّم المماليك، وولى تقدمة المماليك عوضا عن الطواشي عنبر السحرتيّ، أوّل صفر سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ومات في ... «1» ثم أن النيل مال على ناحية بولاق هذه فيما بعد سنة تسعين وسبعمائة، وأخذ منها قطعة عظيمة كانت كلها مساكن، فخاف أهل البلدان أن يأخذ ضريح الشيخ والجامع لقربهما منه، فنقلوا الضريح والجامع إلى داخل البلد وهو باق إلى يومنا هذا.

جامع البرقية

جامع البرقية هذا الجامع بالقرب من باب البرقية بالقاهرة، عمره الأمير مغلطاي الفخريّ أخو الأمير الماس الحاجب، وكمل في المحرّم سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان ظالما عسوفا متكبرا جبارا، قبض عليه مع أخيه الماس في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وقتل معه. جامع الحرّانيّ هذا الجامع بالقرافة الصغرى في بحري الشافعيّ، عمره ناصر الدين بن الحرّانيّ الشرابيشيّ في سنة تسع وعشرين وسبعمائة. جامع بركة هذا الجامع بالقرب من جامع ابن طولون، يعرف خطه بحدرة ابن قميحة، عمره شخص من الجند يعرف ببركة، كان يباشر أستادارية الأمراء ومات بعد سنة إحدى وثمانمائة. جامع بركة الرطليّ هذا الجامع كان يعرف موضعه ببركة الفول من جملة أرض الطبالة، فلما عمرت بركة الرطليّ كما تقدّم ذكره أنشئ هذا الجامع، وكان ضيقا قصير السقف، وفيه قبة تحتها قبر يزار، وهو قبر الشيخ خليل بن عبد ربه خادم الشيخ عبد العال، وتوفي في المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، فلما سكن الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن بركة البشريّ بجوار هذا الجامع هدمه ووسع فيه وبناه هذا البناء في سنة أربع عشرة وثمانمائة. وولد البشريّ في سابع ذي القعدة سنة ست وستين وسبعمائة، وتنقل في الخدم الديوانية حتى ولي نظر الدولة إلى أن قتل الأمير جمادي الدين يوسف الأستادار، فاستقرّ بعده في الوزارة بسفارة فتح الدين فتح الله بن كاتب السرّ في يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، فباشر الوزارة بضبط جيد لمعرفته الحساب والكتابة، إلّا أنها كانت أيام محن احتاج فيها إلى وضع يده وأخذ الأموال بأنواع الظلم، فلما قتل الملك الناصر فرج واستبدّ الملك المؤيد شيخ صرفه عن الوزارة في يوم الخميس خامس جمادى الأولى سنة ست عشرة وثمانمائة، ودفن بالقرافة، وهذا الجامع عامر بعمارة ما حوله. جامع الضوة هذا الجامع فيما بين الطبلخاناه السلطانية وباب القلعة المعروف بباب المدرّج على رأس الضوّة، أنشأه الأمير الكبير شيخ المحمودي لما قدم من دمشق بعد قتل الملك الناصر فرج، وإقامة الخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله العباسيّ ابن محمد في سنة خمس عشرة

جامع الحوش

وثمانمائة، وسكن بالإصطبل السلطانيّ فشرع في بناء دار يسكنها، فلما استبدّ بسلطنة مصر وتلقب بالملك المؤيد استغنى عن هذه الدار، وكانت لم تكمل، فعملها جامعا وخانقاه، وصارت الجمعة تقام به. جامع الحوش هذا الجامع في داخل قلعة الجبل بالحوش السلطانيّ، أنشأه السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، فصار يصلي فيه الخدّام وأولاد الملوك من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن قتل الناصر فرج. جامع الاصطبل هذا الجامع في الإصطبل السلطانيّ من قلعة الجبل عمره ... «1» . جامع ابن التركمانيّ» هذا الجامع بالمقس خارج القاهرة. جامع ... «3» هذا الجامع بخط السبع سقايات فيما بين القاهرة ومصر يطلّ على بركة قارون أنشأه ... «4» . جامع الباسطيّ هذا الجامع في بولاق خارج القاهرة، أدركت موضعه وهو مطلّ على النيل طول السنة، أنشأه شخص من عرض الفقهاء يعرف ... «5» في سنة سبع عشرة وثمانمائة. جامع الحنفيّ هذا الجامع خارج القاهرة أنشأه الشيخ شمس الدين محمد بن حسن بن عليّ الحنفيّ، في سنة سبع عشرة وثمانمائة. جامع ابن الرفعة هذا الجامع خارج القاهرة بحكر الزهريّ، أنشأه الشيخ فخر الدين عبد المحسن بن الرفعة بن أبي المجد العدويّ.

جامع الإسماعيلي

جامع الإسماعيليّ أنشأه الأمير أرغون الإسماعيليّ على البركة الناصرية في شعبان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. جامع الزاهد هذا الجامع بخط المقس خارج القاهرة، كان موضعه كوم تراب فنقله الشيخ المعتقد أحمد بن ... «1» المعروف بالزاهد، وأنشأ موضعه هذا الجامع، فكمل في شهر رمضان سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وهدم بسببه عدّة مساجد قد خرب ما حولها، وبني بأنقاضها هذا الجامع، وكان ساكنا مشهورا بالخير يعظ الناس بالجامع الأزهر وغيره، ولطائفة من الناس فيه عقيدة حسنة، ولم يسمع عنه إلّا خير، مات يوم الجمعة سابع عشر شهر ربيع الأوّل سنة تسع عشرة وثمانمائة، أيام الطاعون ودفن بجامعه. جامع ابن المغربيّ هذا الجامع بالقرب من بركة قرموط مطلّ على الخليج الناصريّ، أنشأه صلاح الدين يوسف بن المغربيّ رئيس الأطباء بديار مصر وبنى بجانبه قبة دفن فيها وعمل به درسا وقرّاء ومنبرا يخطب عليه في يوم الجمعة، وكان عامرا بعمارة ما حوله، فلما خرب خط بركة قرموط تعطل وهو آيل إلى أن ينقض ويباع كما بيعت أنقاض غيره. جامع الفخريّ هذا الجامع بجوار دار الذهب التي عرفت بدار بها در الأعسر المجاورة لقبو الذهب من خط بين السورين فيما بين الخوخة وباب سعادة، ويتوصل إليه أيضا من درب العدّاس المجاورة لحارة الوزيرية، أنشأه الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن الأمير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الأستادار في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وخطب فيه يوم الجمعة ثامن عشري شعبان من السنة المذكورة، وعمل فيه عدّة دروس، وأوّل من خطب فيه الشيخ ناصر الدين محمد بن عبد الوهاب بن محمد البارنباريّ الشافعيّ، ثم تركه تنزها عنه، وفي يوم الأحد ثامن شهر رمضان جلس فيه الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماويّ الشافعيّ للتدريس، وأضيف إليه مشيخة التصوّف، وقرّر قاضي القضاة شمس الدين محمد الديريّ المقدسيّ الحنفيّ في تدريس الحنفية، وفي تدريس المالكية قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد المالكي، وحضر البرماويّ وظيفة التصوّف بعد عصر يومه، فمات الأمير فخر الدين في نصف شوّال منها ولم يكمل فدفن هناك.

الجامع المؤيدي

الجامع المؤيدي هذا الجامع بجوار باب زويلة من داخله، كان موضعه خزانة شمائل حيث يسجن أرباب الجرائم، وقيسارية سنقر الأشقر، ودرب الصفيرة، وقيسارية بهاء الدين أرسلان. أنشأه السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحموديّ الظاهري، فهو الجامع لمحاسن البنيان، الشاهد بفخامة أركانه وضخامة بنيانه، أن منشئه سيد ملوك الزمان، يحتقر الناظر له عند مشاهدته عرش بلقيس وإيوان كسرى أنو شروان، ويستصغر من تأمل بديع أسطوانه الخورنق وقصر غمدان، ويعجب من عرف أوّليته من تبديل الأبدال، وتنقل الأمور من حال إلى حال بينا هو سجن تزهق فيه النفوس ويضام المجهود، إذ صار مدارس آيات وموضع عبادات ومحل سجود، فالله يعمره ببقاء منشئه ويعلي كلمة الأيمان بدوام ملك بانيه. همم الملوك إذا أراد واذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان إنّ البناء إذا تعاظم قدره ... أضحى يدل على عظيم الشان وأوّل ما ابتدئ به في أمر هذا الجامع، أن رسم في رابع شهر ربيع الأوّل سنة ثمان عشرة وثمانمائة، بانتقال سكان قيسارية سنقر الأشقر التي كانت تجاه قيسارية الفاضل، ثم نزل جماعة من أرباب الدولة في خامسه من قلعة الجبل، وابتدئ في الهدم في القيسارية المذكورة، وما يجاورها، فهدمت الدور التي كانت هناك في درب الصفيرة، وهدمت خزانة شمائل فوجد بها من رمم القتلى ورؤوسهم شيء كثير، وأفرد لنقل ما خرج من التراب عدّة من الجمال والحمير بلغت علائقهم في كل يوم خمسمائة عليقة. وكان السبب في اختيار هذا المكان دون غيره أن السلطان حبس في خزانة شمائل هذه أيام تغلّب الأمير منطاش وقبضه على المماليك الظاهرية، فقاسى في ليلة من البق والبراغيث شدائد، فنذر لله تعالى إن تيسر له ملك مصر أن يجعل هذه البقعة مسجدا لله عز وجلّ، ومدرسة لأهل العلم، فاختار لذلك هذه البقعة وفاء لنذره. وفي رابع جمادى الآخرة كان ابتداء حفر الأساس، وفي خامس صفر سنة تسع عشرة وثمانمائة. وقع الشروع في البناء، واستقرّ فيه بضع وثلاثون بنّاء، ومائة فاعل، ووفيت لهم ولمباشريهم أجورهم من غير أن يكلف أحد في العمل فوق طاقته، ولا سخّر فيه أحد بالقهر، فاستمرّ العمل إلى يوم الخميس سابع عشر ربيع الأوّل، فأشهد عليه السلطان أنه وقف هذا مسجدا لله تعالى، ووقف عليه عدّة مواضع بديار مصر وبلاد الشام، وتردّد ركوب السلطان إلى هذه العمارة عدّة مرار. وفي شعبان طلبت عمد الرخام وألواح الرخام لهذا الجامع، فأخذت من الدور والمساجد وغيرها، وفي يوم الخميس سابع عشري شوّال نقل

باب مدرسة السلطان حسن بن محمد بن قلاون والتنور النحاس المكفت إلى هذه العمارة، وقد اشتراهما السلطان بخمسمائة دينار، وهذا الباب هو الذي عمل لهذا الجامع، وهذا التنور هو التنور المعلق تجاه المحراب، وكان الملك الظاهر برقوق قد سدّ باب مدرسة السلطان حسن وقطع البسطة التي كانت قدّامه كما تقدّم، فبقي مصراعا الباب والسدّ من ورائهما حتى نقلا مع التنور الذي كان معلقا هناك. وفي ثامن عشرية دفنت ابنة صغيرة للسلطان في موضع القبة الغربية من هذا الجامع، وهي ثاني ميت دفن بها، وانعقدت جملة ما صرف في هذه العمارة إلى سلخ ذي الحجة سنة تسع عشرة على أربعين ألف دينار، ثم نزل السلطان في عشري المحرّم إلى هذه العمارة ودخل خزانة الكتب التي عملت هناك، قد حمل إليها كتبا كثيرة في أنواع العلوم، كانت بقلعة الجبل، وقدّم له ناصر الدين محمد البارزيّ كاتب السرّ خمسمائة مجلد، قيمتها ألف دينار، فأقرّ ذلك بالخزانة وأنعم على ابن البارزيّ بأن يكون خطيبا وخازن المكتب هو ومن بعده من ذرّيته. وفي سابع عشر شهر ربيع الآخر منها سقط عشرة من الفعلة، مات منهم أربعة وحمل ستة بأسوإ حال. وفي يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى أقيمت الجمعة به، ولم يكمل منه سوى الإيوان القبليّ، وخطب وصلّى بالناس عز الدين عبد السلام المقدسيّ أحد نوّاب القضاة الشافعية نيابة عن ابن البارزيّ كاتب السرّ. وفي يوم السبت خامس شهر رمضان منها ابتدئ بهدم ملك بجوار ربع الملك الظاهر بيبرس، مما اشتراه الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج الاستادار ليعمل ميضأة، واستمرّ العمل هناك ولازم الأمير فخر الدين الإقامة بنفسه، واستعمل مماليكه والزامه فيه وجدّ في العمل كلّ يوم، فكملت في سلخه بعد خمسة وعشرين يوما، ووقع الشروع في بناء حوانيت على بابها من جهة تحت الربع، ويعلوها طباق، وبلغت النفقة على الجامع إلى أخريات شهر رمضان هذا، سوى عمارة الأمير فخر الدين المذكور، زيادة على سبعين ألف دينار، وتردّد السلطان إلى النظر في هذا الجامع غير مرّة. فلما كان في أثناء شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين ظهر بالمئذنة التي أنشئت على بدنة باب زويلة التي تلي الجامع إعوجاج إلى جهة دار التفاح، فكتب محضر بجماعة المهندسين أنها مستحقة الهدم، وعرض على السلطان فرسم بهدمها، فوقع الشروع في الهدم يوم الثلاثاء رابع عشرية، واستمرّ في كل يوم، فسقط يوم الخميس سادس عشرية منها حجر هدم ملكا تجاه باب زويلة، هلك تحته رجل، فغلق باب زويلة خوفا على المارّة من يوم السبت إلى آخر يوم الجمعة سادس عشري جمادى الأولى، مدّة ثلاثين يوما، ولم يعهد وقوع مثل هذا قط منذ بنيت القاهرة. وقال أدباء العصر في سقوط المنارة المذكورة شعرا كثيرا، منه ما قاله حافظ الوقت شهاب الدين أحمد بن عليّ بن حجر الشافعيّ رحمه الله: لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارته تزهو من الحسن والزين

تقول وقد مالت عليهم تمهّلوا ... فليس على جسمي أضرّ من العين فتحدّث الناس أنه في قوله بالعين قصد التورية لتخدم في العين التي تصيب الأشياء فتتلفها، وفي الشيخ بدر الدين محمود العينتابيّ فإنه يقال له العينيّ أيضا. فقال المذكور يعارضه: منارة كعروس الحسن إذ جليت ... وهدمها بقضاء الله والقدر قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط ... ما أوجب الهدم إلّا خشية الحجر يعرّض بالشهاب ابن حجر وكل منهما لم يصب الغرض، فإن العينيّ بدر الدين محمودا ناظر الأحباس، والشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر، كل منهما ليس له في المئذنة تعلق حتى تخدم التورية، وأقعد منهما بالتورية من قال: على البرج من بابي زويلة أسّست ... منارة بيت الله والمعهد المنجي فأخلى بها البرج اللعين أمالها ... ألا فاصرخوا يا قوم باللّعن للبرج وذلك أن الذي ولى تدبير أمر الجامع المؤيديّ هذا، وولى نظر عمارته بهاء الدين محمد بن البرجيّ، فخدمت التورية في البرجي كما ترى، وتداول هذا الناس فقال آخر: عتبنا على ميل المنار زويلة ... وقلنا تركت الناس بالميل في هرج فقال قريني برج نحس أمالني ... فلا بارك الرحمن في ذلك البرج وقال الأديب شمس الدين محمد بن أحمد بن كمال الجوجريّ أحد الشهود: منارة لثواب الله قد بنيت ... فكيف هدّت فقالوا نوضح الخبرا أصابت العين أحجارا بها انفلقت ... ونظرة العين قالوا تفلق الحجرا وقال آخر: منارة قد هدمت بالقضا ... والناس في هرج وفي رهج أمالها البرج فمالت به ... فلعنة الله على البرج وفي ثالث جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين استقرّ الشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن عليّ بن حجر في تدريس الشافعية، والشيخ يحيى بن محمد بن أحمد العجيسيّ البجائيّ المغربيّ في تدريس المالكية، وعز الدين عبد العزيز بن عليّ بن الفخر البغداديّ في تدريس الحنابلة، وخلع عليهم بحضرة السلطان، فدرس ابن حجر بالمحراب في يوم الخميس ثالث عشرة، ونزل السلطان وأقبل ليحضر عنده، وهو في إلقاء الدرس ومنعه من القيام له، فلم يقم واستمرّ فيما هو بصدده، وجلس السلطان عنده مليا، ثم درّس يحيى

الجامع الأشرفي

المغربيّ في يوم الخميس خامس عشرة، ودرّس فيه أيضا الفخر البغداديّ، وحضر معهما قضاة القضاة والمشايخ. وفي سابع عشرة استقرّ بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد العينتابيّ ناظر الأحباس في تدريس الحديث النبويّ، واستقرّ شمس الدين محمد بن يحيى في تدريس القراءات السبع. وفي يوم الجمعة حادي عشرة شوّال منها نزل السلطان إلى هذا الجامع وقد تقدّم إلى المباشرين من أمسه بتهيئة السماط العظيم للمدّة فيه، والسّكّر الكثير لتملأ البركة التي بالصحن من السّكّر المذاب والحلوى الكثيرة، فهيىء ذلك كله وجلس السلطان بكرة النهار بالقرب من البركة في الصحن على تخت، واستعرض الفقهاء فقرّر من وقع اختياره عليه في الدروس، ومدّ السماط العظيم بأنواع المطاعم، وملئت البركة بالسّكّر المذاب، فأكل الناس ونهبوا وارتووا من السّكّر المذاب وحملوا منه ومن الحلوى ما قدروا عليه. ثم طلب قاضي القضاة شمس الدين محمد بن سعد الديريّ الحنفيّ وخلع عليه كاملية صوف بفرو سمور، واستقرّ في مشيخة التصوّف وتدريس الحنفية، وجلس بالمحراب والسلطان عن يمينه ويليه ابنه المقام الصارميّ إبراهيم، وعن يساره قضاة القضاة ومشايخ العلم، وحضر أمراء الدولة ومباشروها، فألقى درسا مفيدا إلى أن قرب وقت الصلاة، فدعا بفض المجلس، ثم حضرت الصلاة فصعد ناصر الدين محمد بن البارزيّ كاتب السرّ المنبر فخطب وصلّى، ثم خلع عليه واستقرّ خطيبا وخازن الكتب، وخلع على شهاب الدين أحمد الأذرعيّ الإمام واستقرّ في إمامة الخمس وركب السلطان وكان يوما مشهودا. ولما مات المقام الصارميّ إبراهيم بن السلطان دفن بالقبة الشرقية ونزل السلطان حتى شهد دفنه في يوم الجمعة ثاني عشري جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين، وأقام حتى صلّى به الخطيب محمد البارزيّ كاتب السرّ صلاة الجمعة بعد ما خطب خطبة بليغة، ثم عاد إلى القلعة وأقام القرّاء على قبره يقرءون القرآن أسبوعا والأمراء وسائر أهل الدولة يتردّدون إليه، وكانت ليالي مشهودة. وفي يوم السبت آخره استقرّ في نظر الجامع المذكور الأمير مقبل الدوادار وكاتب السرّ ابن البارزيّ، فنزلا إليه جميعا وتفقدا أحواله ونظرا في أموره، فلما مات ابن البارزي في ثامن شوّال منها انفرد الأمير مقبل بالتحدّث إلى أن مات السلطان في يوم الاثنين ثامن المحرّم سنة أربع وعشرين وثمانمائة، فدفن بالقبة الشرقية ولم تكن عمرت، فشرع في عمارتها حتى كملت في شهر ذي القعدة منها، وكذلك الدرج التي يصعد منها إلى باب هذا الجامع من داخل باب زويلة، لم تعمل إلّا في شهر رمضان منها، وبقيت بقايا كثيرة من حقوق هذا الجامع لم تعمل منها القبة التي تقابل القبة المدفون تحتها السلطان والبيوت المعدّة لسكن الصوفية وغير ذلك، فأفرد لعمارتها نحو من عشرين ألف دينار واستقرّ نظر هذا الجامع بعد موت السلطان بيد كاتب السرّ. الجامع الأشرفيّ هذا الجامع فيما بين المدرسة السيوفية وقيسارية العنبر، كان موضعه حوانيت تعلوها

الجامع الباسطي

رباع ومن ورائها ساحات كانت قياسر بعضها وقف على المدرسة القطبية، فابتدأ الهدم فيها بعد ما استبدلت بغيرها أوّل شهر رجب سنة ست وعشرين وثمانمائة، وبنى مكانها، فلما عمر الإيوان القبليّ أقيمت به الجمعة في سابع جمادى الأولى سنة سبع وعشرين، وخطب به الحمويّ الواعظ وقد ولى الخطابة المذكورة. الجامع الباسطيّ هذا الجامع بخط الكافوريّ من القاهرة، كان موضعه من جملة أراضي البستان، ثم صار مما اختط كما تقدّم ذكره، فأنشأه القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدمشقيّ ناظر الجيوش في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، ولم يسخر أحدا في عمله بل وفيّ لهم أجورهم حتى كمل في أحسن هندام وأكيس قالب وأبدع زيّ ترتاح النفوس لرؤيته وتبتهج عند مشاهدته، فهو الجامع الزاهر والمعبد الباهي الباهر، ابتدئ فيه بإقامة الجمعة في يوم الجمعة الثاني من صفر سنة ثلاث وعشرين، ورتب في خطابته فتح الدين أحمد بن محمد بن النقاش أحد شهود الحوانيت وموقعي القضاة، ثم رتب به صوفية، وولى مشيخة التصوّف عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسيّ الشافعيّ، أحد نوّاب الحكم، فكان ابتداء حضورهم بعد عصر يوم السبت أوّل شهر رجب منها، وأجرى للفقراء الصوفية الخبز في كلّ يوم، والمعلوم في كلّ شهر، وبنى لهم مساكن وحفر صهريجا يملأ من ماء النيل ويسبل في كل يوم، فعمّ نفعه وكثر خيره. ثم تجدّد في بولاق جامع ابن الجابي وجامع ابن السنيتيّ، وتجدّد في مصر جامع الحسنات بخط دار النحاس، وفي حكر الصبان الجامع المعروف بالمستجد، وبجامع الفتح، وفي حارة الفقراء جامع عبد اللطيف الطواشيّ الساقي. وتجدّد في خارج القاهرة بسويقة صفية جامع ابن درهم ونصف، وفي خط معدّية فريج جماع كزل بغا، وفي رأس درب النيديّ جامع حارس الطير، وفي سويقة عصفور جامع القاضي أمين الدين بجانب زاوية الفقيه المعتقد أبي عبد الله محمد الفارقانيّ، بنى في سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة، وبخط البراذعيين ورأس حارة الحرمين جامع الحاج محمد المعروف بالمسكين مهتار ناظر الخاص. وتجدّد في المراغة جامع الشيخ أبي بكر المعرّف، بناه الحاج أحمد القماح، وأقيمت خطبة بخانكاه الأمير جاني بك الأشرفيّ خارج باب زويلة، وتوفي يوم الخميس سابع عشرى ربيع الأوّل سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة، وبخط باب اللوق جامع مقدّم السقائين قريبا من جامع الست نصرة، وبخط تحت الربع خارج باب زويلة جامع. وتجدّد بالصحراء قريبا من تربة الظاهر برقوق خطبة في تربة السلطان الملك الأشرف برسباي الدقاقيّ. وتجدد في آخر سويقة أمير الجيوش بالقاهرة جامع أنشأه الفقير المعتقد محمد الغمريّ، وأقيمت به الجمعة في يوم الجمعة رابع ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين

ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص رضي الله عنه أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى، وما كان من الأحداث في ذلك

وثمانمائة قبل أن يكمل. وتجدّد في زاوية الشيخ أبي العباس البصير التي عند قنطرة الخرق خطبة. وتجدّد في حدرة الكماجيين من أراضي اللوق خطبة بزاوية مطلة على غيط العدّة، وتجدّد بالصحراء خطبة في تربة الأمير مشير الدولة كافور الزمام، وتوفي في خامس عشر ربيع الآخر سنة ثلاثين وثمانمائة. وتجدّد بخط الكافوريّ خطبة أحدثها بنو وفاء في جامع لطيف جدّا. وتجدّد بمدرسة ابن البقريّ من القاهرة أيضا خطبة في أيام المؤيد شيخ. وتجدّد بحارة الديلم خطبة في مدرسة أنشأها الطواشي مشير الدولة المذكور. وتجدّد عند قنطرة قدادار خطبة أنشأها شاكر البناء، وخطبة بالقرب منها في جامع أنشأه الحاج إبراهيم البرددار الشهير بالحمصانيّ، أحد الفقراء الأحمدية السطوحية في حدود الثلاثين والثمانمائة. ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص رضي الله عنه أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى، وما كان من الأحداث في ذلك اعلم أن الله عز وجل لما بعث نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا إلى كافة الناس جميعا عربهم وعجمهم، وهم كلهم أهل شرك وعبادة لغير الله تعالى إلا بقايا من أهل الكتاب، كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم مع قريش ما كان حتى هاجر من مكة إلى المدينة، فكانت الصحابة رضوان الله عليهم حوله صلّى الله عليه وسلّم يجتمون إليه في كلّ وقت مع ما كانوا فيه من ضنك المعيشة وقلة القوت، فمنهم من كان يحترف في الأسواق، ومنهم من كان يقوم على نخله، ويحضر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كل وقت، ومنهم طائفة عند ما تجد أدنى فراغ مما هم بسبيله من طلب القوت، فإذا سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن مسألة، أو حكم بحكم، أو أمر بشيء، أو فعل شيأ وعاه من حضر عنده من الصحابة، وفات من غاب عنه علم ذلك، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد خفي عليه ما علمه حمل بن مالك بن النابغة، من الأعراب من هذيل، في دية الجنين وخفي عليه. وكان يفتي في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعريّ وسلمان الفارسيّ رضي الله عنهم. فلما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، تفرّقت الصحابة رضي الله عنهم، فمنهم من خرج لقتال مسيلمة وأهل الردّة، ومنهم من خرج لقتال أهل الشام، ومنهم من خرج لقتال أهل العراق، وبقي من الصحابة بالمدينة مع أبي بكر رضي الله عنه عدّة، فكانت القضية إذا نزلت بأبي بكر رضي الله عنه قضى فيها بما عنده من العلم بكتاب الله أو سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن لم يكن عنده فيها علم من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، سأل من بحضرته من الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك، فإن وجد عندهم

علما من ذلك رجع إليه وإلّا اجتهد في الحكم. ولما مات أبو بكر وولي أمر الأمّة من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتحت الأمصار وزاد تفرّق الصحابة رضي الله عنهم فيما افتتحوه من الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك أثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حكم به، وإلّا اجتهد أمير تلك البلدة في ذلك، وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم موجود عند صاحب آخر، وقد حضر المدنيّ ما لم يحضر المصريّ، وحضر المصريّ ما لم يحضر الشامي، وحضر الشاميّ ما لم يحضر البصريّ، وحضر البصريّ ما لم يحضر الكوفيّ، وحضر الكوفيّ ما لم يحضر المدنيّ. كلّ هذا موجود في الآثار، وفيما علم من مغيب بعض الصحابة عن مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض الأوقات، وحضور غيره. ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب، فيدري كلّ واحد منهم ما حضر، ويفوته ما غاب عنه، فمضى الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا، ثم خلف بعدهم التابعون الآخرون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي تقدّم ذكرها، فإنما تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة، فكانوا لا يتعدّون فتاويهم إلّا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة، رضي الله عنهم، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واتباع أهل مصر في الأكثر فتاوي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ثم أتى من بعد التابعين رضي الله عنهم فقهاء الأمصار، كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتيّ وسوار بالبصرة، والأوزاعيّ بالشام، والليث بن سعد بمصر. فجروا على تلك الطريق من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده، فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم، وهو موجود عند غيرهم. وأما مذاهب أهل مصر: فقال أبو سعيد بن يونس: إن عبيد بن مخمر المغافريّ يكنى أبا أمية، رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، شهد فتح مصر، روى عنه أبو قبيل. يقال أنه كان أوّل من أقرأ القرآن بمصر. وذكر أبو عمرو الكنديّ أن أبا ميسرة عبد الرحمن بن ميسرة مولى الملامس الحضرميّ كان فقيها عفيفا شريفا، ولد سنة عشر ومائة، وكان أوّل الناس إقراء بمصر بحرف نافع قبل الخمسين ومائة، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائة، وذكر عن أبي قبيل وغيره أن يزيد بن أبي حبيب أوّل من نشر العلم بمصر في الحلال والحرام، وفي رواية ابن يونس ومسائل الفقه، وكانوا قبل ذلك إنما يتحدّثون في الفتن والترغيب. وعن عون بن سليمان الحضرميّ قال: كان عمر بن عبد العزيز قد جعل الفتيا بمصر إلى ثلاثة رجال، رجلان من الموالي ورجل من العرب، فأما العربيّ فجعفر بن ربيعة، وأما الموليان فيزيد بن

أبي حبيب، وعبد الله بن أبي جعفر. فكان العرب انكروا ذلك، فقال عمر بن عبد العزيز: ما ذنبي إن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون. وعن ابن أبي قديد كانت البيعة إذا جاءت للخليفة أوّل من يبايع عبد الله بن أبي جعفر ويزيد بن أبي حبيب ثم الناس بعد. وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر عن حيوة بن شريح قال: دخلت على حسين بن شفي بن مانع الأصبحيّ وهو يقول: فعل الله بفلان. فقلت: ما له؟ فقال: عمد إلى كتابين كان شفي سمعهما من عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أحدهما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كذا، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذا، والآخر ما يكون من الأحداث إلى يوم القيامة، فأخذهما فرمى بهما بين الخولة والرباب. قال أبو سعيد بن يونس: يعني بقوله الخولة والرباب مركبين كبيرين من سفن الجسر كانا يكونان عند رأس الجسر مما يلي الفسطاط يجوز من تحتهما لكبرهما المراكب. وذكر أبو عمرو الكنديّ أن أبا سعيد عثمان بن عتيق مولى غافق، أوّل من رحل من أهل مصر إلى العراق في طلب الحديث، توفي سنة أربع وثمانين ومائة انتهى. وكان حال أهل الإسلام من أهل مصر وغيرها من الأمصار في أحكام الشريعة على ما تقدّم ذكره، ثم كثر الترحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع الحديث النبويّ وتقييده، فكان أوّل من دوّن العلم محمد بن شهاب الزهريّ، وكان أوّل من صنف وبوّب سعيد بن عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة، ومعمر بن راشد باليمن، وابن جريج بمكة، ثم سفيات الثوريّ بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، والوليد بن مسلم بالشام، وجرير بن عبد الحميد بالريّ، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان، وهشيم بن بشير بواسط، وتفرّد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف، فوصلت أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من البلاد البعيدة إلى من لم تكن عنده، وقامت الحجة على من بلغه شيء منها، وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأوّلة من الأحاديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد المؤدّي إلى خلاف كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغه إليه، وقيام الحجة عليه، وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي الله عنهم وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحدة الأيام الكثيرة، يعرف ذلك من نظر في كتب الحديث، وعرف سير الصحابة والتابعين. فلما قام هارون الرشيد في الخلافة، وولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم أحد أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى بعد سنة سبعين ومائة، فلم يقلد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلّا من أشار به القاضي أبو يوسف رحمه الله، واعتنى به، وكذلك لما قام بالأندلس الحكم المرتضى بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بعد أبيه، وتلقب بالمنتصر في سنة ثمانين ومائة، اختص بيحيى بن يحيى بن كثير الأندلسيّ، وكان قد حج وسمع الموطأ من مالك إلّا أبوابا، وحمل عن ابن وهب وعن ابن القاسم وغيره علما كثيرا

وعاد إلى الأندلس، فنال من الرياسة والحرمة ما لم ينله غيره، وعادت الفتيا إليه وانتهى السلطان والعامّة إلى بابه، فلم يقلد في سائر أعمال الأندلس قاض إلّا بإشارته واعتنائه، فصاروا على رأي مالك بعد ما كانوا على رأي الأوزاعيّ، وقد كان مذهب الإمام مالك أدخله إلى الأندلس زياد بن عبد الرحمن الذي يقال له بسطور، قبل يحيى بن يحيى، وهو أوّل من أدخل مذهب مالك الأندلس، وكانت إفريقية الغالب عليها السنن والآثار إلى أن قدم عبد الله بن فروج أبو محمد الفارسيّ بمذهب أبي حنيفة، ثم غلب أسد بن الفرات بن سنان قاضي افريقية بمذهب أبي حنيفة، ثم لما ولي سحنون بن سعيد التنوخيّ قضاء افريقية، بعد ذلك نشر فيهم مذهب مالك وصار القضاء في أصحاب سحنون دولا يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم، وكانوا مالكية، فتوارثوا القضاء كما تتوارث الضياع. ثم إن المعز بن باديس حمل جميع أهل إفريقية على التمسك بمذهب مالك وترك ما عداه من المذاهب، فرجع أهل إفريقية وأهل الأندلس كلهم إلى مذهب مالك إلى اليوم، رغبة فيما عند السلطان، وحرصا على طلب الدنيا، إذ كان القضاء والافتاء جميع تلك المدن وسائر القرى لا يكون إلّا لمن تسمى بالفقه على مذهب مالك، فاضطرّت العامّة إلى أحكامهم وفتاواهم، ففشا هذا المذهب هناك فشوّا طبق تلك الأقطار، كما فشا مذهب أبي حنيفة ببلاد المشرق، حيث أن أبا حامد الاسفراينيّ لما تمكن من الدولة في أيام الخليفة القادر بالله أبي العباس أحمد، قرّر معه استخلاف أبي العباس أحمد بن محمد البارزيّ الشافعيّ عن أبي محمد بن الأكفانيّ الحنفيّ قاضي بغداد، فأجيب إليه بغير رضى الأكفانيّ وكتب أبو حامد إلى السلطان محمود بن سبكتكين وأهل خراسان أن الخليفة نقل القضاء عن الحنفية إلى الشافعية، فاشتهر ذلك بخراسان وصار أهل بغداد حزبين، وقدم بعد ذلك أبو العلاء صاعد بن محمد قاضي نيسابور ورئيس الحنفية بخراسان، فأتاه الحنفية فثارت بينهم وبين أصحاب أبي حامد فتنة ارتفع أمرها إلى السلطان، فجمع الخليفة القادر الأشراف والقضاة وأخرج إليهم رسالة تتضمن: أن الاسفراينيّ أدخل على أمير المؤمنين مداخل أوهمه فيها النصح والشفقة والأمانة، وكانت على أصول الدخل والخيانة، فلما تبين له أمره ووضح عنده خبث اعتقاده فيما سأل فيه من تقليد البارزيّ الحكم بالحضرة من الفساد والفتنة والعدول بأمير المؤمنين عما كان عليه أسلافه من إيثار الحنفية وتقليدهم واستعمالهم، صرف البارزيّ وأعاد الأمر إلى حقه وأجراه على قديم رسمه، وحمل الحنفيين على ما كانوا عليه من العناية والكرامة والحرمة والإعزاز، وتقدّم إليهم بأن لا يلقوا أبا حامد ولا يقضوا له حقا ولا يردّوا عليه سلاما، وحلع على أبي محمد الأكفانيّ، وانقطع أبو حامد عن دار الخلافة، وظهر التسخط عليه والانحراف عنه وذلك في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة واتصل ببلاد الشام ومصر.

أوّل من قدم بعلم مالك: إلى مصر عبد الرحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى مولى جمح، وكان فقيها روى عنه الليث وابن وهب ورشيد بن سعد، وتوفي بالإسكندرية سنة ثلاث وستين ومائة، ثم نشره بمصر عبد الرحمن بن القاسم، فاشتهر مذهب مالك بمصر أكثر من مذهب أبي حنيفة لتوفر اصحاب مالك بمصر، ولم يكن مذهب أبي حنيفة رحمه الله يعرف بمصر. قال ابن يونس: وقدم إسماعيل بن اليسع الكوفيّ قاضيا بعد ابن لهيعة، وكان من خير قضاتنا، غير أنه كان يذهب إلى قول أبي حنيفة، ولم يكن أهل مصر يعرفون مذهب أبي حنيفة، وكان مذهبه إبطال الأحباس، فثقل أمره على أهل مصر وسئموه، ولم يزل مذهب مالك مشتهرا بمصر حتى قدم الشافعيّ محمد بن ادريس إلى مصر مع عبد الله بن العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس في سنة ثمان وتسعين ومائة، فصحبه من أهل مصر جماعة من أعيانها كبني عبد الحكم والربيع بن سليمان وأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطيّ، وكتبوا عن الشافعيّ ما ألفه، وعملوا بما ذهب إليه، ولم يزل أمر مذهبه يقوى بمصر وذكره ينتشر. قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر: ولم يزل أهل مصر على الجهر بالبسملة في الجامع العتيق إلى سنة ثلاث وخمسين ومائتين. قال: ومنع أرجون صاحب شرطة مزاحم بن خاقان أمير مصر من الجهر بالبسملة في الصلوات بالمسجد الجامع، وأمر الحسين بن الربيع إمام المسجد الجامع بتركها، وذلك في رجب سنة ثلاث وستين ومائتين، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في المسجد الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجون. قال: وأمر أن تصلّى التراويح في شهر رمضان خمس تراويح، ولم يزل أهل مصر يصلون ست تراويح حتى جعلها أرجون خمسا في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ومنع من التثويب، وأمر بالأذان يوم الجمعة في مؤخر المسجد، وأمر بالتغليس بصلاة الصبح، وذلك أنهم أسفروا بها، وما زال مذهب مالك ومذهب الشافعيّ رحمهما الله تعالى يعمل بهما أهل مصر، ويولى القضاء من كان يذهب إليهما أو إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله، إلى أن القائد جوهر من بلاد إفريقية في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بجيوش مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى مدينة القاهرة. فمن حينئذ فشا بديار مصر مذهب الشيعة وعمل به في القضاء والفتيا وأنكر ما خالفه، ولم يبق مذهب سواه، وقد كان التشيع بأرض مصر معروفا قبل ذلك. قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الموالي عن عبد الله بن لهيعة أنه قال: قال يزيد بن أبي حبيب: نشأت بمصر وهي علوية، فقلبتها عثمانية. وكان ابتداء التشيع في الإسلام أن رجلا من اليهود في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أسلم، فقيل له عبد الله بن سبأ، وعرف بابن

السوداء، وصار ينتقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله، ونزل البصرة في سنة ثلاث وثلاثين فجعل يطرح على أهلها مسائل ولا يصرّح، فأقبل عليه جماعة ومالوا إليه وأعجبوا بقوله، فبلغ ذلك عبد الله بن عامر وهو يومئذ على البصرة، فأرسل إليه فلما حضر عنده سأله ما أنت فقال رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. فقال ما شيء بلغني عنك، أخرج عني. فخرج حتى نزل الكوفة، فأخرج منها فسار إلى مصر واستقرّ بها وقال في الناس العجب ممن يصدّق أن عيسى يرجع ويكذب أن محمدا يرجع، وتحدّث في الرجعة حتى قبلت منه، فقال بعد ذلك: أنه كان لكل نبيّ وصيّ، وعليّ بن أبي طالب وصيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أن علي بن أبي طالب وصيه في الخلافة على أمّته، واعلموا أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، فانهضوا في هذا الأمر وابدؤوا بالطعن على أمرائكم، فأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس، وبث دعاته وكاتب من مال إليه من أهل الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وصاروا يكتبون إلى الأمصار كتبا يضعونها في عيب ولاتهم، فيكتب أهل كل مصر منهم إلى أهل المصر الآخر بما يضعون حتى ملوا بذلك الأرض إذاعة، وجاء إلى أهل المدينة من جميع الأمصار، فأتوا عثمان رضي الله عنه في سنة خمسة وثلاثين وأعلموه ما أرسل به أهل الأمصار من شكوى عمالهم، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعمار بن ياسر إلى مصر، وعبد الله بن عمر إلى الشام، لكشف سير العمال. فرجعوا إلى عثمان إلّا عمارا وقالوا: ما أنكرنا شيئا. وتأخر عمار فورد الخبر إلى المدينة بأنه قد استماله عبد الله ابن السوداء في جماعة، فأمر عثمان عماله أن يوافوه بالموسم، فقدموا عليه واستشاروه، فكلّ أشار برأي، ثم قدم المدينة بعد الموسم فكان بينه وبين عليّ بن أبي طالب كلام فيه بعض الجفاء بسبب إعطائه أقاربه ورفعه لهم على من سواهم، وكان المنحرفون عن عثمان قد تواعدوا يوما يخرجون فيه بأمصارهم إذ سار عنها الأمراء، فلم يتهيأ لهم الوثوب، وعند ما رجع الأمراء من الموسم تكاتب المخالفون في القدوم إلى المدينة لينظروا فيما يريدون، وكان أمير مصر من قبل عثمان رضي الله عنه، عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامريّ، فلما خرج في شهر رجب من مصر في سنة خمس وثلاثين استخلف بعده عقبة بن عامر الجهنيّ في قول الليث بن سعد. وقال يزيد بن أبي حبيب: بل استخلف على مصر السائب بن هشام العامريّ وجعل على الخراج سليم بن عنز التجيبيّ، فانتزى محمد بن أبي حذيفة بن عتية بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف في شوّال من السنة المذكورة، وأخرج عقبة بن عامر من الفسطاط، ودعا إلى خلع عثمان رضي الله عنه، واسعر البلاد وحرّض على عثمان بكلّ شيء يقدر عليه، فكان يكتب الكتب على لسان أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويأخذ الرواحل فيضمرها ويجعل رجالا على ظهور البيوت ووجوههم إلى وجه الشمس لتلوح وجوههم

تلويح المسافر، ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق المدينة بمصر، ثم يرسلون رسلا يخبرون بهم الناس ليلقوهم، وقد أمرهم إذا لقيهم الناس أن يقولوا ليس عندنا خبر الخبر في الكتب، فيجيء رسول أولئك الذين دس فيذكر مكانهم فيتلقاهم ابن أبي حذيفة والناس يقولون: نتلقى رسل أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا لقوهم قالوا لهم ما الخبر؟ قالوا: لا خبر عندنا، عليكم بالمسجد ليقرأ عليكم كتاب أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيجتمع الناس في المسجد اجتماعا ليس فيه تقصير، ثم يقوم القارئ بالكتاب فيقول: إنا نشكو إلى الله وإليكم ما عمل في الإسلام وما صنع في الإسلام، فيقوم أولئك الشيوخ من نواحي المسجد بالبكاء فيبكون، ثم ينزل عن المنبر ويتفرّق الناس بما قريء عليهم. فلما رأت ذلك شيعة عثمان رضي الله عنه اعتزلوا محمد بن أبي حذيقة ونابذوه، وهم معاوية بن خديج، وخارجة بن حذاقة، وبسر بن أرطاة، ومسلمة بن مخلد، وعمرو بن قحزم الخولانيّ، ومقسم بن بجرة، وحمزة بن سرح بن كلال، وأبو الكنود سعد بن مالك الأزديّ، وخالد بن ثابت الفهميّ، في جمع كثير وبعثوا سلمة بن مخزمة التجيبيّ إلى عثمان ليخبره بأمرهم وبصنيع ابن أبي حذيفة، فبعث عثمان رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص ليصلح أمرهم، فبلغ ذلك ابن أبي حذيفة فخطب الناس وقال: ألا إن الكذا والكذا قد بعث إليكم سعد بن مالك ليقلّ جماعتكم ويشتت كلمتكم ويوقع التجادل بينكم، فانفروا إليه، فخرج منهم مائة أو نحوها، وقد ضرب فسطاطه وهو قائل: فقلبوا عليه فسطاطه وشجوه وسبوه، فركب راحلته وعاد راجعا من حيث جاء. وقال: ضربكم الله بالذلّ والفرقة، وشتت أمركم، وجعل بأسكم بينكم، ولا أرضاكم بأمير، ولا أرضاه عنكم. وأقبل عبد الله بن سعد حتى بلغ جسر القلزم، فإذا بخيل لابن أبي حذيفة، فمنعوه أن يدخل فقال: ويلكم دعوني أدخل على جندي فأعلمهم بما جئت به، فإني قد جئتهم بخير. فأبوا أن يدعوه فقال: والله لوددت أني دخلت عليهم وأعلمتهم بما جئت به ثم مت، فانصرف إلى عسقلان. وأجمع محمد بن أبي حذيفة على بعث جيش إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: من يتشرّط في هذا البعث؟ فكثر عليه من يشترط. فقال: إنما يكفينا منكم ستمائة رجل، فشرّط من أهل مصر ستمائة رجل على كل مائة منهم رئيس وعلى جماعتهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ، وهم كنانة بن بشر بن سليمان التجيبيّ، وعروة بن سليم الليثيّ، وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ، وسودان بن ريان الأصبحيّ، وذرع بن يشكر النافعيّ، وسجن رجال من أهل مصر في دورهم منهم: فلما بلغ ذلك كنانة بن بشر وكان رأس الشيعة الأولى، دفع عن معاوية ما كره، ثم قتل عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فدخل الركب إلى مصر وهم يرتجزون:

خذها إليك وأحذرنّ أبا الحسن ... إنا نمرّ الحرب إمرار الوسن بالسيف كي تخمد نيران الفتن فلما دخلوا المسجد صاحوا إنا لسنا قتلة عثمان ولكن الله قتله. فلما رأى ذلك شيعة عثمان قاموا وعقدوا لمعاوية بن خديج عليهم وبايعوه على الطلب بدم عثمان، فسار بهم معاوية إلى الصعيد، فبعث إليهم ابن أبي حذيفة فالتقوا بدقناس من كورة البهنسا فهزم أصحاب ابن أبي حذيفة، ومضى معاوية حتى بلغ برقة، ثم رجع إلى الاسكندرية فبعث ابن أبي حذيفة بحيش آخر عليهم قيس بن حرمل فاقتتلوا بخربتا أوّل شهر رمضان سنة ست وثلاثين، فقتل قيس وسار معاوية بن أبي سفيان إلى مصر، فنزل سلمنت من كورة عين شمس في شوّال، فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر، فمنعوه أن يدخلها، فبعث إليه معاوية إنّا لا نريد قتال أحد إنما جئنا نسأل القود لعثمان، ادفعوا إلينا قاتليه عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر، وهما رأس القوم، فامتنع ابن أبي حذيفة وقال لو طلبت منا جديا أرطب السرة بعثمان ما دفعناه إليك. فقال معاوية بن أبي سفيان لابن أبي حذيفة: اجعل بيننا وبينكم رهنا، فلا يكون بيننا وبينكم حرب. فقال ابن أبي حذيفة: فإني أرضى بذلك، فاستخلف ابن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت بن مخرمة وخرج في الرهن، هو وابن عيسى. وكنانة بن بشر وأبو شمر بن أبرهة وغيرهم من قتلة عثمان، فلما بلغوا لدّ سجنهم بها معاوية وسار إلى دمشق، فهربوا من السجن، غير أبي شمر بن أبرهة فإنه قال: لا أدخله أسيرا وأخرج منه آبقا، وتبعهم صاحب فلسطين فقتلهم، واتبع عبد الرحمن بن عديس رجل من الفرس فقال له عبد الرحمن بن عديس: اتق الله في دمي فإني بايعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة، فقال له: الشجر في الصحراء كثير فقتله. وقال محمد بن أبي حذيفة في الليلة التي قتل في صباحها عثمان: فإن يكن القصاص لعثمان فسنقتل من الغد، فقتل من الغد، وكان قتل ابن أبي حذيفة وعبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر ومن كان معهم من الرهن في ذي الحجة سنة ست وثلاثين. فلما بلغ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مصاب بن أبي حذيفة، بعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ على مصر وجمع له الخراج والصلاة، فدخلها مستهلّ شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين، واستمال الخارجية بخربتا ودفع إليهم أعطياتهم، ووفد عليه وفدهم فأكرمهم وأحسن إليهم، ومصر يومئذ من جيش عليّ رضي الله عنه إلّا أهل خربتا الخارجين بها. فلما ولي علي رضي الله عنه قيس بن سعد، وكان من ذوي الرأي، جهد معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص على أن يخرجاه من مصر ليغلبا على أمرها، فامتنع عليهما بالدهاء والمكايدة، فلم يقدرا على أن يلجأ مصر حتى كان معاوية قيسا من قبل عليّ رضي الله عنه، فكان معاوية يحدّث رجالا من ذوي رأي قريش فيقول: ما ابتدعت من مكايدة قط أعجب إليّ من مكايدة كدت بها قيس بن سعد حين امتنع مني، قلت لأهل الشام لا تسبوا قيسا ولا

تدعوا إلى غزوة، فإن قيسا لنا شيعة تأتينا كتبه ونصيحته سرّا، ألا ترون ماذا يفعل بإخوانكم النازلين عنده بخربتا يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويؤمّن سربهم ويحسن إلى كل راكب يأتيه منهم. قال معاوية: وطفقت أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق، فسمع بذلك جواسيس عليّ بالعراق فأنهاه إليه محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن جعفر، فاتّهم قيسا فكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا، وبخربتا يومئذ عشرة آلاف، فأبى قيس أن يقاتلهم وكتب إلى عليّ رضي الله عنه أنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم، وأهل الحفاظ منهم، وقد رضوا مني بأن أو من سربهم واجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، وقد علمت أن هواهم مع معاوية، فلست بكائدهم بأمر أهون عليّ وعليك من الذي أفعل بهم، وهم أسود العرب، منهم بسر بن أرطاة، وسلمة بن مخلد، ومعاوية بن خديج. فأبى عليه إلّا قتالهم، فأبى قيس أن يقاتلهم. وكتب إلى عليّ رضي الله عنه، إن كنت تهتمني فاعزلني وابعث غيري. وكتب معاوية رضي الله عنه إلى بعض بني أمية بالمدينة: أن جرى الله قيس بن سعد خيرا فإنه قد كف عن إخواننا من أهل مصر الذين قاتلوا في دم عثمان، واكتموا ذلك فإنني أخاف أن يعزله علي إن بلغه ما بينه وبين شيعتنا، حتى بلغ عليا رضي الله عنه ذلك فقال: من معه من رؤساء أهل العراق وأهل المدينة بدّل قيس وتحوّل. فقال عليّ ويحكم إنه لم يفعل فدعوني. قالوا: لتعزلنه، فإنه قد بدّل. فلم يزالوا به حتى كتب إليه إني قد احتجت إلى قربك، فاستخلف على عملك واقدم. فلما قرأ الكتاب قال: هذا من مكر معاوية، ولولا الكذب لمكرت به مكرا يدخل عليه بيته، فوليها قيس بن سعد إلى أن عزل عنها أربعة أشهر وخمسة أيام، وصرف لخمس خلون من رجب سنة سبع وثلاثين، ثم وليها الاشتر مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعيّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أن عبد الله بن جعفر كان إذا أراد أن لا يمنعه عليّ شيئا قال له بحق جعفر. فقال له أسألك بحق جعفر الا بعثت الاشتر إلى مصر، فإن ظهرت فهو الذي تحب وإلّا استرحت منه. ويقال: كان الأشتر قد ثقل على عليّ رضي الله عنه وأبغضه وقلاه فولاه وبعثه، فلما قدم مصر لقي بما يلقي العمال به هناك، فشرب شربة عسل فمات. فلما أخبر عليّ بذلك قال لليدين وللفم، وسمع عمرو بن العاص بموت الأشتر فقال: إن لله جنودا من عسل. أو قال إنّ لله جنودا من العسل. ثم وليها محمد بن أبي بكر الصدّيق من قبل عليّ رضي الله عنهم، وجمع له صلاتها وخراجها، فدخلها للنصف من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين، فلقيه قيس بن سعد فقال له: إنه لا يمنعني نصحي لك عزله إيايّ، ولقد عزلني عن غير وهن ولا عجز، فاحفظ ما أوصيك به. يدم صلاح حالك: دع معاوية بن خديج ومسلمة بن مخلد وبسر بن أرطاة ومن ضوى إليهم على ما هم عليه، لا تكفهم عن رأيهم، فإن أتوك ولم يفعلوا فاقبلهم، وإن تخلفوا عنك فلا تطلبهم، وانظر هذا الحيّ من مضر، فأنت أولى بهم مني، فألن لهم

جناحك وقرّب عليهم مكانك وارفع عنهم حجابك، وانظر هذا الحيّ من مدلج، فدعهم وما غلبوا عليه يكفوا عنك شأنهم، وأنزل الناس من بعد على قدر منازلهم، فإن استطعت أن تعود المرضى وتشهد الجنائز فافعل، فإنّ هذا لا ينقصك ولن تفعل، إنك والله ما علمت لتظهر الخيلاء وتحب الرياسة وتسارع إلى ما هو ساقط عنك، والله موفقك. فعمل محمد بخلاف ما أوصاه به قيس، فبعث إلى ابن خديج والخارجة معه يدعوهم إلى بيعته، فلم يجيبوه. فبعث إلى دور الخارجة فهدمها ونهب أموالهم وسجن ذراريهم فنصبوا له الحرب وهموا بالنهوض إليه. فلما علم أنه لا قوّة له بهم أمسك عنهم ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية، وأن ينصب لهم جسر انتقيوس يجوزون عليه ولا يدخلون الفسطاط، ففعلوا ولحقوا بمعاوية. فلما أجمع عليّ رضي الله عنه ومعاوية على الحكمين أغفل عليّ أن يشترط على معاوية أن لا يقاتل أهل مصر. فلما انصرف عليّ إلى العراق بعث معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه في جيوش أهل الشام إلى مصر، فاقتتلوا قتالا شديدا انهزم فيه أهل مصر، ودخل عمرو بأهل الشام الفسطاط، وتغيب محمد بن أبي بكر، فأقبل معاوية بن خديج في رهط ممن يعينه على من كان يمشي في قتل عثمان، وطلب ابن أبي بكر فدلتهم عليه امرأة. فقال: احفظوني في أبي بكر، فقال معاوية بن خديج: قتلت ثمانين رجلا من قومي في عثمان، وأتركك وأنت صاحبه؟ فقتله ثم جعله في جيفة حمار ميت، فأحرقه بالنار، فكانت ولاية محمد بن أبي بكر خمسة أشهر، ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمان وثلاثين. ثم ولي عمرو بن العاص مصر من بعده، فاستقبل بولايته هذه الثانية شهر ربيع الأوّل، وجعل إليه الصلاة والخراج، وكانت مصر قد جعلها معاوية له طعمة بعد عطاء جندها والنفقة على مصلحتها، ثم خرج إلى الحكومة واستخلف على مصر ابنه عبد الله بن عمرو، وقتل خارجة بن حذافة ورجع عمرو إلى مصر فأقام بها، وتعاقد بنو ملجم عبد الرحمن وقيس ويزيد على قتل عليّ رضي الله عنه وعمرو ومعاوية رضي الله عنهما، وتواعدوا على ليلة من رمضان سنة أربعين، فمضى كل منهم إلى صاحبه، فلما قتل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه واستقرّ الأمر لمعاوية كانت مصر جندها وأهل شوكتها عثمانية، وكثير من أهلها علوية. فلما مات معاوية ومات ابنه يزيد بن معاوية كان على مصر سعيد بن يزيد الأزديّ على صلاتها، فلم يزل أهل مصر على الشنان له، والإعراض عنه، والتكبر عليه، منذ ولاه يزيد بن معاوية حتى مات يزيد في سنة أربع وستين. ودعا عبد الله بن الزبير إلى نفسه، فقامت الخوارج بمصر في أمره، وأظهروا دعوته كانوا يحسبونه على مذهبهم، وأوفدوا منهم وفدا إليه، فسار منهم نحو الألفين من مصر وسألوه أن يبعث إليهم بأمير يقومون معه ويوازرونه، وكان كريب بن أبرهة الصباح وغيره من أشراف مصر يقولون: ماذا نرى من العجب أن هذه الطائفة المكتتمة تأمر فينا وتنهي ونحن لا نستطيع أن

نردّ أمرهم، ولحق بابن الزبير ناس كثير من أهل مصر، وكان أوّل من قدم مصر برأي الخوارج حجر بن الحارث بن قيس المذحجيّ، وقيل حجر بن عمرو، ويكنى بأبي الورد، وشهد مع عليّ صفين، ثم صار من الخوارج وحضر مع الحرورية النهروان، فخرج وصار إلى مصر برأي الخوارج وأقام بها حتى خرج منها إلى ابن الزبير في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ على مصر. فلما مات يزيد بن معاوية وبويع ابن الزبير بعده بالخلافة، بعث إلى مصر بعبد الرحمن بن جحدم الفهريّ، فقدمها في طائفة من الخوارج فوثبوا على سعيد بن يزيد فاعتزلهم، واستمرّ ابن جحدم، وكثرت الخوارج بمصر منها وممن قدم من مكة، فأظهروا في مصر التحكيم ودعوا إليه، فاستعظم الجند ذلك وبايعه الناس على غلّ في قلوب ناس من شيعة بني أمية، منهم كريب بن أبرهة، ومقسم بن بجرة، وزياد بن حناطة التجيبيّ، وعابس بن سعيد وغيرهم، فصار أهل مصر حينئذ ثلاث طوائف، علوية وعثمانية وخوارج. فلما بويع مروان بن الحكم بالشام في ذي القعدة سنة أربع وستين كانت شيعته من أهل مصر مع ابن جحدم، فكاتبوه سرّا حتى أتى مصر في أشراف كثيرة، وبعث ابنه عبد العزيز بن مروان في جيش إلى إيلة ليدخل من هناك مصر، وأجمع ابن جحدم على حربه ومنعه، فحفر الخندق في شهر، وهو الخندق الذي بالقرافة، وبعث بمراكب في البحر ليخالف إلى عيالات أهل الشام، وقطع بعثا في البرّ وجهز جيشا آخر إلى إيلة لمنع عبد العزيز من المسير منها، فغرقت المراكب ونجا بعضها وانهزمت الجيوش ونزل مروان عين شمس، فخرج إليه ابن جحدم في أهل مصر، فتحاربوا واستجرّ القتل فقتل من الفريقين خلق كثير، ثم إن كريب بن أبرهة وعابس بن سعيد وزياد بن حناطة وعبد الرحمن بن موهب المغافريّ دخلوا في الصلح بين أهل مصر وبين مروان، فتم ودخل مروان إلى الفسطاط لغرّة جمادى الأولى سنة خمس وستين، فكانت ولاية ابن جحدم تسعة أشهر، ووضع العطاء فبايعه الناس إلّا نفرا من المغافر قالوا لا نخلع بيعة ابن الزبير، فقتل منهم ثمانين رجلا، قدّمهم رجلا رجلا فضرب أعناقهم وهم يقولون إنا قد بايعنا ابن الزبير طائعين، فلم نكن لننكث بيعته، وضرب عنق الأكدر بن حمام بن عامر سيد لخم وشيخها، وحضر هو وأبوه فتح مصر، وكانا ممن ثار إلى عثمان رضي الله عنه، فتنادى الجند قتل الأكدر، فلم يبق أحد حتى لبس سلاحه، فحضر باب مروان منهم زيادة على ثلاثين ألفا، وخشي مروان وأغلق بابه حتى أتاه كريب بن أبرهة وألقى عليه رداءه وقال للجند: انصرفوا أنا له جار، فما عطف أحد منهم وانصرفوا إلى منازلهم، وكان للنصف من جمادى الآخرة، ويومئذ مات عبد الله بن عمرو بن العاص، فلم يستطع أحد أن يخرج بجنازته إلى المقبرة لشغب الجند على مروان، ومن حينئذ غلبت العثمانية على مصر فتظاهروا فيها بسب عليّ رضي الله عنه، وانكفت السنة العلوية والخوارج. فلما كانت ولاية قرّة بن شريك العبسيّ على مصر من قبل الوليد بن عبد الملك في

سنة تسعين، خرج إلى الإسكندرية في سنة إحدى وتسعين، فتعاقدت السراة من الخوارج بالإسكندرية على الفتك به، وكانت عدّتهم نحوا من مائة، فعقدوا لرئيسهم المهاجر بن أبي المثنى التجيبيّ، أحد بني «1» فهم عليهم عند منارة الإسكندرية وبالقرب منهم رجل يكنى أبا سليمان، فبلغ قرّة ما عزموا عليه، فأتى لهم قبل أن يتفرّقوا فأمر بحبسهم في أصل منارة الإسكندرية، وأحضر قرّة وجوه الجند فسألهم فأقرّوا فقتلهم، ومضى رجل ممن كان يرى رأيهم إلى أبي سليمان فقتله، فكان يزيد بن أبي حبيب إذا أراد أن يتكلم بشيء فيه تقية من السلطان تلفت وقال: احذروا أبا سليمان، ثم قال الناس كلهم من ذلك اليوم أبو سليمان. فلما قام عبد الله بن يحيى الملقب بطالب الحق في الحجاز على مروان بن محمد الجعديّ، قدم إلى مصر داعيته ودعا الناس فبايع له ناس من تجيب وغيرهم، فبلغ ذلك حسان بن عتاهية صاحب الشرطة فاستخرجهم، فقتلهم حوثرة بن سهيل الباهليّ أمير مصر من قبل مروان بن محمد، فلما قتل مروان وانقضت أيام بني أمية ببني العباس في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، خمدت جمرة أصحاب المذهب المروانيّ وهم الذين كانوا يسبون عليّ بن أبي طالب ويتبرّؤون منه، وصاروا منذ ظهر بنو العباس يخافون القتل ويخشون أن يطلع عليهم أحد إلّا طائفة كانت بناحية الواحات وغيرها، فإنهم أقاموا على مذهب المروانية دهرا حتى فنوا، ولم يبق لهم الآن بديار مصر وجود البتة. فلما كان في إمارة حميد بن قحطبة على مصر من قبل أبي جعفر المنصور، قدم إلى مصر عليّ بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب داعية لأبيه وعمه، فذكر ذلك لحميد فقال: هذا كذب، ودسّ إليه أن تغيّب، ثم بعث إليه من الغد فلم يجده، فكتب بذلك إلى أبي جعفر المنصور فعزل حميدا وسخط عليه في ذي القعدة سنة أربع وأربعين ومائة، وولى يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، فظهرت دعوة بني حسن بن عليّ بمصر، وتكلم الناس بها وبايع كثير منهم لعليّ بن محمد بن عبد الله، وهو أوّل علويّ قدم مصر، وقام بأمر دعوته خالد بن سعيد بن ربيعة بن حبيش الصدفيّ، وكان جدّه ربيعة بن حبيش من خاصة عليّ بن أبي طالب وشيعته، وحضر الدار في قتل عثمان رضي الله عنه، فاستشار خالد أصحابه الذين بايعوا له، فأشار عليهم بعضهم أن يبيت يزيد بن حاتم في العسكر، وكان الأمراء قد صاروا منذ قدمت عساكر بني العباس ينزلون في العسكر الذي بني خارج الفسطاط من شماليه، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، وأشار عليه آخرون أن لا يحوز بيت المال، وأن يكون خروجهم في الجامع، فكره خالد أن يبيت يزيد بن حاتم، وخشي على اليمانية، وخرج منهم رجل قد شهد أمرهم حتى أتى إلى عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج وهو يومئذ على الفسطاط، فخبّره أنهم

الليلة يخرجون، فمضى عبد الله إلى يزيد بن حاتم وهو بالعسكر، فكان من أمرهم ما كان لعشر من شوّال سنة خمس وأربعين ومائة، فانهزموا. ثم قدمت الخطباء برأس إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين في ذي الحجة من السنة المذكورة إلى مصر ونصبوه في المسجد الجامع، وقامت الخطباء فذكروا أمره، وحمل عليّ بن محمد إلى أبي جعفر المنصور وقيل إنه اختفى عند عسامة بن عمرو بقرية طره، فمرض بها ومات فقبر هناك، وحمل عسامة إلى العراق فحبس إلى أن ردّه المهديّ محمد بن أبي جعفر إلى مصر، وما زالت شيعة عليّ بمصر إلى أن ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق، فأخرجهم إسحاق بن يحيى الختليّ أمير مصر وفرّق فيهم الأموال ليتجملوا بها، وأعطى كل رجل ثلاثين دينارا، والمرأة خمسة عشر دينارا، فخرجوا لعشر خلون من رجب سنة ست وثلاثين ومائتين، وقدموا العراق فأخرجوا إلى المدينة في شوّال منها، واستتر من كان بمصر على رأي العلوية، حتى أن يزيد بن عبد الله أمير مصر ضرب رجلا من الجند في شيء وجب عليه فأقسم عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه، فزاده ثلاثين درة، ورفع ذلك صاحب البريد إلى المتوكل، فورد الكتاب على يزيد بضرب ذلك الجنديّ مائة سوط، فضربها وحمل بعد ذلك إلى العراق في شوّال سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وتتبع يزيد الروافض فحملهم إلى العراق، ودل في شعبان على رجل يقال له محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أنه بويع له، فأحرق الموضع الذي كان به وأخذه فأقرّ على جمع من الناس بايعوه، فضرب بعضهم بالسياط، وأخرج العلوي هو وجمع من آل أبي طالب إلى العراق في شهر رمضان. ومات المتوكل في شوّال، فقام من بعده ابنه محمد المستنصر، فورد كتابه إلى مصر بأن لا يقبل علويّ ضيعة، ولا يركب فرسا، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلّا العبد الواحد، ومن كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة من سائر الناس قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة، وكتب إلى العمال بذلك، ومات المستنصر في ربيع الآخر، وقام المستعين، فأخرج يزيد ستة رجال من الطالبيين إلى العراق في رمضان سنة خمسين ومائتين، ثم أخرج ثمانية منهم في رجب سنة إحدى وخمسين، وخرج جابر بن الوليد المدلجيّ بأرض الإسكندرية في ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين، واجتمع إليه كثير من بني مدلج فبعث إليه محمد بن عبيد الله بن يزيد بجيش من الإسكندرية فهزمهم وظفر بما معهم، وقوي أمره وأتاه الناس من كلّ ناحية، وضوى إليه كل من يومي إليه بشدّة ونجدة، فكان ممن أتاه عبد الله المريسيّ وكان لصا خبيثا، ولحق به جريج النصرانيّ وكان من شرار النصارى. وأولي بأسهم، ولحق به أبو حرملة فرج النوبيّ وكان فاتكا فعقد له جابر على سنهور وسخا وشرقيون وبنا، فمضى أبو حرملة في جيش عظيم، فأخرج العمال وجبى الخراج ولحق به عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن

محمد بن عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الذي يقال له ابن الأرقط، فقوّده أبو حرملة وضم إليه الأعراب وولاه بنا وبوصير وسمنود، فبعث يزيد أمير مصر بجمع من الأتراك في جمادى الآخرة فقاتلهم ابن الأرقط وقتل منهم، ثم ثبتوا له فانهزم وقتل من أصحابه كثير وأسر منهم كثير، ولحق ابن الأرقط بأبي حرملة في شرقيون فصار إلى عسكر يزيد فانهزم أبو حرملة. وقدم مزاحم بن خاقان من العراق في جيش، فحارب أبا حرملة حتى أسر في رمضان، واستأمن ابن الأرقط، فأخذ وأخرج إلى العراق في ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين ومائتين ففرّ منهم، ثم ظفر به وحبس، ثم حمل إلى العراق في صفر سنة خمس وخمسين ومائتين بكتاب ورد على أحمد بن طولون، ومات أبو حرملة في السجن لأربع بقين من ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين، وأخذ جابر بعد حروب وحمل إلى العراق في رجب سنة أربع وخمسين، وخرج في إمرة أرجون التركيّ رجل من العلويين يقال له بغا الأكبر، وهو أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن حسين بن عليّ بالصعيد، فحاربه أصحاب أرجون وفرّ منهم فمات، ثم خرج بغا الأصغر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا فيما بين الإسكندرية وبرقة في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين، والأمير يومئذ أحمد بن طولون، وسار في جمع إلى الصعيد فقتل في الحرب وأتي برأسه إلى الفسطاط في شعبان وخرج ابن الصوفيّ العلويّ بالصعيد وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، ودخل اسنا في ذي القعدة سنة خمس وخمسين، ونهبها وقتل أهلها، فبعث إليه ابن طولون بجيش فحاربوه فهزمهم في ربيع الأوّل سنة ست وخمسين بهو، فبعث ابن طولون إليه بجيش آخر فالتقيا بأخميم في ربيع الآخر فانهزم ابن الصوفيّ وترك جميع ما معه وقتلت رجالته، فأقام ابن الصوفيّ بالواح سنتين ثم خرج إلى الأشمونين في المحرّم سنة تسع وخمسين وسار إلى أسوان لمحاربة أبي عبد الرحمن العمريّ، فظفر به العمريّ وبجميع جيشه وقتل منهم مقتلة عظيمة، ولحق ابن الصوفيّ بأسوان فقطع لأهلها ثلاثمائة ألف نخلة، فبعث إليه ابن طولون بعثا فاضطرب أمره مع أصحابه فتركهم ومضى إلى عيذاب، فركب البحر إلى مكة فقبض عليه بها وحمل إلى ابن طولون فسجنه ثم أطلقه فصار إلى المدينة ومات بها. وفي إمارة هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون أنكر رجل من أهل مصر أن يكون أحد خيّرا من أهل البيت، فوثبت إليه العامّة فضرب بالسياط يوم الجمعة في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين ومائتين. وفي إمارة ذكا الأعور على مصر كتب على أبواب الجامع العتيق ذكر الصحابة والقرآن فرضيه جمع من الناس وكرهه آخرون، فاجتمع الناس في رمضان سنة خمس وثلاثمائة إلى دار ذكا يتشكرونه على ما أذن لهم فيه، فوثب الجند بالناس فنهب قوم وجرح آخرون ومحي ما كتب على أبواب الجامع، ونهب الناس في المسجد والأسواق، وأفطر الجند يومئذ وما زال أمر الشيعة يقوى بمصر إلى أن دخلت سنة خمسين

وثلاثمائة، ففي يوم عاشوراء كانت منازعة بين الجند وبين جماعة من الرعية عند قبر كلثوم العلوية بسبب ذكر السلف والنوح، قتل فيها جماعة من الفريقين، وتعصب السودان على الرعية، فكانوا إذا لقوا أحدا قالوا له: من خالك؟ فإن لم يقل معاوية وإلّا بطشوا به وشلحوه، ثم كثر القول معاوية خال عليّ، وكان على باب الجامع العتيق شيخان من العامّة يناديان في كل يوم جمعة في وجوه الناس من الخاص والعام، معاوية خالي وخال المؤمنين، وكاتب الوحي، ورديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان هذا أحسن ما يقولونه، وإلّا فقد كانوا يقولون معاوية خال عليّ من هاهنا، ويشيرون إلى أن أصل الإذن، ويلقون أبا جعفر مسلما الحسينيّ فيقولون له ذلك في وجهه، وكان بمصر أسود يصيح دائما معاوية خال عليّ، فقتل بتنيس أيام القائد جوهر. ولما ورد الخبر بقيام بني حسن بمكة ومحاربتهم الحاج ونهبهم، خرج خلق من المصريين في شوّال فلقوا كافور الإخشيديّ بالميدان ظاهر مدينة مصر وضجوا وصاحوا معاوية خال عليّ، وسألوه أن يبعث لنصرة الحاج على الطالبيين. وفي شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة أخذ رجل يعرف بابن أبي الليث الملطيّ ينسب إلى التشيع فضرب مائتي سوط ودرة، ثم ضرب في شوّال خمسمائة سوط ودرة، وجعل في عنقه غل وحبس وكان يتفقد في كلّ يوم لئلا يخفف عنه ويبصق في وجهه، فمات في محبسه فحمل ليلا ودفن، فمضت جماعة إلى قبره لينبشوه وبلغوا إلى القبر فمنعهم جماعة من الإخشيدية والكافورية، فأبوا وقالوا هذا قبر رافضيّ، فثارت فتنة وضرب جماعة ونهبوا كثيرا حتى تفرّق الناس. وفي سنة ست وخمسين كتب في صفر على المساجد ذكر الصحابة والتفضيل، فأمر الأستاذ كافور الإخشيديّ بإزالته، فحدّثه جماعة في إعادة ذكر الصحابة على المساجد فقال: ما أحدث في أيامي ما لم يكن وما كان في أيام غيري فلا أزيله، وما كتب في أيامي أزيله، ثم أمر من طاف وأزاله من المساجد كلها. ولما دخل جوهر القائد بعساكر المعز لدين الله إلى مصر وبنى القاهرة أظهر مذهب الشيعة وأذن في جميع المساجد الجامعة وغيرها حيّ على خير العمل، وأعلن بتفضيل عليّ بن أبي طالب على غيره، وجهر بالصلاة عليه وعلى الحسن والحسين وفاطمة الزهراء رضوان الله عليهم، فشكا إليه جماعة من أهل المسجد الجامع أمر عجوز عمياء تنشد في الطريق، فأمر بها فحبست فسرّ الرعية بذلك ونادوا بذكر الصحابة ونادوا معاوية خال عليّ وخال المؤمنين، فأرسل جوهر حين بلغه ذلك رجلا إلى الجامع فنادى: أيها الناس أقلوا القول ودعوا الفضول، فإنما حبسنا العجوز صيانة لها، فلا ينطقن أحد إلّا حلّت به العقوبة الموجعة، ثم أطلق العجوز. وفي ربيع الأوّل سنة اثنتين وستين عزر سليمان بن عروة المحتسب جماعة من

الصيارفة فشغبوا وصاحوا معاوية خال عليّ بن أبي طالب، فهمّ جوهر أن يحرق رحبة الصيارفة، لكن خشي على الجامع، وأمر الإمام بجامع مصر أن يجهر بالبسملة في الصلاة وكانوا لا يفعلون ذلك، وزيد في صلاة الجمعة القنوت في الركعة الثانية، وأمر في المواريث بالردّ على ذوي الأرحام، وأن لا يرث مع البنت أخ ولا أخت ولا عم ولا جدّ ولا ابن أخ ولا ابن عم، ولا يرث مع الولد الذكر أو الأنثى إلّا الزوج أو الزوجة والأبوان والجدّة، ولا يرث مع الأمّ إلّا من يرث مع الولد، وخاطب أبو الطاهر محمد بن أحمد قاضي مصر القائد جوهرا في بنت وأخ، وأنه كان حكم قديما للبنت بالنصف وللأخ بالباقي، فقال لا أفعل فلما ألح عليه قال: يا قاضي هذا عداوة لفاطمة عليها السلام، فأمسك أبو الطاهر ولم يراجعه بعد في ذلك، وصار صوم شهر رمضان والفطر على حساب لهم، فأشار الشهود على القاضي أبي الطاهر أن لا يطلب الهلال، لأنّ الصوم والفطر على الرؤية قد زال، فانقطع طلب الهلال من مصر وصام القاضي وغيره مع القائد جوهر كما يصوم، وأفطروا كما يفطر. ولما دخل المعز لدين الله إلى مصر ونزل بقصره من القاهرة المعزية، أمر في رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فكتب على سائر الأماكن بمدينة مصر خير الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. وفي صفر سنة خمس وستين وثلاثمائة جلس عليّ بن النعمان القاضي بجامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر وأملى مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت، ويعرف هذا المختصر بالاقتصار، وكان جمعا عظيما وأثبت أسماء الحاضرين. ولما تولى يعقوب بن كلس الوزارة للعزيز بالله نزار بن المعز رتب في داره العلماء من الأدباء والشعراء والفقهاء والمتكلمين، وأجرى لجميعهم الأرزاق، وألف كتابا في الفقه ونصب له مجلسا وهو يوم الثلاثاء يجتمع فيه الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأهل الجدل، وتجري بينهم المناظرات، وكان يجلس أيضا في يوم الجمعة فيقرأ مصنفاته على الناس بنفسه، ويحضر عنده القضاة والفقهاء والقرّاء والنحاة وأصحاب الحديث ووجوه أهل العلم والشهود، فإذا انقضى المجلس من القراءة قام الشعراء لإنشاد مدائحهم فيه، وجعل للفقهاء في شهر رمضان الأطعمة، وألف كتابا في الفقه يتضمن ما سمعه من المعز لدين الله ومن ابنه العزيز بالله، وهو مبوّب على أبواب الفقه يكون قدره مثل نصف صحيح البخاريّ، ملكته ووقفت عليه، وهو يشتمل على فقه الطائفة الإسماعيلية، وكان يجلس لقراءة هذا الكتاب على الناس بنفسه وبين يديه خواص الناس وعوامّهم وسائر الفقهاء والقضاة والأدباء، وأفتى الناس به ودرّسوا فيه بالجامع العتيق، وأجرى العزيز بالله لجماعة من الفقهاء يحضرون مجلس الوزير ويلازمونه أرزاقا تكفيهم في كلّ شهر، وأمر لهم ببناء دار إلى جانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة تحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلّى صلاة العصر، وكان لهم من مال الوزير أيضا صلة في كلّ سنة، وعدّتهم خمسة وثلاثون رجلا، وخلع عليهم العزيز

بالله في يوم عيد الفطر وحملهم على بغال. وفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة أمر العزيز بن المعز بقطع صلاة التروايح من جميع البلاد المصرية. وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ضرب رجل بمصر وطيف به المدينة من أجل أنه وجد عنده كتاب الموطأ لمالك بن أنس رحمه الله. وفي شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثمانين وثلاثمائة جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسيّ بالقصر في القاهرة لقراءة علوم أهل البيت على الرسم المتقدّم له ولأخيه بمصر، ولأبيه بالمغرب، فمات في الزحمة أحد عشر رجلا. وفي جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة قبض على رجل من أهل الشام سئل عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال لا أعرفه، فاعتقله قاضي القضاة الحسن بن النعمان قاضي أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله على القاهرة المعزية ومصر والشامات والحرمين والمغرب، وبعث إليه وهو في السجن أربعة من الشهود وسألوه، فأقرّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنه نبيّ مرسل، وسئل عن عليّ بن أبي طالب فقال لا أعرفه، فأمر قائد القوّاد الحسين بن جوهر بإحضاره، فخلا به ورفق في القول له فلم يرجع عن إنكاره معرفة عليّ بن أبي طالب، فطولع الحاكم بأمره فأمر بضرب عنقه فضرب عنقه وصلب. وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قبض على ثلاثة عشر رجلا وضربوا وشهروا على الجمال وحبسوا ثلاثة أيام من أجل أنهم صلوا صلاة الضحى. وفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة قريء سجل في الجوامع بمصر والقاهرة والجزيرة بأن تلبس النصارى واليهود الغيار والزنار، وغيارهم السواد غيار العاصين العباسيين، وأن يشدّوا الزنار وفيه وقوع وفحش في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقرىء سجل آخر فيه منع الناس من أكل الملوخيا المحببة كانت لمعاوية بن أبي سفيان، ومنعهم من أكل البقلة المسماة بالجرجير المنسوبة لعائشة رضي الله عنها، ومن المتوكلية المنسوبة إلى المتوكل، والمنع من عجين الخبز بالرجل، والمنع من أكل الدلينس ومن ذبح البقر إلّا ذا عاهة ما، عدا أيام النحر، فإنه يذبح فيها البقر فقط، والوعيد للنخاسين متى باعوا عبدا أو أمة لذميّ، وقريء سجل آخر بأن يؤذن لصلاة الظهر في أوّل الساعة السابعة، ويؤذن لصلاة العصر في أوّل الساعة التاسعة، وقريء أيضا سجل بالمنع من عمل الفقاع وبيعه في الأسواق لما يؤثر عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من كراهية شرب الفقاع، وضرب في الطرقات والأسواق بالحرس، ونودي أن لا يدخل أحد الحمام إلّا بمئزر، ولا تكشف امرأة وجهها في طريق، ولا خلف جنازة، ولا تتبرّج، ولا يباع شيء من السمك بغير قشر، ولا يصطاده أحد من الصيادين، وقبض على جماعة وجدوا في الحمام بغير مئزر فضربوا وشهروا. وكتب في صفر من هذه السنة على سائر المساجد وعلى الجامع العتيق بمصر من ظاهره وباطنه من جميع جوانبه، وعلى أبواب الحوانيت والحجر وعلى المقابر والصحراء سبّ السلف ولعنهم، ونقش ذلك ولوّن بالأصباغ والذهب، وعمل ذلك على أبواب الدور

والقياسر، وأكره الناس على ذلك، وتسارع الناس إلى الدخول في الدعوة، فجلس لهم قاضي القضاة عبد العزيز بن محمد بن النعمان، فقدموا من سائر النواحي والضياع، فكان للرجال يوم الأحد، وللنساء يوم الأربعاء، وللأشراف وذوي الأقدار يوم الثلاثاء، وازدحم الناس على الدخول في الدعوة، فمات عدّة من الرجال والنساء. ولما وصلت قافلة الحاج مرّ بهم من سبّ العامّة وبطشهم ما لا يوصف، فإنهم أرادوا حمل الحاج على سبّ السلف فأبوا، فحلّ بهم مكروه شديد. وفي جمادى الآخرة من هذه السنة فتحت دار الحكمة بالقاهرة وجلس فيها القرّاء، وحملت الكتب إليها من خزائن القصور، ودخل الناس إليها وجلس فيها القرّاء والفقهاء والمنجمون والنحاة وأصحاب اللغة والأطباء، وحصل فيها من الكتب في سائر العلوم ما لم ير مثله مجتمعا، وأجرى على من فيها من الخدّام والفقهاء الأرزاق السنية، وجعل فيها ما يحتاج إليه من الحبر والأقلام والمحابر والورق. وفي يوم عاشوراء من سنة ست وتسعين وثلاثمائة كان من اجتماع الناس ما جرت به العادة، وأعلن بسبّ السلف فيه، فقبض على رجل نودي عليه هذا جزاء من سبّ عائشة وزوجها صلّى الله عليه وسلّم، ومعه من الرعاع ما لا يقع عليه حصروهم يسبون السلف، فلما تمّ النداء عليه ضرب عنقه، واستهل شهر رجب من هذه السنة بيوم الأربعاء، فخرج أمر الحاكم بأمر الله أن يؤرّخ بيوم الثلاثاء، وفي سنة سبع وتسعين وثلاثمائة قبض على جماعة ممن يعمل الفقاع ومن السماكين ومن الطباخين وكبست الحمامات فأخذ عدّة ممن وجد بغير مئزر، فضرب الجميع لمخالفتهم الأمر وشهروا. وفي تاسع ربيع الآخر أمر الحاكم بأمر الله بمحو ما كتب على المساجد وغيرها من سبّ السلف، وطاف متولي الشرطة وألزم كل أحد بمحو ما كتب على المساجد من ذلك، ثم قريء سجل في ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة بأن لا يحمل شيء من النبيذ والمزر، ولا يتظاهر به ولا بشيء من الفقاع والدلينس والسمك الذي لا قشر له والترمس العفن، وقريء سجل في رمضان على سائر المنابر بأنه يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخمس الدين، فبما جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها. ولا هم عنها يدفعون، يخمّس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التربيع عليها المربّعون، يؤذن بحيّ على خير العمل المؤذنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون، ولا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما وصف، والحالف منهم بما حلف، لكلّ مسلم مجتهد في دينه اجتهاده، وإلى الله ربه معاده عنده كتابه وعليه حسابه. وفي صفر سنة أربعمائة شهر جماعة بعد ما ضربوا بسبب بيع الفقاع والملوخيا والدلينس والترمس. وفي تاسع عشر شهر شوّال أمر الحاكم بأمر الله برفع ما كان يؤخذ من الخمس والزكاة والفطرة والنجوى، وأبطل قراءة مجالس الحكمة في القصر، وأمر بردّ التثويب في الأذان،

وأذّن للناس في صلاة الضحى وصلاة التراويح، وأمر المؤذنين بأسرهم في الأذان بأن لا يقولوا حيّ على خير العمل، وأن يقولوا في الأذان للفجر الصلاة خير من النوم، ثم أمر في ثاني عشري ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة بإعادة قول حيّ على خير العمل في الأذان، وقطع التثويب وترك قولهم الصلاة خير من النوم، ثم أمر في ثاني عشري ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة بإعادة قول حيّ على خير العمل في الأذان، وقطع التثويب وترك قولهم الصلاة خير من النوم، ومنع من صلاة الضحى، وصلاة التراويح، وفتح باب الدعوة، وأعيدت قراءة المجالس بالقصر على ما كانت، وكان بين المنع من ذلك والأذن فيه خمسة أشهر، وضرب في جمادى من هذه السنة جماعة وشهروا بسبب بيع الملوخيا والسمك الذي لا قشر له وشرب المسكرات، وتتبع السكارى فضيق عليهم. وفي يوم الثلاثاء سابع عشري شعبان سنة إحدى وأربعمائة وقع قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ إلى سائر الشهود والأمناء بخروج الأمر المعظم، بأن يكون الصوم يوم الجمعة والعيد يوم الأحد. وفي شعبان سنة اثنتين وأربعمائة قريء سجل يشدّد فيه النكير على بيع الملوخيا والفقاع والسمك الذي لا قشر له، ومنع النساء من الاجتماع في المآتم ومن اتباع الجنائز، وأحرق الحاكم بأمر الله في هذا الشهر الزبيب الذي وجد في مخازن التجار، وأحرق ما وجد من الشطرنج، وجمع صيادي السمك وحلّفهم بالأيمان المؤكدة أن لا يصطادوا سمكا بغير قشر، ومن فعل ذلك ضربت عنقه، وأحرق في خمسة عشر يوما ألفين وثمانمائة وأربعين قطعة زبيب بلغ ثمن النفقة عليها خمسمائة دينار، ومنع من بيع العنب إلّا أربعة أرطال فما دونها، ومنع من اعتصاره، وطرح عنبا كثيرا في الطرقات وأمر بدوسه، فامتنع الناس من التظاهر بشيء من العنب في الأسواق، واشتدّ الأمر فيه، وغرق منه ما حمل في النيل، وأحصي ما بالجيزة من الكروم، فقطف ما عليها من العنب وطرح ما جمعه من ذلك تحت أرجل البقر لتدوسه، وفعل مثل ذلك في جهات كثيرة، وختم على مخازن العسل، وغرّق منه في أربعة أيام خمسة آلاف جرّة وإحدى وخمسين جرّة فيها العسل، وغرق من عسل النحل قدر إحدى وخمسين زيرا. وفي جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعمائة، اشتدّ الإنكار على الناس بسبب بيع الفقاع والزبيب والسمك الذي لا قشر له، وقبض على جماعة وجد عندهم زبيب فضربت أعناقهم وسجنت عدّة منهم وأطلقوا. وفي شوّال اعتقل رجل ثم شهر ونودي عليه هذا جزاء من سبّ أبا بكر وعمر ويثير الفتن، فاجتمع خلق كثير بباب القصر فاستغاثوا، لا طاقة لنا بمخالفة المصريين ولا بمخالفة الحشوية من العوام، ولا صبر لنا على ما جرى، وكتبوا قصصا فصرفوا ووعدوا بالمجيء في غد، فبات كثير منهم بباب القصر، واجتمعوا من الغد فصاحوا وضجوا فخرج إليهم قائد القوّاد غين، فنهاهم وأمرهم عن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أن يمضوا إلى معايشهم، فانصرفوا إلى قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ وشكوا إليه، فتبرّم من ذلك فمضوا وفيهم من يسب

السلف ويعرّض بالناس، فقريء سجل في القصر بالترحم على السلف من الصحابة، والنهي عن الخوض في ذلك، وركب مرّة فرأى لوحا على قيسارية فيه سب السلف فأنكره، وما زال واقفا حتى قلع وضرب بالحرس في سائر طرقات مصر والقاهرة، وقريء سجل بتتبع الألواح المنصوبة على سائر أبواب القياسر والحوانيت والدور والخانات والأرباع المشتملة على ذكر الصحابة والسلف الصالح، رحمهم الله، بالسب واللعن، وقلع ذلك وكسره وتعفية أثره، ومحو ما على الحيطان من هذه الكتابة، وإزالة جميعها من سائر الجهات حتى لا يرى لها أثر في جدار ولا نقش في لوح، وحذّر فيه من المخالفة، وهدّد بالعقوبة، ثم انتقض ذلك كله وعاد الأمر إلى ما كان عليه إلى أن قتل الخليفة الآمر بأحكام الله أبو عليّ منصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبي تميم معدّ. وثار أبو عليّ أحمد الملقب كتيفات ابن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش، واستولى على الوزارة في شنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسجن الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن الخليفة المستنصر بالله، وأعلن بمذهب الإمامية والدعوة للإمام المنتظر، وضرب دراهم نقشها: الله الصمد الإمام محمد. ورتب في سنة خمس وعشرين أربعة قضاة، اثنان أحدهما إماميّ والآخر إسماعيليّ، واثنان أحدهما مالكيّ والآخر شافعيّ، فحكم كل منهما بمذهبه وورّث على مقتضاه، وأسقط ذكر إسماعيل بن جعفر الصادق وأبطل من الأذان حيّ على خير العمل، وقولهم محمد وعليّ خير البشر، فلما قتل في المحرّم سنة ست وعشرين عاد الأمر إلى ما كان عليه من مذهب الإسماعيلية. وما برح حتى قدمت عساكر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من دمشق، عليها أسد الدين شيركوه، وولى وزارة مصر للخليفة العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله، ومات، فقام في الوزارة بعده ابن أخيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، وشرع في تغيير الدولة وإزالتها، وحجر على العاضد وأوقع بأمراء الدولة وعساكرها، وأنشأ بمدينة مصر مدرسة للفقهاء الشافعية، ومدرسة للفقهاء المالكية، وصرف قضاة مصر الشيعة كلهم، وفوّض القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارانيّ الشافعيّ، فلم يستنب عنه في إقليم مصر إلّا من كان شافعيّ المذهب، فتظاهر الناس من حينئذ بمذهب مالك والشافعيّ، واختفى مذهب الشيعة والإسماعيلية والإمامية حتى فقد من أرض مصر كلها، وكذلك كان السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر حنيفا فيه تعصب، فنشر مذهب أبي حنيفة رحمه الله ببلاد الشام، ومنه كثرت الحنفية بمصر، وقدم إليها أيضا عدّة من بلاد الشرق، وبنى لهم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب المدرسة السيوفية بالقاهرة، وما زال مذهبهم ينتشر ويقوى وفقهاؤهم تكثر بمصر والشام من حينئذ. وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن عليّ بن

ذكر فرق الخليقة واختلاف عقائدها وتباينها

إسماعيل الأشعريّ، تلميذ أبي علي الجبائيّ، وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر، كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعيّ من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عرفت بالشريفية بجوار جامع عمرو بن العاص بمصر، والمدرسة المعروفة بالقمحية بمصر، وخانكاه سعيد السعداء بالقاهرة. فاستمرّ الحال على عقيدة الأشعريّ بديار مصر وبلاد الشام وأرض الحجاز واليمن وبلاد المغرب أيضا، لإدخال محمد بن تومرت رأي الأشعريّ إليها، حتى أنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد، بحيث أن من خالفه ضرب عنقه، والأمر على ذلك إلى اليوم، ولم يكن في الدولة الأيوبية بمصر كثير ذكر لمذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، ثم اشتهر مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل في آخرها. فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، ولي بمصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم شافعيّ ومالكيّ وحنفيّ وحنبليّ. فاستمرّ ذلك من سنة خمس وستين وستمائة، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعريّ، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه، ولم يولّ قاض ولا قبلت شهادة أحد ولا قدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم، وإذ قد بينا الحال في سبب اختلاف الأمّة منذ توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن استقرّ العمل على مذهب مالك والشافعيّ وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، رحمة الله عليهم، فلنذكر اختلاف عقائد أهل الإسلام منذ كان إلى أن التزم الناس عقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعريّ رحمه الله ورضي عنه. ذكر فرق الخليقة واختلاف عقائدها وتباينها اعلم أن الذين تكلموا في أصول الديانات قسمان، هما من خالف ملة الإسلام، ومن أقرّ بها. فأما المخالفون لملة الإسلام فهم عشر طوائف: الأولى الدهرية، والثانية أصحاب العناصر. والثالثة الثنوية: وهم المجوس، ويقولون بأصلين هما النور والظلمة، ويزعمون أن النور هو يزدان، والظلمة هو أهرمن، ويقرّون بنبوّة إبراهيم عليه السّلام، وهم ثمان فرق: الكيومرتية أصحاب كيومرت الذي يقال أنه آدم. والزروانية أصحاب زروان الكبير، والزرادشتية أصحاب زراداشت بن بيورشت الحكيم، والثنوية أصحاب الاثنين الأزليين. والمانوية أصحاب ماني الحكيم. والمزركية أصحاب مزرك الخارجي. والبيصانية أصحاب بيصان القائل بالأصلين القديمين. والفرقونية القائلون بالأصلين. وأنّ الشرّ خرج على أبيه وأنه تولد من فكرة فكرها في نفسه، فلما خرج على أبيه الذي هو الإله بزعمهم عجز عنه،

ثم وقع الصلح بينهما على يد الندمات وهم الملائكة، ومنهم من يقول بالتناسخ، ومنهم من ينكر الشرائع والأنباء، ويحكمون العقول، ويزعمون أن النفوس العلوية تفيض عليهم الفضائل. والطائفة الرابعة الطبائعيون. والطائفة الخامسة الصابئة القائلون بالهياكل والأرباب السماوية والأصنام الأرضية، وإنكار النبوّات، وهم أصناف وبينهم وبين الحنفاء مناظرات وحروب مهلكة، وتولدت من مذاهبهم الحكمة الملطية، ومنهم أصحاب الروحانيات، وهم عباد الكواكب وأصنامها التي عملت على تمثالها، والحنفاء هم القائلون بأن الروحانيات منها ما وجودها بالقوّة، ومنها ما وجودها بالفعل، فما هو بالقوّة يحتاج إلى من يوجده بالفعل. ويقرّون بنبوّة إبراهيم، وأنه منهم. وهم طوائف: الكاظمة أصحاب كاظم بن تارح، ومن قوله أنّ الحق في الجمع بين شريعة إدريس وشريعة نوح وشريعة إبراهيم عليهم السّلام، ومنهم البيدانية: أصحاب بيدان الأصغر، ومن قوله اعتقاد نبوّة من يفهم عالم الروح، وأن النبوّة من أسرار الإلهية. ومنهم القنطارية: أصحاب قنطار بن أرفخشد، ويقرّ بنبوّة نوح. ومن فرق الصابئة أصحاب الهياكل: ويرون أن الشمس إله كلّ إله. والحرّانية: ومن قولهم المعبود واحد بالذات وكثير بالأشخاص في رأي العين، وهي المدبرات السبع من الكواكب والأرضية الجزئية والعالمة الفاضلة. والطائفة السادسة اليهود. والسابعة النصارى. والثامنة أهل الهند القائلون بعبادة الأصنام، ويزعمون أنها موضوعة قبل آدم، ولهم حكم عقلية وأحكام وضعها الشلم، أعظم حكامهم، والمهندم قبله، والبراهمة قبل ذلك. فالبراهمة أصحاب برهام أوّل من أنكر نبوّة البشر، ومنهم البردة زهاد عباد رجال الرماد الذي يهجرون اللذات الطبيعية، وأصحاب الرياضة التامّة، وأصحاب التناسخ، وهم أقسام أصحاب الروحانية والبهادرية والناسوتية والباهرية والكابلية، أهل الجبل. ومنهم الطبسيون أصحاب الرياضة الفاعلة، حتّى أن منهم من يجاهد نفسه حتى يسلطها على جسده، فيصعد في الهواء على قدر قوّته، وفي اليهود عباد النار وعباد الشمس والقمر والنجوم وعباد الأوثان. والطائفة التاسعة الزنادقة وهم طوائف منهم القرامطة. والعاشرة الفلاسفة أصحاب الفلسفة، وكلمة فيلسوف معناها محب الحكمة، فإن فيلو محب، وسوفا حكمة، والحكمة قولية وفعلية، وعلم الحكماء انحصر في أربعة أنواع: الطبيعيّ والمدنيّ والرياضيّ والإلهيّ. والمجموع ينصرف إلى علم ما، وعلم كيف، وعلم

كم، فالعلم الذي يطلب فيه ماهيات الأشياء هو الإلهيّ، والذي يطلب فيه كيفيات الأشياء هو الطبيعيّ، والذي يطلب فيه كميات الأشياء هو الرياضيّ. ووضع بعد ذلك أرسطو صنعة المنطق، وكانت بالقوّة في كلام القدماء، فأظهرها ورتبها. واسم الفلاسفة يطلق على جماعة من الهند، وهم الطبسيون والبراهمة، ولهم رياضة شديدة، وينكرون النبوّة أصلا، ويطلق أيضا على العرب بوجه أنقص، وحكمتهم ترجع إلى أفكارهم وإلى ملاحظة طبيعية، ويقرّون بالنبوّات، وهم أضعف الناس في العلوم، ومن الفلاسفة حكماء الروم، وهم طبقات، فمنهم أساطين الحكمة، وهم أقدمهم، ومنهم المشاؤون وأصحاب الرواق، وأصحاب أرسطو، وفلاسفة الإسلام. فمن فلاسفة الروم الحكماء السبعة، أساطين الحكمة، أهل ملطية وقونية وهم: تاليس الملطيّ، وانكساغورس، وانكسمالس، وابنادفيس، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون. ودون هؤلاء فلوطس، وبقراط، وديمقراطيس، وأسعر والنساس. ومنهم حكماء الأصول من القدماء، ولهم القول بالسيمياء، ولهم أسرار الخواص والحيل والكيمياء والأسماء الفعالة والحروف، ولهم علوم توافق علوم الهند، وعلوم اليونانيين، وليس من موضوع كتابنا هذا ذكر تراجمهم، فلذلك تركناها. القسم الثاني فرق أهل الإسلام. الذي عناهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «ستفترق أمّتي ثلاثا وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون هالكة، وواحدة ناجية» وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذيّ وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرّقت النصارى على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة» قال البيهقيّ حسن صحيح، وأخرجه الحاكم وابن حبان في صحيحه بنحوه، فأخرجه في المستدرك من طريق الفضل بن موسى، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، وقال هذا حديث كثير في الأصول، وقد روي عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وعوف بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثله، وقد احتج مسلم بمحمد بن عمر، وعن أبي سلمة عن أبي هريرة، واتفقا جميعا على الاحتجاج بالفضل بن موسى وهو ثقة. واعلم أن فرق المسلمين خمسة: أهل السنة، والمرجئة، والمعتزلة، والشيعة، والخوارج. وقد افترقت كلّ فرقة منها على فرق، فأكثر افتراق أهل السنة في الفتيا ونبذ يسير من الاعتقادات، وبقية الفرق الأربع منها من يخالف أهل السنة الخلاف البعيد، ومنهم من يخالفهم الخلاف القريب، فأقرب فرق المرجئة من قال: الإيمان إنما هو التصديق بالقلب واللسان معا فقط، وأن الأعمال إنما هي فرائض الإيمان وشرائعه فقط، وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان ومحمد بن كرام. وأقرب فرق المعتزلة أصحاب الحسين النجار وبشر بن غياث المريسيّ، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل العلاف. وأقرب مذاهب الشيعة أصحاب الحسن بن صالح بن حيّ، وأبعدهم الإمامية. وأما الغالية فليسوا بمسلمين ولكنهم أهل ردّة

وشرك. وأقرب فرق الخوارج أصحاب عبد الله بن يزيد الإباضيّ، وأبعدهم الأزارقة. وأما البطيخية ومن جحد شيئا من القرآن أو فارق الإجماع من العجاردة وغيرهم فكفار بإجماع الأمّة، وقد انحصرت الفرق الهالكة في عشر طوائف: الفرقة الأولى المعتزلة: الغلاة في نفي الصفات الإلهية، القائلون بالعدل والتوحيد، وأن المعارف كلها عقلية، حصولا ووجوبا، قبل الشرع وبعده، وأكثرهم على أن الإمامة بالاختيار، وهم عشرون فرقة: إحداها الواصلية: أصحاب واصل بن عطاء أبي حذيفة الغزال، مولى بني ضبة، وقيل مولى بني مخزوم. ولد بالمدينة سنة ثمانين، ونشأ بالبصرة، ولقي أبا هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، ولازم مجلس الحسن بن الحسين البصريّ، وأكثر من الجلوس بسوق الغزل ليعرف النساء المتعففات فيصرف إليهنّ صدقته، فقيل له الغزال من أجل ذلك، وكان طويل العنق جدّا، حتى عابه عمرو بن عبيد بذلك فقال: من هذه عنقه لا خير عنده. فلما برع واصل، قال عمر: وربما أخطأت الفراسة. وكان يلثغ بالراء، ومع ذلك كان فصيحا لسنا مقتدرا على الكلام، قد أخذ بجوامعه، فلذلك أمكنه أن أسقط حرف الراء من كلامه، واجتناب الحروف صعب جدّا، لا سيما مثل الراء لكثرة استعمالها، وله رسالة طويلة لم يذكر فيها حرف الراء، أحد بدائع الكلام، وكان لكثرة صمته يظنّ به الخرس، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة، وله كتاب المنزلة بين المنزلتين، وكتاب الفتيا، وكتاب التوحيد. وعنه أخذ جماعة، وأخباره كثيرة، ويقال لهم أيضا الحسنية، نسبة إلى الحسن البصريّ. وأخذ واصل العلم عن أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، وخالفه في الإمامة، واعتزاله يدور على أربع قواعد هي: نفي الصفات، والقول بالقدر، والقول بمنزلة بين المنزلتين، وأوجب الخلود في النار على من ارتكب كبيرة. فلما بلغ الحسن البصريّ عنه هذا قال: هؤلاء اعتزلوا، فسموا من حينئذ المعتزلة. وقيل أن تسميتهم بذلك حدثت بعد الحسن، وذلك أن عمرو بن عبيد لما مات الحسن وجلس قتادة مجلسه اعتزله في نفر معه، فسماهم قتادة المعتزلة. القاعدة الرابعة القول بأن إحدى الطائفتين من أصحاب الجمل وصفين مخطئة لا بعينها، وكان في خلافة هشام بن عبد الملك. والثانية العمروية: أصحاب عمرو، ومن قوله ترك قول عليّ بن أبي طالب وطلحة والزبير رضي الله عنهم. وقال ابن منبه: اعتزل عمرو بن عبيد وأصحاب له الحسن، فسموا المعتزلة. والثالثة الهذلية: اتباع أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف شيخ المعتزلة، أخذ عن عثمان بن خالد الطويل، عن واصل بن عطاء، ونظر في الفلسفة ووافقهم في كثير وقال: جميع الطاعات من الفرائض والنوافل إيمان، وانفرد بعشر مسائل وهي: أن علم الله وقدرته وحياته هي ذاته، وأثبت إرادات لا محل لها يكون الباري مريدا لها. وقال: بعض كلام الله

لا في محل، وهو قوله كن. وبعضه في محل، كالأمر والنهي. وقال في أمور الآخرة. كمذهب الجبرية. وقال تنتهي مقدورات الله حتى لا يقدر على إحداث شيء ولا على إفناء شيء ولا إحياء شيء ولا إماتة شيء، وتنقطع حركات أهل الجنة والنار ويصيرون إلى سكون دائم. وقال: الاستطاعة عرض من الأعراض نحو السلامة، والصحة. وفرّق بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح وقال: تجب معرفة الله قبل ورود السمع. وأن المرء المقتول إن لم يقتل مات في ذلك الوقت، ولا يزاد العلم ولا ينقص بخلاف الرزق. وقال: إرادة الله عين المراد، والحجة لا تقوم فيما غاب إلّا بخبر عشرين. والرابعة النظامية: اتباع إبراهيم بن سيار النظّام، بتشديد الظاء المعجمة، زعيم المعتزلة وأحد السفهاء، انفرد بعدّة مسائل وهي: قوله أنّ الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وأنها غير مقدورة لله. وقال: ليس لله إرادة، وأفعال العباد كلها حركات، والنفس والروح هو الإنسان، والبدن إنما هو آلة فقط، وأن كل ما جاوز القدرة من الفعل فهو من الله، وهو فعله، وأنكر الجوهر الفرد، وأحدث القول بالطفرة، وقال: الجوهر مؤلف من أعراض اجتمعت، وزعم أنّ الله خلق الموجودات دفعة على ما هي عليه، وأن الإعجاز في القرآن من حيث الإخبار عن الغيب فقط، وأنكر أن يكون الإجماع حجة، وطعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وقال قبحه الله: أبو هريرة أكذب الناس، وزعم أنه ضرب فاطمة ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنع ميراث العترة، وأوجب معرفة الله بالفكر قبل ورود الشرع، وحرّم نكاح الموالي العربيات. وقال: لا تجوز صلاة التراويح، ونهى عن ميقات الحج، وكذب بانشقاق القمر، وأحال رؤية الجنّ، وزعم أن من سرق مائتي دينار فما دونها لم يفسق، وأن الطلاق بالكتابة لا يقع وإن كان بنيّة، وأنّ من نام مضطجعا لا ينتقض وضوءه ما لم يخرج منه الحدث. وقال: لا يلزم قضاء الصلوات إذا فاتت. والخامسة الإسوارية: اتباع أبي عليّ عمرو بن قائد الإسواريّ، القائل أن الله تعالى لا يقدر أن يفعل ما علم أنه لا يفعله. والسادسة الإسكافية: اتباع أبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافيّ، ومن قوله أنّ الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء، ويقدر على ظلم الأطفال والمجانبين، وأنه لا يقال أنّ الله خالق المعازف والطنابير وإن كان هو الذي خلق أجسامها. والسابعة الجعفرية: اتباع جعفر بن حرب بن ميسرة، ومن قوله أنّ في فسّاق هذه الأمّة من هو شرّ من اليهود والنصارى والمجوس، وأسقط الحدّ عن شارب الخمر، وزعم أن الصغائر من الذنوب توجب تخليد فاعلها في النار، وأنّ رجلا لو بعث رسولا إلى امرأة ليخطبها فجاءته فوطئها من غير عقد لم يكن عليه حدّ، ويكون وطؤه إياها طلاقا لها. والثامنة البشرية: اتباع بشر بن المعتمر، ومن قوله الطعم واللون والرائحة والإدراكات كلها من السمع، يجوز أن تحصل متولدة، وصرف الاستطاعة إلى سلامة البنية والجوارح.

وقال: لو عذب الله الطفل الصغير لكان ظالما، وهو يقدر على ذلك. وقال: إرادة الله من جملة أفعال، ثم هي تنقسم إلى صفة فعل وصفة ذات. وقال: باللطف المخزون، وأن الله لم يخلقه لأنّ ذلك يوجب عليه الثواب، وأن التوبة الأولى متوقفة على الثانية، وأنها لا تنفع إلّا بعدم الوقوع في الذي وقع فيه، فإن وقع لم تنفعه التوبة الأولى. والتاسعة المزدارية: أتباع أبي موسى عيسى بن صبيح المعروف بالمزدار، تلميذ بشر بن المعتمر، وكان زاهدا، وقيل له راهب المعتزلة، وانفرد بمسائل منها. قوله أنّ الله قادر على أن يظلم ويكذب، ولا يطعن ذلك في الربوبية، وجوّز وقوع الفعل الواحد من فاعلين على سبيل التولد، وزعم أن القرآن مما يقدر عليه، وأن بلاغته وفصاحته لا تعجز الناس بل يقدرون على الإتيان بمثلها وأحسن منها، وهو أصل المعتزلة في القول بخلق القرآن. وقال: من أجاز رؤية الله بالإبصار بلا كيف فهو كافر، والشاكّ في كفره كافر أيضا. والعاشرة الهشامية: أتباع هشام بن عمرو الفوطيّ، الذي يبالغ في القدر ولا ينسب إلى الله فعلا من الأفعال، حتى أنه أنكر أن يكون الله هو الذي ألف بين قلوب المؤمنين، وأنه يحب الإيمان للمؤمنين، وأنه أضل الكافرين. وعاند ما في القرآن من ذلك وقال: لا تنعقد الإمامية في زمن الفتنة واختلاف الناس، وأن الجنة والنار غير مخلوقتين. ومنع أن يقال حسبنا الله ونعم الوكيل، وقال لأن الوكيل دون الموكل، وقال: لو أسبغ أحد الوضوء، ودخل فيه الصلاة بنيّة القربة لله تعالى، والعزم على إتمامها، وركع وسجد مخلصا في ذلك كله، إلّا أنّ الله علم أنه يقطعها في آخرها، فإن أوّل صلاته معصية. ومنع أن يكون البحر انفلق لموسى، وأن عصاه انقلبت حية، وأن عيسى أحيى الموتى، بإذن الله، وأن القمر انشق للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنكر كثيرا من الأمور التي تواترت، كحصر عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقتله بالغلبة. وقال: إنما جاءته شرذمة قليلة تشكو عمّاله ودخلوا عليه وقتلوه، فلا يدري قاتله. وقال: إنّ طلحة والزبير وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، ما جاؤوا للقتال في حرب الجمل، وإنما برزوا للمشاورة، وتقاتل أتباع الفريقين في ناحية أخرى، وأن الأمّة إذا اجتمعت كلها وتركت الظلم والفساد احتاجت إلى إمام يسوسها، فأما إذا عصت وفجرت وقتلت واليها فلا تنعقد الإمامة لأحد، وبنى على ذلك أنّ إمامة عليّ رضي الله عنه لم تنعقد، لأنها كانت في حال الفتنة بعد قتل عثمان، وهو أيضا مذهب الأصم وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وأنكر افتضاض الأبكار في الجنة، وأنكر أن الشيطان يدخل في الإنسان وإنما يوسوس له من خارج، والله يوصل وسوسته إلى قلب ابن آدم. وقال: لا يقال خلق الله الكافر، لأنه اسم العبد والكفر جميعا، وأنكر أن يكون في أسماء الله الضارّ النافع. والحادية عشر الحائطية: اتباع أحمد بن حائط أحد أصحاب إبراهيم بن سيار النظّام وله بدع شنيعة منها: أنّ للخلق إلهين، أحدهما خالق وهو الإله القديم، والآخر مخلوق

وهو عيسى ابن مريم، وزعم أن المسيح ابن الله، وأنه هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة، وأنه هو المعنيّ بقول الله تعالى في القرآن: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة/ 210] وزعم في قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله خلق آدم على صورته» أن معناه خلقه إياه على صورة نفسه. وأن معنى قوله عليه السلام: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» إنما أراد به عيسى، وزعم أن في الدواب والطيور والحشرات حتى البق والبعوض والذباب أنبياء لقول الله سبحانه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر/ 24] وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الانعام/ 38] ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها» وذهب مع ذلك إلى القول بالتناسخ، وزعم أن الله ابتدأ الخلق في الجنة، وإنما خرج من خرج منها بالمعصية، وطعن في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أجل تعدّد نكاحه وقال: إنّ أبا ذر الغفاريّ أنسك وأزهد منه قبحه الله، وزعم أنّ كل من نال خيرا في الدنيا إنما هو بعمل كان منه، ومن ناله مرض أو آفة فبذنب كان منه، وزعم أن روح الله تناسخت في الأئمة. والثانية عشر الحمارية: أتباع قوم من معتزلة عسكر مكرم، ومن مذهبهم أن الممسوخ إنسان كافر معتقد الكفر، وأن النظر أوجب المعرفة، وهو لا فاعل له، وكذلك الجماع أوجب الولد، فشكّ في خالق الولد، وأنّ الإنسان يخلق أنواعا من الحيوانات بطريق التعفين، وزعموا أنه يجوز أن يقدر الله العبد على خلق الحياة والقدرة. والثالثة عشر المعمرية: أتباع معمر بن عباد السلميّ، وهو أعظم القدرية غلوّا، وبالغ في رفع الصفات والقدرة بالجملة، وانفرد بمسائل منها: أنّ الإنسان يدبر الجسد وليس بحال فيه، والإنسان عنده ليس بطويل ولا عريض، ولا ذي لون وتأليف وحركة، ولا حال ولا متمكن، وأنّ الإنسان شيء غير هذا الجسد، وهو حيّ عالم قادر مختار، وليس هو بمتحرّك ولا ساكن. ولا متلوّن ولا يرى ولا يلمس ولا يحلّ موضعا ولا يحويه مكان، فوصف الإنسان بوصف الإلهية عنده، فإن مدبر العالم موصوف عنده كذلك، وزعم أن الإنسان منعم في الحياة وموزر في النار، وليس هو في الجنة ولا في النار حالا ولا متمكنا. وقال: أنّ الله لم يخلق غير الأجسام، والأعراض تابعة لها متولدة منها، وأنّ الأعراض لا تتناهى في كل نوع، وأنّ الإرادة من الله للشيء غير الله وغير خلقه، وأنّ الله ليس بقديم، لأنّ ذلك أخذ من قدم يقدم فهو قديم. والرابعة عشر الثمانية: أتباع ثمامة بن أشرس النميريّ، وجمع بين النقائض وقال:

العلوم كلها ضرورية، فكلّ من لم يضطرّ إلى معرفة الله فليس بمأمور بها، وهو كالبهائم ونحوها، وزعم أن اليهود والنصارى والزنادقة يصيرون يوم القيامة ترابا كالبهائم لا نواب لهم ولا عقاب عليهم البتة، لأنهم غير مأمورين، إذ هم غير مضطرّين إلى معرفة الله تعالى، وزعم أنّ الأفعال كلها متولدة لا فاعل لها، وأنّ الاستطاعة هي السلامة وصحة الجوارح، وأن العقل هو الذي يحسن ويقبح، تجب معرفة الله قبل ورود الشرع وأن لا فعل للإنسان إلّا الإرادة، وما عداها فهو حدث. والخامسة عشر الجاحظية: أتباع أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وله مسائل تميز بها عن أصحابه منها: أن المعارف كلها ضرورية، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد، وإنما هي طبيعية، وليس للعباد كسب سوى الإرادة، وأنّ العباد لا يخلدون في النار بل يصيرون من طبيعتها، وأنّ الله لا يدخل أحدا النار، وإنما النار تجذب أهلها بنفسها وطبيعتها، وأن القرآن المنزل من قبيل الأجساد، ويمكن أن يصير مرّة رجلا ومرّة حيوانا، وأن الله لا يريد المعاصي، وأنه لا يرى، وأن الله يريد بمعنى أنه لا يغلط، ولا يصح في حقه السهو فقط، وأنه يستحيل العدم على الجواهر من الأجسام. والسادسة عشر الخياطية: أصحاب أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط شيخ أبي القاسم الكعبيّ من معتزلة بغداد، زعم أن المعدوم شيء، وأنه في العدم جسم إن كان في حدوثه جسما، وعرض إن كان في حدوثه عرضا. والسابعة عشر الكعبية: أتباع أبي القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخيّ المعروف بالكعبيّ من معتزلة بغداد، انفرد بأشياء منها: أن إرادة الله ليست صفة قائمة بذاته، ولا هو مدبر لذاته، ولا إرادته حادثة في محل، وإنما يرجع ذلك إلى العلم فقط، والسمع والبصر يرجع إلى ذلك أيضا، وأنكر الرؤية وقال: إذا قلنا أنه يرى المرئيات فإنما ذلك يرجع إلى علمه بها وتمييزها قبل أن يوجد. والثامنة عشر الجبائية: أتباع أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ، من معتزلة البصرة، تفرّد بمقالات منها. أنّ الله تعالى يسمى مطيعا للعبد إذا فعل ما أراد العبد منه، وأن الله محبل للنساء بخلق الولد فيهنّ، وأن كلام الله عرض يوجد في أمكنة كثيرة، وفي مكان بعد مكان من غير أن يعدم من مكانه الأوّل، ثم يحدث في الثاني وكان يقف في فضل عليّ على أبي بكر، وفضل أبي بكر على عليّ، ومع ذلك يقول إنّ أبا بكر خير من عمر وعثمان، ولا يقول أن عليا خير من عمر وعثمان. والتاسعة عشرة البهشمية: أتباع أبي هاشم عبد السلام بن أبي عليّ الجبائي، انفرد ببدع في مقالاته، منها القول باستحقاق الذم من غير ذنب، وزعم أن القادر منا يجوز أن يخلو عن الفعل والترك، وأن القادر المأمور المنهيّ إذا لم يفعل فعلا ولا ترك يكون عاصيا

مستحق العقاب والذم، لا على الفعل لأنه لم يفعل ما أمر به، وأن الله يعذب الكافرين والعصاة لا على فعل مكتسب، ولا على محدث منه. وقال: التوبة لا تصح من قبيح مع الإصرار على قبيح آخر يعلمه أو يعتقده قبيحا، وإن كان حسنا، وأنّ التوبة لا تصح مع الإصرار على منع حسنة واجبة عليه، وأن توبة الزاني بعد ضعفه عن الجماع لا تصح، وزعم أن الطهارة غير واجبة، وإنما أمر العبد بالصلاة في حال كونه متطهرا وأن الطهارة تجزيء بالماء المغصوب، ولا تجزيء الصلاة في الأرض المغصوبة، وزعم أن الزنج والترك والهنود قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وقال أبو عليّ وابنه أبو هاشم: الإيمان هو الطاعات المفروضة. والفرقة العشرون من المعتزلة الشيطانية: أتباع محمد بن نعمان المعروف بشيطان الطاق، وهو من الروافض، شارك كلّا من المعتزلة والروافض في بدعهم، وقلما يوجد معتزليّ إلّا وهو رافضيّ، إلّا قليلا منهم، انفرد بطامّة، وهي أنّ الله لا يعلم الشيء إلّا قدّره وأراده، وأما قبل تقديره فيستحيل أن يعلّمه، ولو كان عالما بأفعال عباده لاستحال أن يمتحنهم ويختبرهم، وللمعتزلة إسام منها الثنوية، سموا بذلك لقولهم الخير من الله والشرّ من العبد، ومنهم الكيسانية، والناكتية، والأحمدية، والوهمية، والبترية والواسطية، والواردية. سموا بذلك لقولهم لا يدخل المؤمنون النار، وإنما يردون عليها. ومن أدخل النار لا يخرج منها قط، ومنهم الحرقية. لقولهم الكفار لا تحرق إلّا مرّة، والمفنية القائلون بفناء الجنة والنار. والواقفية القائلون بالوقف في خلق القرآن. ومنهم اللفظية القائلون ألفاظ القرآن غير مخلوقة. والملتزقة القائلون الله بكل مكان. والقبرية القائلون بإنكار عذاب القبر. الفرقة الثانية المشبهة: وهم يغلون في إثبات صفات الله تعالى ضدّ المعتزلة، وهم سبع فرق: الهاشمية: أتباع هشام بن الحكم، ويقال لهم أيضا الحكمية، ومن قولهم الإله تعالى كنور السبكية الصافية يتلألأ من جوانبه، ويرمون مقاتل بن سليمان بأنه قال: هو لحم ودم على صورة الإنسان، وهو طويل عريض عميق، وأن طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه، وهو ذو لون وطعم ورائحة، وهو سبعة أشبار يشبر نفسه، ولم يصح هذا القول عن مقاتل. والجولقية: أتباع هشام بن سالم الجوالقيّ، وهو من الرافضة أيضا، ومن شنيع قوله أن الله تعالى على صورة الإنسان، نصفه الأعلى موف ونصفه الأسفل مصمت، وله شعر أسود، وليس بلحم ودم، بل هو نور ساطع، وله خمس حواس كحواس الإنسان، ويد ورجل وفم وعيون وأذن وشعر أسود لا الفرج واللحية. والبيانية: أتباع بيان بن سمعان القائل هو على صورة الإنسان، ويهلك كله إلّا وجهه، لظاهر الآية كلّ شيء هالك إلّا وجهه.

والمغيرية أتباع مغيرة بن سعيد العجليّ، وهو أيضا من الروافض، ومن شنائعه قوله أن أعضاء معبودهم على صورة حروف الهجاء، فالألف على صورة قدميه، وزعم أنه رجل من نور على رأسه تاج من نور، وزعم أن الله كتب بإصبعه أعمال العباد من طاعة ومعصية، ونظر فيهما وغضب من معاصيهم فعرق، فاجتمع من عرقه بحران عذب ومالح، وزعم أنه بكلّ مكان، لا يخلو عنه مكان. والمنهالية أصحاب منهال بن ميمون. والزرارية أتباع زرارة بن أعين. واليونسية أتباع يونس بن عبد الرحمن القميّ، وكلهم من الروافض، وسيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى، ومنهم أيضا السابية والشاكية والعملية والمستثنية والبدعية والعشرية والأتربة، ومنهم الكرّامية أتباع محمد بن كرّام السجستانيّ وهم طوائف الهيضمية والإسحاقية والجندية وغير ذلك، إلا أنهم يعدّون فرقة واحدة، لأنّ بعضهم لا يكفر بعضا وكلهم مجسمة، إلّا أن فيهم من قال: هو قائم بنفسه، ومنهم من قال هو أجزاء مؤتلفة، وله جهات ونهايات، ومن قول الكرّامية أن الإيمان هو قول مفرد، وهو قول لا إله إلّا الله، وسواء اعتقد أو لا، وزعموا أن الله جسم وله حدّ ونهاية من جهة السفل، وتجوز عليه ملاقاة الأجسام التي تحته، وإنه على العرش والعرش مماس له، وأنه محل الحوادث من القول والإرادة والإدراكات والمرئيات والمسموعات، وأن الله لو علم أحدا من عباده لا يؤمن به، لكان خلقه إياهم عبثا، وأنه يجوز أن يعزل نبيا من الأنبياء والرسل، ويجوز عندهم على الأنبياء كل ذنب لا يوجب حدّا ولا يسقط عدالة، وأنه يجب على الله تعالى تواتر الرسل، وأنه يجوز أن يكون إمامان في وقت واحد، وأن عليا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد، إلّا أن عليا كان على السنة ومعاوية على خلافها، وانفرد ابن كرّام في الفقه بأشياء منها أنّ المسافر يكفيه من صلاة الخوف تكبيرتان، وأجاز الصلاة في ثوب مستغرق في النجاسة، وزعم أن الصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر العبادات تصح بغير نية، وتكفي نية الإسلام، وأن النية تجب في النوافل، وأنه يجوز الخروج من الصلاة بالأكل والشرب والجماع عمدا، ثم البناء عليها، وزعم بعض الكرّامية أن لله علمين أحدهما يعلم به جميع المعلومات والآخر يعلم به العلم الأوّل. الفرقة الثالثة القدرية: الغلاة في إثبات القدرة للعبد في إثبات الخلق والإيجاد، وأنه لا يحتاج في ذلك إلى معاونة من جهة الله تعالى. الفرقة الرابعة المجبرة: الغلاة في نفي استطاعة العبد قبل الفعل وبعده ومعه، ونفي الاختيار له، ونفي الكسب، وهاتان الفرقتان متضادّتان، ثم افترقت المجبرة على ثلاث فرق. الجهمية أتباع جهم بن صفوان الترمذيّ مولى راسب، وقتل في آخر دولة بني أميّة،

وهو ينفي الصفات الإلهية كلها ويقول لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه، وأن الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا الاستطاعة، وأن الجنة والنار يفنيان وتنقطع حركات أهلهما، وأن من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر، لأن العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك. وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنة بنفي الصفات وخلق القرآن، ونفي الرؤية، وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر، وزعم أن علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. والبكرية: أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد، وهو يوافق النظّام في أن الإنسان هو الروح، ويزعم أن الباري تعالى يرى في القيامة في صورة يخلقها ويكلم الناس منها، وأن صاحب الكبيرة منافق في الدرك الأسفل من النار، وحاله أسوأ من حال الكافر، وحرّم أكل الثوم والبصل، وأوجب الوضوء من قرقرة البطن. والضرارية: أتباع ضرار بن عمر، وانفرد بأشياء منها أن الله تعالى يرى في القيامة بحاسة زائدة سادسة، وأنكر قراءة ابن مسعود، وشك في دين عامّة المسلمين، وقال لعلهم كفار، وزعم أن الجسم أعراض مجتمعة، كما قالت النجارية، ومن جملة المجبرة. البطيخية: أتباع إسماعيل البطيخيّ. والصباحية: أتباع أبي صباح بن معمر. والفكرية، والخوفية. الفرقة الخامسة المرجئة: الإرجاء، إمّا مشتق من الرجاء لأنّ المرجئة يرجون لأصحاب المعاصي الثواب من الله تعالى، فيقولون لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، أو يكون مشتقا من الإرجاء وهو التأخير، لأنهم أخروا حكم أصحاب الكبائر إلى الآخرة، وحقيقة المرجئة أنهم الغلاة في إثبات الوعد والرجاء، ونفي الوعيد والخوف عن المؤمنين، وهم ثلاثة أصناف: صنف جمعوا بين الرجاء والقدر، وهم غيلان وأبو شمر من بني حنيفة. وصنف جمعوا بين الإرجاء والجبر، مثل جهم بن صفوان. وصنف قال بالأرجاء المحض، وهم أربع فرق. اليونسية أتباع يونس بن عمرو، وهو غير يونس بن عبد الرحمن القميّ الرافضيّ، زعم أن الإيمان معرفة الله والخضوع له والمحبة والإقرار بأنه واحد ليس كمثله شيء. والغسانية: أتباع غسان بن أبان الكوفيّ المنكر نبوّة عيسى عليه السّلام، وتلمذ لمحمد بن الحسن الشيبانيّ، ومذهبه في الإيمان كمذهب يونس إلّا أنه يقول كل خصلة من خصال الإيمان تسمى بعض الإيمان، ويونس يقول كل خصلة ليست بإيمان ولا بعض إيمان، وزعم غسان أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعند أبي حنيفة رحمه الله الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان، فلا يزيد ولا ينقص كقرص الشمس. والثوبانية أتباع ثوبان المرجي. ثم الخارجيّ المعتزليّ، وكان يقال له جامع النقائص،

هاجر الخصائص، ومن قوله الإيمان هو المعرفة والإقرار، والإيمان فعل ما يجب في العقل فعله، فأوجب الإيمان بالعقل قبل ورود الشرع، وفارق الغسانية واليونسية في ذلك. والتؤمنية: أتباع أبي معاذ التؤمنيّ الفيلسوف، زعم أن من ترك فريضة لا يقال له فاسق على الإطلاق، ولكن ترك الفريضة فسق، وزعم أن هذه الخصال التي تكون جملتها إيمانا، فواحدة ليست بإيمان، ولا بعض إيمان، وأن من قتل نبيا كفر لا لأجل القتل بل لاستخفافه به وبغضه له. ومن فرق المرجئة، المريسية: أتباع بشر بن غياث المريسيّ، كان عراقيّ المذهب في الفقه، تلميذ للقاضي أبي يوسف يعقوب الحضرميّ، وقال بنفي الصفات وخلق القرآن، فأكفرته الصفاتية بذلك، وزعم أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، ولا استطاعة مع الفعل، فأكفرته المعتزلة بذلك. وزعم أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وهو مذهب ابن الربوبدي، ولما ناظره الشافعيّ في مسألة خلق القرآن ونفي الصفات قال له: نصفك كافر لقولك بخلق القرآن. ونفي الصفات، ونصفك مؤمن لقولك بالقضاء والقدر وخلق اكتساب العباد. وبشر معدود من المعتزلة لنفيه الصفات وقوله بخلق القرآن. ومن فرق المرجئة الصالحية، أتباع صالح بن عمرو بن صالح والجحدرية أتباع جحدر بن محمد التميميّ والزيادية أتباع محمد بن زياد الكوفيّ والشبيبية أتباع محمد بن شبيب والنقاضية والبهشمية. ومن المرجئة جماعة من الأئمة، كسعيد بن جبير، وطلق بن حبيب، وعمرو بن مرّة، ومحارب بن دثار، وعمرو بن ذر، وحماد بن سليمان، وأبي مقاتل. وخالفوا القدرية والخوارج والمرجئة في أنهم لم يكفروا بالكبائر، ولا حكموا بتخليد مرتكبها في النار، ولا سبوا أحدا من الصحابة، ولا وقعوا فيهم. وأوّل من وضع الإرجاء أبو محمد الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفية بن عليّ بن أبي طالب، وتكلم فيه وصارت المرجئة بعده أربعة أنواع: الأوّل مرجئة الخوارج، الثاني مرجئة القدرية، الثالث مرجئة الجبرية، الرابع مرجئة الصالحية. وكان الحسن بن محمد ابن الحنفية يكتب كتبه إلى الأمصار يدعو إلى الإرجاء، إلّا أنه لم يؤخر العمل عن الإيمان كما قال بعضهم، بل قال أداء الطاعات وترك المعاصي ليس من الإيمان، لا يزول بزوالها. وقال ابن قتيبة أوّل من وضع الإرجاء بالبصرة حسان بن بلال بن الحارث المزنيّ، وذكر بعضهم أن أوّل من وضع الإرجاء أبا سلت السمان، ومات سنة اثنتين وخمسين ومائة. الفرقة السادسة الحرورية: الغلاة في إثبات الوعيد والخوف على المؤمنين، والتخليد في النار مع وجود الإيمان، وهم قوم من النواصب الخوارج، وهم مضادّون المرجئة في النفي والإثبات والوعد والوعيد، ومن مفرداتهم أن من ارتكب كبيرة فهو مشرك، ومذهب عامّة الخوارج أنه كافر وليس بمشرك. وقال بعضهم هو منافق في الدرك الأسفل من النار،

فعند الحرورية أن الاسم يتغير بارتكاب الكبيرة الواحدة فلا يسمى مؤمنا بل كافرا مشركا، والحكم فيه أنه يخلد في النار، واتفقوا على أن الإيمان هو اجتناب كل معصية، وقيل لهم الحرورية لأنهم خرجوا إلى حروراء لقتال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وعدّتهم اثنا عشر ألفا، ثم سار عليّ رضي الله عنه إليهم وناظرهم، ثم قاتلهم وهم أربعة آلاف، فانضم إليهم جماعة حتى بلغوا اثني عشر ألفا. الفرقة السابعة النجارية: أتباع الحسن بن محمد بن عبد الله النجار أبي عبد الله، كان حائكا، وقيل أنه كان يعمل الموازين، وأنه كان من أهل قمّ، كان من جملة المجبرة ومتكلميهم، وله مع النظّام عدّة مناظرات منها أنه ناظرة مرّة فلما لم يلحن بحجته رفسه النظّام وقال له: قم أخزي الله من ينسبك إلى شيء من العلم والفهم، فانصرف محموما واعتلّ حتى مات، وهم أكثر معتزلة الريّ وجهاتها، وهم يوافقون أهل السنة في مسألة القضاء والقدر، واكتساب العباد، وفي الوعد والوعيد، وإمامة أبي بكر رضي الله عنه، ويوافقون المعتزلة في نفي الصفات وخلق القرآن، وفي الرؤية، وهم ثلاث فرق البرغوثية والزعفرانية والمستدركة. الفرقة الثامنة الجهمية: أتباع جهم بن صفوان، وهم يوافقون أهل السنة في مسألة القضاء والقدر مع ميل إلى الجبر، وينفون الصفات والرؤية، ويقولون بخلق القرآن، وهم فرقة عظيمة وعدادهم في المعطلة المجبرة. الفرقة التاسعة الروافض: الغلاة في حب عليّ بن أبي طالب، وبغض أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية في آخرين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وسموا رافضة لأنّ زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، امتنع من لعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال: هما وزيرا جدّي محمد صلّى الله عليه وسلّم. فرفضوا رأيه، ومنهم من قال لأنهم رفضوا رأي الصحابة رضي الله عنهم، حيث بايعوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد اختلف الناس في الإمام بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذهب الجمهور إلى أنه أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، وقال العباسية والربوبدية أتباع أبي هريرة الربوبديّ، وقيل أتباع أبي العباس الربوبديّ، هو العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، لأنه العمّ والوارث، فهو أحق من ابن العمّ. وقال العثمانية وبنو أمية هو عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وذهب آخرون إلى غير ذلك. وقال الرافضة هو عليّ بن أبي طالب، ثم اختلفوا في الإمامة اختلافا كثيرا، حتى بلغت فرقهم ثلاثمائة فرقة، والمشهور منها عشرون فرقة. الزيدية والصباحية أقرّوا إمامة أبي بكر رضي الله عنه، ورأوا أنه لا نص في إمامة عليّ رضي الله عنه، واختلفوا في إمامة عثمان رضي الله عنه، فأنكرها بعضهم وأقرّ بعضهم أنه الإمام بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن قالوا عليّ أفضل من أبي بكر، وإمامة

المفضول جائزة، وقال الغلاة هو عليّ بالنص، ثم الحسن وبعده الحسين، وصار بعد الحسين الأمر شورى. وقال بعضهم لم يرد النص إلّا بإمامة عليّ فقط، وقال آخرون نص على عليّ بالوصف لا بالعين والاسم. وقال بعضهم قد جاء النص على إمامة اثني عشر آخرهم المهديّ المنتظر. وفرقهم العشرون هي: الإمامية: وهم مختلفون في الإمامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزعم أكثرهم أن الإمامة في عليّ بن أبي طالب وأولاده بنص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأن الصحابة كلهم قد ارتدّوا إلّا عليا وابنيه الحسن والحسين وأبا ذر الغفاريّ وسلمان الفارسيّ وطائفة يسيرة. وأوّل من تكلم في مذهب الإمامية عليّ بن إسماعيل بن هيثم التمار، وكان من أصحاب عليّ بن أبي طالب، وذهبت القطعية منهم إلى أن الإمامة في عليّ، ثم في الحسن، ثم في الحسين، ثم في عليّ بن الحسين، ثم في محمد بن عليّ، ثم في جعفر بن محمد، ثم في موسى بن جعفر، ثم في عليّ بن موسى. وقطعوا الإمامة عليه فسموا القطعية لذلك، ولم يكتبوا إمامة محمد بن موسى، ولا إمامة الحسن بن محمد بن عليّ بن موسى، وقالت الناووسية جعفر بن محمد لم يمت وهو حيّ ينتظر، وقالت المباركية أتباع مبارك الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعيل بن جعفر، ثم محمد بن إسماعيل. وقالت الشميطية أتباع يحيى بن شميط الأحمسيّ، كان مع المختار قائدا من قوّاده، فأنفذه أميرا على جيش البصرة يقاتل مصعب بن الزبير، فقتل بالمدار: الإمامة بعد جعفر في ابنه محمد وأولاده، وقالت المعمرية أتباع معمر: الإمامة بعد جعفر في ابنه عبد الله بن جعفر وأولاده. ويقال لهم الفطحية، لأنّ عبد الله بن جعفر كان أفطح الرجلين. وقالت الواقفية: الإمام بعد جعفر ابنه موسى بن جعفر وهو حيّ لم يمت، وهو الإمام المنتظر، وسموا الواقفية لوقوفهم على إمامة موسى. وقالت الزرارية أتباع زرارة بن أعين الإمام: بعد جعفر ابنه عبد الله، إلّا أنّه سأله عن مسائل فلم يمكنه الجواب عنها فادّعى إمامة موسى بن جعفر من بعد أبيه. وقالت المفضلية أتباع المفضل بن عمرو: الإمام بعد جعفر ابنه موسى، وأنه مات فانتقلت الإمامة إلى ابنه محمد بن موسى. وقالت المفوّضة من الإمامية: إن الله تعالى خلق محمدا صلّى الله عليه وسلّم وفوّض إليه خلق العالم وتدبيره. وقال بعضهم بل فوّض ذلك إلى عليّ بن أبي طالب. والفرقة الثانية من فرق الروافض: الكيسانية، أتباع كيسان مولى عليّ بن أبي طالب، وأخذ عن محمد ابن الحنفية، وقيل بل كيسان اسم المختار بن عبيد الثقفيّ الذي قام لأخذ ثأر الحسين رضي الله عنه. زعموا أن الإمام بعد عليّ ابنه محمد ابن الحنفية، لأنه أعطاه الراية يوم الجمل، ولأنّ الحسين أوصى إليه عند خروجه إلى الكوفة، ثم اختلفوا في الإمام بعد ابن الحنفية، فقال بعضهم رجع الأمر بعده إلى أولاد الحسن والحسين، وقيل بل انتقل إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، وقالت الكربية أتباع أبي كرب بأن ابن الحنفية حيّ لم يمت، وهو الإمام المنتظر. ومن قول الكيسانية أن البدا جائز على الله، وهو كفر صريح.

والفرقة الثالثة الخطابية: أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي ثور، وقيل محمد بن أبي يزيد الأجدع، ومذهبه الغلوّ في جعفر بن محمد الصادق، وهو أيضا من المشبهة، وأتباعه خمسون فرقة، وكلهم متفقون على أن الأئمة مثل عليّ وأولاده كلهم أنبياء، وأنه لا بدّ من رسولين لكلّ أمّة، أحدهما ناطق والآخر صامت، فكان محمد ناطقا وعليّ صامتا، وأن جعفر بن محمد الصادق كان نبيا، ثم انتقلت النبوّة إلى أبي الخطاب الأجدع، وجوّزوا كلهم شهادة الزور لموافقيهم، وزعموا أنهم عالمون بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقالت المعمرية: منهم الإمام بعد أبي الخطاب رجل اسمه معمر، وزعموا أن الدنيا لا تفنى، وأن الجنة هي ما يصيبه الإنسان من الخير في الدنيا، والنار ضدّ ذلك، وأباحوا شرب الخمر والزنى وسائر المحرّمات، ودانوا بترك الصلاة، وقالوا بالتناسخ، وأن الناس لا يموتون وإنما ترفع أرواحهم إلى غيرهم. وقالت البزيغية منهم: أن جعفر بن محمد إله وليس هو الذي يراه الناس وإنما تشبه على الناس، وزعموا أن كلّ مؤمن يوحى إليه، وأنّ منهم من هو خير من جبريل وميكائيل ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، وزعموا أنهم يرون أمواتهم بكرة وعشيا. وقالت العميرية منهم أتباع عمير بن بيان العجليّ مثل ذلك كله، وخالفوهم في أن الناس لا يموتون، وافترقت الخطابية بعد قتل أبي الخطاب فرقا، منها فرقة زعمت أن الإمام بعد أبي الخطاب، عمير بن بيان العجليّ، ومقالتهم كمقالة البزيغية، إلّا أن هؤلاء اعترفوا بموتهم ونصبوا خيمة على كناسة الكوفة يجتمعون فيها على عبادة جعفر الصادق، فبلغ ذلك يزيد بن عمير، فصلب عمير بن بيان في كناسة الكوفة، ومن فرقهم المفضلية، أتباع مفضل الصيرفيّ، زعم أن جعفر بن محمد إله، فطرده ولعنه، وزعمت الخطابية بأجمعها أن جعفر بن محمد الصادق أودعهم جلدا يقال له جفر، فيه كلّ ما يحتاجون إليه من علم الغيب وتفسير القرآن، وزعموا لعنهم الله، أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً معناه عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، القائلون بإمامته وإمامة من اجتمع فيه ست خصال، العلم والزهد والشجاعة، وأن يكون من أولاد فاطمة الزهراء رضي الله عنها حسنيا أو حسينيا، ومنهم من زاد صباحة الوجه، وأن لا يكون فيه آفة، وهم يوافقون المعتزلة في أصولهم كلها إلّا في مسألة الإمامة، وأخذ مذهب زيد بن عليّ عن واصل بن عطاء، وكان يفضل عليا على أبي بكر وعمر مع القول بإمامتهما، وهم أربع فرق: الجارودية، أتباع أبي الجارود، ويكنّى أبا النجم زياد بن المنذر العبديّ، زعم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نص على إمامة عليّ بالوصف لا بالتسمية، وأن الناس كفروا بتركهم مبايعة عليّ رضي الله عنه، والحسن والحسين وأولادهما. والجريرية أتباع سليم بن جرير، ومن قوله لم يكفر الناس بتركهم مبايعة عليّ، بل أخطأوا بترك الأفضل وهو عليّ، وكفّروا الجارودية بتكفيرهم الصحابة، إلا أنهم كفّروا عثمان بن عفان بالأحداث التي أحدثها وقالوا: لم ينص عليّ على إمامة أحد، وصار الأمر من بعده شورى، ومنهم البترية أتباع الحسن بن صالح بن كثير الأبتر، وقولهم أنّ عليا أفضل

وأولى بالإمامة، غير أن أبا بكر كان إماما، ولم تكن إمامته خطأ ولا كفرا، بل ترك عليّ الإمامة له، وأما عثمان فيتوقف فيه. ومنهم اليعقوبية أتباع يعقوب، وهم يقولون بإمامة أبي بكر وعمر، ويتبرّؤون ممن تبرّأ منهما، وينكرون رجعة الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، ويتبرّؤون ممن دان بها، إلّا أنهم متفقون على تفضيل عليّ على أبي بكر وعمر من غير تفسيقهما ولا تكفيرهما ولا لعنهما ولا الطعن على أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. والفرقة الخامسة السبائية: أتباع عبد الله بن سبأ الذي قال شفاها لعليّ بن أبي طالب: أنت الإله، وكان من اليهود. ويقول في يوشع بن نون مثل قوله ذلك في عليّ، وزعم أن عليا لم يقتل وأنه حيّ لم يمت، وأنه في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه ينزل إلى الأرض بعد حين. قبحه الله. والفرقة السادسة: الكاملية أتباع أبي كامل، اكفر جميع الصحابة بتركهم بيعة عليّ، وكفر عليا بتركه قتالهم، وقال بتناسخ الأنوار الإلهية في الأئمة. والفرقة السابعة: البيانية، أتباع بيان بن سمعان، زعم أن روح الإله حل في الأنبياء، ثم في عليّ، وبعده في محمد ابن الحنفية، في ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد، ثم حل بعد أبي هاشم في بيان بن سمعان، يعني نفسه، لعنه الله. والفرقة الثامنة: المغيرية، أتباع مغيرة بن سعيد العجليّ، مولى خالد بن عبد الله، طلب الإمامة لنفسه بعد محمد بن عبد الله بن الحسن، فخرج على خالد بن عبد الله القسريّ بالكوفة في عشرين رجلا فعطعطوا به، فقال خالد أطعموني ماء وهو على المنبر، فعير بذلك. والمغيرة هذا قال بالتشبيه الفاحش، وادّعى النبوّة، وزعم أن معجزته علمه بالاسم الأعظم، وأنه يحيي الموتى، وزعم أن الله لما أراد أن يخلق العالم كتب بإصبعه أعمال عباده، فغضب من معاصيهم، فعرق فاجتمع من عرقه بحران أحدهما مالح والآخر عذب، فخلق من البحر العذب الشيعة، وخلق الكفرة من البحر الملح، وزعم أن المهديّ يخرج وهو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب. والفرقة التاسعة: الهشامية، وهم صنفان: أحدهما أتباع هشام بن الحكم، والثاني أتباع هشام الجولقيّ، وهما يقولان لا تجوز المعصية على الإمام، وتجوز على الأنبياء، وأن محمدا عصى ربه في أخذ الفداء من أسرى بدر كذبا، لعنهما الله، وهما أيضا مع ذلك من المشبهة. والفرقة العاشرة: الزرارية، أتباع زرارة بن أعين، أحد الغلاة في الرفض، ويزعم مع ذلك أن الله تعالى لم يكن في الأزل عالما ولا قادرا حتى اكتسب لنفسه جميع ذلك. قبحه الله.

والفرقة الحادية عشر: الجناحية، أتباع عبد الله بن معاوية ذي الجناحين بن أبي طالب، وزعم أنه إله، وأن العلم ينبت في قلبه كما تنبت الكمأة، وأن روح الإله دارت في الأنبياء كما كانت في عليّ وأولاده، ثم صارت فيه، ومذهبهم استحلال الخمر والميتة ونكاح المحارم، وأنكروا القيامة، وتأوّلوا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [المائدة/ 93] وزعموا أن كل ما في القرآن من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كناية عن قوم يلزم بغضهم، مثل أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، وكل ما في القرآن من الفرائض التي أمر الله بها، كناية عمن يلزم موالاتهم، مثل عليّ والحسن والحسين وأولادهم. والثانية عشر: المنصورية، أتباع أبي منصور العجليّ، أحد الغلاة المشبهة، زعم أن الإمامة انتقلت إليه بعد محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأنه عرج به إلى السماء بعد انتقال الإمامة إليه، وأن معبوده مسح بيده على رأسه وقال له: يا بنيّ بلغ عني آية الكسف الساقط من السماء في قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ الآية [الطور/ 44] وزعم أن أهل الجنة قوم تجب موالاتهم مثل عليّ بن أبي طالب وأولاده، وأن أهل النار قوم تجب معاداتهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية رضي الله عنهم. والثالثة عشر: الغرابية، زعموا، لعنهم الله، أن جبريل أخطأ، فإنه أرسل إلى عليّ بن أبي طالب، فجاء إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، وجعلوا شعارهم إذا اجتمعوا أن يقولوا: العنوا صاحب الريش، يعنون جبريل عليه السّلام وعليهم اللعنة. والرابعة عشر: الذمّية، بفتح الذال المعجمة، زعموا، أخزاهم الله، أن عليّ بن أبي طالب بعثه الله نبيا، وأنه بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليظهر أمره، فادّعى النبوّة لنفسه، وأرضى عليا بأن زوّجه ابنته وموّله، ومنهم العليانية: أتباع عليان بن ذراع السدوسيّ، وقيل الأسديّ، كان يفضل عليا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويزعم أن عليا بعث محمدا، وكان، لعنه الله، يذم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لزعمه أن محمدا بعث ليدعو إلى عليّ، فدعا إلى نفسه، ومن العليانية من يقول بإلهية محمد وعليّ جميعا، ويقدّمون محمدا في الإلهية، ويقال لهم الميمية، ومنهم من قال بإلهية خمسة وهم أصحاب الكساء، محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، وقالوا خمستهم شيء واحد، والروح حالة فيهم بالسوية، لا فضل لواحد منهم على الآخر، وكرهوا أن يقولوا فاطمة بالهاء، فقالوا فاطم، قال بعضهم:

توليت بعد الله في الدين خمسة ... نبيا وسبطيه وشيخا وفاطما والخامسة عشر: اليونسية، أتباع يونس بن عبد الله القميّ، أحد الغلاة المشبهة. والسادسة عشر: الرزامية، أتباع رزام بن سابق، زعم أن الإمامة انتقلت بعد عليّ بن أبي طالب إلى ابنه محمد ابن الحنفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم إلى عليّ بن عبد الله بن عباس بالوصية، ثم إلى ابنه محمد بن عليّ، فأوصى بها محمد إلى أبي العباس عبد الله بن محمد السفاح الظالم، المتردّد في المذاهب، الجاهل بحقوق أهل البيت. والسابعة عشر: الشيطانية، أتباع محمد بن النعمان شيطان الطاق، وقد شارك المعتزلة والرافضة في جميع مذهبهم، وانفرد بأعظم الكفر قاتله الله، وهو أنه زعم أن الله لا يعلم الشيء حتى يقدّره، وقبل ذلك يستحيل علمه. والثامنة عشر: البسلمية، وهم من الراوندية، زعموا أن الإمامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صارت في عليّ وأولاده الحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية، ثم في أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، وانتقلت منه إلى عليّ بن عبد الله بن عباس بوصيته إليه، ثم إلى أبي العباس السفاح، ثم إلى أبي سلمة صاحب دولة بني العباس، وقام بناحية كش فيما وراء النهر رجل من أهل مرو أعور يقال له هاشم، ادّعى أن أبا سلمة كان إلها انتقل إليه روح الله، ثم انتقل إليه بعده، فانتشرت دعوته هناك، واحتجب عن أصحابه واتخذ له وجها من ذهب، فعرف بالمصيغ، ثم إن أصحابه طلبوا رؤيته فوعدهم أن يريهم نفسه إن لم يحترقوا، وعمل تجاه مرآه مرآة محرقة تعكس شعاع الشمس، فلما دخلوا عليه احترق بعضهم ورجع الباقون، وقد فتنوا واعتقدوا أنه إله لا تدركه الأبصار، ونادوا في حروبهم بإلهيته. والتاسعة عشر: الجعفرية. والعشرون: الصباحية، وهم والزيدية أمثل الشيعة، فإنهم يقولون بإمامة أبي بكر، وأنه لا نص في إمامة عليّ، مع أنه عندهم أفضل، وأبو بكر مفضول. ومن فرق الروافض، الخلوية والشاعية والشريكية، يزعمون أن عليا شريك محمد صلّى الله عليه وسلّم. والتناسخية القائلون أن الأرواح تتناسخ، واللاعنة والمخطئة الذين يزعمون أن جبريل أخطأ، والإسحاقية والخلفية الذين يقولون لا تجوز الصلاة خلف غير الإمام. والرجعية القائلون سيرجع عليّ بن أبي طالب وينتقم من أعدائه. والمتربصية الذين يتربصون خروج المهديّ. والأمرية والجبية والجلالية والكريبية، أتباع أبي كريب الضرير. والحزنية أتباع عبد الله بن عمرو الحزنيّ.

الفرقة العاشرة الخوارج: ويقال لهم النواصب، والحرورية نسبة إلى حروراء، موضع خرج فيه أوّلهم على عليّ رضي الله عنه، وهم الغلاة في حب أبي بكر وعمر وبغض عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، ولا أجهل منهم، فإنهم القاسطون المارقون، خرجوا على عليّ رضي الله عنه وانفصلوا عنه بالجملة وتبرّءوا منه، ومنهم من صحبه ومنهم من كان في زمنه، وهم جماعة قد دوّن الناس أخبارهم وهم عشرون فرقة: الأولى يقال لهم الحكمية، لأنهم خرجوا على عليّ رضي الله عنه في صفين، وقالوا لا حكم إلا لله ولا حكم للرجال، وانحازوا عنه إلى حروراء، ثم إلى النهروان، وسبب ذلك أنهم حملوه على التحاكم إلى من حكم بكتاب الله، فلما رضي بذلك وكانت قضية الحكمين أبي موسى الأشعريّ، وهو عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص، غضبوا من ذلك ونابذوا عليا وقالوا في شعارهم، لا حكم إلّا لله ولرسوله، وكان إمامهم في التحكيم عبد الله بن الكوّاء. والثانية الأزارقة أتباع أبي راشد نافع بن الأزرق بن قيس بن نهار بن إنسان بن أسد بن صبرة بن ذهل بن الدول بن حنيفة، الخارج بالبصرة في أيام عبد الله بن الزبير، وهم على التبرّي من عثمان وعليّ والطعن عليهما، وأن دار مخالفيهم دار كفر، وأن من أقام بدار الكفر فهو كافر، وأن أطفال مخالفيهم في النار، ويحل قتلهم، وأنكروا رجم الزاني وقالوا: من قذف محصنة حدّ، ومن قذف محصنا لا يحدّ، ويقطع السارق في القليل والكثير. والثالثة النجدات، ولم يقل فيهم النجدية، ليفرّق بينهم وبين من انتسب إلى بلاد نجد، فإنهم أتباع نجد بن عويمر، وهو عامر الحنفيّ الخارج باليمامة، وكان رأسا ذا مقالة مفردة، وتسمّى بأمير المؤمنين، وبعث عطية بن الأسود إلى سجستان فأظهر مذهبه بمرو، فعرفت أتباعه بالعطوية، ومذهبهم أن الدين أمران، أحدهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله وتحريم دماء المسلمين وأموالهم. والثاني الإقرار بما جاء من عند الله تعالى جملة، وما سوى ذلك من التحريم والتحليل وسائر الشرائع، فإن الناس يعذرون بجهلها، وأنه لا يأثم المجتهد إذا أخطأ وأن من خالف أن يعذب المجتهد، فقد كفر واستحلوا دماء أهل الذمّة في دار التقية، وقالوا من نظر نظرة محرّمة أو كذب كذبة أو أصرّ على صغيرة ولم يتب منها فهو كافر، ومن زنى أو سرق أو شرب خمرا من غير أن يصرّ على ذلك فهو مؤمن غير كافر. والرابعة الصفرية أتباع زياد بن الأصفر، ويقال أتباع النعمان بن صفر، وقيل بل نسبوا إلى عبد الله بن صفار، وهو أحد بني مقاعس، وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار، وقيل عبد الله بن الصفار من بني صويمر بن مقاعس، وقيل سموا بذلك لصفرة علتهم، وزعم بعضهم أن الصفرية بكسر الصاد، وقد وافق الصفرية الأزارقة في جميع بدعهم إلّا في قتل الأطفال، ويقال للصفرية

أيضا الزيادية، ويقال لهم أيضا النكار من أجل أنهم ينقصون نصف عليّ وثلث عثمان، وسدس عائشة رضي الله عنهم. والخامسة العجاردة أتباع عبد الكريم بن عجرد. والسادسة الميمونية أتباع ميمون بن عمران، وهم طائفة من العجاردة، وافقوا الأزارقة إلّا في شيئين، أحدهما قولهم تجب البراءة من الأطفال حتى يبلغوا ويصفوا الإسلام، والثاني استحلال أموال المخالفين لهم، فلم تستحل الميمونية مال أحد خالفهم ما لم يقتل المالك، فإذا قتل صار ماله فيئا، إلّا أنهم ازدادوا كفرا على كفرهم، وأجازوا نكاح بنات البنات وبنات البنين وبنات أولاد الإخوة وبنات أولاد الأخوات فقط. والسابعة الشعيبية، وهم طائفة من العجاردة وافقوا الميمونية في جميع بدعهم إلّا في الاستطاعة والمشيئة، فإن الميمونية مالت إلى القدرية. والثامنة الحمزية، أتباع حمزة بن أدرك الشاميّ الخارج بخراسان في خلافة هارون بن محمد الرشيد، وكثر عيثه وفساده، ثم فض جموع عيسى بن عليّ عامل خراسان وقتل منهم خلقا كثيرا، فانهزم منه عيسى إلى كابل، وآل أمر حمزة إلى أن غرق في كرمان بواد هناك، فعرفت أصحابه بالحمزية، وكان يقول بالقدر فكفرته الأزارقة بذلك، وقال أطفال المشركين في النار، فكفّرته القدرية بذلك، وكان لا يستحل غنائم أعدائه بل يأمر بإحراق جميع ما يغنمه منهم. والتاسعة الحازمية، وهم فرقة من العجاردة، قالوا في القدر والمشيئة كقول أهل السنة، وخالفوا الخوارج في الولاية والعداوة، فقالوا لم يزل الله تعالى محبا لأوليائه ومبغضا لأعدائه. والعاشرة المعلومية مع المجهولية، تباينا في مسألتين إحداهما قالت المعلومية: من لم يعرف الله تعالى بجميع أسمائه فهو كافر، وقالت المجهولية: لا يكون كافرا. والثانية وافقت المعلومية أهل السنة في مسألة القدر والمشيئة، والمجهولية وافقت القدرية في ذلك. والحادية عشر الصلتية، أتباع عثمان بن أبي الصلت، وهم طائفة من العجاردة انفردوا بقولهم: من أسلم توليناه لكن نتبرّأ من أطفاله، لأنه ليس للأطفال إسلام حتى يبلغوا. والثانية عشر والثالثة عشر الأحسنية والمعبدية، وهما فرقتان من الثعالبة أتباع ثعلبة بن عامر، وكان ثعلبة هذا مع عبد الكريم بن عجرد ثم اختلفا في الأطفال. فقال عبد الكريم: نتبرّأ منهم قبل البلوغ، وقال ثعلبة لا نتبرّأ منهم بل نقول نتولى الصغار. فلم تزل الثعالبة على هذا إلى أن خرج رجل عرف بالأخنس فقال: نتوقف عن جميع من في دار التقية إلّا من عرفنا منه إيمانا فإنا نتولاه، ومن عرفنا منه كفرا تبرّأ منه، ولا يجوز أن نبدأ حدا بقتال،

فتبرّأت منه الثعالبة وسموه بالأخنس لأنه خنس منهم، أي رجع عنهم، ثم خرجت فرقة من الثعالبة قيل لها المعبدية أتباع معبد، فخالفت الثعالبة في أخذ الزكاة من العبيد والبهائم وكفّرت كلّ فرقة منهما الأخرى. والرابعة عشر الشيبانية، أتباع شيبان بن سلمة الخارج في أيام أبي مسلم الخراسانيّ القائم بدعوة الخلفاء العباسيين، وكان معه. فتبرّأت منه الثعالبة لمعاونته لأبي مسلم، وهو أوّل من أظهر القول بالتشبيه تعالى الله عن ذلك. والخامسة عشر الشبيبية، أتباع شبيب بن يزيد بن أبي نعيم الخارج في خلافة عبد الملك بن مروان، وصاحب الحروب العظيمة مع الحجاج بن يوسف الثقفيّ، وهم على ما كانت عليه الحكمية الأولى، إلّا أنهم انفردوا عن الخوارج بجواز إمامة المرأة وخلافتها، واستخلف شبيب هذا أمّه غزالة فدخلت الكوفة وقامت خطيبة وصلت الصبح بالمسجد الجامع، فقرأت في الركعة الأولى بالبقرة، وفي الثانية بآل عمران، وأخبار شبيب طويلة. والسادسة عشر الرشيدية: أتباع رشيد، يقال لهم أيضا العشرية من أجل أنهم كانوا يأخذون نصف العشر مما سقت الأنهار، فقال لهم زياد بن عبد الرحمن يجب فيه العشر، فتبرّأت كل فرقة من الأخرى وكفّرتها بذلك. والسابعة عشر المكرمية: أتباع أبي المكرم، ومن قوله تارك الصلاة كافر، وليس كفره لترك الصلاة، لكن لجهله بالله، وكذا قوله في سائر الكبائر. والثامنة عشر الحفصية: أتباع حفص بن المقدام أحد أصحاب عبد الله بن أباض، تفرّد بقوله من عرف الله تعالى وكفر بما سواه من رسول وغيره فهو كافر وليس بمشرك، فأنكر ذلك الإباضية وقالوا بل هو مشرك. والتاسعة عشر الإباضية، أتباع عبد الله بن أباض من بني مقاعس، واسمه الحرث بن عمرو، ويقال بل ينسبون إلى أباض بضم الهمزة، وهي قرية بالعرض من اليمامة نزل بها نجد بن عامر، وخرج عبد الله بن أباض في أيام مروان، وكان من غلاة الحكمة. والفرقة العشرون اليزيدية، أتباع يزيد بن أبي أنيسة، وكان أباضيا، فانفرد ببدعة قبيحة، وهي أن الله تعالى سيبعث رسولا من العجم وينزل عليه كتابا جملة واحدة ينسخ به شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ومن فرق الخوارج أيضا الحارثية، والأصومية، أتباع يحيى بن أصوم، والبيهسية أتباع أبي البيهس الهيصم بن خالد من بني سعيد بن ضبعة، كان في زمن الحجاج، وقتل بالمدينة وصلب، واليعقوبية أتباع يعقوب بن عليّ الكوفيّ، ومن فرقهم الفضلية، أتباع فضل بن عبد الله، والشمراخية أتباع عبد الله بن شمراخ، والضحاكية أتباع الضحاك،

ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام، منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية

والخوارج يقال لهم الشراة، وأحدهم شاري، مشتق من شرى الرجل إذا ألح، أو معناه يستشري بالشرّ، أو من قول الخوارج شرينا أنفسنا لدين الله فنحن لذلك شراة، وقيل أنه من قولهم شاريته أي لاححته وماريته، وقيل شرى الرجل غضبا إذا استطار غضبا، وقيل لهم هذا لشدّة غضبهم على المسلمين. ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام، منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى، بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلّى الله عليه وسلّم الروح الأمين وبما أوحى إليه ربه تعالى، فلم يسأله صلّى الله عليه وسلّم أحد من العرب بأسرهم، قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي، وكما سألوه صلّى الله عليه وسلّم عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه صلّى الله عليه وسلّم في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب، وأحوال القيامة والملاحم والفتن، ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبويّ، ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وعلى اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم، أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معنى شيء مما وصف الربّ، سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرّق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا. وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرّض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة، فمضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر، وأنّ الأمر أنفة، أي أنّ الله تعالى لم يقدّر على خلقه شيئا مما هم عليه. وكان أوّل من قال بالقدر في الإسلام، معبد بن خالد الجهنيّ، وكان يجالس الحسن بن الحسين البصريّ، فتكلم في القدر بالبصرة، وهلك أهل البصرة مسلكه لما رأوا

عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه، ويعرف بالإسواريّ، فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين، ولما بلغ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مقالة معبد في القدر تبرّأ من القدرية، واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة، وأخذ السلف رحمهم الله في ذمّ القدرية، وحذروا منهم كما هو معروف في كتب الحديث، وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر، وكان يأتي هو ومعبد الجهنيّ إلى الحسن البصريّ فيقولان له: إنّ هؤلاء يسفكون الدماء ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله، فطعن عليه بهذا، ومثله. وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج، وصرّحوا بالتكفير بالذنب والخروج على الإمام وقتاله، فناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل منهم جماعة كما هو معروف في كتب الأخبار، ودخل في دعوة الخوارج خلق كثير، ورمى جماعة من أئمة الإسلام بأنهم يذهبون إلى مذهبهم، وعدّ منهم غير واحد من رواة الحديث كما هو معروف عند أهله، وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب التشيع لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والغلوّ فيه، فلما بلغه ذلك أنكره وحرّق بالنار جماعة ممن غلا فيه وأنشد: لمّا رأيت الأمر أمرا منكرا ... اجّجت ناري ودعوت قنبرا وقام في زمنه رضي الله عنه عبد الله بن وهب بن سبأ، المعروف بابن السوداء السبأي، وأحدث القول بوصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعليّ بالإمامة من بعده، فهو وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخليفته على أمّته من بعده بالنص، وأحدث القول برجعة عليّ بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا، وزعم أنّ عليا لم يقتل، وأنه حيّ وأن فيه الجزء الإلهيّ، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه لا بدّ أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة، وصاروا يقولون بالوقف، يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين، كقول الإمامية بأنها في الأئمة الاثني عشر، وقول الإسماعيلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، وعنه أيضا أخذوا القول بفيئة الإمام، والقول برجعته بعد الموت إلى الدنيا، كما تعتقده الإمامية إلى اليوم في صاحب السرداب، وهو القول بتناسخ الأرواح، وعنه أخذوا أيضا القول بأن الجزء الإلهيّ يحلّ في الأئمة بعد عليّ بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب، كما استحق آدم عليه السّلام سجود الملائكة، وعلى هذا الرأي كان اعتقاد دعاة الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر، وابن سبأ هذا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل: كما ذكر في ترجمة ابن سبأ من كتاب التاريخ الكبير المقفى؛ وكان له عدّة أتباع في عامّة الأمصار، وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار، فكثرت لذلك الشيعة

وصاروا ضدّا للخوارج، وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر. ثم حدث بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، مذهب جهم بن صفوان ببلاد المشرق، فعظمت الفتنة به. فإنه نفى أن يكون لله تعالى صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكا أثر في الملة الإسلامية آثارا قبيحة، تولد عنها بلاء كبير. وكان قبيل المائة من سني الهجرة، فكثر أتباعه على أقواله التي تؤول إلى التعطيل، فأكبر أهل الإسلام بدعته وتمالؤا على إنكارها وتضليل أهلها. وحذروا من الجهمية وعادوهم في الله وذمّوا من جلس إليهم، وكتبوا في الردّ عليهم ما هو معروف عند أهله، وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال، منذ زمن الحسن بن الحسين البصريّ رحمه الله، بعد المائتين من سني الهجرة، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشرّ وجهلوا بأن الله لا يرى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلى غير ذلك من مسائلهم، فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم، وذمّوا علم الكلام، وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض. ثم حدث مذهب التجسيم المضادّ لمذهب الاعتزال، فظهر محمد بن كرّام بن عراق بن حزابة، أبو عبد الله السجستانيّ، زعيم الطائفة الكرّامية بعد المائتين من سني الهجرة، وأثبت الصفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه، وحج وقدم الشام ومات بزغرة، في صفر سنة ست وخمسين ومائتين، فدفن بالمقدس، وكان هناك من أصحابه زيادة على عشرين ألفا على التعبد والتقشف، سوى من كان منهم ببلاد المشرق، وهم لا يحصون لكثرتهم، وكان إماما لطائفتي الشافعية والحنفية، وكانت بين الكرّامية بالمشرق وبين المعتزلة مناظرات ومناكرات وفتن كثيرة متعدّدة أزماتها. هذا وأمر الشيعة يفشو في الناس حتى حدث مذهب القرامطة، المنسوبين إلى حمدان الأشعث المعروف بقرمط، من أجل قصر قامته وقصر رجليه وتقارب خطوه، وكان ابتداء أمر قرمط هذا في سنة أربع وستين ومائتين، وكان ظهوره بسواد الكوفة فاشتهر مذهبه بالعراق، وقام من القرامطة ببلاد الشام صاحب الحال والمدّثر والمطوّق، وقام بالبحرين منهم أبو سعيد الجنابيّ من أهل جنابة، وعظمت دولته ودولة بنيه من بعده، حتى أوقعوا بعساكر بغداد وأخافوا خلفاء بني العباس، وفرضوا الأموال التي تحمل إليهم في كل سنة على أهل بغداد وخراسان والشام ومصر واليمن، وغزوا بغداد والشام ومصر والحجاز، وانتشرت دعاتهم بأقطار الأرض، فدخل جماعات من الناس في دعوتهم ومالوا إلى قولهم الذي سموه علم الباطن، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها إلى أمور زعموها من عند أنفسهم، وتأويل آيات القرآن ودعوا هم فيها تأويلا بعيدا انتحلوا القول به بدعا ابتدعوها بأهوائهم، فضلوا وأضلوا عالما كثيرا.

هذا وقد كان المأمون عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد، لما شغف بالعلوم القديمة. بعث إلى بلاد الروم من عرّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامّة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجرّ على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. فلما قامت دولة بني بويه ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة واستمرّوا إلى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وأظهروا مذهب التشيع، قويت بهم الشيعة وكتبوا على أبواب المساجد في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من أغضب فاطمة، ومن منع الحسن أن يدفن عند جدّه، ومن نفى أبا ذر الغفاريّ، ومن أخرج العباس من الشورى. فلما كان الليل حكه بعض الناس، فأشار الوزير المهلبيّ أن يكتب بإذن معز الدولة، لعن الله الظالمين لأهل البيت، ولا يذكر أحد في اللعن غير معاوية. ففعل ذلك وكثرت ببغداد الفتن بين الشيعة والسنية، وجهر الشيعة في الأذان بحيّ على خير العمل في الكرخ، وفشا مذهب الاعتزال بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وذهب إليه جماعة من مشاهير الفقهاء، وقوى مع ذلك أمر الخلفاء الفاطميين بأفريقية وبلاد المغرب، وجهروا بمذهب الإسماعيلية وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها، ثم ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام فانتشرت مذاهب الرافضة في عامّة بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد، وجميع العراق، وبلاد خراسان، وما وراء النهر مع بلاد الحجاز واليمن والبحرين، وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته، واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرّامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية، حتى ملأت الأرض، وما منهم إلّا من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فلم تبق مصر من الأمصار ولا قطر من الأقطار، إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرنا. وكان أبو الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ قد أخذ عن أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ، ولازمه عدّة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الاعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، وقال بالفاعل المختار، وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح، وأثبت أن العقل لا يوجب المعارف قبل الشرع، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به، ولا يجب البحث عنها إلّا بالسمع، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وأن النبوّات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين.

وحقيقة مذهب الأشعريّ: رحمه الله، أنه سلك طريقا بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم، وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه، فمال إليه جماعة وعوّلوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلانيّ المالكيّ، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الأسفراينيّ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف الشيرازيّ، والشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزاليّ، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستانيّ، والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازيّ، وغيرهم ممن يطول ذكره، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه واستدلوا له في مصنفات لا تكاد تحصر، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعريّ في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس المارانيّ على هذا المذهب، قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوريّ، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعريّ، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزاليّ مذهب الأشعريّ، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامّتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن عليّ القيسيّ، وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدّة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهديّ المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلّا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ، فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعريّ وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلّا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحرّانيّ، فتصدّى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الردّ على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية، فافترق الناس فيه فريقان، فريق يقتدي به ويعوّل على أقواله ويعمل برأيه، ويرى أنه شيخ

الإسلام وأجلّ حفاظ أهل الملّة الإسلامية. وفريق يبدّعه ويضلله ويزري عليه بإثباته الصفات، وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف، ومنها ما زعموا أنه خرق فيه الإجماع، ولم يكن له فيه سلف، وكانت له ولهم خطوب كثيرة، وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وله إلى وقتنا هذا عدّة أتباع بالشام وقليل بمصر. هذا وبين الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريديّ، وهم طائفة الفقهاء الحنفية مقلد والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرميّ، ومحمد بن الحسن الشيبانيّ رضي الله عنهم، من الخلاف في العقائد ما هو مشهور في موضعه، وهو إذ تتبع يبلغ بضع عشرة مسألة، كان بسببها في أوّل الأمر تباين وتنافر، وقدح كل منهم في عقيدة الآخر، إلّا أن الأمر آل آخرا إلى الإغضاء، ولله الحمد. فهذا أعز الله بيان ما كانت عليه عقائد الأمّة من ابتداء الأمر إلى وقتنا هذا، قد فصّلت فيه ما أجمله أهل الأخبار، وأجملت ما فصلوا، فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي وأطلت بسببه سهري وكدّي في تصفح دواوين الإسلام وكتب الأخبار، فقد وصل إليك صفوا ونلته عفوا بلا تكلف مشقة ولا بذل مجهول، ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده. أبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى، واسمه عبد الله بن قيس «الأشعريّ» البصريّ، ولد سنة ست وستين ومائتين، وقيل سنة سبعين، وتوفي ببغداد سنة بضع وثلاثين وثلاثمائة وقيل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، سمع زكريا الساجي، وأبا خليفة الجمحيّ، وسهل بن نوح، ومحمد بن يعقوب القمريّ، وعبد الرحمن بن خلف الضبيّ المصريّ، وروى عنهم في تفسيره كثيرا، وتلمذ لزوج أمّه أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ، واقتدى برأيه في الاعتزال عدّة سنين حتى صار من أئمة المعتزلة، ثم رجع عن القول بخلق القرآن وغيره من آراء المعتزلة، وصعد يوم الجمعة بجامع البصرة كرسيا ونادى بأعلى صوته، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى بالإبصار، وأن أفعال الشرّ أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد الردّ على المعتزلة، مبين لفضائحهم ومعايبهم، وأخذ من حينئذ في الردّ عليهم، وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب القاطن، وبنى على قواعده. وصنف خمسة وخمسين تصنيفا منها. كتاب اللمع، وكتاب الموجز، وكتاب إيضاح البرهان، وكتاب التبيين على أصول الدين، وكتاب الشرح والتفصيل في الردّ على

أهل الإفك والتضليل، وكتاب الإبانة، وكتاب تفسير القرآن، يقال أنه في سبعين مجلدا. وكانت غلته من ضيعة وقفها بلال بن أبي بردة على عقبه، وكانت نفقته في السنة سبعة عشر درهما، وكانت فيه دعابة ومزح كثير. وقال مسعود بن شيبة في كتاب التعليم: كان حنفيّ المذهب، معتزليّ الكلام، لأنه كان ربيب أبي عليّ الجبائيّ، وهو الذي رباه وعلمه الكلام، وذكر الخطيب أنه كان يجلس أيام الجمعات في حلقة أبي إسحاق المروزيّ الفقيه في جامع المنصور. وعن أبي بكر بن الصيرفيّ: كان المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعريّ فحجزهم في أقماع السماسم. وجملة عقيدته أنّ الله تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حيّ بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام، سميع يسمع، بصير يبصر، وأن صفاته أزلية قائمة بذاته تعالى، لا يقال هي هو، ولا هي غيره، ولا هي هو، ولا غيره. وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات، وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصح وجوده، وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص، وكلامه واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وهذه الوجوه راجعة إلى اعتبارات في كلامه، لا إلى نفس الكلام والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء، دلالات على الكلام الأزليّ، فالمدلول وهو القرآن المقروء، قديم أزليّ، والدلالة وهي العبارات، وهي القراءة، مخلوقة محدثة. قال: وفرق بين القراء والمقروء، والتلاوة والمتلوّ، كما فرق بين الذكر والمذكور. قال: والكلام معنى قائم بالنفس، والعبارة دالة على ما في النفس، وإنما تسمى العبارة كلاما مجازا. قال وأراد الله تعالى جميع الكائنات خيرها وشرّها، ونفعها وضرّها، ومال في كلامه إلى جواز تكليف ما لا يطاق، لقوله أنّ الاستطاعة مع الفعل، وهو مكلف بالفعل قبله، وهو غير مستطيع قبله على مذهبه. قال وجميع أفعال العباد مخلوقة مبدعة من الله تعالى، مكتسبة للعبد، والكسب عبارة عن الفعل القائم بمحل قدرة العبد. قال: والخالق هو الله تعالى، حقيقة لا يشاركه في الخلق غيره، فأخص وصفه هو القدرة والاختراع، وهذا تفسير اسمه البارئ. قال وكلّ موجود يصح أن يرى، والله تعالى موجود، فيصح أن يرى، وقد صح السمع بأن المؤمنين يرونه في الدار الأخرى في الكتاب والسنة، ولا يجوز أن يرى في مكان، ولا صورة مقابلة، واتصال شعاع، فإن ذلك كله محال، وماهية الرؤية له فيها رأيان، أحدهما: أنه علم مخصوص يتعلق بالوجود دون العدم، والثاني أنه إدراك وراء العلم، وأثبت السمع والبصر صفتين أزليتين هما إدراكان وراء العلم، وأثبت اليدين والوجه صفات خبرية، ورد السمع بها، فيجب الاعتراف به، وخالف المعتزلة في الوعد والوعيد والسمع والعقل من كل وجه. وقال: الإيمان هو التصديق بالقلب والقول باللسان والعمل بالأركان فروع الإيمان، فمن صدّق بالقلب أي أقرّ بوحدانية الله تعالى واعترف بالرسل تصديقا لهم فيما جاؤا به فهو مؤمن، وصاحب الكبيرة إذا خرج من الدنيا من غير توبة

حكمه إلى الله، أما أن يغفر له برحمته أو يشفع له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإمّا أن يعذبه بعدله ثم يدخله الجنة برحمته ولا يخلد في النار مؤمن. قال ولا أقول أنه يجب على الله سبحانه قبول توبته بحكم العقل، لأنه هو الموجب، لا يجب عليه شيء أصلا، بل قد ورد السمع بقبول توبة التائبين، وإجابة دعوة المضطرّين، وهو المالك لخلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم النار لم يكن جورا، ولو أدخلهم الجنة لم يكن حيفا، ولا يتصوّر منه ظلم، ولا ينسب إليه جور، لأنه المالك المطلق، والواجبات كلها سمعية فلا يوجب العقل شيئا البتة، ولا يقتضي تحسينا ولا تقبيحا، فمعرفة الله تعالى وشكر المنعم، وإثابة الطائع، وعقاب العاصي، كلّ ذلك بحسب السمع دون العقل، ولا يجب على الله شيء لا صلاح ولا أصلح ولا لطف بل الثواب والصلاح واللطف والنعم كلها تفضل من الله تعالى، ولا يرجع إليه تعالى نفع ولا ضرّ، فلا ينتفع بشكر شاكر، ولا يتضرّر بكفر كافر، بل يتعالى ويتقدّس عن ذلك، وبعث الرسل جائز لا واجب ولا مستحيل، فإذا بعث الله تعالى الرسول وأيده بالمعجزة الخارقة للعادة وتحدّى ودعا الناس، وجب الإصغاء إليه والاستماع منه والامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، وكرامات الأولياء حق، والإيمان بما جاء في القرآن والسنة من الأخبار عن الأمور الغائبة عنا مثل اللوح والقلم والعرش والكرسيّ والجنة والنار حق وصدق، وكذلك الأخبار عن الأمور التي ستقع في الآخرة، مثل سؤال القبر والثواب والعقاب فيه والحشر والمعاد والميزان والصراط وانقسام فريق في الجنة وفريق في السعير، كلّ ذلك حق وصدق يجب الإيمان والاعتراف به. والإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار دون النص والتعيين على واحد معين، والأئمة مترتبون في الفضل ترتبهم في الإمامة. قال ولا أقول في عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلّا أنّهم رجعوا عن الخطأ، وأقول أن طلحة والزبير من العشرة المبشرين بالجنة، وأقول في معاوية وعمرو بن العاص أنهما بغيا على الإمام الحق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، فقاتلهم مقاتلة أهل البغي، وأقول أن أهل النهروان الشراة هم المارقون عن الدين، وأن عليا رضي الله عنه كان على الحق في جميع أحواله، والحق معه حيث دار. فهذه جملة من أصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية، والتي من جهر بخلافها أريق دمه، والأشاعرة يسمون الصفاتية لإثباتهم صفات الله تعالى القديمة، ثم افترقوا في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، كالاستواء والنزول والإصبع واليد والقدم والصورة والجنب، والمجيء على فرقتين، فرقة تؤول جميع ذلك على وجوه محتملة اللفظ، وفرقة لم يتعرّضوا للتأويل ولا صاروا إلى التشبيه، ويقال لهؤلاء الأشعرية الأسرية، فصار للمسلمين في ذلك خمسة أقوال: أحدها اعتقاد ما يفهم مثله من اللغة، وثانيها السكوت عنها مطلقا، وثالثها السكوت عنها بعد نفي إرادة الظاهر، ورابعها حملها على المجاز، وخامسها حملها على الاشتراك، ولكلّ فريق أدلة وحجاج تضمنتهما كتب أصول

الدين، ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربك، ولذلك خلقهم والله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. فصل: اعلم أن الله سبحانه طلب من الخلق معرفته بقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات/ 56] قال ابن عباس وغيره يعرفون، فخلق تعالى الخلق وتعرّف إليهم بألسنة الشرائع المنزلة، فعرفه من عرفه، سبحانه، منهم على ما عرّفهم فيما تعرّف به إليهم، وقد كان الناس قبل إنزال الشرائع الرسل عليهم السلام، علمهم بالله تعالى إنما هو بطريق التنزيه له عن سمات الحدوث، وعن التركيب، وعن الافتقار. ويصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق، وهذا التنزيه هو المشهور عقلا، ولا يتعدّاه عقل أصلا، فلما أنزل الله شريعته على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأكمل دينه، كان سبيل العارف بالله أن يجمع في معرفته بالله بين معرفتين، إحداهما المعرفة التي تقتضيها الأدلة العقلية، والأخرى المعرفة التي جاءت بها الاخبارات الإلهية، وأن يردّ علم ذلك إلى الله تعالى، ويؤمن به وبكل ما جاءت به الشريعة على الوجه الذي أراده الله تعالى، من غير تأويل بفكره ولا تحكم فيه برأيه، وذلك أن الشرائع إنما أنزلها الله تعالى لعدم استقلال العقول البشرية بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه في علم الله، وأنّي لها ذلك وقد تقيدت بما عندها من إطلاق ما هنالك، فإن وهبها علما بمراده من الأوضاع الشرعية، ومنحها الاطلاع على حكمه في ذلك، كان من فضله تعالى، فلا يضيف العارف هذه المنة إلى فكره، فإن تنزيهه لربه تعالى بفكره ويجب أن يكون مطابقا لما أنزله سبحانه على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب والسنة، وإلّا فهو تعالى منزه عن تنزيه عقول البشر بأفكارها، فإنها مقيدة بأوطارها، فتنزيهها كذلك مقيد بحسبها وبموجب أحكامها وآثارها، إلّا إذا خلت عن الهوى فإنها حينئذ يكشف الله لها الغطاء عن بصائرها، ويهديها إلى الحق، فتنزه الله تعالى عن التنزيهات العرفية بالأفكار العادية، وقد أجمع المسلمون قاطبة على جواز رواية الأحاديث الواردة في الصفات ونقلها وتبليغها من غير خلاف بينهم في ذلك، ثم أجمع أهل الحق منهم على أن هذه الأحاديث مصروفة عن احتمال مشابهة الخلق، لقول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى/ 11] ولقول الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الاخلاص/ 2] وهذه السورة يقال لها سورة الاخلاص، وقد عظم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شأنها، ورغّب أمته في تلاوتها، حتى جعلها تعدل ثلث القرآن من أجل أنها شاهدة بتنزيه الله تعالى، وعدم الشبه والمثل له سبحانه، وسميت سورة الإخلاص لاشتمالها على إخلاص التوحيد لله عن أن يشوبه ميل إلى تشبيهه بالخلق، وأمّا الكاف التي في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى/ 11] فإنها زائدة، وقد تقرّر أن الكاف والمثل في كلام العرب اتيا للتشبيه، فجمعهما الله تعالى ثم نفى بهما عنه ذلك، فإذا ثبت إجماع المسلمين على جواز رواية هذه الأحاديث ونقلها، مع إجماعهم على أنها مصروفة عن

التشبيه، لم يبق في تعظيم الله تعالى بذكرها إلّا نفي التعطيل، لكون أعداء المرسلين سموا ربهم سبحانه أسماء نفوا فيها صفاته العلا، فقال قوم من الكفار هو طبيعة، وقال آخرون منهم هو علة، إلى غير ذلك من إلحادهم في أسمائه سبحانه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الأحاديث المشتملة على ذكر صفات الله العلا، ونقلها عنه أصحابه البررة، ثم نقلها عنهم أئمة المسلمين حتى انتهت إلينا، وكلّ منهم يرويها بصفتها من غير تأويل لشيء منها، مع علمنا أنهم كانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ففهمنا من ذلك أن الله تعالى أراد بما نطق به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من هذه الأحاديث، وتناولها عنه الصحابة رضي الله عنهم وبلغوها لأمّته، أن يغص بها في حلوق الكافرين، وأن يكون ذكرها نكتا في قلب كلّ ضال معطل مبتدع يقفو أثر المبتدعة من أهل الطبائع وعباد العلل، فلذلك وصف الله تعالى نفسه الكريمة بها في كتابه، ووصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا بما صح عنه وثبت، فدل على أن المؤمن إذا اعتقد أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، كان ذكره لهذه الأحاديث تمكين الإثبات، وشجا في حلوق المعطلة، وقد قال الشافعيّ: رحمه الله «الإثبات أمكن» نقله الخطابيّ ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم أوّلوا هذه الأحاديث، والذي يمنع من تأويلها إجلال الله تعالى عن أن تضرب له الأمثال، وأنه إذا نزل القرآن بصفة من صفات الله تعالى، كقوله سبحانه: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح/ 10] فإن نفس تلاوة هذا يفهم منها السامع المعنى المراد به، وكذا قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة/ 64] عند حكايته تعالى عن اليهود نسبتهم إياه إلى البخل فقال تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [المائدة/ 64] فإن نفس تلاوة هذا مبينة للمعنى المقصود، وأيضا فإن تأويل هذه الأحاديث يحتاج أن يضرب لله تعالى فيها المثل نحو قولهم في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه/ 5] الاستواء الاستيلاء، كقولك استوى الأمير على البلد، وأنشدوا: قد استوى بشر على العراق فلزمهم تشبيه الباري تعالى ببشر، وأهل الإثبات نزهو إجلال الله عن أن يشبهوه بالأجسام حقيقة ولا مجازا، وعلموا مع ذلك أن هذا النطق يشتمل على كلمات متداولة بين الخالق وخلقه، وتحرّجوا أن يقولوا مشتركة، لأن الله تعالى لا شريك له، ولذلك: لم يتأول السلف شيئا من أحاديث الصفات، مع علمنا قطعا أنها عندهم مصروفة عما يسبق إليه ظنون الجهال من مشابهتها الصفات المخلوقين، وتأمّل تجد الله تعالى لمّا ذكر المخلوقات المتولدة من الذكر والأنثى في قوله سبحانه: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً [الشورى/ 11] يذرؤكم فيه علم سبحانه ما يخطر بقلوب الخلق، فقال عز من قائل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] .

واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت من سعة الملك وعلوّ اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسها، بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدّون سائر الناس عبيدا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرا، تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله تعالى الحق، وكان من قائميهم سنفاد واشنيس والمقفع وبابك وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب خداشا، وأبو مسلم السروح، فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستبشاع ظلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى، فقوم أدخلوهم إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهديّ، عنده حقيقة الدين إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين عن كفار، إذ نسبوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الكفر، وقوم خرجوا إلى القول بادعاء النبوّة لقوم سموهم به، وقوم سلكوا بهم إلى القول بالحلول وسقوط الشرائع، وآخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وآخرون قالوا بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة، وهو قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكنديّ، قبل أن يصير خارجيا صفريا، وقد أظهر عبد الله بن سبأ الحميريّ اليهوديّ الإسلام ليكيد أهله، فكان هو أصل إثارة الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، واحرق عليّ رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا بإلهيته، ومن هذه الأصول حدثت الإسماعيلية والقرامطة. والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجوهر لا سرّ تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عمّ على شيء من الشريعة، كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده صلّى الله عليه وسلّم سرّ ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلها إليه، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر بإجماع الأمّة، وأصل كلّ بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأوّل، حتى بالغ القدريّ في القدر فجعل العبد خالقا لأفعاله، وبالغ الجبريّ في مقابلته فسلب عنه الفعل والاختيار، وبالغ المعطل في التنزيه فسلب عن الله تعالى صفات الجلال ونعوت الكمال، وبالغ المشبه في مقابلته فجعله كواحد من البشر، وبالغ المرجئ في سلب العقاب، وبالغ المعتزليّ في التخليد في العذاب، وبالغ الناصبيّ في دفع عليّ رضي الله عنه عن الإمامة، وبالغت الغلاة حتى جعلوه إلها، وبالغ السنيّ في تقديم أبي بكر رضي الله عنه، وبالغ الرافضيّ في تأخيره حتى كفره، وميدان الظنّ واسع وحكم الوهم غالب، فتعارضت الظنون وكثرت الأوهام وبلغ كل فريق في الشرّ والعناد والبغي والفساد إلى أقصى غاية، وأبعد نهاية، وتباغضوا وتلاعنوا

ذكر المدارس

واستحلوا الأموال واستباحوا الدماء، وانتصروا بالدول واستعانوا بالملوك، فلو كان أحدهم إذا بالغ في أمر نازع الآخر في القرب منه، فإن الظنّ لا يبعد عن الظنّ كثيرا ولا ينتهى في المنازعة إلى الطرف الآخر من طرفي التقابل، لكنهم أبو إلّا ما قدّمناه ذكره من التدابر والتقاطع، ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربك. ذكر المدارس قال ابن سيده: درس الكتاب يدرسه درسا ودراسة، ودارسه من ذلك كأنه عاوده، حتى انقاد لحفظه. وقرىء بهما وليقولوا درست ودارست ذاكرتهم، وحكى درست أي قرئت وقرىء درست أي هذه أخبار قد عفت وانمحت، ودرّست أشدّ مبالغة، والدراس المدارسة، وقال ابن جني: ودرسته إياه وأدرسته، ومن الشاذ قراءة ابن حيوة، وبما كنتم تدرسون، والمدارس الموضع الذي يدرس فيه، وقد ذكر الواقديّ أن عبد الله ابن أمّ مكتوم قدم مهاجرا إلى المدينة مع مصعب بن عمير رضي الله عنهما، وقيل قدم بعد بدر بيسير، فنزل دار القرّاء، ولما أراد الخليفة المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق بالله أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله جعفر بناء قصره في الشماسية ببغداد، استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد، فسئل عن ذلك فذكر أنه يريده ليبني فيه دورا ومساكن ومقاصير، يرتب في كل موضع رؤساء كلّ صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية، ليقصد كل من اختار علما أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه. والمدارس مما حدث في الإسلام، ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة، وأوّل من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبنيت بها بالمدرسة البيهقية، وبنى بها أيضا الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة، وبنى بها أخو السلطان محمود بن سبكتكين مدرسة، وبنى بها أيضا المدرسة السعيدية، وبنى بها أيضا مدرسة رابعة، وأشهر ما بني في القديم المدرسة النظامية ببغداد، لأنّها أوّل مدرسة قرّر بها للفقهاء معاليم، وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك أبي عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق بن العباس الطوسيّ، وزير ملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق في مدينة بغداد، وشرع في بنائها في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وفرغت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين وأربعمائة، ودرس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازيّ الفيروزآبادي، صاحب كتاب التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه ورحمه، فاقتدى الناس به من حينئذ في بلاد العراق وخراسان وما وراء النهر وفي بلاد الجزيرة وديار بكر. وأمّا مصر فإنها كانت حينئذ بيد الخلفاء الفاطميين، ومذهبهم مخالف لهذه الطريقة، وإنما هم شيعة إسماعيلية كما تقدّم، وأوّل ما عرف إقامة درس من قبل السلطان بمعلوم جار لطائفة من الناس بديار مصر، في خلافة العزيز بالله نزار بن المعز،

المدرسة الناصرية

ووزارة يعقوب بن كلس، فعمل ذلك بالجامع الأزهر كما تقدّم ذكره، ثم عمل في دار الوزير يعقوب بن كاس مجلس يحضره الفقهاء، فكان يقرأ فيه كتاب فقه على مذهبهم، وعمل أيضا مجلس بجامع عمرو بن العاص من مدينة فسطاط مصر لقراءة كتاب الوزير، ثم بنى الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور بن العزيز دار العلم بالقاهرة كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، فلما انقرضت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أبطل مذاهب الشيعة من ديار مصر، وأقام بها مذهب الإمام الشافعيّ، ومذهب الإمام مالك، واقتدى بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، فإنه بنى بدمشق وحلب وأعمالهما عدّة مدارس للشافعية والحنفية، وبنى لكل من الطائفتين مدرسة بمدينة مصر. وأوّل مدرسة أحدثت بديار مصر المدرسة الناصرية بجوار الجامع العتيق بمصر، ثم المدرسة القمحية المجاورة للجامع أيضا، ثم المدرسة السيوفية التي بالقاهرة، ثم اقتدى بالسلطان صلاح الدين في بناء المدارس بالقاهرة ومصر وغيرهما من أعمال مصر وبالبلاد الشامية والجزيرة أولاده، وأمراؤه، ثم حذا حذوهم من ملك مصر بعدهم من ملوك الترك وأمرائهم وأتباعهم إلى يومنا هذا، وسأذكر ما بديار مصر من المدارس، وأعرّف بحال من بناها على ما اعتدته في هذا الكتاب من التوسط دون الإسهاب، وبالله استعين. المدرسة الناصرية بجوار الجامع العتيق من مدينة مصر من قبليه، هذه المدرسة عرفت أوّلا بالمدرسة الناصرية، ثم عرفت بابن زين التجار، وهو أبو العباس أحمد بن المظفر بن الحسين الدمشقيّ، المعروف بابن زين التجار، أحد أعيان الشافعية. درّس بهذه المدرسة مدّة طويلة، ومات في ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، ثم عرفت بالمدرسة الشريفة، وهي إلى الآن تعرف بذلك، وكان موضعها يقال له الشرطة، وذكر الكنديّ أنها خطة قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ، وعرفت بدار الفلفل. وقال ابن عبد الحكم كانت فضاء قبل ذلك، وقيل كانت هي والدار التي إلى جانبها لنافع بن عبد الله بن قيس الفهريّ، فأخذها منه قيس بن سعد، وسمّيت دار الفلفل لأن أسامة بن زيد التنوخيّ صاحب الخراج بمصر، ابتاع من موسى بن وردان فلفلا بعشرين ألف دينار ليهديه إلى صاحب الروم، فخزّنه فيها، ولما فرغ عيسى بن يزيد الجلوديّ من بناء زيادة الجامع، بنى هذه الدار شرطة في سنة ثلاث عشرة ومائتين، ثم صارت سجنا تعرف بالمعونة، فهدمها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في أوّل المحرّم سنة ست وستين وخمسمائة، وأنشأها مدرسة برسم الفقهاء الشافعية، وكان حينئذ يتولى وزارة مصر للخليفة العاضد، وكان هذا من أعظم ما نزل بالدولة، وهي أوّل مدرسة عملت بديار مصر، ولما كملت وقف عليها الصاغة، وكانت بجوارها، وقد خربت وبقي منها شيء يسير قرأت عليها اسم الخليفة العزيز بالله، ووقف عليها أيضا قرية

المدرسة القمحية

تعرف ... «1» وأول من ولي التدريس بها ابن زين التجار، فعرفت به، ثم درس بها بعدد ابن قطيطة بن الوزان، ثم من بعده كمال الدين أحمد بن شيخ الشيوخ، وبعده الشريف القاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد الحنفيّ قاضي العسكر الأرموي، فعرفت به. وقيل لها المدرسة الشريفة من عهده إلى اليوم، ولولا ما يتناوله الفقهاء من المعلوم بها لخربت، فإن الكيمان ملاصقة لها بعد ما كان حولها أعمر موضع في الدنيا، وقد ذكر حبس المعونة عند ذكر السجون من هذا الكتاب. المدرسة القمحية هذه المدرسة بجوار الجامع العتيق بمصر، كان موضعها يعرف بدار الغزل، وهو قيسارية يباع فيها الغزل، فعدمها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالكية، وكان الشروع فيها للنصف من المحرّم سنة ست وستين وخمسمائة، ووقف عليها قيسارية الورّاقين، وعلوها بمصر، وضيعة بالفيوم تعرف بالحنبوشية، ورتب فيها أربعة من المدرّسين عند كل مدرّس عدّة من الطلبة، وهذه المدرسة أجل مدرسة للفقهاء المالكية، ويتحصل لهم من ضيعتهم التي بالفيوم قمح يفرّق فيهم، فلذلك صارت لا تعرف إلّا بالمدرسة القمحية إلى اليوم، وقد أحاط بها الخراب، ولولا ما يتحصل منها للفقهاء لدثرت. وفي شعبان سنة خمس وعشرين وثمانمائة أخرج السلطان الملك الأشرف برسباي الدقماقيّ ناحيتي الاعلام والحنبوشية، وكانتا من وقف السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على هذه المدرسة، وأنعم بهما على مملوكين من مماليكه ليكونا إقطاعا لهما. مدرسة يازكوج هذه المدرسة بسوق الغزل في مدينة مصر، وهي مدرسة معلقة بناها ... «2» . مدرسة ابن الأرسوفيّ هذه المدرسة كانت بالبزازين التي تجاور خط النخالين بمصر، عرفت بابن الأرسوفيّ التاجر العسقلانيّ، وكان بناؤها في سنة سبعين وخمسمائة، وهو عفيف الدين عبد الله بن محمد الأرسوفيّ، مات بمصر في يوم الاثنين حادي عشري ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

مدرسة منازل العز

مدرسة منازل العز هذه المدرسة كانت من دور الخلفاء الفاطميين، بنتها أمّ الخليفة العزيز بالله بن المعز، وعرفت بمنازل العز، وكانت تشرف على النيل، وصارت معدّة لنزهة الخلفاء، وممن سكنها ناصر الدولة حسين بن حمدان إلى أن قتل، وكان بجانبها حمّام يعرف بحمّام الذهب من جملة حقوقها، وهي باقية. فلما زالت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف، أنزل في منازل العز الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فسكنها مدّة، ثم إنه اشتراها والحمّام والإصطبل المجاور لها من بيت المال في شهر شعبان سنة ست وستين وخمسمائة، وأنشأ فندقين بمصر بخط الملاحين، وأنشأ ربعا بجوار أحد الفندقين، واشترى جزيرة مصر التي تعرف اليوم بالروضة، فلما أراد أن يخرج من مصر إلى الشام وقف منازل العز على فقهاء الشافعية، ووقف عليها الحمّام وما حولها، وعمر الاصطبل فندقا عرف بفندق النخلة ووقفه عليها، ووقف عليها الروضة، ودرّس بها شهاب الدين الطوسيّ وقاضي القضاة عماد الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد العليّ السكريّ، وعدّة من الأعيان. وهي الآن عامرة بعمارة ما حولها. الملك المظفر تقيّ الدين أبو سعيد عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان، وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، قدم إلى القاهرة في ... «1» واستنابه السلطان على دمشق في المحرّم سنة إحدى وسبعين، ثم نقله إلى نيابة حماه، وسلّم إليه سنجار لما أخذها في ثاني رمضان سنة ثمان وسبعين، فأقام بها ولحق السلطان على حلب فقدم عليه في سابع صفر سنة تسع وسبعين، فأقام إلى أن بعثه إلى القاهرة نائبا عنه بديار مصر عوضا عن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فقدمها في شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وأنعم عليه بالفيوم وأعمالها مع القايات وبوش، وأبقى عليه مدينة حماه. ثم خرج بعساكر مصر إلى السلطان وهو بدمشق في سنة ثمانين لاجل أخذ الكرك من الفرنج، فسار إليها وحصرها مدّة ثم رجع مع السلطان إلى دمشق، وعاد إلى القاهرة في شعبان وقد أقام السلطان على مملكة مصر ابنه الملك العزيز عثمان، وجعل الملك المظفر كافلا له وقائما بتدبير دولته، فلم يزل على ذلك إلى جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين، فصرف السلطان أخاه الملك العادل عن حلب وأعطاه نيابة مصر، فغضب الملك المظفر وعبر بأصحابه إلى الجيزة يريد المسير إلى بلاد المغرب واللحاق بغلامه بهاء الدين قراقوش التقويّ، فبلغ السلطان ذلك فكتب إليه ولم يزل به حتى زال ما به، وسار إلى السلطان فقدم عليه دمشق في ثالث عشري شعبان، فأقرّه على حماه والمعرّة ومنبج، وأضاف إليه ميافارقين، فلحق به أصحابه ما خلا مملوكه زين الدين بوزيا، فإنه سار إلى

مدرسة العادل

بلاد المغرب، وكانت له في أرض مصر وبلاد الشام أخبار وقصص، وعرفت له مواقف عديدة في الحرب مع الفرنج، وآثار في المصافات، وله في أبواب البرّ أفعال حسنة، وله بمدينة الفيوم مدرستان إحداهما للشافعية والأخرى للمالكية، وبنى مدرسة بمدينة الرها، وسمع الحديث من السلفيّ وابن عوف، وكان عنده فضل وأدب، وله شعر حسن، وكان جوادا شجاعا مقداما شديد البأس عظيم الهمة كثير الإحسان، ومات في نواحي خلاط ليلة الجمعة تاسع شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ونقل إلى حماه فدفن بها في تربة بناها على قبره ابنه الملك المنصور محمد. مدرسة العادل هذه المدرسة بخط الساحل بجوار الربع العادليّ من مدينة مصر الذي وقف على الشافعيّ، عمرها الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، درس بها قاضي القضاة تقيّ الدين أبو عليّ الحسين بن شرف الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الفقيه جلال الدين أبي محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس. فعرفت به، وقيل لها مدرسة ابن شاس إلى اليوم، وهي عامرة، وعرف خطها بالقشاشين وهي للمالكية. مدرسة ابن رشيق هذه المدرسة للمالكية، وهي بخط حمّام الريش من مدينة مصر، كان الكاتم من طوائف التكرور لما وصلوا إلى مصر في سنة بضع وأربعين وستمائة، قاصدين الحج، دفعوا للقاضي علم الدين بن رشيق مالا بناها به، ودرّس بها فعرفت به، وصار لها في بلاد التكرور سمعة عظيمة، وكانوا يبعثون إليها في غالب السنين المال. المدرسة الفائزية هذه المدرسة في مصر بخط ... «1» أنشأها الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد بن وهيب الفائزيّ قبل وزارته، في سنة ست وثلاثين وستمائة، ودرّس بها القاضي محيي الدين عبد الله بن قاضي القضاة شرف الدين محمد بن عين الدولة، ثم قاضي القضاة صدر الدين موهوب الجزريّ، وهي للشافعية. المدرسة القطبية هذه المدرسة بالقاهرة في خط سويقة الصاحب بداخل درب الحريريّ، كانت هي

المدرسة السيوفية

والمدرسة السيفية من حقوق دار الديباج التي تقدّم ذكرها، وأنشأ هذه المدرسة الأمير قطب الدين خسرو بن بلبل بن شجاع الهدبانيّ، في سنة سبعين وخمسمائة، وجعلها وقفا على الفقهاء الشافعية، وهو أحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. المدرسة السيوفية هذه المدرسة بالقاهرة، وهي من جملة دار الوزير المأمون البطائجيّ، وقفها السلطان السيد الأجل الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب على الحنفية، وقرّر في تدريسها الشيخ مجد الدين محمد بن محمد الجبتي، ورتب له في كل شهر أحد عشر دينارا، وباقي ريع الوقف يصرفه على ما يراه للطلبة الحنفية المقرّرين عنده على قدر طبقاتهم، وجعل النظر للجبتي، ومن بعده إلى من له النظر في أمور المسلمين، وعرفت بالمدرسة السيوفية، من أجل أن سوق السيوفيين كان حينئذ على بابها، وهي الآن تجاه سوق الصنادقيين، وقدوهم القاضي محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فإنه قال في كتاب الروضة الزاهرة في خطط المعزية القاهرة: مدرسة السيوفية وهي للحنفية، وقفها عز الدين فرحشاه قريب صلاح الدين وما أدري كيف وقع له هذا الوهم، فإن كتاب وقفها موجود، قد وقفت عليه ولخصت منه ما ذكرته، وفيه أن واقفها السلطان صلاح الدين وخطه على كتاب الوقف ونصه: الحمد لله وبه توفيقي، وتاريخ هذا الكتاب تاسع عشرى شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ووقف على مستحقيها اثنين وثلاثين حانوتا بخط سويقة أمير الجيوش وباب الفتوح وحارة برجوان، وذكر في آخر كتاب وقفها أن الواقف أذن لمن حضر مجلسه من العدول في الشهادة والقضاء على لفظه بما تضمنه المسطور، فشهدوا بذلك وأثبتوا شهادتهم آخره، وحكم حاكم المسلمين على صحة هذا الوقف بعد ما خاصم رجل من أهل هذا الوقف في ذلك، وأمضاه. لكنه لم يذكر في الكاتب اسجال القاضي بثبوته بل ذكر رسم شهادة الشهود على الواقف، وهم عليّ بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاريّ الدمشقيّ، والقاسم بن يحيى بن عبد الله بن قاسم الشهرزوريّ، وعبد الله بن عمر بن عبد الله الشافعيّ، وعبد الرحمن بن عليّ بن عبد العزيز بن قريش المخزوميّ، وموسى بن حكر بن موسك الهدبانيّ في آخرين. وهذه المدرسة هي أوّل مدرسة وقفت على الحنفية بديار مصر، وهي باقية بأيديهم. المدرسة الفاضلية هذه المدرسة بدرب ملوخيا من القاهرة، بناها القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيسانيّ، بجوار داره، في سنة ثمانين وخمسمائة، ووقفها على طائفتي الفقهاء الشافعية والمالكية، وجعل فيها قاعة للإقراء، أقرأ فيها الإمام أبو محمد الشاطبيّ ناظم الشاطبية، ثم تلميذه أبو عبد الله محمد بن عمر القرطبيّ، ثم الشيخ عليّ بن موسى الدهان وغيرهم، ورتب لتدريس فقه المذهبين الفقيه أبا القاسم عبد الرحمن بن سلامة الاسكندرانيّ، ووقف

بهذه المدرسة جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم، يقال أنها كانت مائة ألف مجلد، وذهبت كلها. وكان أصل ذهابها أن الطلبة التي كانت بها، لما وقع الغلاء بمصر في سنة أربع وتسعين وستمائة، والسلطان يومئذ الملك العادل كتبغا المنصوريّ، مسهم الضرّ، فصاروا يبيعون كلّ مجلد برغيف خبز حتى ذهب معظم ما كان فيها من الكتب، ثم تداولت أيدي الفقهاء عليها بالعارية، فتفرّقت، وبها إلى الآن مصحف قرآن كبير القدر جدّا، مكتوب بالخط الأوّل الذي يعرف بالكوفيّ، تسميه الناس مصحف عثمان بن عفان، ويقال أن القاضي الفاضل اشتراه بنيف وثلاثين ألف دينار، على أنه مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو في خزانة مفردة له بجانب المحراب من غريبه، وعليه مهابة وجلالة، وإلى جانب المدرسة كتّاب برسم الأيتام، وكانت هذه المدرسة من أعظم مدارس القاهرة وأجلها، وقد تلاشت لخراب ما حولها. عبد الرحيم: بن عليّ بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد القاضي الفاضل محيي الدين أبو عليّ ابن القاضي الأشرف اللخميّ العسقلانيّ البيسانيّ المصريّ الشافعيّ، كان أبوه يتقلد قضاء مدينة بيسان، فلهذا نسبوا إليها، وكانت ولادته بمدينة عسقلان في خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ثم قدم القاهرة وخدم الموفق يوسف بن محمد بن الجلال، صاحب ديوان الإنشاء في أيام الحافظ لدين الله، وعنه أخذ صناعة الإنشاء، ثم خدم بالإسكندرية مدّة، فلما قام بوزارة مصر العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، خرج أمره إلى والي الإسكندرية بتسييره إلى الباب، فلما حضر استخدمه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش، فلما مات الموفق بن الجلال في سنة ست وستين وخمسمائة، وكان القاضي الفاضل ينوب عنه في ديوان الإنشاء، عينه الكامل بن شاور وسعى له عند أبيه الوزير شاور بن مجير، فأقرّه عوضا عن ابن الجلال في ديوان الإنشاء، فلما ملك أسد الدين شيركوه احتاج إلى كاتب فأحضره، وأعجبه اتقائه وسمته ونصحه، فاستكتبه إلى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستخلصه وحسن اعتقاده فيه، فاستعان به على ما أراد من إزالة الدولة الفاطمية حتى تم مراده، فجعله وزيره ومشيره، بحيث كان لا يصدر أمرا إلا عن مشورته، ولا ينفذ شيئا إلا عن رأيه، ولا يحكم في قضية إلا بتدبيره، فلما مات صلاح الدين استمرّ على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز عثمان في المكانة والرفعة، وتقلد الأمر، فلما مات العزيز وقام من بعده ابنه الملك المنصور بالملك ودبر أمره عمه الأفضل، كان معهما على حاله إلى أن وصل الملك العادل أبو بكر بن أيوب من الشام لأخذ ديار مصر، وخرج الأفضل لقتاله، فمات منكوبا أحوج ما كان إلى الموت عند تولى الإقبال وإقبال الإدبار في سحر يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة، ودفن بتربته من القرافة الصغرى. قال ابن خلكان وزر للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتمكن منه غاية

التمكن، وبرز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدّمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره، أنّ مسودّات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق، إذا جمعت ما تقصر عن مائة، وهو مجيد في أكثرها. وقال عبد اللطيف البغداديّ: دخلنا عليه فرأيت شيخا ضئيلا كله رأس وقلب، وهو يكتب ويملى على اثنين، ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوّة حرصه في إخراج الكلام، وكأنه يكتب بجملة أعضائه، وكان لغرام في الكتابة وتحصيل الكتب، وكان له الدين والعفاف والتقى والمواظبة على أوراد الليل، والصيام وقراءة القرآن، وكان قليل اللذات كثير الحسنات دائم التهجد، ويشتغل بعلوم الأدب وتفسير القرآن، غير أنه كان خفيف البضاعة من النحو، ولكن قوّة الدراية توجب له قلة اللحن، وكان لا يكاد يضيع من زمانه شيئا إلّا في طاعة، وكتب في الإنشاء ما لم يكتبه غيره. وحكى لي ابن القطان أحد كتابه قال: لما خطب صلاح الدين بمصر للإمام المستضيء بأمر الله، تقدّم إلى القاضي الفاضل بأن يكاتب الديوان العزيز وملوك الشرق، ولم يكن يعرف خطابهم واصطلاحهم، فأوغر إلى العماد الكاتب أن يكتب، فكتب واحتفل وجاء بها مفضوضة ليقرأها الفاضل متبجحا بها فقال: لا أحتاج أن أقف عليها، وأمر بختمها وتسليمها إلى النجاب والعماد يبصر. قال: ثم أمرني أن ألحق النجاب ببلبيس وأن أفض الكتب وأكتب صدورها ونهايتها، ففعلت ورجعت بها إليه، فكتب على حذوها وعرضها على السلطان فارتضاها وأمر بإرسالها إلى أربابها مع النجاب، وكان متقللا في مطعمه ومنكحه وملبسه، ولباسه البياض لا يبلغ جميع ما عليه دينارين، ويركب معه غلام وركابيّ، ولا يمكن أحدا أن يصحبه، ويكثر زيارة القبور وتشييع الجنائز وعيادة المرضى، وله معروف في السرّ والعلانية، وأكثر أوقاته يفطر بعد ما يتهوّر الليل، وكان ضعيف البنية رقيق الصورة له حدبة يغطيها الطيلسان، وكان فيه سوء خلق يكمد به في نفسه ولا يضرّ أحدا به، ولأصحاب الأدب عنده نفاق يحسن إليهم ولا يمنّ عليهم، ويؤثر أرباب البيوت والغرباء، ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان إليهم أو بالإعراض عنهم، وكان دخله في كلّ سنة من إقطاع ورباع وضياع خمسين ألف دينار سوى متاجره للهند والمغرب وغيرهما، وكان يقتني الكتب من كل فنّ ويجتلبها من كل جهة، وله نسّاخ لا يفترون، ومجلدون لا يبطلون. قال لي بعض من يخدمه في الكتب: أنّ عددها قد بلغ مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، وهذا قبل موته بعشرين سنة. وحكى لي ابن صورة الكتبيّ: أن ابنه القاضي الأشرف التمس مني أن أطلب له نسخة الحماسة ليقرأها، فأعلمت القاضي الفاضل، فاستحضر من الخادم الحماسات، فأحضر له خمسا وثلاثين نسخة، وصار ينفض نسخة نسخة ويقول: هذه بخط فلان، وهذه عليها خط فلان، حتى أتى على الجميع وقال: ليس فيها ما يصلح للصبيان، وأمرني أن أشتري له نسخة بدينار.

المدرسة الأزكشية

المدرسة الأزكشية هذه المدرسة بالقاهرة على رأس السوق الذي كان يعرف بالخروقيين، ويعرف اليوم بسويقة أمير الجيوش، بناها الأمير سيف الدين أيازكوج الأسديّ، مملوك أسد الدين شيركوه، وأحد أمراء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعلها وقفا على الفقهاء من الحنفية فقط، في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكان أيازكوج رأس الأمراء الأسدية بديار مصر في أيام السلطان صلاح الدين، وأيام ابنه الملك العزيز عثمان، وكان الأمير فخر الدين جهاركس رأس الصلاحية، ولم يزل على ذلك إلى أن مات في يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ودفن بسفح المقطم بالقرب من رباط الأمير فخر الدين بن قزل. المدرسة الفخرية هذه المدرسة بالقاهرة فيما بين سويقة الصاحب ودرب العدّاس، عمرها الأمير الكبير فخر الدين أبو الفتح عثمان بن قزل الباروميّ، أستادار الملك الكامل محمد بن العادل، وكان الفراغ منها في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكان موضعها أخيرا يعرف بدار الأمير حسام الدين ساروح بن أرتق شادّ الدواوين، ومولد الأمير فخر الدين في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بحلب، وتنقل في الخدم حتى صار أحد الأمراء بديار مصر، وتقدّم في أيام الملك الكامل، وصار أستاداره وإليه أمر المملكة وتدبيرها إلى أن سافر السلطان من القاهرة يريد بلاد المشرق، فمات بحرّان بعد مرض طويل في ثامن عشر ذي الحجة سنة تسع وعشرين وستمائة، وكان خيّرا كثير الصدقة يتفقد أرباب البيوت، وله من الآثار سوى هذه المدرسة المسجد الذي تجاهها، وله أيضا رباط بالقرافة وإلى جانبه كتاب سبيل، وبنى بمكة رباطا. المدرسة السيفية هذه المدرسة بالقاهرة فيما بين خط البندقانيين وخط الملحيين، وموضعها من جملة دار الديباج، قال ابن عبد الظاهر كانت دارا وهي من المدرسة القطبية، فسكنها شيخ الشيوخ، يعني صدر الدين محمد بن حموية، وبنيت في وزارة صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكران سيف الإسلام، ووقفها وولى فيها عماد الدين ولد القاضي صدر الدين، يعني ابن درباس، وسيف الإسلام هذا اسمه طفتكين بن أيوب. طفتكين: ظهير الدين سيف الإسلام الملك المعز بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الأيوبيّ، سيّره أخوه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلاد اليمن في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، فملكها واستولى على كثير من بلادها، وكان شجاعا كريما مشكور السيرة حسن السياسة، قصده الناس من البلاد الشاسعة يستمطرون إحسانه وبرّه، وسار إليه

المدرسة العاشورية

شرف الدين بن عنين ومدحه بعدّة قصائد بديعة، فأجزل صلاته وأكثر من الإحسان إليه، واكتسب من جهته مالا وافرا، وخرج من اليمن، فلما قدم إلى مصر والسلطان إذ ذاك الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين، ألزمه أرباب ديوان الزكاة بدفع زكاة ما معه من المتجر فعمل: ما كلّ من يتسمى بالعزيز لها ... أهل ولا كلّ برق سحبه غدقه بين العزيزين فرق في فعالهما ... هذّاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه وتوفي سيف الإسلام في شوّال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالمنصورة، وهي مدينة باليمن اختطها رحمه الله تعالى. المدرسة العاشورية هذه المدرسة بحارة زويلة من القاهرة، بالقرب من المدرسة القطبية الجديدة ورحبة كوكاي. قال ابن عبد الظاهر: كانت دار اليهوديّ ابن جميع الطبيب، وكان يكتب لقراقوش، فاشترتها منه الست عاشوراء بنت ساروج الأسديّ، زوجة الأمير أيازكوج الأسديّ، ووقفتها على الحنفية، وكانت من الدور الحسنة، وقد تلاشت هذه المدرسة وصارت طول الأيام مغلوقة لا تفتح إلّا قليلا، فإنها في زقاق لا يسكنه إلّا اليهود ومن يقرب منهم في النسب. المدرسة القطبية هذه المدرسة في أوّل حارة زويلة برحبة كوكاي، عرفت بالست الجليلة الكبرى عصمة الدين مؤنسة خاتون، المعروفة بدار إقبال العلائي، ابنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وشقيقة الملك الأفضل قطب الدين أحمد، وإليه نسبت، وكانت ولادتها في سنة ثلاث وستمائة، ووفاتها ليلة الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكانت قد سمعت الحديث وخرّج لها الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد الظاهريّ أحاديث ثمانيات حدّثت بها، وكانت عاقلة دينة فصيحة، لها أدب وصدقات كثيرة، وتركت مالا جزيلا، وأوصت ببناء مدرسة يجعل فيها فقهاء وقرّاء، ويشترى لها وقف يغلّ، فبنيت هذه المدرسة، وجعل فيها درس للشافعية ودرس للحنفية. وقرّاء، وهي إلى اليوم عامرة. المدرسة الخرّوبية هذه المدرسة على شاطيء النيل من مدينة مصر، أنشأها تاج الدين محمد بن صلاح الدين أحمد بن محمد بن علي الخروبيّ، لما أنشأ بيتا كبيرا مقابل بيت أخيه عز الدين قبليه على شاطىء النيل، وجعل فيه هذه المدرسة، وهي ألطف من مدرسة أخيه، وبجنبها مكتب سبيل، ووقف عليها أوقافا، وجعل بها مدرّس حديث فقط، مات بمكة في آخر المحرّم سنة خمس وثمانين وسبعمائة.

مدرسة المحلي

مدرسة المحليّ هذه المدرسة على شاطىء النيل داخل صناعة التمر ظاهر مدينة مصر، أنشأها رئيس التجار برهان الدين إبراهيم بن عمر بن عليّ المحليّ ابن بنت العلامة شمس الدين محمد بن اللبان، وينتمي في نسبه إلى طلحة بن عبيد الله، أحد العشرة رضي الله عنهم، وجعل هذه المدرسة بجوار داره التي عمرها في مدّة سبع سنين، وأنفق في بنائها زيادة على خمسين ألف دينار، وجعل بجوارها مكتب سبيل، لكن لم يجعل بها مدرّسا ولا طلبة، وتوفي ثاني عشري ربيع الأوّل سنة ست وثمانمائة عن مال عظيم، أخذ منه السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق مائة ألف دينار، وكان مولده سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ولم يكن مشكور السيرة في الديانة، وله من المآثر تجديد جامع عمرو بن العاص، فإنه كان قد تداعى إلى السقوط، فقام بعمارته حتى عاد قريبا مما كان عليه، شكر الله له ذلك. المدرسة الفارقانية هذه المدرسة بابها شارع في سويقة حارة الوزيرية من القاهرة، فتحت في يوم الاثنين رابع جمادى الأولى سنة ست وسبعين وستمائة، وبها درس للطائفة الشافعية، ودرس للطائفة الحنفية، أنشأها الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانيّ السلاحدار، كان مملوكا للأمير نجم الدين أمير حاجب، ثم انتقل إلى الملك الظاهر بيبرس، فترقّى عنده في الخدم حتى صار أحد الأمراء الأكابر، وولاه الأستادارية، وناب عنه بديار مصر مدّة غيبته، وقدّمه على العساكر غير مرّة، وفتح له بلاد النوبة، وكان وسيما جسيما شجاعا مقداما حازما، صاحب دراية بالأمور وخبرة بالأحوال والتصرّفات، مدبرا للدول، كثير البرّ والصدقة، ولما مات الملك الظاهر وقام من بعده في ملك مصر ابنه الملك السعيد بركة قان، ولّاه نيابة السلطنة بديار مصر بعد موت الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار، فأظهر الحزم وضم إليه طائفة منهم شمس الدين أقوش، وقطليجا الروميّ، وسيف الدين قليج البغداديّ، وسيف الدين بيجو البغداديّ، وسيف الدين شعبان أمير شكار، وبكتمر السلاحدار، وكانت الخاصكية تكرهه فاتفقوا مع مماليك بيلبك الخازندار على القبض عليه، وتحدّثوا مع الملك السعيد في ذلك، وما زالوا به حتى قبضوا عليه بمساعدة الأمير سيف الدين كوندك الساقي لهم، وكان قد ربي مع السعيد في المكتب، فلم يشعر وهو قاعد بباب القلة من القلعة إلّا وقد سحب وضرب ونتفت لحيته وجرّ، وقد ارتكب في إهانته أمر شنيع، إلى البرج فسجن به ليالي قليلة، أخرج منه ميتا في أثناء سنة ست وسبعين وستمائة، وجهل قبره. المدرسة المهذبية هذه المدرسة خارج باب زويلة من خط حارة حلب بجوار حمّام قماري، بناها

المدرسة الخروبية

الحكيم مهذب الدين أبو سعيد محمد بن علم الدين بن أبي الوحش بن أبي الخير بن أبي سليمان بن أبي حليقة، رئيس الأطباء، كان جدّه الرشيد أبو الوحش نصرانيا متقدّما في صناعة الطب، فأسلم ابنه علم الدين في حياته، وكان لا يولد له ولد فيعيش، فرأت أمّه وهي حامل به قائلا يقول: هيئوا له حلقة فضة قد تصدّق بوزنها، وساعة يوضع من بطن أمّه تثقب أذنه وتوضع فيها الحلقة. ففعلت ذلك فعاش، فعاهدت أمّه أباه أن لا يقلعها من أذنه، فكبر وجاءته أولاد وكلهم يموت، فولد له ابنه مهذب الدين أبو سعيد، فعمل له حلقة فعاش، وكان سبب اشتهاره بأبي حليقة أن الملك الكامل محمد بن العادل أمر بعض خدّامه أن يستدعي بالرشيد الطبيب من الباب، وكان جماعة من الأطباء بالباب، فقال الخادم من هو منهم؟ فقال السلطان أبو حليقة، فخرج فاستدعاه بذلك، فاشتهر بهذا الاسم، ومات الرشيد في سنة ست وسبعين وستمائة. المدرسة الخرّوبية هذه المدرسة بظاهر مدينة مصر تجاه المقياس بخط كرسيّ الجسر، أنشأها كبير الخرابية بدر الدين محمد بن محمد بن عليّ الخروبيّ، بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء المهملة وضمها ثم واو ساكنة بعدها باء موحدة ثم ياء آخر الحروف، التاجر في مطابخ السكّر، وفي غيرها بعد سنة خمسين وسبعمائة، وجعل مدرّس الفقه بها الشيخ بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عقيل، والمعيد الشيخ سراج الدين عمر البلقيني، ومات سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وأنشأ أيضا ربعين بخط دار النحاس من مصر البلقيني، ومات سنة وربعين مقابل المقياس بالقرب من مدرسته، ولبدر الدين هذا أخ من أبيه أسنّ منه يقال له صلاح الدين أحمد بن محمد بن عليّ الخرّوبيّ، عاش بعد أخيه وأنجب في أولاده، وأدركت لهم أولادا نجباء، وكان أوّلا قليل المال، ثم تموّل وأنشأ تربة كبيرة بالقرافة، فيما بين تربة الإمام الشافعيّ وتربة الليث بن سعد، مقابل السروتين، وجدّدها حفيده نور الدين عليّ بن عز الدين محمد بن صلاح الدين، وأضاف إليها مطهرة حسنة، ومات سنة تسع وستين وسبعمائة، وشرط بدر الدين في مدرسته أن لا يلي بها أحد من العجم. وظيفة من الوظائف. فقال في كل وظيفة منها، ويكون من العرب دون العجم، وكانت له مكارم، جهز مرّة ابن عقيل إلى الحج بنحو خمسمائة دينار. المدرسة الخروبية هذه المدرسة بخط الشون قبليّ دار النحاس من ظاهر مدينة مصر، أنشأها عز الدين محمد بن صلاح الدين أحمد بن محمد بن عليّ الخرّوبيّ، وهي أكبر من مدرسة عمه بدر الدين، إلّا أنه مات سنة ست وسبعين وسبعمائة قبل استيفاء ما أراد أن يجعل فيها، فليس لها مدرّس ولا طلبة، ومولده سنة ست عشرة وسبعمائة، ونشأ في دنيا عريضة رحمه الله تعالى.

المدرسة الصاحبية البهائية

المدرسة الصاحبية البهائية هذه المدرسة كانت بزقاق القناديل من مدينة مصر، قرب الجامع العتيق، أنشأها الوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن سليم بن حنا في سنة أربع وخمسين وستمائة، وكان إذ ذاك زقاق القناديل أعمر أخطاط مصر، وإنما قيل له زقاق القناديل من أجل أنه كان سكن الأشراف، وكانت أبواب الدور يعلق على كلّ باب منها قنديل. قال القضاعيّ: ويقال أنه كان به مائة قنديل توقد كلّ ليلة على أبواب الأكابر. وابن حنا هذا هو عليّ بن محمد بن سليم- بفتح السين المهملة وكسر اللام ثم ياء آخر الحروف بعدها ميم- ابن حنا- بحاء مهملة مكسورة ثم نون مشدّدة مفتوحة بعدها ألف- الوزير الصاحب بهاء الدين، ولد بمصر في سنة ثلاث وستمائة، وتنقلت به الأحوال في كتابة الدواوين إلى أن ولي المناصب الجليلة، واشتهرت كفايته وعرفت في الدولة نهضته ودرايته، فاستوزره السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ في ثامن شهر ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين وستمائة، بعد القبض على الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، وفوّض إليه تدبير المملكة وأمور الدولة كلها، فنزل من قلعة الجبل بخلع الوزارة ومعه الأمير سيف الدين بلبان الروميّ الدوادار، وجميع الأعيان والأكابر، إلى داره، واستبدّ بجميع التصرّفات، وأظهر عن حزم وعزم وجودة رأي، وقام بأعباء الدولة من ولايات العمال وعزلهم من غير مشاورة السلطان ولا اعتراض أحد عليه، فصار مرجع جميع الأمور إليه ومصدرها عنه، ومنشأ ولايات الخطط والأعمال من قلمه، وزوالها عن أربابها لا يصدر إلا من قبله، وما زال على ذلك طول الأيام الظاهرية، فلما قام الملك السعيد بركة قان بأمر المملكة بعد موت أبيه الملك الظاهر، أقرّه على ما كان عليه في حياة والده، فدبر الأمور وساس الأحوال، وما تعرّض له أحد بعداوة ولا سوء، مع كثرة من كان يناويه من الأمراء وغيرهم إلّا وصدّه الله عنه، ولم يجد ما يتعلق به عليه، ولا ما يبلغ به مقصوده منه، وكان عطاؤه واسعا وصلاته وكلفه للأمراء والأعيان ومن يلوذ به، ويتعلق بخدمته تخرج عن الحدّ في الكثرة، وتتجاوز القدر في السعة مع حسن ظنّ بالفقراء وصدق العقيدة في أهل الخير والصلاح، والقيام بمعونتهم وتفقد أحوالهم وقضاء أشغالهم، والمبادرة إلى امتثال أوامرهم، والعفة عن الأموال، حتى أنه لم يقبل من أحد في وزارته هدية إلّا أن تكون هدية فقير أو شيخ معتقد يتبرّك بما يصل من أثره، وكثرة الصدقات في السرّ والعلانية، وكان يستعين على ما التزمه من المبرّات ولزمه من الكلف بالمتاجر، وقد مدحه عدّة من الناس فقبل مديحهم وأجزل جوائزهم، وما أحسن قول الرشيد الفارقيّ فيه: وقائل قال لي نبه لنا عمرا ... فقلت إنّ عليا قد تنبه لي مالي إذا كنت محتاجا إلى عمر ... من حاجة فلينم حسبي انتباه علي

وقول سعد الدين بن مروان الفارقيّ في كتاب الدرج المختص به أيضا: يمم عليا فهو بحر الندى ... وناده في المضلع المعضل فرفده بحر على مجدب ... ووفده مفض إلى مفصل يسرع إن سيل نداه وهل ... أسرع من سيل أتى من علي إلّا أنه أحدث في وزارته حوادث عظيمة، وقاس أراضي الأملاك بمصر والقاهرة وأخذ عليها مالا، وصادر أرباب الأموال وعاقبهم حتى مات كثير منهم تحت العقوبة، واستخرج حوالي الذمّة مضاعفة، ورزىء بفقد ولديه الصاحب فخر الدين محمد، والصاحب زين الدين، فعوّضه الله عنهما بأولادهما، فما منهم إلا نجيب صدر رئيس فاضل مذكور، وما مات حتى صار جدّ جدّ، وهو على المكانة وافر الحرمة، في ليلة الجمعة مستهلّ ذي الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة، ودفن بتربته من قرافة مصر، ووزر من بعده الصاحب برهان الدين الخضر بن حسن بن عليّ السنجاريّ، وكان بينه وبين ابن حنا عداوة ظاهرة وباطنة، وحقود بارزة وكامنة، فأوقع الحوطة على الصاحب تاج الدين محمد بن حنا بدمشق، وكان مع الملك السعيد بها، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، وجهزه على البريد إلى مصر، ليستخرج منه ومن أخيه زين الدين أحمد، وابن عمه عز الدين تكملة ثلثمائة ألف دينار، وأحيط بأسبابه ومن يلوذ به من أصحابه ومعارفه وغلمانه، وطولبوا بالمال. وأوّل من درّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدين محمد، ابن بانيها الوزير الصاحب بهاء الدين إلى أن مات يوم الاثنين حادي عشري شعبان سنة ثمان وستين وستمائة، فوليها من بعده ابنه محيي الدين أحمد بن محمد إلى أن توفي يوم الأحد ثامن شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، فدرّس فيها بعده الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين إلى أن مات في يوم الأربعاء سابع صفر سنة أربع وسبعمائة، فدرّس بها ولده الصاحب شرف الدين وتوارثها أبناء الصاحب يلون نظرها وتدريسها إلى أن كان آخرهم صاحبنا الرئيس شمس الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن الصاحب بهاء الدين، وليها بعد أبيه عز الدين، ووليها عز الدين بعد بدر الدين أحمد بن محمد بن محمد بن الصاحب بهاء الدين، فلما مات صاحبنا شمس الدين محمد بن الصاحب لليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وضع بعض نوّاب القضاة يده على ما بقي لها من وقف، وأقامت هذه المدرسة مدّة أعوام معطلة من ذكر الله وإقام الصلاة، لا يأويها أحد لخراب ما حولها، وبها شخص يبيت بها كي لا يسرق ما بها من أبواب ورخام، وكان لها خزانة كتب جليلة فنقلها شمس الدين محمد بن الصاحب وصارت تحت يده إلى أن مات، فتفرّقت في أيدي الناس، وكان قد عزم على نقلها إلى شاطيء النيل بمصر، فمات قبل ذلك.

المدرسة الصاحبية

ولما كان في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، أخذ الملك الناصر فرج بن برقوق عمد الرخام التي كانت بهذه المدرسة، وكانت كثيرة العدد جليلة القدر، وعمل بدلها دعائم تحمل السقوف إلى أن كانت أيام الملك المؤيد الشيخ، وولي الأمير تاج الدين الشوبكيّ الدمشقي ولاية القاهرة ومصر وحسبة البلدين وشدّ العمائر السلطانية، فهدم هذه المدرسة في أخريات سنة سبع عشرة وأوائل سنة ثماني عشرة وثمانمائة، وكانت من أجلّ مدارس الدنيا وأعظم مدرسة بمصر، يتنافس الناس من طلبة العلم في النزول بها ويتشاحنون في سكنى بيوتها، حتى يصير البيت الواحد من بيوتها يسكن فيه الاثنان من طلبة العلم والثلاثة، ثم تلاشى أمرها حتى هدمت وسيجهل عن قريب موضعها، ولله عاقبة الأمور. المدرسة الصاحبية هذه المدرسة بالقاهرة في سويقة الصاحب، كان موضعها من جملة دار الوزير يعقوب بن كلس، ومن جملة دار الديباج، أنشأها الصاحب صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر، وجعلها وقفا على المالكية، وبها درس نحو وخزانة كتب، وما زالت بيد أولاده. فلما كان في شعبان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، جدّد عمارتها القاضي علم الدين إبراهيم بن عبد اللطيف بن إبراهيم المعروف بابن الزبير، ناظر الدولة في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون، واستجدّ فيها منبرا فصار يصلّى بها الجمعة إلى يومنا هذا، ولم يكن قبل ذلك بها منبر ولا تصلّى فيها الجمعة. عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عبد الخالق بن الحسين بن الحسن بن منصور بن إبراهيم بن عمار بن منصور بن عليّ صفيّ الدين أبو محمد الشنيبيّ الدميريّ المالكيّ، المعروف بابن شكر، ولد بناحية دميرة إحدى قرى مصر البحرية في تاسع صفر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ومات أبوه فتزوّجت أمّه بالقاضي الوزير الأعز فخر الدين مقدام ابن القاضي الأجل أبي العباس أحمد بن شكر المالكيّ، فرباه ونوّه باسمه لأنه كان ابن عمه، فعرف به وقيل له ابن شكر، وسمع صفيّ الدين من الفقيه أبي الظاهر إسماعيل بن مكيّ بن عوف، وأبي الطيب عبد المنعم بن يحيى وغيره، وحدّث بالقاهرة ودمشق، وتفقه على مذهب مالك، وبرع فيه، وصنف كتابا في الفقه كان كلّ من حفظه نال منه خطأ وافرا، وقصد بذلك أن يتشبه بالوزير عون الدين بن هبيرة، كانت بداية أمره أنه لما سلّم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر الأسطول لأخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأفرد له من الأبواب الديوانية الزكاة بمصر والجبس الجيوشي بالبرّين والنطرون والخراج وما معه من ثمن القرظ وساحل السنط والمراكب الديوانية واسنا وطنبدى، استخدم العادل في مباشرة ديوان هذه المعاملة الصفيّ بن شكر هذا، وكان ذلك في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ومن حينئذ اشتهر ذكره وتخصص بالملك العادل، فلما استقل بمملكة مصر في

سنة ست وتسعين وخمسمائة عظم قدره، ثم استوزره بعد الصنيعة بن النجار، فحل عنده محل الوزراء الكبار والعلماء المشاورين، وباشر الوزارة بسطوة وجبروت وتعاظم، وصادر كتاب الدولة واستصفى أموالهم، ففرّ منه القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل إلى بغداد، واستشفع بالخليفة الناصر، وأحضر كتابه إلى الملك العادل يشفع فيه، وهرب منه القاضي علم الدين إسماعيل بن أبي الحجاج صاحب ديوان الجيش، والقاضي الأسعد أسعد بن مماتي صاحب ديوان المال، والتجآ إلى الملك الظاهر بحلب، فأقاما عنده حتى ماتا، وصادر بني حمدان وبني الحباب وبني الجليس، وأكابر الكتاب، والسلطان لا يعارضه في شيء، ومع ذلك فكان يكثر التغضب على السلطان ويتجنى عليه وهو يحتمله إلى أن غضب في سنة سبع وستمائة، وحلف أنه ما بقي يخدم، فلم يحتمله، وولى الوزارة عوضا عنه القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر، وأخرجه من مصر بجميع أمواله وحرمه وغلمانه، وكان نقله على ثلاثين جملا، وأخذ أعداؤه في إغراء السلطان به وحسنوا له أن يأخذ ماله، فأبى عليهم ولم يأخذ منه شيئا، وسار إلى آمد فأقام بها عند ابن أرتق إلى أن مات الملك العادل في سنة خمسين وستمائة، فطلبه الملك الكامل محمد بن الملك العادل لما استبدّ بسلطنة ديار مصر بعد أبيه، وهو في نوبة قتال الفرنج على دمياط حين رأى أن الضرورة داعية لحضوره بعد ما كان يعاديه، فقدم عليه في ذي القعدة منها وهو بالمنزلة العادلية قريبا من دمياط، فتلقاه وأكرمه وحادثه فيما نزل به من موت أبيه ومحاربة الفرنج ومخالفة الأمير عماد الدين أحمد بن المشطوب، واضطراب أرض مصر بثورة العربان، وكثرة خلافهم، فشجعه وتكفل له بتحصيل المال وتدبير الأمور، وسار إلى القاهرة فوضع يده في مصادرات أرباب الأموال بمصر والقاهرة من الكتاب والتجار، وقرّر على الأملاك مالا، وأحدث حوادث كثيرة، وجمع مالا عظيما أمدّ به السلطان، فكثر تمكنه منه وقويت يده وتوفرت مهابته، بحيث أنه لما انقضت نوبة دمياط وعاد الملك الكامل إلى قلعة الجبل كان ينزل إليه ويجلس عنده بمنظرته التي كانت على الخليج، ويتحدّث معه في مهمات الدولة، ولم يزل على ذلك إلى أن مات بالقاهرة وهو وزير في يوم الجمعة ثامن شعبان سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكان بعيد الغور جماعا للمال ضابطا له من الإنفاق في غير واجب، قد ملأت هيبته الصدور، وانقاد له على الرغم والرضي الجمهور، وأخمد جمرات الرجال، وأضرم رمادا لم يخطر إيقاده على بال، وبلغ عند الملك الكامل بحيث أنه بعث إليه بابنيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، والملك العادل أبي بكر ليزوراه في يوم عيد فقاما على رأسه قياما، وأنشد زكيّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن وهيب القوصيّ قصيدة زاد فيها حين رأى الملكين قياما على رأسه: لو لم تقم لله حقّ قيامه ... ما كنت تقعد والملوك قيام وقطع في وزارته الأرزاق، وكانت جملتها أربعمائة ألف دينار في السنة، وتسارع

أرباب الحوائج والأطماع ومن كان يخافه إلى بابه، وملؤا طرقاته وهو يهينهم، ولا يحفل بشيخ منهم وهو عالم، وأوقع بالرؤساء وأرباب البيوت حتى استأصل شأفتهم عن آخرهم، وقدّم الأراذل في مناصبهم، وكان جلدا قويا حل به مرّة دوسطاريا قوية وأزمنت فيئس منه الأطباء، وعند ما اشتدّ به الوجع وأشرف على الهلاك، استدعى بعشرة من وجوه الكتاب كانوا في حبسه وقال: أنتم في راحة وأنا في الألم، كلّا والله، واستحضر المعاصير وآلات العذاب وعذبهم فصاروا يصرخون من العذاب وهو يصرخ من الألم طول الليل إلى الصبح، وبعد ثلاثة أيام ركب وكان يقول كثيرا: لم يبق في قلبي حسرة إلّا كون البيسانيّ لم تتمرّغ شيبته على عتباتي، يعني القاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ، فإنه مات قبل وزارته، وكان دريّ اللون تعلوه حمرة، ومع ذلك فكان طلق المحيا حلو اللسان حسن الهيئة، صاحب دهاء مع هوج، وخبث في طيش، ورعونة مفرطة، وحقد لا تخبو ناره، ينتقم ويظنّ أنه لم ينتقم، فيعود، وكان لا ينام عن عدوّه ولا يقبل معذرة أحد، ويتخذ الرؤساء كلهم أعداءه ولا يرضى لعدوّه بدون الهلاك والاستئصال، ولا يرحم أحدا إذا انتقم منه، ولا يبالي بعاقبة، وكان له ولأهله كلمة يرونها ويعملون بها. كما يعمل بالأقوال الإلهية، وهي إذا كنت دقماقا فلا تكن وتدا، وكان الواحد منهم يعيدها في اليوم مرّات ويجعلها حجة عند انتقامه، وكان قد استولى على الملك العادل ظاهرا وباطنا، ولا يمكن أحدا من الوصول إليه، حتّى الطبيب والحاجب والفرّاش عليهم عيون له لا يتكلم أحد منهم فضل كلمة خوفا منه، وكان أكبر أغراضه إبادة أرباب البيوت ومحو آثارهم وهدم ديارهم وتقريب الأسقاط وشرار الفقهاء، وكان لا يأخذ من مال السلطان فلسا ولا ألف دينار، ويظهر أمانة مفرطة، فإذا لاح له مال عظيم احتجنه، وبلغ إقطاعه في السنة مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وكان قد عمي فأخذ يظهر جلدا عظيما وعدم استكانة، وإذا حضر إليه الأمراء والأكابر وجلسوا على خوانه يقول: قدّموا اللون الفلانيّ للأمير فلان والصدر فلان، والقاضي فلان، وهو يبني أموره في معرفة مكان المشار إليه برموز ومقدّمات، يكابر فيها دوائر الزمان، وكان يتشبه في ترسله بالقاضي الفاضل، وفي محاضراته بالوزير عون الدين بن هبيرة، حتى اشتهر عنه ذلك، ولم يكن فيه أهلية هذا لكنه كان من دهاة الرجال، وكان إذا لحظ شخصا لا يقنع له إلا بكثرة الغنى ونهاية الرفعة، وإذا غضب على أحد لا يقنع في شأنه إلا بمحو أثره من الوجود، وكان كثيرا ما ينشد: إذا حقّرت امرأ فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لم يحصد به عنبا وينشد كثيرا: تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنني ... صديقك إنّ الرأي عنك لعازب وأخذه مرّة مرض من حمى قوية، وحدث به النافض، وهو في مجلس السلطان ينفذ الأشغال، فما تأثر ولا ألقى جنبه إلى الأرض حتى ذهبت وهو كذلك، وكان يتعزز على

المدرسة الشريفية

الملوك الجبابرة، وتقف الرؤساء على بابه من نصف الليل ومعهم المشاعل والشمع، وعند الصباح يركب فلا يراهم ولا يرونه، لأنه إمّا أن يرفع رأسه إلى السماء تيها، وإمّا أن يعرّج إلى طريق غير التي هم بها، وإمّا أن يأمر الجنادرة التي في ركابه بضرب الناس وطردهم من طريقه. ويكون الرجل قد وقف على بابه طول الليل، إمّا من أوّله أو من نصفه بغلمانه ودوابه، فيطرد عنه ولا يراه، وكان له بوّاب يأخذ من الناس مالا كثيرا ومع ذلك يهينهم إهانة مفرطة، وعليه للصاحب في كل يوم خمسة دنانير، منها ديناران برسم الفقاع، وثلاثة دنانير برسم الحلوى، وكسوة غلمانه ونفقاته عليه أيضا، ومع ذلك اقتنى عقارا وقرى، ولما كان بعد موت الصاحب قدم من بغداد رسول الخليفة الظاهر، وهو محيي الدين أبو المظفر بن الجوزيّ، ومعه خلعة الخليفة للملك الكامل، وخلع لأولاده، وخلعة للصاحب صفيّ الدين، فلبسها فخر الدين سليمان كاتب الإنشاء، وقبض الملك الكامل على أولاده تاج الدين يوسف، وعز الدين محمد وحبسهما، وأوقع الحوطة على سائر موجوده رحمه الله وعفا عنه. المدرسة الشريفية هذه المدرسة بدرب كركامة على رأس حارة الجودرية من القاهرة، وقفها الأمير الكبير الشريف فخر الدين أبو نصر إسماعيل بن حصن الدولة فخر العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن أبي جميل دحية بن جعفر بن موسى بن إبراهيم بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، الجعفريّ الزينبيّ، أمير الحاج والزائرين، وأحد أمراء مصر في الدولة الأيوبية، وتمت في سنة اثنتي عشرة وستمائة، وهي من مدارس الفقهاء الشافعية. قال ابن عبد الظاهر: وجرى له في وقفها حكاية مع الفقيه ضياء الدين بن الورّاق، وذلك أن الملك العادل سيف الدين أبا بكر، يعني ابن أيوب، لما ملك مصر وكان قد دخلها على أنه نائب للملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف، فقوى عليه وقصد الاستبداد بالملك، فأحضر الناس للحلف، وكان من جملتهم الفقيه ضياء الدين بن الورّاق، فقوى عليه وقصد الاستبداد بالملك، فأحضر الناس للحلف، وكان من جملتهم الفقيه ضياء الدين بن الورّاق، فلما شرع الناس في الحلف قال الفقيه ضياء الدين: ما هذا الحلف، بالأمس حلفتم للمنصور، فإن كانت تلك الأيمان باطلة، فهذه باطلة، وإن كانت تلك صحيحة فهذه باطلة. فقال الصاحب صفيّ الدين بن شكر للعادل: أفسد عليك الأمور هذا الفقيه. وكان الفقيه لم يحضر إلى ابن شكر ولا سلّم عليه، فأمر العادل بالحوطة على جميع موجود الفقيه وماله وأملاكه، واعتقاله بالرصد مرسما عليه فيه، لأنه كان مسجده، فأقام مدّة سنين على هذه الصورة، فلما كان في بعض الأيام وجد غرّة من المترسمين فحضر إلى دار الوزارة

المدرسة الصالحية

بالقاهرة، فبلغ العادل حضوره، فخرج إليه. فقال له الفقيه: اعلم والله أني لا حاللتك ولا أبرأتك، أنت تتقدّمني إلى الله في هذه المدّة، وأنا بعدك أطالبك بين يدي الله تعالى. وتركه وعاد إلى مكانه، فحضر الشريف فخر الدين بن ثعلب إلى الملك العادل فوجده متألما حزينا، فسأله، فعرّفه. فقال: يا مولانا ولم تجرّد السم في نفسك؟ فقال: خذ كل ما وقعت الحوطة عليه وكلّ ما استخرج من أجرة أملاكه وطيب خاطره، وأما الفقيه ضياء الدين فإنه أصبح وحضرت إليه جماعة من الطلبة للقراءة عليه. فقال لهم: رأيت البارحة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: يكون فرجك على يد رجل من أهل بيتي صحيح النسب، فبينما هم في الحديث وإذا بغبرة ثارت من جهة القرافة، فانكشفت عن الشريف ابن ثعلب ومعه الموجود كله، فلما حضر عرّفه الجماعة المنام، فقال: يا سيدي اشهد على أن جميع ما أملكه وقف وصدقة، شكرا لهذه الرؤيا. وخرج عن كل ما يملكه، وكان من جملة ذلك المدرسة الشريفية لأنها كانت مسكنه ووقف عليها أملاكه، وكذلك فعل في غيرها، ولم يحالل الفقيه الملك العادل، ومات الملك العادل بعد ذلك، ومات الفقيه بعده بمدّة، ومات الشريف إسماعيل بن ثعلب بالقاهرة في سابع عشر رجب سنة ثلاث عشرة وستمائة. المدرسة الصالحية هذه المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة، كان موضعها من جملة القصر الكبير الشرقيّ، فبنى فيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب هاتين المدرستين، فابتدأ بهدم موضع هذه المدارس في قطعة من القصر في ثالث عشر ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة، ودك أساس المدارس في رابع عشر ربيع الآخر سنة أربعين، ورتب فيها دروسا أربعة للفقهاء المنتمين إلى المذاهب الأربعة في سنة إحدى وأربعين وستمائة، وهو أوّل من عمل بديار مصر دروسا أربعة في مكان، ودخل في هذه المدارس باب القصر المعروف بباب الزهومة، وموضعه قاعة شيخ الحنابلة الآن، ثم اختط ما وارء هذه المدارس في سنة بضع وخمسين وستمائة، وجعل حكر ذلك للمدرسة الصالحية، وأوّل من درّس بها من الحنابلة قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن العماد إبراهيم بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور المقدسيّ الحنبليّ الصالحيّ، وفي يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وأربعين وستمائة، أقام الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ الصالحيّ في نيابة السلطنة بديار مصر، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية هذه مع نوّاب دار العدل، وانتصب لكشف المظالم، واستمرّ جلوسه بها مدّة. ثم إن الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس، وقف الصاغة التي تجاهها، وأماكن بالقاهرة وبمدينة المحلة الغربية، وقطع أراضي جزائر بالأعمال الجيزية والأطفيحية على مدرسين أربعة، عند كل مدرّس معيدان وعدّة طلبة. وما يحتاج إليه من أئمة ومؤذنين وقومة وغير ذلك، وثبت وقف ذلك على يد

قاضي القضاة تقيّ الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعيّ، ونفذه قاضي القضاة شمس الدين أبو البركات محمد بن هبة الله بن شكر المالكيّ، وذلك في سنة سبع وسبعين وستمائة، وهي جارية في وقفها إلى اليوم. فلما كان في يوم الجمعة حادي عشري ربيع الأوّل سنة ثلاثين وسبعمائة، رتب الأمير جمال الدين أقوش المعروف بنائب الكرك جمال الدين الغزاويّ خطيبا بإيوان الشافعية من هذه المدرسة، وجعل له في كل شهر خمسين درهما، ووقف عليه وعلى مؤذنين وقفا جاريا، فاستمرّت الخطبة هناك إلى يومنا هذا. قبة الصالح: هذه القبة بجوار المدرسة الصالحية، كان موضعها قاعة شيخ المالكية، بنتها عصمة الدين والدة خليل شجرة الدر، لأجل مولاها الملك الصالح نجم الدين أيوب عندما مات، وهو على مقاتلة الفرنج بناحية المنصورة، في ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة، فكتمت زوجته شجرة الدر موته خوفا من الفرنج ولم تعلم بذلك أحدا سوى الأمير فخر الدين بن يوسف بن شيخ الشيوخ، والطواشي جمال الدين محسن فقط، فكتما موته عن كلّ أحد، وبقيت أمور الدولة على حالها، وشجرة الدرّ تخرج المناشير والتواقيع والكتب وعليها علامة بخط خادم يقال له سهيل، فلا يشك أحد في أنه خط السلطان، وأشاعت أن السلطان مستمرّ المرض ولا يمكن الوصول إليه، فلم يجسر أحد أن يتفوّه بموت السلطان إلى أن أنفذت إلى حصن كيفا وأحضرت الملك المعظم توران شاه بن الصالح، وأما الملك الصالح فإن شجرة الدرّ أحضرته في حراقة من المنصورة إلى قلعة الروضة تجاه مدينة مصر من غير أن يشعر به أحد إلّا من أيتمنته على ذلك، فوضع في قاعة من قاعات قلعة الروضة إلى يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة، فنقل إلى هذه القبة بعد ما كانت شجرة الدرّ قد عمرتها على ما هي عليه، وخلعت نفسها من سلطنة مصر ونزلت عنها لزوجها عز الدين أيبك قبل نقله، فنقله الملك المعز أيبك ونزل ومعه الملك الأشرف موسى ابن الملك المسعود وسائر المماليك البحرية والجمدارية والأمراء من قلعة الجبل إلى قلعة الروضة، وأخرج الملك الصالح في تابوت وصلّى عليه بعد صلاة الجمعة، وسائر الأمراء وأهل الدولة قد لبسوا البياض حزنا عليه، وقطع المماليك شعور رؤوسهم وساروا به إلى هذه الدولة قد لبسوا البياض حزنا عليه، السلطانان ونزلا إلى القبة، وحضر القضاة وسائر المماليك وأهل الدولة وكافة الناس وغلقت الأسواق بالقاهرة ومصر، وعمل عزاء للملك الصالح بين القصرين بالدفوف مدّة ثلاثة أيام، آخرها يوم الاثنين. ووضع عند القبر سناجق السلطان وبقجته وتركاشه وقوسه، ورتب عنده القرّاء على ما شرطت شجرة الدرّ في كتاب وقفها، وجعلت النظر فيها للصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا وذريته، وهي بيدهم إلى اليوم، وما أحسن قول الأديب جمال الدين أبي المظفر عبد الرحمن بن أبي سعيد محمد بن محمد بن عمر بن أبي القاسم بن تخمش الواسطيّ، المعروف بابن السنيرة الشاعر، لما مرّ هو والأمير نور الدين تكريت بالقاهرة بين

المدرسة الكاملية

القصرين ونظر إلى تربة الملك الصالح هذه، وقد دفن بقاعة شيخ المالكية فأنشد: بنيت لأرباب العلوم مدارسا ... لتنجو بها من هول يوم المهالك وضاقت عليك الأرض لم تلق منزلا ... تحلّ به إلّا إلى جنب مالك وذلك أن هذه القبة التي فيها قبر الملك الصالح، مجاورة لإيوان الفقهاء المالكية المنتمين إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، فقصد التورية بمالك الإمام المشهور، ومالك خازن النار، أعاذنا الله منها. المدرسة الكاملية هذه المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة، وتعرف بدار الحديث الكاملية، أنشأها السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي بن مروان في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وهي ثاني دار عملت للحديث. فإن أوّل من بنى دارا على وجه الأرض، الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، ثم بنى الكامل هذه الدار ووقفها على المشتغلين بالحديث النبويّ، ثم من بعدهم على الفقهاء الشافعية، ووقف عليها الربع الذي بجوارها على باب الخرنشف، ويمتدّ إلى الدرب المقابل للجامع الأقمر، وهذا الربع من إنشاء الملك الكامل، وكان موضع من جملة القصر الغربيّ، ثم صار موضعا يسكنه القماحون. وكان موضع المدرسة سوقا للرقيق ودارا تعرف بابن كستول. وأوّل من ولي تدريس الكاملية الحافظ أبو الخطاب عمر بن الحسن بن عليّ بن دحية، ثم أخوه أبو عمرو عثمان بن الحسن بن عليّ بن دحية، ثم الحافظ عبد العظيم المندريّ، ثم الرشيد العطار. وما برحت بيد أعيان الفقهاء إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة، فتلاشت كما تلاشى غيرها، وولى تدريسها صبيّ لا يشارك الأناسيّ إلّا بالصورة، ولا يمتاز عن البهيمة إلّا بالنطق، واستمرّ فيها دهرا لا يدرّس بها حتى نسيت أو كادت تنسى دروسها، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله. الملك الكامل: ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان الكرديّ الأيوبيّ، خامس ملوك بني أيوب الأكراد بديار مصر، ولد في خامس عشري ربيع الأوّل سنة ست وسبعين وخمسمائة، وخلف أباه الملك العادل على بلاد الشرق، فلما استولى على مملكة مصر، قدم الملك الكامل إلى القاهرة في سنة ست وتسعين وخمسمائة، ونصبه أبوه نائبا عنه بديار مصر، وأقطعه الشرقية وجعله وليّ عهده، وحلف له الأمراء، وأسكنه قلعة الجبل، وسكن العادل في دار الوزارة بالقاهرة وصار يحكم بديار مصر مدّة غيبة الملك العادل ببلاد الشام وغيرها بمفرده. فلما مات الملك العادل ببلاد الشام، استقل الملك الكامل بمملكة مصر في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة وهو على محاربة الفرنج بالمنزلة العادلية قريبا من دمياط،

وقد ملكوا البرّ الغربيّ. فثبت لقتالهم مع ما حدث من الوهن بموت السلطان، وثارت العربان بنواحي أرض مصر وكثر خلافهم واشتدّ ضررهم، وقام الأمير عماد الدين أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ، المعروف بابن المشطوب، وكان أجلّ الأمراء الأكابر، وله لفيف من الأكراد الهكارية، يريد خلع الملك الكامل وتمليك أخيه الملك الفائز إبراهيم بن العادل، ووافقه على ذلك كثير من الأمراء، فلم يجد الكامل بدّا من الرحيل في الليل جريدة، وسار من العادلية إلى أشموم طناح ونزل بها وأصبح العسكر بغير سلطان، فركب كل واحد هواه ولم يعرّج واحد منهم على آخر، وتركوا أثقالهم وسائر ما معهم، فاغتنم الفرنج الفرصة وعبروا إلى برّ دمياط واستولوا على جميع ما تركه المسلمون، وكان شيئا عظيما، وهمّ الملك الكامل بمفارقة أرض مصر، ثم إن الله تعالى ثبته وتلاحقت العساكر، وبعد يومين قدم عليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق باشموم، فاشتدّ عضده بأخيه، وأخرج ابن المشطوب من العسكر إلى الشام، ثم أخرج الفائز إبراهيم إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق يستنفرهم لجهاد الفرنج، وكتب الملك الكامل إلى أخيه الملك الأشرف موسى شاه يستحثه على الحضور، وصدّر المكاتبة بهذه الأبيات: يا مسعدي إن كنت حقا مسعفي ... فانهض بغير تلبث وتوقف واحثت قلوصك مرقلا «1» أو موجفا «2» ... بتجشم «3» في سيرها وتعسف «4» واطو المنازل ما استطعت ولا تنخ ... إلّا على باب المليك الأشرف واقر السلام عليه من عبد له ... متوقع لقدومه متشوّف وإذا وصلت إلى حماه فقل له ... عني بحسن توصل وتلطف إن تأت عبدك عن قليل تلقه ... ما بين كلّ مهند ومثقف أو تبط عن إنجاده فلقاؤه ... بك في القيامة في عراص «5» الموقف وجدّ الكامل في قتال الفرنج وأمر بالنفير في ديار مصر، وأتته الملوك من الأطراف، فقدّر الله أخذ الفرنج لدمياط بعد ما حاصروها ستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما، ووضعوا السيف في أهلها، فرحل الكامل من أشموم ونزل بالمنصورة وبعث يستنفر الناس، وقوي الفرنج حتى بلغت عدّتهم نحو المائتي ألف راجل، وعشرة آلاف فارس، وقدم عامّة أهل أرض مصر، وأتت النجدات من البلاد الشامية وغيرها، فصار المسلمون في جمع عظيم إلى الغاية بلغت عدّة فرسانهم خاصة نحو الأربعين ألفا، وكانت بين الفريقين خطوب آلت إلى

وقوع الصلح، وتسلم المسلمون مدينة دمياط في تاسع عشري رجب سنة ثمان عشرة وستمائة، بعد ما أقامت بيد الفرنج سنة وأحد عشر شهرا تنقص ستة أيام، وسار الفرنج إلى بلادهم، وعاد السلطان إلى قلعة الجبل. وأخرج كثيرا من الأمراء الذين وافقوا ابن المشطوب من القاهرة إلى الشام، وفرّق أخبازهم على مماليكه، ثم تخوّف من أمرائه في سنة إحدى وعشرين بميلهم إلى أخيه الملك المعظم، فقبض على جماعة منهم وكاتب أخاه الملك الأشرف في موافقته على المعظم، فقويت الوحشة بين الكامل والمعظم، واشتدّ خوف الكامل من عسكره وهمّ أن يخرج من القاهرة لقتال المعظم فلم يجسر على ذلك، وقدم الأشرف إلى القاهرة فسرّ بذلك سرورا كثيرا وتحالفا على المعاضدة، وسافر من القاهرة فمال مع المعظم، فتحير الكامل في أمره وبعث إلى ملك الفرنج يستدعيه إلى عكا، ووعده بأن يمكنه من بلاد الساحل، وقصد بذلك أن يشغل سرّ أخيه المعظم. فلما بلغ ذلك المعظم خطب للسلطان جلال الدين الخوارزميّ وبعث يستنجد به على الكامل، وأبطل الخطبة للكامل، فخرج الكامل من القاهرة يريد محاربته في رمضان سنة أربع وعشرين، وسار إلى العباسة، ثم عاد إلى قلعة الجبل وقبض على عدّة من الأمراء ومماليك أبيه لمكاتبتهم المعظم، وأنفق في العسكر، فاتفق موت الملك المعظم في سلخ ذي القعدة، وقيام ابنه الملك الناصر داود بسلطنة دمشق، وطلبه من الكامل الموادعة، فبعث إليه خلعة سنية وسنجقا سلطانيا وطلب منه أن ينزل له عن قلعة الشوبك، فامتنع الناصر من ذلك، فوقعت المنافرة بينهما وعهد الملك الكامل إلى ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وأركبه بشعار السلطنة وأنزله بدار الوزارة، وخرج من القاهرة في العساكر يريد دمشق، فأخذنا بلس والقدس، فخرج الناصر داود من دمشق ومعه عمه الأشرف، وسارا إلى الكامل يطلبان منه الصلح، فلما بلغ ذلك الكامل رحل من نابلس يريد القاهرة، فقدمها الناصر والأشرف، وأقام بها الناصر وسار الأشرف والمجاهد إلى الكامل فأدركاه بتل العجوز، فأكرمهما وقرّر مع الأشرف انتزاع دمشق من الناصر وإعطاءها للأشرف، على أن يكون للكامل ما بين عقبة أفيق إلى القاهرة، وللأشرف من دمشق إلى عقبة أفيق، وأن يعين بجماعة من ملوك بني أيوب، فاتفق قدوم الملك الأنبرطور إلى عكا باستدعاء الملك الكامل له، فتحير الكامل في أمره لعجزه عن محاربته وأخذ يلاطفه، وشرع الفرنج في عمارة صيدا وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج وسورها خراب، فلما بلغ الناصر موافقة الأشرف للكامل عاد من نابلس إلى دمشق واستعدّ للحرب، فسار إليه الأشرف من تل العجوز وحاصره بدمشق، وأقام الكامل بتل العجوز وقد تورط مع الفرنج فلم يجد بدّا من إعطائهم القدس على أن لا يجدّد سوره وأن تبقى الصخرة والأقصى مع المسلمين، ويكون حكم قرى القدس إلى المسلمين، وأن القرى التي فيما بين عكا ويافا وبين لد والقدس للفرنج، وانعقدت الهدنة على ذلك لمدّة عشر سنين وخمسة أشهر وأربعين يوما، أولها ثامن ربيع

الأوّل سنة ست وعشرين، ونودي في القدس بخروج المسلمين منه وتسليمه إلى الفرنج، فكان أمرا مهولا من شدّة البكاء والصراخ، وخرجوا بأجمعهم فصاروا إلى مخيم الكامل وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان، فشق عليه ذلك وأخذ منهم الستور وقناديل الفضة والآلات وزجرهم، وقيل لهم امضوا حيث شئتم، فعظم على المسلمين هذا وكثر الإنكار على الملك الكامل وشنعت المقالة فيه، وعاد الأنبرطور إلى بلاده بعد ما دخل القدس، وكان مسيره في آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين. وسيّر الكامل إلى الآفاق بتسكين قلوب المسلمين وانزعاجهم لأخذ الفرنج القدس، ورحل من تل العجوز يريد دمشق والأشرف على محاصرتها، فجدّ في القتال واشتدّ الأمر على الناصر إلى أن ترامى في الليل على الملك الكامل، فأكرمه وأعاده إلى قلعة دمشق، وبعث من تسلمها منه وعوّضه عن دمشق الكرك والشوبك والصلت والبلقاء والأغوار ونابلس وأعمال القدس، ثم ترك الشوبك للكامل مع عدّة مما ذكر، وتسلم الكامل دمشق في أوّل شعبان وأعطاها للأشرف، وأخذ منه ما معه من بلاد الشرق، وهي حران «1» والرّها «2» وسروج وغير ذلك، ثم سار الكامل فأخذ حماه وتوجه منها فقطع الفرات، ثم سار إلى جعبر والرقة ودخل حران والرّها ورتب أمورها، وأتته الرسل من ماردين وآمد والموصل وأربل وغير ذلك، وأقيمت له الخطبة بماردين، وبعث يستدعي عساكر الشام لقتال الخوارزميّ وهو بخلاط، ثم رحل الكامل من حرّان لأمور حدثت وسار إلى مصر فدخلها في شهر رجب سنة سبع وعشرين، وقد تغير على ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب وخلعه من ولاية العهد، وعهد إلى ابنه الملك العادل أبي بكر، ثم سار إلى الإسكندرية في سنة ثمان وعشرين، ثم عاد إلى مصر وحفر بحر النيل فيما بين المقياس وبرّ مصر، وعمل فيه بنفسه واستعمل فيه الملوك من أهله والأمراء والجند، فصار الماء دائما فيما بين مصر والمقياس، وانكشف البرّ فيما بين المقياس والجيزة في أيام احتراق النيل، وخرج من القاهرة إلى بلاد الشام في آخر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين، واستخلف على ديار مصر ابنه العادل وأسكنه قلعة الجبل، وأخذ الصالح معه فدخل دمشق من طريق الكرك، وخرج منها لقتال التتر، وجعل ابنه الصالح على مقدّمته، فسار إلى حران فرحل التتر عن خلاط، ثم رحل إلى الرها وسار إلى آمد ونازلها حتى أخذها، وأنعم على ابنه الصالح بحصن كيفا، وبعثه إليه وعاد إلى مصر في سنة ثلاثين، فقبض على عدّة من الأمراء. ثم خرج في سنة إحدى وثلاثين إلى دمشق وسار منها ودخل الدربند، وقد أعجبته كثرة عساكره، فإنه اجتمع معه ثمانية عشر طلبا لثمانية عشر ملكا. وقال هذه العساكر لم تجتمع لأحد من ملوك الإسلام، ونزل على النهر الأزرق بأوّل بلد الروم، وقد نزلت عساكر الروم وأخذت عليه رأس الدربند ومنعوه فتحير لقلة الأقوات عنده ولاختلاف ملوك بني

أيوب عليه، ورحل إلى مصر وقد فسد ما بينه وبين الأشرف وغيره، وأخذ ملك الروم الرها وحران بالسيف، فتجهز الكامل وخرج بعساكره من القاهرة في سنة ثلاث وثلاثين وسار إلى الرها ونازلها حتى أخذها وهدم قلعتها، وأخذ حران بعد قتال شديد، وبعث بمن كان فيها من الروم إلى القاهرة في القيود وكانوا زيادة على ثلاثة آلاف نفس، ثم خرج إلى دنيسر وعاد إلى دمشق وسار منها إلى القاهرة فدخلها في سنة أربع وثلاثين، ثم خرج في سنة خمس وثلاثين ونزل على دمشق وقد امتنعت عليه، فضايقها حتى أخذها من أخيه الملك الصالح إسماعيل، وعوّضه عنها بعلبك وبصرى وغيرهما في تاسع عشر جمادى الأولى، ونزل بالقلعة وأخذ يتجهز لأخذ حلب، وقد نزل به زكام فدخل في ابتدائه الحمّام فاندفعت الموادّ إلى معدته فتورم وثارت فيه حمّى، فنهاه الأطباء عن القيء وحذروه منه فلم يصبر وتقيأ فمات لوقته في آخر نهار الأربعاء حادي عشري رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة، عن ستين سنة منها ملكه أرض مصر نحو أربعين سنة، استبدّ فيها بعد موت أبيه مدّة عشرين سنة وخمسة وأربعين يوما. وكان يحب العلم وأهله ويؤثر مجالستهم، وشغف بسماع الحديث النبويّ، وحدّث وبنى دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وكان يناظر العلماء ويمتحنهم بمسائل غريبة من فقه ونحو، فمن أجاب عنها حظي عنده، وكان يبيت عنده بقلعة الجبل عدّة من أهل العلم على أسرّة بجانب سريره ليسامروه، وكان للعلم والأدب عنده نفاق، فقصده الناس لذلك، وصار يطلق الأرزاق الدارة لمن يقصده لهذا، وكان مهابا حازما سديد الرأي حسن التدبير عفيفا عن الدماء، وكان يباشر أمور مملكته بنفسه من غير اعتماد على وزير ولا غيره، ولم يستوزر بعد الصاحب صفيّ الدين عبد الله بن عليّ بن شكر أحدا، وإنما كان ينتدب من يختاره لتدبير الأشغال ويحضر عنده الدواوين ويحاسبهم بنفسه، وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج وكشف الجسور ورتب الأمراء لعملها، فإذا انتهى عمل الجسور خرج ثانيا وتفقدها بنفسه، فإن وقف فيها على خلل عاقب متوليها أشدّ العقوبة، فعمرت أرض مصر في أيامه عمارة جيدة، وكان يخرج من زكوات الأموال التي تجبى من الناس سهمي الفقراء والمساكين، ويعين مصرف ذلك لمستحقيه شرعا، ويفرز منه معاليم الفقهاء والصلحاء، وكان يجلس كلّ ليلة جمعة مجلسا لأهل العلم فيجتمعون عنده للمناظرة، وكان كثير السياسة حسن المداراة، وأقام على كل طريق خفراء لحفظ المسافرين، إلّا أنه كان مغرما بجمع المال مجتهدا في تحصيله، وأحدث في البلاد حوادث سماها الحقوق لم تعرف قبله، ومن شعره قوله رحمه الله تعالى: إذا تحققتم ما عند صاحبكم ... من الغرام فداك القدر يكفيه أنتم سكنتم فؤادي وهو منزلكم ... وصاحب البيت أدرى بالذي فيه وقال له الطبيب علم الدين أبو النصر جرجس بن أبي حليقة في اليوم الذي مات فيه،

المدرسة الصيرمية

كيف نوم السلطان في ليلته فأنشد: يا خليليّ خبراني بصدق ... كيف طعم الكرى فإني نسيت ودفن أوّلا بقلعة دمشق، ثم نقل إلى جوار جامع بني أمية وقبره هناك رحمه الله تعالى. المدرسة الصيرمية هذه المدرسة من داخل باب الجملون الصغير بالقرب من رأس سويقة أمير الجيوش، فيما بينها وبين الجامع الحاكميّ، بجوار الزيادة، بناها الأمير جمال الدين شويخ بن صيرم، أحد أمراء الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب، وتوفي في تاسع عشر صفر سنة ست وثلاثين وستمائة. المدرسة المسرورية هذه المدرسة بالقاهرة داخل درب شمس الدولة، كانت دار شمس الخواص مسرور، أحد خدّام القصر، فجعلت مدرسة بعد وفاته بوصيته، وأن يوقف الفندق الصغير عليها، وكان بناؤها من ثمن ضيعة بالشام كانت بيده بيعت بعد موته، وتولى ذلك القاضي كمال الدين خضر، ودرّس فيها، وكان مسرور ممن اختص بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فقدّمه على حلقته ولم يزل مقدّما إلى الأيام الكاملية، فانقطع إلى الله تعالى ولزم داره إلى أن مات، ودفن بالقرافة إلى جانب مسجده، وكان له برّ وإحسان ومعروف، ومن آثاره بالقاهرة فندق يعرف اليوم بخان مسرور الصفديّ وله ربع بالشارع. المدرسة القوصية هذه المدرسة بالقاهرة في درب سيف الدولة بالقرب من درب ملوخيا، أنشأها الأمير الكرديّ والي قوص. مدرسة بحارة الديلم «1» المدرسة الظاهرية هذه المدرسة بالقاهرة من جملة خط بين القصرين، كان موضعها من القصر الكبير يعرف بقاعة الخيم، وقد تقدّم ذكرها في أخبار القصر. ومما دخل في هذه المدرسة باب الذهب المذكور في أبواب القصر، فلما أوقع الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ الحوطة على

القصور والمناظر، كما تقدّم ذكره، نزل القاضي كمال الدين ظاهر ابن الفقيه نصر وكيل بيت المال، وقوّم قاعة الخيم هذه، وابتاعها الشيخ شمس الدين محمد بن العماد إبراهيم المقدسيّ شيخ الحنابلة ومدرّس المدرسة الصالحية النجمية، ثم باعها المذكور للسلطان، فأمر بهدمها وبناء موضعها مدرسة، فابتديء بعمارتها في ثاني ربيع الآخر سنة ستين وستمائة، وفرغ منها في سنة اثنتين وستين وستمائة، ولم يقع الشروع في بنائها حتى رتب السلطان وقفها، وكان بالشام، فكتب بما رتبه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور، وأن لا يستعمل فيها أحدا بغير أجرة، ولا ينقص من أجرته شيئا، فلما كان يوم الأحد خامس صفر سنة اثنتين وستين وستمائة، اجتمع أهل العلم بها وقد فرغ منها وحضر القرّاء وجلس أهل الدروس كلّ طائفة في إيوان، منها الشافعية بالإيوان القبليّ ومدرّسهم الشيخ تقيّ الدين محمد بن الحسن بن رزين الحمويّ، والحنفية بالإيوان البحريّ ومدرّسهم الصدر مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم الحلبيّ، وأهل الحديث بالإيوان الشرقيّ ومدرّسهم الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطيّ، والقرّاء بالقراءات السبع بالإيوان الغربيّ وشيخهم الفقيه كمال الدين المحليّ، وقرّروا كلهم الدروس وتناظروا في علومهم، ثم مدّت الأسمطة لهم فأكلوا، وقام الأديب أبو الحسين الجزار فأنشد: ألا هكذا يبني المدارس من بنى ... ومن يتغالى في الثواب وفي الثنا لقد ظهرت للظاهر الملك همة ... بها اليوم في الدارين قد بلغ المنا تجمّع فيها كلّ حسن مفرّق ... فراقت قلوبا للأنام وأعينا ومذ جاورت قبر الشهيد فنفسه الن ... فيسة منها في سرور وفي هنا وما هي إلّا جنة الخلد أزلفت ... له في غد فاختار تعجيلها هنا وقال السراج الورّاق أيضا قصيدة منها: مليك له في العلم حبّ وأهله ... فلله حبّ ليس فيه ملام فشيّدها للعلم مدرسة غدا ... عراق إليها شيّق وشآم ولا تذكرن يوما نظّاميّة لها ... فليس يضاهي ذا النظّام نظّام ولا تذكرن ملكا فبيبرس مالك ... وكلّ مليك في يديه غلام ولما بناها زعزعت كلّ بيعة ... متى لاح صبح فاستقرّ ظلام وقد برزت كالروض في الحسن انبأت ... بأنّ يديه في النوال غمام الم تر محرابا كأنّ أزاهرا ... تفتّح عنهنّ الغداة كمام وقال الشيخ جمال الدين يوسف بن الخشاب: قصد الملوك حماك والخلفاء ... فافخر فإن محلك الجوزاء

المدرسة المنصورية

أنت الذي أمراؤه بين الورى ... مثل الملوك وجنده أمراء ملك تزينت الممالك باسمه ... وتجمّلت بمديحه الفصحاء وترفّعت لعلاه خير مدارس ... حلّت بها العلماء والفضلاء يبقى كما يبقى الزمان وملكه ... باق له ولحاسديه فناء كم للفرنج وللتتار ببابه ... رسل مناها العفو والإعفاء وطريقه لبلادهم موطوءة ... وطريقهم لبلاده عذراء دامت له الدنيا ودام خلدا ... ما أقبل الإصباح والإمساء فلما فرغ هؤلاء الثلاثة من إنشادهم أفيضت عليهم الخلع، وكان يوما مشهودا، وجعل بها خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم، وبني بجانبها مكتبا لتعليم أيتام المسلمين كتاب الله تعالى، وأجرى لهم الجرايات والكسوة، وأوقف عليها ربع السلطان خارج باب زويلة فيما بين باب زويلة وباب الفرج، ويعرف ذلك الخط اليوم به فيقال خط تحت الربع، وكان ربعا كبيرا لكنه خرب منه عدّة دور فلم تعمر، وتحت هذا الربع عدّة حوانيت هي الآن من أجلّ الأسواق، وللناس في سكناها رغبة عظيمة ويتنافسون فيها تنافسا يرتفعون فيه إلى الحاكم، وهذه المدرسة من أجلّ مدارس القاهرة، إلّا أنها قد تقادم عهدها فرثت وبها إلى الآن بقية صالحة، ونظرها تارة يكون بيد الحنفية وأحيانا بيد الشافعية، وينازع في نظرها أولاد الظاهر فيدفعون عنه، ولله عاقبة الأمور. المدرسة المنصورية هذه المدرسة من داخل باب المارستان الكبير المنصوريّ بخط بين القصرين بالقاهرة، أنشأها هي والقبة التي تجاهها والمارستان، الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحيّ، على يد الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ، ورتب بها دروسا أربعة لطوائف الفقهاء الأربعة، ودرسا للطب، ورتب بالقبة درسا للحديث النبويّ، ودرسا لتفسير القرآن الكريم، وميعادا، وكانت هذه التداريس لا يليها إلّا أجل الفقهاء المعتبرين، ثم هي اليوم كما قيل: تصدّر للتدريس كلّ مهوّس ... بليسد يسمى بالفقيه المدرّس فحقّ لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كلّ مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتّى سامها كلّ مفلس القبة المنصورية: هذه القبة تجاه المدرسة المنصورية، وهما جميعا من داخل باب المارستان المنصوريّ، وهي من أعظم المباني الملوكية وأجلّها قدرا، وبها قبر تضمن الملك المنصور سيف الدين قلاون، وابنه الملك الناصر محمد بن قلاون، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون. وبها قاعة جليلة في وسطها فسقية يصل إليها الماء من قوّارة بديعة الزي، وسائر هذه القاعة مفروش بالرخام الملوّن، وهذه القاعة معدّة لإقامة

الخدّام الملوكية الذين يعرفون اليوم في الدولة التركية بالطواشية، وأحدهم طواشي، وهذه لفظة تركية، أصلها بلغتهم طابوشي، فتلاعبت بها العامة وقالت طواشي، وهو الخصيّ، ولهؤلاء الخدّام في كلّ يوم ما يكفيهم من الخبز النقيّ واللحم المطبوخ، وفي كلّ شهر من المعاليم الوافرة ما فيه غنية لهم، وأدركتهم ولهم حرمة وافرة وكلمة نافذة وجانب مرعيّ، ويعدّ شيخهم من أعيان الناس، يجلس على مرتبة، وبقية الخدّام في مجالسهم لا يبرحون في عبادة، وكان يستقرّ في وظائف هذه الخدمة أكابر خدّام السلطان، ويقيمون عنهم نوّابا يواظبون الإقامة بالقبة، ويرون مع سعة أحوالهم وكثرة أموالهم من تمام فخرهم وكمال سيادتهم، انتماءهم إلى خدمة القبة المنصورية، ثم تلاشى الحال بالنسبة إلى ما كان، والخدّام بهذه القاعة إلى اليوم، وقصد الملوك بإقامة الخدّام في هذه القاعة التي يتوصل إلى القبة منها، إقامة ناموس الملك بعد الموت كما كان في مدّة الحياة، وهم إلى اليوم لا يمكنون أحدا من الدخول إلى القبة، إلّا من كان من أهلها، ولله دريحي بن حكم البكريّ الجيانيّ المغربيّ الملقب بالغزال لجماله حيث يقول: أرى أهل الثراء إذا توفوا ... بنوا تلك المقابر بالصخور أبو إلّا مباهاة وتيها ... على الفقراء حتى في القبور وفي هذه القبة دروس للفقهاء على المذاهب الأربعة، وتعرف بدروس وقف الصالح، وذلك أنّ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون، قصد عمارة مدرسة فاخترمته المنية دون بلوغ غرضه، فقام الأمير ارغون العلائيّ زوج أمه في وقف قرية تعرف بدهمشا الحمام من الأعمال الشرقية عن أمّ الملك الصالح، فاثبته بطريق الوكالة عنها، ورتب ما كان الملك الصالح إسماعيل قرّره في حياته لو أنشأ مدرسة، وجعل ذلك الأمير أرغون مرتبا لمن يقوم به في القبة المنصورية، وهو وقف جليل يتحصل منه في كل سنة نحو الأربعة آلاف دينار ذهبا. ثم لما كانت الحوادث وخربت الناحية المذكورة، تلاشى أمر وقف الصالح وفيه إلى اليوم بقية، وكان لا يلي تدريس دروسه إلا قضاة القضاة، فوليه الآن الصبيان ومن لا يؤهل لو كان الإنصاف له. وفي هذه القبة أيضا قرّاء يتناوبون القراءة بالشبابيك المطلة على الشارع طول الليل والنهار، وهم من جهة ثلاثة أوقاف، فطائفة من جهة وقف الملك الصالح إسماعيل، وطائفة من جهة الوقف السيفيّ، وهو منسوب إلى الملك المنصور سيف الدين أبي بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاون. وبهذه القبة إمام راتب يصلّى بالخدّام والقرّاء وغيرهم الصلوات الخمس، ويفتح له باب فيما بين القبة والمحراب يدخل منه من يصلّي من الناس، ثم يغلق بعد انقضاء الصلاة. وبهذه القبة خزانة جليلة كان فيها عدّة أحمال من الكتب في أنواع العلوم، مما وقفه الملك المنصور وغيره، وقد ذهب معظم هذه الكتب وتفرّق في أيدي الناس. وفي هذه القبة خزانة بها ثياب المقبورين بها، ولهم فرّاش معلوم بمعلوم لتعهدهم، ويوضع ما يتحصل من مال أوقاف

المارستان بهذه القبة تحت أيدي الخدّام، وكانت العادة أنه إذا أمّر السلطان أحدا من أمراء مصر والشام فإنه ينزل من قلعة الجبل وعليه التشريف والشر بوش وتوقد له القاهرة، فيمرّ إلى المدرسة الصالحية بين القصرين، وعمل ذلك من عهد سلطنة المعز أيبك ومن بعده، فنقل ذلك إلى القبة المنصورية وصار الأمير يحلف عند القبر المذكور، ويحضر تحليفه صاحب الحجاب، وتمدّ أسمطة جليلة بهذه القبة، ثم ينصرف الأمير ويجلس له في طول شارع القاهرة إلى القلعة أهل الأغاني لتزفه في نزوله وصعوده، وكان هذا من جملة منتزهات القاهرة، وقد بطل ذلك منذ انقرضت دولة بني قلاون. ومن جملة أخبار هذه القبة: أنه لما كان في يوم الخميس مستهل المحرّم سنة تسعين وستمائة، بعث الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون بجملة مال تصدّق به في هذه القبة، ثم أمر بنقل أبيه من القلعة، فخرج سائر الأمراء ونائب السلطنة الأمير بيدرا بدر الدين، والوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس التنوخيّ، وحضروا بعد صلاة العشاء الآخرة ومشوا بأجمعهم قدّام تابوت الملك المنصور إلى الجامع الأزهر، وحضر فيه القضاة ومشايخ الصوفية، فتقدّم قاضي القضاة تقيّ الدين بن دقيق العيد وصلّى على الجنازة، وخرج الجميع أمامها إلى القبة المنصورية حتى دفن فيها، وذلك في ليلة الجمعة ثاني المحرّم، وقيل عاشره، ثم عاد الوزير والنائب من الدهليز خارج القاهرة إلى القبة المنصورية لعمل مجتمع بسبب قراءة ختمة كريمة في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر منها، وحضر المشايخ والقرّاء والقضاة في جمع موفور، وفرّق في الفقراء صدقات جزيلة، ومدّت أسمطة كثيرة، وتفرّقت الناس أطعمتها حتى امتلأت الأيدي بها، وكانت إحدى الليالي الغرّ، كثر الدعاء فيها للسلطان وعساكر الإسلام بالنصر على أعداء الملة، وحضر الملك الأشرف بكرة يوم الجمعة إلى القبة المنصورية وفرّق مالا كثيرا، وكان الملك الأشرف قد برز يريد المسير لجهاد الفرنج وأخذ مدينة عكا، فسار لذلك وعاد في العشرين من شعبان وقد فتح الله له مدينة عكا عنوة بالسيف وخرّب أسوارها، وكان عبوره إلى القاهرة من باب النصر وقد زينت القاهرة زينة عظيمة، فعند ما حاذى باب المارستان نزل إلى القبة المنصورية وقد غصت بالقضاة والأعيان والقرّاء والمشايخ والفقهاء، فتلقوة كلهم بالدعاء حتى جلس فأخذ القرّاء في القراءة، وقام نجم الدين محمد بن فتح الدين محمد بن عبد الله بن مهلهل بن غياث بن نصر المعروف بابن العنبريّ الواعظ، وصعد منبرا نصب له فجلس عليه وافتتح ينشد قصيدة تشتمل على ذكر الجهاد وما فيه من الأجر، فلم يسعد فيها بحظ، وذلك أنه افتتحها بقوله: زرو الديك وقف على قبريهما ... فكأنني بك قد نقلت إليهما فعند ما سمع الأشرف هذا البيت تطير منه ونهض قائما وهو يسب الأمير بيدرا نائب السلطنة لشدّة حنقه وقال: ما وجد هذا شيئا يقوله سوى هذا البيت فاخذ بيدرا في تسكين حنقه والاعتذار له عن ابن العنبريّ، بأنه قد انفرد في هذا الوقت بحسن الوعظ ولا نظير له

فيه، إلّا أنه لم يرزق سعادة في هذا الوقت، فلم يصغ السلطان إلى قوله وسار فانفض المجلس على غير شيء، وصعد السلطان إلى قلعة الجبل، ثم بعد أيام سأل السلطان عن وقف المارستان وأحب أن يجدّد له وقفا من بلاد عكا التي افتتحها بسيفه، فاستدعى القضاة وشاورهم فيما همّ به من ذلك، فرغّبوه فيه وحثوه على المبادرة إليه، فعين أربع ضياع من ضياع عكار وصور ليقفها على مصالح المدرسة والقبة المنصورية ما تحتاج إليه من ثمن زيت وشمع ومصابيح وبسط وكلفة الساقية، وعلى خمسين مقرئا يرتبون لقراءة القرآن الكريم بالقبة، وإمام راتب يصلّى بالناس الصلوات الخمس في محراب القبة، وستة خدّام يقيمون بالقبة، وهي الكابرة وتل الشيوخ وكردانة وضواحيها من عكا ومن ساحل صور معركة وصدفين، وكتب بذلك كتاب وقف وجعل النظر في ذلك لوزيره الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس. فلما تمّ ذلك تقدّم بعمل مجتمع بالقبة لقراءة ختمة كريمة. وذلك ليلة الاثنين رابع ذي القعدة سنة تسعين وستمائة، فاجتمع القرّاء والوعاظ والمشايخ والفقراء والقضاة لذلك، وخلع على عامة أرباب الوظائف والوعاظ، وفرّقت في الناس صدقات جمة وعمل مهم عظيم احتفل فيه الوزير احتفالا زائدا، وبات الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة والأمير الوزير شمس الدين محمد بن السلعوس بالقبة، وحضر السلطان ومعه الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد وعليه سواده، فخطب الخليفة خطبة بليغة حرّض فيها على أخذ العراق من التتار، فلما فرغ من المهمّ أفاض السلطان على الوزير تشريفا سنيا، وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين وستمائة، اجتمع القرّاء والوعاظ والفقهاء والأعيان بالقبة المنصورية لقراءة ختمة شريفة، ونزل السلطان الملك الأشرف وتصدّق بمال كثير، وآخر من نزل إلى القبة المنصورية من ملوك بني قلاون السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في سنة إحدى وستين وسبعمائة، وحضر عنده بالقبة مشايخ العلم وبحثوا في العلم، وزار قبر أبيه وجدّه، ثم خرج فنظر في أمر المرضى بالمارستان وتوجه إلى قلعة الجبل. هذه المدرسة بجوار القبة المنصورية من شرقيها، كان موضعها حمّاما، فأمر السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوريّ بإنشاء مدرسة موضعها، فابتدىء في عملها ووضع أساسها وارتفع بناؤها عن الأرض إلى نحو الطراز المذهب الذي بظاهرها، فكان من خلعه ما كان، فلما عاد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إلى مملكة مصر، في سنة ثمان وتسعين وستمائة، أمر بإتمامها، فكملت في سنة ثلاث وسبعمائة، وهي من أجلّ مباني القاهرة، وبابها من أعجب ما عملته أيدي بني آدم، فإنه من الرخام الأبيض البديع الزيّ. الفائق الصناعة، ونقل إلى القاهرة من مدينة عكا، وذلك أن الملك الأشرف خليل بن قلاون لما فتح عكا عنوة في سابع عشر جمادى الأولى، سنة تسعين وستمائة، أقام الأمير علم

المدرسة الحجازية

الدين سنجر الشجاعيّ لهدم أسوارها وتخريب كنائسها، فوجد هذه البوّابة على باب كنيسة من كنائس عكا، وهي من رخام، قواعدها وأعضادها وعمدها، كل ذلك متصل بعضه ببعض، فحمل الجميع إلى القاهرة وأقام عنده إلى أن قتل الملك الأشرف، وتمادى الحال على هذا أيام سلطنة الملك الناصر محمد الأولى، فلما خلع وتملك كتبغا، أخذ دار الأمير سيف الدين بلبان الرشيديّ ليعملها مدرسة، فدل على هذه البوّابة فأخذها من ورثة الأمير بيدرا، فإنها كانت قد انتقلت إليه، وعملها كتبغا على باب هذه المدرسة. فلما خلع من الملك وأقيم الناصر محمد، اشترى هذه المدرسة قبل إتمامها والإشهاد بوقفها، وولى شراءها وصيه قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ، وأنشأ بجوار هذه المدرسة من داخل بابها قبة جليلة، لكنها دون قبة أبيه، ولما كملت نقل إليها أمّه بنت سكباي بن قراجين، ووقف على هذه المدرسة قيسارية أمير على بخط الشرابشيين من القاهرة، والربع الذي يعلوها، وكان يعرف بالدهيشة، ووقف عليها أيضا حوانيت بخط باب الزهومة من القاهرة، ودار الطعم خارج مدينة دمشق، فلما مات ابنه انوك من الخاتون طغاي في يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وعمره ثماني عشرة سنة، دفنه بهذه القبة وعمل عليها وقفا يختص بها، وهو باق إلى اليوم يصرف لقرّاء وغير ذلك. وأوّل من رتّب في تدريس المدرسة الناصرية من المدرّسين، قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ، ليدرّس فقه المالكية بالإيوان الكبير القبلي، وقاضي القضاة شرف الدين عبد الغنيّ الحرّانيّ، ليدرّس فقه الحنابلة بالإيوان الغربيّ، وقاضي القضاة أحمد بن السروجيّ الحنفيّ، ليدرّس فقه الحنفية بالإيوان الشرقيّ، والشيخ صدر الدين محمد بن المرحل المعروف بابن الوكيل الشافعيّ، ليدرّس فقه الشافعية بالإيوان البحريّ. وقرّر عند كلّ مدرّس منهم عدّة من الطلبة، وأجرى عليهم المعاليم، ورتب بها إماما يؤمّ بالناس في الصلوات الخمس، وجعل بها خزانة كتب جليلة، وأدركت هذه المدرسة وهي محترمة إلى الغاية، يجلس بدهليزها عدّة من الطواشية، ولا يمكن غريب أن يصعد إليها، وكان يفرّق بها على الطلبة والقرّاء وسائر أرباب الوظائف بها السكّر في كلّ شهر، لكل أحد منهم نصيب، ويفرّق عليهم لحوم الأضاحي في كلّ سنة، وقد بطل ذلك وذهب ما كان لها من الناموس، وهي اليوم عامرة من أجلّ المدارس. المدرسة الحجازية هذه المدرسة برحبة باب العيد من القاهرة، بجوار قصر الحجازية، كان موضعها بابا من أبواب القصر يعرف بباب الزمرّذ، أنشأتها الست الجليلة الكبرى خوند تتر الحجازية، ابنة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، زوجة الأمير بكتمر الحجازيّ، وبه عرفت. وجعلت بهذه المدرسة درسا للفقهاء الشافعية، قرّرت فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين

المدرسة الطيبرسية

عمر بن رسلان البلقينيّ، ودرسا للفقهار المالكية، وجعلت بها منبرا يخطب عليه يوم الجمعة، ورتبت لها إماما راتبا يقيم بالناس الصلوات الخمس، وجعلت بها خزانة كتب، وأنشأت بجوارها قبة من داخلها لتدفن تحتها، ورتبت بشباك هذه القبة عدّة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن الكريم ليلا ونهارا، وأنشأت بها منارا عاليا من حجارة ليؤذن عليه، وجعلت بجوار المدرسة مكتبا للسبيل فيه عدّة من أيتام المسلمين، ولهم مؤدّب يعملهم القرآن الكريم، ويجري عليهم في كلّ يوم لكل منهم من الخبز النقيّ خمسة أرغفة، ومبلغ من الفلوس، ويقام لكل منهم بكسوتي الشتاء والصيف، وجعلت على هذه الجهات عدّة أوقاف جليلة يصرف منها لأرباب الوظائف المعاليم السنية، وكان يفرّق فيهم كل سنة أيام عيد الفطر الكعك والخشكنانك، وفي عيد الأضحى اللحم، وفي شهر رمضان يطبخ لهم الطعام، وقد بطل ذلك ولم يبق غير المعلوم في كل شهر، وهي من المدارس الكبسة، وعهدي بها محترمة إلى الغاية يجلس عدّة من الطواشية، ولا يمكنون أحدا من عبور القبة التي فيها قبر خوند الحجازية إلّا القرّاء فقط وقت قراءتهم خاصة. واتفق مرّة أن شخصا من القرّاء كان في نفسه شيء من أحد رفقائه، فأتى إلى كبير الطواشية بهذه القبة وقال له: أن فلانا دخل اليوم إلى القبة وهو بغير سراويل، فغضب الطواشي من هذا القول وعدّ ذلك ذنبا عظيما وفعلا محذورا، وطلب ذلك المقرئ وأمر به فضرب بين يديه وصار يقول له: تدخل على خوند بغير سراويل، وهمّ بإخراجه من وظيفة القراءة لولا ما حصل من شفاعة الناس فيه، وكان لا يلي نظر هذه المدرسة إلّا الأمراء الأكابر، ثم صار يليها الخدّام وغيرهم، وكان إنشاؤها في سنة احدى وستين وسبعمائة، ولما ولي الأمير جمال الدين يوسف البحاسيّ وظيفة أستادارية السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق، وعمر بجانب هذه المدرسة البحاسيّ وظيفة أستادارية السلطان الملك الناصر فرج بن برقوقو، وعمر بجانب هذه المدرسة داره، ثم مدرسته، صار يحبس في المدرسة الحجازية من يصادره أو يعاقبه حتى امتلأت بالمسجونين والأعوان المرسمين عليهم، فزالت تلك الأبهة وذهب ذلك الناموس، واقتدى بجمال الدين من سكن بعده من الأستادارية في داره، وجعلوا هذه المرسة سجنا، ومع ذلك فهي من أبهج مدارس القاهرة إلى الآن. المدرسة الطيبرسية هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر من القاهرة، وهي غريبة مما يلي الجهة البحرية، أنشأها الأمير علاء الدين طيبرس الخازنداريّ نقيب الجيوش، وجعلها مسجدا لله تعالى زيادة في الجامع الأزهر، وقرّر بها درسا للفقهاء الشافعية، وأنشأ بجوارها ميضأة وحوض ماء سبيل ترده الدواب، وتأنق في رخامها وتذهيب سقوفها حتى جاءت في أبدع زي وأحسن قالب وأبهج ترتيب، لما فيها من إتقان العمل وجودة الصناعة بحيث أنه لم يقدر أحد على محاكاة ما فيها من صناعة الرخام، فان جميعه أشكال المحاريب، وبلغت النفقة عليها جملة كثيرة، وانتهت عمارتها في سنة تسع وسبعمائة، ولها بسط تفرش في يوم الجمعة كلها

المدرسة الأقبغاوية

منقوشة بأشكال المحاريب أيضا، وفيها خزانة كتب ولها إمام راتب. طيبرس: بن عبد الله الوزيريّ، كان في ملك الأمير بدر الدين بيلبك مملوك الخارندار الظاهريّ نائب السلطنة، ثم انتقل إلى الأمير بدر الدين بيدرا، وتنقل في خدمته حتى صار نائب الصبيبة، ورأى مناما للمنصور لاجين يدل على أنه يصير سلطان مصر، وذلك قبل أن يتقلد السلطنة وهو نائب الشام، فوعده إن صارت إليه السلطنة أن يقدّمه وينوّه به، فلما تملك لاجين استدعاه وولاه نقابة الجيش بديار مصر عوضا عن بلبان الفاخريّ، في سنة سبع وتسعين وستمائة، فباشر النقابة مباشرة مشكورة إلى الغاية، من إقامة الحرمة وأداء الأمانة والعفة المفرطة، بحيث أنه ما عرف عنه أنه قبل من أحد هدية البتة مع التزام الديانة والمواظبة على فعل الخير والغنى الواسع، وله من الآثار الجميلة الجامع والخانقاه بأراضي بستان الخشاب المطلة على النيل خارج القاهرة، فيما بينها وبين مصر بجوار المنشأة، وهو أوّل من عمر في أراضي بستان الخشاب، وقد تقدّم ذكر ذلك، ومن آثاره أيضا هذه المدرسة البديعة الزي، وله على كل من هذه الأماكن أوقاف جليلة، ولم يزل في نقابة الجيش إلى أن مات في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وسبعمائة، ودفن في مكان بمدرسته هذه، وقبره بها إلى وقتنا هذا، ووجد له من بعده مال كثير جدّا، وأوصى إلى الأمير علاء الدين عليّ الكوارنيّ، وجعل الناظر على وصيته الأمير أرغون نائب السلطنة، واتفق انه لما فرغ من بناء هذه المدرسة أحضر إليه مباشروه حساب مصروفها، فلما قدّم إليه استدعى بطشت فيه ماء وغسل أوراق الحساب بأسرها من غير أن يقف على شيء منها وقال: شيء خرجنا عنه لله تعالى لا نحاسب عليه، ولهذه المدرسة شبابيك في جدار الجامع تشرف عليه، ويتوصل من بعضها إليه، وما عمل ذلك حتى استفتى الفقهاء فيه فأفتوه بجواز فعله، وقد تداولت أيدي نظار السوء على أوقاف طيبرس هذا فخرب أكثرها وخرب الجامع والخانقاه، وبقيت هذه المدرسة عمرها الله بذكره. المدرسة الأقبغاوية هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر على يسرة من يدخل إليه من بابه الكبير البحريّ، وهي تشرف بشبابيك على الجامع مركبة في جداره، فصارت تجاة المدرسة الطيبرسية. كان موضعها دار الأمير الكبير عز الدين أيدمر الحليّ نائب السلطنة في أيام الملك الظاهر بيبرس، وميضأة للجامع، فأنشأها الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد أستادار الملك الناصر محمد بن قلاون، وجعل بجوارها قبة ومنارة من حجارة منحوتة، وهي أوّل مئذنة عملت بديار مصر من الحجر بعد المنصورية، وإنما كانت قبل ذلك تبنى بالآجر، بناها هي والمدرسة المعلم ابن السيوفيّ رئيس المهندسين في الأيام الناصرية، وهو الذي تولى بناء جامع الماردينيّ خارج باب زويلة، وبنى مئذنته أيضا. وهي مدرسة مظلمة ليس عليها من

بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادات شيء البتة، وذلك أن أقبغا عبد الواحد اغتصب أرض هذه المدرسة بأن أقرض ورثة أيدمر الحليّ مالا، وأمهل حتى تصرّفوا فيه ثم أعسفهم في الطلب وألجأهم إلى أن أعطوه دارهم، فهدمها وبنى موضعها هذه المدرسة، وأضاف إلى اغتصاب البقعة أمثال ذلك من الظلم، فبناها بأنواع من الغصب والعسف، وأخذ قطعة من سور الجامع حتى ساوى بها المدرسة الطيبرسية، وحشر لعملها الصناع من البنائين والنجارين والحجارين والمرخمين والفعلة، وقرّر مع الجميع أن يعمل كل منهم فيها يوما في كلّ أسبوع بغير أجرة، فكان يجتمع فيها في كل أسبوع سائر الصناع الموجودين بالقاهرة ومصر، فيجدّون في العمل نهارهم كله بغير أجرة، وعليهم مملوك من مماليكه ولّاه شدّ العمارة، لم ير الناس أظلم منه ولا أعتى ولا أشدّ بأسا ولا أقسى قلبا ولا أكثر عنتا، فلقي العمال منه مشقات لا توصف، وجاء مناسبا مولاه. وحمل مع هذا إلى هذه العمارة سائر ما يحتاج إليه من الأمتعة وأصناف الآلات وأنواع الاحتياجات من الحجر والخشب والرخام والدهان وغيره من غير أن يدفع في شيء منه ثمنا البتة، وإنما كان يأخذ ذلك إما بطريق الغصب من الناس، أو على سبيل الخيانة من عمائر السلطان. فإنه كان من جملة ما بيده شدّ العمائر السلطانية، وناسب هذه الأفعال أنه ما عرف عنه قط أنه نزل إلى هذه العمارة إلّا وضرب فيها من الصناع عدّة ضربا مؤلما، فيصير ذلك الضرب زيادة على عمله بغير أجرة، فيقال فيه: كملت خصالك هذه بعماري. فلما فرغ من بنائها جمع فيها سائر الفقهاء وجميع القضاة، وكان الشريف شرف الدين عليّ بن شهاب الدين الحسين بن محمد بن الحسين نقيب الأشراف ومحتسب القاهرة حينئذ، يؤمّل أن يكون مدرّسها، وسعى عنده في ذلك فعمل بسطا على قياسها بلغ ثمنها ستة آلاف درهم فضة، ورشاه بها ففرشت هناك، ولما تكامل حضور الناس بالمدرسة وفي الذهن أنّ الشريف يلي التدريس، وعرف أنه هو الذي أحضر البسط التي قد فرشت، قال الأمير أقبغا لمن حضر: لا أولي في هذه الأيام أحدا، وقام فتفرّق الناس، وقرّر فيها درسا للشافعية ولي تدريسه ... «1» ودرسا للحنفية ولي تدريسه ... «2» وجعل فيها عدّة من الصوفية ولهم شيخ، وقرّر بها طائفة من القرّاء يقرءون القرآن بشباكها، وجعل فيها عدّة من الصوفية ولهم وفرّاشين وقومة ومباشرين، وجعل النظر للقاضي الشافعيّ بديار مصر، وشرط في كتاب وقفه أن لا يلي النظر أحد من ذريته، ووقف على هذه الجهات حوانيت خارج باب زويلة بخط تحت الربع، وقرية بالوجه القبلي. وهذه المدرسة عامرة إلى يومنا هذا، إلّا أنه تعطل منها الميضأة وأضيفت إلى ميضأة الجامع لتغلّب بعض الأمراء بمواطأة بعض النظار على بئر الساقية التي كانت برسمها.

اقبغا عبد الواحد: الأمير علاء الدين، أحضره إلى القاهرة التاجر عبد الواحد بن بدال، فاشتراه منه الملك الناصر محمد بن قلاون ولقبه باسم تاجره الذي أحضره، فحظي عنده وعمله شادّ العمائر، فنهض فيها نهضة أعجب منه السلطان وعظمه حتى عمله أستادار السلطان بعد الأمير مغلطاي الجماليّ، في المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وولاه مقدّم المماليك، فقويت حرمته وعظمت مهابته حتى صار سائر من في بيت السلطان يخافه ويخشاه، وما برح على ذلك إلى أن مات الملك الناصر وقام من بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر، فقبض عليه في يوم الاثنين سلخ المحرّم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وأمسك أيضا ولديه وأحيط بماله وسائر أملاكه، ورسم عليه الأمير طيبغا المجديّ وبيع موجوده من الخيل والجمال والجواري والقماش والأسلحة والأواني، فظهر له شيء عظيم إلى الغاية، من ذلك أنه بيع بقلعة الجبل، وبها كانت تعمل حلقات مبيعة سراويل امرأته بمبلغ مائتي ألف درهم فضة، عنها نحو عشرة آلاف دينار ذهب، وبيع له أيضا قبقاب وشرموزة وخف نسائيّ بمبلغ خمسة وسبعين ألف درهم فضة، عنها زيادة على ثلاثة آلاف دينار، وبيعت بدلة مقانع بمائة ألف درهم، وكثرت المرافعات عليه من التجار وغيرهم، فبعث السلطان إليه شادّ الدواوين يعرّفه أنه أقسم بتربة الشهيد، يعني أباه، أنه متى لم يعط هؤلاء حقهم وإلّا سمّرتك على جمل وطفت بك المدينة، فشرع أقبغا في استرضائهم وأعطاهم نحو المائتي ألف درهم فضة، ثم نزل إليه الوزير نجم الدين محمود بن سرور المعروف بوزير بغداد ومعه الحاج إبراهيم بن صابر مقدّم الدولة، لمطالبته بالمال، فأخذا منه لؤلؤا وجواهر نفيسة وصعدا بها إلى السلطان، وكان سبب هذه النكبة أنه كان قد تحكم في أمور الدولة السلطانية وأرباب الأشغال أعلاهم وأدناهم بما اجتمع له من الوظائف، وكان عنده فرّاش غضب عليه وأوجعه ضربا، فانصرف من عنده وخدم في دار الأمير أبي بكر ولد السلطان، فبعث أقبغا يستدعي بالفرّاش إليه، فمنعه منه أبو بكر وأرسل إليه مع أحد مماليكه يقول له: إني أريد أن تهبني هذا الغلام ولا تشوّش عليه، فلما بلّغه المملوك الرسالة اشتدّ حنقه وسبه سبا فاحشا وقال له: قل لأستاذك يسيّر الفرّاش وهو جيد له. وكان قبل ذلك اتفق أن الأمير أبا بكر خرج من خدمة السلطان إلى بيته، فإذا الأمير أقبغا قد بطح مملوكا وضربه، فوقف أبو بكر بنفسه وسأل أقبغا في العفو عن المملوك وشفع فيه، فلم يلتفت أقبغا إليه ولا نظر إلى وجهه، فخجل أبو بكر من الناس لكونه وقف قائما بين يدي أقبغا وشفع عنده فلم يقم من مجلسه لوقوفه، بل استمرّ قاعدا وأبو بكر واقف على رجليه، ولا قبل مع ذلك شفاعته، ومضى وفي نفسه منه حنق كبير. فلما عاد إليه مملوكه وبلّغه كلام أقبغا بسبب هذا الفرّاش، أكد ذلك عنده ما كان من الأحنة، وأخذ في نفسه إلى أن مات أبوه الملك الناصر وعهد إليه من بعده، وكان قد التزم أنه إن ملّكه الله، ليصادرنّ أقبغا وليضربنّه بالمقارع. وقال للفراش: اقعد في بيتي، وإذا حضر أحد لأخذك عرفت ما أعمل معه. وأخذ أقبغا

يترقب الفرّاش، وأقام أناسا للقبض عليه فلم يتهيأ له مسكه. فلما أفضى الأمر إلى أبي بكر، استدعى الأمير قوصون وكان هو القائم حينئذ بتدبير أمور الدولة، وعرّفه ما التزمه من القبض على أقبغا وأخذ ماله وضربه بالمقارع، وذكر له ولعدّة من الأمراء ما جرى له منه، وكان لقوصون بأقبغا عناية، فقال للسلطان: السمع والطاعة، يرسم السلطان بالقبض عليه ومطالبته بالمال، فإذا فرغ ماله يفعل السلطان ما يختاره. وأراد بذلك تطاول المدّة في أمر أقبغا، فقبض عليه ووكل به رسل ابن صابر، حتى أنه بات ليلة قبض عليه من غير أن يأكل شيئا، وفي صبيحة تلك الليلة تحدّث الأمراء مع السلطان في نزوله إلى داره محتفظا به حتى يتصرّف في ماله ويحمله شيئا بعد شيء، فنزل مع المجدي وباع ما يملكه وأورد المال. فلما قبض على الحاج إبراهيم بن صار وأقيم ابن شمس موضعه، أرسله السلطان إلى بيت أقبغا ليعصره ويضربه بالمقارع ويعذبه، فبلغ ذلك الأمير قوصون، فمنع منه وشنّع على السلطان كونه أمر بضربه بالمقارع، وأمر بمراجعته، فحنق من ذلك وأطلق لسانه على الأمير قوصون، فلم يزل به من حضره من الأمراء حتى سكت على مضض. وكان قوصون يدبر في انتقاض دولة أبي بكر إلى أن خلعه وأقام بعده أخاه الملك الأشرف كجك بن محمد بن قلاون، وعمره نحو السبع سنين، وتحكم في الدولة. فأخرج أقبغا هو وولده من القاهرة وجعله من جملة أمراء الدولة بالشام، فسار من القاهرة في تاسع ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة على حيز الأمير مسعود بن خطير بدمشق ومعه عياله، فأقام بها إلى أن كانت فتنة الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاون وعصيانه بالكرك على أخيه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون، فاتهم أقبغا بأنه بعث مملوكا من مماليكه إلى الكرك، وأن الناصر أحمد خلع عليه، وضربت البشائر بقلعة الكرك وأشاع أن أمراء الشام قد دخلوا في طاعته وحلفوا له، وأن أقبغا قد بعث إليه مع مملوكه يبشره بذلك، فلما وصل إلى الملك الصالح كتاب عساف أخى شطي بذلك، وصل في وقت وروده كتاب نائب الشام الأمير طقزدمر يخبر فيه بأن جماعة من أمراء الشام قد كاتبوا أحمد بالكرك وكاتبهم، وقد قبض عليهم ومن جملتهم أقبغا عبد الواحد، فرسم بحمله مقيدا، فحمل من دمشق إلى الإسكندرية وقتل بها في آخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة. وكان من الظلم والطمع والتعاظم على جانب كبير، وجمع من الأموال شيئا كثيرا، وأقام جماعة من أهل الشرّ لتتبع أولاد الأمراء وتعرّف أحوال من افتقر منهم أو احتاج إلى شيء، فلا يزالون به حتى يعطوه مالا على سبيل القرض بفائدة جزيلة إلى أجل، فإذا استحق المال أعسفه في الطلب وألجأه إلى بيع ماله من الأملاك، وحلها إن كانت وقفا بعنايته به، وعين لعمل هذه الحيل شخصا يعرف بابن القاهريّ، وكان إذا دخل لأحد من القضاة في

المدرسة الحسامية

شراء ملك أو حل وقف لا يقدر على مخالفته ولا يجد بدّا من موافقته. ومن غريب ما يحكى عن طمع أقبغا، أن مشدّ الحاشية دخل عليه وفي إصبعه خاتم بفص أحمر من زجاج له بريق، فقال له أقبغا: إيش هو هذا الخاتم، فأخذ يعظمه وذكر أنه من تركة أبيه. فقال: بكم حسبوه عليك؟ فقال: بأربعمائة درهم. فقال: أرنيه. فناوله إياه فأخذه وتشاغل عنه ساعة ثم قال له: والله فضيحة أن نأخذ خاتمك، ولكن خذه أنت وهات ثمنه، ودفعه إليه وألزمه بإحضار الأربعمائة درهم، فما وسعه إلّا أن أحضرها إليه، فعاقبه الله بذهاب ماله وغيره، وموته غريبا. المدرسة الحسامية هذه المدرسة بخط المسطاح من القاهرة قريبا من حارة الوزيرية، بناها الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوريّ نائب السلطنة بديار مصر، إلى جانب داره، وجعلها برسم الفقهاء الشافعية، وهي في وقتنا هذا تجاه سوق الرقيق، ويسلك منها إلى درب العدّاس وإلى حارة الوزيرية وإلى سويقة الصاحب وباب الخوخة وغير ذلك، وكان بجانبها طبقة لخياط فطلبت منه بثلاثة أمثال ثمنها فلم يبعها، وقيل لطرنطاي لو طلبته لاستحيى منك، فلم يطلبه وتركه وطبقته وقال: لا أشوّش عليه. طرنطاي: بن عبد الله الأمير حسام الدين المنصوريّ، رباه الملك المنصور قلاون صغيرا ورقاه في خدمه إلى أن تقلد سلطنة مصر، فجعله نائب السلطنة بديار مصر عوضا عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ، وخلع عليه في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثمان وسبعين وستمائة، فباشر ذلك مباشرة حسنة إلى أن كانت سنة خمس وثمانين، فخرج من القاهرة بالعساكر إلى الكرك وفيها الملك المسعود نجم الدين خضر وأخوه بدر الدين سلامش، ابنا الملك الظاهر بيبرس، في رابع المحرّم، وسار إليها فوافاه الأمير بدر الدين الصوّانيّ بعساكر دمشق في ألفي فارس، ونازلا الكرك وقطعا الميرة عنها واستفسدا رجال الكرك حتى أخذا خضرا وسلامش بالأمان في خامس صفر، وتسلم الأمير عز الدين طرنطاي الموصليّ نائب الشوبك مدينة الكرك واستقرّ في نيابة السلطنة بها، وبعث الأمير طرنطاي بالبشارة إلى قلعة الجبل، فوصل البريد بذلك في ثامن صفر، ثم قدم بابني الظاهر، فخرج السلطان إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأوّل وأكرم الأمير طرنطاي ورفع قدره ثم بعثه إلى أخذ صهيون وبها سنقر الأشقر، فسار بالعساكر من القاهرة في سنة ست وثمانين، ونازلها وحصرها حتى نزل إليه سنقر بالأمان وسلّم إليه قلعة صهيون، وسار به إلى القاهرة، فخرج السلطان إلى لقائه وأكرمه. ولم يزل على مكانته إلى أن مات الملك المنصور وقام في السلطنة بعده ابنه الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاون، فقبض عليه في يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع

وثمانين، وعوقب حتى مات يوم الاثنين خامس عشرة بقلعة الجبل، وبقي ثمانية أيام بعد قتله مطروحا بحبس القلعة، ثم أخرج في ليلة الجمعة سادس عشري ذي القعدة وقد لف في حصير وحمل على جنوية إلى زاوية الشيخ أبي السعود بالقرافة، فغسله الشيخ عمر السعوديّ شيخ الزواية وكفنه من ماله ودفنه خارج الزاوية ليلا، وبقي هناك إلى سلطنة العادل كتبغا، فأمر بنقل جثته إلى تربته التي أنشأها بمدرسته هذه. وكان سبب القبض عليه وقتله، أن الملك الأشرف كان يكرهه كراهة شديدة، فإنه كان يطرح جانبه في أيام أبيه، ويغض منه ويهين نوّابه ويؤذي من يخدمه، لأنه كان يميل إلى أخيه الملك الصالح علاء الدين عليّ بن قلاون، فلما مات الصالح عليّ وانتقلت ولاية العهد إلى الأشرف خليل بن قلاون، مال إليه من كان ينحرف عنه في حياة أخيه إلّا طرنطاي، فإنه ازداد تماديا في الإعراض عنه وجرى على عادته في أذى من ينسب إليه، وأغرى الملك المنصور بشمس الدين محمد بن السلعوس ناظر ديوان الأشرف حتى ضربه وصرفه عن مباشرة ديوانه، والأشرف مع ذلك يتأكد حنقه عليه ولا يجد بدّا من الصبر إلى أن صار له الأمر بعد أبيه، ووقف الأمير طرنطاي بين يديه في نيابة السلطنة على عادته وهو منحرف عنه لما أسلفه من الإساءة عليه، وأخذ الأشرف في التدبير عليه إلى أن نقل له عنه أنه يتحدّث سرّا في إفساد نظام المملكة وإخراج الملك عنه، وأنه قصد أن يقتل السلطان وهو راكب في الميدان الأسود الذي تحت قلعة الجبل عند ما يقرب من باب الإصطبل، فلم يحتمل ذلك. وعندها سير أربعة ميادين والأمير طرنطاي ومن وافقه عند باب سارية حتى انتهى إلى رأس الميدان وقرب من باب الإصطبل، وفي الظنّ أنه يعطف إلى باب سارية ليكمل التسيير على العادة، فعطف إلى جهة القلعة وأسرع ودخل من باب الإصطبل، فبادر الأمير طرنطاي عندما عطف السلطان وساق فيمن معه ليدركوه، ففاتهم وصار بالإصطبل فيمن خف معه من خواصه، وما هو إلّا أن نزل الأشرف من الركوب فاستدعى بالأمير طرنطاي، فمنعه الأمير زين الدين كتبغا المنصوريّ عن الدخول إليه وحذره منه وقال له: والله إني أخاف عليك منه فلا تدخل عليه إلا في عصبة تعلم أنهم يمنعونك منه إن وقع أمر تكرهه، فلم يرجع إليه وغرّه أن أحدا لا يجسر عليه لمهابته في القلوب ومكانته من الدولة، وأن الأشرف لا يبادره بالقبض عليه وقال لكتبغا: والله لو كنت نائما ما جسر خليل ينبهني. وقام ومشى إلى السلطان ودخل ومعه كتبغا، فلما وقف على عادته بادر إليه جماعة قد أعدّهم السلطان وقبضوا عليه، فأخذه اللكم من كلّ جانب والسلطان يعدّد ذنوبه ويذكر له إساءته ويسبه. فقال له يا خوند: هذا جميعه قد عملته معك، وقدّمت الموت بين يديّ، ولكن والله لتندمنّ من بعدي. هذا والأيدي تتناوب عليه حتى أنّ بعض الخاصكية قلع عينه وسحب إلى السجن، فخرج كتبغا وهو يقول: إيش أعمل ويكرّرها، فأدركه الطلب وقبض عليه أيضا، ثم آل آمر كتبغا بعد ذلك إلى أن ولي سلطنة مصر، وأوقع الأشرف الحوطة على أموال طرنطاي

المدرسة المنكوتمرية

وبعث إلى داره الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ، فوجد له من العين ستمائة ألف دينار، ومن الفضة سبعة عشر ألف رطل ومائة رطل مصري، عنها زيادة على مائة وسبعين قنطارا فضة سوى الأواني، ومن العدد والأسلحة والأقمشة والآلات والخيول والمماليك ما يتعذر إحصاء قيمته، ومن الغلات والأملاك شيء كثير جدّا، ووجد له من البضائع والأموال المسفرة على اسمه والودائع والمقارضات والقنود والأعسال والأبقار والأغنام والرقيق وغير ذلك شيء يجل وصفه، هذا سوى ما أخفاه مباشروه بمصر والشام، فلما حملت أمواله إلى الأشرف جعل يقلبها ويقول: من عاش بعد عدوّه ... يوما فقد بلغ المنى واتفق بعد موت طرنطاي أن ابنه سأل الدخول على السلطان الأشرف فأذن له، فلما وقف بين يديه جعل المنديل على وجهه وكان أعمى، ثم مدّ يده وبكى وقال: شيء لله، وذكر أنّ لأهله أياما ما عندهم ما يأكلونه، فرق له وأفرج عن أملاك طرنطاي وقال: تبلغوا بريعها، فسبحان من بيده القبض والبسط. المدرسة المنكوتمرية هذه المدرسة بحارة بهاء الدين من القاهرة، بناها بجوار داره الأمير سيف الدين منكوتمر الحساميّ نائب السلطنة بديار مصر، فكملت في صفر سنة ثمان وتسعين وستمائة، وعمل بها درسا للمالكية قرّر فيه الشيخ شمس الدين محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسيّ المالكيّ، ودرسا للحنفية درّس فيه ... «1» وجعل فيها خزانة كتب وجعل عليها وقفا ببلاد الشام، وهي اليوم بيد قضاة الحنفية يتولون نظرها، وأمرها متلاش وهي من المدارس الحسنة. منكوتمر: هو أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ، ترقى في خدمته واختص به اختصاصا زائدا إلى أن ولي مملكة مصر بعد كتبغا، في سنة ست وتسعين وستمائة، فجعله أحد الأمراء بديار مصر، ثم خلع عليه خلع نيابة السلطنة عوضا عن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريّ، يوم الأربعاء النصف من ذي القعدة، فخرج سائر الأمراء في خدمته إلى دار النيابة وباشر النيابة بتعاظم كثير، وأعطى المنصب حقه من الحرمة الوافرة والمهابة التي تخرج عن الحدّ، وتصرّف في سائر أمور الدولة من غير أن يعارضه السلطان في شيء البتة، وبلغت عبرة إقطاعه في السنة زيادة على مائة ألف دينار. ولما عمل الملك المنصور الروك المعروف بالروك الحساميّ، فوّض تفرقة منالات

إقطاعات الأجناد له، فجلس في شباك دار النيابة بقلعة الجبل، ووقف الحجاب بين يديه، وأعطى لكل تقدمة منالات، فلم يجسر أحد أن يتحدّث في زيادة ولا نقصان خوفا من سوء خلقه وشدّة حمقه، وبقي أياما في تفرقة المنالات والناس على خوف شديد. فإنّ أقلّ الإقطاعات كان في أيام الملك المنصور قلاون عشرة آلاف درهم في السنة، وأكثره ثلاثين ألف درهم. فرجع في الروك الحساميّ أكثر إقطاعات الحلقة إلى مبلغ عشرين ألف درهم وما دونها، فشق ذلك على الأجناد، وتقدّم طائفة منهم ورموا منالاتهم التي فرّقت عليهم، لأن الواحد منهم وجد مناله بحق النصف مما كان له قبل الروك، وقالوا لمنكوتمر: إما أن تعطونا ما يقوم بكلفنا وإلّا فخذوا أخبازكم ونحن نخدم الأمراء أو نصير بطالين. فغضب منكوتمر وأخرق بهم وتقدّم إلى الحجاب فضربوهم، وأخذوا سيوفهم وأودعوهم السجون، وأخذ يخاطب الأمراء بفحش ويقول: أيما قوّاد شكا من خبزه؟ ويقول نقول للسلطان فعلت به، وفعلت إيش يقول للسلطان، إن رضي يخدم وإلّا إلى لعنة الله، فشق ذلك على الأمراء وأسرّوا له الشرّ، ثم إنه لم يزل بالسلطان حتى قبض على الأمير بدر الدين بيسرى، وحسن له إخراج أكابر الأمراء من مصر، فجرّدهم إلى سيس، وأصبح وقد خلا له الجوّ، فلم يرض بذلك حتى تحدّث مع خوشداشيته بأنه لا بدّ أن ينشئ له دولة جديدة ويخرج طفجي وكرجي من مصر، ثم إنه جهز حمدان بن صلغاي إلى حلب في صورة أنه يستعجل العساكر من سيس، وقرّر معه القبض على عدّة من الأمراء، وأمّر عدّة أمراء جعلهم له عدّة وذخرا، وتقدّم إلى الصاحب فخر الدين الخليليّ بأن يعمل أوراقا تتضمن أسماء أرباب الرواتب ليقطع أكثرها، فلم تدخل سنة ثمان وتسعين حتى استوحشت خواطر الناس بمصر والشام من منكوتمر، وزاد حتى أراد السلطان أن يبعث بالأمير طغا إلى نيابة طرابلس، فتنصل طغا من ذلك، فلم يعفه السلطان منه، وألح منكوتمر في إخراجه وأغلظ للأمير كرجي في القول، وحط على سلار وبيبرس الجاشنكير وأنظارهم، وغض منهم، وكان كرجي شرس الأخلاق ضيق العطن سريع الغضب، فهمّ غير مرّة بالفتك بمنكوتمر، وطفجي يسكن غضبه، فبلغ السلطان فساد قلوب الأمراء والعسكر، فبعث قاضي القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن الروميّ الحنفيّ إلى منكوتمر يحدّثه في ذلك ويرجعه عما هو فيه، فلم يلتفت إلى قوله وقال: أنا مالي حاجة بالنيابة، أريد أخرج مع الفقراء فلما بلغ السلطان عنه ذلك استدعاه وطيب خاطره ووعده بسفر طفجي بعد أيام، ثم القبض على كرجي بعده، فنقل هذا للأمراء، فتحالفوا وقتلوا السلطان كما قد ذكر في خبره، وأوّل من بلغه خبر مقتل السلطان الأمير منكوتمر، فقام إلى شباك النيابة بالقلعة فرأى باب القلة وقد انفتح وخرج الأمراء والشموع تقد والضجة قد ارتفعت فقال: والله قد فعلوها، وأمر فغلقت أبواب دار النيابة، وألبس مماليكه آلة الحرب، فبعث الأمراء إليه بالأمير الحسام أستادار، فعرّفه بمقتل السلطان وتلطف به حتى نزل وهو مشدود الوسط بمنديل، وسار به إلى باب القلة والأمير طفجي قد

المدرسة القراسنقرية

جلس في مرتبة النيابة، فتقدّم إلى طفجي وقبل يده، فقام إليه وأجلسه بجانبه، وقام الأمراء في أمر منكوتمر يشفعون فيه، فأمر به إلى الجب وأنزلوه فيه، وعندما استقرّ به أدليت له القفة التي نزل فيها، وتصايحوا عليه بالصعود فطلع عليهم، وإذا كرجي قد وقف على رأس الجبّ في عدّة من المماليك السلطانية، فأخذ يسب منكوتمر ويهينه وضربه بلت ألقاه، وذبحه بيده على الجبّ وتركه وانصرف، فكان بين قتل أستاذه وقتله ساعة من الليل، وذلك في ليلة الجمعة عاشر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين. المدرسة القراسنقرية هذه المدرسة تجاه خانقاه الصلاح سعيد السعداء، فيما بين رحبة باب العيد وباب النصر، كان موضعها وموضع الربع الذي بجانبها الغربيّ مع خانقاه بيبرس، وما في صفها إلى حمام الأعسر وباب الجوّانية، كلّ ذلك من دار الوزارة الكبرى التي تقدّم ذكرها، أنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريّ نائب السلطنة، سنة سبعمائة. وبنى بجوار بابها مسجدا معلقا ومكتبا لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز، وجعل بهذه المدرسة درسا للفقهاء، ووقف على ذلك داره التي بحارة بهاء الدين وغيرها، ولم يزل نظر هذه المدرسة بيد ذرّية الواقف إلى سنة خمس عشرة وثمانمائة، ثم انقرضوا. وهي من المدارس المليحة، وكنا نعهد البريدية إذا قدموا من الشام وغيرها لا ينزلون إلّا في هذه المدرسة حتى يتهيأ سفرهم، وقد بطل ذلك من سنة تسعين وسبعمائة. قراسنقر بن عبد الله: الأمير شمس الدين الجوكندار المنصوريّ، صار إلى الملك المنصور قلاون وترقى في خدمته إلى أن ولاه نيابة السلطنة بحلب في شعبان سنة اثنتين وثمانين وستمائة، عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الباشقرديّ، فلم يزل فيها إلى أن مات الملك المنصور وقام من بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاون، فلما توجه الأشرف إلى فتح قلعة الروم عاد بعد فتحها إلى حلب وعزل قراسنقر عن نيابتها، وولى عوضه الأمير سيف الدين بلبان الطناحيّ، وذلك في أوائل شعبان سنة إحدى وتسعين، وكانت ولايته على حلب تسع سنين. فلما خرج السلطان من مدينة حلب خرج في خدمته وتوجه مع الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بديار مصر في عدّة من الأمراء لقتال أهل جبال كسروان، فلما عاد سار مع السلطان من دمشق إلى القاهرة ولم يزل بها إلى أن ثار الأمير بيدرا على الأشرف، فتوجه معه وأعان على قتله، فلما قتل بيدرا فرّ قراسنقر ولاجين في نصف المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة. واختفيا بالقاهرة إلى أن استقرّ الأمر للملك الناصر محمد بن قلاون، وقام في نيابة السلطنة وتدبير الدولة الأمير زين الدين كتبغا، فظهرا في يوم عيد الفطر وكانا عند فرارهما يوم قتل بيدرا أطلعا الأمير بيحاص الزينيّ مملوك الأمير كتبغا نائب السلطنة على حالهما، فأعلم استاذه بأمرهما وتلطف به حتى تحدّث في شأنهما مع السلطان، فعفا عنهما،

ثم تحدّث مع الأمير بكتاش الفخريّ إلى أن ضمن له التحدّث مع الأمراء، وسعى في الصلح بينهما وبين الأمراء والمماليك حتى زالت الوحشة، وظهرا من بيت الأمير كتبغا، فأحضرهما بين يدي السلطان وقبلا الأرض وأفيضت عليهما التشاريف وجعلهما أمراء على عادتهما، ونزلا إلى دورهما فحمل إليهما الأمراء ما جرت العادة به من التقادم، فلم يزل قراسنقر على إمرته إلى أن خلع الملك الناصر محمد بن قلاون من السلطنة وقام من بعده الملك العادل زين الدين كتبغا، فاستمرّ على حاله إلى أن ثار الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بديار مصر على الملك العادل كتبغا بمنزلة العوجاء من طريق دمشق، فركب معه قراسنقر وغيره من الأمراء إلى أن فرّ كتبغا، واستمرّ الأمر لحسام الدين لاجين وتلقب بالملك المنصور، فلما استقرّ بقلعة الجبل خلع على الأمير قراسنقر وجعله نائب السلطنة بديار مصر في صفر سنة ست وتسعين وستمائة، فباشر النيابة إلى يوم الثلاثاء للنصف من ذي القعدة، فقبض عليه وأحيط بموجوده وحواصله ونوّابه ودواوينه بديار مصر والشام، وضيق عليه واستقرّ في نيابة السلطنة بعده الأمير منكوتمر، وعدّ السلطان من أسباب القبض عليه إسرافه في الطمع وكثرة الحمايات وتحصيل الأموال على سائر الوجوه، مع كثرة ما وقع من شكاية الناس من مماليكه ومن كاتبه شرف الدين يعقوب، فإنه كان قد تحكم في بيته تحكما زائدا، وعظمت نعمته وكثرت سعادته، وأسرف في اتخاذ المماليك والخدم، وانهمك في اللعب الكثير، وتعدّى طوره وقراسنقر لا يسمع فيه كلاما، وحدّثه السلطان بسببه وأغلظ في القول وألزمه بضربه وتأديبه أو إخراجه من عنده، فلم يعبأ بذلك. وما زال قراسنقر في الاعتقال إلى أن قتل الملك المنصور لاجين وأعيد الملك الناصر محمد بن قلاون إلى السلطنة فأفرج عنه وعن غيره من الأمراء ورسم له بنيابة الصبيبة فخرج إليها ثم نقل منها إلى نيابة حماه بعد موت صاحبها الملك المظفر تقيّ الدين محمود بسفارة الأمير بيبرس الجاشنكير، والأمير سلار، ثم نقل من نيابة حماه بعد ملاقاة التتر إلى نيابة حلب، واستقرّ عوضه في نيابة حماه الأمير زين الدين كتبغا الذي تولى سلطنة مصر والشام، وذلك في سنة تسع وتسعين وستمائة، وشهد وقعة شقحب مع الملك الناصر محمد بن قلاون، ولم يزل على نيابة حلب إلى أن خلع الملك الناصر وتسلطن الملك المظفر بيبرس الجاشنكير وصاحب الناصر في الكرك، فلما تحرّك لطلب الملك واستدعى نوّاب الممالك، أجابه قراسنقر وأعانه برأيه وتدبيره، ثم حضر إليه وهو بدمشق وقدّم له شيئا كثيرا وسار معه إلى مصر حتى جلس على تخت ملكه بقلعة الجبل، فولاه نيابة دمشق عوضا عن الأمير عز الدين الأفرم في شوّال سنة تسع وسبعمائة، وخرج إليها فسار إلى غزة في عدّة من النوّاب وقبضوا على المظفر بيبرس الجاشنكير وسار به هو والأمير سيف الدين الحاج بهادر إلى الخطارة، فتلقاهم الأمير استدمر كرجي، فتسلم منهم بيبرس وقيده وأركبه بغلا وأمر قراسنقر والحاج بهادر بالسير إلى مصر، فشق على قراسنقر تقييد بيبرس، وتوهم الشرّ من الناصر، وانزعج لذلك انزعاجا

كثيرا وألقى كلوتته عن رأسه إلى الأرض وقال لفرّاشه: الدنيا فانية، يا ليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم، فترجل من حضر من الأمراء ورفعوا كلوتته ووضعوها على رأسه، ورجع من فوره ومعه الحاج بهادر إلى ناحية الشام وقد ندم على تشييع المظفر بيبرس، فجدّ في سيره إلى أن عبر دمشق، وفي نفس السلطان منه كونه لم يحضر مع بيبرس، وكان قد أراد القبض عليه، فبعث الأمير نوغاي القبجاقيّ أميرا بالشام ليكون له عينا على الأمير قراسنقر، ففطن قراسنقر لذلك وشرع نوغاي يتحدّث في حق قراسنقر بما لا يليق حتى ثقل عليه مقامه، فقبض عليه بأمر السلطنة وسجن بقلعة دمشق، ثم إن السلطان صرفه عن نيابة دمشق وولاه نيابة حلب بسؤاله، وذلك في المحرّم سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وكتب السلطان إلى عدّة من الأمراء بالقبض عليه مع الأمير أرغون الدوادار، فلم يتمكن من التحدّث في ذلك لكثرة ما ضبط قراسنقر أموره ولازمه عند قدومه عليه بتقليد نيابة حلب، بحيث لم يتمكن أرغون من الحركة إلى مكان إلّا وقراسنقر معه، فكثر الحديث بدمشق أن أرغون إنما حضر لمسك قراسنقر، حتى بلغ ذلك الأمراء، وسمعه قراسنقر، فاستدعى بالأمراء وحضر الأمير أرغون فقال قراسنقر: بلغني كذا وها أنا أقول إن كان حضر معك مرسوم بالقبض عليّ فلا حاجة إلى فتنة، أنا طائع السلطان، وهذا سيفي خذه، ومدّ يده وحل سيفه من وسطه. فقال أرغون وقد علم أن هذا الكلام مكيدة وأن قراسنقر لا يمكن من نفسه: إني لم أحضر إلا بتقليد الأمير نيابة حلب بمرسوم السلطان، وسؤال الأمير، وحاشا لله أن السلطان يذكر في حق الأمير شيئا من هذا. فقال قراسنقر: غدا نركب ونسافر. وانفض المجلس فبعث إلى الأمراء أن لا يركب أحد منهم لوداعه، ولا يخرج من بيته، وفرّق ما عنده من الحوائص ومن الدراهم على مماليكه ليتحملوا به على أوساطهم، وأمرهم بالاحتراس، وقدّم غلمانه وحواشيه في الليل وركب وقت الصباح في طلب عظيم، وكانت عدّة مماليكه ستمائة مملوك قد جعلهم حوله ثلاث حلقات، وأركب أرغون إلى جانبه وسار على غير الجادّة حتى قارب حلب، ثم عبرها في العشرين من المحرّم وأعاد أرغون بعد ما أنعم عليه بألف دينار وخلعة وخيل وتحف، وأقام بمدينة حلب خائفا يترقب، وشرع يعمل الحيلة في الخلاص، وصادق العربان، واختص بالأمير حسام الدين مهنا أمير العرب وبابنه موسى، وأقدمه إلى حلب وأوقفه على كتب السلطان إليه بالقبض عليه، وأنه لم يفعل ذلك ولم يزل به حتى أفسد ما بينه وبين السلطان، ثم أنه بعث يستأذن السلطان في الحج، فأعجب السلطان ذلك وظنّ أنه بسفره يتم له التدبير عليه لما كان فيه من الاحتراز الكبير، وأذن له في السفر وبعث إليه بألفي دينار مصرية، فخرج من حلب ومعه أربعمائة مملوك معدّة بالفرس والجنيب والهجن، وسار حتى قارب الكرك، فبلغه أن السلطان كتب إلى النوّاب وأخرج عسكرا من مصر إليه، فرجع من طريق السماوة إلى حلب وبها الأمير سيف الدين قرطاي نائب الغيبة، فمنعه من العبور إلى المدينة ولم يمكن أحدا من مماليك قراسنقر أن يخرج إليه، وكانت مكاتبة السلطان قد

المدرسة الغزنوية

قدمت عليه بذلك، فرحل حينئذ إلى مهنا أمير العرب واستجار به، فأكرمه وبعث إلى السلطان يشفع فيه، فلم يجد السلطان بدّا من قبول شفاعة مهنا، وخيّر قراسنقر فيما يريد، ثم أخرج عسكرا من مصر والشام لقتال مهنا، وأخذ قراسنقر فبلغه ذلك فاحترس على نفسه وكتب إلى السلطان يسأله في صرخد، وقصد بذلك المطاولة، فأجابه إلى ذلك ومكنه من أخذ حواصله التي بحلب، وأعطى مملوكه ألف دينار، فلما قدم عليه لم يطمئن وعبر إلى بلاد الشرق في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، في عدّة من الأمراء يريد خربندا، فلما وصل إلى الرحبة بعث بابنه فرج ومعه شيء من أثقاله وخيوله وأمواله إلى السلطان بمصر، ليعتذر من قصده خربندا، ورحل بمن معه إلى ماردين فتلقاه المغل، وقام له نوّاب خربندا بالإقامات إلى أن قرب الأردوا، فركب خربندا إليه وتلقاه وأكرمه ومن معه وأنزلهم منزلا يليق بهم، وأعطى قراسنقر المراغة من عمل أذربيجان، وأعطى الأمير جمال الدين أقوش الأفرم همدان، وذلك في أوائل سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، فلم يزل هناك إلى أن مات خربندا وقام من بعده أبو سعيد بركة بن خربندا، فشق ذلك على السلطان وأعمل الحيلة في قتل قراسنقر والأفرم وسير إليهما الفداوية، فجرت بينهم خطوب كثيرة، ومات قراسنقر بالإسهال ببلد المراغة في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، يوم السبت سابع عشري شوّال، قبل موت السلطان بيسير، فلما بلغ السلطان موته في حادي عشر ذي القعدة عند ورود الخبر إليه قال: ما كنت أشتهي يموت إلّا من تحت سيفي، وأكون قد قدرت عليه وبلغت مقصودي منه، وذلك أنه كان قد جهز إليه عددا كثيرا من الفداوية، قتل منهم بسببه مائة وعشرون فداويا بالسيف، سوى من فقد ولم يوقف له على خير، وكان قراسنقر جسيما جليلا صاحب رأي وتدبير ومعرفة، وبشاشة وجه، وسماحة نفس، وكرم زائد، بحيث لا يستكثر على أحد شيئا مع حسن الشاكلة وعظم المهابة والسعادة الطائلة، وبلغت عدّة مماليكه ستمائة مملوك، ما منهم إلا من له نعمة ظاهرة وسعادة وافرة، وله من الآثار بالقاهرة هذه المدرسة ودار جليلة بحارة بهاء الدين فيها كان سكنه. المدرسة الغزنوية هذه المدرسة برأس الموضع المعروف بسويقة أمير الجيوش تجاه المدرسة اليازكوجية، بناها الأمير حسام الدين قايماز النجميّ، مملوك نجم الدين أيوب، والد الملوك، وأقام بها الشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن يوسف بن عليّ بن محمد الغزنويّ البغداديّ المقرئ الفقيه الحنفيّ، ودرس بها فعرفت به، وكان إماما في الفقه وسمع على الحافظ السلفيّ وغيره، وقرأ بنفسه وسكن مصر آخر عمره، وكان فاضلا حسن الطريقة متدينا، وحدّث بالقاهرة بكتاب الجامع لعبد الرزاق بن همام، فرواه عنه جماعة، وجمع كتابا في الشيب والعمر، وقرأ عليه أبو الحسن السخاويّ، وأبو عمرو بن الحاجب، ومولده ببغداد في ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وتوفي بالقاهرة يوم الاثنين

المدرسة البوبكرية

النصف من ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وهي من مدارس الحنفية. المدرسة البوبكرية هذه المدرسة بجوار درب العباسي قريبا من حارة الوزيرية بالقاهرة، بناها الأمير سيف الدين اسنبغا بن الأمير سيف الدين بكتمر البوبكري الناصريّ، ووقفها على الفقهاء الحنفية، وبنى بجانبها حوض ماء للسبيل وسقاية ومكتبا للأيتام، وذلك في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، وبنى قبالتها جامعا، فمات قبل إتمامه وكان يسكن دار بدر الدين الأمير طرنطاي المجاورة للمدرسة الحسامية، تجاه سوق الجواري، فلذلك أنشأ هذه المدرسة بهذا المكان لقربه منه، ثم لما كانت سنة خمس عشرة وثمانمائة، جدّد بهذه المدرسة منبرا وصار يقام بها الجمعة. اسنبغا بن بكتمر الأمير ... «1» . المدرسة البقرية هذه المدرسة في الزقاق الذي تجاه باب الجامع الحاكميّ المجاور للمنبر، ويتوصل من هذا الزقاق إلى ناحية العطوف، بناها الرئيس شمس الدين شاكر بن غزيل، تصغير غزال، المعروف بابن البقريّ، أحد مسالمة القبط وناظر الذخيرة في أيام الملك الناصر الحسن بن محمد بن قلاون، وهو خال الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ، وأصله من قرية تعرف بدار البقر، إحدى قرى الغربية، نشأ على دين النصارى، وعرف الحساب وباشر الخراج إلى أن أقدمه الأمير شرف الدين بن الأزكشيّ استادار السلطان ومشير الدولة في أيام الناصر حسن، فاسلم على يديه، وخاطبه بالقاضي شمس الدين، وخلع عليه واستقرّ به في نظر الذخيرة السلطانية، وكان نظرها حينئذ من الرتب الجليلة، وأضاف إليه نظر الأوقاف والأملاك السلطانية، ورتبه مستوفيا بمدرسة الناصر حسن، فشكرت طريقته وحمدت سيرته وأظهر سيادة وحشمة، وقرّب أهل العلم من الفقهاء، وتفضل بأنواع من البرّ، وأنشأ هذه المدرسة في أبدع قالب وأبهج ترتيب، وجعل بها درسا للفقهاء الشافعية، وقرّر في تدريسها شيخنا سراج الدين عمر بن عليّ الأنصاريّ، المعروف بابن الملقن الشافعيّ، ورتب فيها ميعادا وجعل شيخه صاحبنا الشيخ كمال الدين بن موسى الدميريّ الشافعيّ، وجعل إمام الصلوات بها المقرئ الفاضل زين الدين أبا بكر بن الشهاب أحمد النحويّ، وكان الناس يرحلون إليه في شهر رمضان لسماع قراءته في صلاة التراويح لشجا صوته، وطيب نغمته، وحسن أدائه، ومعرفته بالقراءات السبع والعشر والشواذ، ولم يزل ابن البقريّ على حال السيادة والكرامة إلى أن مرض مرض موته، فأبعد عنه من يلوذ به من النصارى، وأحضر الكمال الدميريّ وغيره من أهل الخير، فما زالوا عنده حتى مات وهو يشهد شهادة الإسلام

المدرسة القطبية

في سنة ست وسبعين وسبعمائة، ودفن بمدرسته هذه وقبره بها تحت قبة في غاية الحسن، وولي نظر الذخيرة بعده أبو غالب، ثم استجدّ في هذه المدرسة منبر وأقيمت بها الجمعة في تاسع جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وثمانمائة بإشارة علم الدين داود الكوبر كاتب السرّ. المدرسة القطبية هذه المدرسة بأوّل حارة زويلة مما يلي الخرنشف في رحبة كوكاي، عرفت بالست الجليلة عصمة الدين خاتون مؤنسة القطبية، المعروفة بدار إقبال العلائي، ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بن شادي، وكان وقفها في سنة خمس وستمائة، وبها درس للفقهاء الشافعية، وتصدير قراءات وفقهاء يقرءون. مدرسة ابن المغربيّ هذه المدرسة آخر درب الصقالبة فيما بين سويقة المسعوديّ وحارة زويلة، بناها صلاح الدين يوسف بن ... «1» ابن المغربي رئيس الأطباء، تجاه داره، ومات قبل إكمالها فدفن بعد موته في قبة تجاه جامعه المطلّ على الخليج الناصريّ بقرب بركة قرموط، وصارت هذه المدرسة قائمة بغير إكمال إلى أن هدمها بعض ذريته في سنة أربع عشرة وثمانمائة، وباع أنقاضها فصار موضعها طاحونة. المدرسة البيدرية هذه المدرسة برحبة الأيدمريّ بالقرب من باب قصر الشوك، فيما بينه وبين المشهد الحسينيّ، بناها الأمير بيدر الأيدمريّ. المدرسة البديرية هذه المدرسة بجوار باب سرّ المدرسة الصالحية النجمية، كان موضعها من جملة تربة القصر التي تقدّم ذكرها، فنبش شخص من الناس يعرف بناصر الدين محمد بن محمد بن بدير العباسيّ ما هنالك من قبور الخلفاء، وأنشأ هذه المدرسة في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وعمل فيها درس فقه للفقهاء الشافعية، درس فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن نصير بن رسلان البلقينيّ، وهي مدرسة صغيرة لا يكاد يصعد إليها أحد، والعباسيّ هذا من قرية بطرف الرمل يقال لها العباسية، وله في مدينة بلبيس مدرسة وقد تلاشت بعد ما كانت عامرة مليحة.

المدرسة الملكية

المدرسة الملكية هذه المدرسة بخط المشهد الحسينيّ من القاهرة، بناها الأمير الحاج سيف الدين آل ملك الجوكندار تجاه داره، وعمل فيها درسا للفقهاء الشافعية، وخزانة كتب معتبرة، وجعل لها عدّة أوقاف، وهي إلى الآن من المدارس المشهورة، وموضعها من جملة رحبة قصر الشوك، وقد تقدّم ذكرها عند ذكر الرحاب من هذا الكتاب، ثم صار موضع هذه المدرسة دارا تعرف بدار ابن كرمون صهر الملك الصالح. المدرسة الجمالية هذه المدرسة بجوار درب راشد من القاهرة على باب الزقاق المعروف قديما بدرب سيف الدولة نادر، بناها الأمير الوزير علاء الدين مغلطاي الجماليّ، وجعلها مدرسة للحنفية، وخانقاه للصوفية، وولى تدريسها ومشيخة التصوّف بها الشيخ علاء الدين عليّ بن عثمان التركمانيّ الحنفيّ، وتداولها ابنه قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ الحنفيّ، وابنه قاضي القضاة صدر الدين محمد بن عبد الله بن عليّ التركمانيّ الحنفيّ، ثم قريبهم حميد الدين حماد، وهي الآن بيد ابن حميد الدين المذكور، وكان شأن هذه المدرسة كبيرا يسكنها أكابر فقهاء الحنفية، وتعدّ من أجلّ مدارس القاهرة، ولها عدّة أوقاف بالقاهرة وظواهرها وفي البلاد الشامية، وقد تلاشى أمر هذه المدرسة لسوء ولاة أمرها، وتخريبهم أوقافها، وتعطل منها حضور الدرس والتصوّف، وصارت منزلا يسكنه أخلاط ممن ينسب إلى اسم الفقه، وقرب الخراب منها، وكان بناؤها في سنة ثلاثين وسبعمائة. مغلطاي: ابن عبد الله الجماليّ، الأمير علاء الدين، عرف بخرز، وهي بالتركية عبارة عن الديك بالعربية، اشتراه الملك الناصر محمد بن قلاون ونقله وهو شاب من الجامكية إلى الأمرة على إقطاع الأمير صارم الدين إبراهيم الإبراهيميّ نقيب المماليك السلطانية، المعروف بزير الأمرة، في صفر سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وصار السلطان ينتدبه في التوجه إلى المهمات الخاصة به، ويطلعه على سرّه، ثم بعثه أمير الركب إلى الحجاز في هذه السنة، فقبض على الشريف أسد الدين رميتة بن أبي نميّ صاحب مكة، وأحضره إلى قلعة الجبل في ثامن عشر المحرّم سنة تسع عشرة وسبعمائة مع الركب، فأنكر عليه السلطان سرعة دخوله لما أصاب الحاج من المشقة في الإسراع بهم، ثم إنه جعل إستادار السلطان لما قبض على القاضي كريم الدين عبد الكريم بن المعلم هبة الله ناظر الخواص، عند وصوله من دمشق بعد سفره إليها لإحضار شمس الدين غبريال، فيوم حضر خلع عليه وجعل استادارا عوضا عن الأمير سيف الدين بكتمر العلائيّ، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، ثم أضاف إليه الوزارة وخلع عليه في يوم الخميس ثامن رمضان سنة

أربع وعشرين عوضا عن الصاحب أمين الملك عبد الله بن الغنام بعد ما استعفى من الوزارة، اعتذر بأنه رجل غتميّ، فلم يعفه السلطان وقال: أنا أخلي من يباشر معك ويعرّفك ما تعمل، وطلب شمس الدين غبريال ناظر دمشق منها وجعله ناظر الدولة، رفيقا للوزير الجماليّ، فرفعت قصة إلى السلطان وهو في القصر من القلعة، فيها الحط على السلطان بسبب تولية الجماليّ الوزارة والماس حاجبا، وأنه بسبب ذلك أضاع أوضاع المملكة وأهانها وفرّط في أموال المسلمين والجيش، وأن هذا لم يفعله أحد من الملوك، فقد وليت الحجابة لمن لا يعرف يحكم ولا يتكلم بالعربيّ ولا يعرف الإحكام الشرعية، ووليت الوزارة والاستادارية لشاب لا يعرف يكتب اسمه، ولا يعرف ما يقال له، ولا يتصرّف في أمور المملكة ولا في الأموال الديوانية إلا أرباب الأقلام، فإنهم يأكلون المال ويحيلون على الوزير. فلما وقف السلطان عليها، أوقف عليها القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله، المعروف بالفخر ناظر الجيش. فقال: هذه ورقة الكتّاب البطالين، ممن انقطع رزقه وكثر حسده، وقرّر مع السلطان أن يلزم الوزير ناظر الدولة وناظر الخواص بإحضار أوراق في كل يوم تشتمل على أصل الحاصل، وما حمل في ذلك اليوم من البلاد والجهات، وما صرف. وأنه لا يصرف لأحد شيء البتة إلّا بأمر السلطان وعلمه. فلما حضر الوزير الجماليّ أنكر عليه السلطان وقال له: إن الدواوين تلعب بك، وأمر فأحضر التاج إسحاق، وغبريال، ومجد الدين بن لعيبة، وقرّر معهم أن يحضروا آخر كلّ يوم أوراقا بالحاصل والمصروف، وقد فصلت بأسماء ما يحتاج إلى صرفه وإلى شرائه وبيعه، فصاروا يحضرون كلّ يوم الأوراق إلى السلطان وتقرأ عليه، فيصرف ما يختار ويوقف ما يريد، ورسم أيضا أن مال الجيزة كله يحمل إلى السلطان ولا يصرف منه شيء. ثم لما كانت الفتنة بثغر الإسكندرية بين أهلها وبين الفرنج، وغضب السلطان على أهل الإسكندرية، بعث بالجماليّ إليها، فسار من القاهرة في أثناء رجب سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ودخل إليها فجلس بالخمس واستدعى بوجوه أهل البلد، وقبض على كثير من العامّة، ووسط بعضهم وقطع أيدي جماعة وأرجلهم، وصادر أرباب الأموال حتى لم يدع أحدا له ثروة، حتى ألزمه بمال كثير، فباع الناس حتى ثياب نسائهم في هذه المصادرة، وأخذ من التجار شيئا كثيرا مع ترفقه بالناس فيما يرد عليه من الكتب بسفك الدماء، وأخذ الأموال، ثم أحضر العدد التي كانت بالثغر مرصدة برسم الجهاد، فبلغت ستة آلاف عدّة، ووضعها في حاصل وختم عليه وخرج من الإسكندرية بعد عشرين يوما وقد سفك دماء كثيرة، وأخذ منها مائتي ألف دينار للسلطان وعاد إلى القاهرة، فلم يزل على حاله إلى أن صرف عن الوزارة في يوم الأحد ثاني شوّال سنة ثمان وعشرين، ورسم أن توفر وظيفة الوزارة من ولاية وزير، فلم يستقرّ أحد في الوزارة وبقي الجماليّ على وظيفة الأستادارية، وكان سبب عزله عن الوزارة توقف حال الدولة وقلة الواصل إليها، فعمل عليه الفخر ناظر

المدرسة الفارسية

الجيش والتاج إسحاق بسبب تقديمه لمحمد بن لعيبة، فإنه كان قد استقرّ في نظر الدولة والصحبة والبيوت وتحكم في الوزير وتسلم قياده، فكتبت مرافعات في الوزير وأنه أخذ مالا كثيرا من مال الجيزة، فخرج الأمير أيتمش المجديّ بالكشف عليه، وهمّ السلطان بإيقاع الحوطة به، فقام في حقه الأمير بكتمر الساقي حتى عفي عنه وقبض على كثير من الدواوين. ثم إنه سافر إلى الحجاز، فلما عاد توفي بسطح عقبة إيلة في يوم الأحد سابع عشر المحرّم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. فصبّر وحمل إلى القاهرة ودفن بهذه الخانقاه في يوم الخميس حادي عشري المحرّم المذكور بعد ما صلّى عليه بالجامع الحاكميّ، وولى السلطان بعده الأستادارية الأمير أقبغا عبد الواحد، وكان ينوب عن الجماليّ في الأستادارية الطنقش مملوك الأفرم، نقله إليها من ولاية الشرقية، وكان الجماليّ حسن الطباع يميل إلى الخير مع كثرة الحشمة، ومما شكر عليه في وزارته أنه لم يبخل على أحد بولاية مباشرة، وأنشأ ناسا كثيرا، وقصد من سائر الأعمال، وكان يقبل الهدايا ويحب التقادم، فحلت له الدنيا وجمع منها شيئا كثيرا، وكان إذا أخذ من أحد شيئا على ولاية لا يعزله حتى يعرف أنه قد اكتسب قدر ما وزنه له، ولو أكثر عليه في السعي، فإذا عرف أنه أخذ ما غرمه عزله وولى غيره، ولم يعرف عنه أنه صادر أحدا ولا اختلس مالا، وكانت أيامه قليلة الشرّ، إلّا أنه كان يعزل ويولي بالمال، فتزايد الناس في المناصب، وكان له عقب بالقاهرة غير صالحين ولا مصلحين. المدرسة الفارسية هذه المدرسة بخط الفهادين من أوّل العطوفية بالقاهرة، كان موضعها كنيسة تعرف بكنيسة الفهادين، فلما كانت واقعة النصارى في سنة ست وخمسين وسبعمائة، هدمها الأمير فارس الدين البكيّ، قريب الأمير سيف الدين آل ملك الجو كندار، وبنى هذه المدرسة ووقف عليها وقفا يقوم بما تحتاج إليه. المدرسة السابقية هذه المدرسة داخل قصر الخلفاء الفاطميين من جملة القصر الكبير الشرقيّ الذي كان داخل دار الخلافة، ويتوصل إلى هذه المدرسة الآن من تجاه حمّام البيسريّ بخط بين القصرين، وكان يتوصل إليها أيضا من باب القصر المعروف بباب الريح من خط الركن المخلق، وموضعه الآن قيسارية الأمير جمال الدين يوسف الأستادار. بنى هذه المدرسة الطواشي الأمير سابق الدين مثقال الأنوكيّ مقدّم المماليك السلطانية الأشرفية، وجعل بها درسا للفقهاء الشافعية، قرّر في تدريسه شيخنا شيخ الشيوخ سراج الدين عمر بن عليّ الأنصاريّ، المعروف بابن الملقن الشافعيّ، وجعل فيها تصدير قراءات وخزانة كتب، وكتابا يقرأ فيه أيتام المسلمين، وبنى بينها وبين داره التي تعرف بقصر سابق الدين حوض ماء للسبيل، هدمه الأمير جمال الدين يوسف الأستادار لما بنى داره المجاورة لهذه المدرسة،

المدرسة القيسرانية

ولى سابق الدين تقدمة المماليك بعد الطواشي شرف الدين مختصر الطغتمريّ، في صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة، ثم تنكر عليه الأمير يلبغا الخاصكيّ القائم بدولة الملك الأشرف شعبان بن حسين وضربه ستمائة عصا وسجنه ونفاه إلى أسوان، في آخر شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وستين، فلم يكن غير قليل حتى قتل الأمير يلبغا، فاستدعي الأشرف سابق الدين من قوص، وصرف ظهير الدين مختارا المعروف بشاذروان عن التقدمة، وأعاده إليها، فاستمرّ إلى أن مات سنة ست وسبعين وسبعمائة. المدرسة القيسرانية هذه المدرسة بجوار المدرسة الصاحبية بسويقة الصاحب، فيما بينها وبين باب الخوخة، كانت دارا يسكنها القاضي الرئيس شمس الدين محمد بن إبراهيم القيسرانيّ أحد موقعي الدست بالقاهرة، فوقفها قبل موته مدرسة، وذلك في ربيع الأوّل سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وتوفي سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وكان حشما كبير الهمة، سعى بالأمير سيف الدين بهادر الدمرداشيّ في كتابة السرّ بالقاهرة، مكان علاء الدين عليّ بن فضل الله العمريّ، فلم يتم ذلك، ومات الأمير بهادر فانحط جانبه، وكانت دنياه واسعة جدّا، وله عدّة مماليك يتوصل بهم إلى السعي في أغراضه عند أمراء الدولة، وكان ينسب إلى شح كبير. المدرسة الزمامية هذه المدرسة بخط رأس البندقانيين من القاهرة، فيما بين البندقانيين وسويقة الصاحب، بناها الأمير الطواشي زين الدين مقبل الروميّ، زمام الآدر الشريفة للسلطان الظاهر برقوق في سنة سبع وتسعين وسبعمائة، وجعل بها درسا وصوفية ومنبرا يخطب عليه في كل جمعة، وبينها وبين المدرسة الصاحبية دون مدى الصوت، فيسمع كلّ من صلّى بالموضعين تكبير الآخر، وهذا وأنظاره بالقاهرة من شنيع ما حدث في غير موضع، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم على إزالة هذه المبتدعات. المدرسة الصغيرة هذه المدرسة فيما بين البندقانيين وطواحين الملحيين، ويعرف خطها ببيت محب الدين ناظر الجيوش، ويعرف أيضا بخط بين العواميد، بنتها الست أيديكن زوجة الأمير سيف الدين بكجا الناصريّ، في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. مدرسة تربة أمّ الصالح هذه المدرسة بجوار المدرسة الأشرفية بالقرب من المشهد النفيسيّ، فيما بين القاهرة

مدرسة ابن عرام

ومصر، موضعها من جملة ما كان بستانا، أنشأها الملك المنصور قلاون، على يد الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ في سنة اثنتين وثمانين وستمائة، برسم أمّ الملك الصالح علاء الدين عليّ بن الملك المنصور قلاون، فلما كمل بناؤها نزل إليها الملك المنصور ومعه ابنه الصالح عليّ، وتصدّق عند قبرها بمال جزيل، ورتب لها وقفا حسنا على قرّاء وفقهاء. وغير ذلك. وكانت وفاتها في سادس عشر شوّال سنة ثلاث وثمانين وستمائة. مدرسة ابن عرّام هذه المدرسة بجوار جامع الأمير حسين بحكر جوهر النوبيّ من برّ الخليج الغربيّ خارج القاهرة، أنشأها الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام، وكان من فضلاء الناس، تولى نيابة الإسكندرية وكتب تاريخا وشارك في علوم، فلما قتل الأمير بركة بسجن الإسكندرية ثارت مماليكه على الأمير الكبير برقوق حنقا لقتله، فأنكر الأمير برقوق قتله وبعث الأمير يونس النوروزيّ دواداره لكشف ذلك، فنبش عنه قبره فإذا فيه ضربات عدّة إحداهنّ في رأسه، فاتهم ابن عرّام بقتله من غير إذن له في ذلك، فأخرج بركة من قبره وكان بثيابه من غير غسل ولا كفن، وغسله وكفنه، وأحضر ابن عرّام معه فسجن بخزانة شمائل داخل باب زويلة من القاهرة، ثم عصر وأخرج يوم الخميس خامس عشر رجب سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، من خزانة شمائل، وأمر به فسمّر عريان بعد ما ضرب عند باب القلة بالمقارع ستة وثمانين بحضرة الأمير قطلودمر الخازندار، والأمير مامور حاجب الحجاب، فلما أنزل من القلعة وهو مسمر على الجمل أنشد: لك قلبي بحلّه فدمي لم تحلّه ... لك من قلبي المكان فلم لا تحلّه قال إن كنت مالكا فلي الأمر كلّه وما هو إلّا أن وقف بسوق الخيل تحت القلعة وإذا بمماليك بركة قد أكبت عليه تضربه بسيوفها حتى تقطع قطعا وحز رأسه، وعلّق على باب زويلة وتلاعبت أيديهم، فأخذوا حد أذنه، وأخذوا حد رجله، واشترى آخر قطعة من لحمه ولاكها، ثم جمع ما وجد منه ودفن بمدرسته هذه. فقال في ذلك صاحبنا الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار: بدت أجزاء عرّام خليل ... مقطعة من الضرب الثقيل وأبدت أبحر الشعر المراثي ... محرّرة بتقطيع الخليل المدرسة المحمودية هذه المدرسة بخط الموازنيين خارج باب زويلة تجاه دار القردمية، يشبه أن موضعها كان في القديم من جملة الحارة التي كانت تعرف بالمنصورية، أنشأها الأمير جمال الدين

محمود بن عليّ الأستادار في سنة سبع وتسعين وسبعمائة، ورتب بها درسا، وعمل فيها خزانة كتب لا يعرف اليوم بديار مصر ولا الشام مثلها، وهي باقية إلى اليوم لا يخرج لأحد منها كتاب إلّا أن يكون في المدرسة، وبهذه الخزانة كتب الإسلام من كلّ فنّ، وهذه المدرسة من أحسن مدارس مصر. محمود بن عليّ بن أصفر، عينه الأمير جمال الدين الأستادار ولي شدّ باب رشيد بالإسكندرية مدّة، وكانت واقعة الفرنج بها في سنة سبع وستين وسبعمائة، وهو مشدّ، فيقال إنّ ماله الذي وجد له حصله يومئذ، ثم إنه سار إلى القاهرة فلما كانت أيام الظاهر برقوق خدم أستادارا عند الأمير سودون باق، ثم استقرّ شادّ الدواوين إلى أن مات الأمير بهادر المنجكيّ أستادار السلطان، فاستقرّ عوضا عنه في وظيفة الأستادارية يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة سنة تسعين وسبعمائة، ثم خلع عليه في يوم الخميس خامسة، واستقرّ مشير الدولة، فصار يتحدّث في دواوين السلطنة الثلاثة، وهي الديوان المفرد الذي يتحدّث فيه الأستادار، وديوان الوزارة ويعرف بالدولة، وديوان الخاص المتعلق بنظر الخواص، وعظم أمره ونفذت كلمته لتصرّفه في سائر أمور المملكة. فلما زالت دولة الملك الظاهر برقوق بحضور الأمير يلبغا الناصريّ نائب حلب، في يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بعساكر الشام إلى القاهرة، واختفى الظاهر ثم أمسكه، هرب هو وولده، فنهبت دوره، ثم إنه ظهر من الاستتار في يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة، وقدّم للأمير يلبغا الناصريّ مالا كثيرا فقبض عليه وقيده وسجنه بقلعة الجبل وأقيم بدله في الأستادارية الأمير علاء الدين أقبغا الجوهريّ. فلما زالت دولة يلبغا الناصريّ بقيام الأمير منطاش عليه، قبض على أقبغا الجوهريّ فيمن قبض عليه من الأمراء، وأفرج عن الأمير محمود في يوم الاثنين ثامن شهر رمضان، وألبسه قباء مطرّزا بذهب وأنزله إلى داره، ثم قبض عليه وسجن بخزانة الخاص في يوم الأحد سادس عشر ذي الحجة في عدّة من الأمراء والمماليك، عند عزم منطاش على السفر لحرب برقوق عند خروجه من الكرك ومسيره إلى دمشق، فكانت جملة ما حمله الأمير محمود من الذهب العين للأمير يلبغا الناصريّ وللأمير منطاش ثمانية وخمسين قنطارا من الذهب المصريّ، منها ثمانية عشر قطنارا في ليلة واحدة، فلم يزل في الاعتقال إلى أن خرج المماليك مع الأمير بوطا في ليلة الخميس ثاني صفر سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، فخرج معهم وأقام بمنزله إلى أن عاد الملك الظاهر برقوق إلى المملكة في رابع عشر صفر، فخلع عليه واستقرّ أستادار السلطان على عادته في يوم الاثنين تاسع عشري جمادى الأولى من السنة المذكورة، عوضا عن الأمير قرقماس الطشتمريّ بعد وفاته، ثم خلع على ولده الأمير ناصر الدين محمد بن محمود في يوم الخميس ثاني عشري صفر سنة أربع وتسعين وسبعمائة، واستقرّ نائب السلطنة بثغر الإسكندرية عوضا عن الأمير ألطنبغا المعلم، فقويت حرمة الأمير محمود ونفذت كلمته إلى يوم الاثنين حادي عشر رجب من

السنة المذكورة، فثار عليه المماليك السلطانية بسبب تأخر كسوتهم، ورموه من أعلى القلعة بالحجارة وأحاطوا به وضربوه يريدون قتله، لولا أن شاء الله أغاثه بوصول الخبر إلى الأمير الكبير ايتمش، وكان يسكن قريبا من القلعة، فركب بنفسه وساق حتى أدركه وفرّق عنه المماليك، وسار به إلى منزله حتى سكنت الفتنة، ثم شيعه إلى داره. فكانت هذه الواقعة مبدأ انحلال أمره، فإن السلطان صرفه عن الأستادارية وولى الأمير الوزير ركن الدين عمر بن قايماز في يوم الخميس رابع عشرة، وخلع على الأمير محمود قباء بطرز ذهب، واستقرّ على أمرته، ثم صرف ابن قايماز عن الأستادارية وأعيد محمود في يوم الاثنين خامس عشر رمضان، وأنعم على ابن قايماز بإمرة طلبخاناه، فجدّد بثغر الإسكندرية دار ضرب عمل فيها فلوس ناقصة الوزن، ومن حينئذ اختل حال الفلوس بديار مصر. ثم لما خرج الملك الظاهر إلى البلاد الشامية في سنة ست وتسعين، سار في ركابه، ثم حضر إلى القاهرة في يوم الأربعاء سابع صفر سنة سبع وتسعين وسبعمائة قبل حضور السلطان، وكان دخوله يوما مشهودا، فلما عاد السلطان إلى قلعة الجبل حدث منه تغير على الأمير محمود في يوم السبت ثالث عشري ربيع الأوّل، وهمّ بالإيقاع به، فلما صار إلى داره بعث إليه الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ يطلب منه خمسمائة ألف دينار، وإن توقف يحيط به ويضربه بالمقارع، فنزل إليه وقرّر الحال على مائة وخمسين ألف دينار، فطلع على العادة إلى القلعة في يوم الاثنين خامس عشريه، فسبه المماليك السلطانية ورجموه، ثم إن السلطان غضب عليه وضربه في يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر بسبب تأخر النفقة، وأخذ أمره ينحل، فولى السلطان الأمير صلاح الدين محمد ابن الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير تنكز أستادارية الأملاك السلطانية، في يوم الاثنين خامس رجب، وولى علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ في رمضان التحدّث في دار الضرب بالقاهرة والإسكندرية، والتحدّث في المتجر السلطانيّ، فوقع بينه وبين الأمير محمود كلام كثير ورافعه ابن الطبلاويّ بحضرة السلطان، وخرّج عليه من دار الضرب ستة آلاف درهم فضة، فألزم السلطان محمودا بحمل مائة وخمسين ألف دينار، فحملها وخلع عليه عند تكميله حملها في يوم الأحد تاسع عشري رمضان، وخلع أيضا على ولده الأمير ناصر الدين، وعلى كاتبه سعد الدين إبراهيم بن غراب الإسكندرانيّ، وعلى الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ، ثم إن محمود أوعك بدنه فنزل إليه السلطان في يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة يعوده، فقدّم له عدّة تقادم قبل بعضها وردّ بعضها، وتحدّث الناس أنه استقلها. فلما كان يوم السبت سادس صفر سنة ثمان وتسعين بعث السلطان إلى الأمير محمود الطواشي شاهين الحسني فأخذ زوجتيه وكاتبه سعد الدين إبراهيم بن غراب، وأخذ مالا وقماشا على حمالين وصار بهما إلى القلعة، هذا ومحمود مريض لازم الفراش، ثم عاد من يومه وأخذ الأمير ناصر الدين محمد بن محمود وحمله إلى القلعة، ثم نزل ابن غراب ومعه الأمير الي باي الخازندار في يوم الأحد سابعه، وأخذا من ذخيرة بدار محمود خمسين ألف دينار، وفي يوم الخميس حادي عشرة صرف محمود عن الأستادارية واستقرّ عوضه

المدرسة المهذبية

الأمير سيف الدين قطلوبك العلائيّ أستادار الأمير الكبير ايتمش، وقرّر سعد الدين بن غراب ناظر الديوان المفرد، فاجتمع مع ابن الطبلاويّ على عداوة محمود والسعي في إهلاكه، وسلّم ابن محمود إلى ابن الطبلاويّ في تاسع عشر ربيع الأوّل ليستخلص منه مائة ألف دينار، ونزل الطواشي صندل المنجكيّ، والطواشي شاهين الحسنيّ في ثالث عشرية، ومعهما ابن الطبلاويّ، فأخذا من خربة خلف مدرسة محمود زيرين كبيرين وخمسة أزيار صغارا وجد فيها ألف ألف درهم فضة، فحملت إلى القلعة، ووجد أيضا بهذه الخربة جرّتان في إحداهما ستة آلاف دينار وفي الأخرى أربعة آلاف درهم فضة وخمسمائة درهم، وقبض على مباشري محمود ومباشري ولده، وعوقب محمود، ثم أوقعت الحوطة على موجود محمود في يوم الخميس سابع جمادى الأولى، ورسم عليه ابن الطبلاويّ في داره، وأخذ مماليكه وأتباعه، ولم يدع عنده غير ثلاث مماليك صغار، وظهرت أموال محمود شيئا بعد شيء، ثم سلّم إلى الأمير فرج شادّ الدواوين في خامس جمادى الآخرة فنقله إلى داره وعاقبه وعصره في ليلته، ثم نقل في شعبان إلى دار ابن الطبلاويّ فضربه وسعطه وعصره، فلم يعترف بشيء، وحكى عنه أنه قال لو عرفت أني أعاقب ما اعترفت بشيء من المال، وظهر منه في هذه المحنة ثبات وجلد وصبر مع قوّة نفس وعدم خضوع، حتى أنه كان يسب ابن الطبلاويّ إذا دخل إليه ولا يرفع له قدرا، ثم إن السلطان استدعاه إلى ما بين يديه يوم السبت أوّل صفر سنة تسع وتسعين، وحضر سعد الدين بن غراب فشافهه بكل سوء ورافعه في وجهه حتى استغضب السلطان على محمود، وأمر بمعاقبته حتى يموت، فأنزل إلى بيت الأمير حسام الدين حسين ابن أخت الفرس شادّ الدواوين، وكان أستادار محمود، فلم يزل عنده في العقوبة إلى أن نقل من داره إلى خزانة شمائل في ليلة الجمعة ثالث جمادى الأولى وهو مريض، فمات بها في ليلة الأحد تاسع رجب سنة تسع وتسعين وسبعمائة، ودفن من الغد بمدرسته وقد أناف على الستين سنة، وكان كثير الصلاة والعبادة مواظبا على قيام الليل، إلّا أنه كان شحيحا مسيكا شرها في الأموال، رمى الناس منه في رماية البضائع بداوه إذا نسبت إلى ما حدث من بعده، كانت عافية ونعمة، وأكثر من ضرب الفلوس بديار مصر حتى فسد بكثرتها حال إقليم مصر، وكان جملة ما حمل من ماله بعد نكبته هذه مائة قنطار ذهبا وأربعين قنطارا، عنها ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار عينا، وألف ألف درهم فضة، وأخذ له من البضائع والغلال والقنود والأعسال ما قيمته ألف ألف درهم وأكثر. المدرسة المهذبية هذه المدرسة بحارة حلب خارج القاهرة عند حمام قماريّ، بناها الحكيم مهذب الدين محمد بن أبي الوحش المعروف بابن أبي حليقة، تصغير حلقة، رئيس الأطباء بديار مصر، ولي رياسة الأطباء في حادي عشر رمضان سنة أربع وثمانين وستمائة، واستقرّ مدرّس الطب بالمارستان المنصوريّ.

المدرسة السعدية

المدرسة السعدية هذه المدرسة خارج القاهرة بقرب حدرة البقر على الشارع المسلوك فيه من حوض ابن هنس إلى الصليبة، وهي فيما بين قلعة الجبل وبركة الفيل، كان موضعها يعرف بخط بستان سيف الإسلام، وهي الآن في ظهر بيت قوصون المقابل لباب السلسلة من قلعة الجبل، بناها الأمير شمس الدين سنقر السعديّ نقيب المماليك السلطانية، في سنة خمس عشرة وسبعمائة، وبنى بها أيضا رباطا للنساء، وكان شديد الرغبة في العمائر محبا للزراعة، كثير المال ظاهر الغنى، وهو الذي عمر القرية التي تعرف اليوم بالنحريرية من أعمال الغربية، وكان إقطاعه، ثم إنه أخرج من مصر بسبب نزاع وقع بينه وبين الأمير قوصون في أرض أخذها منه، فسار إلى طرابلس وبها مات في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. المدرسة الطفجية هذه المدرسة بخط حدرة البقر أيضا، أنشأها الأمير سيف الدين طفجي الأشرفيّ، ولها وقف جيد. طفجي: الأمير سيف الدين، كان من جملة مماليك الملك الأشرف خليل بن قلاون، ترقّى في خدمته حتى صار من جملة أمراء ديار مصر، فلما قتل الملك الأشرف قام طفجي في المماليك الأشرفية وحارب الأمير بيدرا المتولي لقتل الأشرف حتى أخذه وقتله، فلما أقيم الملك الناصر محمد بن قلاون في المملكة بعد قتل بيدرا، صار طفجي من أكابر الأمراء، واستمرّ على ذلك بعد خلع الملك الناصر بكتبغا مدّة أيامه إلى أن خلع الملك العادل كتبغا وقام في سلطنة مصر الملك المنصور لاجين، وولى مملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر نيابة السلطنة بديار مصر، فأخذ يواحش أمراء الدولة بسوء تصرّفه، واتفق أن طفجي حج في سنة سبع وتسعين وستمائة، فقرّر منكوتمر مع المنصور أنه إذا قدم من الحج يخرجه إلى طرابلس ويقبض على أخيه الأمير سيف الدين كرجي، فعندما قدم طفجي من الحجاز في صفر سنة ثمان وتسعين وستمائة، رسم له بنيابة طرابلس، فثقل عليه ذلك وسعى بإخوته الأشرفية حتى أعفاه السلطان من السفر، فسخط منكوتمر وأبى الإسفر طفجي وبعث إليه يلزمه بالسفر، وكان لاجين منقادا لمنكوتمر لا يخالفه في شيء، فتواعد طفجي وكرجي مع جماعة من المماليك وقتلوا لاجين، وتولى قتله كرجي، وخرج فإذا طفجي في انتظاره على باب القلة من قلعة الجبل، فسرّ بذلك وأمر بإحضار من بالقلعة من الأمراء، وكانوا حينئذ يبيتون بالقلعة دائما، وقتل منكوتمر في تلك الليلة وعزم على أنه يتسلطن ويقيم كرجي في نيابة السلطنة، فخذله الأمراء. وكان الأمير بدر الدين بكتاش الفخريّ أمير سلاح قد خرج في غزاة وقرب حضوره، فاستمهلوه بما يريد إلى أن يحضر، فأخر سلطنته وبقي

المدرسة الجاولية

الأمراء في كل يوم يحضرون معه في باب القلة، ويجلس في مجلس النيابة والأمراء عن يمينه وشماله، ويمدّ سماط السلطان بين يديه، فلما حضر أمير سلاح بمن معه من الأمراء، نزل طفجي والأمراء إلى لقائهم بعد ما امتنع امتناعا كثيرا، وترك كرجي يحفظ القلعة بمن معه من المماليك الأشرفية، وقد نوى طفجي الشرّ للأمراء الذين قد خرج إلى لقائهم، وعرف ذلك الأمراء المقيمون عنده في القلعة، فاستعدّوا له. وسار هو والأمراء إلى أن لقوا الأمير بكتاش ومعه من الأشرفية أربعمائة فارس تحفظه حتى يعود من اللقاء إلى القلعة، فعندما وافاه بقبة النصر وتعانقا أعلمه بقتل السلطان، فشقّ عليه، وللوقت جرّد الأمراء سيوفهم وارتفعت الضجة، فساق طفجي من الحلقة والأمراء وراءه إلى أن أدركه قراقوش الظاهريّ وضربه بسيف ألقاه عن فرسه إلى الأرض ميتا، ففرّ كرجي، ثم أخذ وقتل وحمل طفجي في مزبلة من مزابل الحمّامات على حمار إلى مدرسته هذه فدفن بها، وقبره هناك إلى اليوم. وكان قتله في يوم الخميس سادس عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وستمائة، بعد خمسة أيام من قتل لاجين ومنكوتمر. المدرسة الجاولية هذه المدرسة بجوار الكبش، فيما بين القاهرة ومصر، أنشأها الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وعمل بها درسا وصوفية، ولها إلى هذه الأيام عدّة أوقاف. سنجر بن عبد الله الأمير علم الدين الجاوليّ، كان مملوك جاولي أحد أمراء الملك الظاهر بيبرس، وانتقل بعد موت الأمير جاولي إلى بيت قلاون، وخرج في أيام الأشرف خليل بن قلاون إلى الكرك، واستقرّ في جملة البحرية بها إلى أيام العادل كتبغا، فحضر من عند نائب الكرك ومعه حوائجخاناه، فرفعه كتبغا وأقامه على الخوشخاناه السلطانية، وصحب الأمير سلار وواخاه فتقدّم في الخدمة، وبقي أستادارا صغيرا في أيام بيبرس وسلار، فصار يدخل على السلطان الملك الناصر ويخرج ويراعي مصالحه في أمر الطعام ويتقرّب إليه، فلما حضر من الكرك جهزه إلى غزة نائبا في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وسبعمائة، عوضا عن الأمير سيف الدين قطلوا أقتمر عبد الخالق بعد إمساكه، وأضاف إليه مع غزة الساحل والقدس وبلد الخليل وجبل نابلس، وأعطاه إقطاعا كبيرا بحيث كان للواحد من مماليكه إقطاع يعمل عشرين ألفا وخمسة وعشرين ألفا، وعمل نيابة غزة على القالب الجائر إلى أن وقعت بينه وبين الأمير تنكز نائب الشام بسبب دار كانت له تجاه جامع تنكز خارج دمشق من شمالها، أراد تنكز أن يبتاعها منه فأبى عليه، فكتب فيه إلى الملك الناصر محمد بن قلاون فأمسكه في ثامن عشري شعبان سنة عشرين وسبعمائة، واعتقله نحوا من ثمان سنين، ثم أفرج عنه في سنة تسع وعشرين، وأعطاه أمرة أربعين، ثم بعد مدّة أعطاه

المدرسة الفارقانية

أمرة مائة وقدّمه على ألف وجعله من أمراء المشورة، فلم يزل على هذا إلى أن مات الملك الناصر، فتولى غسله ودفنه. فلما ولي الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاون سلطنة مصر أخرجه إلى نيابة حماه، فأقام بها مدّة ثلاثة أشهر ثم نقله إلى نيابة غزة، فحضر إليها وأقام بها نحو ثلاثة أشهر أيضا، ثم أحضره إلى القاهرة وقرّره على ما كان عليه، وولى نظر المارستان بعد نائب الكرك عند ما أخرج إلى نيابة طرابلس، ثم توجه لحصار الناصر أحمد بن محمد بن قلاون وهو ممتنع في الكرك، فأشرف عليه في بعض الأيام الناصر أحمد من قلعة الكرك وسبه وشيخه، فقال له الجاوليّ: نعم أنا شيخ نحس، ولكن الساعة ترى حالك مع الشيخ النحس، ونقل المنجنيق إلى مكان يعرفه ورمى به فلم يخطئ القلعة وهدم منها جانبا، وطلع بالعسكر وأمسك أحمد وذبحه صبرا. وبعث برأسه إلى الصالح إسماعيل، وعاد إلى مصر فلم يزل على حاله إلى أن مات في منزله بالكبش يوم الخميس تاسع رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة، ودفن بمدرسته، وكانت جنازته حافلة إلى الغاية. قد سمع الحديث وروى وصنف شرحا كبيرا على مسند الشافعيّ رحمه الله، وأفتى في آخر عمره على مذهب الشافعيّ، وكتب خطه على فتاوى عديدة، وكان خبيرا بالأمور، عارفا بسياسة الملك، كفوا لما وليه من النيابات وغيرها، لا يزال يذكر أصحابه في غيبتهم عنه ويكرمهم إذا حضروا عنده، وانتفع به جماعة من الكتاب والعلماء والأكابر، وله من الآثار الجميلة الفاضلة جامع بمدينة غزة في غاية الحسن، وله بها أيضا حمّام مليح، ومدرسة للفقهاء الشافعية، وخان للسبيل، وهو الذي مدّن غزة وبنى بها أيضا مارستانا، ووقف عليه عن الملك الناصر أوقافا جليلة، وجعل نظره لنواب غزة وعمر بها أيضا الميدان والقصر، وبنى ببلد الخليل عليه السّلام جامعا سقفه منه حجر نقر، وعمل الخان العظيم بقاقون، والخان بقرية الكثيب، والقناطر بغابة أرسوف، وخان رسلان في حمراء بيسان، ودارا بالقرب من باب النصر داخل القاهرة، ودارا بجوار مدرسته على الكبش، وسائر عمائره ظريفة أنيقة محكمة متقنة مليحة، وكان ينتمي إلى الأمير سلار ويجل ذكره. المدرسة الفارقانية هذه المدرسة خارج باب زويلة من القاهرة، فيما بين حدرة البقر وصليبة جامع ابن طولون، وهي الآن بجوار حمّام الفارقانيّ تجاه البندقدارية، بناها والحمام المجاور لها الأمير ركن الدين بيبرس الفارقانيّ، وهو غير الفارقانيّ المنسوب إليه المدرسة الفارقانية بحارة الوزيرية من القاهرة. المدرسة البشيرية هذه المدرسة خارج القاهرة بحكر الخازن المطل على بركة الفيل، كان موضعها

المدرسة المهمندارية

مسجدا يعرف بمسجد سنقر السعديّ الذي بنى المدرسة السعدية، فهدمه الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجمدار الناصريّ، وبنى موضعه هذه المدرسة في سنة إحدى وستين وسبعمائة، وجعل بها خزانة كتب، وهي من المدارس اللطيفة. المدرسة المهمندارية هذه المدرسة خارج باب زويلة فيما بين جامع الصالح وقلعة الجبل، يعرف خطها اليوم بخط جامع الماردانيّ خارج الدرب الأحمر، وهي تجاه مصلّى الأموات على يمنة من سلك من الدرب الأحمر طالبا جامع الماردانيّ، ولها باب آخر في حارة اليانسية بناها الأمير شهاب الدين أحمد بن أقوش العزيزيّ المهمندار، ونقيب الجيوش في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وجعلها مدرسة وخانقاه، وجعل طلبة درسها من الفقهاء الحنفية، وبنى إلى جانبها القيسارية والربع الموجودين الآن. مدرسة ألجاي هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من قلعة الجبل، كان موضعها وما حولها مقبرة، ويعرف الآن خطها بخط سويقة العزي، أنشأها الأمير الكبير سيف الدين الجاي في سنة ثمان وستين وسبعمائة، وجعل بها درسا للفقهاء الشافعية، ودرسا للفقهاء الحنفية، وخزانة كتب، وأقام بها منبرا يخطب عليه يوم الجمعة، وهي من المدارس المعتبرة الجليلة، ودرّس بها شيخنا جلال الدين البنانيّ الحنفيّ، وكانت سكنه. ألجاي بن عبد الله اليوسفيّ الأمير سيف الدين، تنقل في الخدم حتى صار من جملة الأمراء بديار مصر، فلما أقام الأمير الأستدمر الناصريّ بأمر الدولة بعد قتل الأمير يلبغا الخاصكي العمريّ، في شوّال سنة ثمان وستين وسبعمائة، قبض على الجاي في عدّة من الأمراء وقيدهم وبعث بهم إلى الإسكندرية، فسجنوا إلى عاشر صفر سنة تسع وستين، فأفرج الملك الأشرف شعبان بن حسين عنه وأعطاه أمرة مائة، وتقدمة ألف، وجعله أمير سلاح برّاني، ثم جعله أمير سلاح أتابك العساكر، وناظر المارستان المنصوريّ عوضا عن الأمير منكلي بغا الشمسيّ، في سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وتزوّج بخوند بركة أم السلطان الملك الأشرف، فعظم قدره واشتهر ذكره، وتحكم في الدولة تحكما زائدا إلى يوم الثلاثاء سادس المحرّم سنة خمس وسبعين وسبعمائة، فركب يريد محاربة السلطان بسبب طلبه ميراث أمّ السلطان بعد موتها، فركب السلطان وأمراؤه وبات الفريقان ليلة الأربعاء على الاستعداد للقتال إلى بكرة نهار الأربعاء تواقع الجاي مع أمراء السلطان إحدى عشرة وقعة انكسر في آخرها الجاي وفرّ إلى جهة بركة الحبش، وصعد من الجبل من عند الجبل الأحمر إلى قبة النصر ووقف هناك، فاشتدّ على السلطان فبعث إليه خلعة بنيابة حماه، فقال لا أتوجه إلّا

مدرسة أم السلطان

ومعي مماليكي كلهم وجميع أموالي، فلم يوافقه السلطان على ذلك، وبات الفريقان على الحرب، فانسلّ أكثر مماليك الجاي في الليل إلى السلطان، وعند ما طلع النهار يوم الخميس بعث السلطان عساكره لمحاربة الجاي بقبة النصر، فلم يقاتلهم وولى منهزما والطلب وراءه إلى ناحية الخرقانية بشاطئ النيل، قريبا من قليوب، فتحير وقد أدركه العسكر، فألقى نفسه بفرسه في البحر يريد النجاة إلى البرّ الغربيّ فغرق بفرسه. ثم خلص الفرس وهلك الجاي، فوقع النداء بالقاهرة وظواهرها على إحضار مماليكه، فأمسك منهم جماعة وبعث السلطان الغطاسين إلى البحر تتطلبه فتبعوه حتى أخرجوه إلى البرّ في يوم الجمعة تاسع المحرّم سنة خمس وسبعين وسبعمائة، فحمل في تابوت على لباد أحمر إلى مدرسته هذه وغسل وكفن ودفن بها، وكان مهابا جبارا عسوفا عتيا، تحدّث في الأوقاف فشدّد على الفقهاء وأهان جماعة منهم، وكان معروفا بالإقدام والشجاعة. مدرسة أمّ السلطان هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من قلعة الجبل، يعرف خطها الآن بالتبانة، وموضعها كان قديما مقبرة لأهل القاهرة، أنشأتها الست الجليلة الكبرى بركة أمّ السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وعملت بها درسا للشافعية، ودرسا للحنفية، وعلى بابها حوض ماء للسبيل. وهي من المدارس الجليلة، وفيها دفن ابنها الملك الأشرف بعد قتله. بركة: الست الجليلة خوند أمّ الملك الأشرف شعبان بن حسين، كانت أمة مولدة، فلما أقيم ابنها في مملكة مصر عظم شأنها وحجت في سنة سبعين وسبعمائة بتجمل كثير وبرج زائد، وعلى محفتها العصائب السلطانية والكؤسات تدق معها، وسار في خدمتها من الأمراء المقدّمين: بشتاك العمريّ رأس نوبة، وبهادر الجماليّ، ومائة مملوك من المماليك السلطانية أرباب الوظائف، ومن جملة ما كان معها قطار جمال محملة محائر قد زرع فيها البقل والخضراوات إلى غير ذلك مما يجل وصفه، فلما عادت في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة خرج السلطان بعساكره إلى لقائها، وسار إلى البويب في سادس عشر المحرّم، وتزوّجت بالأمير الكبير الجاي اليوسفيّ، وبها طال واستطال، ماتت في ثامن عشر ذي القعدة سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وكانت خيرة عفيفة لها برّ كثير ومعروف معروف، تحدّث الناس بحجتها عدّة سنين لما كان لها من الأفعال الجميلة في تلك المشاهد الكريمة، وكان لها اعتقاد في أهل الخير ومحبة في الصالحين، وقبرها موجود بقبة هذه المدرسة، وأسف السلطان على فقدها، ووجد وجدا كبيرا لكثرة حبه لها، واتفق أنها لما ماتت أنشد الأديب شهاب الدين أحمد بن يحيى الأعرج السعدي: في ثامن العشرين من ذي قعدة ... كانت صبيحة موت أمّ الأشرف

المدرسة الأيتمشية

فالله يرحمها ويعظم أجره ... ويكون في عاشور موت اليوسفيّ فكان كما قال؛ وغرق الجاي اليوسفيّ كما تقدّم ذكره في يوم عاشوراء. المدرسة الأيتمشية هذه المدرسة خارج القاهرة داخل باب الوزير تحت قلعة الجبل برأس التبانة، أنشأها الأمير الكبير سيف الدين ايتمش البجاسيّ، ثم الظاهريّ في سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وجعل بها درس فقه للحنفية، وبنى بجانبها فندقا كبيرا يعلوه ربع، ومن ورائها خارج باب الوزير حوض ماء للسبيل وربعا، وهي مدرسة ظريفة. ايتمش بن عبد الله الأمير الكبير سيف الدين البجاسيّ ثم الظاهريّ، كان أحد المماليك اليلبغاوية. المدرسة المجدية الخليلية هذه المدرسة بمصر، يعرف موضعها بدرب البلاد، عمرها الشيخ الإمام مجد الدين أبو محمد عبد العزيز بن الشيخ الإمام أمين الدين أبي عليّ الحسين بن الحسن بن إبراهيم الخليليّ الداريّ، فتمت في شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستين وستمائة، وقرّر فيها مدرّسا شافعيا ومعيدين وعشرين نفرا طلبة، وإماما راتبا، ومؤذنا، وقيما لكنسها وفرشها ووقود مصابيحها. وإدارة ساقيتها، وأجرى الماء إلى فسقيتها، ووقف عليها غيطا بناحية بارنبار من أعمال المزاحميتين، وبستانا بمحلة الأمير من المزاحميتين بالغربية، وغيطا بناحية نطوبس، وربع غيط بظاهر ثغر رشيد، وبستانا ونصف بستان بناحية بلقس، ورباعا بمدينة مصر. ومجد الدين هذا هو والد الصاحب الوزير فخر الدين عمر بن الخليليّ، ودرّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدين إلى حين وفاته، وتوفي مجد الدين بدمشق في ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثمانين وستمائة، وكان مشهورا بالصلاح. المدرسة الناصرية بالقرافة هذه المدرسة بجوار قبة الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ رضي الله عنه من قرافة مصر، أنشأها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ورتب بها مدرّسا يدرّس الفقه على مذهب الشافعيّ، وجعل له في كل شهر من المعلوم عن التدريس أربعين دينارا، معاملة صرف كل دينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم، وعن معلوم النظر في أوقاف المدرسة عشرة دنانير، ورتب له من الخبز في كل يوم ستين رطلا بالمصريّ، وراويتين من ماء النيل، وجعل فيها معيدين وعدّة من الطلبة، ووقف عليها حمّاما بجوارها، وفرنا تجاهها، وحوانيت بظاهرها، والجزيرة التي يقال لها جزيرة الفيل ببحر النيل خارج القاهرة،

المدرسة المسلمية

وولى تدريسها جماعة من الأكابر الأعيان، ثم خلت من مدرّس ثلاثين سنة، واكتفى فيها بالمعيدين وهم عشرة أنفس، فلما كانت سنة ثمان وسبعين وستمائة ولى تدريسها قاضي القضاة تقيّ الدين محمد بن رزين الحمويّ بعد عزله من وظيفة القضاء، وقرّر له نصف المعلوم. فلما مات وليها الشيخ تقيّ الدين بن دقيق العيد بربع المعلوم، فلما ولي الصاحب برهان الدين الخضر السنجاريّ التدريس قرّر له المعلوم الشاهد به كتاب الوقف. المدرسة المسلمية هذه المدرسة بمدينة مصر في خط السيوريين، أنشأها كبير التجار ناصر الدين محمد بن مسلّم- بضم الميم وفتح السين المهملة وتشديد اللام- البالسيّ الأصل ابن بنت كبير التجار شمس الدين محمد بن بسير- بفتح الباء أوّل الحروف وكسر السين المهملة ثم ياء آخر الحروف بعدها راء- ومات في سنة ست وسبعين وسبعمائة، قبل أن تتمّ. فوصى بتكملتها وأفرد لها مالا ووقف عليها دورا وأرضا بناحية قليوب، وشرط أن يكون فيها مدرس مالكيّ ومدرّس شافعيّ ومؤدّب أطفال وغير ذلك، فكملها مولاه ووصيه الكبير كافور الخصيّ الروميّ بعد وفاة استاذه، وهي الآن عامرة، وبلغ ابن مسلَّم هذا من وفور المال وعظم السعادة ما لم يبلغه أحد ممن أدركناه، بحيث أنه جاء نصيب أحد أولاده نحو مائتي ألف دينار مصرية، وكان كثير الصدقات على الفقراء، مقترا على نفسه إلى الغاية، وله أيضا مطهرة عظيمة بالقرب من جامع عمرو بن العاص، ونفعها كبير، وله أيضا دار جليلة على ساحل النيل بمصر، وكان أبوه تاجرا سفارا بعد ما كان حمالا، فصاهر ابن بسير ورزق محمدا هذا من ابنته، فنشأ على صيانة ورزق الحظ الوافر في التجارة وفي العبيد، فكان يبعث أحدهم بمال عظيم إلى الهند، ويبعث آخر بمثل ذلك إلى بلاد التكرور «1» ، ويبعث آخر إلى بلاد الحبشة، ويبعث عدّة آخرين إلى عدّة جهات من الأرض، فما منهم من يعود إلّا وقد تضاعفت فوائد ماله أضعافا مضاعفة. مدرسة اينال هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من باب حارة الهلالية بخط القماحين، كان موضعها في القديم من حقوق حارة المنصورة، أوصى بعمارتها الأمير الكبير سيف الدين اينال اليوسفيّ، أحد المماليك اليلبغاوية. فابتدأ بعملها في سنة أربع وتسعين، وفرغت في سنة خمس وتسعين وسبعمائة، ولم يعمل فيها سوى قرّاء يتناوبون قراءة القرآن على قبره، فإنه لما مات في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين وسبعمائة دفن

مدرسة الأمير جمال الدين الأستادار

خارج باب النصر حتى انتهت عمارة هذه المدرسة، فنقل إليها ودفن فيها. وإينال هذا ولي نيابة حلب وصار في آخر عمره أتابك العساكر بديار مصر حتى مات، وكانت جنازته كثيرة الجمع مشى فيها السلطان الملك الظاهر برقوق والعساكر. مدرسة الأمير جمال الدين الأستادار هذه المدرسة برحبة باب العيد من القاهرة، كان موضعها قيسارية يعلوها طباق كلها وقف، فأخذها وهدمها وابتدأ بشق الأساس في يوم السبت خامس جمادى الأولى سنة عشر وثمانمائة، وجمع لها الآلات من الأحجار والأخشاب والرخام وغير ذلك، وكان بمدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون التي كانت بالصوة تجاه الطبلخاناه من قلعة الجبل، بقية من داخلها، فيها شبابيك من نحاس مكفت بالذهب والفضة وأبواب مصفحة بالنحاس البديع الصنعة المكفت، ومن المصاحف والكتب في الحديث والفقه وغيره من أنواع العلوم جملة، فاشترى ذلك من الملك الصالح المنصور حاجي بن الأشرف بمبلغ ستمائة دينار، وكانت قيمتها عشرات أمثال ذلك، ونقلها إلى داره. وكان مما فيها عشرة مصاحف طول كل مصحف منها أربعة أشبار إلى خمسة في عرض يقرب من ذلك، أحدها بخط ياقوت، وآخر بخط ابن البوّاب، وباقيها بخطوط منسوبة، ولها جلود في غاية الحسن معمولة في أكياس الحرير الأطلس، ومن الكتب النفيسة عشرة أحمال جميعها مكتوب في أوّله الإشهاد على الملك الأشرف بوقف ذلك، ومقرّه في مدرسته. فلما كان يوم الخميس ثالث شهر رجب سنة إحدى عشرة وثمانمائة وقد انتهت عمارتها، جمع بها الأمير جمال الدين القضاة والأعيان، وأجلس الشيخ همام الدين محمد بن أحمد الخوارزميّ الشافعيّ على سجادة المشيخة وعمله شيخ التصوّف، ومدرّس الشافعية، ومدّ سماطا جليلا أكل عليه كلّ من حضر، وملأ البركة التي توسط المدرسة ماء قد أذيب فيه سكر مزج بماء الليمون، وكان يوما مشهودا، وقرّ في تدريس الحنفية بدر الدين محمود بن محمد المعروف بالشيخ زاده الخرزيانيّ، وفي تدريس المالكية شمس الدين محمد بن البساطيّ، وفي تدريس الحنابلة فتح الدين أبا الفتح محمد بن نجم الدين محمد بن الباهليّ، وفي تدريس الحديث النبويّ شهاب الدين أحمد بن عليّ بن حجر، وفي تدريس التفسير شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقينيّ. فكان يجلس من ذكرنا واحدا بعد واحد في كل يوم إلى أن كان آخرهم شيخ التفسير، وكان مسك الختام، وما منهم إلّا من يحضر معه ويلبسه ما يليق به من الملابس الفاخرة، وقرّر عند كلّ من المدرّسين الستة طائفة من الطلبة، وأجرى لكل واحد ثلاثة أرطال من الخبز في كل يوم، وثلاثين درهما فلوسا في كل شهر، وجعل لكل مدرّس ثلاثمائة درهم في كل شهر، ورتب بها إماما وقومة ومؤذنين وفرّاشين ومباشرين، وأكثر من وقف الدور عليها، وجعل فائض

وقفها مصروفا لذريته، فجاءت في أحسن هندام وأتم قالب وأفخر زيّ وأبدع نظام، إلّا أنها وما فيها من الآلات وما وقف عليها أخذ من الناس غصبا، وعمل فيها الصناع بأبخس أجرة مع العسف الشديد. فلما قبض عليه السلطان وقتله في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، واستولى على أمواله، حسّن جماعة للسلطان أن يهدم هذه المدرسة ورغبوه في رخامها، فإنه غاية في الحسن، وأن يسترجع أوقافها، فإن متحصلها كثير. فمال إلى ذلك وعزم عليه. فكرّه ذلك للسلطان الرئيس فتح الدين فتح الله كاتب السرّ، واستشنع أن يهدم بيت بني على اسم الله يعلن فيه بالأذان خمس مرّات في اليوم والليلة، وتقام به الصلوات الخمس في جماعة عديدة، ويحضره في عصر كل يوم مائة وبضعة عشر رجلا يقرءون القرآن في وقت التصوّف، ويذكرون الله ويدعونه، وتتحلق به الفقهاء لدرس تفسير القرآن الكريم وتفسير حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفقه الأئمة الأربعة، ويعلّم فيه أيتام المسلمين كتاب الله عز وجلّ، ويجري على هؤلاء المذكورين الأرزاق في كل يوم، ومن المال في كل شهر، ورأى أن إزالة مثل هذا وصمة في الدين، فتجرّد له وما زال بالسلطان يرغّبه في إبقائها على أن يزال منها اسم جمال الدين وتنسب إليه، فإنه من الفتن هدم مثلها. ونحو ذلك، حتّى رجع إلى قوله وفوّض أمرها إليه، فدبر ذلك أحسن تدبير. وهو أنّ موضع هذه المدرسة كان وقفا على بعض الترب، فاستبدل به جمال الدين أرضا من جملة أراضي الخراج بالجيزة، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم بصحة الاستبدال، وهدم البناء وبنى موضعه هذه المدرسة، وتسلّم متولي موضعها الأرض المستبدل بها، إلى أن قتل جمال الدين وأحيط بأمواله، فدخل فيما أحيط به هذه الأرض المستبدل بها، وادّعى السلطان أن جمال الدين افتأت عليه في أخذ هذه الأرض، وأنه لم يأذن في بيعها من بيت المال، فأفتى حينئذ محمد شمس الدين المدنيّ المالكيّ بأن بناء هذه المدرسة الذي وقفه جمال الدين على الأرض التي لم يملكها بوجه صحيح لا يصح، وأنه باق على ملكه إلى حين موته، فندب عند ذلك شهود القيمة إلى تقويم بناء المدرسة، فقوّموها باثني عشر ألف دينار ذهبا، وأثبتوا محضر القيمة على بعض القضاة، فحمل المبلغ إلى أولاد جمال الدين حتى تسلموه وباعوا بناء المدرسة للسلطان، ثم استردّ السلطان منهم المبلغ المذكور وأشهد عليه أنه وقف أرض هذه المدرسة بعد ما استبدل بها، وحكم حاكم حنفيّ بصحة الاستبدال، ثم وقف البناء الذي اشتراه وحكم بصحته أيضا، ثم استدعى بكتاب وقف جمال الدين ولخصه، ثم مزقه وجدّد كتاب وقف يتضمن جميع ما قرّره جمال الدين في كتاب وقفه من أرباب الوظائف ومالهم من الخبز في كل يوم ومن المعلوم في كل شهر، وأبطل ما كان لأولاد جمال الدين من فائض الوقف، وأفرد لهذه المدرسة مما كان جمال الدين جعله وقفا عليها عدّة مواضع تقوم بكفاية مصروفها، وزاد في أوقافها أرضا بالجيزة،

وجعل ما بقي من أوقاف جمال الدين على هذه المدرسة، بعضه وقفا على أولاده، وبعضه وقفا على التربة التي أنشأها في قبة أبيه الملك الظاهر برقوق خارج باب النصر، وحكم القضاة الأربعة بصحة هذا الكتاب بعد ما حكموا بصحة كتاب وقف جمال الدين، ثم حكموا ببطلانه، ثم لما تمّ ذلك محى من هذه المدرسة اسم جمال الدين ورنكه، وكتب اسم السلطان الملك الناصر فرج بدائر صحنها من أعلاه، وعلى قناديلها وبسطها وسقوفها، ثم نظر السلطان في كتبها العلمية الموقوفة بها فأقرّ منها جملة كتب بظاهر كل سفر منها فصل يتضمن وقف السلطان له، وحمل كثير من كتبها إلى قلعة الجبل، وصارت هذه المدرسة تعرف بالناصرية بعد ما كان يقال لها الجمالية. ولم تزل على ذلك حتى قتل الناصر وقدم الأمير شيخ إلى القاهرة واستولى على أمور الدولة، فتوصل شمس الدين محمد أخو جمال الدين وزوّج ابنته لشرف الدين أبي بكر بن العجميّ موقع الأستادار الأمير شيخ، حتى أحضر قضاة القضاة وحكم الصدر عليّ بن الأدميّ قاضي القضاة الحنفيّ بردّ أوقاف جمال الدين إلى ورثته من غير استيفاء الشروط في الحكم بل تهوّر فيه وجازف. ولذلك أسباب منها: عناية الأمير شيخ بجمال الدين الأستادار، فإنه لما انتقل إليه إقطاع الأمير بحاس بعد موت الملك الظاهر برقوق، استقرّ جمال الدين استاداره كما كان أستادار بحاس، فخدمه خدمة بالغة، وخرج الأمير شيخ إلى بلاد الشام واستقرّ في نيابة طرابلس، ثم في نيابة الشام، وخدمة جمال الدين له ولحاشيته ومن يلوذ به مستمرّة، وأرسل مرّة الأمير شيخ من دمشق بصدر الدين بن الأدميّ المذكور في الرسالة إلى الملك الناصر وجمال الدين حينئذ عزيز مصر، فأنزله وأكرمه وأنعم عليه وولاه قضاء الحنفية وكتابة السرّ بدمشق، وأعاده إليه وما زال معتنيا بأمور الأمير شيخ، حتى أنه اتهم بأنه قد مالأه على السلطان، فقبض عليه السلطان الملك الناصر بسبب ذلك ونكبه، فلما قتل الناصر واستولى الأمير شيخ على الأمور بديار مصر، ولى قضاء الحنفية بديار مصر لصدر الدين عليّ بن الأدميّ المذكور، وولى أستاداره بدر الدين حسن بن محب الدين الطرابلسيّ أستادار السلطان، فخدم شرف الدين أبو بكر بن العجميّ زوج ابنة أخي جمال الدين عنده موقعا، وتمكن منه فأغراه بفتح الدين فتح الله كاتب السرّ حتى أثخن جراحه عند الملك المؤيد شيخ، ونكبه بعد ما تسلطن، واستعان أيضا بقاضي القضاة صدر الدين بن الأدميّ، فإنه كان عشيره وصديقه من أيام جمال الدين، ثم استمال ناصر الدين محمد بن البارزيّ موقع الأمير الكبير شيخ، فقام الثلاثة مع شمس الدين أخي جمال الدين حتى أعيد إلى مشيخة خانكاه بيبرس وغيرها من الوظائف التي أخذت منه، عند ما قبض عليه الملك الناصر وعاقبه، وتحدّثوا مع الأمير الكبير في ردّ أوقاف جمال الدين إلى أخيه وأولاده، فإن الناصر غصبها منهم وأخذ أموالهم وديارهم بظلمه إلى أن فقدوا القوت، ونحو هذا من القول حتى حرّكوا منه حقدا كامنا على الناصر، وعلموا منه عصبته لجمال الدين هذا، وغرض القوم في الباطن

المدرسة الصرغتمشية

تأخير فتح الدين والإيقاع به، فإنه ثقل عليهم وجوده معهم، فأمر عند ذلك الأمير الكبير بعقد مجلس حضره قضاة القضاة والأمراء وأهل الدولة عنده بالحراقة من باب السلسلة، في يوم السبت تاسع عشري شهر رجب سنة خمس عشرة، وتقدّم أخو جمال الدين ليدّعي على فتح الدين فتح الله كاتب السرّ، وكان قد علم بذلك ووكل بدر الدين حسنا البردينيّ أحد نوّاب الشافعية في سماع الدعوى وردّ الأجوبة، فعند ما جلس البردينيّ للمحاكمة مع أخي جمال الدين، نهره الأمير الكبير وأقامه وأمر بأن يكون فتح الله هو الذي يدّعى عليه، فلم يجد بدّا من جلوسه، فما هو إلّا أن ادّعى عليه أخو جمال الدين بأنه وضع يده على مدرسة أخيه جمال الدين وأوقافه بغير طريق، فبادر قاضي القضاة صدر الدين عليّ بن الأدميّ الحنفيّ وحكم برفع يده وعود أوقاف جمال الدين ومدرسته إلى ما نص عليه جمال الدين، ونفذ بقية القضاة حكمه وانفضوا على ذلك، فاستولى أخو جمال الدين وصهره شرف الدين على حاصل كبير كان قد اجتمع بالمدرسة من فاضل ربعها ومن مال بعثه الملك الناصر إليها، وفرّقوه حتى كتبوا كتابا اخترعوه من عند أنفسهم جعلوه كتاب وقف المدرسة، زادوا فيه أن جمال الدين اشترط النظر على المدرسة لأخيه شمس الدين المذكور وذريته، إلى غير ذلك مما لفقوه بشهادة قوم استمالوهم فمالوا، ثم أثبتوا هذا الكتاب على قاضي القضاة صدر الدين بن الأدميّ، ونفذه بقية القضاة، فاستمرّ الأمر على هذا البهتان المختلق والإفك المفترى مدّة، ثم ثار بعض صوفية هذه المدرسة وأثبت محضرا بأن النظر لكاتب السرّ، فلما ثبت ذلك نزعت يد أخي جمال الدين عن التصرّف في المدرسة، وتولى نظرها ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السرّ، واستمر الأمر على هذا، فكانت قصة هذه المدرسة من أعجب ما سمه به في تناقض القضاة وحكمهم بإبطال ما صححوه، ثم حكمهم بتصحيح ما أبطلوه، كل ذلك ميلا مع الجاه وحرصا على بقاء رياستهم، ستكتب شهادتهم ويسألون. المدرسة الصرغتمشية هذه المدرسة خارج القاهرة بجوار جامع الأمير أبي العباس أحمد بن طولون، فيما بينه وبين قلعة الجبل، كان موضعها قديما من جملة قطائع ابن طولون، ثم صار عدّة مساكن، فأخذها الأمير سيف الدين صرغتمش الناصريّ رأس نوبة النوب وهدمها وابتدأ في بناء المدرسة يوم الخميس من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبعمائة، وانتهت في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، وقد جاءت من أبدع المباني وأجلها وأحسنها قالبا وأبهجها منظرا، فركب الأمير صرغتمش في يوم الثلاثاء تاسعه وحضر إليه الأمير سيف الدين شيخو العمريّ مدبر الدولة، والأمير طاشتمر القاسميّ حاجب الحجاب، والأمير توقتاي الدوادار، وعامّة أمراء الدولة، وقضاة القضاة الأربعة، ومشايخ العلم، ورتب مدرّس الفقه بها قوام الدين أمير كاتب بن أمير عمر العميد بن العميد أمير غازي الاتقانيّ، فألقى القوام الدرس، ثم مدّ سماط جليل بالهمة الملوكية، وملئت البركة التي بها سكّرا قد أذيب بالماء،

فأكل الناس وشربوا وأبيح ما بقي من ذلك للعامّة فانتهبوه، وجعل الأمير صرغتمش هذه المدرسة وقفا على الفقهاء الحنفية الآفاقية، ورتب بها درسا للحديث النبويّ، وأجرى لهم جميعا المعاليم من وقف رتّبه لهم، وقال أدباء العصر فيها شعرا كثيرا. فقال العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفيّ: ليهنك يا صرغتمش ما بنيته ... لآخراك في دنياك من حسن بنيان به يزدهي الترخيم كالزهر بهجة ... فلله من زهر ولله من باني وخلع في هذا اليوم على القوام خلعة سنية وأركبه بغلة رائعة، وأجازه بعشرة آلاف درهم على أبيات مدحه بها في غاية السماجة وهي: أرأيتم من حاز الرتبا ... وأتى قربا ونفى ريبا فبدا علما وسما كرما ... وما قدما ولقد غلبا بتقى وهدى وندا وجدا ... فعدا وسدى وجبى وحبا بدى سننا أحيى سننا ... حلّى زمنا عند الأدبا هذا صرغتمش قد سكبت ... أيام إمارته السحبا وأزال الجدب إلى خصب ... والضنك إلى رغد قلبا بإعانة جبّار ربي ... ذي العرش وقد بذل النشبا ملك فطن ركن لسن ... حسن بسن ربى الأدبا لك الكبرا ملك الأمرا ... ملك العلما ملك الأدبا بحر طام غيث هام ... قد رسام حامى الغربا ببشاشته وسماحته ... وحماسته جلّى الكربا وديانته وصيانته ... وأمانته حاز الرتبا أبهى أصلا أسنى نسلا ... أعطى فضلا مأوى الغربا نعم المأوى مصر لمّا ... شملت قوما نبلا نجبا فنمت نورا وسمت نورا ... وعلت دورا وأرت طربا نسقت دررا وسقت دررا ... ودعت غررا وحوت أدبا وخطابته افتخرت وعلت ... وسمت وزرت وحوت أدبا جدّد درسا ثم اجن جنّى ... منها ومنى فمعى طلبا من نازعني نسبي علنا ... فاراب لنا نعمت نسبا كنون أبا لحنفية ث ... مّ قوام الدين بدا لقبا عش في رحب لترى عجبا ... من منتجب عجب عجبا صرغتمش: الناصريّ الأمير سيف الدين رأس نوبة، جلبه الخواجا الصوّاف في سنة

ذكر المارستانات

سبع وثلاثين وسبعمائة، فاشتراه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بمائتي ألف درهم فضة، ثمنها يومئذ نحو أربعة آلاف مثقال ذهبا، وخلع على الخواجا تشريفا كاملا بحياصة ذهب، وكتب له توقيعا بمسامحة مائة ألف درهم من متجره، فلم يعبأ به السلطان، وصار في أيامه من جملة الجمدارية، وحكي عن القاضي شرف الدين عبد الوهاب ناظر الخاص أنّ السلطان أنعم على صرغتمس هذا بعشر طاقات أديم طائفيّ، فلما جاء إلى النشو تردّد إليه مرارا حتى دفعها إليه، ولم يزل خامل الذكر إلى أن كانت أيام المظفر حاجي بن محمد بن قلاون، فبعثه مسفرا مع الأمير فخر الدين إياز السلاح دار لما استقرّ في نيابة حلب، فلما عاد من حلب ترقى في الخدمة وتمكن عند المظفر وتوجه في خدمة الصالح بن محمد بن قلاون إلى دمشق في نوبة يلبغاروس، وصار السلطان يرجع إلى رأيه، فلما عاد من دمشق أمسك الوزير علم الدين عبد الله بن زنبور بغير أمر السلطان وأخذ أمواله، وعارض في أمره الأمير شيخو والأمير طاز، ومن حينئذ عظم ولم يزل حتى خلع السلطان الملك الصالح وأعيد الناصر حسن بن محمد بن قلاون، فلما أخرج الأمير شيخو انفرد صرغتمش بتدبير أمور المملكة وفخم قدره ونفذت كلمته، فعزل قضاة مصر والشام وغيّر النوّاب بالمماليك، والسلطان يحقد عليه إلى أن أمسكه في العشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين، وقبض معه على الأمير طشتمر القاسميّ حاجب الحجاب، والأمير ملكتمر المحمديّ وجماعة وحملهم إلى الإسكندرية فسجنوا بها، وبها مات صرغتمش بعد شهرين واثني عشر يوما من سجنه في ذي الحجة سنة تسع وخمسين وسبعمائة. وكان مليح الصورة جميل الهيئة، يقرأ القرآن الكريم ويشارك في الفقه على مذهب الحنفية، ويبالغ في التعصب لمذهبه، ويقرّب العجم ويكرمهم ويجلهم إجلالا زائدا، ويشدو طرفا من النحو، وكانت أخلاقه شرسة ونفسه قوية، فإذا بحث في الفقه أو اللغة اشتط، ولما تحدّث في الأوقاف وفي البريد خاف الناس منه، فلم يكن أحد يركب خيل البريد إلّا بمرسومه، ومنع كل من يركب البريد أن يحمل معه قماشا ودراهم على خيل البريد، واشتدّ في أمر الأوقاف فعمرت في مباشرته، ولما قبض عليه أخذ السلطان أمواله وكانت شيئا كثيرا يكلّ عنه الوصف. ذكر المارستانات قال الجوهريّ في الصحاح: والمارستان بيت المرضى، معرّب عن ابن السكيت، وذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه في كتاب أخبار مصر: أن الملك مناقيوش بن أشمون أحد ملوك القبط الأول بأرض مصر، أوّل من عمل البيمارستانات لعلاج المرضى، وأودعها العقاقير ورتب فيها الأطباء وأجرى عليهم ما يسعهم، ومناقيوش هذا هو الذي بنى مدينة أخميم، وبنى مدينة سنتريه. وقال زاهد العلماء أبو سعيد منصور بن عيسى: أوّل من اخترع المارستان وأوجده بقراط بن أبو قليدس، وذلك أنه عمل بالقرب من داره في موضع من بستان كان له، موضعا مفردا للمرضى، وجعل فيه خدما يقومون بمداواتهم وسماه

مارستان ابن طولون

اصدولين، أي مجمع المرضى، وأوّل من بنى المارستان في الإسلام ودار المرضى الوليد بن عبد الملك، وهو أيضا أوّل من عمل دار الضيافة، وذلك في سنة ثمان وثمانين، وجعل في المارستان الأطباء وأجرى لهم الأرزاق، وأمر بحبس المجذمين لئلا يخرجوا، وأجرى عليهم، وعلى العميان الأرزاق. وقال جامع السيرة الطولونية: وقد ذكر بناء جامع ابن طولون وعمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب، فيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة. مارستان ابن طولون هذا المارستان موضعه الآن في أرض العسكر، وهي الكيمان والصحراء التي فيما بين جامع ابن طولون وكوم الجارح، وفيما بين قنطرة السدّ التي على الخليج ظاهر مدينة مصر، وبين السور الذي يفصل بين القرافة وبين مصر. وقد دثر هذا المارستان في جملة ما دثر ولم يبق له أثر. وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب الأمراء: وأمر أحمد بن طولون أيضا ببناء المارستان للمرضى، فبني لهم في سنة تسع وخمسين ومائتين. وقال جامع السيرة الطولونية: وفي سنة إحدى وستين ومائتين بنى أحمد بن طولون المارستان، ولم يكن قبل ذلك بمصر مارستان، ولما فرغ منه حبس عليه دار الديوان ودوره في الأساكفة والقيسارية وسوق الرقيق، وشرط في المارستان أن لا يعالج فيه جنديّ ولا مملوك، وعمل حمّامين للمارستان، إحداهما للرجال والأخرى للنساء، حبسهما على المارستان وغيره، وشرط أنه إذا جيء بالعليل تنزع ثيابه ونفقته وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابا ويفرش له ويغدى عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، فإذا أكل فرّوجا ورغيفا أمر بالانصراف وأعطي ماله وثيابه، وفي سنة اثنتين وستين ومائتين كان ما حبسه على المارستان والعين والمسجد في الجبل الذي يسمى بتنور فرعون، وكان الذي أنفق على المارستان ومستغله ستين ألف دينار، وكان يركب بنفسه في كل يوم جمعة ويتفقد خزائن المارستان وما فيها والأطباء، وينظر إلى المرضى وسائر الأعلّاء والمحبوسين من المجانين، فدخل مرّة حتى وقف بالمجانين، فناداه واحد منهم مغلول: أيّها الأمير اسمع كلامي، ما أنا بمجنون، وإنما عملت عليّ حيلة، وفي نفسي شهوة رمانة عريشية أكبر ما يكون، فأمر له بها من ساعته، ففرح بها وهزها في يده ورازها ثم غافل أحمد بن طولون ورمى بها في صدره، فنضحت على ثيابه، ولو تمكنت منه لأتت على صدره، فأمرهم أن يحتفظوا به، ثم لم يعاود بعد ذلك النظر في المارستان. مارستان كافور هذا المارستان بناه كافور الإخشيديّ، وهو قائم بتدبير دولة الأمير أبي القاسم أنوجور بن محمد الإخشيد بمدينة مصر في سنة ست وأربعين وثلاثمائة.

مارستان المغافر

مارستان المغافر هذا المارستان كان في خطة المغافر التي موضعها ما بين العامر من مدينة مصر وبين مصلّى خولان التي بالقرافة، بناه الفتح بن خاقان في أيام أمير المؤمنين المتوكل على الله، وقد باد أثره. المارستان الكبير المنصوريّ هذا المارستان بخط بين القصرين من القاهرة، كان قاعة ست الملك ابنة العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معدّ، ثم عرف بدار الأمير فخر الدين جهاركس بعد زوال الدولة الفاطمية، وبدار موسك، ثم عرف بالملك المفضل قطب الدين أحمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وصار يقال لها لدار القطبية، ولم تزل بيد ذريته إلى أن أخذها الملك المنصور قلاون الألفيّ الصالحيّ من مؤنسة خاتون ابنة الملك العادل المعروفة بالقطبية، وعوّضت عن ذلك قصر الزمرّد برحبة باب العيد في ثامن عشري ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وستمائة، بسفارة الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ مدبر الممالك، ورسم بعمارتها مارستانا وقبة ومدرسة، فتولى الشجاعيّ أمر العمارة، وأظهر من الاهتمام والاحتفال ما لم يسمع بمثله حتى تم الغرض في أسرع مدّة، وهي أحد عشر شهرا وأيام، وكان ذرع هذه الدار عشرة آلاف وستمائة ذراع وخلفت ست الملك بها ثمانية آلاف جارية وذخائر جليلة، منها قطعة ياقوت أحمر زنتها عشرة مثاقيل، وكان الشروع في بنائها مارستانا أوّل ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وكان سبب بنائه أنّ الملك المنصور لما توجه وهو أمير إلى غزاة الروم في أيام الظاهر بيبرس سنة خمس وسبعين وستمائة، أصابه بدمشق قولنج عظيم، فعالجه الأطباء بأدوية أخذت له من مارستان نور الدين الشهيد فبرأ، وركب حتى شاهد المارستان فأعجب به، ونذران آتاه الله الملك أن يبني مارستانا، فلما تسلطن أخذ في عمل ذلك فوقع الاختيار على الدار القطبية، وعوّض أهلها عنها قصر الزمرّذ، وولى الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ أمر عمارته، فأبقى القاعة على حالها وعملها مارستانا، وهي ذات إيوانات أربعة، بكلّ إيوان شاذروان، وبدور قاعتها فقية يصير إليها من الشاذروانات الماء، واتفق أن بعض الفعلة كان يحفر في أساس المدرسة المنصورية فوجد حق اشنان من نحاس، ووجد رفيقه قمقما نحاسا مختوما برصاص، فأحضرا ذلك إلى الشجاعيّ، فإذا في الحق فصوص ماس وياقوت وبلخش ولؤلؤ ناصع يدهش الأبصار، ووجد في القمقم ذهبا، كان جملة ذلك نظير ما غرم على العمارة، فحمله إلى أسعد الدين كوهيا الناصريّ العدل، فرفعه إلى السلطان. ولما نجزت العمارة وقف عليها الملك المنصور من الأسلاك بديار مصر وغيرها ما يقارب ألف

ألف درهم في كلّ سنة، ورتب مصارف المارستان والقبة والمدرسة ومكتب الأيتام، ثم استدعى قدحا من شراب المارستان وشربه وقال: قد وقفت هذا على مثلي فمن دوني، وجعلته وقفا على الملك والمملوك والجنديّ والأمير والكبير والصغير والحرّ والعبد الذكور والإناث، ورتب فيه العقاقير والأطباء وسائر ما يحتاج إليه من به مرض من الأمراض، وجعل السلطان فيه فرّاشين من الرجال والنساء لخدمة المرضى، وقرّر لهم المعاليم، ونصب الأسرّة للمرضى وفرشها بجميع الفرش المحتاج إليها في المرض، وأفرد لكل طائفة من المرضى موضعا، فجعل أواوين المارستان الأربعة للمرضى بالحميات ونحوها، وأفرد قاعة للرمدى، وقاعة للجرحى، وقاعة لمن به إسهال، وقاعة للنساء، ومكانا للمبرودين ينقسم بقسمين قسم للرجال وقسم للنساء، وجعل الماء يجري في جميع هذه الأماكن، وأفرد مكانا لطبخ الطغام والأدوية والأشربة، ومكانا لتركيب المعاجين والأكحال والشيافات ونحوها، ومواضع يخزن فيها الحواصل، وجعل مكانا يفرق فيه الأشربة والأدوية، ومكانا يجلس فيه رئيس اطباء لإلقاء درس طب، ولم يحص عدّة المرضى بل جعله سبيلا لكل من يرد عليه من غنيّ وفقير، ولا حدّد مدّة لإقامة المريض به، بل يرتب منه لمن هو مريض بداره سائر ما يحتاج إليه، ووكل الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ أمير جندار في وقف ما عينه من المواضع، وترتيب أرباب الوظائف وغيرهم، وجعل النظر لنفسه أيام حياته، ثم من بعده لأولاده، ثم من بعدهم لحاكم المسلمين الشافعيّ، فضمن وقفه كتابا تاريخه يوم الثلاثاء ثالث عشري صفر سنة ثمانين وستمائة، ولما قرىء عليه كتاب الوقف قال للشجاعيّ: ما رأيت خط الأسعد كاتبي مع خطوط القضاة، أبصر إيش فيه زغل حتى ما كتب عليه، فما زال يقرّب لذهنه أن هذا مما لا يكتب عليه إلّا قضاة الإسلام حتى فهم ذلك، فبلغ مصروف الشراب منه في كل يوم خمسمائة رطل سوى السكّر، ورتب فيه عدّة ما بين أمين ومباشر، وجعل مباشرين للإدارة، وهم الذين يضبطون ما يشترى من أوصناف، وما يحضر منها إلى المارستان، ومباشرين لاستخراج مال الوقف، ومباشرين في المطبخ، ومباشرين في عمارة الأوقاف التي تتعلق به، وقرّر في القبة خمسين مقرئا يتناوبون قراءة القرآن ليلا ونهارا، ورتب بها إماما راتبا، وجعل بها رئيسا للمؤذنين عند ما يؤذنون فوق منارة ليس في إقليم مصر أجلّ منها، ورتب بهذه القبة درسا لتفسير القرآن فيه مدرّس ومعيدان وثلاثون طالبا، ودرس حديث نبويّ، وجعل بها خزانة كتب وستة خدّام طواشية لا يزالون بها، ورتب بالمدرسة إماما راتبا ومتصدّرا لإقراء القرآن، ودروسا أربعة للفقه على المذاهب الأربعة، ورتب بمكتب السبيل معلمين يقرءان الأيتام، ورتب للأيتام رطلين من الخبز في كلّ يوم لكلّ يتيم، مع كسوة الشتاء والصيف. فلما ولي الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك نظر المارستان، أنشأ به قاعة للمرضى، ونحت الحجارة المبنيّ بها الجدر كلها حتى صارت كأنها جديدة، وجدّد تذهيب

الطراز بظاهر المدرسة والقبة، وعمل خمية تظل الأقفاص طولها مائة ذراع، قام بذلك من ماله دون مال الوقف، ونقل أيضا حوض ماء كان برسم شرب البهائم من جانب باب المارستان وأبطله لتاذي الناس بنتن رائحة ما يجتمع قدّامه من الأوساخ، وأنشأ سبيل ماء يشرب منه الناس عوض الحوض المذكور، وقد تورّع طائفة من أهل الديانة عن الصلاة في المدرسة المنصورية والقبة، وعابوا المارستان لكثرة عسف الناس في عمله، وذلك أنه لما وقع اختيار السلطان على عمل الدار القطبية مارستانا ندب الطواشي حسام الدين بلالا المغيثيّ للكلام في شرائها، فساس الأمر في ذلك حتى أنعمت مؤنسة خاتون ببيعها على أن تعوّض عنها بدار تلمها وعيالها، فعوّضت قصر الزمرّذ برحبة باب العيد مع مبلغ مال حمل إليها، ووقع البيع على هذا، فندب السلطان الأمير سنجر الشجاعيّ للعمارة، فأخرج النساء من القطبية من غير مهلة، وأخذ ثلاثمائة أسير وجمع صناع القاهرة ومصر وتقدّم إليهم بأن يعملوا بأجمعهم في الدار القطبية، ومنعهم أن يعملوا لأحد في المدينتين شغلا، وشدّد عليهم في ذلك، وكان مهابا، فلازموا العمل عنده، ونقل من قلعة الروضة ما احتاج إليه من العمد الصوّان والعمد الرخام والقواعد والأعتاب والرخام البديع وغير ذلك، وصار يركب إليها كلّ يوم وينقل الأنقاض المذكورة على العجل إلى المارستان، ويعود إلى المارستان فيقف مع الصناع على الأساقيل حتى لا يتوانوا في عملهم، وأوقف مماليكه بين القصرين، فكان إذا مرّ أحد ولو جلّ ألزموه أن يرفع حجرا ويلقيه في موضع العمارة، فينزل الجنديّ والرئيس عن فرسه حتى يفعل ذلك، فترك أكثر الناس المرور من هناك، ورتبوا بعد الفراغ من العمارة، وترتيب الوقف فتيا صورتها ما يقول أئمة الدين في موضع أخرج أهله منه كرها، وعمر بمستحثين يعسفون الصناع، وأخرب ما عمره الغير ونقل إليه ما كان فيه فعمر به، هل تجوز الصلاة فيه أم لا، فكتب جماعة من الفقهاء لا تجوز فيه الصلاة، فما زال المجد عيسى بن الخشاب حتى أوقف الشجاعيّ على ذلك، فشق عليه، وجمع القضاة ومشايخ العلم بالمدرسة المنصورية وأعلمهم بالفتيا فلم يجبه أحد منهم بشيء سوى الشيخ محمد المرجانيّ فإنه قال: أنا أفتيت بمنع الصلاة فيها، وأقول الآن أنه يكره الدخول من بابها، ونهض قائما فانفض الناس. واتفق أيضا أن الشجاعيّ ما زال بالشيخ محمد المرجانيّ، يلح في سؤاله أن يعمل ميعاد وعظ بالمدرسة المنصورية حتى أجاب بعد تمنع شديد، فحضر الشجاعيّ والقضاة، وأخذ المرجانيّ في ذكر ولاة الأمور من الملوك والأمراء والقضاة، وذمّ من يأخذ الأراضي غصبا، ويستحث العمال في عمائره وينقص من أجورهم وختم بقوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا [الفرقان/ 27] وقام، فسأله الشجاعيّ الدعاء له فقال: يا علم الدين قد دعا لك ودعا عليك من هو خير مني، وذكر قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ من ولى من أمر أمّتي

المارستان المؤيدي

شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شق عليهم فاشقق عليه» وانصرف. فصار الشجاعيّ: من ذلك في قلق، وطلب الشيخ تقيّ الدين محمد بن دقيق العيد وكان له فيه اعتقاد حسن وفاوضه في حديث الناس في منع الصلاة في المدرسة، وذكر له أن السلطان إنما أراد محاكاة نور الدين الشهيد والاقتداء به لرغبته في عمل الخير، فوقع الناس في القدح فيه، ولم يقدحوا في نور الدين. فقال له: إن نور الدين أسر بعض ملوك الفرنج وقصد قتله، ففدى نفسه بتسليم خمسة قلاع وخمسمائة ألف دينار حتى أطلقه، فمات في طريقه قبل وصوله مملكته، وعمر نور الدين بذلك المال مارستانه بدمشق من غير مستحث، فمن أين يا علم الدين تجد مالا مثل هذا المال وسلطانا مثل نور الدين، غير أن السلطان له نيته، وأرجو له الخير بعمارة هذا الموضع، وأنت إن كان وقوفك في عمله بنية نفع الناس فلك الأجر، وإن كان لأجل أن يعلم أستاذك علوّ همتك فما حصلت على شيء. فقال الشجاعيّ: الله المطلع على النيات، وقرّر ابن دقيق العيد في تدريس القبة. قال مؤلفه: إن كان التحرّج من الصلاة لأجل أخذ الدار القطبية من أهلها بغير رضاهم وإخراجهم منها بعسف واستعمال أنقاض القلعة بالروضة، فلعمري ما تملك بني أيوب الدار القطبية وبناؤهم قلعة الروضة وإخراجهم أهل القصور من قصورهم التي كانت بالقاهرة وإخراج سكان الروضة من مساكنهم، إلّا كأخذ قلاون الدار المذكورة وبنائها بما هدمه من القلعة المذكورة وإخراج مؤنسة وعيالها من الدار القطبية، وأنت إن أمعنت النظر وعرفت ما جرى تبين لك أن ما القوم إلّا سارق من سارق، وغاصب من غاصب، وإن كان التحرّج من الصلاة لأجل عسف العمال وتسخير الرجال، فشيء آخر بالله عرّفني، فإني غير عارف من منهم لم يسلك في أعماله هذا السبيل، غير أن بعضهم أظلم من بعض، وقد مدح غير واحد من الشعراء هذه العمارة، منهم شرف الدين البوصيريّ فقال: ومدرسة ود الخورنق أنّه ... لديها خطير والسدير غدير مدينة علم والمدارس حولها ... قرى أو نجوم بدر هنّ منير تبدّت فأخفى الظاهرية نورها ... وليس يظهر للنجوم ظهور بناء كأنّ النحل هندس شكله ... ولانت له كالشمع فيه صخور بناها سعيد في بقاع سعيدة ... بها سعدت قبل المدارس نور ومن حيثما وجّهت وجهك نحوها ... تلقّتك منها نضرة وسرور إذا قام يدعو الله فيها مؤذن ... فما هو إلّا للنجوم سمير المارستان المؤيدي هذا المارستان فوق الصوّة تجاه طبلخاناه قلعة الجبل، حيث كانت مدرسة الأشرف

ذكر المساجد

شعبان بن حسين التي هدمها الناصر فرج بن برقوق، وبابه هو حيث كان باب المدرسة، إلّا أنه ضيق عما كان، أنشأه المؤيد شيخ في مدّة أوّلها جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وآخرها رجب سنة ثلاث وعشرين، ونزل فيه المرضى في نصف شعبان، وعملت مصارفه من جملة أوقاف الجامع المؤيديّ المجاور لباب زويلة، فلما مات الملك المؤيد في ثامن المحرّم سنة أربع وعشرين تعطل قليلا، ثم سكنه طائفة من العجم المستجدّين في ربيع الأوّل منها، وصار منزلا للرسل الواردين من البلاد إلى السلطان، ثم عمل فيه منبر ورتب له خطيب وإمام ومؤذنون وبوّاب وقومة، وأقيمت به الجمعة في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة، فاستمرّ جامعا تصرف معاليم أرباب وظائفه المذكورين من وقف الجامع المؤيدي. ذكر المساجد قال ابن سيده: المسجد الموضع الذي يسجد فيه. وقال الزجاج: كلّ موضع يتعبد فيه فهو مسجد، ألا ترى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» وقوله عز وجلّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة/ 114] المعنى على هذا المذهب أنه من أظلم ممن خالف قبلة الإسلام، وقد كان حكمه أن لا يجيء على مفعل، لأن حق اسم المكان والمصدر من فعل يفعل أن يجيء على مفعل، ولكنه أحد الحروف التي شذت فجاءت على مفعل. قال سيبويه: وأما المسجد فإنهم جعلوه اسما للبيت، ولم يأت على فعل يفعل، كما قال في المدق: أنه اسم للجود، يعني أنه ليس على الفعل، ولو كان على الفعل لقيل مدق لأنه آلة والآلات تجىء على مفعل كمخزن ومكنس ومكسح، والمسجدة الجمرة المسجود عليها، وقوله تعالى وإن المساجد لله، قيل هي مواضع السجود من الإنسان، الجبهة واليدان والركبتان والرجلان. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ في كتاب النقط على الخطط عن القاضي أبي عبد الله القضاعيّ: أنه كان في مصر الفسطاط من المساجد ستة وثلاثون ألف مسجد. وقال المسبحيّ في حوادث سنة ثلاث وأربعمائة: وأحصى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله المساجد التي لا غلة لها فكانت ثمانمائة مسجد، فأطلق لها في كلّ شهر من بيت المال تسعة آلاف ومائتين وعشرين درهما، وفي سنة خمس وأربعمائة حبس الحاكم بأمر الله سبع ضياع منها، اطفيح وطوخ على القرّاء. والمؤذنين بالجوامع، وعلى ملء المصانع والمارستان، وفي ثمن الأكفان. وذكر ابن المتوّج أن عدّة المساجد بمصر في زمنه أربعمائة وثمانون مسجدا ذكرها.

المسجد بجوار دير البعل

المسجد بجوار دير البعل قد تقدّم «1» في أخبار الكنائس والديارات من هذا الكتاب خبر دير البعل، وأنه يعرف بدير الفطير، ولما كان في سنة خمس وسبعين وستمائة خرج جماعة من المسلمين إلى دير البعل فرأوا آثار محاريب بجوار الدير فعرّفوا الصاحب بهاء الدين بن حنا ذلك، فسير المهندسين لكشف ما ذكر، فعادوا إليه وأخبروه أنه آثار مسجد، فشاور الملك الظاهر بيبرس وعمره مسجدا بجانب الدير، وهو عامر إلى الآن، وبتّ به وهو من أحسن مشترقات مصر، وله وقف جيد ومرتب يقوم به نصارى الدير. مسجد ابن الجباس هذا المسجد خارج باب زويلة بالقرب من مصلّى الأموات دون باب اليانسية، عرف بالشيخ أبي عبد الله محمد بن عليّ بن أحمد بن محمد بن جوشن المعروف بابن الجباس بجيم وباء موحدة بعدها ألف وسين مهملة- القرشيّ العقيليّ الفقيه الشافعيّ المقرئ، كان فاضلا صالحا زاهدا عابدا مقرئا، كتب بخطه كثيرا وسمع الحديث النبويّ، ومولده يوم السبت سابع عشر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وستمائة بالقاهرة، ووفاته ... «2» مسجد ابن البناء هذا المسجد داخل باب زويلة، وتسميه العوامّ سام بن نوح النبيّ عليه السّلام، وهو من مختلفاتهم التي لا أصل لها، وإنما يعرف بمسجد ابن البناء، وسام بن نوح لعله لم يدخل أرض مصر البتة، فإن الله سبحانه وتعالى لما نجّى نبيه نوحا من الطوفان خرج معه من السفينة أولاده الثلاثة، وهم سام وحام ويافث، ومن هذه الثلاثة ذرأ الله سائر بني آدم كما قال تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات/ 77] فقسم نوح الأرض بين أولاده الثلاثة، فصار لسام بن نوح العراق وفارس إلى الهند ثم إلى حضر موت وعمان والبحرين وعالج ويبرين والدوووبار والدهناء وسائر أرض اليمن والحجاز، ومن نسله الفرس والسريانيون والعبرانيون والعرب والنبط والعماليق. وصار لحام بن نوح الجنوب مما يلي أرض مصر مغرّبا إلى المغرب الأقصى، ومن نسله الحبشة والزنج والقبط سكان مصر وأهل النوبة والأفارقة أهل إفريقية وأجناس البربر، وصار ليافث بن نوح بحر الخرز مشرّقا إلى الصين، ومن نسله الصقالبة والفرنج والروم والغوط وأهل الصين واليونانيون والترك.

مسجد الحلبيين

وقد بلغني أن هذا المسجد كان كنيسة لليهود القرّايين تعرف بسام بن نوح، وأن الحاكم بأمر الله أخذ هذه الكنيسة لما هدم الكنائس وجعلها مسجدا، وتزعم اليهود القرّايون الآن بمصر أن سام بن نوح مدفون هنا، وهم إلى الآن يحلفون من أسلم منهم بهذا المسجد. أخبرني به قاضي اليهود إبراهيم بن فرج الله بن عبد الكافي الداوديّ العانانيّ، وليس هذا بأوّل شيء اختلقته العامّة. وابن البناء: هذا هو محمد بن عمر بن أحمد بن جامع بن البناء أبو عبد الله الشافعيّ المقرئ، سمع من القاضي مجلي، وأبي عبد الله الكيزانيّ وغيره، وحدّث وأقرأ القرآن، وانتفع به جماعة. وهو منقطع بهذا المسجد، وكان يعرف خطه بخط بين البابين، ثم عرف بخط الأقفاليين، ثم هو الآن يعرف بخط الضبيين وباب القوس. ومات ابن البناء هذا في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، واتفق لي عند هذا المسجد أمر عجيب، وهو أني مررت من هناك يوما أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، والقاهرة يومئذ لا يمرّ الإنسان بشارعها حتى يلقى عناء من شدّة ازدحام الناس لكثرة مرورهم ركبانا ومشاة، فعند ما حاذيت أوّل هذا المسجد إذا برجل يمشي أمامي وهو يقول لرفيقه: والله يا أخي ما مررت بهذا المكان قط إلّا وانقطع نعلي، فو الله ما فرغ من كلامه حتى وطئ شخص من كثرة الزحام على مؤخر نعله وقد مدّ رجله ليخطو فانقطع تجاه باب المسجد، فكان هذا من عجائب الأمور وغرائب الاتفاق. مسجد الحلبيين هذا المسجد فيما بين باب الزهومة ودرب شمس الدولة، على يسرة من سلك من حمّام خشيبة طالبا البندقانيين. بني على المكان الذي قتل فيه الخليفة الظاهر نصر بن عباس الوزير ودفنه تحت الأرض، فلما قدم طلائع بن رزيك من الأشمونين إلى القاهرة باستدعاء أهل القصر له ليأخذ بثار الخليفة، وغلب على الوزارة، استخرج الظافر من هذا الموضع ونقله إلى تربة الصر وبنى موضعه هذا المسجد وسماه المشهد، وعمل له بابين أحدهما هذا الباب الموجود، والباب الثاني كان يتوصل منه إلى دار المأمون البطائحيّ التي هي اليوم مدرسة تعرف بالسيوفية. وقد سدّ هذا الباب، وما برح هذا المسجد يعرف بالمشهد إلى أن انقطع فيه محمد بن أبي الفضل بن سلطان بن عمار بن تمام أبو عبد الله الحلبيّ الجعبريّ المعروف بالخطيب، وكان صالحا كثير العبادة زاهدا منقطعا عن الناس، ورعا وسمع الحديث وحدّث، وكان مولده في شهر رجب سنة أربع وعشرين وستمائة بقلعة جعبر، ووفاته بهذا المسجد، وقد طالت إقامته فيه يوم الاثنين سادس عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، ودفن بمقابر باب النصر رحمه الله، وهذا المسجد من أحسن مساجد القاهرة وأبهجها.

مسجد الكافوري

مسجد الكافوريّ هذا المسجد كان في البستان الكافوريّ من القاهرة بناه الوزير المأمون أبو عبد الله محمد بن فاتك البطائحيّ، في سنة ست عشرة وخمسمائة، وتولى عمارته وكيله أبو البركات محمد بن عثمان، وكتب اسمه عليه، وهو باق إلى اليوم بخط الكافوريّ، ويعرف هناك بمسجد الخلفاء، وفيه نخل وشجر وهو مرخم برخام حسن. مسجد رشيد هذا المسجد خارج باب زويلة بخط تحت الربع على يسرة من سلك من دار التفاح يريد قنطرة الخرق، بناه رشيد الدين البهائيّ. المسجد المعروف بزرع النوى هذا المسجد خارج باب زويلة بخط سوق الطيور، على يسرة من سلك من رأس المنجبية طالبا جامع قوصون والصليبة، وتزعم العامّة أنه بني على قبر رجل يعرف بزرع النوى، وهو من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهذا أيضا من افتراء العامّة الكذب، فإن الذين أفردوا أسماء الصحابة رضي الله عنهم كالإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريّ في تاريخه الكبير، وابن أبي خيثمة، والحافظ أبي عبد الله بن منذر، والحافظ أبي نعيم الأصفهانيّ، والحافظ أبي عمر بن عبد البرّ، والفقيه الحافظ أبي محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم، لم يذكر أحد منهم صحابيا يعرف بزرع النوى. وقد ذكر في أخبار القرافة من هذا الكتاب من قبر بمصر من الصحابة، وذكر في أخبار مدينة فسطاط مصر أيضا من دخل مصر من الصحابة، وليس هذا منهم، وهذا إن كان هناك قبر فهو لأمين الأمناء أبي عبد الله الحسين بن طاهر الوزان، وكان من أمره أن الخليفة الحاكم بأمر الله أبا عليّ منصور بن العزيز بالله خلع عليه للوساطة بينه وبين الناس، والتوقيع عن الحضرة في شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعمائة، وكان قبل ذلك يتولى بيت المال فاستخدم فيه أخاه أبا الفتح مسعودا، وكان قد ظفر بمال يكون عشرات وصياغات وأمتعة وطرائف وفرش وغير ذلك في عدّة آدر بمصر، وجميعه مما خلفه قائد القوّاد الحسين بن جوهر القائد، فباع المتاع وأضاف ثمنه إلى العين، فحصل منه مال كثير، وطالع الحاكم بأمر الله به أجمع لورثة قائد القوّاد، ولم يتعرّض منه لشيء، وكثرت صلات الحاكم وعطاؤه وتوقيعاته، فانطلق في ذلك فاتصل به عن أمين الأمناء بعض التوقف، فخرجت إليه رقعة بخطه في الثامن والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث وأربعمائة نسختها، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله كما هو أهله: أصبحت لا أرجو ولا أتقي ... إلّا إلهي وله الفضل

مسجد الذخيرة

جدّي نبيّ وإمامي أبي ... وديني الإخلاص والعدل ما عندكم ينفد وما عند الله باق، المال مال الله عز وجلّ، والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه في الأرض، أطلق أزراق الناس ولا تقطعها والسلام. ولم يزل على ذلك إلى أن بطل أمره في جمادى الآخرة من سنة خمس وأربعمائة، وذلك أنه ركب مع الحاكم على عادته، فلما حصل بحارة كتامة خارج القاهرة ضرب رقبته هناك ودفن في هذا الموضع تخمينا، واستحضر الحاكم جماعة الكتّاب بعد قتله وسأل رؤساء الدواوين عما يتولاه كل واحد منهم، وأمرهم بلزوم دواوينهم وتوفرهم على الخدمة، وكانت مدّة نظر ابن الوزان في الوساطة والتوقيع عن الحضرة، وهي رتبة الوزارة، سنتين وشهرين وعشرين يوما، وكان توقيعه عن الحضرة الإمامية الحمد لله وعليه توكلي. مسجد الذخيرة هذا المسجد تحت قلعة الجبل بأوّل الرميلة تجاه شبابيك مدرسة السلطان حسن بن محمد بن قلاون التي تلي بابها الكبير الذي سدّه الملك الظاهر برقوق، أنشأه ذخيرة الملك جعفر متولي الشرطة. قال ابن المأمون في تاريخه: في هذه السنة، يعني سنة ست عشرة وخمسمائة، استخدم ذخيرة الملك جعفر في ولاية القاهرة والحسبة بسجل أنشأه ابن الصيرفيّ، وجرى من عسفه وظلمه ما هو مشهور، وبنى المسجد الذي ما بين الباب الجديد إلى الجبل الذي هو به معروف، وسمّي مسجد لا بالله، بحكم أنه كان يقبض الناس من الطريق ويعسفهم، فيحلفونه ويقولون له لا بالله، فيقيدهم ويستعملهم فيه بغير أجرة، ولم يعمل فيه منذ أنشأه إلّا صانع مكره، أو فاعل مقيد، وكتبت عليه هذه الأبيات المشهورة: بنى مسجدا لله من غير حله ... وكانّ بحمد الله غير موفق كمطعمة الأيتام من كدّ فرجها ... لك الويل لا تزني ولا تتصدّقي وكان قد أبدع في عذاب الجناة وأهل الفساد، وخرج عن حكم الكتّاب فابتلى بالأمراض الخارجة عن المعتاد، ومات بعد ما عجل الله له ما قدّمه، وتجنب الناس تشييعه والصلاة عليه، وذكر عنه في حالتي غسله وحلوله بقبره ما يعيذ الله كلّ مسلم من مثله. وقال ابن عبد الظاهر: مسجد الذخيرة تحت قلعة الجبل، وذكر ما تقدّم عن ابن المأمون. مسجد رسلان هذا المسجد بحارة اليانسية، عرف بالشيخ الصالح رسلان لإقامته به، وقد حكيت عنه كرامات، ومات به في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وكان يتقوّت من أجرة خياطته للثياب، وابنه عبد الرحمن بن محمد بن رسلان أبو القاسم كان فقيها محدّثا مقرئا، مات في سنة سبع وعشرين وستمائة.

مسجد ابن الشيخي

مسجد ابن الشيخيّ هذا المسجد بخط الكافوريّ مما يلي باب القنطرة وجهة الخليج مجاور لدار ابن الشيخي، أنشأه المهتار ناصر الدين محمد بن علاء الدين عليّ الشيخيّ مهتار السلطان بالإصطبلات السلطانية، وقرّر فيه شيخنا تقيّ الدين محمد بن حاتم، فكان يعمل فيه ميعادا يجتمع الناس فيه لسماع وعظه، وكان ابن الشيخي هذا حشما فخورا خيّرا يحب أهل العلم والصلاح، ويكرمهم. ولم نر بعده في رتبته مثله، ومات ليلة الثلاثاء أوّل يوم من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة. مسجد يانس هذا المسجد كان تجاه باب سعادة خارج القاهرة. قال ابن المأمون في تاريخه: وكان الأجلّ المأمون يعني الوزير محمد بن فاتك البطائحيّ، قد ضم إليه عدّة من مماليك الأفضل بن أمير الجيوش، من جملتهم يانس، وجعله مقدّما على صبيان جلسه، وسلّم إليه بيت ماله، وميزه في رسومه. فلما رأى المذكور في ليلة النصف من شهر رجب، يعني سنة ست عشرة وخمسمائة، ما عمل في المسجد المستجدّ قبالة باب الخوخة من الهمة ووفور الصدقات وملازمة الصلوات، وما حصل فيه من المثوبات، كتب رقعة يسأل فيها أن يفسح له في بناء مسجد بظاهر باب سعادة، فلم يجبه المأمون إلى ذلك وقال له: ما ثم مانع من عمارة المساجد، وأرض الله واسعة، وإنما هذا الساحل فيه معونة للمسلمين وموردة للسقائين، وهو مرسى مراكب الغلة، والمضرّة في مضايقة المسلمين فيه منه، ولو لم يكن المسجد المستجدّ قبالة باب الخوخة محرسا لما استجدّ، حتى إنّا لم نخرج بساحته الأولى، فإن أردت أن تبني قبليّ مسجد الريفي أو على شاطيء الخليج فالطريق ثم سهلة. فقبّل الأرض وامتثل الأمر، فلما قبض على المأمون وأمّرّ الخليفة يانس المذكور ولم يزل ينقله إلى أن استخدمه في حجبة بابه، سأله في مثل ذلك فلم يجبه، إلى أن أخذ الوزارة فبناه في المكان المذكور. وكانت مدّته يسيرة، فتوفي قبل إتمامه وإكماله، فكمله أولاده بعد وفاته. انتهى. وقد تقدّم خبر وزارة أبي الفتح ناظر الجيوش يانس الأرمنيّ هذا عند ذكر الحارة اليانسية من هذا الكتاب. مسجد باب الخوخة هذا المسجد تجاه باب الخوخة بجوار مدرسة أبي غالب. قال ابن المأمون في تاريخه من حوادث سنة ست عشرة وخمسمائة: ولما سكن المأمون الأجلّ دار الذهب وما معها، يعني في أيام النيل للنزهة عند سكن الخليفة الآمر بأحكام الله بقصر اللؤلؤة المطل على الخليج، رأى قبالة باب الخوخة محرسا، فاستدعى وكيله وأمره بأن يزيل المحرس المذكور

المسجد المعروف بمعبد موسى

ويبني موضعه مسجدا، وكان الصناع يعملون فيه ليلا ونهارا، حتى أنه تفطر بعد ذلك واحتيج إلى تجديده. المسجد المعروف بمعبد موسى هذا المسجد بخط الركن المخلق من القاهرة تجاه باب الجامع الأقمر المجاور لحوض السبيل، وعلى يمنة من سلك من بين القصرين طالبا حبة باب العيد. أوّل من اختطه القائد جوهر عندما وضع القاهرة. قال ابن عبد الظاهر: ولما بنى القائد جوهر القصر دخل فيه دير العظام، وهو المكان المعروف الآن بالركن المخلق، قبالة حوض الجامع الأقمر، وقريب دير العظام، والمصريون يقولون بئر العظمة، فكره أن يكون في القصر دير فنقل العظام التي كانت به والرّمم إلى دير بناه في الخندق، لأنه كان يقال إنها كانت عظام جماعة من الحواريين، وبنى مكانها مسجدا من داخل السور، يعني سور القصر. وقال جامع سيرة الظاهر بيبرس: وفي ذي الحجة سنة ستين وستمائة ظهر بالمسجد الذي بالركن المخلق من القاهرة حجر مكتوب عليه. هذا معبد موسى بن عمران عليه السلام، فجدّدت عمارته وصار يعرف بمعبد موسى من حينئذ، ووقف عليه ربع بجانبه، وهو باق إلى وقتنا هذا. مسجد نجم الدين هذا المسجد ظاهر باب النصر، أنشأه الملك الأفضل نجم الدين أبو سعيد أيوب بن شادي يعقوب بن مروان الكرديّ، والد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعل إلى جانبه حوض ماء للسبيل ترده الدواب في سنة ست وستين وخمسمائة، ونجم الدين هذا قدم هو وأخوه أسد الدين شيركوه من بلاد الأكراد إلى بغداد، وخدم بها وترقى في الخدم حتى صار دزدارا بقلعة تكريت ومعه أخوه، ثم إنه انتقل عنها إلى خدمة الملك المنصور عماد الدين أتابك زنكي بالموصل، فخدمه حتى مات، فتعلق بخدمة ابنه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي فرقّاه وأعطاه بعلبك، وحج من دمشق سنة خمس وخمسمائة، فلما قدم ابنه صلاح الدين يوسف بن أيوب معه عمه أسد الدين شيركوه من عند نور الدين محمود إلى القاهرة، وصار إلى وزارة العاضد بعد موت شيركوه، قدم عليه أبوه نجم الدين في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وخمسمائة، وخرج العاضد إلى لقائه وأنزله بمناظر اللؤلؤة، فلما استبدّ صلاح الدين بسلطنة مصر بعد موت الخليفة العاضد أقطع أباه نجم الدين الإسكندرية البحيرة إلى أن مات بالقاهرة، في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثمان وستين وخمسمائة، وقيل في ثامن عشرة من سقطة عن ظهر فرسه خارج باب النصر، فحمل إلى داره فمات بعد أيام، وكان خيّرا جوادا متدينا محبا لأهل العلم والخير، وما مات حتى رأى

مسجد صواب

من أولاده عدّة ملوك، وصار يقال له أبو الملوك، ومدحه العماد الأصبهانيّ بعدّة قصائد، ورثاه الفقيه عمارة بقصيدته التي أوّلها: هي الصدمة الأولى فمن بان صبره ... على هول ملقاه تعاظم أمره مسجد صواب هذا المسجد خارج القاهرة بخط الصليبة، عرف بالطواشي شمس الدين صواب مقدّم المماليك السلطانية، ومات في ثامن رجب سنة اثنتين وأربعين وستمائة، ودفن به وكان خيرا دينا فيه صلاح. المسجد بجوار المشهد الحسينيّ هذا المسجد أنهيّ في مستهل شهر رجب سنة اثنتين وستين وستمائة، للملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وهو بدار العدل، أن مسجدا على باب مشهد السيد الحسين عليه السلام، وإلى جانبه مكان من حقوق القصر بيع وحمل ثمنه للديوان، وهو ستة آلاف درهم، فسأل السلطان عن صورة المسجد وهذا الموضع، وهل كل منهما بمفرده أو عليهما حائط دائر، فقيل له إن بينهما زرب قصب، فأمر بردّ المبلغ وأبقى الجميع مسجدا، وأمر بعمارة ذلك مسجدا لله تعالى. مسجد الفجل هذا المسجد بخط بين القصرين تجاه بيت البيسريّ، أصله من مساجد الخلفاء الفاطميين، أنشأه على ما هو عليه الآن الأمير بشتاك أخذ قصر أمير سلاح، ودار أقطوان الساقي، وأحد عشر مسجدا، وأربعة معابد كانت من عمارة الخلفاء وأدخلها في عمارته التي تعرف اليوم بقصر بشتاك، ولم يترك من المساجد والمعابد سوى هذا المسجد فقط، ويجلس فيه بعض نوّاب القضاة المالكية للحكم بين الناس، وتسميه العامّة مسجد الفجل، وتزعم أن النيل الأعظم كان يمرّ بهذا المكان، وأن الفجل كان يغسل موضع هذا المسجد فعرف بذلك، وهذا القول كذب لا أصل له، وقد تقدّم في هذا الكتاب ما كان عليه موضع القاهرة قبل بنائها، وما علمت أن النيل كان يمرّ هناك أبدا، وبلغني أنه عرف بمسجد الفجل من أجل أن الذي كان يقوم به كان يعرف بالفجل، والله أعلم. مسجد تبر هذا المسجد خارج القاهرة مما يلي الخندق، عرف قديما بالبئر، والجميزة، وعرف بمسجد تبر، وتسميه العامّة مسجد التبن وهو خطأ، وموضعه خارج القاهرة قريبا من

مسجد القطبية

المطرية. قال القضاعيّ: مسجد تبر بني على رأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أنفذه المنصور فسرقه أهل مصر ودفنوه هناك، وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة، ويعرف بمسجد البئر والجميزة. وقال الكنديّ في كتاب الأمراء: ثم قدمت الخطباء إلى مصر برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة، لينصبوه في المسجد الجامع، وقامت الخطباء فذكروا أمره. وتبر هذا أحد الأمراء الأكابر في أيام الأستاذ كافور الإخشيديّ، فلما قدم جوهر القائد من المغرب بالعساكر ثار تبر الإخشيديّ هذا في جماعة من الكافورية والإخشيدية وحاربه، فانهزم بمن معه إلى أسفل الأرض، فبعث جوهر يستعطفه فلم يجب وأقام على الخلاف، فسير إليه عسكرا حاربه بناحية صهرجت فانكسر وصار إلى مدينة صور التي كانت على الساحل في البحر، فقبض عليه بها وأدخل إلى القاهرة على فيل، فسجن إلى صفر سنة ستين وثلاثمائة، فاشتدّت المطالبة عليه، وضرب بالسياط وقبضت أمواله، وحبس عدّة من أصحابه بالمطبق في القيود إلى ربيع الآخر منها، فجرح نفسه وأقام أياما مريضا ومات، فسلخ بعد موته وصلب عند كرسي الجبل. وقال ابن عبد الظاهر أنه حشي جلدة تبنا وصلب، فربما سمت العامّة مسجده بذلك لما ذكرناه، وقيل أن تبرا هذا خادم الدولة المصرية، وقبره بالمسجد المذكور. قال مؤلفه: هذا وهم وإنما هو تبر الإخشيديّ. مسجد القطبية هذا المسجد كان حيث المدرسة المنصورية بين القصرين والله أعلم. ذكر الخوانك الخوانك جمع خانكاه، وهي كلمة فارسية معناها بيت، وقيل أصلها خونقاه، أي الموضع الذي يأكل فيه الملك. والخوانك حدثت في الإسلام في حدود الأربعمائة من سني الهجرة، وجعلت لتخلي الصوفية فيها لعبادة الله تعالى. قال الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيريّ رحمه الله: اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم الصحابة، ولما أدرك أهل العصر الثاني، سميّ من صحب الصحابة التابعين، ورأوا ذلك أشرف سمة. ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص خواص الناس ممن لهم شدّة عناية بأمر الدين الزهّاد والعبّاد، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق، فكلّ فريق ادّعوا أنّ فيهم زهادا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوّف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.

قال: وهذه التسمية غلبت على هذه الطائفة، فيقال رجل صوفيّ، وللجماعة الصوفية، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوّف، وللجماعة المتصوّفة، وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، واو ظهر فيه أنه كاللّقب، فأمّا قول من قال أنه من الصوف، وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص، فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف. ومن قال: إنهم ينسبون إلى صفة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفيّ. ومن قال إنه من الصفاء، فاشتقاق الصوفيّ من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة، وقول من قال أنه مشتق من الصف، فكأنهم في الصف الأوّل بقلوبهم من حيث المحاضرة مع الله تعالى، فالمعنى صحيح، لكنّ اللغة لا تقتضي هذه النسبة من الصف، ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق، والله أعلم. وقال الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السهرورديّ رحمه الله: والصوفيّ يضع الأشياء في مواضعها، ويدبر الأوقات والأحوال كلها بالعلم، يقيم الخلق مقامهم، ويقيم أمر الحق مقامه، ويستر ما ينبغي أن يستر، ويظهر ما ينبغي أن يظهر، ويأتي بالأمور من مواضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية صدق وإخلاص، فقوم من المفتونين لبسوا ألبسة الصوفية لينسبوا إليهم وما هم منهم بشيء، بل هم في غرور وغلط، يتسترون بلبسة الصوفية توقيا تارة ودعوة أخرى، وينتهجون مناهج أهل الإباحة ويزعمون أن ضمائرهم خلصت إلى الله تعالى، وأن هذا هو الظفر بالمراد والارتسام بمراسم الشريعة، رتبة العوام والقاصرين الإفهام، وهذا هو عين الإلحاد والزندقة والإبعاد، ولله در القائل: تنازع الناس في الصوفيّ واختلفوا ... فيه وظنوه مشتقا من الصوف ولست انحل هذا الاسم غير فتى ... صافي وصوفي حتى سميّ الصوفي قال مؤلفه: ذهب والله ما هنالك وصارت الصوفية. كما قال الشيخ فتح الدين محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري: ما شروط الصوفي في عصرنا اليو ... م سوى ستة بغير زياده وهي نيك العلوق «1» والسكر والسط ... لة والرقص والغنا والقياده وإذا ما هذى وأبدى اتحادا ... وحلولا من جهله أو إعاده وأتى المنكرات عقلا وشرعا ... فهو شيخ الشيوخ ذو السجّاده ثم تلاشى الآن حال الصوفية ومشايخها حتى صاروا من سقط المتاع، لا ينسبون إلى علم ولا ديانة، وإلى الله المشتكى. وأوّل من اتخذ بيتا للعبادة زيد بن صوحان بن صبرة،

الخانكاه الصلاحية، دار سعيد السعداء، دويرة الصوفية

وذلك أنه عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرّغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات، فبنى لهم دورا وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يقوم بمصالحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره، فجاء يوما ليزورهم فسأل عنهم فإذا عبد الله بن عامر عامل البصرة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قد دعاهم. فأتاه فقال له: يا ابن عامر ما تريد من هؤلاء القوم؟ قال: أريد أن أقرّبهم فيشفعوا فأشفعهم، ويسألوا فأعطيهم، ويشيروا عليّ فأقبل منهم. فقال: لا ولا كرامة، فتأتي إلى قوم قد انقطعوا إلى الله تعالى فتدنسهم بدنياك وتشركهم في أمرك، حتى إذا ذهبت أديانهم أعرضت عنهم فطاحوا لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة، قوموا فارجعوا إلى مواضعكم. فقاموا، فأمسك ابن عامر فما نطق بلفظة. ذكره أبو نعيم. الخانكاه الصلاحية، دار سعيد السعداء، دويرة الصوفية هذه الخانكاه بخط رحبة باب العيد من القاهرة، كانت أوّلا دارا تعرف في الدولة الفاطمية بدار سعيد السعداء، وهو الأستاذ قنبر، ويقال عنبر. وذكر ابن ميسر أن اسمه بيان، ولقبه سعيد السعداء، أحد الأستاذين المحنكين خدّام القصر، عتيق الخليفة المستنصر، قتل في سابع شعبان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ورمي برأسه من القصر، ثم صلبت جثته بباب زويلة من ناحية الخرق، وكانت هذه الدار مقابل دار الوزارة. فلما كانت وزارة العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك سكنها وفتح من دار الوزارة إليها سردابا تحت الأرض ليمرّ فيه، ثم سكنها الوزير شاور بن مجير في أيام وزارته، ثم ابنه الكامل. فلما استبدّ الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي بملك مصر بعد موت الخليفة العاضد، وغير رسوم الدولة الفاطمية، ووضع من قصر الخلافة، وأسكن فيه أمراء دولته الأكراد، عمل هذه الدار برسم الفقراء الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة، ووقفها عليهم في سنة تسع وستين وخمسمائة، وولى عليهم شيخا، ووقف عليهم بستان الحبانية بجوار بركة الفيل خارج القاهرة، وقيسارية الشراب بالقاهرة، وناحية دهمر، ومن البهنساوية، وشرط أنّ من مات من الصوفية وترك عشرين دينارا فما دونها كانت للفقراء، ولا يتعرّض لها الديوان السلطانيّ، ومن أراد منهم السفر يعطى تسفيره، ورتّب للصوفية في كلّ يوم طعاما ولحما وخبزا، وبنى لهم حمّاما بجوارهم، فكانت أوّل خانكاه عملت بديار مصر. وعرفت بدويرة الصوفية، ونعت شيخها بشيخ الشيوخ، واستمرّ ذلك بعده إلى أن كانت الحوادث والمحن منذ سنة ست وثمانمائة، واتضعت الأحوال وتلاشت الرتب، فلقب كل شيخ خانكاه بشيخ الشيوخ، وكان سكانها من الصوفية يعرفون بالعلم والصلاح وترجى بركتهم، وولي مشيختها الأكابر والأعيان كأولاد شيخ الشيوخ بن حمويه، مع ما كان لهم من الوزارة والإمارة وتدبير الدولة وقيادة الجيوش وتقدمة العساكر. ووليها ذو الرياستين الوزير الصاحب قاضي القضاة تقيّ الدين عبد الرحمن بن ذي الرياستين الوزير الصاحب قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت

الأعز، وجماعة من الأعيان، ونزل بها الأكابر من الصوفية. وأخبرني الشيخ أحمد بن عليّ القصار رحمه الله: أنه أدرك الناس في يوم الجمعة يأتون من مصر إلى القاهرة ليشاهدوا صوفية خانقاه سعيد السعداء عند ما يتوجهون منها إلى صلاة الجمعة بالجامع الحاكميّ، كي تحصل لهم البركة والخير بمشاهدتهم، وكان لهم في يوم الجمعة هيئة فاضلة، وذلك أنه يخرج شيخ الخانقاه منها وبين يديه خدّام الربعة الشريفة قد حملت على رأس أكبرهم، والصوفية مشاة بسكون وخفر إلى باب الجامع الحاكميّ الذي يلي المنبر، فيدخلون إلى مقصورة كانت هناك على يسرة الداخل من الباب المذكور تعرف بمقصورة البسملة، فإنه بها إلى اليوم بسملة قد كتبت بحروف كبار، فيصلي الشيخ تحية المسجد تحت سحابة منصوبة له دائما، وتصلي الجماعة، ثم يجلسون وتفرّق عليهم أجزاء الربعة فيقرؤون القرآن حتى يؤذن المؤذنون، فتؤخذ الأجزاء منهم ويشتغلون بالتركع واستماع الخطبة، وهم منصتون خاشعون، فإذا قضيت الصلاة والدعاء بعدها قام قاريء من قرّأ الخانقاه ورفع صوته بقراءة ما تيسر من القرآن، ودعا للسلطان صلاح الدين، ولواقف الجامع ولسائر المسلمين، فإذا فرغ قام الشيخ من مصلاه وسار من الجامع إلى الخانقاه والصوفية معه كما كان توجههم إلى الجامع، فيكون هذا من أجمل عوايد القاهرة، وما برح الأمر على ذلك إلى أن ولي الأمير يلبغا السالميّ نظر الخانقاه المذكورة في يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وسبعمائة، فنزل إليها وأخرج كتاب الوقف، وأراد العمل بما فيه من شرط الواقف، فقطع من الصوفية المنزلين بها عشرات ممن له منصب ومن هو مشهور بالمال، وزاد الفقراء المجرّدين وهم المقيمون بها في كلّ يوم رغيفا من الخبز، فصار لكلّ مجرّد أربعة أرغفة بعد ما كانت ثلاثة، ورتب بالخانقاه وظيفتي ذكر بعد صلاة العشاء الآخرة وبعد صلاة الصبح، فكثر النكير على السالميّ ممن أخرجهم، وزاد الإشلاء. فقال بعض أدباء العصر في ذلك: يا أهل خانقة الصلاح أراكم ... ما بين شاك للزمان وشاتم يكفيكم ما قد أكلتم باطلا ... من وقفها وخرجتم بالسّالم وكان سبب ولاية السالميّ نظر الخانقاه المذكورة، أن العادة كانت قديما أنّ الشيخ هو الذي يتحدّث في نظرها، فلما كانت أيام الظاهر برقوق ولي مشيختها شخص يعرف بالشيخ محمد البلاليّ قدم من البلاد الشامية، وصار للأمير سودون الشيخونيّ نائب السلطنة بديار مصر فيه اعتقاد، فلما سعى له في المشيخة واستقرّ فيها بتعيينه، سأله أن يتحدّث في النظر إعانة له، فتحدّث، وكانت عدّة الصوفية بها نحو الثلاثمائة رجل، لكلّ منهم في اليوم ثلاثة أرغفة زنتها ثلاثة أرطال خبز، وقطعة لحم زنتها ثلث رطل في مرق، ويعمل لهم الحلوى في كلّ شهر، ويفرّق فيهم الصابون، ويعطي كلّ منهم في السنة عن ثمن كسوة قدر أربعين

درهما، فنزّل الأمير سودون عندهم جماعة كثيرة عجز ريع الوقف عن القيام لهم بجميع ما ذكر، فقطعت الحلوى والصابون والكسوة، ثم إن ناحية دهمر وشرقّت في سنة تسع وتسعين لقصور ماء النيل، فوقع العزم على غلق مطبخ الخانقاه وإبطال الطعام، فلم تحتمل الصوفية ذلك وتكرّرت شكواهم للملك الظاهر برقوق، فولّى الأمير يلبغا السالميّ النظر، وأمره أن يعمل بشرط الواقف. فلما نزل إلى الخانقاه وتحدّث فيها، اجتمع بشيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ وأوقفه على كتاب الوقف، فأفتاه بالعمل بشرط الواقف، وهو أن الخانقاه تكون وقفا على الطائفة الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة والقاطنين بالقاهرة ومصر، فإن لم يوجدوا كانت على الفقراء من الفقهاء الشافعية والمالكية الأشعرية الاعتقاد، ثم إنه جمع القضاة وشيخ الإسلام وسائر صوفية الخانقاه بها وقرأ عليهم كتاب الوقف، وسأل القضاة عن حكم الله فيه، فانتدب للكلام رجلان من الصوفية، هما زين الدين أبو بكر القمنيّ، وشهاب الدين أحمد العباديّ الحنفيّ، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط، فأشار القضاة على السالميّ أن يعمل بشرط الواقف وانصرفوا، فقطع منهم نحو الستين رجلا، منهم المذكوران، فامتعض العباديّ وغضب من ذلك وشنّع بأنّ السالميّ قد كفر، وبسط لسانه بالقول فيه، وبدت منه سماجات فقبض عليه السالميّ وهو ماش بالقاهرة، فاجتمع عدّة من الأعيان وفرّقوا بينهما، فبلغ ذلك السلطان فأحضر القضاة والفقهاء وطلب العباديّ في يوم الخميس ثامن شهر رجب وادّعى عليه السالميّ، فاقتضى الحال تعزيره، فعزر وكشف رأسه وأخرج من القلعة ماشيا بين يدي القضاة ووالي القاهرة إلى باب زويلة، فسجن بحبس الديلم، ثم نقل منه إلى حبس الرحبة، فلما كان يوم السبت حادي عشرة، استدعي إلى دار قاضي القضاة جمال الدين محمود القيصريّ الحنفيّ، وضرب بحضرة الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ والي القاهرة نحو الأربعين ضربة بالعصا تحت رجليه، ثم أعيد إلى الحبس، وأفرج عنه في ثامن عشرة بشفاعة شيخ الإسلام فيه، ولما جدّد الأمير يلبغا السالميّ الجامع الأقمر، وعمل له منبرا وأقيمت به الجمعة في شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وثمانمائة، الزم الشيخ بالخانقاه والصوفية أن يصلوا الجمعة به، فصاروا يصلّون الجمعة فيه إلى أن زالت أيام السالميّ، فتركوا الاجتماع بالجامع الأقمر، ولم يعودوا إلى ما كانوا عليه من الاجتماع بالجامع الحاكميّ، ونسي ذلك. ولم يكن بهذه الخانقاه مئذنة، والذي بنى هذه المئذنة شيخ ولي مشيختها في سنة بضع وثمانين وسبعمائة، يعرف بشهاب الدين أحمد الأنصاريّ، وكان الناس يمرّون في صحن الخانقاه بنعالهم، فجدّد شخص من الصوفية بها يعرف بشهاب الدين أحمد العثمانيّ هذا الدرابزين وغرس فيه هذه الأشجار، وجعل عليها وقفا لمن يتعاهدها بالخدمة.

خانقاه ركن الدين بيبرس

خانقاه ركن الدين بيبرس هذه الخانقاه من جملة دار الوزارة الكبرى التي تقدّم ذكرها عند ذكر القصر من هذا الكتاب، وهي أجلّ خانقاه بالقاهرة بنيانا، وأوسعها مقدارا وأتقنها صنعة، بناها الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ قبل أن يلي السلطنة، وهو أمير. فبدأ في بنائها في سنة ست وسبعمائة، وبنى بجانبها رباطا كبيرا يتوصل إليه من داخلها، وجعل بجانب الخانقاه قبة بها قبره، ولهذه القبة شبابيك تشرف على الشارع المسلوك فيه من رحبة باب العيد إلى باب النصر، من جملتها الشباك الكبير الذي حمله الأمير أبو الحارث البساسيريّ من بغداد، لما غلب الخليفة القائم العباسيّ وأرسل بعمامته وشباكه الذي كان بدار الخلافة في بغداد، وتجلس الخلفاء فيه، وهو هذا الشباك كما ذكر في أخبار دار الوزارة من هذا الكتاب. فلما ورد هذا الشباك من بغداد عمل بدار الوزارة واستمر فيها إلى أن عمر الأمير بيبرس الخانقاه المذكورة فجعل هذا الشباك بقبة الخانقاه، وهو بها إلى يومنا هذا، وإنه لشباك جليل القدر. حشم يكاد يتبين عليه أبهة الخلافة. ولما شرع في بنائها رفق بالناس ولا طفهم ولم يعسف فيها أحدا في بنائها ولا أكره صانعا ولا غصب من آلاتها شيئا، وإنما اشترى دار الأمير عز الدين الأفرم التي كانت بمدينة مصر، واشترى دار الوزير هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وأخذ ما كان فيهما من الأنقاض، واشترى أيضا دار الأنماط التي كانت برأس حارة الجودرية من القاهرة ونقضها وما حولها، واشترى أملاكا كانت قد بنيت في أرض دار الوزارة من ملاكها بغير إكراه وهدمها، فكان قياس أرض الخانقاه والرباط والقبة نحو فدّان وثلث. وعندما شرع في بنائها حضر إليه الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتاش الفخريّ أمير سلاح، وأراد التقرّب لخاطره، وعرّفه أن بالقصر الذي فيه سكن أبيه مغارة تحت الأرض كبيرة يذكر أنّ فيها ذخيرة من ذخائر الخلفاء الفاطميين، وأنهم لما فتحوها لم يجدوا بها سوى رخام كثير فسدّوها ولم يتعرّضوا لشيء مما فيها، فسرّ بذلك وبعث عدّة من الأمراء فتحوا المكان فإذا فيه رخام جليل القدر عظيم الهيئة، فيه ما لا يوجد مثله لعظمه، فنقله من المغارة ورخم منه الخانقاه والقبة وداره التي بالقرب من البندقانيين وحارة زويلة، وفضل منه شيء كثير عهدي أنه مختزن بالخانقاه، وأظنه أنه باق هناك. ولما كملت في سنة تسع وسبعمائة، قرّر بالخانقاه أربعمائة صوفيّ، وبالرباط مائة من الجند وأبناء الناس الذين قعد بهم الوقت، وجعل بها مطبخا يفرّق على كلّ منهم في كلّ يوم اللحم والطعام وثلاثة أرغفة من خبز البرّ، وجعل لهم الحلوى، ورتب بالقبة درسا للحديث النبويّ له مدرّس، وعنده عدّة من المحدّثين، ورتب القرّاء بالشباك الكبير يتناوبون القراءة فيه ليلا ونهارا، ووقف عليها عدّة ضياع بدمشق وحماه ومنية المخلص

بالجيزة من أرض مصر وبالصعيد والوجه البحريّ والربع والقيسارية بالقاهرة. فلما خلع من السلطنة وقبض عليه الملك الناصر محمد بن قلاون وقتله، أمر بغلقها فغلقت، وأخذ سائر ما كان موقوفا عليها ومحا اسمه من الطراز الذي بظاهرها فوق الشبابيك، وأقامت نحو عشرين سنة معطلة، ثم إنه أمر بفتحها في أوّل سنة ست وعشرين وسبعمائة، ففتحت، وأعاد إليها ما كان موقوفا عليها، واستمرّت إلى أن شرقت أراضي مصر لقصور مدّ النيل أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة ست وسبعين وسبعمائة، فبطل طعامها وتعطل مطبخها، واستمرّ الخبز ومبلغ سبعة دراهم لكلّ واحد في الشهر بدل الطعام، ثم صار لكلّ واحد منهم في الشهر عشرة دراهم، فلما قصر مدّ النيل في سنة ست وتسعين وسبعمائة، بطل الخبز أيضا وغلق المخبز من الخانقاه، وصار الصوفية يأخذون في كلّ شهر مبلغا من الفلوس معاملة القاهرة، وهم على ذلك إلى اليوم. وقد أدركتها ولا يمكّن بوّابها غير أهلها من العبور إليها والصلاة فيها لما لها في النفوس من المهابة، ويمنع الناس من دخولها حتى الفقهاء والأجناد، وكان لا ينزل بها أمرد، وفيها جماعة من أهل العلم والخير، وقد ذهب ما هنالك فنزل بها اليوم عدّة من الصغار ومن الأساكفة وغيرهم من العامّة، إلّا أن أوقافها عامرة وأرزاقها دارّة بحسب نقود مصر، ومن حسن بناء هذه الخانقاه أنه لم يحتج فيها إلى مرمّة منذ بنيت إلى وقتنا هذا، وهي مبنية بالحجر وكلها عقود محكمة بدل السقوف الخشب، وقد سمعت غير واحد يقول إنه لم تبن خانقاه أحسن من بنائها. الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ: اشتراه الملك المنصور قلاون صغيرا ورقاه في الخدم السلطانية إلى أن جعله أحد الأمراء، وأقامه جاشنكير وعرف بالشجاعة. فلما مات الملك المنصور خدم ابنه الملك الأشرف خليلا إلى أن قتله الأمير بيدرا بناحية تروجة، فكان أوّل من ركب على بيدرا في طلب ثار الملك الأشرف، وكان مهابا بين خشداشيته فركبوا معه، وكان من نصرتهم على بيدرا وقتله ما قد ذكر في موضعه، فاشتهر ذكره وصار أستادار السلطان في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سلطنته الثانية، رفيقا للأمير سلار نائب السلطنة، وبه قويت الطائفة البرجية من المماليك واشتدّ بأسهم، وصار الملك الناصر تحت حجر بيبرس وسلار إلى أن أنف من ذلك وسار إلى الكرك، فأقيم بيبرس في السلطنة يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وسبعمائة، فاستضعف جانبه وانحط قدره ونقصت مهابته، وتغلب عليه الأمراء والمماليك، واضطربت أمور المملكة لمكان الأمير سلار وكثرة حاشيته وميل القلوب إلى الملك الناصر، وفي أيامه عمل الجسر من قليوب إلى مدينة دمياط وهو مسيرة يومين طولا في عرض أربع قصبات من أعلاه، وست قصبات من أسفله، حتى أنه كان يسير عليه ستة من الفرسان معا بحذاء بعضهم، وأبطل سائر الخمارات من السواحل وغيرها من بلاد الشام، وسامح بما كان من المقرّر عليها للسلطان، وعوّض الأجناد بدله، وكبست أماكن الريب والفواحش بالقاهرة

ومصر، وأريقت الخمور وضرب أناس كثير في ذلك بالمقارع، وتتبع أماكن الفساد وبالغ في إزالته، ولم يراع في ذلك أحدا من الكتاب ولا من الأمراء، فخف المنكر وخفي الفساد، إلا أن الله أراد زوال دولته، فسوّلت له نفسه أن بعث إلى الملك الناصر بالكرك يطلب منه ما خرج به معه من الخيل والمماليك، وحمل الرسول إليه بذلك مشافهة أغلظ عليه فيها، فحنق من ذلك وكاتب نوّاب الشام وأمراء مصر في السرّ يشكو ما حلّ به، وترفق بهم وتلطف بهم فرقوا له وامتعضوا لما به، ونزل الناصر من الكرك وبرز عنها، فاضطرب الأمر بمصر واختلّ الحال من بيبرس وأخذ العسكر يسير من مصر إلى الناصر شيئا بعد شيء، وسار الناصر من ظاهر الكرك يريد دمشق في غرّة شعبان سنة تسع وسبعمائة، فعندما نزل الكسوة «1» خرج الأمراء وعامّة أهل دمشق إلى لقائه، ومعهم شعار السلطنة، ودخلوا به إلى المدينة وقد فرحوا به فرحا كثيرا، في ثاني عشر شعبان، ونزل بالقلعة وكاتب النوّاب فقدموا عليه وصارت ممالك الشام كلها تحت طاعته يخطب له بها ويجبى إليه مالها، ثم خرج من دمشق بالعساكر يريد مصر، وأمر بيبرس كلّ يوم في نقص إلى أن كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان، فترك بيبرس المملكة ونزل من قلعة الجبل ومعه خواصه إلى جهة باب الفراقة، والعامّة تصيح عليه وتسبه وترجمه بالحجارة، عصبية للملك الناصر وحبا له، حتّى سار عن القرافة، ودعا الحرس بالقلعة في يوم الأربعاء للملك الناصر، فكانت مدّة سلطنة بيبرس عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما، وقدم الملك الناصر إلى قلعة الجبل أوّل يوم من شوّال، وجلس على تخت المملكة واستولى على السلطنة مرّة ثالثة، ونزل بيبرس بأطفيح ثم سار منها إلى أخميم، فلما صار بها تفرّق عنه من كان معه من الأمراء والمماليك فصاروا إلى الملك الناصر، فتوجه في نفر يسير على طريق السويس يريد بلاد الشام فقبض عليه شرقيّ غزة وحمل مقيدا إلى الملك الناصر، فوصل قلعة الجبل يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة، وأوقف بين يدي السلطان وقبّل الأرض، فعنفه وعدّد عليه ذنوبا ووبخه، ثم أمر به فسجن في موضع إلى ليلة الجمعة خامس عشرة، وفيها لحق بربه تعالى، فحمل إلى القرافة ودفن في تربة الفارس أقطاي، ثم نقل منها بعد مدّة إلى تربته بسفح المقطم فقبر بها زمانا طويلا، ثم نقل منها ثالث مرّة إلى خانقاهه ودفن بقبتها، وقبره هناك إلى يومنا هذا.، وأدركت بالخانقاه المذكورة شيخا من صوفيتها أخبرني أنه حضر نقله من ترتبه بالقرافة إلى قبة الخانقاه، وأنه تولى وضعه في مدفنه بنفسه، وكان رحمه الله خيّرا عفيفا كثير الحياء وافر الحرمة جليل القدر عظيما في النفوس مهاب السطوة في أيام أمرته، فلما تلقب بالسلطنة ووسم باسم الملك، اتضع قدره واستضعف جانبه، وطمع فيه، وتغلب عليه الأمراء والمماليك، ولم تنجح مقاصده ولا سعد في شيء من تدبيره إلى أن انقضت أيامه وأناخ به حمامه. رحمه الله.

الخانقاه الجمالية

الخانقاه الجمالية هذه الخانقاه بالقرب من درب راشد، يسلك إليها من رحبة باب العيد، بناها الأمير الوزير مغلطاي الجماليّ في سنة ثمانين وسبعمائة، وقد تقدّم ذكرها عند ذكر المدارس من هذا الكتاب. الخانقاه الظاهرية هذه الخانقاه بخط بين القصرين فيما بين المدرسة الناصرية ودار الحديث الكاملية، أنشأها الملك الظاهر برقوق في سنة ست وثمانين وسبعمائة، وقد ذكرت عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب. الخانقاه الشرابيشية هذه الخانقاه فيما بين الجامع الأقمر وحارة برجوان في آخر المنحر الذي كان للخلفاء، وهو يعرف اليوم بالدرب الأصفر، ويتوصل منها إلى الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، وبابها الأصليّ من زقاق ضيق بوسط سوق حارة برجوان، أنشأها الصدر الأجل نور الدين عليّ بن محمد بن محاسن الشرابيشيّ، وكان من ذوي الغنى واليسار، صاحب ثراء متسع، وله عدّة أوقاف على جهات البرّ والقربات ومات في ... «1» . الخانقاه المهمندارية هذه الخانقاه خارج باب زويلة فيما بين رأس حارة اليانسية وجامع الماردينيّ، بناها الأمير شهاب الدين أحمد بن أقوش العزيزيّ المهمندار، ونقيب الجيوش، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقد ذكرت في المدارس من هذا الكتاب. خانقاه بشتاك هذه الخانقاه خارج القاهرة على جانب الخليج من البرّ الشرقيّ تجاه جامع بشتاك، أنشأها الأمير سيف الدين بشتاك الناصريّ، وكان فتحها أوّل يوم من ذي الحجة سنة ست وثلاثين وسبعمائة، واستقرّ في مشيختها شهاب الدين القدسيّ، وتقرّر عنده عدّة من الصوفية وأجرى لهم الخبز والطعام في كلّ يوم، فاستمرّ ذلك مدّة ثم بطل، وصار يصرف لأربابها عوضا عن ذلك في كلّ شهر مبلغ، وهي عامرة إلى وقتنا هذا، وقد نسب إليها جماعة منهم الشيخ الأديب البارع بدر الدين محمد بن إبراهيم المعروف بالبدر البشتكي.

خانقاه ابن غراب

خانقاه ابن غراب هذه الخانقاه خارج القاهرة على الخليج الكبير من برّه الشرقيّ بجوار جامع بشتاك من غريبه، أنشأها القاضي الأمير سعد الدين إبراهيم بن عبد الرزاق بن غراب الإسكندرانيّ، ناظر الخاص وناظر الجيوش وأستادار السلطان، وكاتب السرّ، وأحد أمراء الألوف الأكابر، أسلم جد غراب وباشر بالإسكندرية حتى ولي نظر الثغر، ونشأ ابنه عبد الرزاق هناك، فولي أيضا نظر الإسكندرية، وولد له ماجد وإبراهيم. فلما تحكم الأمير جمال الدين محمود بن عليّ في الأموال أيام الملك الظاهر برقوق، اختص بإبراهيم وحمله إلى القاهرة وهو صبيّ واعتنى به واستكتبه في خاص أمواله حتى عرفها، فتنكر محمود عليه لأمر بدا منه في ماله، وهمّ به فبادر إلى الأمير علاء الدين عليّ بن الطبلاويّ وترامى عليه، وهو يومئذ قد نافس محمودا فأوصله بالسلطان وأمكنه من سماع كلامه، فملأ أذنه بذكر أموال محمود ووغر صدره عليه حتى نكبه واستصفى أمواله، كما ذكر في خبره عند ذكر مدرسة محمود من هذا الكتاب، وولي ابن غراب نظر الديوان المفرد في حادي عشر صفر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وعمره عشرون سنة أو نحوها، وهي أوّل وظيفة وليها، فاختص بابن الطبلاويّ ولازمه وملأ عينه بكثرة المال، فتحدّث له في وظيفة نظر الخاص عوضا عن سعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى، فوليها في تاسع عشر ذي القعدة، وغص بمكان ابن الطبلاويّ فعمل عليه عند السلطان حتى غيره عليه وولاه أمره، فقبض عليه في داره وعلى سائر أسبابه في شعبان في سنة ثمانمائة، ثم أضيف إليه نظر الجيوش عوضا عن شرف الدين محمد الدمامينيّ في تاسع ذي القعدة سنة ثمانمائة، فعفّ عن تناول الرسوم وأظهر من الفخر والحشمة والمكارم أمرا كبيرا، وقدّر الله موت السلطان في شوّال سنة إحدى وثمانمائة بعد ما جعله من جملة أوصيائه، فباطن الأمير يشبك الخازندار على إزالة الأمير الكبير أيتمش القائم بدولة الناصر فرج بن برقوق، وعمل لذلك أعمالا حتى كانت الحرب بعد موت السلطان الملك الظاهر بين الأمير أيتمش وبين الأمير يشبك، في ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانمائة، التي انهزم فيها أيتمش وعدّة من الأمراء إلى الشام، وتحكم الأمير يشبك فاستدعى عند ذلك ابن غراب أخاه فخر الدين ماجدا من الإسكندرية، وهو يلي نظرها إلى قلعة الجبل، وفوّضت إليه وزارة الملك الناصر فرج بن برقوق، فقاما بسائر أمور الدولة إلى أن ولي الأمير يلبغا السالميّ الأستادارية، فسلك معه عادته من المنافسة، وسعى به عند الأمير يشبك حتى قبض عليه، وتقلد وظيفة الأستادارية عوضا عن السالميّ في رابع عشر رجب سنة ثلاث وثمانمائة، مضافا إلى نظر الخاص ونظر الجيوش، فلم يغير زيّ الكتاب، وصار له ديوان كدواوين الأمراء، ودقت الطبول على بابه، وخاطبه الناس وكاتبوه بالأمير، وسار في ذلك سيرة ملوكية من كثرة العطاء وزيادة الأسمطة والاتساع في الأمور، والازدياد من المماليك

والخيول، والاستكثار من الخول والحواشي، حتى لم يكن أحد يضاهيه في شيء من أحواله، إلى أن تنازع الأميران حكم وسودون طاز مع الأمير يشبك، فكان هو المتولي كبر تلك الحروب، ثم إنه خرج من القاهرة مغاضبا لأمراء الدولة، وصار إلى ناحية تروجة يريد جمع العربان ومحاربة الدولة، فلم يتم له ذلك. وعاد فدخل القاهرة على حين غفلة، فنزل عند جمال الدين يوسف الأستادار، فقام بإصلاح أمره مع الأمراء حتى حصل له الغرض، فظهر واستولى على ما كان عليه إلى أن تنكرت رجال الدولة على الملك الناصر فرج، فقام مع الأمير يشبك بحرب السلطان إلى أن انهزم الأمير يشبك بأصحابه إلى الشام، فخرج معه في سنة تسع وثمانمائة، وأمدّه ومن معه بالأموال العظيمة حتى صاروا عند الأمير شيخ نائب الشام، واستفز العساكر لقتال الملك الناصر وحرّضهم على المسير إلى حربه، وخرج من دمشق مع العساكر يريد القاهرة، وكان من وقعة السعيدية ما كان على ما هو مذكور في خبر الملك الناصر عند ذكر الخانقاه الناصرية من هذا الكتاب، فاختفى الأمير يشبك وطائفة من الأمراء بالقاهرة، ولحق ابن غراب بالأمير اينال پاي بن قجماس، وهو يومئذ أكبر الأمراء الناصرية، وملأ عينه بالمال، فتوسط له مع الملك الناصر حتى أمنه وأصبح في داره وجميع الناس على بابه، ثم تقلد وظيفة نظر الجيوش واختص بالسلطان، وما زال به حتى استرضاه على الأمير يشبك ومن معه من الأمراء، وظهروا من الاستتار وصاروا بقلعة الجبل، فخلع عليهم السلطان وأمّرهم وصاروا إلى دورهم، فثقل على ابن غراب مكان فتح الدين فتح الله كاتب السرّ، فسعى به حتى قبض عليه وولي مكانه كتابة السرّ ليتمكن من أغراضه. فلما استقرّ في كتابة السرّ أخذ في نقض دولة الناصر إلى أن تم له مراده، وصارت الدولة كلها على الناصر، فخلا به وخيل له وحسّن له الفرار، فانقاد له وترامى عليه، فأعدّ له رجلين أحدهما من مماليكه ومعهما فرسان، ووقفا بهما وراء القلعة، وخرج الناصر وقت القائلة ومعه مملوك من مماليكه يقال له بيغوت، وركبا الفرسين وسارا إلى ناحية طرا، ثم عادا مع قاصدي ابن غراب في مركب من المراكب النيلية ليلا إلى دار ابن غراب ونزلا عنده، وقد خفي ذلك على جميع أهل الدولة، وقام ابن غراب بتولية عبد العزيز بن برقوق وأجلسه على تخت الملك عشاء، ولقبه بالملك المنصور، ودبر الدولة كما أحب مدّة سبعين يوما إلى أن أحس من الأمراء بتغير، فأخرج الناصر ليلا وجمع عليه عدّة من الأمراء والمماليك وركب معه بلامة الحرب إلى القلعة، فلم يلبث أصحاب المنصور وانهزموا ودخل الناصر إلى القلعة واستولى على المملكة ثانيا، فألقى مقاليد الدولة إلى ابن غراب وفوّض إليه ما وراء سريره ونظمه في خاصته، وجعله من أكابر الأمراء وناط به جميع الأمور، فأصبح مولى نعمة كلّ من السلطان والأمراء، يمنّ عليهم بأنه أبقى لهم مهجهم، وأعاد إليهم سائر ما كانوا قد سلبوه من ملكهم، وأمدّهم بما له وقت حاجتهم وفاقتهم إليه، ويفخر ويتكثر بأنه أقام دولة وأزال دولة، ثم أزال ما أقام وأقام ما أزال من غير حاجة ولا ضرورة ألجأته إلى شيء من

الخانقاه البندقدارية

ذلك، وأنه لو شاء أخذ الملك لنفسه، وترك كتابة السرّ لغلامه وأحد كتابه فخر الدين بن المزوق ترفعا عنها واحتقارا بها، ولبس هيئة الأمراء، وهي الكلوتة والقباء وشدّ السيف في وسطه، وتحوّل من داره التي على بركة الفيل إلى دار بعض الأمراء بحدرة البقر، فغاضبه القضاة، وكان عند الانتهاء الانحطاط، ونزل به مرض الموت فنال في مرضه من السعادة ما لم يسمع بمثله لأحد من أبناء جنسه، وصار الأمير يشبك ومن دونه من الأمراء يتردّدون إليه، وأكثرهم إذا دخل عليه وقف قائما على قدميه حتى ينصرف إلى أن مات يوم الخميس تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان وثمانمائة، ولم يبلغ ثلاثين سنة. وكانت جنازته أحد الأمور العجيبة بمصر لكثرة من شهدها من الأمراء والأعيان وسائر أرباب الوظائف، بحيث استأجر الناس السقائف والحوانيت لمشاهدتها، ونزل السلطان للصلاة عليه، وصعد إلى القلعة، فدفن خارج باب المحروق، وكان من أحسن الناس شكلا وأحلاهم منظرا وأكرمهم يدا مع تدين وتعفف عن القاذورات، وبسط يد بالصدقات، إلّا أنه كان غدّارا لا يتوانى عن طلب عدوّه، ولا يرضى من نكبته بدون إتلاف النفس، فكم ناطح كبشا وتل عرشا وعالج جبالا شامخة واقتلع دولا من أصولها الراسخة، وهو أحد من قام بتخريب إقليم مصر، فإنه ما زال يرفع سعر الذهب حتى بلغ كلّ دينار إلى مائتي درهم وخمسين درهما من الفلوس، بعد ما كان بنحو خمسة وعشرين درهما، ففسدت بذلك معاملة الإقليم وقلت أمواله وغلت أسعار المبيعات، وساءت أحوال الناس، إلى أن زالت البهجة وانطوى بساط الرقة، وكاد الإقليم يدمر كما ذكر ذلك عند ذكر الأسباب التي نشأ عنها خراب مصر من هذا الكتاب، عفا الله عنه وسامحه، فلقد قام بمواراة آلاف من الناس الذين هلكوا في زمان المحنة، سنة ست وسنة سبع وثمانمائة، وتكفينهم، فلم ينس الله له ذلك وستره كما ستر المسلمين، وما كان ربك نسيا. الخانقاه البندقدارية هذه الخانقاه بالقرب من الصليبة، كان موضعها يعرف قديما بدويرة مسعود، وهي الآن تجاه المدرسة الفارقانية وحمّام الفارقاني. أنشأها الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ الصالحيّ النجميّ، وجعلها مسجدا لله تعالى، وخانقاه، ورتب فيها صوفية وقرّاء في سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وفي سنة ثمان وأربعين وستمائة استنابه الملك المعز أيبك، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية مع نوّاب دار العدل، وإلى أيدكين هذا ينسب الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، لأنه كان أوّلا مملوكه، ثم انتقل منه إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فعرف بين المماليك البحرية ببيبرس البندقداريّ، وعاش أيدكين إلى أن صار بيبرس سلطان مصر وولاه نيابة السلطنة بحلب، في سنة تسع وخمسين وستمائة، وكان الغلاء بها شديدا، فلم تطل أيامه وفارقها بدمشق بعد محاربة سنقر الأشقر والقبض عليه، في حادي

خانقاه شيخو

عشر صفر سنة تسع وخمسين وستمائة، فأقام في النيابة نحو شهر، وصرفه الأمير علاء الدين طيبرس الوزيريّ. فلما خرج السلطان إلى الشام في سنة إحدى وستين وستمائة، وأقام بالطور، أعطاه أمرة بمصر وطبلخاناه في ربيع الآخر منها، ومات في ربيع الآخر سنة أربع وثمانين وستمائة، ودفن بقبة هذه الخانقاه. خانقاه شيخو هذه الخانقاه في خط الصليبة خارج القاهرة تجاه جامع شيخو، أنشأها الأمير الكبير سيف الدين شيخو العمريّ في سنة ست وخمسين وسبعمائة، كان موضعها من جملة قطائع أحمد بن طولون، وآخر ما عرف من خبره أنه كان مساكن للناس، فاشتراها الأمير شيخو من أربابها وهدمها في المحرّم من هذه السنة، فكانت مساحة أرضها زيادة على فدّان، فاختط فيها الخانقاه وحمّامين وعدّة حوانيت يعلوها بيوت لسكنى العامّة، ورتب بها دروسا عدّة، منها أربعة دروس لطوائف الفقهاء الأربعة، وهم الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، ودرسا للحديث النبويّ، ودرسا لإقراء القرآن بالروايات السبع، وجعل لكلّ درس مدرّسا وعنده جماعة من الطلبة، وشرط عليهم حضور الدرس وحضور وظيفة التصوّف، وأقام شيخنا أكمل الدين محمد بن محمود في مشيخة الخانقاه، ومدرّس الحنفية، وجعل إليه النظر في أوقاف الخانقاه، وقرّر في تدريس الشافعية الشيخ بهاء الدين أحمد بن عليّ السبكيّ، وفي تدريس المالكية الشيخ خليلا، وهو متجند الشكل وله إقطاع في الحلقة. وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة موفق الدين الحنبليّ، ورتب لكل من الطلبة في اليوم الطعام واللحم والخبز، وفي الشهر الحلوى والزيت والصابون، ووقف عليها الأوقاف الجليلة، فعظم قدرها واشتهر في الأقطار ذكرها، وتخرّج بها كثير من أهل العلم، وأربت في العمارة على كل وقف بديار مصر إلى أن مات الشيخ أكمل الدين في شهر رمضان سنة ست وثمانين وسبعمائة، فوليها من بعده جماعة، ولما حدثت المحن كان بها مبلغ كبير من المال الذي فاض عن مصروفها، فأخذه الملك الناصر فرج، وأخذت أحوالها تتناقص حتى صار المعلوم يتأخر صرفه لأرباب الوظائف بها عدّة أشهر، وهي إلى اليوم على ذلك. الخانقاه الجاولية هذه الخانقاه على جبل يشكر بجوار مناظر الكبش، فيما بين القاهرة ومصر، أنشأها الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وقد تقدّم ذكرها في المدارس. خانقاه الجيبغا المظفري هذه الخانقاه خارج باب النصر فيما بين قبة النصر وتربة عثمان بن جوشن السعوديّ، أنشأها الأمير سيف الدين الجيبغا المظفريّ، وكان بها عدّة من الفقراء يقيمون بها ولهم فيها

خانقاه سرياقوس

شيخ، ويحضرون في كل يوم وظيفة التصوّف، ولهم الطعام والخبز، وكان بجانبها حوض ماء لشرب الدواب، وسقّاية بها الماء العذب لشرب الناس، وكتّاب يقرأ فيه أطفال المسلمين الأيتام كتاب الله تعالى، ويتعلمون الخط، ولهم في كلّ يوم الخبز وغيره، وما برحت على ذلك إلى أن أخرج الأمير برقوق أوقافها، فتعطلت وأقام بها جماعة من الناس مدّة ثم تلاشى أمرها، وهي الآن باقية من غير أن يكون فيها سكان، وقد تعطل حوضها وبطل مكتب السبيل. الجيبغا المظفريّ: الخاصكي، تقدّم في أيام الملك المظفر حاجي بن الملك الناصر محمد بن قلاون، تقدّما كثيرا، بحيث لم يشاركه أحد في رتبته. فلما قام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في السلطنة أقرّه على رتبته، وصار أحد أمراء المشورة الذين يصدر عنهم الأمر والنهي، فلما اختلف أمراء الدولة أخرج إلى دمشق في ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين وسبعمائة، وأقام بدمشق إلى شعبان، وسار إلى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير بدر الدين مسعود بن الخطيريّ، فلم يزل على نيابتها إلى شهر ربيع الأوّل سنة خمسين وسبعمائة، فكتب إلى الأمير أرغون شاه نائب دمشق يستأذنه في التصيد إلى الناعم «1» ، فأذن له وسار من طرابلس وأقام على بحيرة حمص أياما يتصيد، ثم ركب ليلا بمن معه وساق إلى خان لاجين ظاهر دمشق، فوصله أوّل النهار وأقام به يومه، ثم ركب منه بمن معه ليلا وطرق أرغون شاه وهو بالقصر الأبلق، وقبض عليه وقيده في ليلة الخميس ثالث عشري شهر ربيع الأوّل، وأصبح وهو بسوق الخيل، فاستدعى الأمراء وأخرج لهم كتاب السلطان بإمساك أرغون شاه، فأذعنوا له واستولى على أموال أرغون شاه. فلما كان يوم الجمعة رابع عشريه، أصبح أرغون شاه مذبوحا، فأشاع الجيبغا أن أرغون شاه ذبح نفسه، وفي يوم الثلاثاء أنكر الأمراء أمره وثاروا لحربه، فركب وقاتلهم وانتصر عليهم وقتل جماعة منهم وأخذ الأموال وخرج من دمشق وسار إلى طرابلس، فأقام بها، وورد الخبر من مصر إلى دمشق بإنكار كل ما وقع والاجتهاد في مسك الجيبغا، فخرجت عساكر الشام إليه ففرّ من طرابلس، فأدركه عسكر طرابلس عند بيروت وحاربوه حتى قبضوا عليه، وحمل إلى عسكر دمشق فقيد وسجن بقلعة دمشق في ليلة السبت سادس عشر ربيع الآخر، هو وفخر الدين إياس، ثم وسط بمرسوم السلطان تحت قلعة دمشق بحضور عساكر دمشق، ووسط معه الأمير فخر الدين إياس وعلقا على الخشب، في ثامن عشر ربيع الآخر سنة خمسين وسبعمائة، وعمره دون العشرين سنة، فما طرّ «2» شاربه وكأنه البدر حسنا والغصن اعتدالا. خانقاه سرياقوس هذه الخانقاه خارج القاهرة من شماليها على نحو بريد منها، بأوّل تيه بني إسرائيل

بسماسم سرياقوس، أنشأها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، وذلك أنه لما بنى الميدان والأحواش في بركة الجبّ، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب عند ذكر بركة الجب، اتفق أنه ركب على عادته للصيد هناك، فأخذه ألم عظيم في جوفه كاد يأتي عليه وهو يتجلد ويكتم ما به حتى عجز، فنزل عن الفرس والألم يتزايد به، فنذر لله إن عافاه الله ليبنين في هذا الموضع موضعا يعبد الله تعالى فيه، فخف عنه ما يجده، وركب فقضى نهمته من الصيد وعاد إلى قلعة الجبل، فلزم الفراش مدّة أيام ثم عوفي، فركب بنفسه ومعه عدّة من المهندسين، واختط على قدر ميل من ناحية سرياقوس هذه الخانقاه، وجعل فيها مائة خلوة لمائة صوفيّ، وبنى بجانبها مسجدا تقام به الجمعة، وبنى بها حمّاما ومطبخا، وكان ذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. فلما كانت سنة خمس وعشرين وسبعمائة، كمل ما أراد من بنائها، وخرج إليها بنفسه ومعه الأمراء والقضاة ومشايخ الخوانك، ومدّت هناك أسمطة عظيمة بداخل الخانقاه في يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة، وتصدّر قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ لإسماع الحديث النبويّ، وقرأ عليه ابنه عز الدين عبد العزيز عشرين حديثا تساعيا، وسمع السلطان ذلك، وكان جمعا موفورا، وأجاز قاضي القضاة الملك الناصر ومن حضر برواية ذلك. وجميع ما يجوز له روايته، وعند ما انقضى مجلس السماع قرّر السلطان في مشيخة هذه الخانكاه الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي، ولقّبه بشيخ الشيوخ، فصار يقال له ذلك ولكلّ من ولي بعده، وكان قبل ذلك لا يلقب بشيخ الشيوخ إلّا شيخ خانقاه سعيد السعداء، وأحضرت التشاريف السلطانية فخلع على قاضي القضاة بدر الدين، وعلى ولده عز الدين، وعلى قاضي القضاة المالكية، وعلى الشيخ مجد الدين أبي حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي شيخ الشيوخ، وعلى الشيخ علاء الدين القونويّ شيخ خاقناه سعيد السعداء، وعلى الشيخ قوام الدين أبي محمد عبد المجيد بن أسعد بن محمد الشيرازيّ، شيخ الصوفية بالجامع الجديد الناصريّ، خارج مدينة مصر، وعلى جماعة كثيرة. وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف، وفرّق بها ستين ألف درهم فضة وعاد إلى قلعة الجبل، فرغب الناس في السكنى حول هذه الخانقاه وبنو الدور والحوانيت والخانات، حتى صارت بلدة كبيرة تعرف بخانقاه سرياقوس، وتزايد الناس بها حتى أنشئ فيها سوى حمّام الخانقاه عدّة حمّامات، وهي إلى اليوم بلدة عامرة، ولا يؤخذ بها مكس البتة مما يباع من سائر الأصناف احتراما لمكان الخانقاه، ويعمل هناك في يوم الجمعة سوق عظيم ترد الناس إليه من الأماكن البعيدة، يباع فيه الخيل والجمال والحمير والبقر والغنم والدجاج والأوز وأصناف الغلات وأنواع الثياب وغير ذلك، وكانت معاليم هذه الخانكاه من أسنى معلوم بديار مصر، يصرف لكل صوفيّ في اليوم من لحم الضأن السليج رطل قد طبخ في طعم شهيّ، ومن الخبز النقيّ أربعة أرطال ويصرف له في كل شهر مبلغ أربعين درهما فضة عنها

خانقاه أرسلان

ديناران ورطل حلوى ورطلان زيتا من زيت الزيتون، ومثل ذلك من الصابون، ويصرف له ثمن كسوة في كلّ سنة، وتوسعة في كل شهر رمضان، وفي العيدين، وفي مواسم رجب وشعبان وعاشوراء، وكلما قدمت فاكهة يصرف له مبلغ لشرائها، وبالخانقاه خزانة بها السكّر والأشربة والأدوية، وبها الطبائعيّ والجرائحيّ والكحال ومصلح الشعر، وفي كلّ رمضان يفرّق على الصوفية كيزان لشرب الماء، وتبيّض لهم قدورهم النحاس، ويعطون حتى الأسنان «1» لغسل الأيدي من وضر اللحم، يصرف ذلك من الوقف لكل منهم، وبالحمّام الحلاق لتدليك أبدانهم وحلق رؤوسهم، فكان المنقطع بها لا يحتاج إلى شيء غيرها ويتفرّغ للعبادة، ثم استجدّ بعد سنة تسعين وسبعمائة بها حمّام أخرى برسم النساء، وما برحت على ما ذكرنا إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، فبطل الطعام وصار يصرف لهم في ثمنه مبلغ من نقد مصر، وهي الآن على ذلك، وأدركت من صوفيتها شخصا شيخا يعرف بأبي طاهر، ينام أربعين يوما بلياليها لا يستيقظ فيها البتة، ثم يستيقظ أربعين يوما لا ينام في ليلها ولا نهارها، أقام على ذلك عدّة أعوام، وخبره مشهور عند أهل الخانقاه، وأخبرني أنه لم يكن في النوم إلّا كغيره من الناس، ثم كثر نومه حتى بلغ ما تقدّم ذكره، ومات بهذه الخانقاه في نحو سنة ثمانمائة، ومما قيل في الخانقاه وما أنشأه السلطان بها: سر نحو سرياقوس وانزل بفنا ... أرجاءها يا ذا النّهي والرشد تلق محلا للسرور والهنا ... فيه مقام للتقي والزهد نسيمه يقول في مسيره ... تنبهي يا عذبات الرند» وروضه الريان من خليجه ... يقول دع ذكر أراضي نجد خانقاه أرسلان هذه الخانقاه فيما بين القاهرة ومصر من جملة أراضي منشأة المهرانيّ، أنشأها الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار. أرسلان: الأمير بهاء الدين الدوادار الناصريّ، كان أوّلا عند الأمير سلار أيام نيابته مصر، خصيصا به حظيا عنده. فلما قدم الملك الناصر محمد بن قلاون من الكرك بعساكر الشام، ونزل بالريدانية ظاهر القاهرة في شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة، أطلع أرسلان على أن جماعة قد اتفقوا على أن يهجموا على السلطان ويفتكوا به يوم العيد، أوّل شوّال، فجاء إليه وعرّفه الحال وقال له: اخرج الساعة واطلع القلعة واملكها. فقام السلطان وفتح باب سر الدهليز وخرج من غير الباب، وصعد قلعة الجبل وجلس على سرير الملك، فرعى

خانقاه بكتمر

السلطان له هذه المناصحة، ولما أخرج الأمير عز الدين أيدمر الدوادار من وظيفته، رتّب أرسلان في الدوادارية، وكان يكتب خطا مليحا، ودرّبه القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر وخرّجه، وهذبه، فصار يكتب بخطه إلى كتاب السرّ عن السلطان في المهمات بعبارة مسدّدة وافية بالمقصود، واستولى على السلطان بحيث لم يكن لغيره في أيامه ذكر، ولم يشتهر فخر الدين وكريم الدين بعظمة إلّا بعده، واجتهدا في إبعاده فما قدرا على ذلك، وفي أيام توليته الدوادارية السلطانية أنشأ هذه الخانكاه على شاطيء النيل، وكان ينزل في كل ليلة ثلاثاء إليها من القلعة ويبيت بها، ويحتفل الناس للحضور إليها، ويرسل عن السلطان إلى مهنا أمير العرب، ونفع الناس نفعا كبيرا وقلدهم مننا جسيمة، ومات في ثالث عشري شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة، فوجد في تركته ألف ثوب أطلس، ونفائس كثيرة، وعدّة تواقيع ومناشير معلمة، فأنكر السلطان معرفتها ونسب إليها اختلاسها، وأوّل من ولي مشيختها تقيّ الدين أبو البقاء محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الرحيم الشريف الحسينيّ القنائي الشافعيّ، جدّ الشيخ عبد الرحيم القنائيّ الصالح المشهور، وأبوه ضياء الدين جعفر، كان فقيها شافعيا، وكان أبو البقاء هذا عالما عارفا زاهدا قليل التكلف متقللا من الدنيا، سمع الحديث وأسمعه، وولد في سنة خمس وأربعين وستمائة، ومات ليلة الاثنين رابع عشر جمادى الأولى، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، ودفن بالقرافة، فتداول مشيختها القضاة الأخنائية إلى أن كانت آخرا بيد شيخنا قاضي القضاة صدر الدين عبد الوهاب بن أحمد الأخنائيّ. فلما مات في سنة تسع وثمانين وسبعمائة، تلقاها عنه عز الدين بن الصاحب، ثم وليها من بعده ابنه شمس الدين محمد بن الصاحب، رحمه الله. خانقاه بكتمر هذه الخانقاه بطرف القرافة في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش، أنشأها الأمير بكتمر الساقي، وابتدأ الحضور بها في يوم الثلاثاء ثامن شهر رجب سنة ست وعشرين وسبعمائة، وأوّل من استقرّ في مشيختها الشمسيّ شمس الدين الروميّ، ورتب له عن معلوم المشيخة في كل شهر مائة درهم، وعن معلوم الإمامة مبلغ خمسين درهما، ورتب معه عشرين صوفيا لكل منهم في الشهر مبلغ ثلاثين درهما، فجاءت من أجلّ ما بني بمصر، ورتب بها صوفية وقرّاء، وقرّر لهم الطعام والخبز في كل يوم، والدراهم والحلوى والزيت والصابون في كل شهر، وبنى بجانبها حمّاما، وأنشأ هناك بستانا، فعمرت تلك الخطة وصار بها سوق كبير وعدّة سكان، وتنافس الناس في مشيختها إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، فبطل الطعام والخبز منها وانتقل السكان منها إلى القاهرة وغيرها، وخربت الحمام والبستان وصار يصرف لأرباب وظائفها مبلغ من نقد مصر، وأقام فيها رجل يحرسها، وتمزق ما كان فيها من الفرش والآلات النحاس والكتب والربعات والقناديل النحاس المكفت والقناديل الزجاج المذهب، وغير ذلك من الأمتعة والنفائس الملوكية، وخرب ما حولها لخلوّه من السكان.

بكتمر الساقي: الأمير سيف الدين، كان أحد مماليك الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، فلما استقرّ الملك الناصر محمد بن قلاون في المملكة بعد بيبرس، أخذه في جملة من أخذ من مماليك بيبرس ورقاه حتى صار أحد الأمراء الأكابر، وكتب إلى الأمير تنكز نائب السلطنة بدمشق بعد أن قبض على الأمير سيف الدين طغاي الكبير يقول له: هذا بكتمر الساقي يكون لك بدلا من طغاي، اكتب إليه بما تريد من حوائجك، فعظم بكتمر وعلا محله وطار ذكره، وكان السلطان لا يفارقه ليلا ولا نهارا إلّا إذا كان في الدور السلطانية، ثم زوّجه بجاريته وحظيته، فولدت لبكتمر ابنه أحمد، وصار السلطان لا يأكل إلّا في بيت بكتمر مما تطبخه له أمّ أحمد في قدر من فضة، وينام عندهم ويقوم، واعتقد الناس أن أحمد ولد السلطان لكثرة ما يطيل حمله وتقبيله، ولما شاع ذكر بكتمر وتسامع الناس به قدّموا إليه غرائب كلّ شيء، وأهدوا إليه كل نفيس، وكان السلطان إذا حمل إليه أحد من النوّاب تقدمة لا بدّ أن يقدّم لبكتمر مثلها أو قريبا منها، والذي يصل إلى السلطان يهب له غالبه، فكثرت أمواله وصارت إشارته لا تردّ، وهو عبارة عن الدولة، وإذا ركب كان بين يديه مائتا عصا نقيب، وعمر له السلطان القصر على بركة الفيل. ولما مات بطريق الحجاز في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، خلف من الأموال والقماش والأمتعة والأصناف والزردخاناه ما يزيد على العادة والحدّ، ويستحي العاقل من ذكره، فأخذ السلطان من خيله أربعين فرسا وقال: هذه لي ما وهبته إياها، وبيع الباقي من الخيل على ما أخذه الخاصكية بثمن بخس بمبلغ ألف ألف درهم فضة، ومائتي ألف درهم وثمانين ألف درهم فضة، خارجا عما في الجشارات، وأنعم السلطان بالزردخاناه والسلاحخاناه التي له على الأمير قوصون بعد ما أخذ منها سرجا واحدا وسيفا، القيمة عن ذلك ستمائة ألف دينار، وأخذ له السلطان ثلاثة صناديق جوهرا مثمنا لا تعلم قيمة ذلك، وبيع له من الصيني والكتب والختم والربعات، ونسخ البخاريّ والدوايات الفولاذ والمطعمة والبصم بسقط الذهب وغير ذلك، ومن الوبر والأطلس وأنواع القماش السكندريّ والبغداديّ وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية المفرطة، ودام البيع لذلك مدّة شهور. وامتنع القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص من حضور البيع واستعفى من ذلك، فقيل له لأيّ شيء فعلت ذلك؟ قال: ما أقدر أصبر على غبن ذلك، لأن المائة درهم تباع بدرهم. ولما خرج مع السلطان إلى الحجاز خرج بتجمل زائد وحشمة عظيمة وهو ساقة الناس كلهم، وكان ثقله وجماله نظير ما للسلطان، ولكن يزيد عليه بالزركش وآلات الذهب، ووجد في خزانته بطريق الحجاز بعد موته خمسمائة تشريف، منها ما هو أطلس بطرز زركش وما دون ذلك من خلع أرباب السيوف وأرباب الأقلام، ووجد معه قيود وجنازير، وتنكر السلطان له في طريق الحجاز واستوحش كلّ منهما من صاحبه، فاتفق أنهم

خانقاه قوصون

في العود مرض ولده أحمد ومرض من بعده، فمات ابنه قبله بثلاثة أيام، فحمل في تابوت مغشي بجلد جمل، ولما مات بكتمر دفن مع ولده بنخل، وحث السلطان في المسير وكان لا ينام في تلك السفرة إلّا في برج خشب، وبكتمر عنده، وقوصون على الباب والأمراء المشايخ كلهم حول البرج بسيوفهم، فلما مات بكتمر ترك السلطان ذلك، فعلم الناس أن احترازه كان خوفا من بكتمر. ويقال أن السلطان دخل عليه وهو مريض في درب الحجاز فقال له: بيني وبينك الله. فقال له: كل من فعل شيئا يلتقيه. ولما مات صرخت زوجته أمّ ابنه أحمد وبكت وأعولت إلى أن سمعها الناس تتكلم بالقبيح في حق السلطان، من جملته: أنت تقتل مملوكك، أنا ابني ايش كان؟ فقال لها: بس، تفشرين، هاتي مفاتيح صناديقه، فأنا أعرف كل شيء أعطيته من الجواهر. فرمت بالمفاتيح إليه فأخذها، ولما وصل السلطان إلى قلعة الجبل أظهر الحزن والندامة عليه، وأعطى أخاه قماري أمرة مائة وتقدمة ألف، وكان يقول ما بقي يجيئنا مثل بكتمر، وأمر فحملت جثته وجثة ابنه إلى خانقاهه هذه ودفنتا بقبتها، وبدت من السلطان أمور منكرة بعد موت بكتمر، فإنه كان يحجر على السلطان ويمنعه من مظالم كثيرة، وكان يتلطف بالناس ويقضي حوائجهم ويسوسهم أحسن سياسة، ولا يخالفه السلطان في شيء، ومع ذلك فلم يكن له حماية ولا رعاية ولا لغلمانه ذكر، ومن المغرب يغلق باب إصطبله، وكان ممّا له على السلطان من المرتب في كل يوم مخفيتان، يأخذ عنهما من بيت المال كل يوم سبعمائة درهم، عن كل مخفية ثلاثمائة وخمسين درهما، وكان السلطان إذا أنعم على أحد بشيء أو ولّاه وظيفة قال له: روح إلى الأمير بكتمر وبوس يده، وكان جيد الطباع حسن الأخلاق لين الجانب سهل الانقياد رحمه الله. خانقاه قوصون هذه الخانقاه في شماليّ القرافة مما يلي قلعة الجبل تجاه جامع قوصون، أنشأها الأمير سيف الدين قوصون، وكملت عمارتها في سنة ست وثلاثين وسبعمائة، وقرّر في مشيختها الشيخ شمس الدين أبا الثناء محمود بن أبي القاسم أحمد الأصفهانيّ، ورتب له معلوما سنيا من الدراهم والخبز واللحم والصابون والزيت وسائر ما يحتاج إليه، حتى جامكية غلام بغلته، واستقرّ ذلك في الوقف من بعده لكل من ولي المشيخة بها، وقرّر بها جماعة كثيرة من الصوفية، ورتب لهم الطعام واللحم والخبز في كل يوم، وفي الشهر المعلوم من الدراهم ومن الحلوى والزيت والصابون، وما زالت على ذلك إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، فبطل الطعام والخبز منها وصار يصرف لمستحقيها مال من نقد مصر، وتلاشى أمرها من بعد ما كانت من أعظم جهات البرّ، وأكثرها نفعا وخيرا، وقد تقدّم ذكر قوصون عند ذكر جامعه من هذا الكتاب.

خانقاه طغاي النجمي

خانقاه طغاي النجميّ هذه الخانقاه بالصحراء خارج باب البرقية فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر، أنشأها الأمير طغاي تمر النجميّ، فجاءت من المباني الجليلة، ورتب بها عدّة من الصوفية وجعل شيخهم الشيخ برهان الدين الرشيدي، وبنى بجانبها حمّاما وغرس في قبليها بستانا، وعمل بجانب الحمّام حوض ماء للسبيل ترده الدواب، ووقف على ذلك عدّة أوقاف، ثم إن الحمّام والحوض تعطلا مدّة. فلما ماتت أرزباي زوجة القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ في سنة ثمان وثمانمائة، دفنها خارج باب النصر وأحبّ أن يبنى على قبرها ويوقف عليها أوقافا، ثم بدا له فنقلها إلى هذه الخانقاه ودفنها بالقبة التي فيها، وأدار الساقية وملأ الحوض ورتب لقرّاء هذه الخانقاه معلوما، وعزم على تجديد ما تشعث من بنائها وإدارة حمامها، ثم بدا له فأنشأ بجانب هذه الخانقاه تربة ونقل زوجته مرّة ثالثة إليها، وجعل أملاكه وقفا على تربته. طغاي تمر النجميّ: كان دوادار الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاون، فلما مات الصالح استقرّ على حاله في أيام أخويه الملك الكامل شعبان، والملك المظفر حاجي، وكان من أحسن الأشكال وأبدع الوجوه، تقدّم في الدول وصارت له وجاهة عظيمة، وخدمه الناس ولم يزل على حاله إلى أن لعب به أغرلوا فيمن لعب وأخرجه إلى الشام وألحقه بمن أخذه من غزة، وذلك في أوائل جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وطغاي هذا أوّل دوادار أخذ أمرة مائة وتقدمة ألف، وذلك في أوّل دولة المظفر حاجي، ولما كانت واقعة الأمير ملكتمر الحجازيّ والأمير آق سنقر وعدّة من الأمراء في تاسع عشر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، رمى طغاي تمر سيفه وبقي بغير سيف بعض يوم، ثم إن المظفر أعطاه سيفه واستمرّ في الدوادارية نحو شهر، وأخرج هو والأمير نجم الدين محمود الوزير، والأمير سيف الدين بيدمر البدريّ على الهجن إلى الشام، فأدركهم الأمير سيف الدين منجك وقتلهم في الطريق. خانقاه أمّ أنوك هذه الخانقاه خارج باب البرقية بالصحراء، التي أنشأتها الخاتون طغاي تجاه تربة الأمير طاشتمر الساقي، فجاءت من أجلّ المباني، وجعلت بها صوفية وقرّاء، ووقفت عليها الأوقاف الكثيرة، وقرّرت لكل جارية من جواريها مرتبا يقوم بها. طغاي الخوندة الكبرى: زوجة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، وأمّ ابنه الأمير أنوك، كانت من جملة إمائه، فأعتقها وتزوّجها، ويقال أنها أخت الأمير أقبغا عبد الواحد، وكانت بديعة الحسن باهرة الجمال، رأت من السعادة ما لم يره غيرها من نساء

خانقاه يونس

الملوك الترك بمصر، وتنعمت في ملاذّ ما وصل سواها لمثلها، ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها، وصارت خونده بعد ابنه توكاي وأكبر نسائه، حتى من ابنة الأمير تنكز. وحج بها القاضي كريم الدين واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محاير طين على ظهور الجمال، وأخذ لها الأبقار الحلابة، فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطريّ، وعمل الجبن، وكان يقلي لها الجبن في الغداء والعشاء، وناهيك بمن وصل إلى مداومة البقل والجبن في كل يوم، وهما أخس ما يؤكل، فما عساه يكون بعد ذلك. وكان القاضي كريم الدين، والأمير مجلس، وعدّة من الأمراء يترجلون عند النزول ويمشون بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها كما يفعلون بالسلطان، ثم حج بها الأمير بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وكان الأمير تنكز إذا جهز من دمشق تقدمة إلى السلطان لا بدّ أن يكون لخوند طغاي منها جزء وافر، فلما مات السلطان الملك النصار استمرّت عظمتها من بعده إلى أن ماتت في شهر شوّال سنة تسع وأربعين وسبعمائة، أيام الوباء، عن ألف جارية، وثمانين خادما خصيا، وأموال كثيرة جدّا، وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف، جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قرّاء، ووقفت على ذلك وقفا، وجعلت من جملته خبزا يفرّق على الفقراء، ودفنت بهذه الخانقاه، وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا. خانقاه يونس هذه الخانقاه من جملة ميدان القبق بالقرب من قبة النصر خارج باب النصر، أدركت موضعها وبه عواميد تعرف بعواميد السباق، وهي أوّل مكان بني هناك، أنشأها الأمير يونس النوروزيّ الدوادار كان من مماليك الأمير سيف الدين جرجي الإدريسيّ، أحد الأمراء الناصرية، وأحد عتقائه، فترقى في الخدم من آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن صار من جملة الطائفة اليلبغاوية، فلما قتل الأمير يلبغا الخاصكيّ خدم بعده الأمير استدمر الناصريّ الأتابك، وصار من جملة دواداريته، وما زال يتنقل في الخدم إلى أن قام الأمير برقوق بعد قتل الملك الأشرف شعبان، فكان ممن أعانه وقاتل معه، فرعى له ذلك ورقّاه إلى أن جعله أمير مائة مقدّم ألف، وجعله دواداره لما تسلطن، فسلك في رياسته طريقة جليلة، ولزم حالة جميلة من كثر الصيام والصلاة، وإقامة الناموس الملوكيّ، وشدّة المهابة، والإعراض عن اللعب، ومداومة العبوس، وطول الجلوس، وقوّة البطش لسرعة غضبه، ومحبة الفقراء، وحضور السماع والشغف به، وإكرام الفقهاء وأهل العلم. وأنشأ بالقاهرة ربعا وقيسارية بخط البندقانيين، وتربة خارج باب الوزير تحت القلعة، وأنشأ بظاهر دمشق مدرسة بالشرف الأعلى، وأنشأ خانا عظيما خارج مدينة غزة، وجعل بجانب هذه الخانقاه مكتبا يقرأ فيه أيتام المسلمين كتاب الله تعالى، وبنى بها صهريجا ينقل

خانقاه طيبرس

إليه ماء النيل، وما زال على وفور حرمته ونفوذ كلمته إلى أن خرج الأمير يلبغا الناصريّ نائب حلب على الملك الظاهر برقوق، في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وجهز السلطان الأمير أيتمش، والأمير يونس هذا، والأمير جهاركس الخليليّ، وعدّة من الأمراء والمماليك لقتاله، فلقوه بدمشق وقاتلوه فهزمهم، وقتل الخليليّ وفرّ أيتمش إلى دمشق، ونجا يونس بنفسه يريد مصر، فأخذه الأمير عيفا بن شطي أمير الأمراء وقتله يوم الثلاثاء ثاني عشري شهر ربيع الآخر، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ولم يعرف له قبر بعد ما أعدّ لنفسه عدّة مدافن في غير ما مدينة من مصر والشام. خانقاه طيبرس هذه الخانقاه من جملة أراضي بستان الخشاب، فيما بين القاهرة ومصر على شاطىء النيل، أنشأها الأمير علاء الدين طيبرس الخازندار نقيب الجيوش في سنة سبع وسبعمائة، بجوار جامعه المقدّم ذكره عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب. وقرّر بها عدّة من الصوفية، وجعل لهم شيخا وأجرى لهم المعاليم، ولم تزل عامرة إلى أن حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، فابتاع شخص الوكالة والربعين المعروفين بربع بكتمر والحمامين، ونقض ذلك فخرب الخط وصار مخوفا. فلما كان في سنة أربع عشرة وثمانمائة، نقل الحضور من هذه الخانقاه إلى المدرسة الطيبرسية بجوار الجامع الأزهر، وهي الآن بصدد أن تدثر وتمحى آثارها. خانقاه أقبغا هذه الخانقاه هي موضع من المدرسة الأقبغاوية بجوار الجامع الأزهر، أفرده الأمير أقبغا عبد الواحد وجعل فيه طائفة يحضرون وظيفة التصوّف، وأقام لهم شيخا وأفرد لهم وقفا يختص بهم، وهي باقية إلى يومنا هذا، وله أيضا خانقاه بالقرافة. الخانقاه الخروبية هذه الخانقاه بساحل الجيزة تجاه المقياس، كانت منظرة من أعظم الدور وأحسنها، أنشأها زكيّ الدين أبو بكر بن عليّ الخرّوبيّ كبير التجار، ثم توارثها من بعده أولاد الخرّوبيّ التجار بمصر، فلم تزل بأيديهم، إلى أن نزلها السلطان المؤيد شيخ في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رجب الفرد، سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، وأقام بها فاقتضى رأيه أن يجعلها خانقاه، فاستدعى بابن الخرّوبيّ ليشتريها منه، فتبرّع بما يخصه منها، وصار إليه باقيها، فتقدّم إلى الأمير سيف الدين أبي بكر بن المسروق الاستادار بعملها خانقاه، وسار منها في يوم الأربعاء سادس عشرة، فأخذ الأمير أبو بكر في عملها حتى كملت في آخر السنة، واستقرّ في مشيختها شمس الدين محمد بن الحمتي الدمشقيّ الحنبليّ، وخلع عليه يوم السبت سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، ورتب له في كل يوم عشرة مؤيدية، عنها مبلغ

ذكر الربط

سبعين درهما فلوسا، سوى الخبز والسكن، وقرّر عنده عشرة من الفقراء لكل منهم مع الخبز مؤيديّ في كل يوم، فجاءت من أحسن شيء. ذكر الربط الربط جمع رباط، وهو دار يسكنها أهل طريق الله. قال ابن سيده: الرباط من الخيل، الخمس فما فوقها. والرباط والمرابطة ملازمة ثغر العدوّ، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله، ثم صار لزوم الثغر رباطا. وربما سميت الخيل نفسها رباطا، والرباط والرباط المواظبة على الأمر. قال الفارسيّ هو ثان من لزوم الثغر، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل وقوله تعالى: وَصابِرُوا وَرابِطُوا قيل معناه جاهدوا، وقيل واظبوا على مواقيت الصلاة. وقال أبو حفص السهرورديّ في كتاب عوارف المعارف: وأصل الرباط ما تربط فيه الخيول، ثم قيل لكل ثغر يدفع أهله عمن وراءهم رباط، فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد، والبلاد. وروى داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أيّ شيء نزلت هذه الآية: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا قلت: لا. قال: يا ابن أخي لم يكن في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزو تربط فيه الخيل، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة، فالرباط جهاد النفس، والمقيم في الرباط مرابط مجاهد نفسه، واجتماع أهل الربط إذ صح على الوجه الموضوع له الربط، وتحقق أهل الربط بحسن المعاملة ورعاية الأوقات، وتوقي ما يفسد الأعمال، ويصحح الأحوال، عادت البركة على البلاد والعباد، وشرائط سكان الرباط قطع المعاملة مع الخلق، وفتح المعاملة مع الحق، وترك الاكتساب اكتفاء بكفالة مسبب الأسباب، وحبس النفس عن المخالطات، واجتناب التبغات، ومواصلة الليل والنهار بالعبادة متعوّضا بها عن كل عادة، والاشتغال بحفظ الأوقات وملازمة الأوراد وانتظار الصلوات، واجتناب الغفلات، ليكون بذلك مرابطا مجاهدا. والرباط هو بيت الصوفية ومنزلهم، ولكل قوم دار، والرباط دارهم، وقد شابهوا أهل الصفة في ذلك، فالقوم في الرباط مرابطون متفقون على قصد واحد وعزم واحد وأحوال متناسبة، ووضع الرباط لهذا المعنى. قال مؤلفه رحمه الله: ولاتخاذ الربط والزوايا أصل من السنة، وهو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اتخذ لفقراء الصحابة الذين لا يأوون إلى أهل ولا مال مكانا من مسجده، كانوا يقيمون به عرفوا بأهل الصفة. رباط الصاحب هذا الرباط مطل على بركة الحبش، أنشأه الصاحب فخر الدين أبو عبد الله محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين أبي الحسن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا، ووقف عليه أبوه الصاحب بهاء الدين بعد موته عقارا بمدينة مصر، وشرط أن يسكنه عشرة من الفقراء المجرّدين غير المتأهلين، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان وستين وستمائة، وهو باق إلى

رباط الفخري

يومنا هذا، وليس فيه أحد، ويستأدي ريع وقفه من لا يقوم بمصالحه. رباط الفخري هذا الرباط خارج باب الفتوح فيما بينه وبين النصر، بناه الأمير عز الدين أيبك الفخريّ، أحد أمراء الملك الظاهر بيبرس. رباط البغدادية هذا الرباط بداخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس، حيث كان المتجر الذي ذكر عند ذكر القصر من هذا الكتاب، ومن الناس من يقول رواق البغدادية، وهذا الرباط بنته الست الجليلة تذكارياي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس في سنة أربع وثمانين وستمائة، للشيخة الصالحة زينت ابنة أبي البركات، المعروفة ببنت البغدادية، فأنزلتها به ومعها النساء الخيرات، وما برح إلى وقتنا هذا يعرف سكانه من النساء بالخير، وله دائما شيخه تعظ النساء وتذكرهنّ وتفقههنّ، وآخر من أدركنا فيه الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها أمّ زينب فاطمة بنت عباس البغدادية، توفيت في ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة، وقد أنافت على الثمانين، وكانت فقيهة وافرة العلم، زاهدة قانعة باليسير، عابدة واعظة حريصة على النفع والتذكير، ذات إخلاص وخشية، وأمر بالمعروف، انتفع بها كثير من نساء دمشق ومصر، وكان لها قبول زائد ووقع في النفوس، وصار بعدها كلّ من قام بمشيخة هذا الرباط من النساء يقال لها البغدادية، وأدركنا الشيخة الصالحة البغدادية أقامت به عدّة سنين على أحسن طريقة إلى أن ماتت يوم السبت لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وسبعمائة، وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طلّقن أو هجرن حتى يتزوّجن أو يرجعن إلى أزواجهنّ صيانة لهنّ، لما كان فيه من شدّة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات، حتى أن خادمة الفقيرات به كانت لا تمكن أحدا من استعمال إبريق ببزبوز، وتؤدّب من خرج عن الطريق بما تراه، ثم لما فسدت الأحوال من عهد حدوث المحن بعد سنة ست وثمانمائة، تلاشت أمور هذا الرباط ومنع مجاوروه من سجن النساء المعتدّات به، وفيه إلى الآن بقايا من خير، ويلي النظر عليه قاضي القضاة الحنفيّ. رباط الست كليلة هذا الرباط خارج درب بطوط من جملة حكر سنجر اليمنيّ، ملاصقة للسور الحجر بخط سوق الغنم وجامع أصلم، وقفه الأمير علاء الدين البراباه على الست كليلة، المدعوّة دولاي، ابنة عبد الله التتارية، زوج الأمير سيف الدين البرليّ السلاحدار الظاهريّ، وجعله مسجدا ورباطا، ورتب فيه إماما ومؤذنا، وذلك في ثالث عشرى شوّال سنة أربع وتسعين وستمائة.

رباط الخازن

رباط الخازن هذا الرباط بقرب قبة الإمام الشافعيّ رحمة الله عليه. من قرافة مصر، بناه الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الخازن. والي القاهرة، وفيه دفن، وهذا الخازن هو الذي ينسب إليه حكر الخازن خارج القاهرة. الرباط المعروف برواق ابن سليمان هذا الرواق بحارة الهلالية خارج باب زويلة، عرف بأحمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن إبراهيم بن أبي المعالي بن العباس الرحبي البطائحيّ الرفاعيّ، شيخ الفقراء الأحمدية الرفاعية بديار مصر، كان عبدا صالحا له قبول عظيم من أمراء الدولة وغيرهم، وينتمي إليه كثير من الفقراء الأحمدية، وروي الحديث عن سبط السلفيّ وحدّث، وكانت وفاته ليلة الاثنين سادس ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وستمائة بهذا الرواق. رباط داود بن إبراهيم هذا الرباط بخط بركة الفيل بني في سنة ثلاث وستين وستمائة. رباط ابن أبي المنصور هذا الرباط بقرافة مصر عرف، بالشيخ صفيّ الدين الحسين بن عليّ بن أبي المنصور الصوفيّ المالكيّ، كان من بيت وزارة، فتجرّد وسلك طريق أهل الله على يد الشيخ أبي العباس أحمد بن أبي بكر الجزار التحبيبيّ المغربيّ، وتزوّجابنته وعرف بالبركة، وحكيت عنه كرامات، وصنف كتاب الرسالة ذكر فيها عدّة من المشايخ، وروى الحديث وحدّث وشارك في الفقه وغيره، وكانت ولادته في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ووفاته برباطه هذا يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة. رباط المشتهى هذا الرباط بروضة مصر يطل على النيل وكان به الشيخ المسلك ... «1» ولله درّ شيخنا العارف الأديب شهاب الدين أحمد بن أبي العباس الشاطر الدمنهوريّ حيث يقول: بروضة المقياس صوفيّة ... هم منية الخاطر والمشتهى لهم على البحر أياد علت ... وشيخهم ذاك له المنتهي

رباط الآثار

وقال الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفيّ: يا ليلة مرّت بنا حلوة ... إن رمت تشبيها لها عبتها لا يبلغ الواصف في وصفها ... حدّا ولا يلقي له منتهى بت مع المعشوق في روضة ... ونلت من خرطومه المشتهى رباط الآثار هذا الرباط خارج مصر بالقرب من بركة الحبش مطلّ على النيل ومجاور للبستان المعروف بالمعشوق. قال ابن المتوّج: هذا الرباط عمره الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد ولد الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا بجوار بستان المعشوق، ومات رحمه الله قبل تكملته، ووصّى أن يكمل من ريع بستان المعشوق، فإذا كملت عمارته يوقف عليه ووصّى الفقيه عز الدين بن مسكين فعمر فيه شيئا يسيرا وأدركه الموت إلى رحمة الله تعالى، وشرع الصاحب ناصر الدين محمد ولد الصاحب تاج الدين في تكملته، فعمر فيه شيئا جيدا انتهى. وإنما قيل له رباط الآثار لأنّ فيه قطعة خشب وحديد يقال أن ذلك من أثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اشتراها الصاحب تاج الدين المذكور بمبلغ ستين ألف درهم فضة من بني إبراهيم أهل ينبع، وذكروا أنها لم تزل عندهم موروثة من واحد إلى آخر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحملها إلى هذا الرباط وهي به إلى اليوم يتبرّك الناس بها ويعتقدون النفع بها، وأدركنا لهذا الرباط بهجة، وللناس فيه اجتماعات، ولساكنه عدّة منافع ممن يتردّد إليه أيام كان ماء النيل تحته دائما. فلما انحسر الماء من تجاهه وحدثت المحن من سنة ست وثمانمائة قلّ تردّد الناس إليه، وفيه إلى اليوم بقية، ولما كانت أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون قرّر فيه درسا للفقهاء الشافعية، وجعل له مدرّسا، وعنده عدّة من الطلبة، ولهم جار في كل شهر من وقف وقفه عليهم وهو باق أيضا، وفي أيام الملك الظاهر برقوق وقف قطعة أرض لعمل الجسر المتصل بالرباط، ولهذا الرباط حزانة كتب وهو عامر بأهله. الوزير الصاحب: تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن سليم بن حنا، ولد في سابع شعبان سنة أربعين وستمائة، وسمع من سبط السلفيّ وحدّث وانتهت إليه رياسة عصره، وكان صاحب صيانة وسؤدد ومكارم، وشاكلة حسنة وبزة فاخرة إلى الغاية، وكان يتناهى في المطاعم والملابس والمناكح والمساكن، ويجود بالصدقات الكثيرة مع التواضع ومحبة الفقراء وأهل المصلاح والمبالغة في اعتقادهم، ونال في الدنيا من العز والجاه ما لم يره جدّه الصاحب الكبير بهاء الدين، بحيث أنّه لما تقلد الوزير الصاحب فخر الدين بن الخليليّ الوزارة، وسار من قلعة الجبل وعليه

رباط الأفرم

تشريف الوزارة إلى بيت الصاحب تاج الدين وقبل يده وجلس بين يديه، ثم انصرف إلى داره، وما زال على هذا القدر من وفور العز إلى أن تقلد الوزارة في يوم الخميس رابع عشري صفر سنة ثلاث وتسعين وستمائة، بعد قتل الوزير الأمير سنجر الشجاعيّ، فلم ينجب، وتوقفت الأحوال في أيامه حتى احتاج إلى إحضار تقاوي النواحي المرصدة بها للتخضير واستهلكها، ثم صرف في يوم الثلاثاء خامس عشري جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وستمائة بفخر الدين عثمان بن الخليليّ، وأعيد الوزارة مرّة ثانية، فلم ينجح، وعزل وسلّم مرّة للشجاعيّ فجرّده من ثيابه وضربه شيبا واحدا بالمقارع فوق قميصه، ثم أفرج عنه على مال، ومات في رابع جمادى الآخرة سنة سبع وسبعمائة، ودفن في تربتهم بالقرافة، وكان له شعر جيد، ولله درّ شيخنا الأديب جلال الدين محمد بن خطيب داريا الدمشقيّ البيسانيّ حيث يقول في الآثار: يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشطّ مزاره فلقد ظفرت من الزمان بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره وقد سبقه لذلك الصلاح خليل بن أيبك الصفديّ فقال: أكرم بآثار النبيّ محمد ... من زاره استوفى السرور مزاره يا عين دونك فانظري وتمتعي ... إن لم تريه فهذه آثاره واقتدى بهما في ذلك أبو الحزم المدنيّ فقال: يا عين كم ذا تسفحين مدامعا ... شوقا لقرب المصطفى ودياره إن كان صرف الدهر عاقك عنهما ... فتمتعي يا عين في آثاره رباط الأفرم هذا الرباط بسفح الجرف الذي عليه الرصد، وهو يشرف على بركة الحبش، وكان من أحسن منتزهات أهل مصر. أنشأه الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير خازندار الصالحيّ النجميّ، ورتب فيه صوفية وشيخا وإماما، وجعل فيه منبرا يخطب عليه للجمعة. والعيدين، وقرّر لهم معاليم من أوقاف أرصدها لهم، وذلك في سنة ثلاث وستين وستمائة، وهو باق إلّا أنّه لم يبق به ساكن لخراب ما حوله، وله إلى اليوم متحصل من وقفه، والأفرم هذا هو الذي ينسب إليه جسر الأفرم خارج مصر، وقد ذكر عند ذكر الجسور من هذا الكتاب. الرباط العلائي هذا الرباط خارج مصر بخط بين الزقاقين شرقيّ الخليج الكبير، يعرف اليوم بخانقاه المواصلة، وهو آيل إلى الدثور لخراب ما حوله، أنشأه الملك علاء الدين أبو الحسن عليّ

ذكر الزوايا

ابن الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة، بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، بجوار داره وحمّامه وطاحونه، وجعل له فيه مدفنا ووقف عليه بستان الجرف وبستانا بناحية شبرا، وعدّة حصص من قرى فلسطين والساحل، وأحكارا ودورا بجانب الرباط. ومات يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، ومولده يوم الجمعة ثامن عشري المحرّم سنة سبع وخمسين وستمائة، بجزيرة ابن عمرو، وكان من الحلقة وسمع الحديث من النجيب الحرّانيّ، وابن عرنين، وابن علاف. ودفن فيه وبه إلى الآن بقية، ويحضره الفقهاء يوما في الأسبوع وهم عشرة شيخهم منهم ومنهم قارىء ميعاد وقرّاء، وكان أوّلا معمورا بسكنى أهله دائما فيه، وفي هذا الوقت لا يمكن سكناه لكثرة الخوف من السرّاق. ذكر الزوايا زاوية الدمياطيّ هذه الزاوية فيما بين خط السبع سقايات وقطنرة السدّ خارج مصر إلى جانب حوض السبيل المعدّ لشرب الدواب، أنشأها الأمير عز الدين أيبك الدمياطيّ الصالحيّ النجميّ، أحد الأمراء المقدّمين الأكابر في أيام الملك الظاهر بيبرس، وبها دفن لمّا مات بالقاهرة ليلة الأربعاء تاسع شعبان سنة ست وتسعين وستمائة، وإلى الآن يعرف الحوض المجاور لها بحوض الدمياطي. زاوية الشيخ خضر هذه الزاوية خارج باب الفتوح من القاهرة بخط زقاق الكحل. تشرف على الخليج الكبير، عرفت بالشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى المهرانيّ العدويّ، شيخ السلطان الملك الظاهر بيبرس، كان أوّلا قد انقطع بجبل المزة خارج دمشق، فعرفه الأمير سيف الدين قشتمر العجميّ وتردّد إليه فقال له: لا بدّ أن يتسلطن الأمير بيبرس البندقاريّ، فأخبر بيبرس بذلك، فلما صارت المملكة إليه بعد قتل الملك المظفر قطز، اشتمل على اعتقاده وقرّبه، وبني له زاوية بجبل المزة، وزاوية بظاهر بعلبك، وزاوية بحماه، وزاوية بحمص، وهذه الزاوية خارج القاهرة. ووقف عليها أحكارا تغل في السنة نحو الثلاثين ألف درهم، وأنزله بها وصار ينزل إليه في الأسبوع مرّة أو مرّتين ويطلعه على غوامض أسراره ويستشيره في أموره، ولا يخرج عما يشير به، ويأخذه معه في أسفاره، وأطلق يده وصرّفه في مملكته، فهدم كنيسة اليهود بدمشق، وهدم كنيسة للنصارى بالقدس، كانت تعرف بالمصلبة، وعملها زاوية، وقتل قسيسها بيده، وهدم كنيسة للروم بالإسكندرية كانت من كراسي النصارى، ويزعمون أن بها رأس يحيى بن زكريا، وعملها مسجدا سماه الخضر، فاتقي جانبه الخاص

زاوية ابن منظور

والعام حتى الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار نائب السلطنة، والصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا، وملوك الأطراف، وكان يكتب إلى صاحب حماه وجميع الأمراء إذا طلب حاجة ما مثاله: الشيخ خضر نياك الحمارة، وكان ربع القامة كث اللحية يتعمم، عسراويّ وفي لسانه عجمة، مع سعة صدر وكرم شمائل وكثرة عطاء من تفرقة الذهب والفضة، وعمل الأسمطة الفاخرة، وكانت أحواله عجيبة لا تتكيف، وأقوال الناس فيه مختلفة، منهم من يثبت صلاحه ويعتقده، ومنهم من يرميه بالعظائم. وكان يخبر السلطان بأمور تقع، منها أنه لما حاصر أرسوف وهي أوّل فتوحاته، قال له: متى نأخذ هذه المدينة؟ فعين له يوما يأخذها فيه، فأخذها في ذلك اليوم بعينه، واتفق له مثل ذلك في فتح قيسارية، فلذلك كثر اعتقاده فيه، وما أحسن قول الشريف محمد بن رضوان الناسخ في ملازمة السلطان له أسفاره: ما الظاهر السلطان إلّا مالك ال ... دنيا بذاك لنا الملاحم تخبر ولنا دليل واضح كالشّمس في ... وسط السماء لكلّ عين تنظر لما رأينا الخضر يقدم جيشه ... أبدا علمنا أنّه الإسكندر وما برح على رتبته إلى ثامن عشر شوّال سنة إحدى وسبعين ستمائة، فقبض عليه واعتقل بقلعة الجبل ومنح الناس من الاجتماع به. ويقال أن ذلك بسبب أنّ السلطان كان أعطاه تحفا قدمت من اليمن، منها كرّ يمنيّ مليح إلى الغاية، فأعطاه خضر لبعض المردان، فبلغ ذلك الأمير بدر الدين الخازندار النائب، وكان قد ثقل عليه بكثرة تسلطه، حتى لقد قال له مرّة بحضرة السلطان: كأنك تشفق على السلطان وعلى أولاده مثل ما فعل قطز بأولاد المعز، فأسرّها في نفسه، وبلغ خبر الكرّ اليمنيّ إلى السلطان، فاستدعاه وحضر جماعة حاققوه على أمور كثيرة منكرة، كاللواط والزنا ونحوه، فاعتقله ورتب له ما يكفيه من مأكول وفاكهة وحلوى، ولما سافر السلطان إلى بلاد الروم قال خضر لبعض أصحابه إنّ السلطان يظهر على الروم ويرجع إلى دمشق فيموت بها بعد أن أموت أنا بعشرين يوما. فكان كذلك، ومات خضر في محبسه بقلعة الجبل في سادس المحرّم أو سابعه من سنة ست وسبعين وستمائة، وقد أناف على الخمسين، فسلّم إلى أهله وحملوه إلى زاويته هذه ودفنوه فيها، وكان السلطان قد كتب بالانفراج عنه، فقدم البريد بعد موته، ومات السلطان بدمشق في سابع عشري المحرّم المذكور بعد خضر بعشرين يوما، وهذه الزاوية باقية إلى اليوم. زاوية ابن منظور هذه الزاوية خارج القاهرة بخط الدكة بجوار المقس، عرفت بالشيخ جمال الدين محمد بن أحمد بن منظور بن يس بن خليفة بن عبد الرحمن أبو عبد الله الكتانيّ العسقلانيّ الشافعيّ الصوفيّ، الإمام الزاهد، كانت له معارف واتباع ومريدون ومعرفة بالحديث، حدّث عن أبي الفتوح الجلاليّ وروي عنه الدمياطيّ والدواداريّ وعدّة من الناس، ونظر في الفقه

زاوية الظاهري

واشتهر بالفضيلة، وكانت له ثروة وصدقات. ومولده في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وخمسمائة، ووفاته بزاويته في ليلة الثاني والعشرين من شهر رجب الفرد، سنة ست وتسعين وستمائة، وكانت هذه الزاوية أوّلا تعرف بزاوية شمس الدين بن كرا البغداديّ. زاوية الظاهري هذه الزاوية خارج باب البحر ظاهر القاهرة عند جمّام طرغاي على الخليج الناصريّ، كانت أوّلا تشرف طاقاتها على بحر النيل الأعظم، فلما انحسر الماء عن ساحل المقس، وحفر الملك الناصر محمد بن قلاون الخليج الناصريّ صارت تشرف على الخليج المذكور من برّه الشرقيّ، واتصلت المناظر هناك إلى أن كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة، فخربت حمّام طرغاي وبيعت أنقاضها وأنقاض كثير مما كان هناك من المناظر، وأنشئ هناك بستان عرف أوّلا بعبد الرحمن صيرفيّ الأمير جمال الدين الأستادار، لأنه أوّلا أنشأه ثم انتقل عنه. والظاهريّ هذا هو أحمد بن محمد عبد الله أبو العباس جمال الدين الظاهريّ، كان أبوه محمد بن عبد الله عتيق الملك الظاهر شهاب الدين غازي، وبرع حتى صار إماما حافظا وتوفي ليلة الثلاثاء لاربع بقين من ربيع الأوّل سنة ست وتسعين وستمائة بالقاهرة، ودفن بتربته خارج باب النصر. وابنه عثمان بن أحمد بن محمد بن عبد الله فخر الدين بن جمال الدين الظاهريّ الحلبيّ، الإمام العلامة المحدّث الصالح، ولد في سنة سبعين وستمائة، وأسمعه أبو بديار مصر والشام، وكان مكثرا ومات بزاويته هذه في سنة ثلاثين وسبعمائة. زاوية الجميزة هذه الزاوية موضعها من جملة أراضي الزهريّ، وهي الآن خارج باب زويلة بالقرب من معدّية فريج، أنشأها الأمير سيف الدين جيرك السلاحدار المنصوريّ أحد أمراء الملك المنصور قلاون، في سنة اثنتين وثمانين وستمائة، وجعل فيها عدّة من الفقراء الصوفية. زاوية الحلاوي هذه الزاوية بخط الأبارين من القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر، أنشأها الشيخ مبارك الهنديّ السعوديّ الحلاويّ، أحد الفقراء من أصحاب الشيخ أبي السعود بن أبي العشائر البارينيّ الواسطيّ، في سنة ثمان وثمانين وستمائة، وأقام بها إلى أن مات ودفن فيها، فقام من بعده ابنه الشيخ عمر بن عليّ بن مبارك، وكانت له سماعات ومرويات، ثم قام من بعده ابنه شيخنا جمال الدين عبد الله بن الشيخ عمر بن عليّ بن الشيخ مبارك الهنديّ، وحدّث فسمعنا عليه بها إلى أن مات في صفر سنة ثمان وثمانمائة، وبها الآن ولده، وهي من الزوايا المشهورة بالقاهرة.

زاوية نصر

زاوية نصر هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة، أنشأها الشيخ نصر بن سليمان أبو الفتح المنبجيّ الناسك القدوة، وحدّث بها عن إبراهيم بن خليل وغيره، وكان فقيها معتزلا عن الناس متخليا للعبادة، يتردّد إليه أكابر الناس وأعيان الدولة، وكان للأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير فيه اعتقاد كبير، فلما ولي سلطنة مصر أجلّ قدره وأكرم محله، فهرع الناس إليه وتوسلوا به في حوائجهم، وكان يتغالى في محبة العارف محيى الدين محمد بن عربي الصوفيّ، ولذلك كانت بينه وبين شيخ الإسلام أحمد بن تيمية مناكرة كبيرة، ومات رحمه الله عن بضع وثمانين سنة، في ليلة السابع والعشرين من جمادى الآخرة، سنة تسع عشرة وسبعمائة ودفن بها. زاوية الخدّام هذه الزاوية خارج باب النصر، فيما بين شقة باب الفتوح من الحسينية وبين شقة الحسينية خارج باب النصر، أنشأها الطواشي بلال الفرّاجيّ وجعلها وقفا على الخدّام الحبش الأجناد، في سنة سبع وأربعين وستمائة. زاوية تقي الدين هذه الزاوية تحت قلعة الجبل، أنشأها الملك الناصر محمد بن قلاون بعد سنة عشرين وسبعمائة، لسكنى الشيخ تقيّ الدين رجب بن أشيرك العجميّ، وكان وجيها محترما عند أمراء الدولة، ولم يزل بها إلى أن مات يوم السبت ثامن شهر رجب سنة أربع عشرة وسبعمائة، وما زالت منزلا لفقراء العجم إلى وقتنا هذا. زاوية الشريف مهدي هذه الزاوية بجوار زاوية الشيخ تقيّ الدين المذكور، بناها الأمير صرغتمش في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة. زاوية الطراطرية هذه الزاوية بالقرب من موردة البلاط، بناها الملك الناصر محمد بن قلاون بوساطة القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص برسم الشيخين الأخوين محمد وأحمد المعروفين بالطراطرية، في سنة أربعين وسبعمائة، وكانا من أهل الخير والصلاح، ونزلا أوّلا في مقصورة بالجامع الأزهر، فعرفت بهما، ثم عرفت بعدهما بمقصورة الحسام الصفديّ والد

زاوية القلندرية

الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام، وهذه المقصورة بآخر الرواق الأوّل مما يلى الركن الغربيّ، ولم تزل هذه الزاوية عامرة إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، وخرب خط زريبة قوصون وما في قبليه إلى منشأة المهرانيّ، وما في بحريه إلى قرب بولاق. زاوية القلندرية القلندرية طائفة تنتمي إلى الصوفية، وتارة تسمي أنفسها ملامتية، وحقيقة القلندرية أنهم قوم طرحوا التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات، وقلت أعمالهم من الصوم والصلاة إلّا الفرائض، ولم يبالوا بتناول شيء من اللذات المباحة، واقتصروا على رعاية الرخصة، ولم يطلبوا حقائق العزيمة، والتزموا أن لا يدّخروا شيئا، وتركوا الجمع والاستكثار من الدنيا ولم يتقشفوا ولا زهدوا ولا تعبدوا، وزعموا أنهم قد قنعوا بطيب قلوبهم مع الله تعالى، واقتصروا على ذلك وليس عندهم تطلع إلى طلب مزيد سوى ما هم عليه من طيب القلوب. والفرق بين الملامتيّ والقلندريّ، أن الملامتيّ يعمل في كتم العبادات، والقلندريّ يعمل في تخريب العادات، والملامتيّ يتمسك بكل أبواب البرّ والخير ويرى الفضل فيه، إلّا أنه يخفي أحواله وأعماله، ويوقف نفسه موقف العوام في هيئته، وملبوسه تسترا للحال، حتى لا يفطن له، وهو مع ذلك متطلع إلى المزيد من العبادات. والقلندريّ لا يتقيد بهيئة ولا يبالي بما يعرف من حاله وما لا يعرف، ولا ينعطف إلّا على طيب القلوب، وهو رأس مال. هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة من الجهة التي فيها الترب والمقابر التي تلي المساكن، أنشأها الشيخ حسن الجوالقيّ القلندريّ، أحد فقراء العجم القلندرية على رأي الجوالقة، ولما قدم إلى ديار مصر تقدّم عند أمراء الدولة التركية، وأقبلوا عليه واعتقدوه فأثرى ثراء زائدا في سلطنة الملك العادل كتبغا، وسافر معه من مصر إلى الشام، فاتفق أن السلطان اصطاد غزالا ودفعه إليه ليحمله إلى صاحب حماه، فلما أحضره إليه ألبسه تشريفا من حرير طرز وخش وكلوتة زركش، فقدم بذلك على السلطان، فأخذ الأمراء في مداعبته وقالوا له على سبيل الإنكار: كيف تلبس الحرير والذهب وهما حرام على الرجال؟ فأين التزهد وسلوك طريق الفقراء ونحو ذلك؟ فعندما حضر صاحب حماه إلى مجلس السلطان على العادة قال له: يا خوند أيش عملت معي، الأمراء أنكروا عليّ، والفقراء تطالبني. فأنعم عليه بألف دينار، فجمع الفقراء والناس وعمل وقتا عظيما بزاوية الشيخ عليّ الحريريّ خارج دمشق، وكان سمح النفس جميل العشرة لطيف الروح، يحلق لحيته ولا يعتم، ثم إنه ترك الحلق وصارت له لحية وتعمم عمامة صوفية، وكانت له عصبة، وفيه مروءة وعصبية، ومات بدمشق في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة. وما زالت هذه الزاوية منزلا لطائفة القلندرية، ولهم بها شيخ، وفيها منهم عدد

قبة النصر

موفور، وفي شهر ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة، حضر السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون بخانقاه أبيه الملك الناصر في ناحية سرياقوس خارج القاهرة، ومدّ له شيخ الشيوخ سماطا كان من جملة من وقف عليه بين يدي السلطان الشريف عليّ شيخ زاوية القلندرية هذه، فاستدعاه السلطان وأنكر عليه حلق لحيته، واستتابه وكتب له توقيعا سلطانيا منع فيه هذه الطائفة من تحليق لحاهم، وأنّ من تظاهر بهذه البدعة قوبل على فعله المحرّم، وأن يكون شيخا على طائفته كما كان ما دام وداموا متمسكين بالسنة النبوية، وهذه البدعة لها منذ ظهرت ما يزيد على أربعمائة سنة، وأوّل ما ظهرت بدمشق في سنة بضع عشرة وستمائة، وكتب إلى بلاد الشام بإلزام القلندرية بترك زيّ الأعاجم والمجوس، ولا يمكن أحد من الدخول إلى بلاد الشام حتى يترك هذا الزيّ المبتدع واللباس المستبشع، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعا ويقلع من قراره قلعا فنودي بذلك في دمشق وأرجائها يوم الأربعاء سادس عشر ذي الحجة. قبة النصر هذه القبة زاوية يسكنها فقراء العجم، وهي خارج القاهرة بالصحراء تحت الجبل الأحمر بآخر ميدان القبق من بحريه، جدّدها الملك الناصر محمد بن قلاون على يد الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك. زاوية الركراكي هذه الزاوية خارج القاهرة في أرض المقس، عرفت بالشيخ المعتقد أبي عبد الله محمد الركراكيّ المغربيّ المالكيّ، لإقامته بها، وكان فقيها مالكيا متصدّيا لأشغال المغاربة، يتبرّك الناس به إلى أن مات بها يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وسبعمائة، ودفن بها. والركراكيّ نسبة إلى ركراكة، بلدة بالمغرب هي أحد مراسي سواحل المغرب بقرب البحر المحيط، تنزل فيه السفن فلا تخرج إلّا بالرياح العاصفة في زمن الشتاء عند تكدّر الهواء. زاوية إبراهيم الصائغ هذه الزاوية بوسط الجسر الأعظم تطلّ على بركة الفيل، عمرها الأمير سيف الدين طغاي بعد سنة عشرين وسبعمائة، وأنزل فيها فقيرا عجميا من فقراء الشيخ تقيّ الدين رجب يعرف بالشيخ عز الدين العجميّ، وكان يعرف صناعة الموسيقى وله نغمة لذيذة وصوت مطرب وغناء جيد، فأقام بها إلى أن مات في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، فغلب عليها الشيخ إبراهيم الصائغ إلى أن مات، يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب سنة أربع وخمسين وسبعمائة، فعرفت به.

زاوية الجعبري

زاوية الجعبري هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة، تنسب إلى الشيخ برهان الدين بن معضاد بن شدّاد بن ماجد الجعبريّ، المعتقد الواعظ، كان يجلس للوعظ فتجتمع إليه الناس ويذكرهم ويروي الحديث، ويشارك في علم الطب وغيره من العلوم، وله شعر حسن، وروى عن السخاويّ، وحدّث عن البزاركيّ، وكان له أصحاب يبالغون في اعتقاده ويغلون في أمره، وكان لا يراه أحد إلّا أعظم قدره وأجله وأثنى عليه، وحفظت عنه كلمات طعن عليه بسببها، وعمر حتى جاوز الثمانين سنة، فلما مرض أمر أن يخرج به إلى مكان قبره، فلما وقف عليه قال: قبير وحال دبير. ومات بعد ذلك بيوم، في يوم السبت رابع عشري المحرّم سنة سبع وثمانين وستمائة، والجعابرة عدّة منهم. زاوية أبي السعود هذه الزاوية خارج باب القنطرة من القاهرة على حافة الخليج، عرفت بالشيخ المبارك أيوب السعوديّ، كان يذكر أنه رأى الشيخ أبا السعود بن أبي العشائر وسلك على يديه، وانقطع بهذه الزاوية وتبرّك الناس به واعتقدوا إجابة دعائه، وعمّر وصار يحمل لعجزه عن الحركة حتى مات عن مائة سنة، أوّل صفر سنة أربع وعشرين وسبعمائة. زاوية الحمصي هذه الزاوية خارج القاهرة بخط حكر خزائن السلاح والأوسية على شاطىء خليج الذكر من أرض المقس بجوار الدكة، أنشأها الأمير ناصر الدين محمد، ويدعى طيقوش ابن الأمير فخر الدين الطنبغا الحمصي، أحد الأمراء في الأيام الناصرية، كان أبوه من أمراء الظاهر بيبرس، ورتب بهذه الزاوية عشرة من الفقراء شيخهم منهم، ووقف عليها عدّة أماكن في جوارها، وحصة من قرية بورين من قرى ساحل الشام. وغير ذلك، في سنة تسع وسبعمائة، فلما خرب ما حولها وارتدم خليج الذكر تعطلت، وهي الآن قد عزم مستحقو ريعها على هدمها لكثرة ما أحاط بها من الخراب من سائر جهاتها، وصار السلوك إليها مخوفا بعد ما كانت تلك الخطة في غاية العمارة، وفي جمادى سنة عشرين وسبعمائة هدمت. زاوية المغربل هذه الزاوية خارج القاهرة بدرب الزراق من الحكر، عرفت بالشيخ المعتقد عليّ المغربل، ومات في يوم الجمعة خامس جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، ولما كانت الحوادث من سنة ست وثمانمائة خربت الحكورة وهدم درب الزراق وغيره.

زاوية القصري

زاوية القصري هذه الزاوية بخط المقس خارج القاهرة، عرفت بالشيخ أبي عبد الله محمد بن موسى عبد الله بن حسن القصري الرجل الصالح الفقيه المالكيّ المغربيّ، قدم من قصر كتامة بالمغرب إلى القاهرة وانقطع بهذه الزاوية على طريقة جميلة من العبادة، وطلب العلم إلى أن مات بها في التاسع من شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. زاوية الجاكي هذه الزاوية في سويقة الريش من الحكورة خارج القاهرة بجانب الخليج الغربيّ، عرفت بالشيخ المعتقد حسين بن إبراهيم بن عليّ الجاكي، ومات بها في يوم الخميس العشرين من شوّال سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، ودفن خارج باب النصر، وكانت جنازته عظيمة جدّا، وأقام الناس يتبرّكون بزيارة قبره إلى أن كانت سنة سبع عشرة وثمانمائة، فأقبل الناس إلى زيارة قبره وكان لهم هناك مجتمع عظيم في كلّ يوم، ويحملون النذور إلى قبره، ويزعمون أن الدعاء عنده لا يردّ فتنة أضلّ الشيطان بها كثيرا من الناس، وهم على ذلك إلى يومنا هذا. زاوية الأبناسيّ هذه الزاوية بخط المقس، عرفت بالشيخ الفقيه برهان الدين إبراهيم بن حسين بن موسى بن أيوب الأبناسيّ الشافعيّ، قدم من الريف وبرع في الفقه، واشتهر بسلامة الباطن، وعرف بالخير والصلاح، وكتب على الفتوى، ودرس بالجامع الأزهر وغيره، وتصدّى لأشغال الطلبة عدّة سنين، وولي مشيخة الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء، وطلبه الأمير سيف الدين برقوق وهو يومئذ أتابك العساكر حتى يقلده قضاء القضاة بديار مصر، فغيب فرارا من ذلك وتنزها عنه، إلى أن ولي غيره، وكانت ولادته قبيل سنة خمس وعشرين وسبعمائة، ووفاته بمنزلة المويلح من طريق الحجاز بعد عوده من الحج، في ثامن المحرّم سنة اثنتين وثمانمائة، ودفن بعيون القصب. زاوية اليونسية هذه الزاوية خارج القاهرة بالقرب من باب اللوث تنزلها الطائفة اليونسية، وأحدهم يونسيّ- بضم الياء المعجمة باثنتين من تحتها وبعد الياء واو ثم نون بعدها سين مهملة في آخرها ياء آخر الحروف- نسبة إلى يونس، ويونس المنسوب إليه الطائفة اليونسية غير واحد، فمنهم يونس بن عبد الرحمن القميّ مولى آل يقطين، وهو الذي يزعم أن معبوده على عرشه تحمله ملائكته، وإن كان هو أقوى منها، كالكركيّ تحمله رجلاه وهو أقوى منهما، وقد كفر

زاوية الخلاطي

من زعم ذلك، فإن الله تعالى هو الذي يحمل العرش وحملته، وهذه الطائفة اليونسية من غلاة الشيعة واليونسية أيضا فرقة من المرجئة ينتمون إلى يونس السمويّ، وكان يزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له، وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له، فمن اجتمعت فيه هذه الخلال فهو مؤمن، وزعم أن إبليس كان عارفا بالله غير أنه كفر باستكباره عليه، ولهم يونس بن يونس بن مساعد الشيبانيّ، ثم المخارقيّ شيخ الفقراء اليونسية، شيخ صالح له كرامات مشهورة، ولم يكن له شيخ بل كان مجذوبا جذب إلى طريق الخير توفي بأعمال دارا في سنة تسع عشرة وسبعمائة، وقد ناهز تسعين سنة، وقبره مشهور يزار ويتبرّك به، وإليه تنسب هذه الطائفة اليونسية. زاوية الخلاطي هذه الزاوية خارج باب النصر من القاهرة بالقرب من زاوية الشيخ نصر المنجيّ، عرفت ... «1» وكانت لهم وجاهة، منهم ناصر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد بن حسين الخلاطيّ، مات في نصف جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ودفن بها. الزاوية العدوية هذه الزاوية بالقرافة، تنسب إلى الشيخ عديّ بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاريّ القرشيّ الأمويّ. وكان قد صحب عدّة من المشايخ، كعقيل المنبجيّ، وحماد الدباس، وعبد القادر السهرورديّ، وعبد القادر الجيليّ. ثم انقطع في جبل الهكارية من أعمال الموصل، وبنى له زاوية، فمال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلا لم يسمع لأرباب الزوايا مثله، حتى مات سنة سبع وقيل سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ودفن في زاويته، وقدم ابن أخيه إلى هذه البلاد، وهو زين الدين، فأكرم وأنعم عليه بإمرة، ثم تركها وانقطع في قرية بالشام تعرف ببيت فار، على هيئة الملوك من اقتناء الخيول المسوّمة والمماليك والجواري والملابس، وعمل الأسمطة الملوكية، فافتتنت به بعض نساء الطائفة القيمرية. وبالغت في تعظيمه، وبذلت له أموالا عظيمة، وحاشيتها تلومها فيه، فلا تصغي إلى قولهم، فاحتالوا حتى أوقفوها عليه وهو عاكف على المنكرات، فما زادها ذلك إلّا ضلالا وقالت: أنتم تنكرون هذا عليه. إنما الشيخ يتدلل على ربه، وأتاه الأمير الكبير علم الدين سنجر الدوادار ومعه الشهاب محمود لتحليفه في أوّل دولة الأشرف خليل بن قلاون إلى قريته، فإذا هو كالملك في قلعته، للتجمل الظاهر والحشمة الزائدة، والفرش الأطلس، وآنية الذهب والفضة والنضار الصينيّ، وأشياء تفوت العدّ، إلى غير ذلك من

زاوية السدار

الأشربة المختلفة الألوان، والأطعمة المنوّعة. فلما دخلا عليه لم يحتفل بهما، وقبّل الأمير سنجريده وهو جالس لم يقم، وبقي قائما قدامه يحدثه، وزين الدين يسأله ساعة، ثم أمره أن يجلس فجلس على ركبتيه متأدّيا بين يديه، فلما حلفاه أنعم عليهما بما يقارب خمسة عشر ألف درهم، وتخلف من طائفته الشيخ عز الدين أميران، وأنعم عليه بإمرة دمشق، ثم نقل إلى إمرة بصفد، ثم أعيد إلى دمشق وترك الإمرة وانقطع بالمرّة، وتردّد إليه الأكراد من كل قطر وحملوا إليه الأموال، ثم أنه أراد أن يخرج على السلطان بمن معه من الأكراد في كلّ بلد، فباعوا أموالهم واشتروا الخيل والملاح، ووعد رجاله بنيابات البلاد، ونزل بأرض اللجون. فبلغ ذلك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون، فكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام بكشف أخبارهم، وأمسك السلطان من كان بهذه الزاوية العدوية، ودرك على أمير طبر، واختلفت الأخبار فقيل أنهم يريدون سلطنة مصر، وقيل يريدون ملك اليمن، فقلق السلطان لأمرهم وأهمه إلى أن أمسك الأمير تنكز عز الدين المذكور وسجنه في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة حتى مات، وفرّق الأكراد، ولو لم يتدارك لأوشك أن يكون لهم نوبة. زاوية السدّار هذه الزاوية برأس حارة الديلم، بناها الفقير المعتقد عليّ بن السدّار في سنة سبعين وسبعمائة، وتوفي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة. ذكر المشاهد التي يتبرّك الناس بزيارتها مشهد زين العابدين هذا المشهد فيما بين الجامع الطولونيّ ومدينة مصر، تسميه العامّة مشهد زين العابدين، وهو خطأ، وإنما هو مشهد رأس زيد بن عليّ المعروف بزين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ويعرف في القديم بمسجد محرس الخصيّ. قال القضاعيّ: مسجد محرس الخصيّ بني على رأس زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب حين أنفذه هشام بن عبد الملك إلى مصر، ونصب على المنبر بالجامع، فسرقه أهل مصر ودفنوه في هذا الموضع. وقال الكنديّ في كتاب الأمراء: وقدم إلى مصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة أبو الحكم بن أبي الأبيض القيسيّ خطيبا برأس زيد بن عليّ رضوان الله عليه، يوم الأحد لعشر خلون من جمادى الآخرة، واجتمع الناس إليه في المسجد. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ في كتاب الجوهر المكنون في ذكر القبائل والبطون: وبنو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام

الشهيد بالكوفة، ولم يبق له عليه السلام غير رأسه التي بالمشهد الذي بين الكومين بمصر بطريق جامع ابن طولون وبركة الفيل، وهو من الخطط، يعرف بمسجد محرس الخصيّ، ولما صلب كشفوا عورته فنسج العنكبوت فسترها. ثم إنه بعد ذلك أحرق وذرى في الريح ولم يبق منه إلّا رأسه التي بمصر، وهو مشهد صحيح لأنه طيف بها بمصر، ثم نصبت على المنبر بالجامع بمصر في سنة اثنتين وعشرين ومائة، فسرقت ودفنت في هذا الموضع إلى أن ظهرت، وبنى عليها مشهد. وذكر ابن عبد الظاهر أن الأفضل بن أمير الجيوش لما بلغته حكاية رأس زيد أمر بكشف المسجد، وكان وسط الأكوام، ولم يبق من معالمه إلّا محراب، فوجد هذا العضو الشريف. قال محمد بن منجب بن الصيرفيّ: حدّثني الشريف فخر الدين أبو الفتوح ناصر الزيديّ خطيب مصر، وكان من جملة حضر الكشف قال: لما خرج هذا العضو رأيته، وهو هامة وافرة، وفي الجبهة أثر في سعة الدرهم، فضمّخ وعطّر وحمل إلى دار حتى عمر هذا المشهد، وكان وجد أنه يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأوّل سنة خمس وعشرين وخمسمائة، وكان الوصول به في يوم الأحد، ووجدانه في يوم الأحد. زيد بن علي: بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وكنيته أبو الحسن الإمام، الذي تنسب إليه الزيدية إحدى طوائف الشيعة، سكن المدينة وروى عن أبيه عليّ بن الحسين الملقب زين العابدين، وعن أبان بن عثمان، وعبيد الله بن أبي رافع، وعروة بن الزبير وروى عنه محمد بن شهاب الزهريّ، وزكريا بن أبي زائدة، وخلق ذكره ابن حبان في الثقات. وقال: رأى جماعة من الصحابة، وقيل لجعفر بن محمد الصادق عن الرافضة أنهم يتبرّؤن من عمك زيد. فقال: برىء الله ممن تبرّأ من عمي، كان والله أقرأنا لكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وأوصلنا للرحم، والله ما ترك فينا لدينا ولا لآخرة مثله. وقال أبو إسحاق السبيعيّ: رأيت زيد بن عليّ فلم أر في أهله مثله، ولا أعلم منه، ولا أفضل، وكان أفصحهم لسانا، وأكثرهم زهدا وبيانا. وقال الشعبيّ: والله ما ولد النساء أفضل من زيد بن عليّ، ولا أفقه ولا أشجع ولا أزهد. وقال أبو حنيفة: شاهدت زيد بن عليّ كما شاهدت أهله، فما رأيت في زمانه أفقه منه، ولا أعلم، ولا أسرع جوابا، ولا أبين قولا لقد كان منقطع القرين. وقال الأعمش: ما كان في أهل زيد بن عليّ مثل زيد، ولا رأيت فيهم أفضل منه، ولا أفصح ولا أعلم ولا أشجع، ولقد وفي له من تابعه لإقامتهم على المنهج الواضح. وسئل جعفر بن محمد الصادق عن خروجه فقال: خرج على ما خرج عليه آباؤه وكان يقال لزيد حليف القرآن، وقال خلوت بالقرآن ثلاث عشرة سنة أقرأه وأتدبره، فما وجدت في طلب الرزق رخصة، وما وجدت، ابتغوا من فضل الله إلّا العبادة والفقه.

وقال عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: لقد أصيب عندكم رجل ما كان في زمانكم مثله، ولا أراه يكون بعده مثله، زيد بن عليّ، لقد رأيته وهو غلام حدث، وإنه ليسمع الشيء من ذكر الله فيغشى عليه حتى يقول القائل ما هو بعائد إلى الدنيا. وكان نقش خاتم زيد، اصبر تؤجر اصدق تنج، وقرأ مرّة قوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد/ 38] فقال: إنّ هذا لوعيد وتهديد من الله. ثم قال: اللهمّ لا تجعلنا ممن تولى عنك فاستبدلت به بدلا. وكان إذا كلمه إنسان وخاف أن يهجم على أمر يخاف منه مأثما، قال له: يا عبد الله أمسك أمسك، كف كف، إليك إليك، عليك بالنظر لنفسك. ثم يكف عنه ولا يكلمه. وقد اختلف في سبب قيام زيد وطلبه الأمر لنفسه، فقيل أن زيد بن عليّ، وداود بن عليّ بن عبد الله بن عباس، ومحمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، قدموا على خالد بن عبد الله القسريّ بالعراق فأجازهم ورجعوا إلى المدينة، فلما ولي يوسف بن عمر العراق بعد عزل خالد، كتب إلى هشام بن عبد الملك وذكر له أن خالد ابتاع أرضا بالمدينة من زيد بعشرة آلاف دينار، ثم ردّ الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيرهم إليه، ففعل. فسألهم هشام عن ذلك، فأقرّوا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك، وحلفوا فصدّقهم، وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقابلوا خالدا، فساروا على كره وقابلوا خالدا فصدّقهم وعادوا نحو المدينة. فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم، وقيل بل ادّعى خالد القسريّ أنه أودع زيدا وداود بن عليّ ونفرا من قريش مالا. فكتب يوسف بن عمر بذلك إلى الخليفة هشام بن عبد الملك، فأحضرهم هشام من المدينة وسيرهم إلى يوسف ليجمعهم وخالدا، فقدموا عليه، فقال يوسف لزيد: إن خالدا زعم أنه أودع عندك مالا. فقال زيد: كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره؟ فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة وقال له: هذا زيد قد أنكر أنّك أودعته شيئا. فنظر خالد إليه وإلى داود وقال ليوسف: أتريد أن تجمع إثمك مع إثمنا في هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتم آباءه وأشتمه على المنبر؟ فقال زيد لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ فقال: شدّد عليّ العذاب فادّعيت ذلك، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومك. فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة، وقيل أن يزيد بن خالد القسريّ هو الذي ادّعى أن المال وديعة عند زيد، فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفا من شرّ يوسف وظلمه. فقال: أنا أكتب إليه بالكف عنكم وألزمهم بذلك. فساروا على كره، فجمع يوسف بينهم وبين يزيد فقال يزيد: ليس لي عندهم قليل ولا كثير. فقال له يوسف: أتهزأ بأمير المؤمنين؟ فعذبه يومئذ عذابا كاد يهلكه، ثم أمر بالقرشيين فضربوا، وترك زيدا. ثم اتسحلفهم وأطلقهم فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بالكوفة، وكان زيد قال لهشام لما أمره

بالمسير إلى يوسف: والله ما آمن من إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حبيبين أبدا. قال: لا بدّ من المسير إليه. فسار إليه. وقيل كان السبب في ذلك أن زيدا كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسين بن عليّ في وقوف عليّ رضي الله عنه، فزيد يخاصم عن بني حسين، وجعفر يخاصم عن بني حسن، فكانا يبلغان كل غاية، ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما، حرفا، فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن الحسن بن الحسن، فتنازعا يوما بين يدي خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة، فأغلظ عبد الله لزيد وقال: يا ابن السندية. فضحك زيد وقال: قد كان إسماعيل عليه السلام ابن أمة، ومع ذلك فقد صبرت أمي بعد وفاة سيدها. ولم يصبر غيرها، يعني فاطمة بنت الحسين أمّ عبد الله، فإنها تزوّجت بعد أبيه الحسن بن الحسن. ثم إنّ زيدا ندم واستحيى من فاطمة، فإنها عمته، ولم يدخل إليها زمانا. فأرسلت إليه: يا ابن أخي إني لأعلم أن أمّك عندك كأمّ عبد الله عنده، وقالت لعبد الله: بئسما قلت لأمّ زيد، أما والله لنعم دخيلة القوم كانت، وذكر أن خالدا قال لهما: اغدوا علينا غدا فلست ابن عبد الملك إن لم أفصل بينكما، فباتت المدينة تغلي كالمرجل. يقول قائل: قال زيد كذا، ويقول قائل: قال عبد الله كذا، فلما كان من الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس، فمن بين شامت ومهموم، فدعا بهما خالد وهو يحبّ أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تعجّل يا أبا محمد، أعتق زيد كلّ ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا. ثم أقبل إلى خالد فقال له: لقد جمعت ذرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر. فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد؟ فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه، أما ترى، لوال عليك حقا ولا طاعة؟ فقال زيد: اسكت أيها القحطانيّ، فإنّا لا نجيب مثلك. قال: ولم ترغب عني؟ فو الله إني لخير منك وخير من أبيك، وأمي خير من أمّك، فتضاحك زيد وقال: يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب أفتذهب الأحساب؟ فوا الله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فقام عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: كذبت والله أيها القحطانيّ، فو الله لهو خير منك نفسا وأبا وأمّا ومحتدا، وتناوله بكلام كثير وأخذ كفا من حصباء وضرب بها الأرض وقال: والله إنه ما لنا على هذا من صبر وقام. ثم شخص زيد إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، وهو يرفع إليه القصص، فكلما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها ارجع إلى منزلك. فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبدا، ثم إنه أذن له يوما بعد طول حبس، فصعد زيد وكان بائنا فوقف في بعض الدرج وهو يقول: والله لا يحب الدنيا أحد إلّا ذلّ، ثم صعد وقد جمع له هشام أهل الشام، فسلّم ثم جلس، فرمى عليه هشام طويلة، فحلف لهشام على شيء. فقال هشام: لا أصدّقك. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله لم يرفع أحدا عن أن يرضى بالله، ولم يضع أحدا

عن أن لا يرضى بذلك منه. فقال هشام: أنت زيد المؤمّل للخلافة، وما أنت والخلافة، لا أمّ لك وأنت ابن أمة. فقال زيد: لا أعلم أحدا عند الله أفضل من نبيّ بعثه، ولقد بعث الله نبيا وهو ابن أمة، ولو كان به تقصير عن منتهى غاية لم يبعث، وهو إسماعيل بن إبراهيم، والنبوّة أعظم منزلة من الخلافة عند الله، ثم لم يمنعه الله من أن جعله أبا للعرب، وأبا لخير البشر، محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما يقصّر برجل أبوه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعد أمي فاطمة لا أفخر بأم. فوثب هشام من مجلسه وتفرّق الشاميون عنه، وقال لحاجبه: لا يبيت هذا في عسكري أبدا. فخرج زيد وهو يقول: ما كره قوم قط جرّ السيوف إلّا ذلوا، وسار إلى الكوفة. فقال: له محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب: أذكرك الله يا زيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة، فإنهم لا يفون لك، فلم يقبل وقال: خرج بنا هشام أسراء على غير ذنب من الحجاز إلى الشام، ثم إلى الجزيرة، ثم إلى العراق، ثم إلى تيس ثقيف، يلعب بنا. وأنشد: بكرت تخوّفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن عرض الحياة بمعزل فأجبتها إنّ المنية منزل ... لا بدّ أن أسقى بكاس المنهل إنّ المنية لو تمثل مثّلت ... مثلي إذا نزلوا بصيق المنزل فاثني حبالك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل أستودعك الله، وإني أعطي الله عهدا، إن دخلت يدي في طاعة هؤلاء ما عشت. وفارقه وأقبل إلى الكوفة فأقام بها مستخفيا يتنقل في المنازل، فأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه، فبايعه جماعة من وجوه أهل الكوفة، وكانت بيعته: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، وردّ المظالم، وأفعال الخير، ونصرة أهل البيت، أتبايعون على ذلك؟ فإذا قالوا نعم وضع يده على أيديهم، ويقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لتؤمنن ببيعتي، ولتقاتلنّ عدوّي، ولتنصحنّ لي في السرّ والعلانية، فإذا قال نعم مسح يده على يده ثم قال: اللهمّ فاشهد. فبايعه خمسة عشر ألفا، وقيل أربعون ألفا، وأمر أصحابه بالاستعداد، فأقبل من يريد أن يفي ويخرج معه يستعدّ ويتهيأ، فشاع أمره في الناس، هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس. وأما على قول من زعم أنه أتى إلى يوسف بن عمر لمرافعة خالد بن عبد الله القسريّ أو ابنه يزيد بن خالد، فإنه قال: أقام زيد بالكوفة ظاهرا ومعه داود بن عليّ بن عبد الله بن عباس، وأقبلت الشيعة تختلف إليه وتأمره بالخروج ويقولون: إنا لنرجو أن تكون أنت المنصور، وأنّ هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية، فأقام بالكوفة ويوسف بن عمر يسأل عنه فيقال هو هاهنا، ويبعث إليه ليسير فيقول نعم ويعتلّ بالوجع، فمكث ما شاء الله، ثم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة، فاحتج بأنه يحاكم آل طلحة بن عبيد الله بملك بينهما

بالمدينة، فأرسل إليه ليوكل وكيلا ويرحل عنها، فلما رأى الجدّ من يوسف في أمره سار حتى أتى القادسية، وقيل الثعلبية، فتبعه أهل الكوفة وقالوا له: نحن أربعون ألفا لم يتخلف عنك أحد، نضرب عنك بأسيافنا، وليس هاهنا من أهل الشام إلّا عدّة يسيرة وبعض قبائلنا يكفيهم بإذن الله، وحلفوا له بالأيمان المغلظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدّي، فيحلفون له، فقال له داود بن عليّ: لا يغرّك يا ابن عمي هؤلاء، أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك، جدّ عليّ بن أبي طالب حتى قتل، والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه وانتزعوا رداءه وجرحوه، أو ليس قد أخرجوا جدّك الحسين وحلفوا له ثم خذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه، فلا ترجع معهم. فقالوا: يا زيد إنّ هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم. فقال زيد لداود: إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه، وإنّ الحسين قاتله يزيد، والأمر مقبل عليهم. فقال له داود: إني أخاف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشدّ عليك منهم، وأنت أعلم، ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة. فأتاه سلمة بن كهيل فذكر له قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحقه فأحسن ثم قال له: نشدتك الله كم بايعك؟ قال: أربعون ألفا. قال: فكم بايع جدّك؟ قال: ثمانون ألفا. قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلثمائة. قال: نشدتك الله أنت خير أم جدّك؟ قال: جدّي. قال: فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟ قال: ذلك القرن. قال: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدّك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم. قال: أفتأذن لي أن أخرج من هذا البلد، فلا آمن أن يحدث حدث فأهلك نفسي. فأذن له فخرج إلى اليمامة. وكتب عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى زيد: أما بعد، فإن أهل الكوفة نفج «1» العلانية حور السريرة «2» هوج في الرد، أجزع في اللقاء، تقدمهم ألسنتهم ولا تتابعهم قلوبهم، ولقد تواترت كتبهم إليّ بدعوتهم فصممت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم يأسا منهم وإطراحا لهم، وما لهم مثل إلّا ما قال عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه: إن أهملتم خضتم، وإن خوّرتم خرتم، وإن اجتمع الناس ويتجهز للخروج، وتزوّج بالكوفة امرأتين، وكان ينتقل تارة عند هذه في بني سلمة قومها، وتارة عند هذه في الأزد قومها، وتارة في بني عبس، وتارة في بني تغلب، وغيرهم إلى أن ظهر في سنة اثنتين وعشرين ومائة، فأمر أصحابه بالاستعداد، وأخذ من كان يريد الوفاء بالبيعة يتجهز، فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فبعث في طلب زيد فلم يوجد، وخاف زيد أن يؤخذ، فتعجل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ الحكم بن

الصلت في ناس من أهل الشام، ويوسف بن عمر بالحيرة. فلما علم أصحاب زيد أن يوسف بن عمر قد بلغه الخبر وأنه يبحث عن زيد، اجتمع إلى زيد جماعة من رؤوسهم فقالوا: رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر، فقال زيد رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يقول فيهما إلّا خيرا، وإنّ أشدّ ما أقول فيما ذكرتم إنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الناس أجمعين، فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، وقد ولّوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا فلم يظلمك هؤلاء إذا، كان أولئك لم يظلموا، وإذا كان هؤلاء لم يظلموا، فلم تدعو إلى قتالهم؟ فقال: إنّ هؤلاء ليسوا كأولئك، هؤلاء ظالمون لي ولأنفسهم ولكم، وإنما ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، والى السنن أن تحيي، وإلى البدع أن تطفأ، فإن أجبتمونا سعدتم، وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: قد سبق الإمام، يعنون محمدا الباقر، وكان قد مات. وقالوا جعفر ابنه إمامنا اليوم بعد أبيه، فسماهم زيد الرافضة، وهم يزعمون أن المغيرة سماهم الرافضة حين فارقوه، وكانت طائفة قد أتت جعفر بن محمد الصادق قبل قيام زيد وأخبروه ببيعته فقال: بايعوه، لهو والله أفضلنا وسيدنا. فعادوا وكتموا ذلك، وكان زيد قد واعد أصحابه أوّل ليلة من صفر، فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فبعث إلى الحكم عامله على الكوفة يأمره بأن يجمع الناس بالمسجد الأعظم يحصرهم فيه، فجمعهم، وطلبوا زيدا فخرج ليلا من دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاريّ، وكان بها، ورفعوا النيران ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر، فلما أصبحوا نادى أصحاب زيد بشعارهم وثاروا، فأغلق الحكم دروب السوق وأبواب المسجد على الناس، وبعث إلى يوسف بن عمر وهو بالحيرة فأخبره الخبر، فأرسل إليه خمسين فارسا ليعرفوا الخبر، فساروا حتى عرفوا الخبر وعادوا إليه، فسارت الحيرة بأشراف الناس، وبعث ألفين من الفرسان وثلاثمائة رجالة معهم النشاب، وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلا، فقال: سبحان الله أين الناس؟ فقيل إنهم في المسجد الأعظم محصورون. فقال: والله ما هذا بعذر لمن بايعنا. وأقبل فلقيه على جبانة الصايديين خمسمائة من أهل الشام فحمل عليهم فيمن معه حتى هزمهم، وانتهى إلى دار أنس بن عمر الأزديّ، وكان فيمن بايعه وهو في الدار، فنودي فلم يجب، فناداه زيد فلم يخرج إليه. فقال زيد: ما أخلفكم قد فعلتموها، الله حسيبكم. ثم سار ويوسف بن عمر ينظر إليه وهو في مائتي رجل، فلو قصده زيد لقتله، والريان يتبع آثار زيد بالكوفة في أهل الشام، فأخذ زيد في المسير حتى دخل الكوفة، فسار بعض أصحابه إلى الجبانة وواقعوا أهل الشام، فأسر أهل الشام منهم رجلا ومضوا به إلى يوسف بن عمر فقتله، فلما رأى زيد خذلان الناس إياه قال: قد فعلوها، حسبي الله، وسار وهو يهزم من لقيه حتى انتهى إلى باب المسجد، فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الباب ويقولون: يا أهل المسجد

اخرجوا من الذل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا، فإنكم لستم في دين ولا دنيا. وزيد يقول: والله ما خرجت ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض، وأحكمت السنن والآداب، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل، وفهمت الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والخاص والعام، وما تحتاج إليه الأمّة في دينها مما لا بدّ لها منه ولا غنى لها عنه، وإني لعلى بينة من ربي، فرماهم أهل المسجد بالحجارة من فوق المسجد، فانصرف زيد فيمن معه، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة، فنزل دار الرزق فأتاه الريان وقاتله، وخرج أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنا، فلما كان من الغد أرسل يوسف بن عمر عدّة عليهم العباس بن سعد المزنيّ، فلقيهم زيد فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب العباس وقتل منهم نحو من سبعين، فلما كان العشيّ عبّى يوسف بن عمر الجيوش وسرّحهم، فالتقاهم زيد بمن معه وحمل عليهم حتى هزمهم وهو يتبعهم، فبعث يوسف طائفة من الماشية فرموا أصحاب زيد وهو يقاتل حتى دخل الليل، فرمي بسهم في جبهته اليسرى ثبت في دماغه، فرجع أصحابه، ولا يظنّ أهل الشام أنهم رجعوا للمساء والليل، فأنزلوا زيدا في دار وأتوه بطبيب فانتزع النصل فضج زيد ومات، رحمه الله، لليلتين خلتا من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة، وعمره اثنتان وأربعون سنة. ولما مات اختلف أصحابه في أمره، فقال بعضهم نطرحه في الماء. وقال بعضهم بل نحز رأسه ونلقيه في القتلى. فقال ابنه يحيى بن زيد: والله لا يأكل لحم أبي الكلاب. وقال بعضهم ندفنه في الحفرة التي يؤخذ منها الطين ونجعل عليه الماء، ففعلوا ذلك وأجروا عليه الماء، وكان معه مولى سنديّ فدلّ عليه، وقيل رآهم قصّار فدل عليه، وتفرّق الناس من أصحاب زيد، وسار ابنه يحيى نحو كربلاء، وتتبع يوسف بن عمر الجرحي في الدور حتى دلّ على زيد في يوم جمعة، فأخرجه وقطع رأسه وبعث به إلى هشام بن عبد الملك، فدفع لمن وصل به عشرة آلاف درهم، ونصبه على باب دمشق، ثم أرسله إلى المدينة وسار منها إلى مصر، وأما جسده فإن يوسف بن عمر صلبه بالكناسة ومعه ثلاثة ممن كانوا معه، وأقام الحرس عليه، فمكث زيد مصلوبا أكثر من سنتين حتى مات هشام وولي الوليد من بعده، وبعث إلى يوسف بن عمر أن أنزل زيدا وأحرقه بالنار، فأنزله وأحرقه وذرّى رماده في الريح، وكان زيد لما صلب وهو عريان استرخى بطنه على عورته حتى ما يرى من سوءته شيء، ومرّ زيد مرّة بمحمد ابن الحنفية فنظر إليه وقال: أعيذك بالله أن تكون زيد بن عليّ المصلوب بالعراق، وقال عبد الله بن حسين بن عليج بن الحسين بن عليّ: سمعت أبي يقول: اللهمّ إنّ هشاما رضي بصلب زيد فاسلبه ملكه، وإن يوسف بن عمر أحرق زيدا اللهمّ فسلط عليه من لا يرحمه، اللهمّ وأحرق هشاما في حياته إن شئت، وإلّا فأحرقه بعد موته. قال فرأيت والله هشاما محرقا لما أخذ بنو العباس دمشق، ورأيت يوسف بن عمر بدمشق مقطعا، على كلّ باب من أبواب دمشق منه عضو. فقلت يا أبتاه وافقت دعوتك ليلة القدر،

مشهد السيدة نفيسة

فقال لا يا بنيّ، بل صمت ثلاثة أيام من شهر رجب، وثلاثة أيام من شعبان، وثلاثة أيام من شهر رمضان، كنت أصوم الأربعاء والخميس والجمعة، ثم أدعو الله عليهما من صلاة العصر يوم الجمعة حتى أصلي المغرب، وبعد قتل زيد انتقض ملك بني أمية وتلاشى إلى أن أزالهم الله تعالى ببني العباس. وهذا المشهد باق بين كيمان مدينة مصر يتبرّك الناس بزيارته ويقصدونه لا سيما في يوم عاشوراء، والعامّة تسميه زين العابدين، وهو وهم، وإنما زين العابدين أبوه، وليس قبره بمصر، بل قبره بالبقيع، ولما قتل الإمام زيد سوّدت الشيعة، أي لبست السواد، وكان أوّل من سوّد على زيد شيخ بني هاشم في وقته الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ورثاه بقصيدة طويلة، وشعره حجة احتج به سيبويه، توفي سنة تسع وعشرين ومائة. مشهد السيدة نفيسة قال الشريف النقيب النسابة شرف الدين أبو عليّ محمد بن أسعد بن عليّ بن معمر بن عمر الحسينيّ الجوانيّ المالكيّ في كتاب الروضة الأنيسة بفضل مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها: نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، أمّها أمّ ولد، وأخوتها القاسم ومحمد وعليّ وإبراهيم وزيد وعبيد الله ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأمّ كلثوم، أولاد الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ، فأمّهم أمّ سلمة، واسمها زينب ابنة الحسن بن الحسن بن عليّ، وأمّها أمّ ولد تزوّج أمّ كلثوم أخت نفيسة، عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، ثم خلف عليها الحسن بن زيد بن عليّ بن الحسن بن عليّ. وأما عليّ وإبراهيم وزيد أخوة نفيسة من أبيها، فأمّهم أمّ ولد تدعى أمّ عبد الحميد، وأما عبيد الله بن الحسن بن زيد فأمّه الزائدة بنت بسطام بن عمير بن قيس الشيبانيّ، وأما إسماعيل وإسحاق فهما لأمي ولد، وكان إسماعيل من أهل الفضل والخير، صاحب صوم ونسك، وكان يصوم يوما ويفطر يوما. وأما يحيى بن زيد فله مشهد معروف بالمشاهد، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وتزوّج بنفيسة رضي الله عنها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، وكان يقال له إسحاق المؤتمن، وكان من أهل الصلاح والخير والفضل والدين، روي عنه الحديث، وكان ابن كاسب إذا حدّث عنه يقول: حدّثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر، وكان له عقب بمصر منهم بنو الرقي، وبحلب بنو زهرة. وولدت نفيسة من إسحاق ولدين هما القاسم وأمّ كلثوم لم يعقبا. وأما جدّ نفيسة وهو زيد بن الحسن بن عليّ، فروي عن أبيه وعن جابر وابن عباس، وروى عنه ابنه، وكانت بينه وبين عبد الله بن محمد ابن الحنفية خصومة وفدا لأجلها على

الوليد بن عبد الملك، وكان يأتي الجمعة من ثمانية أميال، وكان إذا ركب نظر الناس إليه وعجبوا من عظم خلقه وقالوا: جدّه رسول الله. وكتب إليه الوليد بن عبد الملك يسأله أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان بن عبد الملك، ففرق «1» منه وأجابه، فلما استخلف سليمان وجد كتاب زيد بذلك إلى الوليد، فكتب إلى أبي بكر بن حزم أمير المدينة: ادع زيد بن الحسن فأقره الكتاب، فإن عرفه فاكتب إليّ، وإن هو نكل فقدّمه فأصب يمينه عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه ما كتبه ولا أمر به، فخاف زيدا لله واعترف. فكتب بذلك أبو بكر، فكتب سليمان أن يضربه مائة سوط وأن يدرعه عباءة ويمشيه حافيا، فحبس عمر بن عبد العزيز الرسول وقال: حتى أكلم أمير المؤمنين فيما كتب به في حق زيد. فقال للرسول: لا تخرج فإن أمير المؤمنين مريض. فمات سليمان وأحرق عمر الكتاب. وأما والد نفيسة وهو الحسن بن زيد، فهو الذي كان والي المدينة النبوية من قبل أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور، وكان فاضلا أديبا عالما، وأمّه أمّ ولد. توفي أبوه وهو غلام، وترك عليه دينا أربعة آلاف دينار، فحلّف الحسن ولده أن لا يظل رأسه سقف إلّا سقف مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو بيت رجل يكلمه في حاجة حتى يقضي دين أبيه، فوفاه وقضاه بعد ذلك. ومن كرمه أنه أتى بشاب شارب متأدّب، وهو عامل على المدينة فقال: يا ابن رسول الله لا أعود وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم» وأنا ابن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وقد كان أبي مع أبيك، كما قد علمت. قال: صدقت، فهل أنت عائد؟ قال: لا والله. فأقاله وأمر له بخمسين دينارا وقال له: تزوّج بها وعد إليّ. فتاب الشاب وكان الحسن بن زيد يجري عليه النفقة. وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحدّ الذي لا مزيد عليه، فيقال أنها حجت ثلاثين حجة، وكانت كثيرة البكاء، تديم قيام الليل وصيام النهار، فقيل لها: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلّا الفائزون. وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، وكانت لا تأكل إلا في كلّ ثلاث ليال أكلة واحدة، ولا تأكل من غير زوجها شيئا، وقد ذكر أنّ الإمام الشافعيّ محمد بن إدريس كان زارها وهي من وراء الحجاب وقال لها: ادعي لي، وكان صحبته عبد الله بن عبد الحكم. وماتت رضي الله عنها بعد موت الإمام الشافعيّ رحمة الله عليه بأربع سنين، لأنّ الشافعيّ توفي سلخ شهر رجب سنة أربع ومائتين. وقيل أنها كانت فيمن صلّى على الإمام الشافعيّ. وتوفيت السيدة نفيسة في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين، ودفنت في منزلها، وهو الموضع الذي به قبرها الآن، ويعرف بخط درب السباع، ودرب بزرب. وأراد إسحاق بن الصادق وهو زوجها أن يحملها ليدفنها بالمدينة، فسأله أهل مصر أن يتركها ويدفنها عندهم لأجل البركة، وقبر السيدة نفيسة أحد المواضع

المعروفة بإجابة الدعاء بمصر، وهي أربعة مواضع: سجن نبيّ الله يوسف الصدّيق عليه السلام، ومسجد موسى صلوات الله عليه، وهو الذي بطرا، ومشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، والمخدع الذي على يسار المصلّى في قبلة مسجد الإقدام بالقرافة. فهذه المواضع لم يزل المصريون ممن أصابته مصيبة أو لحقته فاقة أو جائحة يمضون إلى أحدها، فيدعون الله تعالى فيستجيب لهم، مجرّب ذلك. انتهى. ويقال أنها حفرت قبرها هذا وقرأت فيه تسعين ومائة ختمة، وأنها لما احتضرت خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام/ 12] ففاضت نفسها رحمها الله تعالى مع قوله الرحمة، ويقال أن الحسن بن زيد والد السيدة نفيسة كان مجاب الدعوة ممدوحا، وأن شخصا وشى به إلى أبي جعفر المنصور أنه يريد الخلافة لنفسه، فإنه كان قد انتهت إليه رياسة بني حسن، فأحضره من المدينة وسلبه ماله، ثم إنه ظهر له كذب الناقل عنه، فمنّ عليه وردّه إلى المدينة مكرّما، فلما قدمها بعث إلى الذي وشى به بهدية ولم يعتبه على ما كان منه. ويقال أنه كان مجاب الدعوة، فمرّت به امرأة وهو في الأبطح، ومعها ابن لها على يدها فاختطفه عقاب، فسألت الحسن بن زيد أن يدعو الله لها بردّه، فرفع يديه إلى السماء ودعا ربه، فإذا بالعقاب قد ألقى الصغير من غير أن يضرّه بشيء، فأخذته أمّه. وكان يعدّ بألف من الكرام. ولما قدمت السيدة نفيسة إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر نزلت بالمنصوصة، وكان بجوارها دار فيها قوم من أهل الذمّة، ولهم ابنة مقعدة لم تمش قط، فلما كان في يوم من الأيام ذهب أهلها في حاجة من حوائجهم وتركوا المقعدة عند السيدة نفيسة، فتوضأت وصبت من فضل وضوئها على الصبية المقعدة وسمت الله تعالى، فقامت تسعى على قدميها ليس بها بأس البتة، فلما قدم أهلها وعاينوها تمشى أتوا إلى السيدة نفيسة وقد تيقنوا أنّ مشي ابنتهم كان ببركة دعائها، وأسلموا بأجمعهم على يديها، فاشتهر ذلك بمصر وعرف أنه من بركاتها. وتوقف النيل عن الزيادة في زمنها فحضر الناس إليها وشكوا إليها ما حصل من توقف النيل، فدفعت قناعها إليهم وقالت لهم: ألقوه في النيل، فألقوه فيه، فزاد حتى بلغ الله به المنافع. وأسر ابن لامرأة ذمّية في بلاد الروم، فأتت إلى السيدة نفيسة وسألتها الدعاء أن يردّ الله ابنها عليها، فلما كان الليل لم تشعر الذمّية إلّا بابنها وقد هجم عليها دارها، فسألته عن خبره فقال: يا أمّاه لم أشعر إلّا ويد قد وقعت على القيد الذي كان في رجليّ وقائل يقول: أطلقوه قد شفعت فيه نفيسة بنت الحسن. فو الذي يحلف به يا أمّاه لقد كسر قيدي وما شعرت بنفسي إلّا وأنا واقف بباب هذه الدار. فلما أصبحت الذمّية أتت إلى السيدة

مشهد السيدة كلثوم

نفيسة وقصت عليها الخبر وأسلمت هي وابنها وحسن إسلامهما. وذكر غير واحد من علماء الأخبار بمصر أن هذا قبر السيدة نفيسة بلا خلاف، وقد زار قبرها من العلماء والصالحين خلق لا يحصى عددهم. ويقال أن أوّل من بنى على قبر السيدة نفيسة عبيد الله بن السري بن الحكم أمير مصر، ومكتوب في اللوح الرخام الذي على باب ضريحها، وهو الذي كان مصفحا بالحديد بعد البسملة ما نصه، نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه معدّ أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المكرّمين، أمر بعمارة هذا الباب السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الأنام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين عضّد الله به الدين وأمتع بطول بقائه المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته، وشدّ عضده بولده الأجل الأفضل سيف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين خليل أمير المؤمنين، زاد الله في علائه وأمتع المؤمنين بطول بقائه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، والقبة التي على الضريح جدّدها الخليفة الحافظ لدين الله في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وأمر بعمل الرخام الذي بالمحراب. مشهد السيدة كلثوم هي كلثوم بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، موضعه بمقابر قريش بمصر بجوار الخندق، وهي أمّ جعفر بن موسى بن إسماعيل بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، كانت من الزاهدات العابدات. سنا وثنا يقال أنهما من أولاد جعفر بن محمد الصادق، كانتا تتلوان القرآن الكريم في كلّ ليلة، فماتت إحداهما، فصارت الأخرى تتلو وتهدي ثواب قراءتها لأختها حتى ماتت. ذكر مقابر مصر والقاهرة المشهورة القبر مدفن الإنسان، وجمعه قبور، والمقبرة موضع القبر. قال سيبويه: المقبرة ليس على الفعل، ولكنه اسم، وقبره يقبره: دفنه. وأقبره جعل له قبرا. واعلم أنّ لأهل مدينة مصر ولأهل القاهرة عدّة مقابر وهي: القرافة، فما كان منها في سفح الجبل يقال له القرافة الصغرى، وما كان منها في شرقيّ مصر بجوار المساكن يقال له القرافة الكبرى، وفي القرافة الكبرى كانت مدافن أموات المسلمين منذ افتتحت أرض مصر واختط العرب مدينة الفسطاط، ولم يكن لهم مقبرة سواها، فلما قدم القائد جوهر من قبل المعز لدين الله وبنى

ذكر القرافة

القاهرة وسكنها الخلفاء، اتخذوا بها تربة عرفت بتربة الزعفران، قبروا فيها أمواتهم، ودفن رعيتهم من مات منهم في القرافة إلى أن اختطت الحارات خارج باب زويلة، فقبر سكانها موتاهم خارج باب زويلة مما يلي الجامع، فيما بين جامع الصالح وقلعة الجبل، وكثرت المقابر بها عند حدوث الشدّة العظمى أيام الخليفة المستنصر، ثم لما مات أمير الجيوش بدر الجماليّ دفن خارج باب النصر، فاتخذ الناس هنالك مقابر موتاهم، وكثرت مقابر أهل الحسينية في هذه الجهة، ثم دفن الناس الأموات خارج القاهرة في الموضع الذي عرف بميدان القبق، فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر، وبنوا هناك الترب الجليلة، ودفن الناس أيضا خارج القاهرة فيما بين باب الفتوح والخندق، ولكل مقبرة من هذه المقابر أخبار سوف أقص عليك من أنبائها ما انتهت إلى معرفته قدرتي إن شاء الله تعالى. ويذكر أهل العناية بالأمور المتقادمة أن الناس في الدهر الأوّل لم يكونوا يدفنون موتاهم إلى أن كان زمن دوناي الذي يدعى سيد البشر لكثرة ما علّم الناس من المنافع، فشكا إليه أهل زمانه ما يأتذون به من خبث موتاهم، فأمرهم أن يدفنوهم في خوابي ويسدّوا رؤسها، ففعلوا ذلك، فكان دوناي أوّل من دفن الموتى، وذكر أن دوناي هذا كان قبل آدم بدهر طويل مبلغه عشرون ألف سنة، وهي دعوى لا تصح، وفي القرآن الكريم ما يقتضي أن قابيل ابن آدم أوّل من دفن الموتى، والله أصدق القائلين. وقد قال الشافعيّ رحمه الله: وأكره أن يعظّم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده. ذكر القرافة روى الترمذيّ من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رفعه: من مات من أصحابي بأرض بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة. قال: وهذا حديث غريب. وقد روي عن أبي طيبة، عن ابن بريدة مرسلا، وهذا أصح، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر: حدّثنا عبد الله بن صالح، حدّثنا الليث ابن سعد قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء. ولا ينتفع بها. فسأله فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أنّ فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر إنّا لا نعلم غراس الجنة إلّا المؤمنين، فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. فكان أوّل من دفن فيها رجل من المغافر يقال له عامر، فقيل عمرت. فقال المقوقس لعمرو: وما ذلك، ولا على هذا عاهدتنا، فقطع لهم الحدّ الذي بين المقبرة وبينهم. وعن ابن لهيعة أن المقوقس قال لعمرو: إنا لنجد في كتابنا أن ما بين هذا الجبل

وحيث نزلتم ينبت فيه شجر الجنة. فكتب بقوله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: صدق، فاجعلها مقبرة للمسلمين، فقبر فيها ممن عرف من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة نفر، عمرو بن العاص السهميّ، وعبد الله بن حذافة السهميّ، وعبد الله بن جزء الزبيديّ، وأبو بصيرة الغفاريّ، وعقبة بن عامر الجهنيّ. ويقال ومسلمة بن مخلد الأنصاريّ انتهى. ويقال أن عامرا هو الذي كان أوّل من دفن بالقرافة، قبره الآن تحت حائط مسجد الفتح الشرقيّ. وقالت فيه امرأة من العرب: قامت بواكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذلّ من ليس له ناصر وروى أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر من حديث حرملة بن عمران قال: حدّثني عمير بن أبي مدرك الخولانيّ عن سفيان بن وهب الخولانيّ قال: بينما نحن نسير مع عمرو بن العاص في سفح هذا الجبل ومعنا المقوقس، فقال له عمرو: يا مقوقس ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات ولا شجر على نحو بلاد الشام؟ فقال: لا أدري، ولكنّ الله أغنى أهله بهذا النيل عن ذلك، ولكنه نجد تحته ما هو خير من ذلك. قال: وما هو؟ قال ليدفنن تحته أو ليقبرنّ تحته قوم يبعثهم الله يوم القيامة لا حساب عليهم، قال عمرو: اللهمّ اجعلني منهم. قال حرملة بن عمران: فرأيت قبر عمرو بن العاص، وقبر أبي بصيرة، وقبر عقبة بن عامر فيه. وخرّج أبو عيسى الترمذيّ من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رفعه: «من مات من أصحابي بأرض بعث قائدا لهم ونورا يوم القيامة» ، وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ: القرافة هم بنو غض بن سيف بن وائل بن المغافر، وفي نسخة بنو غصن. وقال أبو عمرو الكنديّ: بنو جحض بن سيف بن وائل بن الجيزيّ بن شراحيل بن المغافر بن يغفر. وقيل أن قرافة اسم أمّ عزافر، وجحض ابني سيف بن وائل بن الجيزيّ. قد صحف القضاعيّ في قوله غصن بالغين المعجمة، والأقرب ما قاله الكنديّ، لأنه أقعد بذلك. وقال ياقوت والقرافة- بفتح القاف وراء مخففة وألف خفيفة وفاء- الأوّل مقبرة بمصر مشهورة مسماة بقبيلة من المغافر يقال لهم بنو قرافة، الثاني القرافة محلة بالإسكندرية منسوبة إلى القبيلة أيضا. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ في كتاب النقط: وقد ذكر جامع القرافة الذي يقال له اليوم جامع الأولياء، وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون في ليالي الصيف يتحدّثون في القمر، في صحنه، وفي الشتاء ينامون عند المنبر، وكان يحصل لقيمه الأشربة والحلوى والجرايات، وكان الناس يحبون هذا الموضع ويلزمونه لأجل من يحضر من الرؤساء، وكانت الطفيلية يلزمون المبيت فيه ليالي الجمع، وكذلك أكثر المساجد التي بالقرافة والجبل والمشاهد لأجل ما يحمل إليها ويعمل فيها من الحلاوات واللحومات والأطعمة، وقال موسى بن محمد بن سعيد في كتاب المعرب عن أخبار المغرب: وبت

ليالي كثيرة بقرافة الفسطاط، وهي في شرقيها بها منازل الأعيان بالفسطاط والقاهرة، وقبور عليها مبان معتنى بها، وفيها القبة العالية العظيمة المزخرفة التي فيها قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وبها مسجد جامع وترب كثيرة عليها أوقاف للقرّاء، ومدرسة كبيرة للشافعية، ولا تكاد تخلو من طرب، ولا سيما في الليالي المقمرة، وهي معظم مجتمعات أهل مصر، وأشهر منتزهاتهم وفيها أقول: إنّ القرافة قد حوت ضدّين من ... دنيا وأخرى فهي نعم المنزل يغشى الخليع بها السماع مواصلا ... ويطوف حول قبورها المتبتل كم ليلة بتنا بها ونديمنا ... لحن يكاد يذوب منه الجندل والبدر قد ملأ البسيطة نوره ... فكأنما قد فاض منه جدول وبدا يضاحك أوجها حاكينه ... لما تكامل وجهه المتهلل وفوق القرافة من شرقيها جبل المقطم، وليس له علوّ ولا عليه اخضرار، وإنما يقصد للبركة، وهو نبيه الذكر في الكتب، وفي سفحه مقابر أهل الفسطاط والقاهرة، والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحجرها، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران مقدّسة في جميع الكتب، وحين تشرف عليها تراها كأنها مدينة بيضاء، والمقطم عال عليها كأنه حائط من ورائها، وقال شافع بن عليّ: تعجبت من أمر القرافة إذ غدت ... على وحشة الموتى لها قلبنا يصبو فألفيتها مأوى الأحبة كلهم ... ومستوطن الأحباب يصبو له القلب وقال الأديب أبو سعيد محمد بن أحمد العميديّ: إذا ما ضاق صدري لم أجد لي ... مقرّ عبادة إلّا القرافه لئن لم يرحم المولى اجتهادي ... وقلة ناصري لم ألف رأفه واعلم أن الناس في القديم إنما كانوا يقبرون موتاهم فيما بين مسجد الفتح وسفح المقطم، واتخذوا الترب الجليلة أيضا فيما بين مصلّى خولان وخط المغافر التي موضعها الآن كيمان تراب، وتعرف الآن بالقرافة الكبرى. فلما دفن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ابنه في سنة ثمان وستمائة بجوار قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ، وبنى القبة العظيمة على قبر الشافعيّ، وأجرى لها الماء من بركة الحبش بقناطر متصلة منها، نقل الناس الأبنية من القرافة الكبرى إلى ما حول الشافعيّ، وأنشأوا هناك الترب، فعرفت بالقرافة الصغرى، وأخذت عمائرها في الزيادة وتلاشى أمر تلك، وأما القطعة التي تلي قلعة الجبل فتجدّدت بعد السبعمائة من سني الهجرة، وكان ما بين قبة الإمام الشافعيّ، رحمة الله

ذكر المساجد الشهيرة بالقرافة الكبيرة

عليه، وباب القرافة ميدانا واحدا تتسابق فيه الأمراء والأجناد، ويجتمع الناس هنالك للتفرّج على السباق، فتصير الأمراء تسابق على حدة، والأجناد تسابق في جهة وهم منفردون عن الأمراء، والشرط في السباق من تربة الأمير بيدرا إلى باب القرافة، ثم استجدّ أمراء دولة الناصر محمد بن قلاون في هذه الجهة الترب، فبنى الأمير يلبغا التركمانيّ، والأمير طقتمر الدمشقيّ، والأمير قوصون وغيرهم من الأمراء، وتبعهم الجند وسائر الناس، فبنوا الترب والخوانك والأسواق والطواحين والحمامات، حتى صارت العمارة من بركة الحبش إلى باب القرافة، ومن حدّ مساكن مصر إلى الجبل، وانقسمت الطرق في القرافة وتعدّدت بها الشوارع، ورغب كثير من الناس في سكناها العظم القصور التي أنشأت بها، وسميت بالترب، ولكثرة تعاهد أصحاب الترب لها وتواتر صدقاتهم ومبرّاتهم لأهل القرافة، وقد صنف الناس فيمن قبر بالقرافة، وأكثروا من التأليف في ذلك، ولست بصدد شيء مما صنفوا في ذلك، وإنما غرضي أن أذكر ما تشتمل عليه القرافة. وفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ظهر بالقرافة شيء يقال له القطربة، تنزل من جبل المقطم، فاختطفت جماعة من أولاد سكانها حتى رحل أكثرهم خوفا منها، وكان شخص من أهل كبارة مصر يعرف بحميد الفوّال خرج من أطفيح على حماره، فلما وصل إلى حلوان عشاء رأى امرأة جالسة على الطريق فشكت إليه ضعفا وعجزا، فحملها خلفه فلم يشعر بالحمار إلّا وقد سقط، فنظر إلى المرأة فإذا بها قد أخرجت جوف الحمار بمخاليبها، ففرّ وهو يعدو إلى والي مصر وذكر له الخبر، فخرج بجماعته إلى الموضع فوجد الدابة قد أكل جوفها، ثم صارت بعد ذلك تتبع الموتى بالقرافة وتنبش قبورهم وتأكل أجوافهم وتتركهم مطروحين، فامتنع الناس من الدفن في القرافة زمنا حتى انقطعت تلك الصورة. ذكر المساجد الشهيرة بالقرافة الكبيرة اعلم أن القرافة بمصر اسم لموضعين، القرافة الكبيرة حيث الجامع الذي يقال له جامع الأولياء، والقرافة الصغيرة وبها قبر الإمام الشافعيّ، وكانتا في أوّل الأمر خطتين لقبيلة من اليمن هم من المغافر بن يغفر، يقال لهم بنو قرافة. ثم صارت القرافة الكبيرة جبانة، وهي حيث مصلّى خولان والبقعة وما هو حول جامع الأولياء، فإنه كان يشتمل على مساجد وربط وسوق وعدّة مساكن، منها ما خرب ومنها ما هو باق، وسترى من ذلك ما يتيسر ذكره. مسجد الأقدام هذا المسجد بالقرافة بخط المغافر. قال القضاعيّ: ذكر الكنديّ أن الجند بنوع وليس من الخطط، وسمي بالأقدام لأنّ مروان بن الحكم لما دخل مصر وصالح أهلها وبايعوه، امتنع من بيعته ثمانون رجلا من المغافر سوى غيرهم، وقالوا لا ننكث بيعة ابن الزبير، فأمر

مسجد الرصد

مروان بقطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم على بئر المغافر في هذا الموضع، فسمي المسجد بهم لأنه بنى على آثارهم. والآثار الأقدام، يقال جئت على قدم فلان أي على أثره، وقيل بل أمرهم بالبراءة من عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فلم يتبرّؤوا منه فقتلهم هناك. وقيل إنما سمي مسجد الأقدام لأنّ قبيلتين اختلفتا فيه، كلّ تدّعي أنه من خطتها، فقيس ما بينه وبين كلّ قبيلة بالأقدام وجعل لأقربهما منه. والقديم من هذا المسجد هو محرابه والأروقة المحيطة به، وأما خارجه فزيادة الإخشيد، والزيادة الجديدة التي في بحريه لسمعون الملقب بسهم الدولة متولى الستارة، وكان من أهل السنة والخير. ويقال إنما سمي مسجد الأقدام لأنه كان يتداوله العباد، وكانت حجارته كذانا «1» ، فأثر فيها موضع أقدامهم، فسمي لذلك مسجد الأقدام. مسجد الرصد هذا المسجد بناه الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجماليّ بعد بنائه للجامع المعروف بجامع الفيلة، لأجل رصد الكواكب بالآلة التي يقال لها ذات الحلق، كما ذكر فيما تقدّم. مسجد شقيق الملك هذا المسجد بجوار مسجد الرصد، بناه شقيق الملك خسروان صاحب بيت المال، أحد خدّام القصر في أيام الخليفة الحافظ لدين الله في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وعمل فيه للحافظ ضيافة عظيمة حضر فيها بنفسه، ومعه الأمراء والأستاذون وكافة الرؤساء، وكان فيه كرم وسموّ همة، وكان لمساجد القرافة والجبل عنده روزنامج بأسماء أربابها، فينفد إليهم في أيام العنب والتين لكلّ مسجد قفص رطب، ويرسل في كلّ ليلة من ليالي الوقود لكلّ مسجد خروف شواء وسطل جوذآب وجام حلوى، ولا سيما إذا كان بائتا في هذا المسجد، فإنه لا يأكل حتى يسير ذلك لمن اسمه عنده، وكان يعمل جفان القطائف المحشوّة باللوز والسكر والكافور والمسك، وفيها ما فيه بدل اللوز الفستق، ويستدعى من لا يقدر على ذلك من أهل الجبل والقرافة وذوي البيوت المنقطعين ويأمر إذا حضروا بسكب الحلو والشيرج عليه بالجرار، ويأمرهم بالأكل منه، والحمل معهم، وكان أحبهم إليه من يأكل طعامه ويستدعي برّه وأنعامه رحمه الله. مسجد الانطاكيّ هذا المسجد كان أيضا بالرصد، وما برحت هذه المساجد الثلاثة بالرصد يسكنها

مسجد النارنج

الناس إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة، ثم خربت وصار الرصد من الأماكن المخوفة بعد ما أدركته منتزها للعامّة. مسجد النارنج هذا المسجد عامر إلى يومنا هذا فيما بين الرصد والقرافة الكبرى، بجانب سقاية ابن طولون المعروفة بعفصة الكبرى، غربيها إلى البحريّ قليلا، وهو المطلّ على بركة الحبش شرقيّ الكتفي وقبليّ القرافة. بنته الجهة الآمرية المعروفة بجبهة الدار الجديدة في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، أخرجت له اثني عشر ألف دينار على يد الأستاذين افتخار الدولة يمن، ومعز الدولة الطويل، المعروف بالوحش. وتولى العمارة والإنفاق عليه الشريف أبو طالب موسى بن عبد الله بن هاشم بن مشرف بن جعفر بن المسلم بن عبيد الله بن جعفر بن محمد بن إبراهيم بن محمد اليمانيّ بن عبيد الله بن موسى الكاظم الحسينيّ الموسويّ، المعروف بابن أخي الطيب بن أبي طالب الورّاق، وسمي مسجد النارنج لأنّ نارنجه لا ينقطع أبدا. مسجد الأندلس هذا المسجد في شرقيّ القرافة الصغرى بجانب مسجد الفتح، في الموضع الذي يعرف عند الزوّار بالبقعة، وهو مصلّى المغافر على الجنائز. ويقال أنه بني عند فتح مصر، وقيل بني في خلافة معاوية بن أبي سفيان، ثم بنته جهة مكنون، واسمها علم الآمرية أمّ ابنة الآمر التي يقال لها ست القصور، في سنة ست وعشرين وخمسمائة، على يد المعروف بالشيخ أبي تراب. وجهة مكنون هذه: كان الخليفة الآمر بأحكام الله كتب صداقها وجعل المقدّم منه أربعة عشر ألف دينار، وكان لها صدقات وبرّ وخير وفضل، وعندها خوف من الله، وكانت تبعث إلى الأشراف بصلات جزيلة، وترسل إلى أرباب البيوت والمستورين أموالا كثيرة، ولما وهب الآمر لهزار الملوك ولبرغش في كلّ يوم مائتي ألف دينار عينا، لكل منهما مائة ألف دينار، حضر، إليها عشاء على عادته، فأغلقت باب مقصورتها قبل دخوله وقالت له: والله ما تدخل إليّ أو تهب لي مثل ما وهبت لواحد من غلاميك. فقال: الساعة: ثم استدعى بالفرّاشين فحضروا فقال: هاتوا مائة ألف دينار الساعة، ولم يزل واقفا إلى أن حضرت عشرة كيسة في كل كيس عشرة آلاف دينار، ويحمل عشرة من الفرّاشين. ففتحت له الباب ودخل إليها. ومكنون هذا هو الأستاذ الذي كان برسم خدمتها، ويقال له مكنون القاضي لسكونه وهدئه، وكان فيه خبر وبرّ كبير، وبجانب مسجد الأندلس هذا رباط من غريبه بنته جهة مكنون هذه في سنة ست وعشرين وخمسمائة، برسم العجائز الأرامل. فلما كان في

مسجد البقعة

سنة أربع وسبعين وخمسمائة، بنى الحاجب لؤلؤ العادليّ برحبة الأندلس والرباط بستانا وأحواضا ومقعدا، وجمع بين مصلّى الأندلس وبين الرباط بحائط بينهما، وعمل ذلك لحلول العفيف حاتم بن مسلم المقدسيّ الشافعيّ به، ولما مات السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ بدمشق في المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة، وقام من بعده في السلطنة ابنه الملك السعيد محمد بركة خان، عمل لأبيه عزاء بالأندلس هذا، فاجتمع هناك القرّاء والفقهاء وأقيمت المطابح وهيئت المطاعم الكثيرة وفرّقت على الزوايا ومدّت أسمطة عظيمة بالخيام التي ضربت حول الأندلس، فأكل الناس على اختلاف طبقاتهم، وقرأ القرّاء ختمة شريفة، وعدّ هذا الوقت من المهمات العظيمة المشهورة بديار مصر، وكان ذلك في المحرّم سنة سبع وسبعين وستمائة، على رأس سنة من موت الملك الظاهر، فقال في ذلك القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر. يا أيها الناس اسمعوا ... قولا بصدق قد كسي إنّ عزا السلطان في ... غرب وشرق ما نسي أليس ذا مأتمه ... يعمل في الأندلس ثم عمل بعد ذلك مجتمع في المدرسة الناصرية بجوار قبة الشافعيّ من القرافة، ومجتمع بجامع ابن طولون، ومجتمع بجامع الظاهر من الحسينية خارج القاهرة، ومجتمع بالمدرسة الظاهرية بين القصرين، ومجتمع بالمدرسة الصالحية، ومجتمع بدار الحديث الكاملية، ومجتمع بالخانقاه الصلاحية لسعيد السعداء، ومجتمع بالجامع الحاكميّ، وأقيم في كلّ واحد من هذه المجتمعات الأطعمة الكثيرة، وعمل للتكاررة خوان، وللفقراء خوان، حضره كثير من أهل الخيل والصلاح فقيل في ذلك: فشكرا لها أوقات برّ نقبلت ... لقد كان فيها الخير والبرّ أجمعا لقد عمّت النعمى بها كلّ موطن ... سقتها الغوادي مربعا ثم مربعا ولما مضى السلطان لما يمض جوده ... وخلّف فينا برّه متنوّعا فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا فدام له منّا الدعاء مكرّرا ... مدى دهرنا والله يسمع من دعا مسجد البقعة هذا المسجد مجاور لمسجد الفتح من غربيه، بناه الأمير أبو منصور صافي الأفضلي. مسجد الفتح هذا المسجد المشهور بجوار قبر الناطق، بناه شرف الإسلام سيف الإمام يانس الروميّ وزير مصر، وسمي بالفتح لأن منه كان انهزام الروم إلى قصر الشمع حين قدم الزبير بن

مسجد أم عباس جهة العادل بن السلار

العوّام، والمقداد بن الأسود فيمن سواهما مددا لعمرو بن العاص، وكان الفتح، ويقال أنّ محرابه اللطيف الذي بجانبه الشرقيّ قديم، وأنّ تحت حائطه الشرقيّ قبر عامر الذي كان أوّل من دفن بالقرافة، ومحراب مسجد الفتح منحرف عن خط سمت القبلة إلى جهة الجنوب انحرافا كثيرا، كما ذكر عند ذكر محاريب مصر من هذا الكتاب، واستشهد يومئذ جماعة دفنوا في مجرى الحصا، فكان يرى على قبورهم في الليل نور. مسجد أمّ عباس جهة العادل بن السلار هذا المسجد كان بجوار مصلّى خولان بالمغافر غربيّ المقابر، بنته بلاوة زوج العادل بن السلار سلطان مصر، في خلافة الظافر سنة سبع وأربعين وخمسمائة، على يد المعروف بالشريف عز الدولة الرضويّ بن القفاص، وكانت بلاوة مغربية، وهي أمّ الوزير عباس الصنهاجيّ الباديسيّ وقد دثر هذا المسجد. مسجد الصالح هذا المسجد كان بخط جامع القرافة المعروف بجامع الأولياء، عرف بمسجد بني عبيد الله، وبمسجد القبة، وبمسجد العزاء، والذي بناه الصالح طلائع بن رزيك وزير مصر، وكان في أعلاه مناظر وعمارته متقنة الزيّ، وأدركته عامرا إلى ما بعد سنة ثمانمائة. مسجد وليّ عهد أمير المؤمنين هو الأمير أبو هاشم العباس بن شعيب بن داود المهديّ، أحد الأقارب في الأيام الحاكمية، كان إلى جانب مسجد الصالح، وبجانبه تربته، وكان المسجد من حجر وبابه محمول على أربع حنايا، وتحت الحنايا باب المسجد، وفي شرقيه أيضا أربع حنايا، وكانت دار أبي هاشم هذا بمصر دار الأفراح، ومن ولده الشريف الأمير الكبير أبو الحسن عليّ ابن الأمير عباس بن شعيب بن أبي هاشم المذكور، ويعرف بالشريف الطويل وبالنباش. مسجد الرحمة هذا المسجد كان في صدر القرافة الكبرى بالقرب من تربة ركن الإسلام محمود ابن أخت الملك الصالح طلائع بن رزيك. قال الكنديّ: ومنها مسجد القرافة، وهو بنو محصن بن سيف بن وائل بن الجيزيّ، قبليّ القرافة على يمينك إذا أممت مسجد الأقدام، مقابله فسقية صغيرة، وله منارة، يعرف بمسجد الرحمة، وعرف هذا المسجد بأبي تراب الصوّاف وكيل الجهة التي بنت مسجد الأندلس ورباطه، ومسجد رقية. وأبو تراب هذا تولى بناءه، وكان يقوم بخدمته الشيخ نسيم، وأبو تراب هو الذي أخرج إليه ولد الآمر في قفة من خوص، فيها حوائج طبيخ من كرّاث وبصل وجزر وهو طفل في القماط في أسفل

مسجد مكنون

القفة، والحوائج فوقه، ووصل به إلى القرافة وأرضعته المرضعة بهذا المسجد وخفي أمره عن الحافظ حتى كبر، وصار يسمى قفيفة. فلما حان نفعه نمّ عليه أبو عبد الله الحسين بن أبي الفضل عبد الله بن الحسين الجوهريّ الواعظ، بعد ما مات الشيخ أبو تراب، عند الحافظ. فأخذ الصبيّ وقصده فمات. وخلع على ابن الجوهريّ، ثم نفي إلى دمياط فمات بها في جمادى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. مسجد مكنون هو بجانب مسجد الرحمة، بناه الأستاد مكنون القاضي الذي تقدّم ذكره في مسجد الأندلس. مسجد جهة ريحان هذا المسجد كان في وجه مسجد أبي تراب قبالة دار البقر من القرافة الكبرى، وجدّده أستاذ الجهة الحافظية، واسمه ريحان، في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. مسجد جهة بيان هذا المسجد كان في بطحاء مسجد الأقدام بجوار ترب المادرانيين، بنته الجهة الحافظية المعروفة بجهة بيان الحساميّ، على يد أبي الفضل الصعيديّ المعروف بابن الموفق، وحكى الخليفة عن هذه الجهة خبرا عجيبا. قال القاضي المكين أبو الطاهر إسماعيل بن سلامة: قال لي أمير المؤمنين الحافظ يوما: يا قاضي أبا الطاهر. قلت لبيك يا أمير المؤمنين. قال: أحدّثك بحديث عجيب قلت نعم. قال لما جرى من أبي عليّ بن الأفضل ما جرى بينما أنا في الموضع الذي كنت معتقلا فيه، رأيت كأني قد جلست في مجلس من مجالس القصر أعرفه، وكان الخلافة قد أعيدت إليّ، وكأنّ المغنيات قد دخلن يهنينني ويغنين بين يدي، وفي جملتهنّ جارية معها عود، يعني هذه الجارية المذكورة، فأنشأت تغني قول أبي العتاهية: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها ولو نالها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها وكأني قمت إلى خزانة بالمجلس أخذت منها حقة فيها جوهر. فملأت فمها منه، ثم استيقظت. فو الله يا قاضي ما كان إلّا يومان حتى كسر عليّ الحبس لما قتل أبو عليّ بن الأفضل وقيل لي السلام على أمير المؤمنين، فلما خرجت وأقمت أياما جلست في ذلك المجلس الذي رأيته في النوم، ودخل الجواري يهنينني، فغنت إحداهنّ وهي ذات عود ذلك

مسجد توبة

الصوت بعينه، فقلت لها: على رسلك حتى نقضي نحن أيضا من حقك ما يجب علينا، وقمت إلى الخزانة وأخذت الحق الذي فيه الجوهر، ثم جئت إليها وقلت لها افتحي فاك، ففتحته، وحشوته جوهرا وقلت لها إنّ لك علينا في كلّ سنة في مثل هذا اليوم مثل ذلك. مسجد توبة هو ابن ميسرة الكتاميّ، مغني المستنصر، كان في شرقيّ الأقهوب، وقبالته تربة تنسب إلى الطبالة صاحبة أرض الطبالة، وكلاهما في القرافة الكبرى. مسجد دري هذا المسجد كان في القرافة الكبرى في رحبة الأقهوب، بناه شهاب الدولة دري، غلام المظفر أخي الأفضل ابن أمير الجيوش، في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وكان أرمنيا فأسلم وصار من المتشدّدين في مذهب الإمامية، وقرأ الجمل للزجاجيّ في النحو، واللمع لابن جني، وكانت له خرائط من القطن الأبيض يلبسها في يديه ورجليه، وكان يتولى خزائن الكسوات، ولا يدخل على بسط السلاطين ولا على بسط الخليفة الحافظ لدين الله، ولا يدخل مجلسه إلّا بالخرائط في رجليه، ولا يأخذ من أحد رقعة إلّا وفي يده خريطة، يظنّ أنّ من لمسه نجسه، وسوسة منه. فإن اتفق أنه صافح أحدا، أو أمسك رقعة بيده من غير خريطة، لا يمس ثوبه ولا بدنه حتى يغسلها، فإن مس ثوبه غسل الثوب. وكان الأستاذون يعبثون به ويرمون في بساط الخليفة الحافظ العنب، فإذا مشى عليه وانفجر ووصل ماؤه إلى رجليه سبهم وحرد، فيضحك الخليفة ولا يؤاخذه، وعمل مرّة الوزير رضوان بن ولخشيّ دواة حليتها ألف دينار مرصعة، فدخل عليه شهاب الدولة دري الصغير هذا، وقد أحضرت الدواة المذكورة، فقال له: يا مولانا أحسن من مداد هذه الدواة ووقع على هذه، فيكون ذلك زكاتها إذ لله فيه رضى ولنبيه، وناوله رقعة الشريف القاضي سنا الملك أسعد الجوّانيّ النحويّ، يطلب فيها راتبا لابنه الشريف أبي عبد الله محمد في الشهر ثلاثة دنانير، فوقع عليها. فلما كان في الليل رأى في نومه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: جزاك الله خيرا على فعلك اليوم. مسجد ست غزال هذا المسجد كان في القرافة الكبرى بجوار تربة النعمان، بنته ست غزال في سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكانت غزال هذه صاحبة دواة الخليفة، لا تعرف شيئا إلّا أحكام الدوى والليق «1» ومسح الأقلام والدواة، وكان برسم خدمتها الأستاذ مأمون الدولة الطويل.

مسجد رياض

مسجد رياض هو لوقافة الحافظ لدين الله، كانت تقف بين يديه بالقصر، وكان بجوار المصنعة الصغرى الطولونية التي يجيء الماء إليها من عفصة الكبرى، وكان فيه حوش به عدّة بيوت للنساء المنقطعات. مسجد عظيم الدولة هذا المسجد كان معلقا بخط سوق القرافة الكبرى، واكن عظيم الدولة هذا صقلبيا صاحب الستر وحامل المظلة، وكان بجوار هذا المسجد مسجد التمساح، ومسجد السدرة، ومسجد جهة مراد، وكان القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي الفرج هبة الله بن الميسر، لما عمل قدّامة منارة النحاس الرومية ذات السواعد، واجتاز بها من تحت سدرة المسجد في ليلة الوقود، نصف شهر رجب سنة ثلاثين وخمسمائة، عاقتها السدرة فأمر بقطع بعضها، فقيل له: لا تفعل، فإنّ قطع السدر محذور. وقد روى أبو داود في كتاب السنن له، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قطع سدرة صوّب الله رأسه في النار» فقطعها على ركوب نصف شعبان، فما أسنى وصرف فيّ المحرّم وفني إلى تنيس وقتل. مسجد أبي صادق هذا المسجد كان غربيّ مسجد الأقدام، بناه ابن سعدون أبو الحسن عليّ بن محمد البغداديّ، بعد سنة عشرين وأربعمائة، وجدّده أخوه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن بن سعدون البغداديّ سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وهو مسجد أبي صادق مرشد المدينيّ المالكيّ المحدّث، وكان قاريء المصحف بالجامع، ومصليا به، ومصدّرا فيه لإقراء السبع، وكان فيه حنة على الحيوانات لا سيما على القطط والكلاب، وكان مشارف الجامع وجعل عليه جاريا من الغدد كلّ يوم لأجل القطط، وكان عند داره بزقاق الأقفال من مصر كلاب يطعمها ويسقيها، وربما تبع دابته منها شيء يمشي معه في الأسواق، قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط: حدّثني الشيخ منجب غلام أبي صادق قال: كان لمولاي الشيخ أبي صادق كلب لا يفارقه أبدا، إذا كان راكبا يمشي خلفه، فإذا وقفت بغلته قام تحت يديها، فإذا رآه الناس قالوا هذا أبو صادق وكلبه. وحدّثني قال: ولدت كلبة في مستوقد حمّام، وكان المؤذن يأتي خلف مولاي سحرا كل يوم لقراءة المصحف، وكان مولاي يأخذ في كمه كلّ يوم رغيفا، فإذا حاذى موضع الكلبة قلع طيلسانه وقطع الخبز للكلبة ويرمي لها بنفسه إلى أن تأكل، ثم يستدعي الوقاد ويعطيه قيراطا ويقول له: اغسل قدحها واملأه ماء حلوا، ويستحلفه على ذلك. فلما كبر أولادها صار يأخذ بعد رغيفين إلى أن كبروا وتفرّقوا. وحدّثني قال: كان قد جعل كراء حانوت برسم

مسجد الفراش

القطاط بالجامع العتيق من الأحباس، وكان يؤتي بالغدد مقطعة، فيجلس ويقسم عليها، وإن قطة كانت تحمل شيئا من ذلك وتمضي به، وفعلت ذلك مرارا، فقال مولاي للشيخ أبي الحسن بن فرج امض خلف هذه القطة وانظر إلى أين تؤدّي ذلك، فمضى ابن فرج فإذا بها تؤدّيه إلى أولادها، فعاد إليه وأخبره، فكان بعد ذلك يقطع غددا صغارا على قدر مساغ القطط الصغار، وغددا كبار للكبار، ويرسل بجزء الصغار إليهم إلى أن كبروا، مسجد الفرّاش هذا المسجد كان بالقرافة الكبرى، بناه أحمد فرّاش الأفضل بن أمير الجيوش، وبجواره مسجد بناء زيد بن حسام، ومسجد الإجابة القديم، وتربة العطار، ودار البقر، وقناطر الأطفيحيّ، كلّ ذلك بالقرب من جامع القرافة. مسجد تاج الملوك هذا المسجد قدّام دار النعمان وتربته من القرافة الكبرى، بناه تاج الملوك بدران بن أبي الهيجاء الكرديّ الماردانيّ، وهو أخو سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء، صهر بني رزيك، وكان مجتمع أهل مصر عنده في الأعياد والمواسم وليالي الوقود. مسجد الثمار هذا المسجد كان ملاصقا للزيادة التي في بحريّ مسجد الأقدام، وفيه قبور بني الثمار. مسجد الحجر هذا المسجد كان بحريّ مسجد عمار بن يونس مولى المغافر، وشرقيّ قصر الزجاج من القرافة الكبرى، بنته مولاة عليّ بن يحيى بن طاهر المعروف بابن أبي الخارجيّ الموصليّ، في ربيع الأوّل سنة ثلاثين وأربعمائة. مسجد القاضي يونس هذا المسجد كان غربيّ مسجد الحجر المذكور، بناه الشيخ عدي الملك بن عثمان صاحب دار الضيافة، ثم صار بيد قاضي القضاة بمصر، الموفق كمال الدين أبي الفضائل يونس بن محمد بن الحسن المعروف بجوامرد، خطيب القدس القرشيّ، وكان من الأعيان، ولم يشرب قط من ماء النيل بل من ماء الآبار، ولم يأكل قط للسلطان خبزا، وكان يروى الحديث عن جده.

مسجد الوزيرية

مسجد الوزيرية هذا المسجد كان بالقرافة الكبرى، وله منارة بجوار باب رباط الحجازية، وكانت الحجازية واعظة زمانها، وكانت من الخيّرات، لها القبول التام، وتدعى أمّ الخير، وكان لها من الصيت كما كان لابن الجوهريّ، وكانت على غاية من الكرم وحسن الأخلاق والشيم، ومن مكارم أخلاقها وحسن طباعها وكياسة انطباعها ما حكاه الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط قال: حدّثني الشيخ أبو الحسن بن السراج المؤذن بالجامع بمصر قال: كان قدّام الباب الأوّل من أبواب جامع مصر يباع رطب يقعد على الأرض وبين يديه اقفاص رطب من أحسن الأرطاب، فبينما الحجازية الواعظة هذه ذات يوم قد قاربت الخروج من باب الجامع، وهي في حفدتها وجواريها، وإذا ذلك الرطاب ينادي على قفص رطب قدّامه، معاشر الناس اشتروا الطيبة الحجازية على أربعة، على أربعة. يريد على أربعة أرطال رطب بدرهم. فلما سمعته الحجازية وقفت قبل أن تخرج من باب الجامع وأنفذت إليه بعض الجواري فصاحت به، فلما أتاها قالت له: يا أخي قولك الحجازية على أربعة مشكل، لا ترجع تنادي كذا، وهذا رباعي هدية مني لك ربح هذا القفص، ولا تناد كذا، فأخذه وقبل يدهل وقال السمع والطاعة. مسجد ابن العكر هذا المسجد غربيّ مسجد أبي صادق، بحضرة مسجد الأقدام، قبالة قصر الكتفي وبحذاء مسجد النارنج. بناه القاضي العادل بن العكر. مسجد ابن كباس هذا المسجد كان مجاور للقناطر الأطفيحية على يسار من أمّ طريق الجامع، بناه القاضي ابن كباس. مسجد الشهمية هذا المسجد كان شرقيّ مسجد الأقدام، وغربيّ قناطر ابن طولون، مجاورا لتربة القاضي ابن قابوس، كان يعرف بمسجد الفقاعة من الكلاع، ويعرف أيضا بمسجد شادن الفضليّ، غلام الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات. مسجد زنكادة هذا المسجد كان غربيّ مسجد عمار بن يونس، بناه زنكادة المخنث بعد ما تاب في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.

جامع القرافة

جامع القرافة هذا الجامع يعرف اليوم بجامع الأولياء، وهو مسجد بني عبد الله بن مانع بن مزروع، ويعرف بمسجد القبة، وقد ذكر عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب. مسجد الأطفيحيّ هذا المسجد كان في البطحاء، بحريّ مجرى جامع الفيلة إلى الشرق، مخالطا لخطط الكلاع ورعين والأكنوع والأكحول. ويقال له مسجد وحاطة بن سعد الأطفيحيّ، من أهل أطفيح، شيخ له سمت، وكتب الحديث في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وما قبلها، وسمع من الحباك وهو في طبقته، وهو رفيق الفرّاء وابن مشرف وابن الحظية وأبي صادق، وسلك طريق أهل القناعة والزهد والعزلة كأبي العباس ابن الحظية وكان الأفضل الكبير شاهنشاه صاحب مصر قد لزمه، واتخذ السعي إليه مفرتضا، والحديث معه شهوة. وغرضا لا ينقطع عنه. وكان فكه الحديث، قد وقف من أخبار الناس والدول على القديم والحديث، وقصده الناس لأجل حلول السلطان عنده لقضاء حوائجهم فقضاها، وصار مسجده موئلا للحاضر والبادي. وصدى لإجابة صوت النادي، وشكا الشيخ إلى الأفضل تعذر الماء ووصوله إليه، فأمر ببناء القناطر التي كانت في عرض القرافة من المجرى الكبيرة الطولونية، فبنيت إلى المسجد الذي به الأطفيحيّ، ومضى عليها من النفقة خمسة آلاف دينار، وعمل الأطفيحيّ صهريج ماء شرقيّ المسجد، عظيما محكم الصنعة، وحمّاما وبستانا كان به نخلة سقطت بعد سنة خمسين وخمسمائة. وعمل الأفضل له مقعدا بحذاء المسجد إلى الشرق، علو زيادة في المسجد شرقيه، وقاعة صغيرة مرخمة إذا جاء عنده جلس فيها وخلا بنفسه واجتمع معه وحادثه، وكان هذا المقعد على هيئة المنظرة بغير ستائر، كلّ من قصد الأطفيحيّ من الكتفي يراه، وكان الأفضل لا يأخذه عنه القرار، يخرج في أكثر الأوقات من دار الملك باكرا أو ظهرا أو عصرا بغتة، فيترجل ويدق الباب وقارا للشيخ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يقرعون أبواب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بظفر الإبهام والمسبحة، كما يحصب بهما الحاصب، فإن كان الشيخ يصلي لا يزال واقفا حتى يخرج من الصلاة ويقول من فيقول ولدك شاهنشاه. فيقول نعم. ثم يفتح فيصافحه الأفضل ويمرّ بيده التي لمس بها يد الشيخ على وجهه، ويدخل فيقول الشيخ: نصرك الله، أيدك الله، سدّدك الله، هذه الدعوات الثلاثة لا غير أبدا. فيقول الأفضل آمين، وبنى له الأفضل المصلّى ذات المحاريب الثلاثة شرقيّ المسجد إلى القبليّ قليلا، ويعرف بمصلّى الأطفيحيّ، كان يصلّي فيه على جنائز موتى القرافة، وكان سبب اختصاص الأفضل بهذا الشيخ، أنه لما كان محاصرا نزار بن المستنصر بالإسكندرية، وناصر الدولة أفتكين الأرمنيّ، أحد مماليك أمير الجيوش بدر، وكانت أمّ

الأفضل إذ ذاك وهي عجوز لها سمت ووقار، تطوف كلّ يوم وفي الجمعة الجوامع والمساجد والرباطات والأسواق، وتستقص الأخبار، وتعلم محب ولدها الأفضل من مبغضه، وكان الأطفيحيّ قد سمع بخبرها، فجاءت يوم جمعة إلى مسجده وقالت له: يا سيدي ولدي في العسكر مع الأفضل، الله يأخذ لي الحق منه، فإني خائفة على ولدي، فادع الله لي أن يسلمه. فقال لها الشيخ: يا أمة الله أما تستحيين تدعين على سلطان الله في أرضه، المجاهد عن دينه، الله تعالى ينصره ويظفره ويسلّمه، ويسلم ولدك، ما هو إن شاء الله إلّا منصور مؤيد مظفر، كأنك به وقد فتح الإسكندرية وأسر أعداءه وأتى على أحسن قضية وأجمل طوية، فلا تشغلي لك سرّا، فما يكون إلّا خيرا إن شاء الله تعالى، ثم إنها اجتازت بعد ذلك بالفار الصيرفيّ بالقاهرة بالسرّاجين، وهو والد الأمير عبد الكريم الآمريّ صاحب السيف، وكان عبد الكريم قد ولي مصر بعد ذلك في الأيام الحافظية، وكان عبد الكريم هذا له في أيام الآمر وجاهة عظيمة وصولة، ثم افتقر. فوقفت أمّ الأفضل على الصيرفيّ تصرف دينارا وتسمع ما يقول، لأنه كان إسماعيليا متغاليا، فقالت له: ولدي مع الأفضل؛ وما أدرى ما خبره. فقال لها الفار المذكور، لعن الله المذكور الأرمنيّ الكلب العبد السوء ابن العبد السوء، مضى يقاتل مولاه ومولى الخلق، كأنك والله يا عجوز برأسه جائزا من هاهنا على رمح قدّام مولاه نزار ومولاي ناصر الدولة إن شاء الله تعالى، والله يلطف بولدك، من قال لك تخليه يمضي مع هذا الكلب المنافق، وهو لا يعرف من هي. ثم وقفت على ابن بابان الحلبيّ وكان بزازا بسوق القاهرة فقالت له مثل ما قالت للفار الصيرفيّ ... وقال لها مثل ما قال لها. فلما أخذ الأفضل نزارا وناصر الدولة وفتح الإسكندرية، حدّثته والدته الحديث وقالت: إن كان لك أب بعد أمير الجيوش فهذا الشيخ الأطفيحيّ. فلما خلع عليه المستعلي بالقصر وعاد إلى دار الملك بمصر، اجتاز بالبزازين يوما، فلما نظر إلى ابن بابان الحلبيّ قال: انزلوا بهذا فنزلوا به، فقال: رأسه. فضربت عنقه تحت دكانه. ثم قال لعبد على أحد مقدّمي ركابه: قف هاهنا لا يضيع له شيء إلى أن يأتي أهله فيتسلموا قماشه، ثم وصل إلى دكان الفار الصيرفيّ فقال: انزلوا بهذا، فنزلوا به، فقال: رأسه. فضربت عنقه تحت دكانه. وقال ليوسف الأصغر أحد مقدّمي الركاب اجلس على حانوته إلى أن يأتي أهله ويتسلموا موجوده، وإياك وماله وصندوقه، وإن ضاع منه درهم ضربت عنقك مكانه، كان لنا خصم أخذناه وقد فعلنا به ما يردع غيره عن فعله، وما لنا ماله، ولا فقر أهله، ثم أتى الأفضل إلى الشيخ أبي طاهر الأطفيحيّ وقرّبه وخصصه إلى أن كان من أمره مما شرحناه.

مسجد الزيات

مسجد الزيات هذا المسجد مجاور بيت الخوّاص غربيه. ومسجد ابن أبي الردّاد، يعرف بمسجد الأنطاكيّ، ومسجد الفاخوريّ. يعرف بمسجد البطحاء، ومسجد ابن أبي الصغير، قبليّ مسجد بني مانع، وهو جامع القرافة، ومسجد الشريفة بني في سنة إحدى وخمسمائة، ومسجد ابن أبي كامل الطرابلسيّ، كان بحارة الفرن بناه الأعز بن أبي كامل، والمعبد الذي كان على رأس العقبة التي يتوصل منها إلى الرصد، بناه أبو محمد عبد الله الطباخ، ويقال أنه كان بالقرافة اثنا عشر ألف مسجد. القصر المعروف بباب ليون بالشرف: هذا القصر كان على طرف الجبل بالشرف الذي يعرف اليوم ... «1» . وجاء الفتح وهو مبنيّ بالحجارة، ثم صار في موضعه مسجد عرف بمسجد المقس، والمقس ضيعة كانت تعرف بأمّ دنين، سميت المقس لأنّ العاشر كان يقعد بها، وصاحب المكس، فقلب فقيل المقس، وليون اسم بلد بمصر بلغة السودان والروم، وقد ذكر المقس عند ذكر ظواهر القاهرة من هذا الكتاب، والله تعالى أعلم. ذكر الجواسيق التي بالقرافة قال ابن سيده: الجوسق، الحصن. وقيل هو شبيه بالحصن معرّب، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط: الجواسق بالقرافة والجبانة كانت تسمى القصور، وكان بالقرافة قصر الكتفيّ، وقصر بني كعب، وقصر بني عقبة، وقصر أبي قبيل، وقصر العزيز، وقصر البغداديّ، وقصر يشب، وقصر ابن كرامة. جوسق بني عبد الحكم: كان جوسقا كبيرا له حوش، وكان في وسط القرافة بحضرة مسجد بني سريع الذي يقال له الجامع العتيق، وهو أحد الجواسق الثلاثة، وهو جوسق عبد الله بن عبد الحكم الفقيه الإمام، وجدّد هذا الجوسق ابن اللهيب المغربي. جوسق بني غالب، ويعرف ببني بابشاد: كان بالمغافر، بني في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وإلى جانبه قبر الشيخ أبي الحسن طاهر بن بابشاد. جوسق ابن ميسر: كان بجوار جوسق بني غالب، بناه أبو عبد الله محمد ابن القاضي أبي الفرج هبة الله، وكان أبو الفرج هو الخطيب بجامع مصر، ويوم الغدير، وهو شافعيّ المذهب، وهو هبة الله بن الميسر. وذلك في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وخمسمائة، وأبو عبد الله هذا هو الذي كان بعد ذلك قاضي القضاة بمصر، وهو الذي حبس القياسر التي كانت في القشاشين بمصر، وكان يحمل قدّامه المنارة الرومية النحاس ذات السواعد التي

عليها الشمع ليالي الوقودات، وكان فيه كرم، سمع بأن المادرانيّ عمل في أيامه الكعك الصغير المحشوّ بالسكر المسمى أفطن له، فأمر هو بعمل لب الفستق الملبس بالسكر الأبيض الفانيذ المطيب بالمسك، وعمل منه في أوّل الحال شيئا عوّض لبه لب ذهب في صحن واحد، فمضى فيه جملة، وخطف قدّامه، تخاطفه الحاضرون. ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس. وهو أوّل من أخرجه بمصر، وكان قد سمع في سيرة أبي بكر المادرانيّ أنه عمل هذا الأفطن له، وجعل في كلّ واحد خمسة دنانير، ووقف أستاذ على السماط فقال لأحد الجلساء: افطن له. وكان على السماط عدّة صحون من ذلك الجنس، لكن ما فيها ما فيه دنانير إلّا صحن واحد، فلما رمز الأستاذ لأحد الجلساء على سماط المادرانيّ بقوله افطن له، وأشار إلى الصحن، تناول الرجل منه فأصاب لك، فاعتمد له جملة، ورآه الناس وهو إذا أكل يخرج شيئا من فمه ويجمع بيده ويحط في حجره، فتنبهوا وتزاحموا عليه. فقيل لذلك المعمول من ذلك الوقت أفطن له، وقتل هذا القاضي في تنيس في أيام بهرام الوزير النصرانيّ الأرمني، سنة ست وعشرين وخمسمائة. جوسق ابن مقشر: كان جوسقا طويلا ذا تربة إلى جانبه. جوسق الشيخ أبي محمد: عامل ديوان الأشراف الطالبيين، وجوسق ابن عبد المحسن بخط الأكحول، وجوسق البغداديّ الجرجراي، كان قبره إلى جانبه، خرب في سنة عشرين وخمسمائة، وجوسق الشريف أبي إسماعيل إبراهيم بن نسيب الدولة الكلتميّ الموسوي نقيب مصر. جوسق المادرانيّ: هذا الجوسق لم يبق من جواسق القرافة غيره، وهو جوسق كبير جدّا على هيئة الكعبة بالقرب من مصلى خولان في بحريه، على جانبه الممرّ من مقطع الحجارة، بناه أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ في وسط قبورهم من الجبانة، وكان الناس يجتمعون عند هذا الجوسق في الأعياد، ويوقد جميعه في ليلة النصف من شعبان كل سنة وقودا عظيما، ويتحلق القرّاء حوله لقراءة القرآن، فيمرّ للناس هنالك أوقات في تلك الليلة وفي الأعياد بديعة حسنة. جوسق حب الورقة: كان هذا الجوسق بحضرة تربة ابن طباطبا، أدركته عامرا، وقد خرب فيما خرّبه السفهاء من ترب القرافة وجواسقها، زعما منهم أن فيها خبايا، وكان أكابر أمراء المغافر ومن بعدهم ومن يجري مجراهم، لكلّ منهم جوسق بالقرافة يتنزه فيه ويعبد الله تعالى هناك، وكان من هذه الجواسق ما تحته حوض ماء لشرب الدواب وفسقية وبستان، وكان بالقرافة عدّة قصور، وهي التي تسمى بالجواسق، لها مناظر وبساتين، إلّا أن الجواسق أكثرها بغير بساتين ولا بئر، بل مناظر مرتفعة، ويقال لها كلها قصور. قصر القرافة: بنته السيدة تغريد أمّ العزيز بالله في سنة ست وستين وثلاثمائة، على يد

ذكر الرباطات التي كانت بالقرافة

الحسن بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب، هو والحمّام الذي كان في غربيه، وبنت البئر والبستان المعروف بالتاج، المعروف بحصن أبي المعلوم، وبنت جامع القرافة، ثم جدّده الآمر بأحكام الله وبيضه في سنة عشرين وخمسمائة، وعمل شرقيّ بابه مصطبة للصوفية، وكان مقدّمهم الشيخ أبو إسحاق إبراهيم المعروف بالمادح، وكان الآمر يجلس في الطاق بالمنظر الذي بناه بأعلى القصر، ويرقص أهل الطريقة قدّامه، وقد ذكر هذا القصر عند ذكر مناظر الخلفاء من هذا الكتاب، ولم يزل هذا القصر إلى ربيع الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة. ذكر الرباطات التي كانت بالقرافة كان بالقرافة الكبيرة عدّة دور يقال للدار منها رباط، على هيئة ما كانت عليه بيوت أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يكون فيها العجائز والأرامل العابدات، وكانت لها الجرايات والفتوحات، وكان لها المقامات المشهورة من مجالس الوعظ. رباط بنت الخوّاص: كان تجاه مسجد بيد الفقيه مجلي بن جميع بن نجا الشافعيّ، مؤلف كتاب الذخائر، وقاضي القضاة بمصر. رباط الأشراف: كان برحبة جامع القرافة، يعرف بالقرّاء، وببني عبد الله، وبمسجد القبة، وهو شرقيّ بستان ابن نصر، بناه أبو بكر محمد بن عليّ المادرانيّ ووقفه على نساء الأشراف. رباط الأندلس: بنته الجهة المعروفة بجهة مكنون الآمرية كما تقدّم. رباط ابن العكاريّ: كان بحضرة مسجد بني سريع المعروف بالجامع العتيق. رباط الحجازية: بنته وحبسته على الحجازية، فوز جارية عليّ بن أحمد الجرجراي الوزير، هو والمسجد الذي تقدّم ذكره. رباط رياض: كان بجوار مسجد الحاجة رياض. ذكر المصلّيات والمحاريب التي بالقرافة وكان في القرافة عدّة مصلّيات وعدّة محاريب. منها: مصلّى الشريفة: كان بدرب القرافة بحدرة الجباسين وخطة الصدف، بناه أبو محمد عبد الله بن الأرسوفيّ الشاميّ التاجر، سنة سبع وسبعين وخمسمائة. مصلّى المغافر: وهو الأندلس، جدّده ابن برك الإخشيديّ، ثم بنته جهة مكنون الآمرية في سنة ست وعشرين وخمسمائة.

مصلّى عقبة القرافة، يعرف بمصلّى الأندلسيّ: كان ذا مصطبة مربعة على يسرة الطالع إلى القرافة، بناه يوسف بن أحمد الأندلسيّ الأنصاريّ، في شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة. مصلّى القرافة: جدّده الفقيه ابن الصباغ المالكيّ، في سنة عشرين وخمسمائة، وكان بحضرة مسجد أبي تراب تجاه دار التبر. مصلّى الفتح: كان ملاصقا لمسجد الفتح، بناه أبو محمد القلعيّ المغربيّ المنجم الحافظيّ. مصلّى جهة العادل: أبي الحسن بن السلار وزير مصر. مصلّى الأطفيحيّ: بجوار مسجد الأطفيحيّ الذي تقدّم ذكره. مصلّى الجرجانيّ: بناه الوزير عليّ بن أحمد الجرجانيّ، وكانت بالقرافة الكبرى والجبانة عدّة محاريب خربت كلها. مصلّى خولان: هذه المصلّى عرفت بطائفة من العرب الذين شهدوا فتح مصر يقال لهم خولان، وهم من قبائل اليمن، واسمه نكل بن عمرو بن مالك بن زيد بن عريب، وفي هذه المصلّى مشهد الأعياد، ويؤمّ الناس ويخطب لهم بها في يوم العيد خطيب جامع عمرو بن العاص، وليست هذه المصلّى هي التي أنشأها المسلمون عند فتح أرض مصر، وإنما كانت مصلّى العيد في أوّل الإسلام غير هذه. قال القضاعي: مصلّى العيد كان مصلى عمرو بن العاص مقابل اليحموم، وهو الجبل المطلّ على القاهرة. فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر، أمر بتحويله. فحوّل إلى موضعه المعروف اليوم بالمصلّى القديم عند درب السباع، ثم زاد فيه عبد الله بن طاهر سنة عشر ومائتين، ثم بناه أحمد بن طولون في سنة ست وخمسين ومائتين، واسمه باق عليه إلى اليوم. قال الكنديّ: ولما قدم شفي الأصبحيّ إلى مصر، وأهل مصر قد اتخذوا مصلّى بحذاء ساقية أبي عون عند العسكر قال: ما لهم وضعوا مصلّاهم في الجبل الملعون وتركوا الجبل المقدّس، يعني المقطم. قال: فقدّموا مصلّاهم إلى موضعه الذي هو به اليوم، يعني المصلّى القديم المذكور. وقال الكنديّ: ثم ضاق المصلّى بالناس في إمارة عنبسة بن إسحاق الضبيّ على مصر، في أيام المتوكل على الله، فأمر عنبسة بابتناء المصلّى الجديد، فابتديء ببنائه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة أربعين ومائتين، وصلّى فيه يوم النحر من هذه السنة. وعنبسة هو آخر عربيّ ولي مصر، وآخر أمير صلّى بالناس في المسجد، وهو المصلّى

ذكر المساجد والمعابد التي بالجبل والصحراء

الذي بالصحراء عند الجاروديّ، ثم جدّده الحاكم وزاد فيه وجعل له قبة، وذلك في سنة ثلاث وأربعمائة، وكان أمراء مصر إذا خرجوا إلى صلاة العيد بالمصلّى أوقفوا جيشا في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش، ليراعي الناس حتى ينصرفوا من الصلاة، خوفا من البجة. فإنهم قدموا غير مرّة ركبانا على النجب حتى كبسوا الناس في مصلاهم وقتلوا ونهبوا ثم رجعوا من حيث أتوا، فخرج عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب غضبا لله وللمسلمين مما أصابهم من البجة، فكمن لهم بالصعيد في طريقهم حتى أقبلوا كعادتهم في أخذ الناس في مصلّى العيد، فكبسهم وقتل الأعور رئيسهم بعد ما أقبلوا إلى المصلّى في العيد، في سنة ست وخمسين ومائتين، وأميره مصر أحمد بن طولون على النجب، وكبسوا الناس في مصلّاهم وقتلوا ونهبوا منهم وعادوا سالمين، ثم دخل العمريّ إلى بلاد البجة غازيا، فقتل منهم مقتلة عظيمة وضايقهم في بلادهم إلى أن أعطوه الجزية، ولم يكونوا أعطوا أحدا قبله الجزية، وسار في المسلمين وأهل الذمّة سيرة حسنة، وسالم النوبة إلى أن بدأ النوبة بالغدر في الموضع المعروف بالمريس، فمال عليهم وحاربهم وخرّب ديارهم وسبى منهم عالما كثيرا، حتى كان الرجل من أصحابه يبتاع الحاجة من الزيات والبقال بنوبيّ أو نوبية لكثرتهم معهم، فجاؤا إلى أحمد بن طولون وشكوا له من العمريّ، فبعث إليه جيشا ليحاربه، فأوقع بالجيش وهزمهم، وكانت لهم أنباء وقصص إلى أن قتله غلامان من أصحابه وأحضرا رأسه إلى أحمد بن طولون، فأنكر فعلهما وضرب أعناقهما وغسل الرأس ودفنه. ذكر المساجد والمعابد التي بالجبل والصحراء وكان بجبل المقطم وبالصحراء التي تعرف اليوم بالقرافة الصغرى عدّة مساجد وعدّة مغاير، ينقطع العباد بها، ومنها ما قد دثر ومنه شيء قد بقي أثره. مسجد التنور: هذا المسجد في أعلى جبل المقطم من وراء قلعة الجبل في شرقيها، أدركته عامرا وفيه من يقيم به. قال القضاعيّ: المسجد المعروف بالتنور بالجبل، هو موضع تنور فرعون، كان يوقد له عليه، فإذا رأوا النار عملوا بركوبه فاتخذوا له ما يريد، وكذلك إذا ركب منصرفا من عين شمس. ثم بناه أحمد بن طولون مسجدا في صفر سنة تسع وخمسين ومائتين، ووجدت في كتاب قديم أنّ يهودا بن يعقوب أخا يوسف عليه السلام، لما دخل مع إخوته على يوسف وجرى من أمر الصواع ما جرى، تأخر عن إخوته وأقام في ذروة الجبل المقطم في هذا المكان، وكان مقابلا لتنور فرعون الذي كان يوقد له فيه النار. ثم خلا ذلك الموضع إلى زمن أحمد بن طولون، فأخبر بفضل الموضع وبمقام يهودا فيه، فابتنى فيه هذا المسجد والمنارة التي فيه، وجعل فيه صهريجا فيه الماء، وجعل الإنفاق عليه مما وقفه على البيمارستان بمصر والعين التي بالمغافر وغير ذلك. ويقال أنّ تنور فرعون لم يزل في هذا

الموضع بحاله إلى أن خرج إليه قائد من قوّاد أحمد بن طولون يقال له وصيف قاطرميز، فهدمه وحفر تحته، وقدّر أن تحته مالا فلم يجد فيه شيئا، وزال رسم التنور وذهب، وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر من أبيات لسعيد القاضي: وتنور فرعون الذي فوق قلة ... على جبل عال على شاهق وعر بنى مسجدا فيه يروق بناءه ... ويهدى به في الليل إن ضلّ من يسري تخال سنا قنديله وضياءه ... سهيلا إذا ما لاح في الليل للسفر القرقوبيّ: قال القضاعيّ المسجد المعروف بالقرقوبيّ، هو على قرنة الجبل المطل على كهف السودان، بناه أبو الحسن القرقوبيّ الشاهد، وكيل التجار بمصر، في سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان في موضعه محراب حجارة يعرف بمحراب ابن الفقاعيّ الرجل الصالح، وهو على يسار المحراب. مسجد أمير الأمراء: رفق المستنصريّ على قرنة الجبل البحرية المطلة على وادي مسجد موسى عليه السلام. كهف السودان: مغار في الجبل لا يعلم من أحدثه، ويقال أن قوما من السودان نقروه فنسب إليهم، وكان صغيرا مظلما، فبناه الأحدب الأندلسيّ القزاز، وزاد في سفله مواضع نقرها، وبنى علوه. ويقال أنه أنفق فيه أكثر من ألف دينار، ووسع المجاز الذي يسلك منه إليه، وعمل الدرج النقر التي يصعد عليها إليه، وبدأ في بنيانه مستهل سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وفرغ منه في شعبان من هذه السنة. العارض: هذا المكان مغارة في الجبل، عرفت بأبي بكر محمد جدّ مسلم القاري، لأنه نقرها، ثم عمرت بأمر الحاكم بأمر الله، وأنشئت فيها منارة هي باقية إلى اليوم، وتحت العارض قبر الشيخ العارف عمر بن الفارض رحمه الله، ولله در القائل: جزبا لقرافة تحت ذيل العارض ... وقل السلام عليك يا ابن الفارض وقد ذكر القضاعيّ أربع عشرة مغارة في الجبل، منها. ما هو باق، وليس في ذكرها فائدة. اللؤلؤة: هذا المكان مسجد في سفح الجبل منها. باق إلى يومنا هذا، كان مسجدا خرابا، فبناه الحاكم بأمر الله وسماه اللؤلؤة، قيل كان بناؤه في سنة ست وأربعمائة، وهو بناء حسن. مسجد الهرعاء: فيما بين اللؤلؤة ومسجد محمود، وهو مسجد قديم يتبرّك بالصلاة فيه، وقد ذكر مسجد محمود عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب، لأنه تقام فيه الجمعة. دكة القضاة: قال القضاعيّ: هي دكة مرتفعة عن المساجد في الجبل، كان القضاة بمصر يخرجون إليها لنظر الأهلّة كل سنة، ثم بني عليها مسجد.

مسجد فائق: مولى خمارويه بن أحمد بن طولون، كان في سفح الجبل مما يلي طريق مسجد موسى عليه السلام. مسجد موسى: بناه الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات. مسجد زهرون بالصحراء: هو مسجد أبي محمد الحسن بن عمر الخولانيّ، ثم عرف بابن المبيض، وكان زهرون قيمه فنسب إليه. مسجد الفقاعيّ: هو أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عبد الله، كان أبوه فقاعيا «1» بمصر، وهو مسجد كبير بناه كافور الإخشيديّ، ثم جدّده وزاد فيه مسعود بن محمد صاحب الوزير أبي القاسم عليّ بن أحمد الجرجرايّ، وكان في وسط هذا المسجد محراب مبنيّ بطوب يقال أنه من بناء حاطب بن أبي بلتعة رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المقوقس، ويقال أنه أوّل محراب اختط في مصر، وكان أبو الحسن التميميّ قد زاد فيه ببناء قبل ذلك. مسجد الكنز: هذا المسجد كان شرقيّ الخندق وبحريّ قبر ذي النون المصريّ، وكان مسجدا صغيرا يعرف بالزمام، ومات قبل تمامه، فهدمه أبو طاهر محمد بن عليّ القرشيّ القرقوبيّ ووسعه وبناه، وحكي أنه لما هدمه رأى قائلا يقول في المنام: على أذرع من هذا المسجد كنز، فاستيقظ وقال: هذا من الشيطان، فرأى هذا القائل ثلاث مرّات، فلما أصبح أمر بحفر الموضع فإذا فيه قبر، وظهر له لوح كبير تحته ميت في لحد كأعظم ما يكون من الناس جثة ورأسا، وأكفانه طرية لم يبل منها إلا ما يلي جمجمة الرأس، فإنه رأى شعر رأسه قد خرج من الكفن، وإذا له جمة، فراعه ما رأى وقال: هذا هو الكنز بلا شك، وأمر بإعادة اللوح والتراب كما كان، وأخرج القبر عن سائر الحيطان، وأبرزه للناس فصار يزار ويتبرّك به. مسجد في غربيّ الخندق: أنشأه أبو الحسن بن النجار الزيات في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. مسجد لؤلؤ الحاجب: بالقرافة الصغرى، بنى بجانبه مقبرة، وحفر عندها بئرا حتى انتهى الحفار إلى قرب الماء، فقال الحفار: إني أجد في البئر شيئا كأنه حجر. فقال له لؤلؤ تسبب في قلعه، فلما قلعه فار الماء وأخرجه، وإذا هو اسطام مركب، وهو الخشبة التي تبنى عليها السفينة، وهذا يصدّق ما قاله أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية، قال: إن أهل مصر يسكنون فيما انحسر عنه البحر الأحمر، يعني بحر الشام، وقد ذكر خبر لؤلؤ هذا عند ذكر حمام لؤلؤ.

مقام المؤمن: قيل أنه مؤمن آل فرعون، لأنه أقام فيه، وهذا بعيد من الصحة. قناطر ابن طولون وبئره: هذه القناطر قائمة إلى اليوم من بئر أحمد بن طولون التي عند بركة الحبش، وتعرف هذه البئر عندنا ببئر عفصة، ولا تزال هذه القناطر إلى أثناء القرافة الكبرى، ومن هناك خفيت لتهدّمها، وهي من أعظم المباني. قال القضاعيّ: قناطر أحمد بن طولون وبئره بظاهر المغافر، كان السبب في بنائها هذه القناطر أن أحمد بن طولون ركب فمرّ بمسجد الأقدام وحده، وتقدّم عسكره وقد كدّه العطش، وكان في المسجد خياط فقال: يا خياط أعندك ماء؟ فقال: نعم. فأخرج له كوزا فيه ماء وقال: اشرب ولا تمدّ، يعني لا تشرب كثيرا، فتبسم أحمد بن طولون وشرب فمدّ فيه حتى شرب أكثره، ثم ناوله إياه وقال: يا فتى سقيتنا وقلت لا تمدّ. فقال: نعم، أعزك الله، موضعنا ههنا منقطع، وإنما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية. فقال هل: والماء عندكم ههنا معوز؟ فقال: نعم. فمضى أحمد بن طولون، فلما حصل في داره قال: جيؤني بخياط في مسجد الأقدام. فما كان بأسرع من أن جاؤوا به، فلما رأه قال: سر مع المهندسين حتى يخطّوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء، وهذه ألف دينار خذها، وابتدأ في الأنفاق وأجرى على الخياط في كلّ شهر عشرة دنانير وقال له: بشرني ساعة يجري الماء فيها، فجدّوا في العمل، فلمّا جرى الماء أتاه مبشرا، فخلع عليه وحمله واشترى له دارا يسكنها، وأجرى عليه الرزق السنيّ الدارّ، وكان قد أشير عليه بأن يجري الماء من عين أبي خليد المعروفة بالنعش. فقال: هذه العين لا تعرف أبدا إلّا بأبي خليد، وإني أريد أن أستنبط بئرا، فعدل عن العين إلى الشرق فاستنبط بئره هذه وبنى عليها القناطر، وأجرى الماء إلى الفسقية التي بقرب درب سالم. وقال جامع السيرة الطولونية: وأما رغبته في أبواب الخير فكانت ظاهرة بينة واضحة، فمن ذلك بناء الجامع والبيمارستان، ثم العين التي بناها بالمغافر، وبناها بنية صحيحة ورغبة قوية حتى أنها ليس لها نظير، ولهذا اجتهد المادرانيون وأنفقوا الأموال الخطيرة ليحكوها، فأعجزهم ذلك لأنها وقعت في موضع جيرانه كلهم محتاجون إليها، وهي مفتوحة طول النهار لمن كشف وجهه للأخذ منها، ولمن كان له غلام أو جارية، والليل للفقراء والمساكين، فهي حياة ومعونة. واتخذ لها مستغلا فيه فضل وكفاية لمصالحها، والذي تولى لأحمد بن طولون بناء هذه العين رجل نصرانيّ حسن الهندسة حاذق بها، وإنه دخل إلى أحمد بن طولون في عشية من العشايا فقال له: إذا فرغت مما تحتاج إليه فأعلمني لنركب إليها فنراها، فقال: يركب الأمير إليها في غد، فقد فرغت، وتقدّم النصرانيّ فرأى موضعا بها يحتاج إلى قصرية جير وأربع طوبات، فبادر إلى عمل ذلك، وأقبل أحمد بن طولون يتأمّل العين فاستحسن جميع ما شاهده فيها، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير

فوقف بالاتفاق عليها، فلرطوبة الجير غاصت يد الفرس فيه فكبا بأحمد، ولسوء ظنه قدّر أنّ ذلك لمكروه أراده به النصرانيّ، فأمر به فشق عنه ما عليه من الثياب وضربه خمسمائة سوط، وأمر به إلى المطبق، وكان المسكين يتوقع من الجائزة مثل ذلك دنانير، فاتفق له اتفاق سوء. وانصرف أحمد بن طولون وأقام النصرانيّ إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع، فقدّر له ثلاثمائة عمود فقيل له ما تجدها، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب، فتحمل ذلك. فأنكره ولم يختره، وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصرانيّ وهو في المطبق الخبر، فكتب إليه: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلّا عمودي القبلة، فأحضره وقد طال شعره حتى تدلى على وجهه، فبناه. قال: ولما بنى أحمد بن طولون هذه السقاية بلغه أن قوما لا يستحلون شرب مائها، قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم الفقيه: كنت ليلة في داري إذ طرقت بخادم من خدّام أحمد بن طولون فقال لي: الأمير يدعوك، فركبت مذعورا مرعوبا، فعدل بي عن الطريق فقلت: أين تذهب بي، فقال: إلى الصحراء والأمير فيها. فأيقنت بالهلاك وقلت للخادم: الله الله فيّ، فإني شيخ كبير ضعيف مسنّ، فتدري ما يراد مني فارحمني. فقال لي: احذر أن يكون لك في السقاية قول. وسرت معه وإذا بالمشاعل في الصحراء وأحمد بن طولون راكب على باب السقاية وبين يديه الشمع، فنزلت وسلمت عليه فلم يردّ عليّ، فقلت: أيّها الأمير إنّ الرسول أعنتني وكدّني وقد عطشت فيأذن لي الأمير في الشرب، فأراد الغلمان أن يسقوني فقلت: أنا آخذ لنفسي، فاستقيت وهو يراني، وشربت وازددت في الشرب حتى كدت أنشق ثم قلت: أيها الأمير سقاك الله من أنهار الجنة، فلقد أرويت وأغنيت، ولا أدري ما أصف أطيب الماء، في حلاوته وبرده أم صفاءه أم طيب ريح السقاية، قال: فنظر إليّ وقال: أريدك لأمر وليس هذا وقته، فاصرفوه. فصرفت. فقال لي الخادم: أصبت. فقلت: أحسن الله جزاءك، فلو لاك لهلكت. وكان مبلغ النفقة على هذه العين في بنائها ومستغلها أربعين ألف دينار، وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب الأمراء لسعيد القاص أبياتا في رثاء دولة بني طولون، منها في العين والسقاية: وعين معين الشرب عين زكية ... وعين أجاج للرّواة وللطهر كأنّ وفود النيل في جنباتها ... تروح وتغدو بين مدّ إلى جزر فأرك بها مستنبطا لمعينها ... من الأرض من بطن عميق إلى ظهر بناء لو أنّ الجنّ جاءت بمثله ... لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر يمرّ على أرض المغافر كلها ... وشعبان والأحمور والحيّ من بشر قبائل لا نوء السحاب يمدّها ... ولا النيل يرويها ولا جدول يجري وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب الجوهر المكنون في ذكر

القبائل والبطون: سريع فخذ من الأشعريين، هم ولد سريع بن ماتع من بني الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهم رهط أبي قبيل التابعيّ، الذي خطته اليوم الكوم، شرقيّ قناطر سقاية أحمد بن طولون، المعروفة بعفصة الكبيرة بالقرافة. الخندق: هذا الخندق كان بقرافة مصر، قد دثر، وعلى شفيره الغربيّ قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وكان من النيل إلى الجبل، حفر مرّتين، مرّة في زمن مروان بن الحكم، ومرّة في خلافة الأمين محمد بن هارون الرشيد. ثم حفره أيضا القائد جوهر. قال القضاعيّ: الخندق هو الخندق الذي في شرقيّ الفسطاط في المقابر، كان الذي أثار حفره مسير مروان بن الحكم إلى مصر، وذلك في سنة خمس وستين، وعلى مصر يومئذ عبد الرحمن بن عقبة بن جحدم الفهريّ، من قبل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه. فلما بلغه مسير مروان إلى مصر أعدّ واستعدّ وشاور الجند في أمره، فأشاروا عليه بحفر الخندق، والذي أشار به عليه ربيعة بن حبيش الصدفيّ، فأمر ابن جحدم بإحضار المحاريث من الكور لحفر الخندق على الفسطاط، فلم تبق قرية من قرى مصر إلا حضر من أهلها النفر، وكان ابتداء حفره غرّة المحرّم سنة خمس وستين، فما كان شيء أسرع من فراغهم منه، حفروه في شهر واحد. وكانت الحرب من ورائه يغدون إليها ويروحون، فسميت تلك الأيام أيام الخندق والتراويح، لرواحهم إلى القتال، وكانت المغافر أكثر قبائل أهل مصر عددا، كانوا عشرين ألفا، ونزل مروان عين شمس لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، في اثني عشر ألفا، وقيل في عشرين ألفا، فخرج أهل مصر إلى مروان فحاربوه يوما واحدا بعين شمس، ثم تحاجزوا ورجع أهل مصر إلى خندقهم فتحصنوا به، وصحبتهم جيوش مروان على باب الخندق، فاصطف أهل مصر على الخندق، فكانوا يخرجون إلى أصحاب مروان فيقاتلونهم نوبا نوبا، وأقاموا على ذلك عشرة أيام ومروان مقيم بعين شمس، وكتب مروان إلى شيعته من أهل مصر، كريب بن أبرهة بن الصباح الحميريّ، وزياد بن حناطة التجيبيّ، وعابس بن سعيد المراديّ يقول: إنكم ضمنتم لي ضمانا لم تقوموا به، وقد طالت الأيام والممانعة، فقام كريب وزياد وعابس إلى ابن جحدم فقالوا له: أيّها الأمير إنه لا قوام لنا بما ترى، وقد رأينا أن نسعى في الصلح بينك وبين مروان وقد مل الناس الحرب وكرهوها، وقد خفنا أن يسلمك الناس إلى مروان فيكون محكما فيك، فقال: ومن لي بذلك؟ فقال كريب: أنا لك به، فسعى كريب وصاحبناه في الصلح على أمان كتبه مروان لأهل مصر وغيرهم ممن شرب ماء النيل، وعلى أن يسلم لابن جحدم من بيت المال عشرة آلاف دينار، وثلاثمائة ثوب بقطرية، ومائة ريطة، وعشرة أفراس، وعشرين بغلا، وخمسين بعيرا. فتم الصلح على ذلك، ودخل مروان الفسطاط مستهل جمادى الأولى سنة خمس وستين، فنزل دار الفلفل ودفع إلى ابن جحدم جميع ما صالحه عليه، وسار ابن جحدم إلى الحجاز ولم يلق كلّ واحد

منهما الآخر، وتفرّق المصريون وأخذوا في دفن قتلاهم والبكاء عليهم، فسمع مروان البكاء فقال: ما هذه النوادب؟ فقيل: على القتلى. قال: لا أسمع نائحة تنوح إلّا أحللت بمن هي في داره العقوبة. فسكتن عند ذلك ودفن أهل مصر قتلاهم فيما بين الخندق والمقطم، وهي المقابر التي يسميها المصريون مقابر الشهداء، ودفن أهل الشام قتلاهم فيما بين الخندق ومنية الأصبغ، وكان قتلى أهل مصر ما بين الستمائة إلى السبعمائة، وقتلى أهل الشام نحو الثلاثمائة، ولما برز مروان من الفسطاط سائرا إلى الشام، سمع وجبة النساء يندبن قتلاهنّ، قال: ويحهن ما هذا؟ قالوا: النساء على مقابرهنّ يندبن قتلاهنّ، فعرّج عليهنّ، فأمر بالانصراف. قالوا: كذا هنّ كلّ يوم. قال: فامنعوهنّ إلّا من سبب، وخرج مروان من مصر إلى الشام لهلال رجب سنة خمس وستين، وكان مقامه بالفسطاط شهرين، واستخلف ابنه عبد العزيز على مصر، وضم إليه بشر بن مروان، وكان حدثا، ثم ولي عبد الملك بشرا بعد ذلك البصرة، قال: ثم دثر هذا الخندق إلى أيام خلع الأمين بمصر وبيعة المأمون، وولى البلد عباد بن محمد بن حبان مولى كندة من قبل المأمون، فكتب الأمين بمصر إلى أهل الحوفين في القيام ببيعته وقتال: عباد وأهل مصر. فتجمع أهل الحوف لذلك واستعدّوا، وبلغ أهل مصر فأشاروا على عباد بحفر الخندق، فحفروا خندقا من النيل إلى الجبل واحتفروا هذا الخندق العتيق، فكان القتال عليه أياما متفرّقة إلى أن قتل الأمين وتمت بيعة المأمون، ثم لم يحفر بعد ذلك إلى يومنا هذا. وذكر ابن زولاق أن القائد جوهرا لما اختط القاهرة وكثر الإرجاف بمسير القرامطة إلى مصر، حفر خندق السريّ بن الحكم بباب مدينة مصر، وعمل عليه بابا في ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة، وحفر خندقا في وسط مقبرة مصر، وهو الخندق الذي حفره ابن جحدم، ابتدأ حفره من بركة الحبش حتى وصله بخندق عبد الرحمن بن جحدم، حتى بلغ به قبر محمد بن إدريس الشافعيّ، ثم حفر من الجبل إلى أن وصل الخندق ابن جحدم وسط المقابر، وبدأ به يوم السبت التاسع من شوّال سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وفرغ منه في مدّة يسيرة. القباب السبع: هذه القباب بآخر القرافة الكبرى مما يلي مدينة مصر. قال ابن سعيد في كتاب المغرب: والقباب السبع المشهورة بظاهر الفسطاط، هي مشاهد على سبعة من بني المغربيّ قتلهم الخليفة الحاكم بعد فرار الوزير أبي القاسم الحسين بن عليّ بن المغربيّ إلى أبي الفتوح حسن بن جعفر بمكة، وفي ذلك يقول أبو القاسم بن المغربيّ: إذا شئت أن ترنو إلى الطّف باكيا ... فدونك فانظر، نحو أرض المقطّم تجد من رجال المغربيّ عصابة ... مضمّخة الأجسام من حلل الدّم فكم تركوا محراب آي معطّل ... وكم تركوا من سورة لم تختم

ذكر الأحواض والآبار التي بالقرافة

وقد ذكرت أخبار بني المغربيّ عند ذكر بساتين الوزير من بركة الحبش، ويتعلق بهذا الموضع من خبرهم أن أبا الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ بن محمد بن المغربيّ، لما خرج من بغداد وصار إلى مصر في أيام العزيز بالله بن المعز لدين الله في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة رتب له في كلّ سنة ستة آلاف دينار، وصار من شيوخ الدولة. فقال يوما لمؤدّب ولده أبي القاسم حسين، وهو عليّ بن منصور بن طالب، المعروف بأبي الحسن دوخلة بن القادح سرّا: أنا أخاف همة ابني أبي القاسم أن تنزو به إلى أن يوردنا مورد الأصدر عنه، فإن كانت الأنفاس مما تحفظ وتكتب فاكتبها واحفظها وطالعني بها. فقال أبو القاسم في بعض الأيام لمؤدّبه هذا: إلى متى نرضى بالخمول الذي نحن فيه؟ فقال له: وأيّ خمول هذا، تأخذون من مولانا في كل سنة ستة آلاف دينار، وأبوكم من شيوخ الدولة؟ فقال: أريد أن تصار إلى أبوابنا الكتائب والمواكب والمقانب، ولا أرضى بأن يجرى علينا كالولدان والنسوان، فأعاد ذلك على أبيه فقال: ما أخوفني أن يخضب أن أبو القاسم هذه من هذه، وقبض على لحيته وهامته، وعلم ذلك أبو القاسم فصارت بينه وبين مؤدّبه وحشة، وكان ذلك في خلافة الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز، وتحدّث القائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر، وكان الحاكم قد أكثر من قتل رؤساء دولته، وصار يبعث إلى القائد كلما قتل رئيسا برأسه ويقول: هذا عدوّي وعدوّك، فقبض على أبي الحسن عليّ بن الحسين المغربيّ والد الوزير أبي القاسم الحسين، وعلى أخيه أبي عبد الله محمد بن الحسين، وعلى محسن ومحمد أخوي الوزير المذكور، لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربعمائة، وفرّ الوزير أبو القاسم الحسين بن المغربيّ من مصر في زيّ حمّال، لليال من ذي القعدة، ولحق بحسان بن الجرّاح، وكان من أمره ما كان. ذكر الأحواض والآبار التي بالقرافة حوض القرافة: أمر ببنائه السيدة ست الملك، عمّة الحاكم بأمر الله، ابنة المعز لدين الله، في شعبان سنة ست وستين وثلاثمائة واختلّ في أيام العادل أبي الحسن بن السلار وزير مصر في سنة ست وأربعين وخمسمائة، فأمر بعمارته، ثم انشق في سنة ثمانين وخمسمائة، فجدّده القاضي السعيد ثقة الثقات ذو الرّياستين، أبو الحسن عليّ بن عثمان بن يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن أحمد بن يعقوب بن مسلم بن منبه، أحد بني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزوميّ، صاحب النظر في ديوان مصر، ومصنف كتاب المنهاج في أحكام الخراج. وهو كتاب جليل الفائدة، ولم تزل آثار هذا القاضي حميدة ومقاصده سديدة، وعنده نخوة قرشية، ومروءة وعصبية، وهو وإن طاب أصولا، فقد زكا فروعا، وإن تفرّقت في سواه فضائل فقد جمعها الله فيه جميعا، ولم يزل مذ كان يسعى في الأمانة على صراط مستقيم، آخذا بقوله تعالى أخبارا عن

ذكر الآبار التي ببركة الحبش والقرافة

الكريم ابن الكريم اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. الحوض بجوار قصر القرافة: في ظهر الحمّام العزيزي بحضرة فرن القرافة، أمرت ببنائه أمّ الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، واسمها السيدة رصد، على يد وكيلها الشريف المحدّث أبي إبراهيم أحمد بن القاسم بن الميمون بن حمزة الحسينيّ العبدليّ شيخ الفرّاء، وابن الخطاب والفلكيّ. حوض بحضرة الأشعوب: وهو قصر بني عقيب. حوض في داخل قصر أبي المعلوم: مجاور للبئر الكبيرة ذات الدواليب، بناه المحتسب الفارسيّ مع عمارة البئر والميضأة في أيام السيدة أمّ العزيز، ويقال أن الحوض والبئر من بناء المادرانيّ، وإنما جدّدته عمة الحاكم. حوض: بقصر بني كعب وبجانبه بئر، أنشأه الحاجب لؤلؤ، وهو من حقوق قصر بني كعب، وقد خربت هذه الأحواض ودثرت. ذكر الآبار التي ببركة الحبش والقرافة بئر أبي سلامة: وتعرف ببئر الغنم، وهي قبليّ النوبية، وموضعها أحسن موضع في البركة، وهي التي عنى أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بقوله: لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش والنيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش ونحن في روضة مفوّفة «1» ... دبج بالنور عطفها ووشي قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نسجها على فرش وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الهوى فلم يطش فعاطني الراح إنّ تاركها ... من سورة الهمّ غير منتعش واسقني بالكبار مترعة ... فهنّ أشفى لشدّة العطش بئر غربيّ دير مرحنا وبستان العبيديّ: ودير مرحنا يعرف اليوم في زماننا بدير الطين، وهو عامر بالنصارى. بئر الدرج: شرقيّ بساتين الوزير، لها درج ينزل به إليها، عملها الحاكم بأمر الله، وشرقيها قبور النصارى، وبعدهم إلى جهة الجبل قبور اليهود، والبستان المجاور لعفصة الصغرى أوّل بركة الحبش على لسان الجبل الخارج إلى البركة، مجاورة لبئر النعش وبئر السقايين، وهي المعروفة ببئر أبي موسى خليد، وقد صار هذا البستان إلى المهذب بن الوزير.

ذكر السبعة التي تزار بالقرافة

بئر الزقاق: شرقيّ بئر عفصة الصغرى، والزقاق معروف إذ ذاك في الجبل، وفي أوّله بئر مربعة كان يسقى منها البقر والغنم. ذكر السبعة التي تزار بالقرافة اعلم أن زيارة القرافة كانت أوّلا يوم الأربعاء، ثم صارت ليلة الجمعة، وأمّا زيارة يوم السبت فقيل إنها قديمة، وقيل متأخرة، وأوّل من زار يوم الأربعاء وابتدأ بالزيارة من مشهد السيدة نفيسة، الشيخ الصالح أبو محمد عبد الله بن رافع بن يزحم بن رافع السارعيّ الشافعيّ المغافريّ الزوّار، المعروف بعابد، ومولده سنة إحدى وستين وخمسمائة، ووفاته بالهلالية خارج باب زويلة، في ليلة الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وثلاثين وستمائة. ودفن بسفح المقطم على تربة بني نهار، بحريّ تربة الردينيّ. وأوّل من زار ليلة الجمعة، الشيخ الصالح المقري أبو الحسن عليّ بن أحمد بن جوشن المعروف بابن الجباس، والد شرف الدين محمد بن عليّ بن أحمد بن الجباس، فجمع الناس وزار بهم في ليلة الجمعة في كلّ أسبوع، وزار معه في بعض الليالي السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، ومشى معه أكابر العلماء. وكان سبب تجرّد أبي الحسن بن الجباس وانقطاعه إلى الله تعالى، أنه دولب مطبخ سكّر شركة رجل، فوقف عليهما مال للديوان، فسجنا بالقصر، فقرأ ابن الجباس في بعض الليالي سورة الرعد، فسمعه السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، فقام حتى وقف عليه وسأله عن خبره، فأعلمه بأنه سجن على مبلغ كذا، فأمر بالإفراج عنه، فأبى إلّا أن يفرج عن رفيقه أيضا، فأفرج عنهما جميعا. واتفق أنه مرّ في بعض ليالي الزيارة بزاوية الفخر الفارسيّ، فخرج وقال له: ما هذه البدعة؟ في غد أبطلها. ثم دخل الزاوية وخرج بعد ساعة وأمر بردّ ابن الجباس، فلما جاءه قال: دم على ما أنت عليه، فإني رأيت الساعة قوما فقالوا: هل تعطينا ما يعطينا ابن الجباس في ليالي الجمع؟ فعلمت أن ذلك هو الدعاء والقراءة. وأمّا زيارة يوم السبت، فقد تقدّم أنه اختلف فيها، وحكى الموفق بن عثمان عن القضاعيّ أنه كان يحث على زيارة سبعة قبور، وأن رجلا شكا إليه ضيق حاله. والدين. فقال له: عليك بزيارة سبعة قبور. أوّلهم: الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمد بن سهل بن الصائغ الدينوريّ، وتوفي ليلة الثلاثاء، لثلاث عشرة بقيت من شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. والثاني: عبد الصمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم البغداديّ، صاحب الخلفاء، وتوفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. والثالث: أبو إبراهيم إسماعيل بن ... «1» المزنيّ، وتوفي سنة أربع وستين ومائتين. والرابع: القاضي بكار بن قتيبة، وتوفي سنة سبعين ومائتين. والخامس: القاضي

المفضل بن فضالة، وتوفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين. والسادس: القاضي أبو بكر عبد الملك بن الحسن القمنيّ، وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة. والسابع: أبو الفيض ذو النون ثوبان بن إبراهيم المصريّ، وتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين. وكانوا أوّلا يزورون بعد صلاة الصبح وهم مشاة على أقدامهم إلى أن كانت أيام شيخ الزوّار محمد العجميّ السعوديّ، فزار راكبا في يوم السبت بعد طلوع الشمس، لأنّ رجليه كانتا معوجتين لا يستطيع المشي عليهما، وذلك في أواخر سنة ثمانمائة، وتوفي في عاشر شهر رمضان سنة تسع وثمانمائة. فجاء بعده الزائر شمس الدين محمد بن عيسى المرجوشيّ السعوديّ، ومحيي الدين عبد القادر بن علاء الدين محمد بن علم الدين بن عبد الرحمن الشهير بابن عثمان، ففعلا ذلك، ومات ابن عثمان في سابع شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وثمانمائة، فاستمرّت الزيارة على ذلك. وقد حكى صاحب كتاب محاسن الأبرار ومجالس الأخيار سبعة غير من ذكرنا وسماهم المحققين وهم: صلة بن مؤمّل، وأبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن عليّ بن جعفر الخوارزميّ، وسالم العفيف، وأبو الفضل بن الجوهريّ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين، عرف بالبزار، وأبو الحسن عليّ، عرف بطير الوحش، وأبو الحسن عليّ بن صالح الأندلسيّ الكحال، وذكر أيضا سبعة أخر وهم: عقبة بن عامر الجهنيّ، والإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ، وأبو بكر الدقاق، وأبو إبراهيم إسماعيل المزنيّ، وأبو العباس أحمد الجزار، والفقيه ابن دحية، والفقيه ابن فارس اللخميّ، وزيارتهم يوم الجمعة بعد صلاة الصبح، والعمل عليها في الزيارة الآن، إلّا أنهم يجتمعون طوائف، لكلّ طائفة شيخ، ويقيمون مناور كبارا وصغارا ويخرجون في ليالي الجمع وفي كلّ سبت بكرة النهار، وفي كلّ يوم أربعاء بعد الظهر، وهم يذكرون الله، فيزورون. ويجتمع معهم من الرجال والنساء خلائق لا تحصى، ومنهم من يعمل ميعاد وعظ، ويقال لشيخ كل طائفة الشيخ الزائر، فتمرّ لهم في الزيارة أمور منها ما يستحسن ومنها ما ينكر، ولكلّ عبد ما نوى. فمن أشهر مزارات القرافة: قبر الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ. رحمة الله ورضوانه عليه، وتوفي يوم الجمعة آخر يوم من شهر رجب، سنة أربع ومائتين بفسطاط مصر، وحمل على الأعناق حتى دفن في مقبرة بني زهرة، أولاد عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ رضي الله عنه، وعرفت أيضا بتربة أولاد ابن عبد الحكم. قال القضاعيّ: وقد جرّب الناس خير هذه التربة المباركة والقبر المبارك، وينقل عن المزنيّ أنه قال فيه: سقى الله هذا القبر من وبل مزنه ... من العفو ما يغنيه عن طلل المزن

لقد كان كفؤا للعداة ومعقلا ... وركنا لهذا الدين بل أيّما ركن هكذا وقفت عليه، ثم رأيت بعد ذلك أن المزنيّ، رحمه الله، لما دفن مرّ رجل على قبره وإذا بهاتف يقول: فذكر البيتين. وقال آخر: لله درّ الثرى كم ضمّ من كرم ... بالشافعيّ حليف العلم والأثر يا جوهر الجوهر المكنون من مضر ... ومن قريش ومن ساداتها الأخر لما توليت ولّى العلم مكتئبا ... وضرّ موتك أهل البدو والحضر ولآخر: أكرم به رجلا ما مثله رجل ... مشارك لرسول الله في نسبه أضحى بمصر دفينا في مقطمها ... نعم المقطّم والمدفون في تربة ومناقب الشافعيّ رحمه الله كثيرة، قد صنف الأئمة فيها عدّة مصنفات، وله في تاريخي الكبير المقفى ترجمة كبيرة، ومن أبدع ما حكي من مناقبه: أنّ الوزير نظام الملك أبا عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق، لما بنى المدرسة النظامية ببغداد في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، أحب أن ينقل الإمام الشافعيّ من مقبرته بمصر إلى مدرسته، وكتب إلى أمير الجيوش بدر الجماليّ وزير الإمام المستنصر بالله معدّ يسأله في ذلك، وجهز له هدية جليلة، فركب أمير الجيوش في موكبه ومعه أعيان الدولة ووجوه المصريين من العلماء وغيرهم، وقد اجتمع الناس لرؤيته، فلما نبش القبر شق ذلك على الناس، وماجوا وكثر اللغط وارتفعت الأصوات وهموا برجم أمير الجيوش والثورة به، فسكّتهم وبعث يعلم الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بصورة الحال، فأعاد جوابه بإمضاء ما أراد نظام الملك، فقريء كتابه بذلك على الناس عند القبر وطردت العامّة والغوغاء من حوله، ووقع الحفر حتى انتهوا إلى اللحد، فعندما أرادوا قلع ما عليه من اللبن خرج من اللحد رائحة عطرة أسكرت من حضر فوق القبر حتى وقعوا صرعى، فما أفاقوا إلّا بعد ساعة، فاستغفروا مما كان منهم وأعادوا ردم القبر كما كان وانصرفوا، وكان يوما من الأيام المذكورة، وتزاحم الناس على قبر الشافعيّ يزورونه مدّة أربعين يوما بلياليها، حتى كان من شدّة الازدحام لا يتوصل إليه إلّا بعناء ومشقة زائدة، وكتب أمير الجيوش محضرا بما وقع وبعث به وبهدية عظيمة مع كتابه إلى نظام الملك، فقرىء هذا المحضر والكتاب بالنظامية ببغداد، وقد اجتمع العالم على اختلاف طبقاتهم لسماع ذلك، فكان يوما مشهودا ببغداد، وكتب نظام الملك إلى عامّة بلدان المشرق من حدود الفرات إلى ما وراء النهر بذلك، وبعث مع كتبه بالمحضر وكتاب أمير الجيوش، فقرئت في تلك الممالك بأسرها، فزاد قدر الإمام الشافعيّ عند كافة أهل الأقطار، وعامّة جميع أهل الأمصار بذلك.

وقد أوردت في كتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع صلّى الله عليه وسلّم، نظير هذه الواقعة، وقع لضريح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يزل قبر الشافعيّ يزار ويتبرّك به إلى أن كان يوم الأحد لسبع خلت من جمادى الأولى سنة ثمان وستمائة، فانتهى بناء هذه القبة التي على ضريحه، وقد أنشأها الملك الكامل المظفر المنصور أبو المعالي ناصر الدين محمد ظهير أمير المؤمنين ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وبلغت النفقة عليها خمسين ألف دينار مصرية، وأخرج في وقت بنائها بعظام كثيرة من مقابر كانت هناك، ودفنت في موضع من القرافة، وبهذه القبة أيضا قبر السلطان الملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقبر أمّه شمسة، وقيل فيها عدّة أشعار، منها قول الأديب الكاتب ضياء الدين أبي الفتح موسى بن ملهم: مررت على قبّة الشافعيّ ... فعاين طرفي عليها العشاري فقلت لصحبي لا تعجبوا ... فإنّ المراكب فوق البحار وقال علاء الدين أبو عليّ عثمان بن إبراهيم النابلسي: لقد أصبح الشافعيّ الإما ... م فينا له مذهب مذهب ولو لم يكن بحر علم لما ... غدا وعلى قبره مركب وقال آخر: أتيت لقبر الشافعيّ أزوره ... تعرّضنا فلك وما عنده بحر فقلت تعالى الله تلك إشارة ... تشير بأنّ البحر قد ضمّه القبر وقال شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد البوصيريّ صاحب البردة: بقبة قبر الشافعيّ سفينة ... رست في بناء محكم فوق جلمود ومذ غاض طوفان العلوم بقبره استوى الفلك من ذاك الضريح على الجودي ومنها قبر الإمام الليث بن سعد: رحمه الله، قد اشتهر قبره عند المتأخرين، وأوّل ما عرفته من خبر هذا القبر أنه وجدت مصطبة في آخر قباب الصدف، وكانت قباب الصدف أربعمائة قبة فيما يقال، عليها مكتوب الإمام الفقيه الزاهد العالم الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصريّ مفتى أهل مصر، كما ذكر في كتاب هادي الراغبين في زيارة قبور الصالحين، لأبي محمد عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الكريم بن عليّ بن محمد بن عليّ بن طلحة، وفي كتاب مرشد الزوّار للموفق ابن عثمان. وذكر الشيخ محمد الأزهريّ في كتابه في الزيارة: أن أوّل من بنى عليه وحيز كبير التجار أبو زيد المصريّ، بعد

ذكر المقابر خارج باب النصر

سنة أربعين وستمائة، ولم يزل البناء يتزايد إلى أن جدّد الحاج سيف الدين المقدّم عليه قبته في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون، قبيل سنة ثمانين وسبعمائة، ثم جدّدت في أيام الناصر فرج بن الظاهر برقوق، على يد الشيخ أبي الخير محمد ابن الشيخ سليمان المادح، في محرّم سنة إحدى عشرة وثمانمائة. ثم جدّدت في سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة على يد امرأة قدمت من دمشق في أيام المؤيد شيخ، عرفت بمرحبا بنت إبراهيم بن عبد الرحمن، أخت عبد الباسط. وكان لها معروف وبرّ، توفيت في تاسع عشري ذي القعدة سنة أربعين وثمانمائة، ويجتمع بهذ القبة في لية كلّ سبت جماعة من القرّاء، فيتلون القرآن الكريم تلاوة حسنة حتى يختسموا ختمة كاملة عند السحر، ويقصد المبيت عندهم للتبرّك بقراءة القرآن عدّة من الناس، ثم تفاحش الجمع، وأقبل النساء والأحداث والغوغاء، فصار أمرا منكرا، لا ينصتون لقراءة ولا يتعظون بمواعظ، بل يحدث منهم على القبور ما لا يجوز. ثم زادوا في التعدّي حتى حفروا ما هنالك خارج القبة من القبور، وبنوا مباني اتخذوها مراحيض وسقايات ماء، ويزعم من لا علم عنده أن هذه القراءة في كل ليلة سبت عند قبر الليث بزعمهم قديمة من عهد الإمام الشافعيّ، وليس ذلك بصحيح، وإنما حدثت بعد السبعمائة من سني الهجرة، بمنام ذكر بعضهم أنه رآه، وكانوا إذ ذاك يجتمعون للقراءة عند قبر أبي بكر الأدفويّ. ذكر المقابر خارج باب النصر اعلم أن المقابر التي هي الآن خارج باب النصر، إنما حدثت بعد سنة ثمانين وأربعمائة، وأوّل تربة بنيت هناك تربة أمير الجيوش بدر الجماليّ لما مات ودفن فيها، وكان خطها يعرف برأس الطابية، قال الشريف أمين الدولة أبو جعفر محمد بن هبة الله العلويّ الأفطسيّ، وقد مرّ بتربة الأفضل: أجرى دما أجفانيه ... جدث برأس الطابيه صدع الزمان صفاتيه ... ............ «1» بال وما بليت أيا ... ديه عليّ الباقيه ويخارج باب النصر في أوائل المقابر قبر زينب بنت أحمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر ابن الحنفية، يزار وتسميه العامّة مشهد الست زينب، ثم تتابع دفن الناس موتاهم في الجهة التي هي اليوم من بحري مصلّى الأموات إلى نحو الريدانية، وكان ما في شرقيّ هذه المقبرة إلى الجبل براحا واسعا يعرف بميدان القبق، وميدان العيد، والميدان الأسود، وهو ما بين قلعة الجبل إلى قبة النصر تحت الجبل الأحمر. فلما كان بعد سنة عشرين وسبعمائة،

ترك الملك الناصر محمد بن قلاون النزول إلى هذا الميدان وهجره، فأوّل من ابتدأ فيه بالعمارة الأمير شمس الدين قراسنقر، فاختط تربته التي تجاور اليوم تربة الصوفية، وبنى حوض ماء للسبيل، وجعل فوقه مسجدا، وهذا الحوض بجوار باب تربة الصوفية، أدركته عامرا هو وما فوقه، وقد تهدّم وبقيت منه بقية. ثم عمر بعده نظام الدين آدم أخو الأمير سيف الدين سلار، تجاه تربة قراسنقر مدفنا وحوض ماء للسبيل ومسجدا معلقا، وتتابع الأمراء والأجناد وسكان الحسينية في عمارة الترب هناك، حتى انسدّت طريق الميدان، وعمروا الجوّانية أيضا، وأخذ صوفية الخانقاه الصلاحية لسعيد السعداء قطعة قدر فدّانين، وأداروا عليها سورا من حجر، وجعلوها مقبرة لمن يموت منهم، وهي باقية إلى يومنا هذا، وقد وسعوا فيها بعد سنة تسعين وسبعمائة بقطعة من تربة قراسنقر، وما برح الناس يقصدون تربة الصوفية هذه لزيارة من فيها من الأموات، ويرغبون في الدفن بها، إلى أن تولى مشيخة الخانقاه الشيخ شمس الدين محمد البلاليّ، فسمح لكلّ أحد أن يقبر ميته بها على مال يأخذه منه، فقبر بها كثير من أعوان الظلمة، ومن لم يشكر طريقته، فصارت مجمع نسوان، ومجلس لعب. وعمر أيضا بجوار تربة الصوفية الأمير مسعود بن خطير تربة، وعمل لها منارة من حجارة لا نظير لها في هيئتها، وهي باقية. وعمر أيضا مجد الدين السلاميّ تربة، وعمر الأمير سيف الدين كوكاي تربة، وعمر الأمير طاجاي الدوادار على رأس القبق مقابل قبة النصر تربة، وعمر الأمير سيف الدين طشتمر الساقي على الطريق تربة، وبنى الأمراء إلى جانبه عدّة ترب، وبنى الطواشي محسن البهاء تربة عظيمة، وبنت خوند طغاي تربة تجاه تربة طشتمر الساقي، وجعلت لها وقفا. وبنى الأمير طغاي تمر النجميّ الدوادار تربة، وجعلها خانقاه، وأنشأ بجوارها حمّاما وحوانيت، وأسكنها للصوفية والقرّاء، وبنى الأمير منكلي بغا الفخريّ تربة، والأمير طشتمر طلليه تربة، والأمير أرنان تربة، وبنى كثير من الأمراء وغيرهم الترب، حتى اتصلت العمارة من ميدان القبق إلى تربة الروضة خارج باب البرقية. وما مات الملك الناصر حتى بطل من الميدان السباق بالخيل، ومنعت طريقه من كثرة العمائر، وأدركت بعد سنة ثمانين وسبعمائة عدّة عواميد من رخام منصوبة يقال لها عواميد السباق، فيما بين قبة النصر وقريب من القلعة. وأوّل من عمر في البراح الذي كان فيه عواميد السباق، الأمير يونس الدوادار، في أيام الملك الظاهر، تربته الموجودة هناك. ثم عمر الأمير فجماس ابن عمّ الملك الظاهر برقوق تربة بجانب تربة يونس، وأحيط على قطعة كبيرة حائط، وقبر فيها من مات من مماليك السلطان، وقبر فيها الشيخ علاء الدين السيراميّ شيخ الخانقاه. الظاهرية، والشيخ المعتقد طلحة، والشيخ المعتقد أبو بكر البجائي. فلما مرض الملك الظاهر برقوف أوصى أن يدفن تحت أرجل هؤلاء الفقراء. وأن يبنى على قبره تربة، فدفن حيث أوصى، وأخذت قطعة

ذكر كنائس اليهود

مساحتها عشرة آلاف ذراع وجعلت خانقاه، وجعل فيها قبة على قبر السلطان وقبور الفقراء المذكورين، وتجدّد من حينئذ هناك عدّة ترب جليلة، حتى صار الميدان شوارع وأزقة، ونقل الملك الناصر فرج بن برقوق سوق الجمال وسوق الحمير من تحت القلعة إلى تجاه التربة التي عمرها على قبر أبيه، فاستمرّ ذلك أياما في سنة أربع عشرة وثمانمائة، ثم أعيدت الأسواق إلى مكانها، وكان قصده أن يبني هناك خانا كبيرا ينزل فيه المسافرون، ويجعل بجانبه سوقا، وبنى طاحونا وحمّاما وفرنا لتعمر تلك الجهة بالناس، فمات قبل بناء الخان، وخلت الحمّام والطاحون والفرن بعد قتله. ذكر كنائس اليهود قال الله عز وجل: لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً [الحج/ 40] قال المفسرون: الصوامع للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات كنائس اليهود، والمساجد للمسلمين. قاله ابن قتيبة: والكنيس كلمة عبرانية معناها بالعربية الموضع الذي يجتمع فيه للصلاة، ولهم بديار مصر عدة كنائس، منها كنيسة دموة بالجيزة، وكنيسة جوجر من القرى الغربية، وبمصر الفسطاط كنيسة بخط المصاصة في درب الكرمة، وكنيستان بخط قصر الشمع، وبالقاهرة كنيسة بالجودرية، وفي حارة زويلة خمس كنائس. كنيسة دموه: هذه الكنيسة أعظم مبعد لليهود بأرض مصر، فإنهم لا يختلفون في أنها الموضع الذي كان يأوى إليه موسى بن عمران صلوات الله عليه، حين كان يبلغ رسالات الله عز وجلّ إلى فرعون مدّة مقامة بمصر، منذ قدم من مدين إلى أن خرج ببني إسرائيل من مصر. ويزعم يهود أنها بنيت هذا البناء الموجود بعد خراب بيت المقدس الخراب الثاني على يد طيطش ببعض وأربعين سنة، وذلك قبل ظهور الملة الإسلامية بما ينيف على خمسمائة سنة، وبهذه الكنيسة شجرة زيزلخت في غاية الكبر لا يشكون في أنها من زمن موسى عليه السلام، ويقولون أنّ موسى عليه السلام غرس عصاه في موضعها فأنبت الله هناك هذه الشجرة، وأنها لم تزل ذات أغصان نضرة، وساق صاعد في السماء، مع حسن استواء، وثخن في استقامة، إلى أن أنشأ الملك الأشرف شعبان بن حسين مدرسته تحت القلعة، فذكر له حسن هذه الشجرة، فتقدّم بقطعها لينتفع بها في العمارة، فمضوا إلى ما أمروا به من ذلك، فأصبحت وقد تكوّرت وتعقفت وصارت شنيعة المنظر فتركوها، واستمرّت كذلك مدّة، فاتفق أن زني يهودي بيهودية تحتها، فتهدّلت أغصانها وتحاتّ ورقها وجفت حتى لم يبق بها ورقة خضراء، وهي باقية كذلك إلى يومنا هذا ولهذه الكنيسة عيد يرحل اليهود

بأهاليهم إليها في عيد الخطاب، وهو في شهر سيوان، ويجعلون ذلك بدل حجهم إلى القدس، وقد كان لموسى عليه السلام أنباء قد قصها الله تعالى في القرآن الكريم وفي التوراة، وروى أهل الكتاب وعلماء الأخبار من المسلمين كثيرا منها، وسأقص عليك في هذا الموضع منها ما فيه كفاية، إذ كان ذلك من شرط هذا الكتاب. موسى بن عمران: وفي التوراة عمرام بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهم، أمّه يوحانذ بنت لاوي، فهي عمة عمران والد موسى، ولد بمصر في اليوم السابع من شهر آذار سنة ثلاثين ومائة لدخول يعقوب على يوسف عليهما السلام بمصر، وكان بنو إسرائيل منذ مات لاوي بن يعقوب في سنة أربع وتسعين لدخول يعقوب مصر في البلاء مع القبط، وذلك أن يوسف عليه السلام لما مات في سنة ثمانين من قدوم يعقوب مصر، كان الملك إذ ذاك بمصر دارم بن الريان، وهو الفرعون الرابع عندهم، وتسميه القبط دريموس، فاستوزر بعده رجلا من الكهنة يقال له بلاطس، فحمله على أذى الناس وخالف ما كان عليه يوسف، وساءت سيرة الملك حتى اغتصب كلّ امرأة جميلة بمدينة منف وغيرها من النواحي، فشق ذلك من فعله على الناس وهمّوا بخلعه من الملك، فقام الوزير بلاطس في الوساطة بينه وبين الناس وأسقط عنهم الخراج لثلاث سنين، وفرّق فيهم مالا حتى سكنوا، واتفق أن رجلا من الإسرائيليين ضرب بعض سدنة الهياكل فأدماه، وعاب دين الكهنة، فغضب القبط وسألوا الوزير أن يخرج بني إسرائيل من مصر، فأبى. وكان دارم الملك قد خرج إلى الصعيد، فبعث إليه يخبره بأمر الإسرائيليّ وما كان من القبط في طلبهم إخراج بني إسرائيل من مصر، فأرسل إليه أن لا يحدث في القوم حدثا دون موافاته، فشغب القبط وأجمعوا على خلع الملك وإقامة غيره، فسار إليهم الملك وكانت بينه وبينهم حروب قتل فيها خلق كثير، ظفر فيها الملك وصلب ممن خالفه بحافتي النيل طوائف لا تحصى، وعاد إلى أكثر مما كان عليه من ابتزاز النساء وأخذ الأموال واستخدام الأشراف الوجوه من القبط ومن بني إسرائيل، فأجمع الكلّ على ذمّه. واتفق أنه ركب في النيل فهاجت به الريح وأغرقه الله ومن معه، ولم توجد جثته إلّا عند شطنوف. فأقام الوزير من بعده في الملك ابنه معاديوش، وكان صبيا، ويسميه بعضهم معدان، فاستقام الأمر له وردّ النساء اللاتي اغتصبهنّ أبوه، وهو خامس الفراعنة، فكثر بنو إسرائيل في زمنه ولهجوا بثلب الأصنام وذمّها، وهلك بلاطس الوزير وقام من بعده في الوزارة كاهن يقال له أملاده، فأمر بإفراد بني إسرائيل ناحية في البلد، بحيث لا يختلط بهم غيرهم، فأقطعوا موضعا في قلبيّ مدينة منف، صاروا إليه وبنوا فيه معبدا كانوا يتلون به صحف إبراهيم عليه السلام، فخطب رجل من القبط بعض نسائهم فأبوا أن ينكحوه، وقد كان هويها. فأكبر القبط فعلهم وصاروا إلى الوزير وشكوا من بني إسرائيل وقالوا: هؤلاء قوم

يعيبوننا ويرغبون عن مناكحتنا، ولا نحب أن يجاورونا ما لم يدينوا بديننا. فقال لهم الوزير: قد علمتم إكرام طوطيس الملك لجدّهم ونهر اوش من بعده، وقد علمتم بركة يوسف حتى جعلتم قبره وسط النيل فأخصب جانبا مصر بمكانه، وأمرهم بالكف عن بني إسرائيل، فأمسكوا إلى أن احتجب معدان وقام من بعده في الملك ابنه اكسامس الذي يسميه بعضهم كاسم ابن معدان بن الريان بن الوليد بن دومع العمليقيّ، وهو السادس من فراعنة مصر، وكان أوّلهم يقال له فرعان، فصار اسما لكلّ من تجبر وعلا أمره، وطالت أيام كاسم ومات وزير أبيه، فأقام من بعده رجلا من بيت المملكة يقال له ظلما بن قومس، وكان شجاعا ساحرا كاهنا كاتبا حكيما دهيا متصرّفا في كل فنّ، وكانت نفسه تنازعه الملك، ويقال أنه من ولد أشمون الملك، وقيل من ولد صا. فأحبه الناس، وعمر الخراب وبني مدنا من الجانبين، ورأى في نجومه أنّه سيكون حدث وشدّة، وسكا القبط إليه من الإسرائيليين فقال: هم عبيدكم. فكان القبطيّ إذا أراد حاجة سخّر الإسرائيليّ وضربه فلا يغير عليه أحد ولا ينكر عليه ذلك. فإن ضرب الإسرائيليّ أحدا من القبط قتل البتة، وكذلك كانت تفعل نساء القبط بالنساء الإسرائيليات، فكانت أوّل شدّة وذلّ أصاب بني إسرائيل وكثر ظلمهم وأذاهم من القبط، واستبدّ الوزير ظلما بأمر البلد كما كان العزيز مع نهراوش. وتوفي اكسامس الملك، فأنّهم ظلمان بأنه سمّه، تركب في سلاحه وأقام لاطس الملك مكان أبيه، وكان ابنه جريئا معجبا، فصرف ظلما بن قومس عما كان عليه من خلافته، واستخلف رجلا يقال له لاهوق من ولد صا، وأنفذ ظلما عاملا على الصعيد وسير معه جماعة من الإسرائيليين، وزاد تجبره وعتوّه، وأمر الناس جميعا أن يقوموا على أرجلهم في مجلسه، ومدّ يده إلى الأموال ومنع الناس من فضول ما بأيديهم، وقصرهم على القوت، وابتز كثيرا من النساء وفعل أكثر مما فعله ملك تقدّمه، واستعبد بني إسرائيل فأبغضه الخاص والعام، وكان ظلما لما صرف عن الوزارة وخرج إلى الصعيد، أراد إزالة الملك والخروج عن طاعته، فجبى المال وامتنع من حمله، وأخذ المعادن لنفسه وهمّ أن يقيم ملكا من ولد قبطرين ويدعو الناس إلى طاعته، ثم انصرف عن ذلك ودعا لنفسه، وكاتب الوجوه والأعيان، فافترق الناس وتطاول كل واحد من أبناء الملوك إلى الملك وطمع فيه، ويقال أنّ روحانيا ظهر لظلما وقال له: إن أطعتني قلدتك مصر زمانا طويلا، فأجابه وقرّب إليه أشياء منها غلام من بني إسرائيل، فصار عونا له، وبلغ الملك خبر خروج ظلما عن طاعته، فوجّه إليه قائدا قلده مكانه وأمره أن يقبض على ظلما. ويبعث به إليه موثقا، فسار إليه وخرج ظلما للقائه وحاربه فظفر به واستولى على ما معه، فجهز إليه الملك قائدا آخر فهزمه وسار في إثره وقد كثف جمعه، فبرز إليه الملك واحتربا، فكانت لظلما على الملك، فقتله واستولى على مدينة منف ونزل قصر المملكة.

وهذا هو فرعون موسى عليه السلام، وبعضهم يسميه الوليد بن مصعب، وقيل هو من العمالقة وهو سابع الفراعنة. ويقال أنه كان قصيرا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى، في جبينه شامة، وكان أعرج، وقيل أنه كان يكنّى بأبي مرّة، وأن اسمه الوليد بن مصعب، وأنه أوّل من خضب بالسواد لما شاب، دله عليه إبليس. وقيل أنه كان من القبط، وقيل أنه دخل منف على أتان يحمل النطرون ليبيعه، وكان الناس قد اضطربوا في تولية الملك، فحكّموه ورضوا بتولية من يوليه عليهم، وذلك أنهم خرجوا إلى ظاهر مدينة منف ينتظرون أوّل من يظهر عليهم ليحكّموه، فكان هو أوّل من أقبل بحماره، فلما حكّموه ورضوا بحكمه أقام نفسه ملكا عليهم، وانكر قوم هذا وقالوا: كان القوم أدهى من أن يقلدوا ملكهم من هذه سبيله فلمّا جلس في الملك اختلف الناس عليه فبذل لهم الأموال، وقتل من خالفه بمن أطاعه حتى اعتدل أمره، ورتب المراتب وشيد الأعمال وبنى المدن وخندق الخنادق وبنى بناحية العريش حصنا، وكذلك على جميع حدود مصر، واستخلف هامان، وكان يقرب منه في نسبه، وأثار الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات، وحفر خليج سردوس وغيره، وبلغ الخراج بمصر في زمنه سبعة وتسعين ألف ألف دينار بالدينار الفرعونيّ، وهو ثلاثة مثاقيل. وفرعون هو أوّل من عرّف العرفاء على الناس، وكان ممن صحبه من بني إسرائيل رجل يقال له أمري، وهو الذي يقال له بالعبرانية عمرام، وبالعربية عمران بن قاهث بن لاوي، وكان قدم مصر مع يعقوب عليه السلام فجعله حرسا لقصره يتولى حفظه، وعنده مفاتيحه وأغلاقه بالليل، وكان فرعون قد رأى في كهانته ونجومه أنه يجري هلاكه على يد مولود من الإسرائيليين، فمنعهم من المناكحة ثلاث سنين التي رأى أن ذلك المولود يولد فيها، فأتت امرأة أمري إليه في بعض الليالي بشيء قد أصلحته له فواقعها، فاشتملت منه على هارون، وولدته لثلاث وسبعين من عمره، في سنة سبع وعشرين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، ثم أتته مرّة أخرى فحملت بموسى لثمانين سنة من عمره، ورأى فرعون في نجومه أنه قد حمل بذلك المولود، فأمر بذبح الذكران من بني إسرائيل، وتقدّم إلى القوابل بذلك، فولد موسى عليه السلام في سنة ثلاثين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، وفي سنة أربع وعشرين وأربعمائة لولادة إبراهيم الخليل عليه السلام، ولمضيّ ألف وخمسمائة وست سنين من الطوفان، وكان من أمره ما قصه الله سبحانه من قذف أمّه له في التابوت، فألقاه النيل إلى تحت قصر الملك، وقد أرصدت أمّه أخته على بعد لتنظر من يلتقطه، فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته وقالت: هذا من العبرانيين من لنا بظئر ترضعه؟ فقالت لها أخته أنا آتيك بها، وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن فصل، فأتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى وتبنته، ونشأ عندها، وقيل بل أخذته امرأة فرعون واسترضعت أمّه ومنعت فرعون من قتله إلى أن كبر وعظم شأنه فردّ إليه

فرعون كثيرا من أمره وجعله من قوّاده، وكانت له سطوة، ثم وجهه لغزو اليونانيين وقد عاثوا في أطراف مصر، فخرج في جيش كثيف وأوقع بهم فأظفره الله وقتل منهم كثيرا وأسر كثيرا وعاد غانما، فسرّ ذلك فرعون وأعجب به هو وامرأته، واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون، فأراد فرعون أن يستخلفه، حتى قتل رجلا من أشراف القبط له قرابة من فرعون فطلبه، وذلك أنه خرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع، فرأى عبرانيا يضرب، فقتل المصريّ الذي ضربه ودفنه، وخرج يوما آخر فإذا برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر، فزجره. فقال له: ومن جعل لك هذا، أتريد أن تقتلني كما قتلت المصريّ بالأمس، ونما الخبر إلى فرعون فطلبه، وألقى الله في نفسه الخوف لما يريد من كرامته، فخرج من منف ولحق بمدين عند عقبة أيلة، وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام، كانوا ساكنين هناك، وكان فراره وله من العمر أربعون سنة، فنزل عند بيرون، وهو شعيب عليه السلام من ولد مدين بن إبراهيم، وكان من تزويجه ابنته ورعايته غنمه ما كان، فأقام هنالك تسعا وثلاثين سنة نكح فيها صفوراء ابنة شعيب، وبنوا إسرائيل مع فرعون وأهل مصر كما قال تعالى: «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ ويستعبدونهم» «1» . فلما مضى من سنة الثمانين لموسى شهر وأسبوع، كلمه الله جلّ اسمه، وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من شهر نيسان، وأمره أن يذهب إلى فرعون، وشدّ عضده بأخيه هارون وأيده بآيات منها قلب العصا حية وبياض يده من غير سوء وغير ذلك من الآيات العشر التي أحلها الله بفرعون وقومه، وكان مجيء الوحي من الله تعالى إليه وهو ابن ثمانين سنة، ثم قدم مصر في شهر أيار ولقي أخاه هارون، فسرّ به وأطعمه جلبانا فيه ثريد، وتنبأ هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وغدا به إلى فرعون وقد أوحي إليهما أن يأتيا إلى فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذ أنهم من هلكة القبط وجور الفراعنة، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأبلغا ذلك بني إسرائيل عن الله، فأمنوا بموسى واتبعوه، ثح حضرا إلى فرعون فأقاما ببابه أياما وعلى كل منهما جبة صوف، ومع موسى عصاه، وهما لا يصلان إلى فرعون لشدّة حجابه، حتى دخل عليه مضحك كان يلهو به فعرّفه أن بالباب رجلين يطلبان الاذن عليك، بزعمان أن إلههما قد أرسلهما إليك، فأمر بإدخالهما. فلما دخلا عليه خاطبه موسى بما قصه الله في كتابه، وأراه آية العصا وآيته في بياض اليد، فغاظ فرعون ما قاله موسى وهمّ بقتله، فمنعه الله سبحانه بأن رأى صورة قد أقبلت ومسحت على أعينهم فعموا، ثم أنه لما فتح عن عينيه أمر قوما آخرين بقتل موسى فأتتهم نار أحرقتهم، فازداد غيظه وقال لموسى: من أين ذلك هذه النواميس

العظام؟ اسحرة بلدي علموك هذا أم تعلمته بعد خروجك من عندنا؟ فقال: هذا ناموس السماء وليس من نواميس الأرض. قال فرعون: ومن صاحبه؟ قال: صاحب البنية العليا. قال: بل تعلمتها من بلدي، وأمر بجمع السحرة والكهنة وأصحاب النواميس وقال: اعرضوا عليّ أرفع أعمالكم فإني أرى نواميس هذا الساحر رفيعة جدّا. فعرضوا عليه أعمالهم فسرّه ذلك، وأحضر موسى وقال له: لقد وقفت على سحرك وعندي من يفوق عليك. فواعدهم يوم الزينة، وكان جماعة من البلد قد اتبعوا موسى فقتلهم فرعون، ثم إنه جمع بين موسى وبين سحرته، وكانوا مائتي ألف وأربعين ألفا يعملون من الأعمال ما يحير العقول ويأخذ القلوب، من دخن ملوّنات ترى الوجوه مقلوبة مشوّهة، منها الطويل والعريض والمقلوب جبهته إلى أسفل. ولحيته إلى فوق، ومنها ما له قرون ومنها ما له خرطوم وأنياب ظاهرة كأنياب الفيلة، ومنها ما هو عظيم في قدر الترس الكبير، ومنها ما له آذان عظام وشبه وجوه القرود بأجساد عظيمة تبلغ السحاب وأجنحة مركبة على حيات عظيمة تطير في الهواء، ويرجع بعضها على بعض فيبتلعه، وحيات يخرج من أفواهها نار تنتشر في الناس، وحيات تطير وترجع في الهواء وتنحدر على كلّ من حضر لتبتلعه. فيتهارب الناس منها، وعصى تحلق في الهواء فتصير حيات برؤس وشعور وأذناب تهمّ بالناس أن تنهشهم، ومنها ما له قوائم، ومنها تماثيل مهولة، وعملوا له دخنا تغشي أبصار الناس عن النظر فلا يرى بعضهم بعضا، ودخنا تطهر صورا كهيئة النيران في الجوّ على دواب يصدم بعضها بعضا ويسمع لها ضجيج، وصورا خضرا على دواب خضر، وصورا سودا على دواب سود هائلة. فلما رأى فرعون ذلك سرّه ما رأى هو ومن حضره واغتم موسى ومن آمن به، حتى أوحى الله إليه لا تخف إنك أنت الأعلى، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا. وكان للحسرة ثلاثة رؤساء، ويقال بل كانوا سبعين رئيسا، فأسرّ إليهم موسى: قد رأيت ما صنعتم، فإن قهرتكم أتؤمنون بالله؟ فقالوا نفعل. فغاظ فرعون مسارّة موسى لرؤساء السحرة، هذا والناس يسخرون من موسى وأخيه ويهزؤون بهما، وعليهما دراعتان من صوف وقد احتز ما بليف، فلوّح موسى بعصاه حتى غابت عن الأعين وأقبلت في هيئة تنين عظيم له عينان يتوقدان، والنار تخرج من فيه ومنخريه، فلا يقع على أحد إلّا برص، ووقع من ذلك على ابنة فرعون فبرصت، وصار التنين فاغرا فاه فالتقط جميع ما عملته السحرة، ومائتي مركب كانت مملوءة حبالا وعصيا وسائر من فيها من الملاحين، وكانت في النهر الذي يتصل بدار فرعون، وابتلع عمدا كثيرة وحجارة قد كانت حملت إلى هناك ليبنى بها، ومرّ التنين إلى قصر فرعون ليبتلعه، وكان فرعون جالسا في قبة على جانب القصر ليشرف على عمل السحرة، فوضع نابه تحت القصر ورفع نابه الآخر إلى أعلاه، ولهب النار يخرج من فيه حتى أحرق مواضع

من القصر، فصاح فرعون مستغيثا بموسى عليه السلام، فزجر موسى التنين فانعطف ليبتلع الناس، ففرّوا كلهم من بين يديه، وانساب يريدهم. فأمسكه موسى وعاد في يده عصا كما كان، ولم ير الناس من تلك المراكب وما كان فيها من الحبال والعصيّ والناس، ولا من العمد والحجارة وما شربه من ماء النهر حتى بانت أضه أثرا. فعند ذلك قالت السحرة: ما هذه من عمل الآدميين، وإنّما هو من فعل جبار قدير على الأشياء. فقال لهم موسى: أوفوا بعهدكم وإلّا سلطته عليكم يبتلعكم كما ابتلع غيركم، فآمنوا بموسى وجاهروا فرعون وقالوا: هذا من فعل إله السماء وليس هذا من فعل أهل الأرض. فقال: قد عرفت أنكم قد واطأتموه عليّ وعلى ملكي حسدا منكم لي، وأمر فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبوا، وجاهرته امرأته والمؤمن الذي كان يكتم إيمانه، وانصرف موسى فأقام بمصر يدعو فرعون أحد عشر شهرا، من شهر أيار إلى شهر نيسان المستقبل وفرعون لا يجيبه، بل اشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشر، واحدة بعد أخرى، وهو يثبت لهم عند وقوعها ويفزع إلى موسى في الدعاء بانجلائها، ثم يلح عند انكشافها، فإنها كانت عذابا من الله عز وجلّ، عذّب الله بها فرعون وقومه. فمنها أنّ ماء مصر صار دما حتى هلك أكثر أهل مصر عطشا، وكثرت عليهم الضفادع حتى وسخت جميع مواضعهم وقذرت عليهم عيشهم وجميع مآكلهم، وكثر البعوض حتى حبس الهواء ومنع النسيم، وكثر عليهم ذباب الكلاب حتى جرّح أبدانهم ونغص عليهم حياتهم، وماتت دوابهم وأغنامهم فجأة، وعمّ الناس الجرب والجدريّ حتى زاد منظرهم قبحا على مناظر الجذميّ، ونزل من السماء برد مخلوط بصواعق أهلك كل ما أدركه من الناس والحيوانات. وذهب بجميع الثمار، وكثر الجراد والجنادب التي أكلت الأشجار واستقصت أصول النبات، وأظلمت الدنيا ظلمة سوداء غليظة حتى كانت من غلظها تحسّ بالأجسام، وبعد ذلك كله نزل الموت فجأة على بكور أولادهم بحيث لم يبق لأحد منهم ولد بكر إلّا فجع به في تلك الليلة، ليكون لهم في ذلك شغل عن بني إسرائيل، وكانت الليلة الخامسة عشر من شهر نيسان سنة إحدى وثمانين لموسى، فعند ذلك سارع فرعون إلى ترك بني إسرائيل، فخرج موسى عليه السلام من ليلته هذه ومعه بنو إسرائيل من عين شمس، وفي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم إن كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر، وأن ينضحوا من دمه على أبوابهم ليكون علامة، وأن يأكلوا شواه رأسه وأطرافه ومعاه ولا يكسروا منه عظما، ولا يدعوا منه شيئا خارج البيوت، وليكن خبزهم فطيرا. وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع، وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم، ويخرجوا ليلا. وما فضل من عشائهم ذلك أحرقوه بالنار، وشرّع هذا عيدا لهم ولأعقابهم، ويسمى هذا عيد الفصح،

وفيها أنهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام، وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، استخرجه موسى من المدفن الذي كان فيه بإلهام من الله تعالى، وكانت عدّتهم ستمائة ألف رجل محارب سوى النساء والصبيان والغرباء، وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم، فساروا ثلاث مراحل ليلا ونهارا حتى وافوا إلى فوهة الجبروت، وتسمى نار موسى، وهو ساحل البحر بجانب الطور، فانتهى خبرهم إلى فرعون في يومين وليلة، فندم بعد خروجهم وجمع قومه وخرج في كثرة كفاك عن مقدارها قول الله عز وجل أخبارا عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل وعدّتهم ما قد ذكر على ما جاء في التوراة، أن هؤلاء لشرذمة قليلون، وأنهم لنا لغائطون، ولحق بهم في اليوم الحادي والعشرين من نيسان، فأقام العسكران ليلة الواحد والعشرين على شاطىء البحر، وفي صبيحة ذلك اليوم أمر موسى أن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه، ففلق الله لبني إسرائيل البحر اثني عشر طريقا، عبر كلّ سبط من طريق، وصارت المياه قائمة عن جانبهم كأمثال الجبال، وصيرقاع البحر طريقا مسلوكا لموسى ومن معه، وتبعهم فرعون وجنوده، فلما خاض بنو إسرائيل إلى عدوة الطور انطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقهم الله جميعا ونجا موسى وقومه، ونزل بنو إسرائيل جميعا في الطور وسجوا مع موسى بتسبيح طويل قد ذكر في التوراة، وكانت مريم أخت موسى وهارون تأخذ الدف بيديها، ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول، وهي ترتل التسبيح لهنّ. ثم ساروا في البرّ ثلاثة أيام، وأقفرت مصر من أهلها، ومرّ موسى بقومه ففني زادهم في اليوم الخامس من أيار فضجوا إلى موسى، فدعا ربه فنزل لهم المنّ من السماء، فلما كان اليوم الثالث والعشرون من أيار عطشوا وضجوا إلى موسى، فدعا ربه ففجر له عينا من الصخرة، ولم يزل يسير بهم حتى وافوا طور سينين غرّة الشهر الثالث لخروجهم من مصر، فأمر الله موسى بتطهير قومه واستعدادهم لسماع كلام الله سبحانه، فطهرهم ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الثالث وهو السادس من الشهر، رفع الله الطور وأسكنه نوره وظلل حواليه بالغمام وأظهر في الآفاق الرعود والبروق والصواعق، وأسمع القوم من كلامه عشر كلمات وهي: أنا الله ربكم واحد لا يكم لكم معبود من دوني، لا تحلف باسم ربك كاذبا، اذكر يوم السبت واحفظه، برّ والديك وأكرمهما، لا تقتل النفس، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بشهادة زور، لا تحسد أخاك فيما رزقه. فصاح القوم وارتعدوا وقالوا لموسى: لا طاقة لنا باستماع هذا الصوت العظيم، كن السفير بيننا وبين ربنا، وجميع ما يأمرنا به سمعنا وأطعنا، فأمرهم بالإنصراف وصعد موسى إلى الجبل في اليوم الثاني عشر، فأقام فيه أربعين يوما، ودفع الله إليه اللوحين الجوهر المكتوب عليهما العشر كلمات ونزل في اليوم الثاني والعشرين من شهر تموز، فرأى العجل، فارتفع الكتاب وثقلا على يديه فألقاهما وكسرهما، ثم برد العجل

وذرّاه على الماء وقتل من القوم من استحق القتل، وصعد إلى الجبل في اليوم الثالث والعشرين من تموز ليشفع في الباقين من القوم، ونزل في اليوم الثاني من أيلول بعد الوعد من الله له بتعويضه لوحين آخرين مكتوبا عليهما ما كان في اللوحين الأوّلين، فصعد إلى الجبل وأقام أربعين ليلة أخرى، وذلك من ثالث أيلول إلى اليوم الثاني عشر من تشرين، ثم أمره الله بإطلاح القبة وكان طولها ثلاثين ذراعا في عرض عشرة أذرع وارتفاع عشرة أذرع، ولها سرادق مضروب حواليها مائة ذراع في خمسين ذراعا وارتفاع خمسة أذرع. فأخذ القوم في إصلاحها وما تزين به من الستور من الذهب والفضة والجواهر ستة أشهر الشتاء كله، ولما فرغ منها نصبت في اليوم الأوّل من نيسان في أوّل السنة الثانية، ويقال أنّ موسى عليه السلام حارب هنالك العرب، مثل طسم وجديس والعماليق وجرهم وأهل مدين حتى أفناهم جميعا، وأنه وصل إلى جبل فاران، وهو مكة، فلم ينج منهم إلّا من اعتصم بملك اليمن أو انتمى إلى بنى إسماعيل عليه السلام، وفي ثلثي الشهر الباقي من هذه السنة ظعن القوم في برّية الطور بعد أن نزلت عليهم التوراة، وجملة شرائعها ستمائة وثلاث عشرة شريعة، وفي آخر الشهر الثالث حرّمت عليهم أرض الشام أن يدخلوها، وحكم الله تعالى عليهم أن يتيهوا في البرّية أربعين سنة، لقولهم نخاف أهلها لأنهم جبارون، فأقاموا تسع عشرة سنة في رقيم، وتسع عشرة سنة في أحد، وأربعين موضعا مشروحة في التوراة، وفي اليوم السابع من شهر أيلول من السنة الثانية خسف الله بقارون وبأوليائه بدعاء موسى عليه السلام عليهم لما كذبوا، وفي شهر نيسان من السنة الأربعين توفيت مريم ابنة عمران أخت موسى عليه السلام، ولها مائة وست وعشرون سنة. وفي شهر آب منها مات هارون عليه السلام وله مائة وثلاث وعشرون سنة، ثم كان حرب الكنعانيين وسيحون والعوج صاحب البثنية من أرض حوران. في الشهور التي بعد ذلك إلى شهر شباط، فلما أهلّ شباط أخذ موسى في إعادة التوراة على القوم، وأمرهم بكتب نسختها وقراءتها وحفظ ما شاهدوه من آثاره وما أخذوه عنه من الفقه، وكان نهاية ذلك في اليوم السادس من آذار، وقال لهم في اليوم السابع منه: إني في يومي هذا استوفيت عشرين ومائة سنة، وإنّ الله قد عرّفني أنه يقبضني فيه، وقد أمرني أن أستخلف عليكم يوشع بن نون ومعه السبعون رجلا الذين اخترتهم قبل هذا الوقت، ومعهم العازر بن هارون أخي فاسمعوا له وأطيعوا، وأنا أشهد عليكم الله الذي لا إله إلّا هو، والأرض والسماوات، أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ولا تبدّلوا شرائع التوراة بغيرها، ثم فارقهم وصعد الجبل فقبضه الله تعالى هناك وأخفاه، ولم يعلم أحد منهم قبره ولا شاهده، وكان بين وفاة موسى وبين الطوفان ألف وستمائة وست وعشرون سنة، وذلك في أيام منوجهر ملك الفرس، وزعم قوم أن موسى كان ألثغ، فمنهم من جعل ذلك خلقة، ومنهم من زعم

أنه إنما اعتراه حين قالت امرأة فرعون لفرعون لا تقتل طفلا لا يعرف الجمر من التمر. فلما دعا له فرعون بهما جميعا تناول جمرة فأهوى بها إلى فيه، فاعتراه من ذلك ما اعتراه، وذكر محمد بن عمر الواقديّ: أن لسان موسى كانت عليه شامة فيها شعرات، ولا يدل القرآن على شيء من ذلك، فليس في قوله تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي [طه/ 27] دليل على شيء من ذلك دون شيء، فأقاموا بعده ثلاثين يوما يبكون عليه إلى أن أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون بترحيلهم، فقادهم وعبر بهم الأردن في اليوم العاشر من نيسان، فوافوا أريحا، فكان منهم ما هو مذكور في مواضعه، فهذه جملة خبر موسى عليه السلام. كنيسة جوجر: هذه الكنيسة من أجلّ كنائس اليهود، ويزعمون أنها تنسب لنبيّ الله إلياس عليه السلام، وأنه ولد بها وكان يتعاهدها في طول إقامته بالأرض إلى أن رفعه الله إليه الياس: هو فينحاس بن العازر بن هارون عليه السلام، ويقال الياسين بن ياسين عيزار بن هارون، ويقال هو إلياهو، وهي عبرانية معناها قادر أزليّ، وعرّب فقيل إلياس، ويذكر أهل العلم من بني إسرائيل أنه ولد بمصر، وخرج به أبوه العازر من مصر مع موسى عليه السلام وعمره نحو الثلاث سنين، وأنه هو الخضر الذي وعده الله بالحياة، وأنه لما خرج بلعام بن باعورا ليدعو على موسى، صرف الله لسانه حتى يدعو على نفسه وقومه، وكان من زنا بني إسرائيل بنساء الأمورانيين وأهل مواب ما كان، فغضب الله تعالى عليهم وأوقع فيهم الوباء، فمات منهم أربعة وعشرون ألفا إلى أن هجم فينحاس هذا على خباء فيه رجل على امرأة يزني بها، فنظمهما جميعا برمحه وخرج وهو رافعهما وشهرهما غضبا لله، فرحمهم الله سبحانه ورفع عنهم الوباء، وكانت له أيضا آثار مع نبي الله يوشع بن نون، ولما مات يوشع قام من بعده فينحاس هذا هو وكالأب بن يوفنا، فصار فينحاس إماما وكالأب يحكم بينهم، وكانت الأحداث في بني إسرائيل، فساح إلياس ولبس المسوح ولزم القفار، وقد وعده الله عز وجل في التوراة بدوام السلامة، فأوّل ذلك بعضهم بأنه لا يموت، فامتدّ عمره إلى أن ملك يهوشا فاط بن أسا بن افيا بن رحبم بن سليمان بن داود عليهما السلام على سبط يهودا في بيت المقدس، وملك أحؤب بن عمري على الأسباط من بني إسرائيل بمدينة شمرون، المعروفة اليوم بنابلس، وساءت سيرة أحؤب حتى زادت في القبح على جميع من مضى قبله من ملوك بني إسرائيل، وكان أشدّهم كفرا وأكثرهم ركونا للمنكر، بحيث أربى في الشرّ على أبيه وعلى سائر من تقدّمه، وكانت له امرأة يقال لها سيصيال ابنة أشاعل ملك صيدا، أكفر منه بالله، وأشدّ عتوّا واستكبارا، فعبدا وثن بعل الذي قال الله فيه

جلّ ذكره أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم وربّ آبائكم الأوّلين، وأقاما له مذبحا بمدينة شمرون، فأرسل الله عز وجل إلى أحؤب عبده إلياس رسولا لينهاه عن عبادة وثن بعل، ويأمره بعبادة الله تعالى وحده، وذلك قول الله عز وجل من قائل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ [الصافات/ 123- 126] ولما أيس من أيمانهم بالله وتركهم عبادة الوثن، أقسم في مخاطبته أحؤب أن لا يكون مطر ولا ندا، ثم تركه. فأمره الله سبحانه أن يذهب ناحية الأردن، فمكث هناك مختفيا، وقد منع الله قطر السماء حتى هلكت البهائم وغيرها، فلم يزل إلياس مقيما في استتاره إلى أن جف ما كان عنده من الماء، وفي طول إقامته كان الله جلّ جلاله يبعث إليه بغربان تحمل له الخبز واللحم. فلما جف ماؤه الذي كان يشرب منه لامتناع المطر أمره الله أن يسير إلى بعض مدائن صيدا، فخرج حتى وافي باب المدينة، فإذا امرأة تحتطب، فسألها ماء يشربه وخبزا يأكله، فأقسمت له أن ما عندها إلّا مثل غرفة دقيق في إناء، وشيء من زيت في جرّة، وأنها تجمع الحطب لتقتات منه هي وابنها، فبشرها إلياس عليه السلام وقال لها لا تجزعي وافعلي ما قلت لك، واعملي لي خبزا قليلا قبل أن تعملي لنفسك ولولدك، فإن الدقيق لا يعجز من الإناء، ولا الزيت من الجرّة حتى ينزل المطر، ففعلت ما أمرها به وأقام عندها، فلم ينقص الدقيق ولا الزيت بعد ذلك إلى أن مات ولدها وجزعت عليه، فسأل إلياس ربه تعالى فأحيي الولد، وأمره الله أن يسير إلى أحؤب ملك بني إسرائيل لينزل المطر عند إخباره له بذلك، فسار إليه وقال له: أجمع بني إسرائيل وأبناء بعال. فلما اجتمعوا قال لهم إلياس: إلى متى هذا الضلال، إن كان الرب الله فاعبدوه، وإن كان بعال هو الله فارجعوا بنا إليه، وقال: ليقرّب كلّ منا قربانا، فأقرّب أنا لله، وقرّبوا أنتم لبعال، فمن تقبل منه قربانه ونزلت نار من السماء فأكلته فإلهه الذي يعبد فلما رضوا بذلك أحضروا ثورين واختاروا أحدهما وذبحوه، وصاروا ينادون عليه يال بعال يال بعال، وإلياس يسخر بهم ويقول: لو رفعتم أصواتكم قليلا فلعلّ إلهكم نائم أو مشغول، وهم يصرخون ويجرحون أيديهم بالسكاكين، ودماءهم تسيل. فلما أيسوا من أن تنزل النار وتأكل قربانهم، دعا إلياس القوم إلى نفسه، وأقام مذبحا وذبح ثوره وجعله على المذبح وصبّ الماء فوقه ثلاث مرّات، وجعل حول المذبح خندقا محفورا، فلم يزل يصب الماء فوق اللحم حتى امتلأ الخندق من الماء، وقام يدعو الله عزّ اسمه وقال في دعائه: اللهمّ أظهر لهذه الجماعة أنك الربّ، وأني عبدك عامل بأمرك. فأنزل الله سبحانه نارا من السماء أكلت القربان وحجارة المذبح التي كان فوقها اللحم وجميع الماء الذي صبّ حوله. فسجد القوم أجمعون وقالوا نشهد أن الربّ الله. فقال إلياس: خذوا أبناء

بعال، فأخذوا وجيء بهم فذبحهم كلهم ذبحا، وقال لأحؤب انزل وكل واشرب، فإن المطر نازل، فنزل المطر على ما قال، وكان الجهد قد اشتدّ لانقطاع المطر مدّة ثلاث سنين وأشهر، وغزر المطر حتى لم يستطع أحؤب أن ينصرف لكثرته. فغضبت سيصيال امرأة احؤب لقتل أبناء بعال وحلفت بآلهتها لتجعلنّ روح إلياس عوضهم، ففزع إلياس وخرج إلى المفاوز وقد اغتم غما شديدا، فأرسل الله إليه ملكا معه خبز ولحم وماء، فأكل وشرب وقوّاه الله حتى مكث بعد هذه الأكلة أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب، ثم جاءه الوحي بأن يمضي إلى دمشق، فسار إليها وصحب اليسع بن شابات، ويقال ابن حظور، فصار تلميذ، فخرج من أريحا ومعه اليسع حتى وقف على الأردن، فنزع رداءه ولفه وضرب به ماء الأردن فافترق الماء عن جانبيه، وصار طريقا. فقال إلياس حينئذ لليسع اسأل ما شئت قبل أن يحال بيني وبينك. فقال اليسع: أسأل أن يكون روحك فيّ مضاعفا. فقال: لقد سألت جسيما، ولكن إن أبصرتني إذا رفعت عنك يكون ما سألت، وإن لم تبصرني لم يكن. وبينما هما يتحدّثان إذ ظهر لهما كالنار، فرّق بينهما ورفع إلياس إلى السماء، واليسع ينظره. فانصرف وقام في النبوّة مقام إلياس، وكان رفع إلياس في زمن يهورام بن يهوشافاط، وبين وفاة موسى عليه السلام وبين آخر أيام يهورام خمسمائة وسبعون سنة، ومدّة نبوّة موسى عليه السلام أربعون سنة، فعلى هذا يكون مدّة عمر إلياس من حين ولد بمصر إلى أن رفع بالأردن إلى السماء ستمائة سنة. وبضع سنين، والذي عليه علماء أهل الكتاب وجماعة من علماء المسلمين، أنّ إلياس حيّ لم يمت، إلّا أنهم اختلفوا فيه، فقال بعضهم أنه هو فينحاس كما تقدّم ذكره، ومنع هذا جماعة وقالوا هما اثنان، والله أعلم. كنيسة المصاصة: هذه الكنيسة يجلّها اليهود، وهي بخط المصاصة من مدينة مصر، ويزعمون أنها رممت في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وموضعها يعرف بدرب الكرمة، وبنيت في سنة خمس عشرة وثلثمائة للإسكندر، وذلك قبل الملة الإسلامية بنحو ستمائة وإحدى وعشرين سنة، ويزعم اليهود أن هذه الكنيسة كانت مجلسا لنبيّ الله إلياس. كنيسة الشاميين: هذه الكنيسة بخط قصر الشمع من مدينة مصر، وهي قديمة مكتوب على بابها بالخط العبرانيّ حفرا في الخشب، أنها بنيت في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر، وذلك قبل خراب بيت المقدس الخراب الثاني الذي خرّبه طيطش بنحو خمس وأربعين سنة، وقبل الهجرة بنحو ستمائة سنة، وبهذه الكنيسة نسخة من التوراة لا يختلفون في أنها كلها بخط عزرا النبيّ الذي يقال له بالعربية العزيز. كنيسة العراقيين: هذه الكنيسة أيضا بخط قصر الشمع.

ذكر تاريخ اليهود وأعيادهم

كنيسة بالجودرية: هذه الكنيسة بحارة الجودرية من القاهرة، وهي خراب منذ أحرق الخليفة الحاكم بأمر الله حارة الجودرية على اليهود، كما تقدّم ذكر ذلك في الحارات فانظره. كنيسة القرّائين: هذه الكنيسة كان يسلك إليها من تجاه باب سرّ المارستان المنصوريّ في حدرة ينتهي إليها بحارة زويلة، وقد سدّت الخوخة التي كانت هناك، فصار لا يتوصل إليها إلّا من حارة زويلة، وهي كنيسة تختص بطائفة اليهود القرّائين. كنيسة دار الحدرة: هذه الكنيسة بحارة زويلة في درب يعرف الآن بدرب الرايض، وهي من كنائس ... «1» . كنيسة الربانيين: هذه الكنيسة بحارة زويلة بدرب يعرف الآن بدرب البنادين، يسلك منه إلى تجاه السبع قاعات، وإلى سويقة المسعوديّ وغيرها، وهي كنيسة تختص بالربانيين من اليهود. كنيسة ابن شميخ: هذه الكنيسة بجوار المدرسة العاشورية من حارة زويلة، وهي مما يختص به طائفة القرّائين. كنيسة السمرة: هذه الكنيسة بحارة زويلة في خط درب ابن الكورانيّ، تختص بالسمرة، وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدثة في الإسلام بلا خلاف. ذكر تاريخ اليهود وأعيادهم قد كانت اليهود أوّلا تؤرخ بوفاة موسى عليه السلام، ثم صارت تؤرخ بتاريخ الإسكندر بن فيلبش، وشهور سنتهم اثنا عشر شهرا، وأيام السنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما. فأما الشهور فإنها تشري، مر حشوان، كسليو، طبيث، شفط، آذر، نيس، أيار، سيوان، تموز، آب، أيلول. وأيام سنتهم أيام سنة القمر، ولو كانوا يستعملونها على حالها لكانت أيام سنتهم وعدد شهورهم شيئا واحدا، ولكنه لما خرج بنو إسرائيل من مصر مع موسى عليه السلام إلى التيه، وتخلصوا من عذاب فرعون، وما كانوا فيه من العبودية، وائتمروا بما أمروا به كما وصف في السّفر الثاني من التوراة، اتفق ذلك ليلة اليوم الخامس عشر من نيس، والقمر تام الضوء، والزمان ربيع. فأمروا بحفظ هذا اليوم كما قال في السفر الثاني من التوراة، احفظوا هذا اليوم سنة لخلوفكم إلى الدهر في أربعة عشر من الشهر الأوّل، وليس معنى الشهر الأوّل هذا شهر تشري، ولكنه عني به شهر نيس، من أجل أنهم

أمروا أن يكون شهر الناسخ رأس شهورهم ويكون أوّل السنة، فقال موسى عليه السلام للشعب: اذكروا اليوم الذي خرجتم فيه من التعبد، فلا تأكلوا خميرا في هذا اليوم في الشهر الذي ينضر فيه الشجر. فلذلك اضطرّوا إلى استعمال سنة الشمس ليقع اليوم الرابع عشر من شهر نيس في أوان الربيع حين تورق الأشجار وتزهو الثمار، وإلى استعمال سنة القمر ليكون جرمه فيه بدرا تام الضوء في برج الميزان، وأحوجهم ذلك إلى إلحاق الأيام التي يتقدّم بها عن الوقت المطلوب بالشهور إذا استوفيت أيام شهر واحد، فألحقوها بها شهرا تاما سمّوه آذار الأوّل، وسموا آذار الأصل آذار الثاني، لأنه ردف سميا له وتلاه، وسموا السنة الكبسة عبورا، اشتقاقا من معبار، وهي المرأة الحبلى بالعبرانية، لأنهم شبهوا دخول الشهر الزائد في السنة بحمل المرأة ما ليس من جملتها، ولهم في استخراج ذلك حسابات كثيرة مذكورة في الأزباج. وهم في عمل الأشهر مفترقون فرقتين، إحداهما الربانية: واستعمالهم إيّاها على وجه الحساب بمسير الشمس والقمر الوسط، سواء رؤي الهلال أو لم ير، فان الشهر عندهم هو مدّة مفروضة تمضي من لدن الاجتماع الكائن بين الشمس والقمر في كل شهر، وذلك أنهم كانوا وقت عودهم من الجالية ببابل إلى بيت المقدس ينصبون على رؤس الجبال دبادب، ويقيمون رقباء للفحص عن الهلال، وألزموهم بإيقاد النار وتدخين دخان يكون علامة لحصول الرؤية، وكانت بينهم وبين السامرة العداوة المعروفة، فذهبت السامرة ورفعوا الدخان فوق الجبل قبل الرؤية بيوم، ووالوا بين ذلك شهورا، اتفق في أوائلها أن السماء كانت متغيمة، حتى فطن لذلك من في بيت المقدس، ورأوا الهلال غداة اليوم الرابع أو الثالث من الشهر مرتفعا عن الأفق من جهة المشرق، فعرفوا أن السامرة فتنتهم، فالتجأوا إلى أصحاب التعاليم في ذلك الزمان ليأمنوا بما يتلقونه من حسابهم مكايد الأعداء، واعتلوا لجواز العمل بالحساب ونيابته عن العمل بالرؤية بعلل ذكروها، فعمل أصحاب الحساب لهم الأدوار، وعلّموهم استخراج الاجتماعات ورؤية الهلال، وأنكر بعض الربانية حديث القرباء ورفعهم الدخان، وزعموا أن سبب استخراج هذا الحساب هو أن علماءهم علموا أن آخر أمرهم إلى الشتات، فخافوا إذا تفرّقوا في الأقطار وعوّلوا على الرؤية أن تختلف عليهم في البلدان المختلفة فيتشاجروا، فلذلك استخرجوا هذه الحسبانات واعتنى بها اليعازر بن فروح، وأمروهم بالتزامها والرجوع إليها حيث كانوا. والفرقة الثانية هم الميلادية الذين يعملون مبادي الشهور من الاجتماع، ويسمّون القرّاء والأسمعية، لأنهم يراعون العمل بالنصوص دون الالتفات إلى النظر والقياس، ولم يزالوا على ذلك إلى أن قدم عاتان رأس الجالوت من بلاد المشرق في نحو الأربعين ومائة من الهجرة إلى دار السلام بالعراق، فاستعمل الشهور برؤية الأهلة على مثل ما شرع في الإسلام، ولم يبال أي أيّ يوم وقع من الأسبوع، وترك حساب الربانيين، وكبس الشهور بأن

نظر كل سنة إلى زرع الشعير بنواحي العراق والشام فيما بين أوّل شهر نيسن إلى أن يمضي منه أربعة عشر يوما، فإن وجد باكورة تصلح للفريك والحصاد ترك السنة بسيطة، وإن وجدها لم تصلح لذلك كبسها حينئذ، وتقدّمت المعرفة بهذه الحالة، وإنّ من أخذ برأيه يخرج لسبعة تبقى من شفط، فينظر بالشام والبقاع المشابهة له في المزاج إلى زرع الشعير، فإن وجد السفا وهو شوك السنبل قد طلع، عدّ منه إلى الفاسح خمسين يوما، وإن لم يره طالعا كبسها بشهر، فبعضهم يردف الكبس بشفط، فيكون في السنة شفط وشفط مرّتين، وبعضهم يردفه بآذر فيكون آذر وآذر في السنة مرّتين، وأكثر استعمال العانانية لشفط دون آذر، كما أن الربانية تستعمل آذر دون غيره. فمن يعتمد من الربانية عمل الشهور بالحساب يقول: إن شهر تشري لا يكون أوّله يوم الأحد والأربعاء، وعدّته عندهم ثلاثون يوما أبدا، وفيه عيد رأس السنة، وهو عيد البشارة بعتق الأرقاء، وهذه العيد في أوّل يوم منه، ولهم أيضا في اليوم العاشر منه صوم الكبور، ومعناه الاستغفار، وعند الربانيين أن هذا الصوم لا يكون أبدا يوم الأحد ولا الثلاثاء ولا الجمعة، وعند من يعتمد في الشهور الرؤية أن ابتداء هذا الصوم من غروب الشمس في ليلة العاشر إلى غروبها من ليلة الحادي عشر، وذلك أربع وعشرون ساعة. والربانيون يجعلون مدّة الصوم خمسا وعشرين ساعة، إلى أن تشتبك النجوم، ومن لم يصم منهم هذا الصوم قتل شرعا، وهم يعتقدون أن الله يغفر لهم فيه جميع الذنوب ما خلا الزنا بالمحصنات، وظلم الرجل أخاه، وجحد الربوبية، وفيه أيضا عيد المظلة، وهو سبعة أيام يعيدون في أولها ولا يخرجون من بيوتهم كما هو العمل يوم السبت وعدّة أيام المظلة إلى آخر اليوم الثاني والعشرين، تمام سبعة أيام، واليوم الثامن يقال له عيد الاعتكاف، وهم يجلسون في هذه الأيام السبعة التي أوّلها خامس عشر تشري تحت ظلال سعف النخل الأخضر وأغصان الزيتون ونحوها من الأشجار التي لا يتناثر ورقها على الأرض، ويرون أن ذلك تذكار منهم لإظلال الله آباءهم في التيه بالغمام، وفيه أيضا عيد القرّائين خاصة صوم في اليوم الرابع والعشرين منه، يعرف بصوم كدليا، وعند الربانيين يكون هذا الصوم في ثالثه. وشهر مر حشوان ربما كان ثلاثين يوما، وربما كان تسعة وعشرين يوما، وليس فيه عيد. وكسليو ربما كان ثلاثين يوما، وربما كان تسعة وعشرين يوما وليس فيه عيد، إلّا أن الربانيين يسرجون على أبوابهم ليلة الخامس والعشرين منه، وهو مدّة أيام يسمونها الحنكة، وهو أمر محدث عندهم، وذلك أن بعض الجبابرة تغلب على بيت المقدس، وقتل من كان فيه من بني إسرائيل، وافتض أبكارهم، فوثب عليه أولاد كاهنهم وكانوا ثمانية فقتله

أصغرهم، وطلب اليهود زيتا لوقود الهيكل فلم يجدوا إلّا يسيرا، وزعوه على عدد ما يوقدونه من السرج في كل ليلة إلى ثمان ليال، فاتخذوا هذه الأيام عيدا وسموها أيام الحنكة، وهي كلمة مأخوذة من التنظيف، لأنهم نظفوا فيها الهيكل من أقذار أشياع ذلك الجبار، والقرّاء لا يعملون ذلك لأنهم لا يعوّلون على شيء من أمر البيت الثاني. وشهر طبيث عدد أيامه تسعة وعشرون يوما، وفي عاشره صوم سببه أنه في ذلك اليوم كان ابتداء محاصرة بخت نصر لمدينة بيت المقدس، ومحاصرة طيطش لها أيضا في الخراب الثاني. وشفط أيامه أبدا ثلاثون يوما وليس فيه عيد. وشهر آذر عند الربانيين كما تقدّم يكون مرّتين في كلّ سنة فآذر الأوّل عدد أيامه ثلاثون يوما إن كانت السنة كبيسة، وإن كانت بسيطة فأيامه تسعة وعشرون يوما، وليس فيه عيد عندهم. وآذر الثاني أيامه تسعة وعشرون يوما أبدا وفيه عند الربانيين صوم الفوز في اليوم الثالث عشر منه، والفوز في اليوم الرابع عشر واليوم الخامس عشر، وأما القرّاؤون فليس عندهم في السنة شهر آذر سوى مرّة واحدة، ويجعلون صوم الفور في ثالث عشرة وبعده إلى الخامس عشر، وهذا أيضا محدث، وذلك أن بخت نصر لما أجلى بني إسرائيل من بيت المقدس وخرّبه ساقهم جلاية إلى بلاد العراق، وأسكنهم في مدينة خي التي يقال لها أصبهان، فلما ملك أزد شير بن بابك ملك الفرس، وتسمية اليهود أحشوارش، كان له وزير يسمى هيمون، وكان لليهود حينئذ حبر يقال له مردوخاي، فبلغ أزدشير أن له ابنة عمّ جميلة الصورة، فتزوّجها وحظيت عنده، واستدنى مردوخاي ابن عمها وقرّبه، فحسده الوزير هيمون وعمل على هلاكه وهلاك اليهود الذين في مملكة أزدشير، ورتب مع نوّاب أزدشير في سائر أعماله أن يقتلوا كلّ يهوديّ عندهم في يوم عينه لهم، وهو الثالث عشر من آذر، فبلغ ذلك مردوخاي فأعلم ابنة عمه بما دبره الوزير وحثها على إعمال الحيلة في تخليص قومها من الهلكة، فأعلمت أزدشير بحسد الوزير لمردوخاي على قربه من الملك وإكرامه، وما كتب به إلى العمال من قتل اليهود، وما زالت به تغريه على الوزير إلى أن أمر بقتله، وقتل أهله، وكتب لليهود أمانا، فاتخذ اليهود هذا اليوم من كلّ سنة عيدا وصاموه شكرا لله تعالى، وجعلوا من بعده يومين اتخذوهما أيام فرح وسرور ولهو ومهاداة من بعضهم لبعض، وهم على ذلك إلى اليوم، وربما صوّر بعضهم في هذا اليوم صورة هيمون الوزير، وهم يسمونه هامان، فإذا صوّروه ألقوه بعد العبث به في النار حتى يحترق. وشهر نيسن عدد أيامه ثلاثون يوما أبدا، وفيه عيد الفاسح الذي يعرف اليوم عند النصارى بالفسح، ويكون في الخامس عشر منه، وهو سبعة أيام يأكلون فيها الفطير وينظفون بيوتهم من أجل أن الله سبحانه خلص بني إسرائيل من أسر فرعون في هذه الأيام حتى

ذكر معنى قولهم يهودي

خرجوا من مصر مع نبي الله موسى بن عمران عليه السلام، وتبعهم فرعون فأغرقه الله ومن معه، وسار موسى ببني إسرائيل إلى التيه، ولما خرجوا من مصر مع موسى كانوا يأكلون اللحم والخبز والفطير وهم فرحون بخلاصهم من يد فرعون، فأمروا باتخاذ الفطير وأكله في هذه الأيام ليذكروا أنه ما منّ الله عليهم به من انقاذهم من العبودية، وفي آخر هذه الأيام السبعة كان غرق فرعون، وهو عندهم يوم كبير، ولا يكون أوّل هذا الشهر عند الربانيين أبدا يوم الاثنين ولا يوم الأربعاء ولا يوم الجمعة، ويكون أوّل الخمسينيات من نصفه. وشهر أيار عدد أيامه تسعة وعشرون يوما، وفيه عيد الموقف، وهو حج الأسابيع، وهي الأسابيع التي فرضت على بني إسرائيل فيها الفرائض، ويقال لهذا العيد في زمننا عيد العنصرة، وعيد الخطاب، ويكون بعد عيد الفطر وفيه خوطب بنو إسرائيل في طور سيناء، ويكون هذا العيد في السادس منه، وفيه أيضا يوم الخميس وهو آخر الخمسينيات، ولا يكون عيد العنصرة عند الربانيين أبدا يوم الثلاثاء ولا يوم الخميس ولا يوم السبت. وشهر تموز أيامه تسعة وعشرون يوما، وليس فيه عيد، لكنهم يصومون في تاسعه لأنّ فيه هدم سور بيت المقدس عند محاصرة بخت نصر له، والربانيون خاصة يصومون يوم السابع عشر منه، لأنّ فيه هدم طيطش سور بيت المقدس وخرّب البيت البيت الخراب الثاني. وشهر آب ثلاثون يوما، وفيه عيد القرّائين، صوم في اليوم السابع واليوم العاشر، لأنّ بيت المقدس خرب فيهما على يد بخت نصر، وفيه أيضا كان إطلاق بخت نصر النار في مدينة القدس وفي الهيكل، ويصوم الربانيون اليوم التاسع منه، لأنّ فيه خرب البيت على يد طنطش الخراب الثاني. وشهر أيلول تسعة وعشرون يوما أبدا، وليس فيه عيد والله تعالى أعلم. ذكر معنى قولهم يهودي اعلم أن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين، سماه الله إسرائيل، ومعنى ذلك الذي رأسه القادر، وكان له من الولد اثنا عشر ذكرا يقال لكلّ واحد منهم سبط، ويقال لمجموعهم الأسباط، وهذه أسماؤهم روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويساخر، وزبولون. والستة أشقاء، أمّهم ليا بنت لابان بن بتويل بن ناحور أخي إبراهيم الخليل. وكان واشار، ودان، ونفتالي، ويوسف، وبنيامين. فلما كبر هؤلاء الأسباط الاثنا عشر قدّم عليهم أبوهم يعقوب وهو إسرائيل، ابنه يهوذا، وجعله حاكما على إخوته الأحد عشر سبطا، فاستمرّ رئيسا وحاكما على إخوته إلى أن مات، فورثت أولاد يهوذا رياسة الأسباط من بعده، إلى أن أرسل الله تعالى موسى ابن عمران بن قاهاث بن لاوي بن يعقوب إلى فرعون، بعد وفاة يوسف بن يعقوب عليهما السلام، بمائة وأربع وأربعين سنة، وهم رؤساء الأسباط. فلما نجى الله موسى وقومه بعد غرق فرعون ومن معه،

ذكر معتقد اليهود وكيف وقع عندهم التبديل

رتّب عليه السلام بني إسرائيل الاثني عشر سبطا أربع فرق، وقدّم على جميعهم سبط يهوذا، فلم يزل سبط يهوذا مقدّما على سائر الأسباط أيام حياة موسى عليه السلام، وأيام حياة يوشع بن نون. فلما مات يوشع، سأل بنو إسرائيل الله تعالى وابتهلوا إليه في قبة الشمشار أن يقدّم عليهم واحدا منهم، فجاء الوحي من الله بتقديم عثنيئال بن قناز من سبط يهوذا، فتقدّم على سائر الأسباط، وصار بنو يهوذا مقدّمين على سائر الأسباط من حينئذ إلى أن ملّك الله على بني إسرائيل نبيه داود، وهو من سبط يهوذا، فورث ملك بني إسرائيل من بعده ابنه سلمان بن داود عليهما السلام. فلما مات سليمان افترق ملك بني إسرائيل من بعده، وصار لمدينة شمرون التي يقال لها اليوم نابلس عشرة أسباط، وبقي بمدينة القدس سبطان. هما سبط يهوذا وسبط بنيامين، وكان يقال لسكان شمرون بنو إسرائيل ويقال لسكان القدس بنو يهوذا، إلى أن انقرضت دولة بني إسرائيل من مدينة شمرون بعد مائتين وإحدى وخمسين سنة، فصاروا كلهم بالقدس تحت طاعة الملوك من بني يهودا، إلى أن قدم بخت نصر وخرّب القدس وجلا جميع بني إسرائيل إلى بابل، فعرفوا هناك بين الأمم ببني يهوذا، واستمرّ هذا سمة لهم بين الأمم بعد ذلك إلى أن جاء الله بالإسلام، فكان يقال للواحد منهم يهوذي بذال معجمة نسبة إلى سبط يهوذا، وتلاعب العرب بذلك على عادتهم في التلاعب بالأسماء المعجمة، وقالوها بدال مهملة، وسموا طائفة بني إسرائيل اليهود، وبهذه اللغة نزل القرآن، ويقال أنّ أوّل من سمّى بني إسرائيل اليهود بخت نصر، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ذكر معتقد اليهود وكيف وقع عندهم التبديل اعلم أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على نبيه موسى عليه السلام، ضمنها شرائع الملة الموسوية، وأمر فيها أن يكتب لكلّ من يلي أمر بني إسرائيل كتاب يتضمن أحكام الشريعة لينظر فيه. ويعمل به، وسمي هذا الكتاب بالعبرانية مشنا، ومعناه استخراج الأحكام من النص الإلهيّ، وكتب موسى عليه السلام، بخط يده مشنا كأنه تفسير لما في التوراة من الكلام الإلهيّ، فلما مات موسى عليه السلام، وقام من بعده بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون، ومن بعده إلى أن كانت أيام يهوياقيم ملك القدس، غزاهم بخت نصر الغزوة الأولى، وهم يكتبون لكل من ملكهم مشنا، ينقلونها من المشنا التي بخط موسى ويجعلونها باسمه، فلما جلا بخت نصر يهوياقيم الملك ومعه أعيان بني إسرائيل وكبراء بيت المقدس، وهم في زيادة على عشرة آلاف نفس، ساروا ومعهم نسخ المشنا التي كتبت لسائر ملوك بني إسرائيل بأجمعها إلى بلاد المشرق، فلما سار بخت نصر من باب الكرّة الثانية لغزو القدس، وخرّبه، وجلا جميع من فيه وفي بلاد بني إسرائيل من الأسباط الاثني عشر إلى باب أقاموا بها، وبقي القدس خرابا لا ساكن فيه مدّة سبعين سنة، ثم عادوا من بابل بعد سبعين سنة وعمروا القدس، وجدّدوا بناء البيت ثانيا ومعهم جميع نسخ المشنا التي خرجوا بها أوّلا.

فلما مضت من عمارة البيت الثاني بعد الجلاية ثلاثمائة ونيف من السنين، اختلف بنو إسرائيل في دينهم اختلافا كثيرا، فخرج طائفة من آل داود عليه السلام من بيت المقدس وساروا إلى الشرق، كما فعل آباؤهم أوّلا، وأخذوا معهم نسخا من المشنا التي كتبت للملوك من مشنا موسى التي بخطه، وعملوا بما فيها ببلاد الشرق، من حين خرجوا من القدس إلى أن جاء الله بدين الإسلام، وقدم عانان رأس الجالوت من المشرق إلى العراق في خلافة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، سنة ست وثلاثين ومائة من سني الهجرة المحمدية. وأما الذين أقاموا بالقدس من بني إسرائيل بعد خروج من ذكرنا إلى الشرق من آل داود، فإنهم لم يزالوا في افتراق واختلاف في دينهم إلى أن غزاهم طيطش، وخرّب القدس الخراب الثاني بعد قتل يحيى بن زكريا ورفع المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وسبى جميع من فيه وفي بلاد بني إسرائيل بأسرهم، وغيب نسخ المشنا التي كانت عندهم، بحيث لم يبق معهم من كتب الشريعة سوى التوراة، وكتب الأنبياء، وتفرّق بنو إسرائيل من وقت تخريب طيطش بيت المقدس في أقطار الأرض، وصاروا ذمّة إلى يومنا هذا، ثم إن رجلين ممن تأخروا إلى قبيل تخريب القدس يقال لهما شماي وهلال، نزلا مدينة طبرية وكتبا كتابا سمياه مشنا، باسم مشنا موسى عليه السلام، وضمنا هذا المشنا الذي وضعاه أحكام الشريعة، ووافقهما على وضع ذلك عدّة من اليهود، وكان شماي وهلال في زمن واحد، وكانا في أواخر مدّة تخريب البيت الثاني، وكان لهلال ثمانون تلميذا، أصغرهم يوحانان بن زكاي، وأدرك يوحانان بن زكاي خراب البيت الثاني على يد طيطش، وهلال وشماي أقوالهما مذكورة في المشنا، وهي في ستة أسفار تشتمل على فقه التوراة، وإنما رتبها النوسيّ من ولد داود النبيّ بعد تخريب طيطش للقدس بمائة وخمسين سنة، ومات شماي وهلال ولم يكملا المشنا فأكمله رجل منهم يعرف بيهودا من ذرية هلال وحمل اليهود على العمل بما في هذا المشنا، وحقيقته أنه يتضمن كثيرا مما كان في مشنا النبيّ موسى عليه السلام، وكثيرا من آراء أكابرهم. فلما كان بعد وضع هذا المشنا بنحو خمسين سنة، قام طائفة من اليهود يقال لهم السنهدوين، ومعنى ذلك الأكابر، وتصرّفوا في تفسير هذا المشنا برأيهم، وعملوا عليه كتابا اسمه التلمود، أخفوا فيه كثيرا مما كان في ذلك المشنا، وزادوا فيه أحكاما من رأيهم، وصاروا منذ وضع هذا التلمود الذي كتبوه بأيديهم وضمنوه ما هو من رأيهم ينسبون ما فيه إلى الله تعالى، ولذلك ذمّهم الله في القرآن الكريم بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة/ 79] وهذا التلمود نسختان مختلفتان في الأحكام، والعمل إلى اليوم على هذا التلمود عند فرقة الربانيين بخلاف القرّائين، فإنهم لا

ذكر فرق اليهود الآن

يعتقدون العمل بما في هذا التلمود. فلما قدم عانان رأس الجالوت إلى العراق، أنكر على اليهود عملهم بهذا التلمود، وزعم أن الذي بيده هو الحق، لأنه كتب من النسخ التي كتبت من مشنا موسى عليه السلام الذي بخطه، والطائفة الربانيون، ومن وافقهم لا يعوّلون من التوراة التي بأيديهم إلّا على ما في هذا التلمود، وما خلف ما في التلمود لا يعبأون به، ولا يعوّلون عليه، كما أخبر تعالى إذ يقول حكاية عنهم: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف/ 22] ومن اطلع على ما بأيديهم وما عندهم من التوراة تبين له أنهم ليسوا على شيء، وأنهم إن يتبعون إلّا الظنّ وما تهوى الأنفس، ولذلك لما نبغ فيهم موسى بن ميمون القرطبيّ، عوّلوا على رأيه، وعملوا بما في كتاب الدلالة وغيره من كتبه، وهم على رأيه إلى زمننا. ذكر فرق اليهود الآن اعلم أن اليهود الذين قطعهم الله في الأرض أمما أربع فرق، كلّ فرقة تخطّيء الطوائف الأخر، وهي طائفة الربانيين، وطائفة القرّائين، وطائفة العانانية، وطائفة السمرة. وهذا الاختلاف حدث لهم بعد تخريب بخت نصر بيت المقدس وعودهم من أرض بابل بعد الجلاية إلى القدس، وعمارة البيت ثانيا. وذلك أنهم في إقامتهم بالقدس أيام العمارة الثانية افترقوا في دينهم، وصاروا شيعا. فلما ملكهم اليونان بعد الإسكندر بن فيلبش، وقام بأمرهم في القدس هور قانوس بن شمعون بن مشيثا، واستقام أمره فسمي ملكا، وكان قبل ذلك هو وجميع من تقدّمه ممن ولي أمر اليهود في القدس بعد عودهم من الجلاية إنما يقال له الكوهن الأكبر، فاجتمع لهور قانوس منزلة الملك ومنزلة الكهونية، واطمأنّ اليهود في أيامه وأمنوا سائر أعدائهم من الأمم، فبطروا معيشتهم واختلفوا في دينهم وتعادوا بسبب الاختلاف، وكان من جملة فرقهم إذ ذاك طائفة يقال لهم الفروشيم، ومعناه المعتزلة، ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم. وطائفة يقال لهم الصدوفية بفاء، نسبوا إلى كبير لهم يقال له صدوف، ومذهبهم القول بنص التوراة وما دلّ عليه القول الإلهيّ فيها دون ما عداه من الأقوال، وطائفة يقال لهم الجسديم، ومعناه الصلحاء، ومذهبهم الاشتغال بالنسك وعبادة الله سبحانه والأخذ بالأفضل والأسلم في الدين، وكانت الصدوفية تعادي المعتزلة عداوة شديدة، وكان الملك هور قانوس أوّلا على رأي المعتزلة، وهو مذهب آبائه، ثم إنه رجع إلى مذهب الصدوفية وباين المعتزلة وعاداهم، ونادى في سائر مملكته بمنع الناس جملة من تعلم رأي المعتزلة، والأخذ عن أحد منهم، وتتبعهم وقتل منهم كثيرا. وكانت العامّة بأسرها مع المعتزلة، فثارت الشرور بين اليهود واتصلت الحروب بينهم، وقتل بعضهم بعضا إلى أن خرب البيت على يد طيطش الخراب

الثاني بعد رفع عيسى صلوات الله عليه، وتفرّق اليهود من حينئذ في أقطار الدنيا وصاروا ذمّة، والنصارى تقتلهم حيثما ظفرت بهم إلى أن جاء الله بالملة الإسلامية، وهم في تفرّقهم ثلاث فرق، الربانيون والقرّاء والسمرة. فأما الربانية: فيقالهم بنو مشنو، ومعنى مشنو الثاني، وقيل لهم ذلك لأنهم يعتبرون أمر البيت الذي بني ثانيا بعد عودهم من الجلاية وخرّبه طيطش وينزلونه في الاحترام والإكرام والتعظيم منزلة البيت الأوّل الذي ابتدأ عمارته داود وأتمه ابنه سليمان عليهما السلام، وخرّبه بخت نصر. فصار كأنه يقال لهم أصحاب الدعوة الثانية، وهذه الفرقة هي التي كانت تعمل بما في المشنا الذي كتب بطبرية بعد تخريب طيطش القدس، وتعوّل في أحكام الشريعة على ما في التلمود إلى هذا الوقت الذي نحن فيه، وهي بعيدة عن العمل بالنصوص الإلهية متبعة لآراء من تقدّمها من الأحبار، ومن اطلع على حقيقة دينها، تبين له أن الذي ذمّهم الله به في القرآن الكريم حق لا مرية فيه، وأنه لا يصح لهم من اسم اليهودية إلّا مجرّد الانتماء فقط، لا إنهم في الإتباع على الملة الموسوية، لا سيما منذ ظهر فيهم موسى بن ميمون القرطبيّ بعد الخمسمائة من سني الهجرة المحمدية، فإنه ردّهم مع ذلك معطلة، فصاروا في أصول دينهم وفروعه أبعد الناس عما جاء به أنبياء الله تعالى من الشرائع الإلهية. وأما القرّاء: فإنهم بنو مقرا، ومعنى مقرا الدعوة، وهم لا يعوّلون على البيت الثاني جملة، ودعوتهم إنما هي لما كان عليه العمل مدّة البيت الأوّل، وكان يقال لهم أصحاب الدعوة الأولى، وهم يحكمون نصوص التوراة ولا يلتفتون إلى قول من خالفها، ويقفون مع النص دون تقليد من سلف، وهم مع الربانيين من العداوة بحيث لا يتناكحون ولا يتجاورون ولا يدخل بعضهم كنيسة بعض، ويقال للقرّائين أيضا المبادية، لأنهم كانوا يعملون مبادي الشهور من الاجتماع الكائن بين الشمس والقمر، ويقال لهم أيضا الأسمعية، لأنهم يراعون العمل بنصوص التوراة دون العمل بالقياس والتقليد. وأما العانانية: فإنهم ينسبون إلى عانان رأس الجالوت الذي قدم من المشرق في أيام الخليفة أبي جعفر المنصور، ومعه نسخ المشنا الذي كتب من الخط الذي كتب من خط النبيّ موسى، وأنه رأى ما عليه اليهود من الربانيين والقرّائين يخالف ما معه، فتجرّد لخلافهم وطعن عليهم في دينهم، وازدرى بهم، وكان عظيما عندهم يرون أنه من ولد داود عليه السلام، وعلى طريق فاضلة من النسك على مقتضى ملتهم، بحيث يرون أنه لو ظهر في أيام عمارة البيت لكان نبيا، فلم يقدروا على مناظرته، لما أوتي مع ما ذكرنا من تقريب الخليفة له وإكرامه، وكان مما خالف فيه اليهود استعمال الشهور برؤية الأهلة على مثل ما شرع في الملة الإسلامية، ولم يبال في أيّ يوم وقع من الأسبوع، وترك حساب الربانيين

وكبس الشهور وخطأهم في العمل بذلك، واعتمد على كشف زرع الشعير، وأجمل القول في المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وأثبت نبوّة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال: هو نبيّ أرسل إلى العرب، إلّا أن التوراة لم تنسخ، والحق أنه أرسل إلى الناس كافة صلّى الله عليه وسلّم. ذكر السمرة: اعلم أن طائفة السمرة ليسوا من بني إسرائيل البتة، وإنما هم قوم قدموا من بلاد المشرق وسكنوا بلاد الشام وتهوّدوا، ويقال أنهم من بني سامرك بن كفركا بن رمي، وهو شعب من شعوب الفرس، خرجوا إلى الشام ومعهم الخيل والغنم والإبل والقسيّ والنشاب والسيوف والمواشي، ومنهم السمرة الذين تفرّقوا في البلاد. ويقال أن سليمان بن داود لما مات افترق ملك بني إسرائيل من بعده، فصار رحبعم بن سليمان على سبط يهودا بالقدس، وملك يربعم بن نياط على عشرة أسباط من بني إسرائيل، وسكن خارجا عن القدس، واتخذ عجلين دعا الأسباط العشرة إلى عبادتهما من دون الله إلى أن مات، فوليّ ملك بني إسرائيل من بعده عدّة ملوك على مثل طريقته في الكفر بالله وعبادة الأوثان، إلى أن ملكهم عمري بن نوذب من سبط منشا بن يوسف، فاشترى مكانا من رجل اسمه شامر بقنطار فضة، وبنى فيه قصرا وسماه باسم اشتقه من اسم شامر الذي اشترى منه المكان، وصير حول هذا القصر مدينة وسماها مدينة شمرون، وجعلها كرسيّ ملكه إلى أن مات، فاتخذها ملوك بني إسرائيل من بعده مدينة للملك، وما زالوا فيها إلى أن ولي هو شاع بن إيلا، وهم على الكفر بالله، وعبادة وثن بعل وغيره من الأوثان، مع قتل الأنبياء، إلى أن سلط الله عليهم سنجاريب ملك الموصل، فحاصرهم بمدينة شمرون ثلاث سنين، وأخذ هو شاع أسيرا وجلاه ومعه جميع من في شمرون من بني إسرائيل، وأنزلهم بهراه وبلخ ونهاوند وحلوان، فانقطع من حينئذ ملك بني إسرائيل من مدينة شمرون بعد ما ملكوا من بعد سليمان عليه السلام مدّة مائتي سنة وإحدى وخمسين سنة، ثم إن سنجاريب ملك الموصل نقل إلى شمرون كثيرا من أهل كوشا وبابل وحماه، وأنزلهم فيها ليعمروها، فبعثوا إليه يشكون من كثرة هجوم الوحش عليهم يشمرون، فسير إليهم من علمهم التوراة، فتعلموها على غير ما يجب، وصاروا يقرءونها ناقصة أربعة أحرف، الألف والهاء والخاء والعين، فلا ينطقون بشيء من هذه الأحرف في قراءتهم التوراة، وعرفوا بين الأمم بالسامرة لسكناهم بمدينة شمرون. وشمرون هذه هي مدينة نابلس، وقيل لها سمرون بسين مهملة، ولسكانها سامرة، ويقال معنى السمرة حفظة ونواطير، فلم تزل السمرة بنابلس إلى أن غزا بخت نصر القدس وأجلى اليهود منه إلى بابل، ثم عادوا بعد سبعين سنة وعمروا البيت ثانيا إلى أن قام الإسكندر من بلاد اليونان، وخرج يريد غزو الفرس، فمرّ على القدس وخرج منه يريد عمان، فاجتاز على نابلس وخرج إليه كبير السمرة بها، وهو سنبلاط السامريّ، فأنزله وصنع له ولقوّاده وعظماء أصحابه صنيعا عظيما، وحمل إليه أموالا جمة وهدايا جليلة، واستأذنه

في بناء هيكل لله على الجبل الذي يسمى عندهم طوربريك، فأذن له وسار عنه إلى محاربة دارا ملك الفرس، فبنى سنبلاط هيكلا شبيها بهيكل القدس، ليستميل به اليهود، وموّه عليهم بأن طوربريك هو الموضع الذي اختاره الله تعالى وذكره في التوراة بقوله فيها: اجعل البركة على طوربريك، وكان سنبلاط قد زوّج ابنته بكاهن من كهان بيت المقدس يقال له منشا، فمقت اليهود منشا على ذلك، وأبعدوه وحطوه عن مرتبته عقوبة له على مصاهرة سنبلاط، فأقام سنبلاط منشا زوج ابنته كاهنا في هيكل طوربريك، وآتته طوائف من اليهود وضلوا به، وصاروا يحجون إلى هيكله في الأعياد، ويقرّبون قرا بينهم إليه، ويحملون إليه نذورهم وأعشارهم، وتركوا قدس الله وعدلوا عنه فكثرت الأموال في هذا الهيكل، وصار ضدّ البيت المقدس، واستغنى كهنته وخدّامه وعظم أمر منشا وكبرت حالته. فلم تزل هذه الطائفة تحج إلى طور بريك حتى كان زمن هور قانوس بن شمعون الكوهن، من بني حثمتاي في بيت المقدس، فسار إلى بلاد السمرة ونزل على مدينة نابلس وحصرها مدّة وأخذها عنوة، وخرّب هيكل طور بريك إلى أساسه، وكانت مدّة عمارته مائتي سنة، وقتل من كان هناك من الكهنة، فلم تزل السمرة بعد ذلك إلى يومنا هذا تستقبل في صلاتها حيثما كانت من الأرض طور بريك بجبل نابلس، ولهم عبادات تخالف ما عليه اليهود، ولهم كنائس في كل بلد تخصهم، والسمرة ينكرون نبوّة داود ومن تلاه من الأنبياء، وأبوا أن يكون بعد موسى عليه السلام نبيّ وجعلوا رؤساءهم من ولد هارون عليه السلام، وأكثرهم يسكن في مدنية نابلس، وهم كثير في مدائن الشام، ويذكر أنهم الذين يقولون لا مساس، ويزعمون أن نابلس هي بيت المقدس، وهي مدينة يعقوب عليه السلام، وهناك مراعيه. وذكر المسعوديّ أن السمرة صنفان متباينان، أحدهما يقال له الكوشان، والآخر الروشان، أحد الصنفين يقول بقدم العالم. والسامرة تزعم أن التوراة التي في أيدي اليهود ليست التوراة التي أوردها موسى عليه السلام ويقولون توراة موسى حرّفت وغيّرت وبدّلت، وأن التوراة هي ما بأيديهم دون غيرهم. وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروتيّ أنّ السامرة تعرف بالأمساسية. قال: وهم الأبدال الذين بدّلهم بخت نصر بالشام حين أسر اليهود وأجلاها، وكانت السامرة أعانوه ودلوه على عورات بني إسرائيل، فلم يحربهم ولم يقتلهم ولم يسبهم وأنزلهم فلسطين من تحت يده، ومذاهبهم ممتزجة من اليهودية والمجوسية، وعامّتهم يكونون بموضع من فلسطين يسمى نابلس، وبها كنائسهم، ولا يدخلون حدّ بيت المقدس منذ أيام داود النبي عليه السلام، لأنهم يدّعون إنه ظلم واعتدى وحوّل الهيكل المقدّس من نابلس إلى إيليا، وهو بيت المقدس، ولا يمسون الناس، وإذا مسوهم اغتسلوا، ولا يقرّون بنبوّة من كان بعد موسى عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل. وفي شرح الإنجيل: إنّ اليهود انقسمت بعد أيام داود إلى سبع فرق.

الكتاب: وكانوا يحافظون على العادات التي أجمع عليها المشايخ مما ليس في التوراة. والمعتزلة: وهم الفريسيون، وكانوا يظهرون الزهد ويصومون يومين في الأسبوع، ويخرجون العشر من أموالهم، ويجعلون خيوط القرمز في رؤس ثيابهم، ويغسلون جميع أوانيهم، ويبالغون في إظهار النظافة. والزنادقة: وهم من جنس السامرة، وهم من الصدوفية، فيكفرون بالملائكة والبعث بعد الموت وبجميع الأنبياء ما خلا موسى فقط، فإنهم يقرّون بنبوّته. والمتظهرون: وكانوا يغتسلون كلّ يوم ويقولون لا يستحق حياة الأبد إلّا من يتطهر كلّ يوم. والإسابيون: ومعناه الغلاظ الطباع، وكانوا يوجبون جميع الأوامر الإلهية، وينكرون جميع الأنبياء سوى موسى عليه السلام، ويتعبدون بكتب غير الأنبياء. والمتقشفون: وكانوا يمنعون أكثر المآكل وخاصة اللحم، ويمنعون من التزوّج بحسب الطاقة، ويقولون بأن التوراة ليست كلها لموسى، ويتمسكون بصحف منسوبة إلى أخنوخ وإبراهيم عليه السلام، وينظرون في علم النجوم ويعملون بها. والهيرذوسيون: سموا أنفسهم بذلك لموالاتهم هيرذوس ملكهم، وكانوا يتبعون التوراة ويعملون بما فيها انتهى. وذكر يوسف بن كريون في تاريخه أن اليهود كانوا في زمن ملكهم هور قانوس، يعني في زمن بناء البيت بعد عودهم من الجلاية ثلاث فرق: الفروشيم: ومعناه المعتزلة، ومذهبهم القول بما في التوراة وما فسره الحكماء من سلفهم. والصدوفية: أصحاب رجل من العلماء يقال له صدوف، ومذهبهم القول بنص التوراة وما دلت عليه دون غيره. والجسديم ومعناه الصلحاء، وهم المشتغلون بالعبادة والنسك، الآخذون في كل أمر بالأفضل والأسلم في الدين انتهى. وهذه الفرقة هي أصل فرقتي الربانيين والقرّاء. فصل: زعم بعضهم أن اليهود عانانية وشمعونية، نسبة إلى شمعون الصدّيق، ولي القدس عند قدوم أبي الإسكندر، وجالوتية وفيومية وسامرية وعكبرية وأصبهانية وعراقية ومغاربة وشرشتانية وفلسطينية ومالكية وربانية. فالعانانية تقول بالتوحيد والعدل ونفي التشبيه، والشمعونية تشبه، وتبالغ الجالوتية في التشبيه، وأما الفيومية فإنها تنسب إلى أبي سعيد الفيوميّ، وهم يفسرون التوراة على الحروف المقطعة. والسامرية ينكرون كثيرا من شرائعهم ولا يقرّون بنبوّة من جاء بعد يوشع، والعكبرية أصحاب أبي موسى البغداديّ

العبكريّ، وإسماعيل العكبريّ، يخالفون أشياء من السبت وتفسير التوراة، والأصبهانية أصحاب أبي عيسى الأصبهاني، وادّعى النبوّة وأنه عرج به إلى السماء فمسح الرب على رأسه، وإنه رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم فآمن به، ويزعم يهود أصبهان أنه الدجال، وأنه يخرج من ناحيتهم، والعراقية تخالف الخراسانية في أوقات أعيادهم ومدد أيامهم، والشرشتانية أصحاب شرشتان، زعم أنه ذهب من التوراة ثمانون سوقة، أي آية، وادّعى أن للتوراة تأويلا باطنا مخالفا للظاهر، وأما يهود فلسطين فزعموا أن العزير ابن الله تعالى، وأنكر أكثر اليهود هذا القول، والمالكية تزعم أن الله تعالى لا يحيى يوم القيامة من الموتى إلّا من احتج عليه بالرسل والكتب، ومالك هذا هو تلميذ عانان. والربانية تزعم أن الحائض إذا مست ثوبا بين ثياب وجب غسل جميعها، والعراقية تعمل رؤس الشهور بالأهلة، وآخرون بالحساب يعملون والله أعلم. فصل: وهم يوجبون الإيمان بالله وحده وبموسى عليه السلام وبالتوراة، ولا بدّ لهم من درسها وتعلمها، ويغتسلون ويتوضؤون ولا يمسحون رؤوسهم في وضوئهم، ويبدؤون بالرجل اليسرى، وفي شيء منه خلاف بينهم، وعانان يرى أن الاستنجاء قبل الوضوء، ويرى أشمعث أن الاستنجاء بعد الوضوء، ولا يتوضؤون بما تغير لونه أو طعمه أو ريحه، ولا يجيزون الطهارة من غدير ما لم يكن عشرة أذرع في مثلها، والنوم قاعدا لا ينقض الوضوء عندهم ما لم يضع جنبه الأرض، إلّا العانانية فإن مطلق النوم عندهم ينقض، ومن أحدث في صلاته من قيء أو رعاف أو ريح انصرف وتوضأ وبنى على صلاته، ولا تجوز صلاة الرجل في أقلّ من ثلاثة أثواب، قميص وسراويل وملاءة يتردّى بها، فإن لم يجد الملاءة صلّى جالسا، فإن لم يجد القميص والسراويل صلّى بقلبه، ولا تجوز صلاة المرأة في أقل من أربعة أثواب، وعليهم فريضة ثلاث صلوات في اليوم والليلة، عند الصبح وبعد الزوال إلى غروب الشمس ووقت العتمة إلى ثلث الليل، ويسجدون في دبر كل صلاة سجدة طويلة، وفي يوم السبت وأيام الأعياد يزيدون خمس صلوات على تلك الثلاث. ولهم خمسة أعياد: عيد الفطر: وهو الخامس عشر من نيسن، يقيمون سبعة أيام لا يأكلون سوى الفطير، وهي الأيام التي تخلصوا فيها من فرعون وأغرقه الله. وعيد الأسابيع: بعد الفطير بسبعة أسابيع، وهو اليوم الذي كلم الله تعالى فيه بني إسرائيل من طور سيناء. وعيد رأس الشهر: وهو أوّل تشري، وهو الذي فدى فيه إسحاق عليه السلام من الذبح، ويسمونه عيد رأس هشايا، أي رأس الشهر. وعيد صوماريا: يعني الصوم العظيم. وعيد المظلة: يستظلون سبعة أيام بقضبان الآس والخلاف. ويجب عليهم الحج في كل سنة ثلاث مرّات لما كان الهيكل عامرا، ويوجبون صوم أربعة أيام. أوّلها: سابع عشر

تموز من الغروب إلى الغروب، وعند العانانية هو اليوم الذي أخذ فيه بخت نصر البيت. والثاني: عشر آب. والثالث: عاشر كانون الأول. والرابع: ثالث عشر آذار. ويتشدّدون في أمر الحائض بحيث يعتزلونها وثيابها وأوانيها وما مسته من شيء فإنه ينجّس ويجب غسله، فإن مست لحم القربان أحرق بالنار، ومن مسها أو شيئا من ثيابها وجب عليه الغسل، وما عجنته أو خبزته أو طبخته أو غسلته فكله نجس حرام على الطاهرين حلّ للحيض، ومن غسل ميتا نجس سبعة أيام لا يصلي فيها، وهم يغسلون موتاهم ولا يصلون عليهم، ويوجبون إخراج العشر من جميع ما يملك، ولا يجب حتى يبلغ وزنه أو عدده مائة، ولا يخرج العشر إلّا مرّة واحدة، ثم لا يعاد إخراجه، ولا يصح النكاح عندهم إلّا بوليّ وخطبة وثلاثة شهود ومهر مائتي درهم للبكر، ومائة للثيب لا أقل من ذلك، ويحضر عند عقد النكاح كأس خمر وباقة مرسين، فيأخذ الإمام الكأس ويبارك عليه ويخطب خطبة النكاح ثم يدفعه إلى الختن ويقول: قد تزوّجت فلانة بهذه الفضة أو بهذا الذهب وهو خاتم في يده، وبهذا الكأس من الخمر، وبمهر كذا، ويشرب جرعة من الخمر، ثم ينهضون إلى المرأة ويأمرونها أن تأخذ الخاتم والمرسلين والكأس من يد الختن، فإذا أخذت وشربت جرعة وجب عقد النكاح، ويضمن أولياء المرأة البكارة، فإذا زفت إليه وكّل الوليّ من يقف بباب الخلوة وقد فرشت ثياب بيض حتى يشاهد الوكيل الدم، فإن لم توجد بكرا رجمت، ولا يجوز عندهم نكاح الإماء حتى يعتقن، ثم ينكحن، والعبد يعتق بعد خدمته لسنين معلومة، وهي ست سنين، ومنهم من يجوّز بيع صغار أولاده إذا احتاج، ولا يجوّزون الطلاق إلا بفاحشة أو سحر أو رجوع عن الدين، وعلى من طلق خمسة وعشرون درهما للبكر، ونصف ذلك للثيب، وينزل في كتابها طلاقها بعد أن يقول الزوج أنت طالق مني مائة مرّة، ومختلعة مني، وفي سعة أن تتزوّجي من شئت، ولا يقع طلاق الحامل أبدا، نعم، إلّا أن يجوّزوه ويراجع الرجل امرأته ما لم تتزوج، فإن تزوّجت حرّمت عليه إلى الأبد. والخيار بين المتبايعين ما لم ينقل المبيع إلى البائع. والحدود عندهم على خمسة أوجه، حرق ورجم وقتل وتعزير وتغريم، فالحرق على من زنى بأمّ امرأته أو ربيبته أو بامرأة أبيه أو امرأة ابنه، والقتل على من قتل. والرجم على المحصن إذا زنى أو لاط، وعلى المرأة إذا مكنت من نفسها بهيمة. والتعزير «1» على من قذف، والتغريم على من سرق، ويرون أن البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر. وعندهم أنّ من أتى بشيء من سبعة وثلاثين عملا في يوم السبت أو ليلته استحق القتل وهي: كرب الأرض، وزرعها، وحصاد الزرع، وسياقة الماء إلى الزرع، وحلب اللبن، وكسر الحطب، وإشعال النار، وعجن العجين، وخبزه، وخياطة الثوب، وغسله، ونسج

ذكر قبط مصر ودياناتهم القديمة، وكيف تنصروا ثم صاروا ذمة للمسلمين، وما كان لهم في ذلك من القصص والأنباء، وذكر الخبر عن كنائسهم ودياراتهم، وكيف كان ابتداؤها ومصير أمرها

سلكين، وكتابة حرفين أو نحوهما، وأخذ الصيد، وذبح الحيوان، والخروج من القرية، والانتقال من بيت إلى آخر، والبيع، والشراء، والدق، والطحن، والاحتطاب، وقطع الخبز، ودق اللحم، وإصلاح النعل إذا انقطعت، وخلط علف الدابة، ولا يجوز للكاتب أن يخرج يوم السبت من منزله ومعه قلمه، ولا الخياط ومعه إبرته، وكل من عمل شيئا استحق به القتل فلم يسلم نفسه فهو ملعون «1» . ذكر قبط مصر ودياناتهم القديمة، وكيف تنصروا ثم صاروا ذمّة للمسلمين، وما كان لهم في ذلك من القصص والأنباء، وذكر الخبر عن كنائسهم ودياراتهم، وكيف كان ابتداؤها ومصير أمرها اعلم أن جميع أهل الشرائع اتباع الأنبياء عليهم السلام من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحا عليه السلام هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه، ومنه ذرأ الله تعالى جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلّا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك، فأنكروا الطوفان وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط، وأن أولاد كيومرت الذي هو عندهم الإنسان الأوّل كانوا بالبلاد الشرقية من بابل، فلم يصل الطوفان إليهم ولا إلى الهند والصين. والحق ما عليه أهل الشرائع، وأن نوحا عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة نزل بهم وهم ثمانون رجلا سوى أولاده، فماتوا بعد ذلك ولم يعقبوا، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات/ 77] وكان من خبر ذلك أن أولاد نوح الثلاثة، وهم سام وحام ويافث اقتسموا الأرض. فصار لبني سام بن نوح أرض العراق وفارس إلى الهند، ثم إلى حضرموت وعمان والبحرين. وعالج ويبرين ووبار والدو والد هنا وجميع أرض اليمن وأرض الحجاز. وصار لبني حام بن نوح جنوب الأرض مما يلي أرض مصر مغربا إلى بلاد المغرب الأقصى. وصار لبني يافث بن نوح بحر الخزر مشرقا إلى الصين. فكان من ذرية سام بن نوح القضاعيون والفرس والسريانيون والعبرانيون والعرب المستعربة والنبط وعاد وثمود والأمورانيون والعماليق وأمم الهند وأهل السند وعدّة أمم قد بادت.

ذكر ديانة القبط قبل تنصرهم

وكانت ذرية حام بن نوح من أربعة أولاده الذين هم: كوش ومصرايم وقفط وكنعان، فمن كوش الحبشة والزنج، ومن مصرايم قبط مصر والنوبة، ومن قفط الأفارقة أهل إفريقية ومن جاورهم إلى المغرب الأقصى، ومن كنعان أمم كانت بالشام حاربهم موسى بن عمران عليه السلام وقومه من بني إسرائيل، ومنهم أجناس عديدة من البربر درجوا. وكانت مساكن بني حام من صيدا إلى أرض مصر، ثم إلى آخر إفريقية نحو البحر المحيط، وانتشروا فيما بين ذلك إلى الجنوب وهم ثلاثون جنسا. وكان من ذرية يافث بن نوح: الصقلب والفرنجة والغالليون من قبائل الروم والغوط وأهل الصين وقوم عرفوا بالمادنيين واليونانيون والروم الفريقيون وقبائل الأتراك ويأجوج ومأجوج وأهل قبرس وردوس، وعدّة بني يافث خمسة عشر جنسا، سكنوا القطر الشماليّ إلى البحر المحيط، فضاقت بهم بلادهم ولم تسعهم لكثرتهم، فخرجوا منها وتغلبوا على كثير من بلاد بني سام بن نوح. وذكر الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب، أنّ القبط تنسب إلى قبطيم بن مصرايم بن مصر بن حام بن نوح، وأن قبطيم أوّل من عمل العجائب بمصر وأثار بها المعادن وشق الأنهار لما ولي أرض مصر بعد أبيه مصرايم، وأنه لحق بلبلة الألسن، وخرج منها وهو يعرف اللغة القبطية، وأنه ملك مدّة ثمانين سنة ومات، فاغتمّ لموته بنوه وأهله ودفنوه في الجانب الشرقيّ من النيل بسرب تحت الجبل الكبير، فقام من بعده في ملك مصر ابنه قفطيم بن قبطيم، وزعم بعض النسابة أن مصر بن حام بن نوح، ويقال له مصرايم، ويقال بل مصريم بن هرمس بن هردوس جدّ الإسكندر، وقيل بل قفط بن حام بن نوح نكح بخت بنت يتاويل بن ترسل بن يافث بن نوح، فولدت له بوقير، وقبط أبا قبط مصر. قال ابن إسحاق: ومن هاهنا قالوا إن مصر بن حام بن نوح، وإنما هو مصر بن هرمس بن هردوس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان، وبه سميت مصر، فهي مقدونية، وقيل القبط من ولد قبط بن مصر بن قفط بن حام بن نوح، وبمصر هذا سميت مصر. ذكر ديانة القبط قبل تنصرهم اعلم أن قبط مصر كانوا في غابر الدهر أهل شرك بالله، يعبدون الكواكب ويقرّبون قرابينهم ويقيمون على أسمائها التماثيل، كما هي أفعال الصابئة. وذكر ابن وصيف شاه: أن عبادة الأصنام أوّل ما عرفت بمصر أيام قفطريم بن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح، وذلك أن إبليس أثار الأصنام التي غرّقها الطوفان وزين للقبط عبادتها، وأن البودشير بن قبطيم أوّل من تكهن وعمل بالسحر، وأن مناوش بن منقاوش أوّل من عبد البقر من أهل مصر. وذكر الموفق أحمد بن أبي القاسم بن خليفة المعروف بابن أبي أصيبعة أنه كان للقبط مذهب مشهور من مذاهب الصابئة، ولهم هياكل على أسماء الكواكب يحج إليها

الناس من أقطار الأرض، وكانت الحكماء والفلاسفة ممن سواهم تتهافت عليهم وتريد التقرّب إليهم، لما كان عندهم من علوم السحر والطلسمات والهندسة والنجوم والطب والحساب والكيمياء، ولهم في ذلك أخبار كثيرة، وكانت لهم لغة يختصون بها، وكانت خطوطهم ثلاثة أصناف: خط العامّة، وخط الخاصة، وهو خط الكهنة المختصر، وخط الملوك. وقال ابن وصيف شاه: كانت كهنة مصر أعظم الكهان قدرا وأجلها علما بالكهانة، وكانت حكماء اليونانيين تصفهم بذلك وتشهد لهم به، فيقولون اختبرنا حكماء مصر بكذا وكذا، وكانوا ينحون بكهانتهم نحو الكواكب ويزعمون أنها هي التي تفيض عليهم العلوم وتخبرهم بالغيوب، وهي التي تعلمهم أسرار الطوالع وصفة الطلاسم، وتدلهم على العلوم المكتومة والأسماء الجليلة المخزونة، فعملوا الطلسمات المشهورة والنواميس الجليلة، وولدوا الأشكال الناطقة وصوّروا الصور المتحرّكة، وبنوا العالي من البنيان، وزبروا علومهم في الحجارة، وعملوا من الطلسمات ما دفعوا به الأعداء عن بلادهم، فحكمهم باهرة، وعجائبهم ظاهرة، وكانت أرض مصر خمسا وثمانين كورة منها: أسفل الأرض خمس وأربعون كورة، ومنها بالصعيد أربعون كورة، وكان في كل كورة رئيس من الكهنة وهم السحرة، وكان الذي يتعبد منهم للكواكب السبعة السيارة سبع سنين يسمونه باهر، والذي يتعبد منهم لها تسعا وأربعين سنة لكلّ كوكب سبع سنين يسمونه قاطر، وهذا يقوم له الملك إجلالا ويجلسه معه إلى جانبه، ولا يتصرّف إلّا برأيه، وتدخل الكهنة ومعهم أصحاب الصنائع فيقفون حذاء القاطر، وكان كلّ كاهن منهم ينفرد بخدمة كوكب من الكواكب السبعة السيارة لا يتعدّاه إلى سواه، ويدعي بعبد ذلك الكوكب فيقال: عبد القمر، عبد عطارد، عبد الزهرة، عبد الشمس، عبد المريخ، عبد المشتري، عبد زحل. فإذا وقفوا جميعا قال القاطر لأحدهم: أين صاحبك اليوم؟ فيقول في برج كذا ودرجة كذا ودقيقة كذا. ثم يقول للآخر كذلك، فيجيبه حتى يأتي على جميعهم، ويعرف أماكن الكواكب من فلك البروج ثم يقول للملك ينبغي أن تعمل اليوم كذا، أو تأكل كذا، أو تجامع في وقت كذا، أو تركب وقت كذا، إلى آخر ما يحتاج إليه، والكاتب قائم بين يديه يكتب ما يقول، ثم يلتفت القاطر إلى أهل الصناعات ويخرجهم إلى دار الحكمة فيضعون أيديهم في الأعمال التي يصلح عملها في ذلك اليوم، ثم يؤرخ ما جرى في ذلك اليوم في صحيفة وتخزن في خزائن الملك، وكان الملك إذا همه أمر جمع الكهان خارج مدينة منف، وقد اصطف الناس لهم بشارع المدينة، ثم يدخل الكهان ركبانا على قدر مراتبهم والطبل بين أيديهم، وما منهم إلّا من أظهر أعجوبة قد عملها، فمنهم من يعلو وجهه نور كهيئة نور الشمس لا يقدر أحد على النظر إليه، ومنهم من على بدنه جواهر مختلفة الألوان قد نسجت على ثوب، ومنهم من يتوشح بحيات عظيمة، ومنهم من يعقد فوقه قبة من نور، إلى غير ذلك من بديع أعمالهم، ويصيرون كذلك إلى حضرة الملك فيخبرهم بما نزل به، فيجيلون رأيهم فيه حتى يتفقوا على ما يصرفونه به،

ذكر دخول قبط مصر في دين النصرانية

وهذا أعزك الله من خبرهم لما كان الملك فيهم، فلما استولت العماليق على ملك مصر وملكتها الفراعنة، ثم تداولتها من بعدهم أجناس أخر، تناقصت علوم القبط شيئا بعد شيء إلى أن تنصروا، فغادروا عوائد أهل الشرك، واتبعوا ما أمروا به من دين النصرانية، كما ستقف عليه تلو هذا إن شاء الله تعالى. ذكر دخول قبط مصر في دين النصرانية اعلم أن النصارى اتباع عيسى نبيّ الله ابن مريم عليه السلام، سموا نصارى، لأنهم ينتسبون إلى قرية الناصرة من جبل الجليل، بالجيم، ويعرف هذا الجبل بجبل كنعان، وهو الآن في زمننا من جملة معاملة صفد، والأصل في تسميتهم نصارى: أنّ عيسى ابن مريم عليه السلام لما ولدته أمّه مريم ابنة عمران ببيت لحم خارج مدينة بيت المقدس، ثم سارت به إلى أرض مصر وسكنتها زمانا، ثم عادت به إلى أرض بني إسرائيل قومها، نزلت قرية الناصرة، فنشأ عيسى بها وقيل له يسوع الناصريّ، فلما بعثه الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل، وكان من شأنه ما ستراه، إلى أن رفعه الله إليه، تفرّق الحواريون، وهم الذين آمنوا به، في أقطار الأرض يدعون الناس إلى دينه، فنسبوا إلى ما نسب إليه نبيهم عيسى ابن مريم، وقيل لهم الناصرية، ثم تلاعب العرب بهذه الكلمة وقالوا نصارى. قال ابن سيده: ونصرى وناصرة ونصورية: قرية بالشام، والنصارى منسوبون إليها، هذا قول أهل اللغة، وهو ضعيف. إلّا أن نادر النسب يسيغه، وأما سيبويه فقال: أما النصارى فذهب الخليل إلى أنه جمع نصري ونصران، كما قالوا ندمان وندامى ولكنهم حذفوا إحدى اليائين كما حذفوا من أثقية وأبدلوا مكانها ألفا. قال: وأما الذي نوجهه نحن عليه فإنه جاء على نصران، لأنه قد تكلم به، فكأنك جمعت وقلت نصارى كما قلت ندامى، فهذا أقيس، والأوّل مذهب، وإنما كان أقيس لأنا لم نسمعهم قالوا نصرى، والتنصر الدخول في دين النصرانية، ونصره جعله كذلك، والأنصر الأقلف، وهو من ذلك، لأنّ النصارى قلف، وفي شرح الإنجيل أن معنى قرية ناصرة الجديدة، والنصرانية التجدّد، والنصرانيّ المجدّد، وقيل نسبوا إلى نصران، وهو من أبنية المبالغة، ومعناه أن هذا الدين في غير عصابة صاحبه، فهو دين من ينصره من أتباعه. وإذا تقرّر هذا فاعلم «أنّ المسيح روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم» «1» (عيسى) وأصل اسمه بالعبرانية التي هي لغة أمّه وآبائها إنما هو ياشوع، وسمته النصارى يسوع، وسماه الله تعالى وهو أصدق القائلين عيسى، ومعنى يسوع في اللغة السريانية المخلّص، قاله في شرح الإنجيل، ونعته بالمسيح، وهو الصدّيق، وقيل لأنه كان لا يمسح بيده صاحب عاهة إلّا برأ، وقيل لأنه كان يمسح رؤوس اليتامى، وقيل

لأنه خرج من بطن أمّه ممسوحا بالدهن، وقيل لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه عند ولادته صونا له من مس الشيطان، وقيل المسيح اسم مشتق من المسح، أي الدهن، لأنّ روح القدس قام بجسد عيسى مقام الدهن الذي كان عند بني إسرائيل يمسح به الملك، ويمسح به الكهنوت، وقيل لأنه مسح بالبركة، وقيل لأنه أمسح الرجلين، ليس لرجليه أخمص، وقيل لأنه يمسح الأرض بسياحته، لا يستوطن مكانا، وقيل هي كلمة عبرانية أصلها ماسيح، فتلاعبت بها العرب وقالت مسيح. وكان من خبره عليه السلام أن مريم ابنة عمران بينما هي في محرابها إذ بشرها الله تعالى بعيسى، فخرجت من بيت المقدس وقد اغتسلت من المحيض فتمثل لها الملك بشرا في صورة يوسف بن يعقوب النجار أحد خدّام القدس، فنفخ في جيبها فسرت النفخة إلى جوفها فحملت بعيسى كما تحمل النساء، بغير ذكر، بل حلت نفخة الملك منها محل اللقاح، ثم وضعت بعد تسعة أشهر وقيل بل وضعت في يوم حملها بقرية بيت لحم من عمل مدينة القدس في يوم الأربعاء خامس عشري كانون الأوّل، وتاسع عشري كيهك سنة تسع عشرة وثلاثمائة للإسكندر، فقدمت رسل ملك فارس في طلبه ومعهم هدية لها فيها ذهب ومرّ ولبان، فطلبه هيرودس ملك اليهود بالقدس ليقتله، وقد أنذر به، فسارت أمه مريم به وعمره سنتان على حمار ومعها يوسف النجار حتى قدموا إلى أرض مصر فسكنوها مدّة أربع سنين، ثم عادوا، وعمر عيسى ست سنين، فنزلت به مريم قرية الناصرة من جبل الجليل فاستوطنتها فنشأ بها عيسى حتى بلغ ثلاثين سنة، فسار هو وابن خالته يحيى بن زكريا عليهما السلام إلى نهر الأردن، فاغتسل عيسى فيه فحلت عليه النبوّة، فمضى إلى البرّية وأقام بها أربعين يوما لا يتناول طعاما ولا شرابا فأوحى الله إليه بأن يدعو بني إسرائيل إلى عبادة الله تعالى، فطاف القرى ودعا الناس إلى الله تعالى، وأبرأ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله، وبكّت «1» اليهود وأمرهم بالزهد في الدنيا والتوبة من المعاصي، فآمن به الحواريون وكانوا قوما صيادين وقيل قصارين وقيل ملاحين وعددهم اثنا عشر رجلا وصدقوا بالإنجيل الذي أنزله الله تعالى عليه، وكذّبه عامّة اليهود وضللوه واتهموه بما هو بريء منه، فكانت له ولهم عدّة مناظرات آلت بهم إلى أن اتفق أحبارهم على قتله، وطرقوه ليلة الجمعة، فقيل أنه رفع عند ذلك، وقيل بل أخذوه وأتوا به إلى بلاطس النبطيّ «2» شحنة القدس من قبل الملك طيباريوس قيصر، وراودوه على قتله وهو يدفعهم عنه حتى غلبوه على رأيه، بأن دينهم اقتضى قتله، فأمكنهم منه، وعندما أدنوه من الخشبة ليصلبوه رفعه الله إليه، وذلك في الساعة السادسة من يوم الجمعة خامس عشر شهر نيسن، وتاسع عشري شهر برمهات، وخامس عشر شهر آذار، وسابع عشر شهر ذي القعدة، وله من العمر ثلاث

وثلاثون سنة وثلاثة أشهر، فصلبوا الذي شبه لهم، وصلبوا معه لصين وسمروهم بمسامير الحديد، واقتسم الجند ثياب المصلوب، فغشيت الأرض ظلمة دامت ثلاث ساعات «1» حتى صار النهار شبه الليل ورؤيت النجوم، وكان مع ذلك هزة وزلزلة، ثم أنزل المصلوب عن الخشبة بكرة يوم السبت ودفن تحت صخرة في قبر جديد، ووكل بالقبر من يحرسه لئلا يأخذ المقبور أصحابه، فزعم النصارى أن المقبور قام من قبره ليلة الأحد سحرا، ودخل عشية ذلك اليوم على الحواريين وحادثهم ووصاهم، ثم بعد الأربعين يوما من قيامه صعد إلى السماء والحواريون يشاهدونه، فاجتمعوا بعد رفعه بعشرة أيام في علية صيون التي يقال لها اليوم صهيون خارج القدس، وظهرت لهم خوارق، فتكلموا بجميع الألسن فآمن بهم فيما يذكر زيادة على ثلاثة آلاف إنسان «2» . فأخذهم اليهود وحبسوهم، فظهرت كرامتهم وفتح الله لهم باب السجن ليلا «3» ، فخرجوا إلى الهيكل وطفقوا يدعون الناس، فهمّ اليهود بقتلهم، وقد آمن بهم نحو الخمسة آلاف إنسان، فلم يتمكنوا من قتلهم، فتفرّق الحواريون في أقطار الأرض يدعون إلى دين المسيح «4» ، فسار بطرس رأس الحواريين ومعه شمعون الصفا إلى أنطاكية ورومية، فاستجاب لهم بشر كثير، وقتل في خامس أبيب، وهو عيد القصرية. وسار أندراوس أخوه إلى نيقية وما حولها، فآمن به كثير، ومات في بزنطية في رابع كيهك، وسار يعقوب بن زبدي أخو يوحنا الإنجيليّ إلى بلد ابدينية، فتبعه جماعة وقتل في سابع عشر برمودة، وسار يوحنا الإنجيليّ إلى آسيا وأفسيس وكتب انجيله باليونانيّ بعد ما كتب متى ومرقص ولوقا أناجيلهم، فوجدهم قد قصروا في أمور فتكلم عليها، وكان ذلك بعد رفع المسيح بثلاثين سنة، وكتب ثلاث رسائل ومات، وقد أناف على مائة سنة، وسار فيلبس إلى قيسارية وما حولها وقتل بها في ثامن هاتور، وقد اتبعه جماعات من الناس. وسار برتولوماوس إلى أرمينية وبلاد البربر وواحات مصر، فآمن به كثير، وقتل وسار توما إلى الهند فقتل هناك. وسار متى العشار إلى فلسطين وصور وصيدا ومدينة بصرى وكتب إنجيله بالعبرانيّ بعد رفع المسيح بتسع سنين، ونقله يوحنا إلى اللغة الرومية، وقتل متى بقرطاجنة في ثامن عشر بابه بعد ما استجاب له بشر كثير. وسار يعقوب بن حلفا إلى بلاد الهند ورجع إلى القدس وقتل في عاشر امشير. وسار يهوذا بن يعقوب من أنطاكية إلى الجزيرة فآمن به كثير من الناس ومات في ثاني أبيب. وسار شمعون إلى سميساط وحلب ومنبج وبزنطية وقتل في سابع أبيب. وسارميتاس إلى بلاد الشرق وقتل في ثامن عشر

برمهات. وسار بولص الطرسوسيّ إلى دمشق وبلاد الروم ورومية فقتل في خامس أبيب. وتفرّق أيضا سبعون رسولا أخر في البلاد، فآمن بهم الخلائق، ومن هؤلاء السبعين: مرقص الإنجيليّ، وكان اسمه أوّلا يوحنا، فعرف ثلاثة ألسن، الفرنجيّ والعبرانيّ واليونانيّ، ومضى إلى بطرس برومية وصحبه وكتب الإنجيل عنده بالفرنجية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة، ودعا الناس برومية ومصر والحبشة والنوبة، وأقام حنانيا أسقفا على الإسكندرية، وخرج إلى برقة فكثرت النصارى في أيامه، وقتل في ثاني عيد الفسح بالإسكندرية. ومن السبعين أيضا لوقا الإنجيليّ الطبيب، تلميذ بولص، كتب الإنجيل باليونانية عن بولص بالإسكندرية بعد رفع المسيح بعشرين سنة، وقيل باثنتين وعشرين سنة، ولما فرّ بطرس رأس الحواريين من حبس رومية ونزل بأنطاكية أقام بها داريوس بطركا، وأنطاكية أحد الكراسي الأربعة التي للنصارى وهي: رومية والإسكندرية والقدس وأنطاكية، فأقام داريوس بطرك أنطاكية سبعا وعشرين سنة وهو أوّل بطاركتها، وتوارث من بعده البطاركة بها البطركية واحدا بعد واحد. ودعا شمعون الصفا برومية خمسا وعشرين سنة، فآمنت به بطركية «1» وسارت إلى القدس، وكشفت عن خشبات الصليب وسلمتها إلى يعقوب بن يوسف الأسقف وبنت هناك كنيسة وعادت إلى رومية، وقد اشتدّت على دين النصرانية، فآمن معها عدّة من أهلها. واجتمع الرسل بمدينة رومية ووضعوا القوانين وأرسلوها على يد قليموس تلميذ بطرس، فكتبوا فيها عدد الكتب التي يجب قبولها من العتيقة والجديدة، فأمّا العتيقة فالتوراة، وكتاب يوشع بن نون، وكتاب القضاة، وكتاب راغون، وكتاب يهوديت، وسير الملوك، وسفر بنيامين، وكتب المقانين، وكتاب عزرة، وكتاب أستير، وقصة هامان، وكتاب أيوب، وكتاب مزامير داود، وكتب سليمان بن داود، وكتب الأنبياء وهي ستة عشر كتابا، وكتاب يوشع بن شيراخ، وأما الكتب الحديثة: فالأناجيل الأربعة، وكتاب القليتليقون، وكتاب بولص، وكتاب الأبركسيس، وهو قصص الحواريين، وكتاب قليموس، وفيه ما أمر به الحواريون وما نهوا عنه. ولما قتل الملك نيرون قيصر بطرس رأس الحواريين برومية، أقيم من بعده أريوس بطرك رومية، وهو أوّل بطرك صار على رومية، فأقام في البطركية اثنتي عشرة سنة، وقام من بعده البطاركة بها واحدا بعد واحد إلى يومنا هذا الذي نحن فيه. ولما قتل يعقوب اسقف القدس على يد اليهود، هدموا بعده البيعة وأخذوا خشبة الصليب والخشبتين معها ودفنوها وألقوا على موضعها ترابا كثيرا، فصار كوما عظيما حتى أخرجتها هيلانة أم قسطنطين كما ستراه قريبا إن شاء الله تعالى. وأقيم بعد قتل يعقوب

سمعان ابن عمه أسقف القدس، فمكث اثنتين وأربعين سنة أسقفا. ومات، فتداول الأساقفة بعده الأسقفية بالقدس واحدا بعد آخر. ولما أقام مرقص حناينا ويقال أناينو بطرك الإسكندرية، جعل معه اثني عشر قسا وأمرهم إذا مات البطرك أن يجعلوا عوضه واحدا منهم، ويقيموا بدل ذلك القس واحدا من النصارى حتى لا يزالوا أبدا اثني عشر قسا، فلم تزل البطاركة تعمل من القسوس إلى أن اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر كما ستراه إن شاء الله تعالى، وكان بطرك الإسكندرية يقال له البابا من عهد حنانيا هذا أوّل بطاركة الإسكندرية إلى أن أقيم ديمتريوس، وهو الحادي عشر من بطاركة الإسكندرية، ولم يكن بأرض مصر أساقفة، فنصب الأساقفة بها وكثروا، فغزاها في بطركيته هرقل، وصار الأساقفة يسمون البطرك الأب، والقسوس وسائر النصارى يسمون الأسقف الأب، ويجعلون لفظة البابا تختص ببطرك الإسكندرية، ومعناها أبو الآباء، ثم انتقل هذا الاسم عن كرسي الإسكندرية إلى كرسي رومية، من أجل أنه كرسي بطرس رأس الحواريين، فصار بطرك رومية يقال له البابا، واستمرّ على ذلك إلى زمننا الذي نحن فيه، وأقام أناينو وهو حناينا في بطركية الإسكندرية اثنتين وعشرين سنة ومات في عشري هاتور، سنة سبع وثمانين لظهور المسيح، فأقيم بعده مينيو، فأقام اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر ومات، وفي أثناء ذلك ثار اليهود على النصارى وأخرجوهم من القدس، فعبروا الأردن وسكنوا تلك الأماكن، فكان بعد هذا بقليل خراب القدس وجلاية اليهود وقتلهم على يد طيطش. ويقال طيطوس، بعد رفع المسيح بنحو أربع وأربعين سنة، فكثرت النصارى في أيام بطركية مينيو وعاد كثير منهم إلى مدينة القدس بعد تخريب طيطش لها وبنوا بها كنيسة وأقاموا عليها سمعان أسقفا، ثم أقيم بعد مينيو في الإسكندرية في البطركية كرتيانو، وفي أيام الملك انديانوس قيصر أصاب النصارى منه بلاء كثير، وقتل منهم جماعة كثيرة، واستعبد باقيهم، فنزل بهم بلاء لا يوصف في العبودية حتى رحمهم الوزراء وأكابر الروم وشفعوا فيهم، فمنّ عليهم قيصر وأعتقهم، ومات كرتيانو بطرك الإسكندرية في حادي عشر برمودة بعد ما دبر الكرسيّ إحدى عشرة سنة، وكان حميد السيرة، فقدم بعده ايريمو، فأقام اثنتي عشرة سنة، ومات في ثالث مسرى، واشتدّ الأمر على النصارى في أيام الملك أريدويانوس وقتل منهم خلائق لا يحصى عددهم، وقدم مصر فأفنى من بها من النصارى، وخرّب ما بني في مدينة القدس من كنيسة النصارى ومنعهم من التردّد إليها، وأنزل عوضهم بالقدس اليونانيين، وسمى القدس إيليا، فلم يتجاسر نصراني أن يدنو من القدس، وأقيم بعد موت إيريمو بطرك الإسكندرية بسطس، فأقام إحدى عشرة سنة، ومات في ثاني عشر بؤنة، فخلف بعده أرمانيون فأقام عشر سنين وأربعة أشهر ومات في عاشر بابة، فأقيم بعده موقيانو بطرك الإسكندرية تسع سنين وستة أشهر ومات في سادس طوبه، فقدم بعده على الإسكندرية كلوتيانو فأقام أربع عشرة سنة ومات في تاسع أبيب، وفي أيامه اشتدّ الملك أوليانوس قيصر

على النصارى وقتل منهم خلقا كثيرا، وقدّم على كرسيّ الإسكندرية بعد كلوتيانو غرنبو بطركا، فأقام اثنتي عشرة سنة ومات في خامس أمشير، وفي أيام بطركيته اتفق رأي البطاركة بجميع الأمصار على حساب فصح النصارى وصومهم، ورتبوا كيف يستخرج، ووضعوا حساب الأبقطي، وبه يستخرجون معرفة وقت صومهم وفصحهم، واستمرّ الأمر على ما رتبوه فيما بعد، وكانوا قبل ذلك يصومون بعد الغطاس أربعين يوما كما صام المسيح عليه السلام، ويفطرون. وفي عيد الفسح يعملون الفسح مع اليهود فنقل هؤلاء البطاركة الصوم وأوصلوه بعيد الفسح، لأنّ عيد الفسح كانت فيه قيامة المسيح من الأموات بزعمهم، وكان الحواريون قد أمروا أن لا يغير عن وقته وأن يعملوه كلّ سنة في ذلك الوقت، ثم أقيم بكرسي الإسكندرية بعد غرنبو في البطركية بوليانوس، فأقام عشر سنين ومات في ثامن برمهات، فاستخلف بعده ديمتريوس، فأقام بعده في البطركية ثلاثا وثلاثين سنة ومات، وكان فلاحا أميّا وله زوجة ذكر عنه أنه لم يجامعها قط، وفي أيامه أثار الملك سوريانوس قيصر على النصارى بلاء كبيرا في جميع مملكته، وقتل منهم خلقا كثيرا، وقدم مصر وقتل جميع من فيها من النصارى وهدم كنائسهم، وبني بالإسكندرية هكيلا لأصنامه، ثم أقيم بعده في بطركية الإسكندرية باركلا، فأقام ست عشرة سنة ومات في ثامن كيهك، فلقي النصارى من الملك مكسيموس قيصر شدّة عظيمة، وقتل منهم خلقا كثيرا، فلما ملك فيلبش قيصر، أكرم النصارى وقدّم على بطركية الإسكندرية ديوسيوس، فأقام تسع عشرة سنة ومات في ثالث توت، وفي أيامه كان الراهب انطونيوس المصريّ، وهو أوّل من ابتدأ بلبس الصوف، وابتدأ بعمارة الديارات في البراري، وأنزل بها الرهبان، ولقي النصارى من الملك داقيوس قيصر شدّة، فإنه أمرهم أن يسجدوا لأصنامه، فأبوا من السجود لها فقتلهم أبرح قتلة، وفرّ منه الفتية أصحاب الكهف من مدينة أفسس واختفوا في مغارة في جبل شرقيّ المدينة، وناموا فضرب الله على آذانهم فلم يزالوا نائمين ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، فقام من بعده بالإسكندرية مكسيموس وأقام بطركا اثنتي عشرة سنة ومات في رابع عشر برمودة، فأقيم بعده تؤوبا بطركا مدّة سبع سنين وتسعة أشهر ومات، وكانت النصارى قبله تصلّي بالإسكندرية خفية من الروم خوفا من القتل، فلاطف تؤوبا الروم وأهدى إليهم تحفا جليلة حتى بنى كنيسة مريم بالإسكندرية، فصلى بها النصارى جهرا، واشتدّ الأمر على النصارى في أيام الملك طيباريوس قيصر، وقتل منهم خلقا كثيرا، فلما كانت أيام دقلطيانوس قيصر خالف عليه أهل مصر والإسكندرية، فقتل منهم خلقا كثيرا، وكتب بغلق كنائس النصارى، وأمر بعبادة الأصنام، وقتل من امتنع منها، فارتدّ خلائق كثيرة جدّا، وأقام في البطركية بعد تؤوبا بطرس، فأقام إحدى عشرة سنة وقتل في الإسكندرية بالسيف، وقتل معه امرأته وابنتاه لامتناعهم من السجود للأصنام، فقام بعده تلميذه ارشلاوش، فأقام ستة أشهر ومات، وبدقلطيانوس هذا وقتله لنصارى مصر يؤرخ قبط مصر إلى يومنا هذا، كما قد ذكرناه في

تاريخ القبط عند ذكر التواريخ من هذا الكتاب، فراجعه. ثم قام من بعده مكسيمانوس قيصر، فاشتدّ على النصارى وقتل منهم خلقا كثيرا، حتى كانت القتلى منهم تحمل على العجل وترمى في البحر، ثم قام بعد أرشلاوش في بطركية الإسكندرية اسكندروس تلميذ بطرس الشهيد، فأقام ثلاثا وعشرين سنة ومات في ثاني عشري برمودة، وفي بطركيته كان مجمع النصارى بمدينة نيقية، وفي أيامه كتب النصارى وغيرهم من أهل رومية إلى قسطنطين، وكان على مدينة بزنطية يحثونه على أن ينقذهم من جور مكسيمانوس، وشكوا إليه عتوّه، فأجمع على المسير لذلك، وكانت أمّه هيلاني من أهل قرى مدينة الرها «1» قد تنصرت على يد أسقف الرها، وتعلمت الكتب، فلما مرّ بقريتها قسطس صاحب شرطة دقلطيانوس رآها فأعجبته فتزوّجها وحملها إلى بزنطية، مدينته، فولدت له قسطنطين، وكان جميلا، فأنذر دقلطيانوس منجموه بأن هذا الغلام قسطنطين سيملك الروم ويبدّل دينهم، فأراد قتله، ففرّ منه إلى الرها وتعلم بها الحكمة اليونانية حتى مات دقلطيانوس، فعاد إلى بزنطية فسلمها له أبوه قسطس ومات، فقام بأمرها بعد أبيه إلى أن استدعاه أهل رومية، فأخذ يدبر في مسيره، فرأى في منامه كواكب في السماء على هيئة الصليب، وصوت من السماء يقول له احمل هذه العلامة تنتصر على عدوّك، فقص رؤياه على أعوانه وعمل شكل الصليب على أعلامه وبنوده وسار لحرب مكسيمانوس برومية، فبرز إليه وحاربه فانتصر قسطنطين عليه وملك رومية وتحوّل منها فجعل دار ملكه قسطنطينية، فكان هذا ابتداء رفع الصليب وظهوره في الناس، فاتخذه النصارى من حينئذ وعظموه حتى عبدوه، وأكرم قسطنطين النصارى ودخل في دينهم بمدينة نيقومديا في السنة الثانية عشرة من ملكه على الروم، وأمر ببناء الكنائس في جميع ممالكه وكسر الأصنام، وهدم بيوتها، وعمل المجمع بمدينة نيقية، وسببه أن الإسكندروس بطرك الإسكندرية منع آريوس من دخول الكنيسة وحرمه لمقاتلته، ونقل عن بطرس الشهيد بطرك إسكندرية أنه قال عن آريوس أنّ إيمانه فاسد، وكتب بذلك إلى جميع البطاركة، فمضى آريوس إلى الملك قسطنطين ومعه أسقفان، فاستغاثوا به وشكوا الإسكندروس فأمر بإحضاره من الإسكندرية، فحضر هو وآريوس وجمع له الأعيان من النصارى ليناظروه، فقال آريوس كان الأب إذ لم يكن الابن، ثم أحدث الابن فصار كلمة له، فهو محدث مخلوق فوّض إليه الأب كلّ شيء، فخلق الابن المسمى بالكلمة كلّ شيء من السماوات والأرض وما فيهما، فكان هو الخالق بما أعطاه الأب، ثم إن تلك الكلمة تجسدت من مريم وروح القدس فصار ذلك مسيحا، فإذا المسيح معنيان كلمة وجسد، وهما جميعا مخلوقان. فقال الإسكندروس أيما أوجب، عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا؟ فقال آريوس بل عبادة من خلقنا أوجب. فقال الإسكندروس: فإن كان الابن خلقنا كما وصفت وهو مخلوق فعبادته أوجب من عبادة الأب الذي ليس بمخلوق، بل تكون عبادة

الخالق كفرا وعبادة المخلوق إيمانا، وهذا أقبح القبيح، فاستحسن الملك قسطنطين كلام اسكندروس وأمره أن يحرم آريوس فحرمه. وسأل اسكندروس الملك أن يحضر الأساقفة، فأمر بهم فأتوه من جميع ممالكه، واجتمعوا بعد ستة أشهر بمدينة نيقية وعدّتهم ألفان وثلاثمائة وأربعون أسقفا مختلفون في المسيح، فمنهم من يقول الابن من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة أخرى فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية عنها، وهذه مقالة سيليوس الصعيديّ ومن تبعه، ومنهم من قال إن مريم لم تحمل بالمسيح تسعة أشهر بل مرّ بأحشائها كمرور الماء بالميزاب، وهذا قول إليان ومن تبعه، ومنهم من قال المسيح بشر مخلوق وأن ابتداء الابن من مريم، ثم إنه اصطفى فصحبته النعمة الإلهية بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله تعالى عن ذلك، ومع ذلك فالله واحد قيوم وأنكر هؤلاء الكلمة والروح فلم يؤمنوا بهما، وهذا قول بولص السميساطيّ بطرك أنطاكية وأصحابه، ومنهم من قال الآلهة ثلاثة صالح وطالح وعدل بينهما، وهذا قول مرقيون وأتباعه، ومنهم من قال المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهذا قول المرائمة من فرق النصارى، ومنهم من قال بل الله خلق الابن وهو الكلمة في الأزل كما خلق الملائكة روحا طاهرة مقدّسة بسيطة مجرّدة عن المادّة، ثم خلق المسيح في آخر الزمان من أحشاء مريم البتول الطاهرة، فاتحد الابن المخلوق في الأزل بإنسان المسيح فصارا واحدا، ومنهم من قال الابن مولود من الأب قبل كل الدهور، غير مخلوق، وهو جوهر من جوهره، ونور من نوره، وأن الابن اتحد بالإنسان المأخوذ من مريم فصارا واحدا وهو المسيح، وهذا قول الثلاثمائة وثمانية عشر، فتحير قسطنطين في اختلافهم وكثر تعجبه من ذلك وأمر بهم فأنزلوا في أماكن وأجرى لهم الأرزاق وأمرهم أن يتناظروا حتى يتبين له صوابهم من خطأهم، فثبت الثلاثمائة وثمانية عشر على قولهم المذكور واختلف باقيهم فمال قسطنطين إلى قول الأكثر وأعرض عما سواه وأقبل على الثلاثمائة وأمر لهم بكراسي وأجلسهم عليها، ودفع إليهم سيفه وخاتمه، وبسط أيديهم في جميع مملكته، فباركوا عليه ووضعوا له كتاب قوانين الملوك وقوانين الكنيسة، وفيه ما يتعلق بالمحاكمات والمعاملات والمناكحات، وكتبوا بذلك إلى سائر المماليك، وكان رئيس هذا المجمع الإسكندروس بطرك الإسكندرية، واسطارس بطرك أنطاكية، ومقاريوس أسقف القدس، ووجه سلطوس بطرك رومية بقسيسين اتفقا معهم على حرمان آريوس فحرموه ونفوه، ووضع الثلاثمائة وثمانية عشر الأمانة المشهورة عندهم، وأوجبوا أن يكون الصوم متصلا بعيد الفسح على ما رتبه البطاركة في أيام الملك أوراليانوس قيصر كما تقدّم، ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة، وكان الأساقفة قبل ذلك إذا كان مع أحدهم زوجة لا يمنع منها إذا عمل أسقفا بخلاف البطرك، فإنه لا يكون له امرأة البتة، وانصرفوا من مجلس قسطنطين بكرامة جليلة، والإسكندروس هذا هو الذي كسر الصنم النحاس الذي كان في هيكل زحل بالإسكندرية، وكانوا يعبدونه ويجعلون له عيدا في ثاني عشر هتور، ويذبحون له الذبائح

الكثيرة، فأراد الإسكندروس كسر هذا الصنم فمنعه أهل الإسكندرية، فاحتال عليهم وتلطف في حيلته إلى أن قرب العيد، فجمع الناس ووعظهم وقبح عندهم عبادة الصنم وحثهم على تركه، وأن يعمل هذا العيد لميكائيل رئيس الملائكة الذي يشفع فيهم عند الإله، فإن ذلك خير من عمل العيد للصنم، فلا يتغير عمل العيد الذي جرت عادة أهل البلد بعمله، ولا تبطل ذبائحهم فيه، فرضي الناس بهذا ووافقوه على كسر الصنم، فكسره وأحرقه وعمل بيته كنيسة على اسم ميكائيل، فلم تزل هذه الكنيسة بالإسكندرية إلى أن حرّقها جيوش الإمام المعز لدين الله أبي تميم معدّ، لما قدموا في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة واستمرّ عيد ميكائيل عند النصارى بديار مصر باقيا يعمل في كلّ سنة. وفي السنة الثانية والعشرين من ملك قسطنطين سارت أمّه هيلاني إلى القدس وبنت به كنائس للنصارى، فدلها مقاريوس الأسقف على الصليب وعرّفها ما عملته اليهود، فعاقبت كهنة اليهود حتى دلوها على الموضع، فحفرته فإذا قبر وثلاث خشبات، زعموا أنهم لم يعرفوا الصليب المطلوب من الثلاث خشبات إلّا بأن وضعت كل واحدة منها على ميت قد بلي، فقام حيا عندما وضعت عليه خشبة منها، فعملوا لذلك عيدا مدّة ثلاثة أيام عرف عندهم بعيد الصليب، ومن حينئذ عبد النصارى الصليب، وعملت له هيلاني غلافا من ذهب وبنت كنيسة القيامة التي تعرف اليوم بكنيسة قمامة، وأقامت مقاريوس الأسقف على بناء بقية الكنائس، وعادت إلى بلادها، فكانت مدّة ما بين ولادة المسيح وظهور الصليب ثلاثمائة وثمان وعشرين سنة، ثم قام في بطركية الإسكندرية بعد اسكندروس تلميذه ايناسيوس الرسوليّ، فأقام ستا وأربعين سنة ومات بعد ما ابتلى بشدائد، وغاب عن كرسيه ثلاث مرّات، وفي أيامه جرت مناظرات طويلة مع أوسانيوس للأسقف آلت إلى ضربه وفراره، فإنه تعصب لآريوس وقال: إنه لم يقل إن المسيح خلق الأشياء، وإنما قال به خلق كل شيء لأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأراض، وإنما خلق الله تعالى جميع الأشياء بكلمته، فالأشياء به كوّنت لا أنه كوّنها، وإنما الثلاثمائة وثمانية عشر تعدّوا عليه، وفي أيامه تنصر جماعة من اليهود وطعن بعضهم في التوراة التي بأيدي اليهود، وأنهم نقصوا منها، وأن الصحيحة هي التي فسرها السبعون، فأمر قسطنطين اليهود بإحضارها، وعاقبهم على ذلك حتى دلوه على موضعها بمصر، فكتب بإحضارها فحملت إليه، فإذا بينها وبين توراة اليهود نقص ألف وثلاثمائة وتسع وستين سنة، زعموا أنهم نقصوها من مواليد من ذكر فيها لأجل المسيح، وفي أيامه بعثت هيلاني بمال عظيم إلى مدينة الرها فبني به كنائسها العظيمة، وأمر قسطنطين بإخراج اليهود من القدس وألزمهم بالدخول في دين النصرانية، ومن امتنع منهم قتل، فتنصر كثير منهم وامتنع أكثرهم فقتلوا، ثم امتحن من تنصر منهم بأن جمعهم يوم الفسح في الكنيسة وأمرهم بأكل لحم الخنزير، فأبى أكثرهم أن يأكل منه، فقتل منهم في ذلك اليوم خلائق كثيرة جدّا.

ولما قام قسطنطين بن قسطنطين في الملك بعد أبيه، غلبت مقالة آريوس على القسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية، وصار أكثر أهل الإسكندرية وأرض مصر آريوسيين ومنانيين، واستولوا على ما بها من الكنائس، ومال الملك إلى رأيهم، وحمل الناس عليه، ثم رجع عنه وزعم ابريس أسقف القدس أنه ظهر من السماء على القبر الذي بكنيسة القيامة شبه صليب من نور في يوم عيد العنصرة، لعشرة أيام من شهر أيار في الساعة الثالثة من النهار، حتى غلب نوره على نور الشمس، ورآه جميع أهل القدس عيانا، فأقام فوق القبر عدّة ساعات والناس تشاهده، فآمن يومئذ من اليهود وغيرهم عدّة آلاف كثيرة. ثم لما ملك موليهانوس ابن عم قسطنطين اشتدّت نكايته للنصارى وقتل منهم خلقا كثيرا، ومنعهم من النظر في شيء من الكتب، وأخذ أواني الكنائس والديارات، ونصب مائدة كبيرة عليها أطعمة مما ذبحه لأصنامه، ونادى من أراد المال فليضع البخور على النار، وليأكل من ذبائح الحنفاء، ويأخذ ما يريد من المال، فامتنع كثير من الروم وقالوا نحن نصارى، فقتل منهم خلائق ومحا الصليب من أعلامه وبنوده، وفي أيامه سكن القدّيس أريانوس برّية الأردن وبني بها الديارات، وهو أوّل من سكن برّية الأردن من النصارى. فلما ملك يوسيانوس على الروم وكان متنصرا، عاد كل من كان فرّ من الأساقفة إلى كرسيه، وكتب إلى أبناسيوس بطرك الإسكندرية أن يشرح له الأمانة المستقيمة، فجمع الأساقفة وكتبوا له أن يلزم أمانة الثلاثمائة وثمانية عشر. فثار أهل الإسكندرية على إيناسيوس ليقتلوه، ففرّ. وأقاموا بدله لوقيوس، وكان آريوسيا، فاجتمع مع الأساقفة بعد خمسة أشهر وحرموه ونفوه، وأعادوا ايناسيوس إلى كرسيه، فأقام بطركا إلى أن مات، فخلفه بطرس ثم وثب الآريسيون عليه بعد سنتين ففرّ منهم وأعادوا لوقيوس، فأقام بطركا ثلاث سنين، ووثب عليه أعداؤه ففرّ منهم، فردّوا بطرس في العشرين من أمشير، فأقام سنة. وقدم في أيام واليس ملك الروم آريوس أسقف أنطاكية إلى الإسكندرية بإذن الملك، وأخرج منها جماعة من الروم، وحبس بطرس بطركها ونصب بدله آريوس السميساطيّ، ففرّ بطرس من الحبس إلى رومية واستجار ببطركها، وكان واليس آريوسيا، فسار إلى زيارة كنيسة مارتوما بمدينة الرها ونفى أسقفها وجماعة معه إلى جزيرة رودس، ونفى سائر الأساقفة لمخالفتهم لرأيه ما عدا اثنين، وأقام في بطركية الإسكندرية طيماتاوس، فأقام سبع سنين ومات. وفي أيامه كان المجمع الثاني من مجامع النصارى بقسطنطينية في سنة اثنتي عشرة ومائة لدقلطيانوس، فاجتمع مائة وخمسون أسقفا وحرموا مقدينون عدوّ روح القدس، وكلّ من قال بقوله. وسبب ذلك أنه قال أنّ روح القدس مخلوق، وحرموا معه غير واحد لعقائد شنيعة تظاهروا بها في المسيح، وزاد الأساقفة في الأمانة التي رتبها الثلاثمائة وثمانية عشر: ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب، قلت تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا، وحرّموا أن يزاد فيها بعد ذلك شيء أو ينقص منها شيء، وكان هذا المجمع بعد مجمع نيقية بثمان وخمسين سنة، وفي

أيامه بنيت عدّة كنائس بالإسكندرية، واستتيب جماعة كثيرة من مقالة آريوس، وفي أيامه أطلق للأساقفة والرهبان أكل اللحم يوم الفسح ليخالفوا الطائفة المنانية، فإنهم كانوا يحرّمون أكل اللحم مطلقا، وردّ الملك أغراديانوس كلّ من نفاه واليس من الأساقفة، وأمر أن يلزم كلّ واحد دينه ما خلا المنانية، ثم أقيم بكرسي الإسكندرية تاوفيلا، فأقام سبعا وعشرين سنة ومات في ثامن عشر بابه، وفي أيامه ظهر الفتية أهل الكهف، وكان تاوداسيوس إذ ذاك ملكا على الروم، فبنى عليهم كنيسة وجعل لهم عيدا في كل سنة، واشتدّ الملك تاوداسيوس على الأريسيين وضيّق عليهم، وأمر فأخذت منهم كنائس النصارى بعد ما حكموها نحو أربعين سنة، وأسقط من جيشه من كان آريوسيا، وطرد من كان في ديوانه وخدمه منهم، وقتل من الحنفاء كثيرا، وهدم بيوت الأصنام بكلّ موضع، وفي أيامه بنيت كنيسة مريم بالقدس، وفي أيام الملك ارغاديوس بنى دير القصر المعروف الآن بدير البغل في جبل المقطم شرقيّ طرا خارج مدينة فسطاط مصر. ثم أقيم في بطركية الإسكندرية كرلص، فأقام اثنتين وثلاثين سنة ومات في ثالث أبيب، وهو أوّل من أقام القومة في كنائس الإسكندرية وأرض مصر. وفي أيامه كان المجمع الثالث من مجامع النصارى بسبب نسطورس بطرك قسطنطين، فإنه منع أن تكون مريم أمّ عيسى وقال: إنما ولدت مريم إنسانا اتحد بمشيئة الإله، يعني عيسى، فصار الاتحاد بالمشيئة خاصة لا بالذات، وأن إطلاق الإله على عيسى ليس هو بالحقيقة بل بالموهبة والكرامة، وقال: إن المسيح حلّ فيه الابن الأزليّ وإني أعبده لأنّ الإله حلّ فيه، وإنه جوهران وأقنومان ومشيئة واحدة، وقال في خطبته يوم الميلاد: أن مريم ولدت إنسانا، وأنا لا أعتقد في ابن شهرين وثلاثة الإلهية، ولا أسجد له سجودي للإله، وكان هذا هو اعتقاد تادروس وديوادارس الأسقفين، وكان من قولهما أن المولود من مريم هو المسيح، والمولود من الأب هو الابن الأزليّ، وأنه حلّ في المسيح فسمي ابن الله بالموهبة والكرامة، وأن الاتحاد بالمشيئة والإرادة، وأثبتوا لله تعالى عن قولهم ولدين، أحدهما بالجوهر والآخر بالنعمة، فلما بلغ كرلص بطرك الإسكندرية مقالة نسطورس كتب إليه يرجعه عنها فلم يرجع، فكتب إلى أكليمس بطرك رومية، وإلى يوحنا بطرك أنطاكية، وإلى يوناليوس أسقف القدس يعرّفهم بذلك، فكتبوا بأجمعهم إلى نسطورس ليرجع عن مقالته فلم يرجع، فتواعد البطاركة على الاجتماع بمدينة أفسس، فاجتمع بها مائتا أسقف، ولم يحضر يوحنا بطرك أنطاكية، وامتنع نسطورس من المجيء إليهم بعد ما كرّروا الإرسال في طلبه غير مرّة، فنظروا في مقالته وحرموه ونفوه، فحضر بعد ذلك يوحنا فعز عليه فصل الأمر قبل قدومه وانتصر لنسطورس وقال قد حرموه بغير حق، وتفرّقوا من أفسس على شرّ، ثم اصطلحوا وكتب المشرقيون صحيفة بأمانتهم وبحرمان نسطورس، وبعثوا بها إلى كرلص فقبلها وكتب إليهم بأن أمانته على ما كتبوا، فكان بين المجمع الثاني وبين هذا المجمع خمسون، وقيل خمس وخمسون سنة، وأما نسطورس فإنه نفي إلى صعيد مصر،

فنزل مدينة اخميم وأقام بها سبع سنين ومات، فدفن بها، وظهرت مقالته فقبلها برصوما أسقف نصيبين، ودان بها نصارى أرض فارس والعراق والموصل والجزيرة إلى الفرات، وعرفوا إلى اليوم بالنسطورية. ثم قدّم تاوداسيوس ملك الروم في الثانية من ملكه ديسقورس بطركا بالإسكندرية، فظهر في أيامه مذهب أوطاخي، أحد القنوميين بالقسطنطينية، وزعم أن جسد المسيح لطيف غير مساو لأجسادنا، وأن الابن لم يأخذ من مريم شيئا، فاجتمع عليه مائة وثلاثون أسقفا وحرموه، واجتمع بالإسكندرية كثير من اليهود في يوم الفسح وصلبوا صنما على مثال المسيح وعبثوا به، فثار بينهم وبين النصارى شرّ قتل فيه بين الفريقين خلق كثير، فبعث إليهم ملك الروم جيشا قتل أكثر يهود الإسكندرية، وكان المجمع الرابع من مجامع النصارى بمدينة خلقدونية، وسببه أن ديسقورس بطرك الإسكندرية قال أن المسيح جوهر من جوهرين، وقنوم من قنومين، وطبيعة من طبيعتين، ومشيئة من مشيئتين، وكان رأي مرقيانوس ملك الروم أنه جسد، وأهل مملكته أنه جوهران وطبيعتان ومشيئتان وقنوم واحد، فلما رأى الأساقفة أن هذا رأي الملك خافوه فوافقوه على رأيه ما خلا ديسقورس وستة أساقفة، فإنهم لم يوافقوا الملك، وكتب من عداهم من الأساقفة خطوطهم بما اتفقوا عليه، فبعث ديسقورس يطلب منهم الكتاب ليكتب فيه، فلما وصل إليه كتابهم كتب فيه أمانته هو، وحرمهم وكل من يخرج عنها، فغضب الملك مرقيانوس وهمّ بقتله، فأشير عليه بإحضاره ومناظرته، فأمر به فحضر وحضر ستمائة وأربعة وثلاثون أسقفا، فأشار الأساقفة والبطاركة على ديسقورس بموافقة رأي الملك، واستمراره على رياسته، فدعا للملك، وقال لهم: الملك لا يلزمه البحث في هذه الأمور الدقيقة، بل ينبغي له أن يشتغل بأمور مملكته وتدبيرها، ويدع الكهنة يبحثون عن الأمانة المستقيمة، فإنهم يعرفون الكتب، ولا يكون له هوى مع أحد، ويتبع الحق، فقالت بلخارية زوجة الملك مرقيانوس وكانت جالسة بإزائه، ياديسقورس قد كان في زمان أمي إنسان قويّ الرأس مثلك، وحرموه ونفوه عن كرسيه، تعني يوحنا فم الذهب بطرك قسطنطينية، فقال لها قد عملت ما جرى لأمّك وكيف ابتليت بالمرض الذي تعرفينه إلى أن مضت إلى جسد يوحنا فم الذهب واستغفرت فعوفيت، فحنقت من قوله ولكمته فانقلع له ضرسان، وتناولته أيدي الرجال فنتفوا أكثر لحيته، وأمر الملك بحرمانه ونفيه عن كرسيه، فاجتمعوا عليه وحرموه ونفوه، وأقيم عوضه برطاوس، ومن هذا المجمع افترق النصارى وصاروا ملكية على مذهب مرقيانوس الملك، ويعقوبية على رأي ديسقورس، وذلك في سنة ثلاث وتسعين ومائة لدقلطيانوس، وكتب مرقيانوس إلى جميع مملكته أن كل من لا يقول بقوله يقتل، فكان بين المجمع الثالث وبين هذا المجمع إحدى وعشرون سنة، وأما ديسقورس فإنه أخذ ضرسيه وشعر لحيته وأرسلها إلى الإسكندرية وقال: هذه ثمرة تعبي على الأمانة، فتبعه أهل إسكندرية ومصر، وتوجه في

نفيه فعبر على القدس وفلسطين وعرّفهم مقالته فتبعوه، وقالوا بقوله، وقدّم عدّة أساقفة يعقوبية، ومات وهو منفيّ في رابع توت، فكانت مدّة بطركيته أربع عشرة سنة، وبقي كرسيّ المملكة بغير بطرك مدّة مملكة مرقيانوس، وقيل بل قدّم برطاوس، وقد اختلف في تسمية اليعقوبية بهذا، فقيل إن ديسقورس كان يسمي قبل بطركية يعقوب، وأنه كان يكتب وهو منفيّ إلى أصحابه بأن يثبتوا على أمانة المسكين المنفيّ يعقوب، وقيل بل كان له تلميذ اسمه يعقوب، وكان يرسله وهو منفيّ إلى أصحابه فنسبوا إليه، وقيل بل كان يعقوب تلميذ ساويرس بطرك أنطاكية، وكان على رأي ديسقورس، فكان ساويرس يبعث يعقوب إلى النصارى ويثبتهم على أمانة ديسقورس فنسبوا إليه، وقيل بل كان يعقوب كثير العبادة والزهد يلبس خرق البراذع، فسمي يعقوب البراذعيّ من أجل ذلك، وأنه كان يطوف البلاد ويردّ الناس إلى مقالة ديسقورس، فنسب من اتبع رأيه إليه وسموا يعقوبية. ويقال ليعقوب أيضا يعقوب السروجيّ. وفي أيام مرقيانوس كان سمعان الحبيس صاحب العمود، وهو أوّل راهب سكن صومعة، وكان مقامه بمغارة في جبل أنطاكية، ولما مات مرقيانوس وثب أهل الإسكندرية على برطاوس البطرك وقتلوه في الكنيسة وحملوا جسده إلى الملعب الذي بناه بطليموس وأحرقوه بالنار من أجل أنه ملكيّ الاعتقاد فكانت مدّة بطركيته ست سنين، وأقاموا عوضه طيماتاوس، وكان يعقوبيا، فأقام ثلاث سنين، وقدم قائد من قسطنطينية فنفاه، وأقام عوضه ساويرس، وكان ملكيا، فأقام اثنتين وعشرين سنة ومات في سابع مسري. فلما ملك زنبون بن لاون الروم، أكرم اليعقوبية وأعزهم لأنه كان يعقوبيا، وكان يحمل إلى دير يوقنا كلّ سنة ما يحتاج إليه من القمح والزيت، وهرب ساويرس من كرسيّ الإسكندرية إلى وادي هيب، ورجع طيماتاوس من نفيه، فأقام بطركا سنتين ومات. فأقيم بعده بطرس فأقام ثماني سنين وسبعة أشهر وستة أيام ومات في رابع هتور، فأقيم بعده اثناسيوس، فأقام سبع سنين ومات في العشرين من توت، وفي أيامه احترق الملعب الذي بناه بطلميوس. وأقيم يوحنا في بطركية الإسكندرية، وكان يعقوبيا، فأقام تسع سنين ومات في رابع بشنس، فخلا الكرسيّ بعده سنة، ثم أقيم يوحنا الحبيس، فأقام إحدى وعشرين سنة ومات في سابع عشري بشنس. فأقيم بعده ديسقورس الجديد، فأقام سنتين وخمسة أشهر ومات في سابع عشر بابه، وكتب إيليا بطرك القدس إلى نسطاس ملك الروم بأن يرجع عن مقالة اليعقوبية إلى مقالة الملكية، وبعث إليه جماعة من الرهبان بهدية سنية، فقبل هديته وأجاز الرهبان بجوائز جليلة وجهز له مالا جزيلا لعمارة الكنائس والديارات والصدقات، فتوجه ساويرس إلى نسطاس وعرّفه أن الحق هو اعتقاد اليعقوبية، فأمر أن يكتب إلى جميع مملكته بقبول قول ديسقورس وترك المجمع الخلقدونيّ، فبعث إليه بطرك أنطاكية بأن هذا الذي فعلته غير واجب، وأن المجمع الخلقدونيّ هو الحق، فغضب الملك ونفاه وأقام بدله، فأمر إيليا

بطرك القدس بجمع الرهبان ورؤساء الديارات، فاجتمع له منهم عشرة آلاف نفس وحرموا نسطاس الملك، ومن يقول بقوله، فأمر نسطاس بنفي إيليا إلى مدينة إيلة، فاجتمع بطاركة الملكية وأساقفتهم وحرموا الملك نسطاس ومن يقول بقوله، وفي أيام نسطايوس الملك ألزم الحنفاء أهل حرّان وهم الصابئة بالتنصر، فتنصر كثير منهم، وقتل أكثرهم على امتناعهم من دين النصرانية، وردّ جميع من نفاه نسطاس من الملكية، فإنه كان ملكيا، وأقيم طيماتاوس في بطركية الإسكندرية، وكان يعقوبيا، فأقام ثلاث سنين ونفي، وأقيم بدله أبو ليناريوس وكان ملكيا، فجدّ في رجوع النصارى بأجمعهم إلى رأي الملكية، وبذل جهده في ذلك وألزم نصارى مصر بقبول الأمانة المحدثة. فوافقوه ووافقه رهبان ديارات بومقار بوادي هبيب، هذا ويعقوب البراذعيّ يدور في كلّ موضع ويثبت أصحابه على الأمانة التي زعم أنها مستقيمة، وأمر الملك جميع الأساقفة بعمل الميلاد في خامس عشري كانون الأوّل، وبعمل الغطاس لست تخلو من كانون الثاني، وكان كثير منهم يعمل الميلاد والغطاس في يوم واحد، وهو سادس كانون الثاني، وعلى هذا الرأي الأرمن إلى يومنا هذا، وفي هذه الأيام ظهر يوحنا النحويّ بالإسكندرية وزعم أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة وثلاث طبائع وجوهر واحد، وظهر يوليان وزعم أن جسد المسيح نزل من السماء وأنه لطيف روحانيّ لا يقبل الآلام إلّا عند مقارفة الخطيئة، والمسيح لم يقارف خطيئته، فلذلك لم يصلب حقيقة ولم يتألم ولم يمت، وإنما ذلك كله خيال، فأمر الملك البطرك طيماتاوس أن يرجع إلى مذهب الملكية فلم يفعل، فأمر بقتله. ثم شفع فيه ونفي وأقيم بدله بولص، وكان ملكيا، فأقام سنتين فلم يرضه اليعاقبة، وقيل أنهم قتلوه وصيروا عوضه بطركا ديلوس، وكان ملكيا فأقام خمس سنين في شدّة من التعب وأرادوا قتله فهرب، وأقام في هربه خمس سنين ومات، فبلغ ملك الروم يوسطيانوس أن اليعقوبية قد غلبوا على الإسكندرية ومصر، وأنهم لا يقبلون بطاركته، فبعث أثوليناريوس أحد قوّاده وضم إليه عسكرا كبيرا إلى الإسكندرية، فلما قدمها ودخل الكنيسة نزع عنه ثياب الجند ولبس ثياب البطاركة وقدّس، فهمّ ذلك الجمع برجمه فانصرف. وجمع عسكره وأظهر أنه قد أتاه كتاب الملك ليقرأه على الناس، وضرب الجرس في الإسكندرية يوم الأحد، فاجتمع الناس إلى الكنيسة حتى لم يبق أحد، فطلع المنبر وقال: يا أهل الإسكندرية، إن تركتم مقالة اليعقوبية وإلّا أخاف أن يرسل الملك فيقتلكم ويستبيح أموالكم وحريمكم، فهموا برجمه، فأشار إلى الجند فوضعوا السيف فيهم، فقتل من الناس ما لا يحصى عدده، حتى خاض الجند في الدماء، وقيل إنّ الذي قتل يومئذ مائتا ألف إنسان، وفرّ منهم خلق إلى الديارات بوادي هبيب، وأخذ الملكية كنائس اليعاقبة، ومن يومئذ صار كرسيّ اليعقوبية في دير بومقار بوادي هبيب. وفي أيامه ثارت السامرة على أرض فلسطين وهدموا كنائس النصارى، وأحرقوا ما فيها، وقتلوا جماعة من النصارى، فبعث الملك جيشا قتلوا من السامرة خلقا كثيرا، ووضع

من خراج فلسطين جملة، وجدّد بناء الكنائس وأنشأ مارستانا ببيت المقدس للمرضى، ووسع في بناء كنيسة بيت لحم، وبنى ديرا بطور سيناء، وعمل عليه حصنا حوله عدّة قلالي «1» ورتب فيها حرسا لحفظ الرهبان. وفي أيامه كان المجمع الخامس من مجامع النصارى، وسببه أن أريحانس أسقف مدينة منبج «2» قال بتناسخ الأرواح، وقال كلّ من أسقف أنقرة وأسقف المصيصة وأسقف الرها أن جسد المسيح خيال لا حقيقيّ، فحملوا إلى القسطنطينية وجمع بينهم وبين بطركها أوطس وناظرهم وأوقع عليهم الحرمان، فأمر الملك أن يجمع لهم مجمع، وأمر بإحضار البطاركة والأساقفة، فاجتمع مائة وأربعون أسقفا وحرموا هؤلاء الأساقفة ومن يقول بقولهم، فكان بين المجمع الرابع الخلقدونيّ وبين هذا المجمع مائة وثلاث وستون سنة. ولما مات القائد الذي عمل بطرك الإسكندرية بعد سبع عشرة سنة، أقيم بعده يوحنا، وكان منانيا، فأقام ثلاث سنين ومات، وقدّم اليعاقبة بطركا اسمه تاوداسيوس، أقام مدّة اثنتين وثلاثين سنة، وقدّم الملكية بطركا اسمه داقيوس، فكتب الملك إلى متولي الإسكندرية أن يعرض على بطرك اليعاقبة أمانة المجمع الخلقدونيّ، فإن لم يقبلها أخرجه، فعرض عليه ذلك فلم يقبله، فأخرجه وأقام بعده بولص التنيسيّ فلم يقبله أهل الإسكندرية، ومات فغلقت كنائس القبط اليعاقبة، وأصابهم من الملكية شدائد كثيرة، واستجدّ اليعاقبة بالإسكندرية كنيستين في سنة ثمان وأربعين ومائتين لدقلطيانوس، ومات تاوداسيوس ثامن عشري بؤنة بعد اثنتين وثلاثين سنة من بطركيته، منها مدة أربع سنين مدة نفيه في صعيد مصر وأقيم بعده بطرس وكان يعقوبيا في خفية بدير الزجاج بالإسكندرية قدّمه ثلاثة أساقفة، فأقام سنتين ومات في خامس عشري بؤنة ... «3» من اليعاقبة سنة واحدة. وفي سنة إحدى وثمانين وثمانمائة، أقيم داميانو بطركا بالإسكندرية، وكان يعقوبيا، فأقام ستا وثلاثين سنة ومات، في ثامن عشري بؤنة، وفي أيامه خربت الديارات، وأقام الملكية لهم بالإسكندرية بطركا منانيا اسمه أتناس، فأقام خمس سنين ومات، فأقيم بعده يوحنا وكان منانيا، ولقب القائم بالحق، فأقام خمسة أشهر ومات، فأقيم بعده يوحنا القائم بالأمر، وكان ملكيا فأقام إحدى عشرة سنة ومات، وفي أيام الملك طيباريوس ملك الروم بنى النصارى بالمدائن، مدائن كسرى، هيكلا، وبنوا أيضا بمدينة واسط هيكلا آخر. وفي أيام الملك موريق قيصر، زعم راهب اسمه مارون، أن المسيح عليه السلام طبيعتان ومشيئة واحدة واقنوم واحد، فتبعه على رأيه أهل حماه وقنسرين والعواصم وجماعة من الروم ودانوا بقوله، فعرفوا بين النصارى بالمارونية، فلما مات مارون بنوا على اسمه دير مارون بحماه. وفي أيام فوقا ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر، فخرّبوا

كنائس القدس وفلسطين وعامّة بلاد الشام، وقتلوا النصارى بأجمعهم، وأتوا إلى مصر في طلبهم، فقتلوا منهم أمّة كبيرة وسبوا منهم سبيا لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم، وأقبلوا نحو الفرس من طبرية وجبل الجليل وقرية الناصرة ومدينة صور وبلاد القدس، فنالوا من النصارى كلّ منال، وأعظموا النكاية فيهم، وخرّبوا لهم كنيستين بالقدس، وحرّقوا أماكنهم، وأخذوا قطعة من عود الصليب، وأسروا بطرك القدس وكثيرا من أصحابه، ثم مضى كسرى بنفسه من العراق لغزو قسطنطينية تخت ملك الروم، فحاصرها أربع عشرة سنة، وفي أيام فوقا أقيم يوحنا الرحوم بطرك الإسكندرية على الملكية، فدبر أرض مصر كلها عشر سنين ومات بقبرص، وهو فارّ من الفرس، فخلا كرسيّ اسكندرية من البطركية سبع سنين لخلوّ أرض مصر والشام من الروم، واختفى من بقي بها من النصارى خوفا من الفرس، وقدّم اليعاقبة نسطاسيوس بطركا، فأقام اثنتي عشرة سنة ومات في ثاني عشري كيهك، سنة ثلاثين وثلاثمائة لدقلطيانوس، فاستردّ ما كانت الملكية قد استولت عليه من كنائس اليعاقبة، ورمّ ما شعثه الفرس منها، وكانت إقامته بمدينة الإسكندرية، فأرسل إليه انباسيوس بطرك أنطاكية هدية صحبة عدّة كثيرة من الأساقفة، ثم قدم عليه زائرا فتلقاه وسرّ بقدومه، وصارت أرض مصر في أيامه جميعها يعاقبة لخلوّها من الروم، فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور وراسلوا بقيتهم في بلادهم، وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم، فكانت بينهم حرب اجتمع فيها من اليهود نحو عشرين ألفا، وهدموا كنائس النصارى خارج صور، فقوي النصارى عليهم وكاثروهم، فانهزم اليهود هزيمة قبيحة وقتل منهم خلق كثير، وكانه هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنهم، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ويجدّد ما خرّبه الفرس منها، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها وقدّموا له الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمّنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمّنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة، فوجد المدينة وكنائسها وقمامتها خرابا، فساءه ذلك وتوجع له، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس، وأنهم كانوا أشدّ نكاية لهم من الفرس، وقاموا قياما كبيرا في قتلهم عن آخرهم، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم، وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمّنهم من غير أن يعلم بما كان منهم، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كلّ سنة عنه على ممرّ الزمان والدهور، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلّا من فرّ واختفى، فكتب البطارقة والأساقفة إلى جميع البلاد بإلزام النصارى بصوم أسبوع في السنة، فالتزموا صومه إلى اليوم، وعرفت عندهم

ذكر دخول النصارى من قبط مصر في طاعة المسلمين وأدائهم الجزية، واتخاذهم ذمة لهم، وما كان في ذلك من الحوادث والأنباء

بجمعة هرقل، وتقدّم هرقل بعمارة الكنائس والديارات وأنفق فيها مالا كبيرا. وفي أيامه أقيم ادراسلون بطرك اليعاقبة بالإسكندرية، فأقام ست سنين ومات في ثامن طوبه، فخربت الديارات في مدّة بطركيته، وأقيم بعده على اليعاقبة بنيامين، فعمر الدير الذي يقال له دير أبو بشاي، ودير سيدة أبو بشاي، وهما في وادي هبيب، فأقام تسعا وثلاثين سنة، ملك الفرس منها مصر عشر سنين، ثم قدم هرقل فقتل الفرس بمصر وأقام فيرش بطرك الإسكندرية، وكان منانيا، وطلب بنيامين ليقتله فلم يقدر عليه لفراره منه، وكان هرقل مارونيا فظفر بمينا أخي بنيامين فأحرقه بالنار عداوة لليعاقبة، وعاد إلى القسطنطينية فأظهر الله دين الإسلام في أيامه، وخرج ملك مصر والشام من يد النصارى، وصار النصارى ذمّة للمسلمين، فكانت مدّة النصارى منذ رفع المسيح إلى أن فتحت مصر وصار النصارى من القبط ذمّة للمسلمين ... «1» منها مدّة كونهم تحت أيدي الروم يقتلونهم أبرح قتل بالصلب والتحريق بالنار والرجم بالحجارة وتقطيع الأعضاء ... «2» ومنها مدّة استيلائهم بتنصر الملوك. ذكر دخول النصارى من قبط مصر في طاعة المسلمين وأدائهم الجزية، واتخاذهم ذمّة لهم، وما كان في ذلك من الحوادث والأنباء اعلم أن أرض مصر لما دخلها المسلمون كانت بأجمعها مشحونة بالنصارى، وهم على قسمين متباينين في أجناسهم وعقائدهم، أحدهما أهل الدولة وكلهم روم من جند صاحب القسطنطينية ملك الروم، ورأيهم وديانتهم بأجمعهم ديانة الملكية، وكانت عدّتهم تزيد على ثلاثمائة ألف روميّ. والقسم الآخر عامّة أهل مصر، ويقال لهم القبط، وأنسابهم مختلطة لا يكاد يتميز منهم القبطيّ من الحبشيّ من النوبيّ من الإسرائيليّ الأصل من غيره، وكلهم يعاقبة، فمنهم كتاب المملكة ومنهم التجار والباعة، ومنهم الأساقفة والقسوس ونحوهم، ومنهم أهل الفلاحة والزرع، ومنهم أهل الخدمة والمهنة، وبينهم وبين الملكية أهل الدولة من العداوة ما يمنع مناكحتهم، ويوجب قتل بعضهم بعضا، ويبلغ عددهم عشرات آلاف كثيرة جدّا، فإنهم في الحقيقة أهل أرض مصر أعلاها وأسفلها، فلما قدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين معه إلى مصر، قاتلهم الروم حماية لملكهم ودفعا لهم عن بلادهم، فقاتلهم المسلمون وغلبوهم على الحصن كما تقدّم ذكره، فطلب القبط من عمرو المصالحة على الجزية فصالحهم عليها وأقرّهم على ما بأيديهم من الأراضي وغيرها، وصاروا معه عونا للمسلمين على الروم، حتى هزمهم الله تعالى وأخرجهم من أرض مصر، وكتب عمرو لبنيامين بطرك اليعاقبة أمانا في سنة عشرين من الهجرة، فسرّه ذلك وقدم على

عمرو وجلس على كرسيّ بطركيته بعد ما غاب عنه ثلاث عشرة سنة، منها في ملك فارس لمصر عشر سنين، وباقيها بعد قدوم هرقل إلى مصر، فغلبت اليعاقبة على كنائس مصر ودياراتها كلها، وانفردوا بها دون الملكية، ويذكر علماء الأخبار من النصارى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما فتح مدينة القدس كتب للنصارى أمانا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وجميع كنائسهم لا تهدم ولا تسكن، وأنه جلس في وسط صحن كنيسة القمامة، فلما حان وقت الصلاة خرج وصلّى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده، ثم جلس وقال للبطرك: لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي، وقالوا ههنا صلّى عمر، وكتب كتابا يتضمن أنه لا يصلي أحد من المسلمين على الدرجة إلّا واحد واحد، ولا يجتمع المسلمون بها للصلاة فيها، ولا يؤذنون عليها، وأنه أشار عليه البطرك باتخاذ موضع الصخرة مسجدا، وكان فوقها تراب كثير، فتناول عمر رضي الله عنه من التراب في ثوبه، فبادر المسلمون لرفعه حتى لم يبق منه شيء، وعمر المسجد الأقصى أمام الصخرة، فلما كانت أيام عبد الملك بن مروان أدخل الصخرة في حرم الأقصى، وذلك سنة خمس وستين من الهجرة، ثم إن عمر رضي الله عنه أتى بيت لحم وصلّى في كنيسته عند الخشبة التي ولد فيها المسيح، وكتب سجلا بأيدي النصارى أن لا يصلي في هذا الموضع أحد من المسلمين إلّا رجل بعد رجل، ولا يجتمعوا فيه للصلاة، ولا يؤذنوا عليه، ولما مات البطرك بنيامين في سنة تسع وثلاثين من الهجرة بالإسكندرية في إمارة عمرو الثانية، قدّم اليعاقبة بعده أغانو فأقام سبع عشرة سنة ومات سنة ست وخمسين، وهو الذي بنى كنيسة مرقص بالإسكندرية، فلم تزل إلى أن هدمت في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان في أيامه الغلاء مدّة ثلاث سنين، وكان يهتم بالضعفاء، فأقيم بعده إيساك وكان يعقوبيا، فأقام سنتين وأحد عشر شهرا ومات، فقدّم اليعاقبة بعده سيمون السريانيّ، فأقام سبع سنين ونصفا ومات، وفي أيامه قدم رسول أهل الهند في طلب أسقف يقيمه لهم، فامتنع من ذلك حتى يأذن له السلطان، وأقام غيره وخلا بعد موته كرسي الإسكندرية ثلاث سنين بغير بطرك، ثم قدّم اليعاقبة في سنة إحدى وثمانين الإسكندروس، فقام أربعا وعشرين سنة ونصفا، وقيل خمسا وعشرين سنة ومات سنة ست ومائة، ومرّت به شدائد صودر فيها مرّتين، أخذ منه فيهما ستة آلاف دينار، وفي أيامه أمّر عبد العزيز بن مروان، فأمر بإحصاء الرهبان فأحصوا وأخذت منهم الجزية عن كلّ راهب دينار، وهي أوّل جزية أخذت من الرهبان. ولما ولي مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان اشتدّ على النصارى، واقتدى به قرّة بن شريك أيضا في ولايته على مصر، وأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا قبلها بمثلها، وكان عبد الله بن الحبحاب متولي الخراج قد زاد على القبط قيراطا في كلّ دينار، فانتقض عليه عامّة الحوف الشرقيّ من القبط، فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم عدّة وافرة في سنة

سبع ومائة، واشتدّ أيضا أسامة بن زيد التنوخيّ متولي الخراج على النصارى، وأوقع بهم وأخذ أموالهم، ووسم أيدي الرهبان بحلقة حديد فيها اسم الراهب واسم ديره وتاريخه، فكل من وجده بغير وسم قطع يده، وكتب إلى الأعمال بأن من وجد من النصارى وليس معه منشور أن يؤخذ منه عشرة دنانير، ثم كبس الديارات وقبض على عدّة من الرهبان بغير وسم، فضرب أعناق بعضهم وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب، ثم هدمت الكنائس وكسرت الصلبان ومحيت التماثيل وكسرت الأصنام بأجمعها، وكانت كثيرة في سنة أربع ومائة، والخليفة يومئذ يزيد بن عبد الملك، فلما قام هشام بن عبد الملك في الخلافة، كتب إلى مصر بأن يجري النصارى على عوايدهم وما بأيديهم من العهد، فقدم حنظلة بن صفوان أميرا على مصر في ولايته الثانية، فتشدّد على النصارى وزاد في الخراج، وأحصى الناس والبهائم، وجعل على كلّ نصرانيّ وسما صورة أسد، وتتبعهم، فمن وجده بغير وسم قطع يده، ثم أقام اليعاقبة بعد موت الإسكندروس بطركا اسمه قسيما، فأقام خمسة عشر شهرا ومات، فقدّموا بعده تادرس في سنة تسع ومائة بعد إحدى عشرة سنة. وفي أيامه أحدثت كنيسة يوقنا بخط الحمراء ظاهر مدينة مصر، في سنة سبع عشرة ومائة، فقام جماعة من المسلمين على الوليد بن رفاعة أمير مصر بسببها. وفي سنة عشرين ومائة قدّم اليعاقبة ميخائيل بطركا، فأقام ثلاثا وعشرين سنة ومات. وفي أيامه انتقض القبط بالصعيد وحاربوا العمال في سنة إحدى وعشرين، فحوربوا وقتل كثير منهم، ثم خرج بجنس بسمنود وحارب وقتل في الحرب، وقتل معه قبط كثير في سنة اثنتين وثلاثين ومات، ثم خالفت القبط برشيد، فبعث إليهم مروان بن محمد لما قدم مصر وهزمهم وقبض عبد الملك بن موسى بن نصير أمير مصر على البطرك ميخائيل، فاعتقله وألزمه بمال، فسار بأساقفته في أعمال مصر يسأل أهلها، فوجدهم في شدائد، فعاد إلى الفسطاط ودفع إلى عبد الملك ما حصل له، فأفرج عنه، فنزل به بلاء كبير من مروان، وبطش به وبالنصارى، وأحرق مصر وغلاتها وأسر عدّة من النساء المترهبات ببعض الديارات، وراود واحدة منهنّ عن نفسها، فاحتالت عليه ودفعته عنها بأن رغبته في دهن معها إذا ادّهن به الإنسان لا يعمل فيه السلاح، وأوثقته بأن مكنته من التجربة في نفسها، فتمت حيلتها عليه، وأخرجت زيتا ادّهنت به، ثم مدّت عنقها فضربها بسيفه أطار رأسها، فعلم أنها اختارت الموت على الزنا، وما زال البطرك والنصارى في الحديد مع مروان إلى أن قتل ببوصير، فأفرج عنهم. وأما الملكية فإن ملك الروم لاون أقام قسيما بطرك الملكية بالإسكندرية في سنة سبع ومائة، فمضى ومعه هدية إلى هشام بن عبد الملك، فكتب له بردّ كنائس الملكية إليهم، فأخذ من اليعاقبة كنيسة البشارة، وكان الملكية أقاموا سبعا وسبعين سنة بغير بطرك في مصر، من عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى خلافة هشام بن عبد الملك، فغلب اليعاقبة في هذه المدّة على جميع كنائس مصر وأقاموا بها منهم أساقفة،

وبعث إليهم أهل بلاد النوبة في طلب أساقفة، فبعثوا إليهم من أساقفة اليعاقبة، فصارت النوبة من ذلك العهد يعاقبة. ثم لما مات ميخائيل قدّم اليعاقبة في سنة ست وأربعين ومائة انبامسنا، فأقام سبع سنين ومات. وفي أيامه خرج القبط بناحية سخا وأخرجوا العمال في سنة خمسين ومائة وصاروا في جمع، فبعث إليهم يزيد بن حاتم بن قبيصة أمير مصر عسكرا، فأتاهم القبط ليلا وقتلوا عدّة من المسلمين وهزموا باقيهم، فاشتدّ البلاء على النصارى واحتاجوا إلى أكل الجيف، وهدمت الكنائس المحدثة بمصر، فهدمت كنيسة مريم المجاورة لأبي شنودة بمصر، وهدمت كنائس محارس قسطنطين، فبذل النصارى لسليمان بن عليّ أمير مصر في تركها خمسين ألف دينار، فأبى، فلما ولي بعده موسى بن عيسى أذن لهم في بنائها فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة قاضي مصر، واحتجا بأنّ بناءها من عمارة البلاد، وبأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلّا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين، فلما مات انبامسنا قدّم اليعاقبة بعده يوحنا، فأقام ثلاثا وعشرين سنة ومات. وفي أيامه خرج القبط ببلهيت سنة ست وخمسين فبعث إليهم موسى بن عليّ أمير مصر وهزمهم، وقدّم بعده اليعاقبة مرقص الجديد، فأقام عشرين سنة وسبعين يوما ومات. وفي أيامه كانت الفتنة بين الأمين والمأمون، فانتهبت النصارى بالإسكندرية وأحرقت لهم مواضع عديدة، وأحرقت ديارات وادي هبيب ونهبت، فلم يبق بها من رهبانها إلّا نفر قليل. وفي أيامه مضى بطرك الملكية إلى بغداد وعالج بعض خطايا أهل الخليفة، فإنه كان حاذقا بالطب، فلما عوفيت كتب له بردّ كنائس الملكية التي تغلب عليها اليعاقبة بمصر، فاستردّها منهم، وأقام في بطركية الملكية أربعين سنة ومات، ثم قدّم اليعاقبة بعد مرقص يعقوب في سنة إحدى عشرة ومائتين، فأقام عشر سنين وثمانية أشهر ومات. وفي أيامه عمرت الديارات وعاد الرهبان إليها، وعمرت كنيسة بالقدس لمن يرد من نصارى مصر، وقدم عليه ديونوسيس بطرك أنطاكية، فأكرمه حتى عاد إلى كرسيه، وفي أيامه انتقض القبط في سنة ست عشرة ومائتين، فأوقع بهم الأفشين حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون، فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية فبيعوا، وسبى أكثرهم، ومن حينئذ ذلت القبط في جميع أرض مصر، ولم يقدر أحد منهم بعد ذلك على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامّة القرى، فرجعوا من المحاربة إلى المكايدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين، وعملوا كتاب الخراج، فكانت لهم وللمسلمين أخبار كثيرة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. ثم قدّم اليعاقبة سيماون بطركا في سنة اثنتين وعشرين ومائتين، فأقام سنة ومات، وقيل بل أقام سبعة أشهر وستة عشر يوما، فخلا كرسيّ البطاركة بعده سنة وسبعة وعشرين يوما، وقدّم اليعاقبة يوساب في دير بومقار بوادي هبيب في سنة سبع وعشرين ومائتين،

فأقام ثماني عشرة سنة ومات. وفي أيامه قدم مصر يعقوب مطران الحبشة وقد نفته زوجة ملكهم. وأقامت عوضه أسقفا، فبعث ملك الحبشة يطلب إعادته من البطرك، فبعث به إليه وبعث أيضا عدّة أساقفة إلى إفريقية. وفي أيامه مات بطرك أنطاكية الوارد إلى مصر في السنة الخامسة عشرة من بطركيته. وفي أيامه أمر المتوكل على الله في سنة خمس وثلاثين ومائتين أهل الذمّة بلبس الطيالسة العسلية وشدّ الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب، وعمل كرتين في مؤخر السرج، وعمل رقعتين على لباس رجالهم تخالفان لون الثوب، قدر كلّ واحدة منهما أربع أصابع، ولون كلّ واحدة منهما غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارا عسليا، ومنعهم من لباس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب، ونهى أن يستعان بهم في أعمال السلطان، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبا، وأن لا يشعلوا في الطريق نارا، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، وكتب بذلك إلى الآفاق، ثم أمر في سنة تسع وثلاثين أهل الذمّة بلبس دراعتين عسليتين على الذراريع والأقبية، وبالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمير دون الخيل والبراذين. فلما مات يوساب في سنة اثنتين وأربعين ومائتين خلا الكرسيّ بعده ثلاثين يوما، وقدّم اليعاقبة قسيسا بدير بحنس يدعى بميكائيل في البطركية، فأقام سنة وخمسة أشهر ومات، فدفن بدير بومقار، وهو أوّل بطرك دفن فيه، فخلا الكرسيّ بعده أحدا وثمانين يوما، ثم قدّم اليعاقبة في سنة أربع وأربعين ومائتين شماسا بدير بومقار اسمه قسيما، فأقام في البطركية سبع سنين وخمسة أشهر ومات، فخلا الكرسيّ بعده أحدا وخمسين يوما. وفي أيامه أمر نوفيل بن ميخائيل ملك الروم بمحو الصور من الكنائس، وأن لا تبقى صورة في كنيسة، وكان سبب ذلك أنه بلغه عن قيم كنيسة أنه عمل في صورة مريم عليها السلام شبه ثدي يخرج منه لبن ينقط في يوم عيدها، فكشف عن ذلك فإذا هو مصنوع ليأخذ به القيم المال، فضرب عنقه وأبطل الصور من الكنائس، فبعث إليه قسيما بطرك اليعاقبة وناظره حتى سمح بإعادة الصور على ما كانت عليه، ثم قدّم اليعاقبة ساتير بطركا، فأقام تسع عشرة سنة ومات، فأقيم يوسانيوس في أوّل خلافة المعتز، فأقام إحدى عشرة سنة ومات، وعمل في بطركيته مجاري تحت الأرض بالإسكندرية يجري بها الماء من الخليج إلى البيوت. وفي أيامه قدم أحمد بن طولون مصر أميرا عليها، ثم قدّم اليعاقبة ميخائيل فأقام خمسا وعشرين سنة ومات بعد ما ألزمه أحمد بن طولون بحمل عشرين ألف دينار، باع فيها رباع الكنائس الموقوفة عليها، وأرض الحبش ظاهر فسطاط مصر، وباع الكنيسة بجوار المعلقة من قصر الشمع لليهود، وقرّر الديارية على كلّ نصرانيّ قيراطا في السنة، فقام بنصف المقرّر عليه. وفي أيامه قتل الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، فلما مات شغر كرسيّ الإسكندرية بعده من البطاركة أربع عشرة سنة، وفي يوم الاثنين ثالث شوّال سنة ثلاثمائة

أحرقت الكنيسة الكبرى المعروفة بالقيامة في الإسكندرية، وهي التي كانت هيكل زحل، وكانت من بناء كلابطرة. وفي سنة إحدى وثلاثمائة قدّم اليعاقبة غبريال بطركا، فأقام إحدى عشرة سنة ومات، وأخذت في أيامه الديارية على الرجال والنساء، وقدّم بعده اليعاقبة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة قسيما فأقام اثنتي عشرة سنة ومات. وفي يوم السبت النصف من شهر رجب سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة أحرق المسلمون كنيسة مريم بدمشق، ونهبوا ما فيها من الآلات والأواني وقيمتها كثيرة جدّا، ونهبوا ديرا للنساء بجوارها، وشعثوا كنائس النسطورية واليعقوبية. وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة قدم الوزير عليّ بن عيسى بن الجرّاح إلى مصر، فكشف البلد وألزم الأساقفة والرهبان وضعفاء النصارى بأداء الجزية، فأدّوها، ومضى طائفة منهم إلى بغداد واستغاثوا بالمقتدر بالله، فكتب إلى مصر بأن لا يؤخذ من الأساقفة والرهبان والضعفاء جزية، وأن يجروا على العهد الذي بأيديهم. وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة قدّم اليعاقبة بطركا اسمه ... «1» فأقام عشرين سنة ومات، وفي أيامه ثار المسلمون بالقدس سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وحرّقوا كنيسة القيامة ونهبوها وخرّبوا منها ما قدروا عليه. وفي يوم الاثنين آخر شهر رجب سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة مات سعيد بن بطريق بطرك الإسكندرية على الملكية بعد ما أقام في البطركية سبع سنين ونصفا في شرور متصلة مع طائفته، فبعث الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أبا الحسين من قوّاده في طائفة من الجند إلى مدينة تنيس، حتى ختم على كنائس الملكية وأحضر آلاتها إلى الفسطاط، وكانت كثيرة جدّا فافتكها الأسقف بخمسة آلاف دينار باعوا فيها من وقف الكنائس، ثم صالح طائفته وكان فاضلا وله تاريخ مفيد، وثار المسلمون أيضا بمدينة عسقلان وهدموا كنيسة مريم الخضراء، ونهبوا ما فيها، وأعانهم اليهود حتى أحرقوها، ففرّ أسقف عسقلان إلى الرملة وأقام بها حتى مات، وقدّم اليعاقبة في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة تاوفانيوس بطركا، فأقام أربع سنين وستة أشهر ومات، فأقيم بعده مينا، فأقام إحدى عشرة سنة ومات، فخلا الكرسيّ بعده سنة، ثم قدّم اليعاقبة افراهام بعده مينا، فأقام ست وستين وثلاثمائة فأقام ثلاث سنين وستة أشهر ومات مسموما من بعض كتاب النصارى، وسببه أنه منعه من التسرّي، فخلا الكرسي بعده ستة أشهر، وأقيم فيلاياوس في سنة تسع وستين، فأقام أربعا وعشرين سنة ومات، وكان مترفا. وفي أيامه أخذت الملكية كنيسة السيدة المعروفة بكنيسة البطرك، تسلمها منهم بطرك الملكية أرسانيوس في أيام العزيز بالله نزار بن المعز، وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قدّم اليعاقبة زخريس بطركا، فأقام ثماني وعشرين سنة، منها في البلايا مع الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور بن العزيز بالله تسع سنين، اعتقله فيها ثلاثة أشهر، وأمر به فألقي للسباع هو وسوسنة النوبيّ، فلم تضرّه، فيما زعم النصارى. ولما مات خلا الكرسيّ بعده أربعة وسبعين يوما، وفي بطركيته نزل

بالنصارى شدائد لم يعهدوا مثلها، وذلك أن كثيرا منهم كان قد تمكن في أعمال الدولة حتى صاروا كالوزراء وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم، فاشتدّ بأسهم وتزايد ضررهم ومكايدتهم للمسلمين، فأغضب الحاكم بأمر الله ذلك، وكان لا يملك نفسه إذا غضب، فقبض على عيسى بن نسطورس النصرانيّ، وهو إذ ذاك في رتبة تضاهي رتب الوزراء وضرب عنقه، ثم قبض على فهد بن إبراهيم النصرانيّ كاتب الأستاذ برجوان وضرب عنقه، وتشدّد على النصارى وألزمهم بلبس ثياب الغيار، وشدّ الزنار في أوساطهم ومنعهم من عمل الشعانين وعيد الصليب والتظاهر بما كانت عادتهم فعله في أعيادهم من الاجتماع واللهو، وقبض على جميع ما هو محبس على الكنائس والديارات وأدخله في الديوان، وكتب إلى أعماله كلها بذلك، وأحرق عدّة صلبان كثيرة، ومنع النصارى من شراء العبيد والإماء، وهدم الكنائس التي بخط راشدة ظاهر مدينة مصر، وأخرب كنائس المقس خارج القاهرة، وأباح ما فيها للناس، فانتهبوا منها ما يجل وصفه، وهدم دير القصير وانهب العامة ما فيه، ومنع النصارى من عمل الغطاس على شاطىء النيل بمصر، وأبطل ما كان يعمل فيه من الاجتماع للهو، وألزم رجال النصارى بتعليق الصلبان الخشب التي زنة كل صليب منها خمسة أرطال في أعناقهم، ومنعهم من ركوب الخيل، وجعل لهم أن يركبوا البغال والحمير بسروج ولجم غير محلاة بالذهب والفضة، بل تكون من جلود سود، وضرب بالحرس في القاهرة ومصر أن لا يركب أحد من المكارية ذمّيا، ولا يحمل نوتيّ مسلم أحدا من أهل الذمة، وأن تكون ثياب النصارى وعمائهم شديدة السواد، وركب سروجهم من خشب الجميز، وأن يعلق اليهود في أعناقهم خشبا مدوّرا زنة الخشبة منها خمسة أرطال، وهي ظاهرة فوق ثيابهم، وأخذ في هدم الكنائس كلها وأباح ما فيها، وما هو محبس عليها للناس نهبا وإقطاعا، فهدمت بأسرها ونهب جميع أمتعتها وأقطع أحباسها، وبني في مواضعها المساجد، وأذن بالصلاة في كنيسة شنودة بمصر، وأحيط بكنيسة المعلقة في قصر الشمع، وأكثر الناس من رفع القصص بطلب كنائس أعمال مصر ودياراتها، فلم يردّ قصة منها إلّا وقد وقع عليها بإجابة رافعها لما سأل، فأخذوا أمتعة الكنائس والديارات وباعوا بأسواق مصر ما وجدوا من أواني الذهب والفضة وغير ذلك، وتصرّفوا في أحباسها، ووجد بكنيسة شنودة مال جليل، ووجد في المعلقة من المصاغ وثياب الديباج أمر كثير جدّا إلى الغاية، وكتب إلى ولاة الأعمال بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والديارات فعمّ الهدم فيها من سنة ثلاث وأربعمائة حتى ذكر من يوثق به في ذلك أن الذي هدم إلى آخر سنة خمس وأربعمائة بمصر والشام وأعمالهما من الهياكل التي بناها الروم نيث وثلاثون ألف بيعة، ونهب ما فيها من آلات الذهب والفضة، وقبض على أوقافها، وكانت أوقافا جليلة على مبان عجيبة، وألزم النصارى أن تكون الصلبان في أعناقهم إذا دخلوا الحمام، وألزم اليهود أن يكون في أعناقهم الأجراس إذا دخلوا الحمام، ثم ألزم اليهود والنصارى بخروجهم كلهم من

أرض مصر إلى بلاد الروم، فاجتمعوا بأسرهم تحت القصر من القاهرة واستغاثوا ولاذوا بعفو أمير المؤمنين حتى أعفوا من النفي، وفي هذه الحوادث أسلم كثير من النصارى. وفي سنة سبع وأربعمائة وثب بعض أكابر البلغر على ملكهم قمطورس فقتله وملك عوضه، وكتب إلى باسيل ملك قسطنطينية بطاعته فأقرّه، ثم قتل بعد سنة فسار الملك باسيل إليهم في شوّال سنة ثمان وأربعمائة واستولى على مملكة البلغر وأقام في قلاعها عدّة من الروم، وعاد إلى قسطنطينية فاختلط الروم بالبغر ونكحوا منهم وصاروا يدا واحدة بعد شدّة العداوة، وقدّم اليعاقبة عليهم سابونين بطركا بالإسكندرية في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، في يوم الأحد ثالث عشري برمهات، فأقام خمس عشرة سنة ونصفا ومات في طوبه، وكان محبا للمال، وأخذ الشرطونية فخلا الكرسيّ بعده سنة وخمسة أشهر، ثم قدّم اليعاقبة أخر سطوديس بطركا في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، فأقام ثلاثين سنة ومات بالمعلقة من مصر، وهو الذي جعل كنيسة بومرقوره بمصر، وكنيسة السيدة بحارة الروم من القاهرة في أيام بطركيته، فلم يقم بعده بطرك اثنين وسبعين يوما، ثم أقام اليعاقبة كيرلص، فأقام أربع عشرة سنة وثلاثة أشهر ونصفا ومات بكنيسة المختار من جزية مصر المعروفة بالروضة، في سلخ ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وعمل بدلة للبطاركة من ديباج أزرق وبلارية ديباج أحمر بتصاوير ذهب، وقطع الشرطونية فلم يول بعده بطرك مدّة مائة وأربعة وعشرين يوما، ثم أقيم ميخائيل الحبيس بسنجار في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، فأقام تسع وسنين وثمانية أشهر ومات في المعلقة بمصر، وكان المستنصر بالله لما نقص نيل مصر بعثه إلى بلاد الحبشة بهدية سنية، فتلقاه ملكها وسأله عن سبب قدومه، فعرّفه نقص النيل وضرر أهل مصر بسبب ذلك، فأمر بفتح سدّ يجري منه الماء إلى أرض مصر، ففتح وزاد النيل في ليلة واحدة ثلاثة أذرع، واستمرّت الزيادة حتى رويت البلاد وزرعت، ثم عاد البطرك فخلع عليه المستنصر وأحسن إليه. وفي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة قدّم اليعاقبة مقاري بطركا بدير بومقار، وكمل بالإسكندرية وعاد إلى مصر، ثم مضى إلى دير بومقار فقدّس به ثم جاء إلى مصر فقدّس بالمعلقة، فأقام ستا وعشرين سنة وأحدا وأربعين يوما ومات. فخلت مصر من بطرك اليعاقبة سنتين وشهرين، وفي أيامه حدثت زلزلة عظيمة بمصر هدم فيها كنيسة المختار بالروضة، واتهم الأفضل بن أمير الجيوش بهدمها، فإنها كانت في بستانه. وفي أيامه أبطل عوايد كثيرة للنصارى، فبطلت بعده. ثم قدّم اليعاقبة غيريال المكنى بأبي العلا صاعد بن تربك الشماس بكنيسة مرقوريوس في سنة خمس وعشرين وخمسمائة بالمعلقة، وكمل بالإسكندرية وقدّس بالأديرة بوادي هبيب، وأقام أربع عشرة سنة ومات، فخلا بعده كرسيّ اليعاقبة ثلاثة أشهر. ثم قدّم اليعاقبة ميخائيل بن التقدوسيّ الراهب بقلاية دمشري بطركا، فأقام مدّة سنة وسبعين يوما، ثم أقيم يونس أبو الفتح بطركا بالمعلقة، وكمل بالإسكندرية، فأقام تسع عشرة سنة

ومات، في سابع عشري جمادى الآخرة، سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، فخلا الكرسيّ بعده ثلاثة وأربعين يوما، وقدم مرقص بن زرعة المكني بأبي الفرج بطرك اليعاقبة بمصر، وكمل بالإسكندرية، فأقام اثنتين وعشرين سنة وستة أشهر وخمسة وعشرين يوما ومات، وفي أيامه انتقل مرقص بن قنبر وجماعة من القنابرة إلى رأي الملكية، ثم عاد إلى اليعقوبية، فقبل. ثم عاد إلى الملكية ورجع فلم يقبل، وكان هذا البطرك له همة ومروءة. وفي أيامه كان حريق شاور الوزير لمصر، في ثامن عشر هتور، فاحترقت كنيسة بومرقورة، وخلا بعده كرسيّ البطاركة سبعة وعشرين يوما، ثم قدّم اليعاقبة يونس بن أبي غالب بطركا في يوم الأحد عاشر ذي الحجة سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وكمل بالإسكندرية، فأقام ستا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما، ومات يوم الخميس رابع عشر شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وستمائة بالمعلقة بمصر، ودفن بالحبش، وكان في ابتداء أمره تاجرا يتردّد إلى اليمن في البحر حتى كثر ماله، وكان معه مال لأولاد الخباب فاتفق أنه غرق في بحر الملح، وذهب ماله ونجا بنفسه إلى القاهرة، وقد آيس أولاد الخباب من مالهم، فلما لقيهم أعلمهم أن مالهم قد سلّم، فإنه كان قد عمله في نقائر خشب مسمرة في المركب، فصار لهم به عناية، فلما مات مرقص بن زرعة سعى يونس هذا للقس أبي ياسر فقال له أولاد الخباب: خذ أنت البطركية ونحن نزكيك، فوافقهم وأقيم بطركا، فشق ذلك على أبي ياسر وهجره بعد صحبة طويلة، وكان معه لما استقرّ في البطركية سبعة عشر ألف دينار مصرية، أنفقها على الفقراء، وأبطل الديارية ومنع الشرطونية، ولم يأكل لأحد من النصارى خبزا ولا قبل من أحد هدية. فلما مات قام أبو الفتوح نشو الخليفة بن الميقاط كاتب الجيش مع السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب في ولاية القس داود بن يوحنا بن لقلق الفيوميّ، فإنه كان خصيصا به، فأجابه وكتب توقيعه من غير أن يعلم الملك الكامل محمد ابن السلطان، فشق ذلك على النصارى، وقام منهم الأسعد بن صدقة كاتب دار التفاح بمصر ومعه جماعة، وتوجهوا سحرا ومعهم الشموع إلى تحت قلعة الجبل حيث كان سكن الملك الكامل واستغاثوا به، ووقعوا في القس وقالوا لا يصلح، وفي شريعتنا أنه لا يقدّم البطرك إلا باتفاق الجمهور عليه، فبعث الملك الكامل يطيب خواطرهم، وكان القس قد ركب بكرة ومعه الأساقفة وعالم كثير من النصارى ليقدّموه بالمعلقة بمصر، وذلك يوم الأحد، فركب الملك الكامل بشجو كبير من القلعة إلى أبيه بدار الوزارة من القاهرة حيث سكنه، وأوقف ولاية القس، فبعث السلطان في طلب الأساقفة ليتحقق الأمر منهم، فوافقهم الرسل مع القس في الطريق فأخذوهم، ودخل القس إلى كنيسة بوجرج التي بالحمراء وبطلت بطركيته، وأقامت مصر بغير بطرك تسع عشرة سنة ومائة وستين يوما. ثم قدّم هذا القس بطركا في يوم الأحد تاسع عشري شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، فأقام سبع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام ومات يوم الثلاثاء

سابع عشر شهر رمضان سنة أربعين وستمائة، ودفن بدير الشمع بالجيزة، وكان عالما بدينه محبا للرياسة، وأخذ الشرطونية في بطركيته، وكانت الديارات بأرض مصر قد خلت من الأساقفة، فقدم جماعة أساقفة كثيرة بمال كثير أخذه منهم وقاسى شدائد، ورافعه الراهب عماد المرشال ووكل عليه وعلى أقاربه وألزامه، وساعده الراهب السني بن الثعبان، وأشاع مثالبه وقال لا يصح له كونية لأنه يقدّم بالرشوة، وأخذ الشرطونية وجمع عليه طائفة كثيرة، وعقد مجلسا عند الصاحب معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأثبت على البطرك قوادح، فقام الكتاب النصارى في أمره مع الصاحب بمال يحمله إلى السلطان حتى استمر على بطركيته، وخلا كرسيّ البطاركة بعده سبع سنين وستة أشهر وستة وعشرين يوما. ثم قدّم اليعاقبة ابناسيوس ابن القس أبي المكارم بن كليل بالمعلقة في يوم الأحد رابع شهر رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة، وكمل بالإسكندرية، فأقام إحدى عشرة سنة وخمسة وخمسين يوما، ومات يوم الأحد ثالث المحرّم سنة ستين وستمائة، فخلت مصر من البطركية خمسة وثمانين يوما. وفي أيامه أخذ الوزير الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي الجوالي من النصارى مضاعفة، وفي أيامه ثارت عوامّ دمشق وخربت كنيسة مريم بدمشق بعد إحراقها ونهب ما فيها، وقتل جماعة من النصارى بدمشق، ونهب دورهم، وخرابها في سنة ثمان وخمسين وستمائة بعد وقعة عين جالوت وهزيمة المغل. فلما دخل السلطان الملك المظفر قطز إلى دمشق قرّر على النصارى بها مائة ألف وخمسين ألف درهم، جمعوها من بينهم وحملوها إليه بسفارة الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، أتابك العسكر. وفي سنة اثنتين وثمانين وستمائة كانت واقعة النصارى، ومن خبرها أن الأمير سنجر الشجاعيّ كانت حرمته وافرة في أيام الملك المنصور قلاون، فكان النصارى يركبون الحمير بزنانير في أوساطهم، ولا يجسر نصرانيّ يحدّث مسلما وهو راكب، وإذا مشى فبذلة، ولا يقدر أحد منهم يلبس ثوبا مصقولا، فلما مات الملك المنصور وتسلطن من بعده ابنه الملك الأشرف خليل، خدم الكتاب النصارى عند الأمراء الخاصكية وقوّوا نفوسهم على المسلمين، وترفعوا في ملابسهم وهيآتهم، وكان منهم كاتب عند خاصكيّ يعرف بعين الغزال، فصدف يوما في طريق مصر سمسار شونة مخدومه، فنزل السمسار عن دابته وقبّل رجل الكاتب، فأخذ يسبه ويهدّده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير، وهو يترفق له ويعتذر، فلا يزيده ذلك عليه إلّا غلظة، وأمر غلامه فنزل وكتف السمسار ومضى به والناس تجتمع عليه حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون، ومعه عالم كبير، وما منهم إلّا من يسأله أن يخلي عن السمسار وهو يمتنع عليهم، فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار، وكان قد قرب من بيت أستاذه، فبعث غلامه لينجده بمن فيه، فأتاه بطائفة من

غلمان الأمير وأوجاقيته فخلصوه من الناس وشرعوا في القبض عليهم ليفتكوا بهم، فصاحوا عليهم ما يحل ومرّوا مسرعين إلى أن وقفوا تحت القلعة، واستغاثوا نصر الله السلطان، فأرسل يكشف الخبر فعرّفوه ما كان من استطالة الكاتب النصرانيّ على السمسار، وما جرى لهم، فطلب عين الغزال ورسم للعامّة بإحضار النصارى إليه، وطلب الأمير بدر الدين بيدرا النائب، والأمير سنجر الشجاعيّ، وتقدّم إليهما بإحضار جميع النصارى بين يديه ليقتلهم، فما زالا به حتى استقرّ الحال على أن ينادي في القاهرة ومصر، أن لا يخدم أحد من النصارى واليهود عند الأمير، وأمر الأمراء بأجمعهم أن يعرضوا على من عندهم من الكتاب النصارى الإسلام، فمن امتنع من الإسلام ضربت عنقه، ومن أسلم استخدموه عندهم، ورسم للنائب بعرض جميع مباشري ديوان السلطان ويفعل فيهم ذلك، فنزل الطلب لهم وقد اختفوا، فصارت العامّة تسبق إلى بيوتهم وتنهبها، حتى عمّ النهب بيوت النصارى واليهود بأجمعهم، وأخرجوا نساءهم مسبيات، وقتلوا جماعة بأيديهم، فقام الأمير بيدرا النائب مع السلطان في أمر العامّة، وتلطف به حتى ركب وإلى القاهرة ونادى من نهب بيت نصرانيّ شنق، وقبض على طائفة من العامّة وشهرهم بعد ما ضربهم، فانكفوا عن النهب بعد ما نبهوا كنيسة المعلقة بمصر وقتلوا منها جماعة، ثم جمع النائب كثيرا من النصارى كتاب السلطان والأمراء وأوقفهم بين يدي السلطان عن بعد منه، فرسم للشجاعيّ وأمير جاندار أن يأخذا عدّة معهما وينزلوا إلى سوق الخيل تحت القلعة، ويحفروا حفيرة كبيرة ويلقوا فيها الكتاب الحاضرين، ويضرموا عليهم الحطب نارا، فتقدّم الأمير بيدرا وشفع فيهم فأبى أن يقبل شفاعته وقال: ما أريد في دولتي ديوانا نصرانيا، فلم يزل به حتى سمح بأن من أسلم منهم يستقرّ في خدمته، ومن امتنع ضربت عنقه، فأخرجهم إلى دار النيابة وقال لهم: يا جماعة ما وصلت قدرتي مع السلطان في أمركم إلّا على شرط، وهو أن من اختار دينه قتل، ومن اختار الإسلام خلع عليه وباشر، فابتدره المكين بن السقاعيّ أحد المستوفين وقال: يا خوند وأينا قوّاد يختار القتل على هذا الدين الخراء، والله دين نقتل ونموت عليه يروح، لا كتب الله عليه سلامة، قولوا لنا الذي تختاروه حتى نروح إليه، فغلب بيدرا الضحك وقال له: ويلك، أنحن نختار غير دين الإسلام؟ فقال يا خوند: ما نعرف، قولوا ونحن نتبعكم، فأحضر العدول واستسلمهم، وكتب بذلك شهادات عليهم، ودخل بها على السلطان فألبسهم تشاريف وخرجوا إلى مجلس الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس، فبدأ بعض الحاضرين بالمكين بن السقاعيّ وناوله ورقة ليكتب عليها وقال: يا مولانا القاضي اكتب على هذه الورقة. فقال: يا بنيّ ما كان لنا هذا القضاء في خلد، فلم يزالوا في مجلس الوزير إلى العصر، فجاءهم الحاجب وأخذهم إلى مجلس النائب وقد جمع به القضاة فجدّدوا إسلامهم بحضرتهم، فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزا، يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره، وما هو إلا كما

كتب به بعضهم إلى الأمير بيدرا النائب: أسلم الكافرون بالسيف قهرا ... وإذا ما خلوا فهم مجرمونا سلموا من رواح مال وروح ... فهم سالمون لا مسلمونا وفي أخريات شهر رجب سنة سبعماءة قدم وزير متملك المغرب إلى القاهرة حاجا، وصار يركب إلى الموكب السلطانيّ وبيوت الأمراء، فبينما هو ذات يوم بسوق الخيل تحت القلعة، إذا هو برجل راكب على فرس وعليه عمامة بيضاء وفرجية مصقولة، وجماعة يمشون في ركابه وهم يسألونه ويتضرّعون إليه ويقبلون رجليه، وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه. فقال له بعضهم يا مولاي الشيخ بحياة ولدك النشو تنظر في حالنا، فلم يزده ذلك إلّا عتوّا وتحامقا، فرقّ المغربيّ لهم وهمّ بمخاطبته في أمرهم، فقيل له وأنه مع ذلك نصرانيّ، فغضب لذلك وكاد أن يبطش به، ثم كف عنه وطلع إلى القلعة وجلس مع الأمير سلار نائب السلطان، والأمير بيبرس الجاشنكير، وأخذ يحادثهم بما رآه وهو يبكي رحمة للمسلمين بما نالهم من قسوة النصارى، ثم وعظ الأمراء وحذرهم نقمة الله، وتسليط عدوّهم عليهم من تمكين النصارى من ركوب الخيل، وتسلطهم على المسلمين وإذلالهم إياهم، وأن الواجب إلزامهم الصغار، وحملهم على العهد الذي كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمالوا إلى قوله وطلبوا بطرك النصارى وكبراءهم وديان اليهود، فجمعت نصارى كنيسة المعلقة ونصارى دير البغل ونحوهم، وحضر كبراء اليهود والنصارى، وقد حضر القضاة الأربعة وناظروا النصارى واليهود، فأذعنوا إلى التزام العهد العمريّ، وألزم بطرك النصارى طائفته النصارى بلبس العمائم الزرق وشدّ الزنار في أوساطهم، ومنعهم من ركوب الخيل والبغال، والتزام الصغار، وحرّم عليهم مخالفة ذلك أو شيء منه، وأنه بريء من النصرانية إن خالف. ثم اتبعه ديان اليهود بأن أوقع الكلمة على من خالف من اليهود ما شرط عليه، من لبس العمائم الصفر والتزام العهد العمريّ، وكتب بذلك عدّة نسخ سيرت إلى الأعمال، فقام المغربيّ في هدم الكنائس، فلم يمكنه قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد من ذلك، وكتب خطه بأنه لا يجوز أن يهدم من الكنائس إلّا ما استجدّ بناؤه، فغلقت عدّة كنائس بالقاهرة ومصر مدّة أيام، فسعى بعض أعيان النصارى في فتح كنيسة حتى فتحها، فثارت العامة ووقفوا للنائب والأمراء واستغاثوا بأن النصارى قد فتحوا الكنائس بغير إذن، وفيهم جماعة تكبروا عن لبس العمائم الزرق، واحتمى كثير منهم بالأمراء، فنودي في القاهرة ومصر أن يلبس النصارى بأجمعهم العمائم الزرق، ويلبس اليهود بأسرهم العمائم الصفر، ومن لم يفعل ذلك نهب ماله وحلّ دمه، ومنعوا جميعا من الخدمة في ديوان السلطان ودواوين الأمراء حتى يسلموا، فتسلطت الغوغاء عليهم وتتبعوهم، فمن رأوه بغير الزيّ الذي رسم به ضربوه بالنعال وصفعوا عنقه حتى يكاد يهلك، ومن مرّ بهم وقد ركب ولا يثني رجله ألقوه عن دابته وأوجعوه ضربا،

فاختفى كثير منهم، وألجأت الضرورة عدّة من أعيانهم إلى إظهار الإسلام أنفة من لبس الأزرق وركوب الحمير، وقد أكثر شعراء العصر في ذكر تغيير زيّ أهل الذمّة، فقال علاء الدين عليّ بن مظفر الوداعيّ: لقد ألزم الكفار شاشات ذلة ... تزيدهم من لعنة الله تشويشا فقلت لهم ما ألبسوكم عمائما ... ولكنهم قد ألزموكم براطيشا وقال شمس الدين الطيبي: تعجبوا للنصارى واليهود معا ... والسامريين لما عمموا الخرقا كأنما بات بالأصباغ منسهلا ... نسر السماء فأضحى فوقهم زرقا فبعث ملك برشلونة في سنة ثلاث وسبعمائة هدية جليلة زائدة عن عادته، عمّ بها جميع أرباب الوظائف من الأمراء مع ما خص به السلطان، وكتب يسأل في فتح الكنائس، فاتفق الرأي على فتح كنيسة حارة زويلة لليعاقبة، وفتح كنيسة البندقانيين من القاهرة، ثم لما كان يوم الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، هدمت كنائس أرض مصر في ساعة واحدة، كما ذكر في أخبار كنيسة الزهريّ، وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة، رسم بتحرير ما هو موقوف على الكنائس من أراضي مصر، فأناف على خمسة وعشرين ألف فدان، وسبب الفحص عن ذلك، كثرة تعاظم النصارى وتعدّيهم في الشرّ والإضرار بالمسلمين، لتمكنهم من أمراء الدولة وتفاخرهم بالملابس الجليلة، والمغالاة في أثمانها، والتبسط في المآكل والمشارب، وخروجهم عن الحدّ في الجراءة والسلاطة، إلى أن اتفق مرور بعض كتاب النصارى على الجامع الأزهر من القاهرة، وهو راكب بخف ومهماز وبقباء إسكندريّ طرح على رأسه، وقدّامه طرّادون يمنعون الناس من مزاحمته، وخلفه عدّة عبيد بثياب سرية على أكاديش فارهة، فشق ذلك على جماعة من المسلمين، وثاروا به وأنزلوه عن فرسه وقصدوا قتله، وقد اجتمع عالم كبير، ثم خلوا عنه، وتحدّد جماعة مع الأمير طاز في أمر النصارى وما هم عليه، فوعدهم بالإنصاف منهم، فرفعوا قصة على لسان المسلمين قرئت على السلطان الملك الصالح صالح بحضرة الأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة، تتضمن الشكوى من النصارى، وأن يعقد لهم مجلس ليلتزموا بما عليهم من الشروط، فرسم بطلب بطرك النصارى وأعيان أهل ملتهم، وبطلب رئيس اليهود وأعيانهم، وحضر القضاة والأمراء بين يدي السلطان، وقرأ القاضي علاء الدين عليّ بن فضل الله كاتب السرّ العهد الذي كتب بين المسلمين وبين أهل الذمّة، وقد أحضروه معهم، حتى فرغ منه، فالتزم من حضر منهم بما فيه وأقرّوا به، فعدّدت لهم أفعالهم التي جاهروا بها وهم عليها، وأنهم لا يرجعون عنها غير قليل، ثم يعودن إليها كما فعلوه غير مرّة فيما سلف، فاستقرّ الحال على أن يمنعوا من المباشرة بشيء من ديوان السلطان ودواوين الأمراء

ولو أظهروا الإسلام، وأن لا يكره أحد منهم على إظهار الإسلام، ويكتب بذلك إلى الأعمال. فتسلطت العامّة عليهم وتتبعوا آثارهم وأخذوهم في الطرقات، وقطعوا ما عليهم من الثياب، وأوجعوهم ضربا، ولم يتركوهم حتى يسلموا، وصاروا يضرمون لهم النار ليلقوهم فيها، فاختفوا في بيوتهم ولم يتجاسروا على المشي بين الناس، فنودي بالمنع من التعرّض لأذاهم، فأخذت العامّة في تتبع عوراتهم وما علوه من دورهم على بناء المسلمين فهدموه، واشتدّ الأمر على النصارى باختفائهم، حتى أنهم فقدوا من الطرقات مدّة، فلم ير منهم ولا من اليهود أحد، فرفع المسلمون قصة قرئت في دار العدل في يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب، تتضمن أن النصارى قد استجدّوا عمارات في كنائسهم ووسعوها، هذا وقد اجتمع بالقلعة عالم عظيم واستغاثوا بالسلطان من النصارى، فرسم بركوب والي القاهرة وكشفه على ذلك، فلم تتمهل العامّة ومرّت بسرعة فخرّبت كنيسة بجوار قناطر السباع، وكنيسة بطريق مصر للأسرى، وكنيسة الفهادين بالجوّانية من القاهرة، ودير نهيا من الجيزة، وكنيسة بناحية بولاق التكروريّ، ونهبوا حواصل ما خرّبوه من ذلك، وكانت كثيرة، وأخذوا أخشابها ورخامها وهجموا كنائس مصر والقاهرة، ولم يبق إلّا أن يخرّبوا كنيسة البندقانيين بالقاهرة، فركب الوالي ومنعهم منها، واشتدّت العامة وعجز الحكام عن كفهم، وكان قد كتب إلى جميع أعمال مصر وبلاد الشام أن لا يستخدم يهوديّ ولا نصرانيّ ولو أسلم، وأنه من أسلم منهم لا يمكن من العبور إلى بيته ولا من معاشرة أهله إلّا أن يسلموا وأن يلزم من أسلم منهم بملازمة المساجد والجوامع لشهود الصلوات الخمس والجمع، وأنّ من مات من أهل الذمة يتولى المسلمون قسمة تركته على ورثته إن كان له وارث، وإلّا فهي لبيت المال، وكان يلي ذلك البطرك، وكتب بذلك مرسوم قريء على الأمراء، ثم نزل به الحاجب فقرأه في يوم الجمعة سادس عشري جمادى الآخرة بجوامع القاهرة ومصر، فكان يوما مشهودا. ثم أحضر في أخريات شهر رجب من كنيسة شبرا بعدما هدمت، إصبع الشهيد الذي كان يلقى في النيل حتى يزيد، بزعمهم، وهو في صندوق، فأحرق بين يدي السلطان بالميدان من قلعة الجبل وذرى رماده في البحر خشية من أخذ النصارى له، فقدمت الأخبار بكثرة دخول النصارى من أهل الصعيد والوجه البحريّ في الإسلام. وتعلمهم القرآن، وإن أكثر كنائس الصعيد هدمت وبنيت مساجد، وأنه أسلم بمدينة قليوب في يوم واحد أربعمائة وخمسون نصرانيا، وكذلك بعامة الأرياف، مكرا منهم وخديعة حتى يستخدموا في المباشرات، وينكحوا المسلمات، فتم لهم مرادهم واختلطت بذلك الأنساب حتى صار أكثر الناس من أولادهم، ولا يخفى أمرهم على من نوّر الله قلبه، فإنه يظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهل ما يعرف به الفطن سوء أصلهم، وقديم معاداة أسلافهم للدين وحملته. النصارى فرق كثيرة، الملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والبرذعانية، والمرقولية،

وهم الرهاويون الذين كانوا بنواحي حرّان وغير هؤلاء. فمنهم من مذهبه مذهب الحرّانية، ومنهم من يقول بالنور والظلمة، والثنوية كلهم يقرّون بنبوّة المسيح عليه السلام ومنهم من يعتقد مذهب أرسطاطاليس. والملكانية واليعقوبية والنسطورية متفقون على أن معبودهم ثلاثة أقانيم» ، وهذه الأقانيم الثلاثة شيء واحد، وهو جوهر قديم، ومعناه أب وابن وروح القدس إله واحد، وأن الابن نزل من السماء فتدرّع جسدا من مريم، وظهر للناس يحيي ويبروئ وينبي، ثم قتّل وصلب وخرج من القبر لثلاث، فظهر لقوم من أصحابه فعرفوه حق معرفته، ثم صعد إلى السماء فجلس عن يمين أبيه هذا الذي يجمعهم اعتقاده، ثم إنهم يختلفون في العبارة عنه. فمنهم من يزعم أنّ القديم جوهر واحد يجمعه ثلاثة أقانيم، كل أقنوم منها جوهر خاص، فأحد هذه الأقانيم أب واحد غير مولود، والثالث روح فائضة منبثقة بين الأب والابن، وأن الابن لم يزل مولودا من الأب، وأن الأب لم يزل والدا للابن، لا على جهة النكاح والتناسل، لكن على جهة تولد ضياء الشمس من ذات الشمس، وتولد حرّ النار من ذات النار. ومنهم من يزعم أن معنى قولهم إن الإله ثلاثة أقانيم، أنها ذات لها حياة ونطق، فالحياة هي روح القدس، والنطق هو العلم والحكمة، ... «2» والنطق والعلم والحكمة والكلمة عبارة عن الابن، كما يقال الشمس وضياؤها، والنار وحرّها، فهو عبارة عن ثلاثة أشياء ترجع إلى أصل واحد. ومنهم من يزعم أنه لا يصحّ له أن يثبت الإله فاعلا حكيما، إلّا أنه يثبته حيا ناطقا، ومعنى الناطق عندهم العالم المميز، لا الذي يخرج الصوت بالحروف المركبة، ومعنى الحيّ عندهم من له حياة بها يكون حيا، ومعنى العالم من له علم به يكون عالما. قالوا فذاته وعلمه وحياته ثلاثة أشياء والأصل واحد، فالذات هي العلة للاثنين اللذين هما العلم والحياة، والاثنان هما المعلولان للعلة، ومنهم من يتنزه عن لفظ العلة والمعلول في صفة القديم، ويقول أب وابن ووالدة وروح وحياة وعلم وحكمة ونطق. قالوا والابن اتحد بإنسان مخلوق، فصار هو وما اتحد به مسيحا واحدا، وأن المسيح هو إله العباد وربهم، ثم اختلفوا في صفة الاتحاد، فزعم بعضهم أنه وقع بين جوهر لاهوتيّ وجوهر ناسوتيّ اتحاد، فصارا مسيحا واحدا، ولم يخرج الاتحاد كلّ واحد منهما عن جوهريته وعنصره، وأن المسيح إله معبود، وأنه ابن مريم الذي حملته وولدته، وأنه قتل وصلب، وزعم قوم أن المسيح بعد الاتحاد جوهران، أحدهما لاهوتيّ والآخر ناسوتيّ، وأن القتل والصلب وقعا به من جهة

ناسوته لا من جهة لاهوته، وأن مريم حملت بالمسيح وولدته من جهة ناسوته، وهذا قول النسطورية، ثم يقولون أن المسيح بكماله إله معبود، وأنه ابن الله، تعالى الله عن قولهم، وزعم قوم أنّ الاتحاد وقع بين جوهرين لاهوتيّ وناسوتيّ، فالجوهر اللاهوتيّ بسيط غير منقسم ولا متجزئ، وزعم قوم أن الاتحاد على جهة حلول الابن في الجسد ومخالطته إياه، ومنهم من زعم أن الاتحاد على جهة الظهور، كظهور كتابة الخاتم والنقش إذا وقع على طين أو شمع، وكظهور صورة الإنسان في المرآة، إلى غير ذلك من الاختلاف الذي لا يوجد مثله في غيرهم، حتى لا تكاد تجد اثنين منهم على قول واحد. والملكانية تنسب إلى ملك الروم، وهم يقولون أنّ الله اسم لثلاثة معان، فهو واحد ثلاثة وثلاثة واحد. واليعقوبية تقول أنه واحد قديم، وأنه كان لا جسم ولا إنسان، ثم تجسم وتأنس. والمرقولية قالوا الله واحد وعلمه غيره قديم معه، والمسيح ابنه على جهة الرحمة، كما يقال إبراهيم خليل الله، والمرقولية تزعم أن المسيح يطوف عليهم كل يوم وليلة، والبوزغانية تزعم أن المسيح هو الذي يحشر الموتى من قبورهم ويحاسبهم. وعندهم لا بدّ من تنصير أولادهم، وذلك أنهم يغمسون المولود في ماء قد أغلي بالرياحين وألوان الطيب في إجانة جديدة، ويقرءون عليه من كتابهم، فيزعمون أنه حينئذ ينزل عليه روح القدس، ويسمون هذا الفعل المعمودية، وطهارتهم إنما هي غسل الوجه واليدين فقط، ولا يختتن منهم إلّا اليعقوبية، ولهم سبع صلوات يستقبلون فيها المشرق، ويحجون إلى بيت المقدس، وزكاتهم العشر من أموالهم، وصيامهم خمسون يوما، فالثاني والأربعون منه عيد الشعانين، وهو اليوم الذي نزل فيه المسيح من الجبل ودخل بيت المقدس، وبعده بأربعة أيام عيد الفصح، وهو اليوم الذي خرج فيه موسى وقومه من مصر، وبعده بثلاثة أيام عيد القيامة، وهو اليوم الذي خرج فيه المسيح من القبر بزعمهم، وبعده بثمانية أيام عيد الجديد، وهو اليوم الذي ظهر فيه المسيح لتلامذته بعد خروجه من القبر، وبعده بثمانية وثلاثين يوما عيد السلاق، وهو اليوم الذي صعد فيه المسيح إلى السماء. ولهم عيد الصليب، وهو اليوم الذي وجدوا فيه خشية الصليب، وزعموا أنها وضعت على ميت فعاش، ولهم أيضا عيد الميلاد وعيد الذبح، ولهم قرابين وكهنة، فالشماس فوقه القس، وفوق القس الأسقف، وفوق الأسقف المطران، وفوق المطران البطريق، والسكر عندهم حرام، ولا يحلّ لهم أكل اللحم ولا الجماع في الصوم، وكل ما يباع في السوق ولم تعفه أنفسهم يباح أكله، ولا يصحّ النكاح إلّا بحضور شماس وقس وعدول ومهر، ويحرّمون من النساء ما يحرّمه المسلمون، ولا يحلّ الجمع بين امرأتين، ولا التسرّي بالإماء إلّا أن يعتقن ويتزوّج بهنّ، وإذا خدم العبد سبع سنين عتق، ولا يحل طلاق المرأة إلّا أن تأتي بفاحشة مبينة فتطلق، ولا تحل للزوج أبدا، وحدّ المحصن إذا زنى الرجم، فإن زنى غير محصن وحملت منه المرأة تزوّج بها، ومن قتل عمدا قتل، ومن قتل خطأ يهرّب ولا يحل طلبه،

ذكر ديارات النصارى

وأكثر أحكامهم من التوراة، وقد لعن منهم من لاط أو شهد بالزور أو قامر أو زنى أو سكر. ذكر ديارات النصارى قال ابن سيده: الدير خان النصارى، والجمع أديار، وصاحبه ديار وديرانيّ. قلت الدير عند النصارى يختص بالنساك المقيمين به، والكنيسة مجتمع عامتهم للصلاة. القلاية بمصر: هذه القلاية بجانب المعلقة التي تعرف بقصر الشمع في مدينة مصر، وهي مجمع أكابر الرهبان وعلماء النصارى، وحكمها عندهم حكم الأديرة. دير طرا: ويعرف بدير أبي جرج، وهو على شاطيء النيل. وأبو جرج هذا هو جرجس، وكان ممن عذبه الملك دقلطيانوس ليرجع عن دين النصرانية، ونوّع له العقوبات من الضرب والتحريق بالنار، فلم يرجع، فضرب عنقه بالسيف في ثالث تشرين وسابع بابه. دير شعران: هذا الدير في حدود ناحية طرا، وهو مبنيّ بالحجر واللبن، وبه نخل وبه عدّة رهبان، ويقال إنما هو دير شهران بالهاء، وأنّ شهران كان من حكماء النصارى، وقيل بل كان ملكا، وكان هذا الدير يعرف قديما بمرقوريوس الذي يقال له مرقورة، وأبو مرقورة، ثم لما سكنه برصوما بن التبان عرف بدير برصوما، وله عيد يعمل في الجمعة الخامسة من الصوم الكبير، فيحضره البطرك وأكابر النصارى، وينفقون فيه مالا كبيرا. ومرقوريوس هذا كان ممن قتله دقلطيانوس في تاسع عشر تموز، وخامس عشري أبيب، وكان جنديا. دير الرسل: هذا الدير خارج ناحية الصف والودي، وهو دير قديم لطيف. دير بطرس وبولص: هذا الدير خارج اطفيح من قبليها، وهو دير لطيف وله عيد في خامس أبيب يعرف بعيد القصرية. وبطرس هذا هو أكبر الرسل الحواريين، وكان دباغا، وقيل صيادا، قتله الملك نبرون في تاسع عشري حزيران، وخامس أبيب. وبولص هذا كان يهوديا فتنصر بعد رفع المسيح عليه السلام، ودعا إلى دينه، فقتله الملك نيرون بعد قتله بطرس بسنة. دير الجميزة: ويعرف بدير الجود، ويسمي موضعه البحارة جزائر الدير، وهو قبالة الميمون، وهو عزبة لدير العزبة، بني على اسم انطونيوس، ويقال انطونة، وكان من أهل قمن، فلما انقضت أيام الملك دقلطيانوس وفاتته الشهادة أحب أن يتعوّض عنها بعبادة توصل ثوابها أو قريبا من ذلك، فترهب، وكان أوّل من أحدث الرهبانية للنصارى عوضا عن الشهادة، وواصل أربعين يوما ليلا ونهارا طاويا لا يتناول طعاما ولا شرابا مع قيام الليل، وكان هكذا يفعل في الصيام الكبير كل سنة. دير العزبة: هذا الدير يسار إليه في الجبل الشرقيّ ثلاثة أيام بسير الإبل، وبينه وبين

بحر القلزم مسافة يوم كامل، وفيه غالب الفواكه مزدرعة، وبه ثلاثة أعين تجري، وبناه أنطونيوس المقدّم ذكره، ورهبان هذا الدير لا يزالون دهرهم صائمين، لكن صومهم إلى العصر فقط ثم يفطرون، ما خلا الصوم الكبير والبرمولات، فإن صومهم في ذلك إلى طلوع النجم، والبرمولات هي الصوم كذلك بلغتهم. دير أنبابولا: وكان يقال له أوّلا دير بولص، ثم قيل له دير بولا، ويعرف بدير النمورة أيضا، وهذا الدير في البرّ الغربيّ من الطور على عين ماء يردها المسافرون، وعندهم أن هذه العين تطهرت منها مريم أخت موسى عليهما السلام عند نزول موسى ببني إسرائيل في برّية القلزم. وانبابولا هذا كان من أهل الإسكندرية، فلما مات أبوه ترك له ولأخيه مالا جما، فخاصمه أخوه في ذلك وخرج مغاضبا له، فرأى ميتا يقبر، فاعتبر به ومرّ على وجهه سائحا حتى نزل على هذه العين، فأقام هناك والله تعالى يرزقه، فمرّ به انطونيوس وصحبه حتى مات، فبني هذا الدير على قبره، وبين هذا الدير والبحر ثلاث ساعات، وفيه بستان فيه نخل وعنب وبه عين ماء تجري أيضا. دير القصير: قال أبو الحسن عليّ بن محمد الشابشتي في كتاب الديارات: وهذا الدير في أعلى الجبل على سطح في قلته، وهو دير حسن البناء محكم الصنعة نزه البقعة، وفيه رهبان مقيمون به، وله بئر منقورة في الحجر يستقى له منها الماء، وفي هيكله صورة مريم عليها السلام في لوح، والناس يقصدون الموضع للنظر إلى هذه الصورة، وفي أعلاه غرفة بناها أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، لها أربع طاقات إلى أربع جهات، وكان كثير الغشيان لهذا الدير معجبا بالصورة التي فيه، يستحسنها ويشرب على النظر إليها، وفي الطريق إلى هذا الدير من جهة مصر صعوبة، وأما من قبليه فسهل الصعود والنزول، وإلى جانبه صومعة لا تخلو من حبيس يكون فيها، وهو مطلّ على القرية المعروفة بشهران، وعلى الصحراء والبحر، وهي قرية كبيرة عامرة على شاطىء البحر، ويذكرون أن موسى صلوات الله عليه ولد فيها، ومنها ألقته أمّه إلى البحر في التابوت، وبه أيضا دير يعرف بدير شهران، ودير القصير هذا أحد الديارات المقصودة، والمنتزهات المطروقة لحسن موضعه وإشرافه على مصر وأعمالها، وقد قال فيه شعراء مصر ووصفوه فذكروا طيبه ونزهته، ولأبي هريرة بن أبي عاصم فيه من المنسرح: كم لي بدير القصير من قصف ... مع كل ذي صبوة وذي ظرف لهوت فيه بشادن غنج ... تقصر عنه بدائع الوصف وقال ابن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر: وقد اختلف في القصير فعن ابن لهيعة قال: ليس بقصير موسى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه موسى الساحر، وعن المفضل بن فضالة عن أبيه قال: دخلنا على كعب الأحبار فقال لنا: ممن أنتم؟ قلنا فتيان من أهل مصر. فقال: ما

تقولون في القصير؟ قلنا قصير موسى. فقال: ليس بقصير موسى، ولكنه قصير عزيز مصر، كان إذا جرى النيل يترفع فيه. وعلى ذلك إنه لمقدّس من الجبل إلى البحر. قال: ويقال بل كان موقدا يوقد فيه لفرعون إذا هو ركب من منف إلى عين شمس، وكان على المقطم موقد آخر، فإذا رأوا النار علموا بركوبه فأعدّوا له ما يريد، وكذلك إذا ركب منصرفا من عين شمس، والله أعلم، وما أحسن قول كشاجم: سلام على دير القصير وسفحه ... بجنات حلوان إلى النخلات منازل كانت لي بهنّ مآرب ... وكنّ مواخيري ومنتزهاتي إذا جئتها كان الجياد مراكبي ... ومنصرفي في السفن منحدرات فأقبض بالأسحار وحشيّ عينها ... وأقتنص الأنسيّ في الظلمات معي كلّ بسام أغرّ مهذب ... على كل ما يهوى النديم مواتي ولحمان مما أمسكته كلابنا ... علينا ومما صيد في الشبكات وكأس وابريق وناي ومزهر ... وساق غرير فاتر اللحظات كأنّ قضيب البان عند اهتزازه ... تعلم من أعطافه الحركات هنالك تصفو لي مشارب لذتي ... وتصحب أيام السرور حياتي وقال علماء الأخبار من النصارى: إن أرقاديوس ملك الروم طلب أرسانيوس ليعلّم ولده، فظنّ أنه يقتله، ففرّ إلى مصر وترهب، فبعث إليه أمانا وأعلمه أن الطلب من أجل تعليم ولده، فاستعفى وتحوّل إلى الجبل المقطم شرقيّ طرا، وأقام في مغارة ثلاث سنين ومات، فبعث إليه أرقاديوس فإذا هو قد مات، فأمر أن يبنى على قبره كنيسة، وهو المكان المعروف بدير القصير، ويعرف الآن بدير البغل، من أجل أنه كان به بغل يستقي عليه الماء، فإذا خرج من الدير أتى الموردة، وهناك من يملأ عليه، فإذا فرغ من الماء تركه فعاد إلى الدير. وفي رمضان سنة أربعمائة أمر الحاكم بأمر الله بهدم دير القصير، فأقام الهدم والنهب فيه مدّة أيام. دير مرحنا: قال الشابشتي: دير مرحنا على شاطىء بركة الحبش، وهو قريب من النيل، وإلى جانبه بساتين أنشأ بعضها الأمير تميم بن المعز، ومجلس على عمد، حسن البناء مليح الصنعة مسوّر، أنشأه الأمير تميم أيضا، وبقرب الدير بئر تعرف ببئر مماتي، عليها جميزة كبيرة يجتمع الناس إليها ويشربون تحتها، وهذا الموضع من مغاني اللعب ومواطن القصف والطرب، وهو نزه في أيام النيل وزيادة البحر وامتلاء البركة، حسن المنظر في أيام الزرع والنواوير، لا يكاد حينئذ يخلو من المتنزهين والمتطربين، وقد ذكرت الشعراء حسنه وطيبه، وهذا الدير يعرف اليوم بدير الطين بالنون. دير أبي النعناع: هذا الدير خارج انصنا، وهو من جملة عماراتها القديمة، وكنيسته

في قصره لا في أرضه، وهو على اسم أبي بخنس القصير، وعيده في العشرين من بابه، وسيأتي ذكر أبي بخنس هذا. دير مغارة شقلقيل: هو دير لطيف معلق في الجبل، وهو نقر في الحجر على صخرة تحتها عقبة لا يتوصل إليه من أعلاه ولا من أسفله ولا سلّم له، وإنما جعلت له نقور في الجبل، فإذا أراد أحد أن يصعد إليه أرخيت له سلبة فأمسكها بيده وجعل رجليه في تلك النقور وصعد، وبه طاحونة يديرها حمار واحد، ويطلّ هذا الدير على النيل تجاه منفلوط وتجاه أمّ القصور، وتجاهه جزيرة يحيط بها الماء، وهي التي يقال لها شقلقيل، وبها قريتان إحداهما شقلقيل والأخرى بني شقير، ولهذا الدير عيد يجتمع فيه النصارى، وهو على اسم يومينا، وهو من الأجناد الذين عاقبهم ديقلطيانوس ليرجع عن النصرانية ويسجد للأصنام، فثبت على دينه، فقتله في عاشر حزيران وسادس عشر بابه. دير بقطر: بحاجر أبنوب من شرقيّ بني مرّ تحت الجبل، على مائتي قصبة منه، وهو دير كبير جدّا، وله عيد يجتمع فيه نصارى البلاد شرقا وغربا، ويحضره الأسقف. وبقطر هذا هو ابن رومانوس، كان أبوه من وزراء ديقلطيانوس، وكان هو جميلا شجاعا له منزلة من الملك، فلما تنصر وعده الملك ومناه ليرجع إلى عبادة الأصنام فلم يفعل، فقتله في ثاني عشري نيسان، وسابع عشري برمودة. دير بقطرشق: في بحريّ أبنوب، وهو دير لطيف خال، وإنما تأتيه النصارى مرّة في كل سنة. وبقطرشق ممن عذبه ديقلطيانوس ليرجع عن النصرانية فلم يرجع، فقتله في العشرين من هتور، وكان جنديا. دير بوجرج: بني على اسم بوجرج، وهو خارج المعيصرة بناحية شرق بني مرّو، تارة يخلو من الرهبان وتارة يعمر بهم، وله وقت يعمل العيد فيه. دير حماس: وحماس اسم بلد هو بحربها، وله عيدان في كل سنة وجموعات متعدّدة. دير الطير: هذا الدير قديم، وهو مطلّ على النيل، وله سلالم منحوتة في الجبل، وهو قبالة سملوط. وقال الشابشتي وبنواحي أخميم دير كبير عامر يقصد من كل موضع، وهو بقرب الجبل المعروف بجبل الكهف، وفي موضع من الجبل شق فإذا كان يوم عيد هذا الدير لم يبق في البلد بوقير حتى يجيء إلى هذا الموضع، فيكون أمرا عظيما بكثرتها واجتماعها وصياحها عند الشق، ولا يزال الواحد بعد الواحد يدخل رأسه في ذلك الشق ويصيح ويخرج، ويجيء غيره إلى أن يعلق رأس أحدها وينشب في الموضع، فيضطرب حتى يموت، وتتفرّق حينئذ الباقية فلا يبقى منها طائر. وقال القاضي: أبو جعفر القضاعيّ: ومن عجائبها يعني مصر، شعب البوقيرات بناحية أشموم من أرض الصعيد، وهو شعب في جبل

فيه صدع تأتيه البوقيرات في يوم من السنة كان معروفا، فتعرض أنفسها على الصدع، فكلما أدخل بوقير منها منقاره في الصدع مضى لطيته، فلا تزال تفعل ذلك حتى يلقتي الصدع على بوقير منها فيحبسه، وتمضي كلها ولا يزال ذلك الذي تحبسه معلقا حتى يتساقط. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: وقد بطل هذا. في جملة ما بطل. دير أبي هرمينة: بحريّ فاو الخراب، وبحريه بربافاو، وهي مملوءة كتبا وحكما، وبين دير الطين وهذا الدير نحو يومين ونصف، وأبو هرمينة هذا من قدماء الرهبان المشهورين عند النصارى. دير السبعة جبال باخميم: هذا الدير داخل سبعة أودية، وهو دير عال بين جبال شامخة، ولا تشرق عليه الشمس إلّا بعد ساعتين من الشروق لعلوّ الجبل الذي هو في لحفه، وإذا بقي للغروب نحو ساعتين خيل لمن فيه أن الشمس قد غابت وأقبل الليل، فيشعلون حينئذ الضوء فيه، وعلى هذا الدير من خارجه عين ماء تظلها صفصافة، ويعرف هذا الموضع الذي فيه دير الصفصافة بوادي الملوك، لأن فيه نباتا يقال له الملوكة، وهو شبه الفجل، وماؤه أحمر قان يدخل في صناعة علم أهل الكيمياء، ومن داخل هذا الدير دير القرقس: وهو في أعلى جبل، قد نقر فيه، ولا يعلم له طريق، بل يصعد إليه في نقور في الجبل، ولا يتوصل إليه إلّا كذلك، وبين دير الصفصافة ودير القرقس ثلاث ساعات، وتحت دير القرقس عين ماء عذب وأشجار بان. دير صبرة: في شرقيّ اخميم، عرف بعرب يقال لهم بني صبرة، وهو على اسم ميخائيل الملك، وليس به غير راهب واحد. دير أبي بشادة الأسقف: قريب من ناحية انقه، وهو بالحاجر، وتجاهه في الغرب منشأة اخميم، وكان أبو بشادة هذا من علماء النصارى. دير بوهر الراهب: ويعرف بدير سوادة، وسوادة عرب تنزل هناك، وهو قبالة منية بني خصيب، خرّبته العرب، وهذه الأديرة كلها في الشرق من النيل، وجميعها لليعاقبة، وليس في الجانب الشرقيّ الآن سواها، وأما الجانب الغربيّ من النيل فإنه كثير الديارات لكثرة عمارته. دير دموة بالجيزة: وتعرف بدموة السباع، وهو على اسم قزمان ودميان، وهو دير لطيف، وتزعم النصارى أن بعض الحكماء كان يقال له سبع أقام بدموة، وأن كنيسة دموة التي بأيدي اليهود الآن كانت ديرا من ديارات النصارى، فابتاعته منهم اليهود في ضائقة نزلت بهم، وقد تقدّم ذكر كنيسة دموة وقزمان ودميان من حكماء النصارى ورهبانهم العباد، ولهما أخبار عندهم.

دير نهيا: قال الشابشتي: ونهيا بالجيزة، وديرها هذا من أحسن ديارات مصر، وأنزهها وأطيبها موضعا، وأجلها موقعا، عامر برهبانه وسكانه، وله في أيام النيل منظر عجيب، لأن الماء يحيط به من جميع جهاته، فإذا انصرف الماء وزرعت الأرض أظهرت أراضيه غرائب النواوير وأصناف الزهر، وهو من المنتزهات الموصوفة والبقاع المستحسنة، وله خليج يجتمع فيه سائر الطير، فهو أيضا متصيد ممنع، وقد وصفته الشعراء وذكرت حسنه وطيبه، قلت وقد خرب هذا الدير. دير طمويه: قال ياقوت: طمويه- بفتح الطاء وسكون الميم وفتح الواو ساكنة- قريتان بمصر، إحداهما في كورة المرتاحية، والأخرى بالجيزة، قال الشابشتي: وطمويه في الغرب بإزاء حلوان، والدير راكب البحر، حوله الكروم والبساتين والنخل والشجر، وهو نزه عامر آهل، وله في النيل منظر حسن، وحين تخضرّ الأرض يكون في بساطين من البحر والزرع، وهو أحد منتزهات أهل مصر المذكورة، ومواضع لهوها المشهورة. ولابن أبي عاصم المصريّ فيه من البسيط: واشرب بطمويه من صهباء صافية ... تزرى بخمر قرى هيت وعانات على رياض من النوّار زاهرة ... تجري الجداول فيها بين جنات كأن نبت الشقيق العصفريّ بها ... كاسات خمر بدت في إثر كاسات كأنّ نرجسها من حسنه حدق ... في خفية يتناجى بالإشارات كأنما النيل في مرّ النسيم به ... مستلئم في دروع سابريات منازل كنت مفتونا بها شغفا ... وكنّ قدما مواخيري وحاناتي إذ لا أزال ملما بالصبوح على ... ضرب النواقيس صبّا بالديارات قلت هذا الدير عند النصارى على اسم بوجرج ويجتمع فيه النصارى من النواحي: دير أقفاص: وصوابها أقفهس وقد خرب. دير خارج ناحية منهري: خامل الذكر لأنهم لا يطعمون فيه أحدا. دير الخادم: على جانب المنهي بأعمال البهنسا، على اسم غبريال الملك، به بستان فيه نخل وزيتون. دير أشنين: عرف بناحية أشنين، فإنه في بحريها، وهو لطيف على اسم السيدة مريم، وليس به سوى راهب واحد. دير ايسوس: ومعنى ايسوس يسوع، ويقال له دير أرجنوس، وله عيد في خامس عشري بشنس، فإذا كان ليلة هذا اليوم سدّت بئر فيه تعرف ببئر ايسوس، وقد اجتمع الناس

إلى الساعة السادسة من النهار، ثم كشفوا الطابق عن البئر فإذا بها قد فاض ماؤها ثم ينزل، فحيث وصل الماء قاسوا منه إلى موضع استقرّ فيه الماء، فما بلغ كانت زيادة النيل في تلك السنة من الأذرع. دير سدمنت: على جانب المنهي بالحاجر بين الفيوم والريف على اسم بوجرج، وقد ضعفت أحواله عما كان عليه وقل ساكنه. دير النقلون: ويقال له دير الخشبة، ودير غبريال الملك، وهو تحت مغارة في الجبل الذي يقال له طارف الفيوم، وهذه المغارة تعرف عندهم بمظلة يعقوب، يزعمون أن يعقوب عليه السلام لما قدم مصر كان يستظل بها، وهذا الجبل مطلّ على بلدين يقال لهما اطفيح شيلا، وشلا. ويملأ الماء لهذا الدير من بحر المنهي ومن تحت دير سدمنت، ولهذا الدير عيد يجتمع فيه نصارى الفيوم وغيرهم، وهو على السكة التي تنزل إلى الفيوم ولا يسكلها إلّا القليل من المسافرين. دير القلمون: هذا الدير في برّية تحت عقبة القلمون، يتوصل المسافر منها إلى الفيوم، يقال لها عقبة الغريق، وبني هذا الدير على اسم صمويل الراهب، وكان في زمن الفترة ما بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، ومات في ثامن كيهك، وفي هذا الدير نخل كثير يعمل من تمره العجوة، وفيه أيضا شجر البلخ، ولا يوجد إلّا فيه، وثمره بقدر الليمون، طعمه حلو في مثل طعم الرامخ، ولنواه عدّة منافع، وقال أبو حنيفة في كتاب النبات: ولا ينبت اللبخ إلّا بأنصنا، وهو عود تنشر منه ألواح السفن، وربما أرعف ناشرها، ويباع اللوح منها بخمسين دينارا ونحوها، وإذا شدّ لوح منها بلوح وطرحا في الماء سنة التأما وصارا لوحا واحدا، وفي هذا الدير قصران مبنيان بالحجارة، وهما عاليان كبيران لبياضهما إشراق، وفيه أيضا عين ماء تجري، وفي خارجه عين أخرى، وبهذا الوادي عدّة معابد قديمة، وثمّ واد يقال له الأميلح فيه عين ماء تجري ونخيل مثمرة تأخذ العرب ثمرها، وخارج هذا الدير ملّاحة يبيع رهبان الدير ملحها فيعم تلك الجهات. دير السيدة مريم: خارج طنبدى، ليس فيه سوى راهب واحد وهو على غير الطريق المسلوك، وكان بأعمال البهنسا عدّة ديارات خربت. دير برقانا: بحريّ بني خالد، وهو مبنيّ بالحجر وعمارته حسنة، وهو من أعمال المنية، وكان به في القديم ألف راهب، وليس به الآن سوى راهبين، وهو في الحاجر تحت الجبل. دير بالوجه: على جنب المنهي، وهو لأهل دلجة، وهو من الأديرة الكبار، وقد خرب حتى لم يبق به سوى راهب أو راهبين، وهو بإزاء دلجة بينه وبينها نحو ساعتين.

أديرة أدرنكة

دير مرقورة: ويقال أبو مرقورة، هذا الدير تحت دلجة بخارجها من شرقيها وليس به أحد. دير صنبو: في خارجها من بحريها على اسم السيدة مريم وليس به أحد. دير تادرس: قبليّ صنبو وقد تلاشى أمره لاتضاع حال النصارى. دير الريرمون: في شرقيّ ناحية الريرمون، وهو شرقيّ ملوى وغربيّ أنصنا، وهو على اسم الملك غبريال. دير المحرق: تزعم النصارى أن المسيح عليه السلام أقام في موضعه ستة أشهر وأياما، وله عيد عظيم يعرف بعيد الزيتونة وعيد العنصرة يجتمع فيه عالم كثير. دير بني كلب: عرف بذلك لنزول بني كلب حوله، وهو على اسم غبريال، وليس فيه أحد من الرهبان وإنما هو كنيسة لنصارى منفلوط وهو غربيها. دير الجاولية: هذا الدير ناحية الجاولية من قبليها، وهو على اسم الشهيد مرقورس الذي يقال له مرقورة، وعليه رزق محبسة، وتأتيه النذورات والعوائد وله عيدان في كل سنة. دير السبعة جبال: هذا الدير على رأس الجبل الذي غربيّ سيوط، على شاطيء النيل، ويعرف بدير بخنس القصير، وله عدّة أعياد، وخرب في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة من منسر طرقه ليلا. بخنس: ويقال أبو بخنس القصير، كان راهبا قمصا، له أخبار كثيرة منها: أنه غرس خشبة يابسة في الأرض بأمر شيخه له، وسقاها الماء مدّة فصارت شجرة مثمرة تأكل منها الرهبان، وسميت شجرة الطاعة ودفن في ديره. دير المطل: هذا الدير على اسم السيدة مريم، وهو على طرف الجبل تحت دير السبعة جبال قبالة سيوط، وله عيد يحضره أهل النواحي وليس به أحد من الرهبان. أديرة أدرنكة اعلم أن ناحية أدرنكة هي من قرى النصارى الصعايدة، ونصاراها أهل علم في دينهم، وتفاسيرهم في اللسان القبطيّ، ولهم أديرة كثيرة في خارج البلد من قبليها مع الجبل، وقد خرب أكثرها وبقي منها: دير بوجرج: وهو عامر البناء وليس به أحد من الرهبان ويعمل فيه عيد في أوانه. دير أرض الحاجر ودير ميكائيل ودير كرفونه: على اسم السيدة مريم، وكان يقال له ارافونه واغرافونا ومعناه النساخ، فإن نساخ علوم النصارى كانت في القديم تقيم به وهو على

طرف الجبل، وفيه مغاير كثيرة منها ما يسير الماشي بجنبه نحو يومين. دير أبي بغام: تحت دير كرفونة بالحاجر، وقد كان أبو بغام جنديا في أيام ديقلطيانوس فتنصر وعذب ليرجع عن دينه، ثم قتل في ثامن عشري كانون الأوّل، وثاني كيهك. ديربوساويرس: بحاجر أدرنكة، كان على اسم السيدة مريم، وكان ساويرس من عظماء الرهبان فعمل بطركا، وظهرت آية عند موته، وذلك أنه أنذرهم لما سار إلى الصعيد بأنه إذا مات ينشق الجبل وتقع منه قطعة عظيمة على الكنيسة فلا تضرّها، فلما كان في بعض الأيام سقطت قطعة عظيمة من الجبل كما قال، فعلم رهبان هذا الدير بأن ساويرس قد مات، فأرخوا ذلك فوجدوه وقت موته فسموا الدير حينئذ باسمه. دير تادرس: تحت دير بوساويرس، وتادرس اثنان كانا من أجناد ديقلطيانوس، أحدهما يقال له قاتل التنين والآخر الاسفهسلار، وقتلا كما قتل غيرهما. دير منسى آك: ويقال منساك، وبني ساك وايساآك، ومعنى ذلك إسحاق، وكان على اسم السيدة ماريهام يعني مار مريم، ثم عرف بمنساك، وكان راهبا قديما له عندهم شهرة، وبهذا الدير بئر تحته في الحاجر منها شرب الرهبان فإذا زاد النيل شربوا من مائه. دير الرسل: تحت دير منساك، ويعرف بدير الأثل، وهو لأعمال بوتيج، ودير منساك لأهل ربقة هو ودير ساويرس، ودير كرفونة لأهل سيوط، ودير بوجرج لأهل أدرنكة، ودير الأئل كان في خراب فعمر بجانبه كفر لطيف عرف بمنشأة الشيخ، لأن الشيخ أبا بكر الشاذليّ أنشأه وأنشأ بستانا كبيرا، وقد وجد موضعه بئرا كبيرة وجد بها كنزا، أخبرني من شاهد من ذهبه دنانير مربعة بأحد وجهيها صليب وزنة الدينار مثقال ونصف. وأديرة أدرنكة المذكورة قريب بعضها من بعض، وبينها مغاير عديدة منقوش على ألواح فيها نقوشات من كتابة القدماء كما على البرابي، وهي مزخرفة بعدّة أصباغ، ملوّنة تشتمل على علوم شتى، ودير السبعة جبال ودير المطل ودير النساخ خارج سيوط في المقابر، ويقال أنه كان في الحاجرين ثلاثمائة وستون ديرا، وأن المسافر كان لا يزال من البدرشين إلى أصفون في ظل البساتين، وقد خرب ذلك وباد أهله. دير موشه: وموشه خارج سيوط من قبليها بني على اسم توما الرسول الهندي، وهو بين الغيطان قريب من ربقة، وفي أيام النيل لا يوصل إليه إلّا في مركب، وله أعياد والأغلب على نصارى هذه الأديرة معرفة القبطيّ الصعيديّ، وهو أصل اللغة القبطية، وبعدها اللغة القبطية البحرية، ونساء نصارى الصعيد وأولادهم لا يكادون يتكلمون إلّا بالقبطية الصعيدية، ولهم أيضا معرفة تامّة باللغة الرومية. دير أبى مقروفة: وأبو مقروفة اسم للبلدة التي بها هذا الدير، وهو منقور في لحف

الجبل وفيه عدّه مغاير وهو على اسم السيدة مريم، وبمقروفة نصارى كثيرة غنامة ورعاة أكثرهم همج، وفيهم قليل من يقرأ ويكتب، وهو دير معطش. دير بومغام: خارج طما وأهلها نصارى وكانوا قديما أهل علم. دير بوشنوده: ويعرف بالدير الأبيض، وهو غربيّ ناحية سوهاي وبناؤه بالحجر وقد خرب ولم يبق منه إلا كنيسته، ويقال إن مساحته أربعة فدادين ونصف وربع، والباقي منه نحو فدّان وهو دير قديم. الدير الأحمر: ويعرف بدير أبي بشاي، وهو بحريّ الدير الأبيض بينهما نحو ثلاث ساعات، وهو دير لطيف مبنيّ بالطوب الأحمر، وأبو بشاي هذا من الرهبان المعاصرين لشنوده، وهو تلميذه، وصار من تحت يده ثلاث آلاف راهب، وله دير آخر في برّية شبهات. دير أبي ميساس: ويقال أبو ميسيس، واسمه موسى، وهذا الدير تحت البلينا وهو دير كبير. وأبو ميسيس هذا كان راهبا من أهل البلينا وله عندهم شهرة، وهم ينذرونه ويزعمون فيه مزاعم، ولم يبق بعد هذا الدير إلا أديرة بحاجر اسنا ونقادة قليلة العمارة، وكان بأصفون دير كبير وكانت أصفون من أحسن بلاد مصر وأكثر نواحي الصعيد فواكه، وكان رهبان ديرها معروفين بالعلم والمهارة، فخربت أصفون وخرب ديرها. وهذا آخر أديرة الصعيد وهي كلها يحمل متلاشية آئلة إلى الدثور بعد كثرة عمارتها ووفور أعداد رهبانها وسعة أرزاقهم، وكثرة ما كان يحمل إليهم. وأما الوجه البحري: فكان فيه أديرة كثيرة خربت وبقي منها بقية، فكان بالمقس خارج القاهرة من بحريها عدّة كنائس هدمها الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور في تاسع عشر ذي الحجة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وأباح ما كان فيها، فنهب منها شيء كثير جدّا بعد ما أمر في شهر ربيع الأوّل منها بهدم كنائس راشدة خارج مدينة مصر من شرقيها، وجعل موضعها الجامع المعروف براشدة، وهدم أيضا في سنة أربع وتسعين كنيستين هناك، وألزم النصارى بلبس السواد وشدّ الزنار، وقبض على الأملاك التي كانت محبسة على الكنائس والأديرة وجعلها في ديوان السلطان، وأحرق عدّة كثيرة من الصلبان، ومنع النصارى من إظهار زينة الكنائس في عيد الشعانين، وتشدّد عليهم وضرب جماعة منهم، وكانت بالروضة كنيسة بجوار المقياس فهدمها السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وكان في ناحية أبي النمرس من الجيزة كنيسة قام في هدمها رجل من الزيالعة، لأنه سمع أصوات النواقيس يجهر بها في ليلة الجمعة بهذه الكنيسة، فلم يتمكن من ذلك في أيام الأشرف شعبان بن حسين لتمكن الأقباط في الدولة، فقام في ذلك مع الأمير الكبير برقوق، وهو يومئذ القائم بتدبير الدولة، حتى هدمها على يد القاضي جمال الدين محمود

العجميّ محتسب القاهرة في ثامن عشر رمضان سنة ثمانين وسبعمائة، وعملت مسجدا. دير الخندق: ظاهر القاهرة من بحريها، عمره القائد جوهر عوضا عن دير هدمه في القاهرة، كان بالقرب من الجامع الأقمر حيث البئر التي تعرف الآن ببئر العظمة، وكانت إذ ذاك تعرف ببئر العظام من أجل أنه نقل عظاما كانت بالدير وجعلها بدير الخندق، ثم هدم دير الخندق في رابع عشري شوّال سنة ثمان وسبعين وستمائة، في أيام المنصور قلاون، ثم جدّد هذا الدير الذي هناك بعد ذلك، وعمل كنيستين يأتي ذكرهما في الكنائس. دير سرياقوس: كان يعرف بأبي هور، وله عيد يجتمع فيه الناس، وكان فيه أعجوبة ذكرها الشابشتي، وهو أن من كان به خنازير أخذه رئيس هذا الدير وأضجعه وجاءه بخنزير فلحس موضع الوجع، ثم أكل الخنازير التي فيه فلا يتعدّى ذلك إلى الموضع الصحيح، فإذا نظف الموضع ذرّ عليه رئيس الدير من رماد خنزير فعل مثل هذا الفعل من قبل ودهنه بزيت قنديل البيعة، فإنه يبرأ ثم يؤخذ ذلك الخنزير الذي أكل خنازير العليل فيذبح ويحرق، ويعدّ رماده لمثل هذه الحالة، فكان لهذا الدير دخل عظيم ممن يبرأ من هذه العلة، وفيه خلق من النصارى. دير اتريب: ويعرف بماري مريم، وعيده في حادي عشري بؤنه، وذكر الشابشتي أن حمامة بيضاء تأتي في ذلك العيد فتدخل المذبح، لا يدرون من أين جاءت ولا يرونها إلى يوم مثله. وقد تلاشى أمر هذا الدير حتى لم يبق به إلّا ثلاثة من الرهبان، لكنهم يجتمعون في عيده، وهو على شاطيء النيل قريب من بنها العسل. دير المغطس: عند الملاحات قريب من بحيرة البراس، وتحج إليه النصارى من قبليّ أرض مصر، ومن بحريها، مثل حجهم إلى كنيسة القيامة، وذلك يوم عيده، وهو في بشنس ويسمونه عيد الظهور من أجل أنهم يزعمون أن السيدة مريم تظهر لهم فيه مزاعم كلها من أكاذيبهم المختلفة، وليس بحذاء هذا الدير عمارة سوى منشأة صغيرة في قبليه بشرق، وبقربه الملاحة التي يؤخذ منها الملح الرشيديّ، وقد هدم هذا الدير في شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وثمانمائة بقيام بعض الفقراء المعتقدين. دير العسكر: في أرض السباخ على يوم من دير المغطس، على اسم الرسل، وبقربه ملاحة الملح الرشيديّ ولم يبق به سوى راهب واحد. دير جميانة: على اسم بوجرج قريب من دير العسكر على ثلاث ساعات منه، وعيده عقب عيد دير المغطس وليس به الآن أحد. دير الميمنة: بالقرب من دير العسكر، كانت له حالات جليلة، ولم يكن في القديم دير بالوجه البحريّ أكثر رهبانا منه، إلّا أنه تلاشى أمره وخرب، فنزله الحبش وعمروه،

وليس في السباخ سوى هذه الأربعة الأديرة. وأما وادي هبيب وهو وادي النطرون، ويعرف ببرّية شيهات وببرّية الأسقط وبميزان القلوب، فإنه كان بها في القديم مائة دير، ثم صارت سبعة ممتدّة غربا على جانب البرّية القاطعة بين بلاد البحيرة والفيوم، وهي في رمال منقطعة وسباخ مالحة وبرار منقطعة معطشة وقفار مهلكة، وشارب أهلها من حفائر، وتحمل النصارى إليهم النذور والقرابين، وقد تلاشت في هذا الوقت بعدما ذكر مؤرخو النصارى أنه خرج إلى عمرو بن العاص من هذه الأديرة سبعون ألف راهب بيد كل واحد عكاز، فسلموا عليه وأنه كتب لهم كتابا هو عندهم. فمنها دير أبي مقار الكبير: وهو دير جليل عندهم، وبخارجه أديرة كثيرة خربت، وكان دير النساك في القديم، ولا يصح عندهم بطركية البطرك حتى يجلسوه في هذا الدير بعد جلوسه بكرسيّ اسكندرية، ويذكر أنه كان فيه من الرهبان ألف وخمسمائة لا تزال مقيمة به، وليس به الآن إلّا قليل منهم، والمقارات ثلاثة: أكبرهم صاحب هذا الدير، ثم أبو مقار الإسكندرانيّ، ثم أبو مقار الأسقف. وهؤلاء الثلاثة قد وضعت رممهم في ثلاث أنابيب من خشب، وتزورها النصارى بهذا الدير، وبه أيضا الكتاب الذي كتبه عمرو بن العاص لرهبان وادي هبيب بجرانة نواحي الوجه البحري على ما أخبرني من أخبر برؤيته فيه. أبو مقار الأكبر: هو مقاريوس، أخذ الرهبانية عن أنطونيوس، وهو أوّل من لبس عندهم القلنسوة والاشكيم، وهو سير من جلد فيه صليب يتوشح به الرهبان فقط، ولقي انطونيوس بالجبل الشرقيّ من حيث دير العزبة، وأقام عنده مدّة، ثم ألبسه لباس الرهبانية وأمره بالمسير إلى وادي النطرون ليقيم هناك، ففعل ذلك واجتمع عنده الرهبان الكثيرة العدد، وله عندهم فضائل عديدة منها: أنه كان لا يصوم الأربعين إلّا طاويا في جميعها لا يتناول غذاء ولا شرابا البتة، مع قيام ليلها. وكان لا يعمل الخوص ويتقوّت منه، وما أكل خبزا طريا قط، بل يأخذ القراقيش فيبلها في نقاعة الخوص ويتناول منها هو ورهبان الدير ما يمسك الرمق من غير زيادة، هذا قوتهم مدّة حياتهم حتى مضوا لسبيلهم، وأما أبو مقار الإسكندرانيّ فإنه ساح من الإسكندرية إلى مقاريوس المذكور وترهب على يديه، ثم كان أبو مقار الثالث وصار أسقفا. دير أبي بخنس القصير: يقال أنه عمر في أيام قسطنطين بن هيلانة، ولأبي بخنس هذا فضائل مذكورة، وهو من أجل الرهبان، وكان لهذا الدير حالات شهيرة وبه طوائف من الرهبان، ولم يبق به الآن إلّا ثلاثة رهبان. دير الياس: عليه السلام، وهو دير للحبشة، وقد خرب دير بخنس كما خرب دير الياس، أكلت الأرضة أخشابهما فسقطا، وصار الحبشة إلى دير سيدة بوبخنس القصير، وهو دير لطيف بجوار دير بوبخنس القصير. وبالقرب من هذه الأديرة.

دير انبانوب: وقد خرب هذا الدير أيضا انبانوب هذا من أهل سمنود قتل في الإسلام ووضع جسده في بيت بسمنود. دير الأرمن: قريب من هذه الأديرة وقد خرب. وبجوارها أيضا: دير بوبشاي: وهو دير عظيم عندهم، من أجل أن بوبشاي هذا كان من الرهبان الذين في طبقة مقاريوس وبخنس القصير، وهو دير كبير جدّا. دير بإزاء دير بوبشاي: كان بيد اليعاقبة، ثم ملكته رهبان السريان من نحو ثلاثمائة سنة، وهو بيدهم الآن، ومواضع هذه الأديرة يقال لها بركة الأديرة. دير سيدة برموس: على اسم السيدة مريم فيه بعض رهبان. وبإزائه: دير موسى: ويقال أبو موسى الأسود، ويقال برمؤس، وهذا الدير لسيدة برمؤس، فبرموس اسم الدير وله قصة حاصلها أن مكسيموس ودوماديوس كانا ولدي ملك الروم، وكان لهما معلم يقال له ارسانيوس، فسار المعلم من بلاد الروم إلى أرض مصر، وعبر برّية شيهات هذه، وترهب وأقام بها حتى مات، وكان فاضلا. وأتاه في حياته ابنا الملك المذكوران وترهبا على يديه، فلما ماتا بعث أبوهما فبنى على اسمهما كنيسة برموس. وأبو موسى الأسود كان لصا فاتكا قتل مائة نفس، ثم إنه تنصر وترهب وصنف عدّة كتب، وكان ممن يطوي الأربعين في صومه وهو بربريّ. دير الزجاج: هذا الدير خارج مدينة الإسكندرية، ويقال له الهايطون، وهو على اسم بوجرج الكبير، ومن شرط البطرك أنه لا بدّ أن يتوجه من المعلقة بمصر إلى دير الزجاج هذا، ثم إنهم في هذا الزمان تركوا ذلك، فهذه أديرة اليعاقبة. وللنساء ديارات تختص بهنّ: فمنها دير الراهبات بحارة زويلة من القاهرة، وهو دير عامر بالإبكار المترهبات وغيرهنّ من نساء النصارى. دير البنات: بحارة الروم بالقاهرة عامر بالنساء المترهبات. دير المعلقة: بمدينة مصر، وهو أشهر ديارات النساء عامر بهنّ. دير بربارة: بمصر بجوار كنيسة بربارة عامر بالبنات المترهبات بربارة: كانت قدّيسة في زمان دقلطيانوس، فعذبها لترجع عن ديانتها وتسجد للأصنام، فثبتت على دينها وصبرت على عذاب شديد وهي بكر لم يمسها رجل، فلما يئس منها ضرب عنقها وعنق عدّة من النساء معها وللنصارى الملكية قلاية بطركهم بجوار كنيسة ميكائيل بالقرب من جسر الأفرم خارج مصر، وهي مجمع الرهبان الواردين من بلاد الروم.

دير بخنس القصير: المعروف بالقصيّر، وصوابه عندهم دير القصير على وزن شهيد، وحرّف فقيل دير القصيّر، بضم القاف وفتح الصاد وتشديد الياء، فسماه المسلمون دير القصير بضم القاف وفتح الصاد وإسكان الياء آخر الحروف، كأنه تصغير قصير، وأصله كما عرّفتك دير القصير الذي هو ضدّ الطويل، وسمي أيضا دير هر قل، ودير البغل، وقد تقدّم ذكره. وكان من أعظم ديارات النصارى وليس به الآن سوى واحد يحرسه، وهو بيد الملكية. دير الطور: قال ابن سيده: الطور الجبل، وقد غلب على طور سيناء جبل بالشام، وهو بالسريانية طوري والنسب إليه طوريّ وطواري. وقال ياقوت: طور سبعة مواضع: الأوّل طور زيتا بلفظ الزيت من الأدهان مقصور علم لجبل بقرب رأس عين. الثاني طور زيت أيضا جبل بالبيت المقدّس، وهو شرقيّ سلوان. الثالث الطور علم لجبل بعينه مطلّ على مدينة طبرية بالأردن. الرابع الطور علم لجبل كورة تشتمل على عدّة قرى بأرض مصر من الجهة القبلية بين مصر وجبل فاران. الخامس طور سيناء اختلفوا فيه فقيل هو جبل بقرب إيلة، وقيل جبل بالشام، وقيل سيناء حجازية، وقيل سحرتية. السادس طور عبدين بفتح العين وسكون الباء الموحدة وكسر الدال المهملة وياء آخر الحروف ونون، اسم لبلدة من نواحي نصيبين في بطن الجبل المشرف عليها المتصل بجبل جوديّ. السابع طور هارون أخي موسى عليهما السلام. وقال الواحديّ: في تفسيره، وقال الكلبيّ وغيره: والجبل في قوله تعالى، ولكن انظر إلى الجبل أعظم جبل بمدين يقال له زبير، وذكر الكلبيّ أن الطور سمي بيطور بن إسماعيل. قال السهيليّ: فلعله محذوف الياء إن كان صح ما قاله. وقال عمر بن شيبة: أخبرني عبد العزيز عن أبي معشر عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربعة أنهار في الجنة وأربعة أجبل وأربع ملاحم في الجنة، فأما الأنهار فسيحان وجيحان والنيل والفرات، وأما الأجبل فالطور ولبنان وأحد وورقان، وسكت عن الملاحم» . وعن كعب الأحبار معاقل المسلمين ثلاثة: فمعقلهم من الروم دمشق، ومعقلهم من الدجال الأردن، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور. وقال شعبة عن أرطاة بن المنذر: إذا خرج يأجوج ومأجوج أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم عليه السلام أني قد أخرجت خلقا من خلقي لا يطيقهم أحد غيري. فمرّ بمن معك إلى جبل الطور، فيمرّ ومعه من الذراري اثنا عشر ألفا. وقال طلق بن حبيب عن زرعة: أردت الخروج إلى الطور فأتيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقلت له: فقال إنما تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد: إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى. فدع عنك الطور فلا تأته. وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ، وقد ذكر كور أرض مصر: ومن كور القبلة قرى الحجاز وهي: كورة الطور وفاران، وكورة

راية والقلزم، وكورة إيلة وحيزها، ومدين وحيزها، والعويبد والحوراء وحيزهما، ثم كورة بدا وشعيب. قلت لا خلاف بين علماء الأخبار من أهل الكتاب أن جبل الطور هذا هو الذي كلم الله تعالى نبيه موسى عليه السلام عليه، أو عنده، وبه إلى الآن دير بيد الملكية وهو عامر وفيه بستان كبير به نخل وعنب وغير ذلك من الفواكه. وقال الشابشتيّ: وطور سينا هو الجبل الذي تجلّى فيه النور لموسى بن عمران عليه السلام، وفيه صعق، والدير في أعلى الجبل مبنيّ بحجر أسود، عرض حصنه سبع أذرع، وله ثلاثة أبواب حديد، وفي غربيه باب لطيف، وقدّامه حجر أقيم إذا أرادوا رفعه رفعوه، وإذا قصدهم أحد أرسلوه فانطبق على الموضع فلم يعرف مكان الباب، وداخل الدير عين ماء، وخارجه عين أخرى، وزعم النصارى أن به نارا من أنواع النار التي كانت ببيت المقدس، يقدمون منها في كلّ عشية، وهي بيضاء لطيفة ضعيفة الحرّ لا تحرق، ثم تقوى إذا أوقد منها السراج، وهو عامر بالرهبان، والناس يقصدونه، وهو من الديارات الموصوفة. قال ابن عامر فيه: يا راهب الدير ماذا الضوء والنور ... فقد أضاء بما في ديرك الطور هل حلّت الشمس فيه دون أبرجها ... أو غيّب البدر فيه وهو مستور فقال ما حلّه شمس ولا قمر ... لكن تقرّب فيه اليوم قورير قلت ذكر مؤرخو النصارى أنّ هذا الدير أمر بعمارته يوسطيانوس ملك الروم بقسطنطينية، فعمل عليه حصن فوقه عدّة قلالي، وأقيم فيه الحرس لحفظ رهبانه من قوم يقال لهم بنو صالح من العرب، وفي أيام هذا الملك كان المجمع الخامس من مجامع النصارى، وبينه وبين القلزم، وكانت مدينة، طريقان إحداهما في البرّ والأخرى في البحر، وهما جميعا يؤدّيان إلى مدينة فاران، وهي من مدائن العمالقة، ثم منها إلى الطور مسيرة يومين، ومن مدينة مصر إلى القلزم ثلاثة أيام، ويصعد إلى جبل الطور بستة آلاف وستمائة وست وستين مرقاة، وفي نصف الجبل كنيسة لإيلياء النبيّ، وفي قلته كنيسة على اسم موسى عليه السلام بأساطين من رخام، وأبواب من صفر، وهو الموضع الذي كلم الله تعالى فيه موسى، وقطع منه الألواح ولا يكون فيها إلّا راهب واحد للخدمة، ويزعمون أنه لا يقدر أحد أن يبيت فيها، بل يهيأ له موضع من خارج يبيت فيه، ولم يبق لهاتين الكنيستين وجود. دير البنات بقصر الشمع بمصر: وهو على اسم بوجرج، وكان مقياس النيل قبل الإسلام، وبه آثار ذلك إلى اليوم، فهذا ما للنصارى اليعاقبة، والملكية رجالهم ونسائهم من الديارات بأرض مصر قبليها وبحريها، وعدّتها ستة وثمانون ديرا منها لليعاقبة ... «1» ديرا وللملكية ... «2» .

ذكر كنائس النصارى

ذكر كنائس النصارى قال الأزهريّ: كنيسة اليهود جمعها كنائس، وهي معرّبة أصلها كنشت. انتهى. وقد نطقت العرب بذكر الكنيسة. قال العباس بن مرداس السلميّ: بدورون بي في ظل كلّ كنيسة ... وما كان قومي يبنون الكنائسا وقال ابن قيس الرقيات: كأنها دمية مصوّرة في بيعة من كنائس الروم. كنيستا الخندق: ظاهر القاهرة، إحداهما على اسم غبريال الملاك، والأخرى على اسم مرقوريوس، وعرفت برويس، وكان راهبا مشهورا بعد سنة ثمانمائة، وعند هاتين الكنيستين يقبر النصارى موتاهم، وتعرف بمقبرة الخندق، وعمرت هاتان الكنيستان عوضا عن كنائس المقس في الأيام الإسلامية. كنيسة حارة زويلة بالقاهرة: كنيسة عظيمة عند النصارى اليعاقبة، وهي على اسم السيدة، وزعموا أنها قديمة تعرف بالحكيم زايلون، وكان قبل الملة الإسلامية بنحو مائتين وسبعين سنة، وأنه صاحب علوم شتى، وأن له كنزا عظيما يتوصل إليه من بئر هناك. كنيسة تعرف بالمغيئة: بحارة الروم من القاهرة على اسم السيدة مريم، وليس لليعاقبة بالقاهرة سوى هاتين الكنيستين، وكان بحارة الروم أيضا كنيسة أخرى يقال لها كنيسة بربارة هدمت في سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وسبب ذلك أن النصارى رفعوا قصة للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاون يسألون الإذن في إعادة ما تهدّم منها، فأذن لهم في ذلك فعمروها أحسن ما كانت، فغضبت طائفة من المسلمين ورفعوا قصة للسلطان بأن النصارى أحدثوا بجانب هذه الكنيسة بناء لم يكن فيها، فرسم للأمير علم الدين سنجر الخازن، والي القاهرة بهدم ما جدّدوه، فركب وقد اجتمع الخلائق، فبادروا وهدموا الكنيسة كلها في أسرع وقت، وأقاموا في موضعها محرابا وأذنوا وصلوا وقرؤا القرآن، كل ذلك بأيديهم، فلم تمكن معارضتهم خشية الفتنة، فاشتدّ الأمر على النصارى وشكوا أمرهم للقاضي كريم الدين ناظر الخاص، فقام وقعد غضبا لدين أسلافه، وما زال بالسلطان حتى رسم بهدم المحراب فهدم، وصار موضعه كوم تراب ومضى الحال على ذلك. كنيسة بومنا: هذه الكنيسة قريبة من السدّ فيما بين الكيمان بطريق مصر، وهي ثلاث كنائس متجاورة، إحداها لليعاقبة، والأخرى للسريان، وأخرى للأرمن، ولها عيد في كل سنة تجتمع إليه النصارى. كنيسة المعلقة: بمدينة مصر في خط قصر الشمع، على اسم السيدة، وهي جليلة القدر عندهم، وهي غير القلاية التي تقدّم ذكرها.

كنيسة شنوده: بمصر، نسبت لأبي شنودة الراهب القديم، وله أخبار منها: أنه كان ممن يطوى في الأربعين إذا صام، وكان تحت يده ستة آلاف راهب يتقوّت هو وإياهم من عمل الخوص، وله عدّة مصنفات. كنيسة مريم: بجوار كنيسة شنودة، هدمها عليّ بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس أمير مصر لما ولي من قبل أمير المؤمنين الهادي موسى، في سنة تسع وستين ومائة، وهدم كنائس محرس قسطنطين، وبذل له النصارى في تركها خمسين ألف دينار فامتنع، فلما عزل بموسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في خلافة هارون الرشيد، أذن موسى بن عيسى للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها عليّ بن سليمان، فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة. وقالا هو من عمارة البلاد، واحتجا بأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلّا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين. كنيسة بوجرج الثقة: هذه الكنيسة في درب بخط قصر الشمع بمصر يقال له درب الثقة، ويجاورها كنيسة سيدة بوجرج. الثقة، ويجاورها كنيسة سيدة بوجرج. كنيسة بربارة: بمصر، كبيرة جليلة عندهم، وهي تنسب إلى القديسة بربارة الراهبة، وكان في زمانها راهبتان بكران، وهما ايسي وتكلة، ويعمل لهنّ عيد عظيم بهذه الكنيسة يحضره البطريق. كنيسة بوسرحه: بالقرب من بربارة بجوار زاوية ابن النعمان، فيها مغارة يقال أن المسيح وأمّه مريم عليها السلام جلسا بها. كنيسة بابليون: في قبليّ قصر الشمع بطريق جسر الأفرم، وهذه الكنيسة قديمة جدّا، وهي لطيفة، ويذكر أن تحتها كنز بابليون وقد خرب ما حولها. كنيسة تاودورس الشهيد: بجوار بابليون، نسبت للشهيد تاودورس الإسفهسلار. كنيسة بومنا بجوار بابليون أيضا: وهاتان الكنيستان مغلوقتان لخراب ما حولهما. كنيسة بومنا: بالحمراء، وتعرف الحمراء اليوم بخط قناطر السباع، فيما بين القاهرة ومصر، وأحدثت هذه الكنيسة في سنة سبع عشرة ومائة من سني الهجرة بإذن الوليد بن رفاعة أمير مصر، فغضب وهيب اليحصبيّ وخرج على السلطان وجاء إلى ابن رفاعة ليفتك به، فأخذ وقتل، وكان وهيب مدريا من اليمن، قدم إلى مصر فخرج القرّاء على الوليد بن رفاعة غضبا لوهيب وقاتلوه، وصارت معونة امرأة وهيب تطوف ليلا على منازل القرّاء تحرّضهم على الطلب بدمه، وقد حلقت رأسها، وكانت امرأة جزلة، فأخذ ابن رفاعة أبا عيسى مروان بن عبد الرحمن اليحصبيّ بالقرّاء، فاعتذر وخلى ابن رفاعة عنهم، فسكنت

الفتنة بعد ما قتل جماعة، ولم تزل هذه الكنيسة بالحمراء إلى أن كانت واقعة هدم الكنائس في أيام الناصر محمد بن قلاون على ما يأتي ذكر ذلك، والخبر عن هدم جميع كنائس أرض مصر وديارات النصارى في وقت واحد. كنيسة الزهري: كانت في الموضع الذي فيه اليوم البركة الناصرية بالقرب من قناطر السباع في برّ الخليج الغربيّ، غربيّ اللوق، واتفق في أمرها عدّة حوادث، وذلك أن الملك الناصر محمد بن قلاون لما أنشأ ميدان المهاري المجاور لقناطر السباع، في سنة عشرين وسبعمائة، قصد بناء زريبة على النيل الأعظم بجوار الجامع الطيبرسيّ، فأمر بنقل كوم تراب كان هناك، وحفر ما تحته من الطين لأجل بناء الزريبة، وأجرى الماء إلى مكان الحفر، فصار يعرف إلى اليوم بالبركة الناصرية، وكان الشروع في حفر هذه البركة من آخر شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، فلما انتهى الحفر إلى جانب كنيسة الزهريّ، وكان بها كثير من النصارى لا يزالون فيها، وبجانبها أيضا عدّة كنائس في الموضع الذي يعرف اليوم بحكر أقبغا، ما بين السبع سقايات وبين قنطرة السدّ خارج مدينة مصر، أخذ الفعلة في الحفر حول كنيسة الزهريّ حتى بقيت قائمة في وسط الموضع الذي عينه السلطان ليحفر، وهو اليوم بركة الناصرية، وزاد الحفر حتى تعلقت الكنيسة، وكان القصد من ذلك أن تسقط من غير قصد لخرابها، وصارت العامّة من غلمان الأمراء العمالين في الحفر وغيرهم في كل وقت يصرخون على الأمراء في طلب هدمها وهم يتغافلون عنهم إلى أن كان يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وقت اشتغال الناس بصلاة الجمعة، والعمل من الحفر بطال، فتجمع عدّة من غوغاء العامّة بغير مرسوم السلطان وقالوا بصوت عال مرتفع الله أكبر، ووضعوا أيديهم بالمساحي ونحوها في كنيسة الزهري وهدموها حتى بقيت كوما، وقتلوا من كان فيها من النصارى، وأخذوا جميع ما كان فيها، وهدموا كنيسة بومنا التي كانت بالحمراء، وكانت معظمة عند النصارى من قديم الزمان، وبها عدّة من النصارى قد انقطعوا فيها، ويحمل إليهم نصارى مصر سائر ما يحتاج إليه، ويبعث إليها بالنذور الجليلة والصدقات الكثيرة، فوجد فيها مال كثير ما بين نقد ومصاغ وغيره، وتسلق العامّة إلى أعلاها وفتحوا أبوابها وأخذوا منها مالا وقماشا وجرار خمر، فكان أمرا مهولا. ثم مضوا من كنيسة الحمراء بعد ما هدموها إلى كنيستين بجوار السبع سقايات تعرف إحداهما بكنيسة البنات، كان يسكنها بنات النصارى وعدّة من الرهبان، فكسروا أبواب الكنيستين وسبوا البنات وكنّ زيادة على ستين بنتا، وأخذوا ما عليهنّ من الثياب ونهبوا سائر ما ظفروا به، وحرّقوا وهدموا تلك الكنائس كلها، هذا والناس في صلاة الجمعة، فعندما خرج الناس من الجوامع شاهدوا هولا كبيرا من كثرة الغبار ودخان الحريق ومرج الناس وشدّة حركاتهم، ومعهم ما نهبوه، فما شبه الناس الحال لهوله إلّا بيوم القيامة، وانتشر الخبر وطار إلى الرميلة تحت قلعة الجبل، فسمع السلطان ضجة عظيمة ورجة منكرة أفزعته،

فبعث لكشف الخبر، فلما بلغه ما وقع انزعج انزعاجا عظيما وغضب من تجري العامّة وإقدامهم على ذلك بغير أمره، وأمر الأمير أيدغمش أميراخور أن يركب بجماعة الأوشاقية ويتدارك هذا الخلل، ويقبض على من فعله، فأخذ أيدغمش يتهيأ للركوب وإذا بخبر قد ورد من القاهرة أن العامّة ثارت في القاهرة وخرّبت كنيسة بحارة الروم، وكنيسة بحارة زويلة، وجاء الخبر من مدينة مصر أيضا بأن العامّة قامت بمصر في جمع كثير جدّا وزحفت إلى كنيسة المعلقة بقصر الشمع فأغلقها النصارى وهم محصورون بها وهي على أن توخذ، فتزايد غضب السلطان وهمّ أن يركب بنفسه ويبطش بالعامّة، ثم تأخر لمّا راجعه الأمير أيدغمش ونزل من القلعة في أربعة من الأمراء إلى مصر، وركب الأمير بيبرس الحاجب، والأمير الماس الحاجب إلى موضع الحفر، وركب الأمير طينال إلى القاهرة، وكل منهم في عدّة وافرة، وقد أمر السلطان بقتل من قدروا عليه من العامّة، بحيث لا يعفو عن أحد، فقامت القاهرة ومصر على ساق، وفرّت النهابة، فلم يظفر الأمراء منهم إلّا بمن عجز عن الحركة بما غلبه من السكر بالخمر الذي نهبه من الكنائس، ولحق الأمير أيدغمش بمصر وقد ركب الوالي إلى المعلقة قبل وصوله ليخرج من زقاق المعلقة من حضر للنهب، فأخذه الرجم حتى فرّ منهم، ولم يبق إلّا أن يحرق باب الكنيسة، فجرّد أيدغمش ومن معه السيوف يريدون الفتك بالعامّة، فوجدوا عالما لا يقع عليه حصر، وخاف سوء العاقبة، فأمسك عن القتل وأمر أصحابه بإرجاف العامّة من غير إهراق دم، ونادى منادية: من وقف حلّ دمه. ففرّ سائر من اجتمع من العامّة وتفرّقوا، وصار أيدغمش واقفا إلى أن أذّن العصر خوفا من عود العامّة، ثم مضى وألزم والي مصر أن يبيت بأعوانه هناك، وترك معه خمسين من الأوشاقية. وأما الأمير الماس فإنه وصل إلى كنائس الحمراء وكنائس الزهريّ ليتداركها، فإذا بها قد بقيت كيمانا ليس بها جدار قائم، فعاد وعاد الأمراء، فردّوا الخبر على السلطان وهو لا يزداد إلّا حنقا، فما زالوا به حتى سكن غضبه، وكان الأمر في هدم هذه الكنائس عجبا من العجب، وهو أن الناس لما كانوا في صلاة الجمعة من هذا اليوم بجامع قلعة الجبل، فعندما فرغوا من الصلاة قام رجل موله وهو يصيح من وسط الجامع: اهدموا الكنيسة التي في القلعة، اهدموها. وأكثر من الصياح المزعج حتى خرج عن الحدّ، ثم اضطرب. فتعجب السلطان والأمراء من قوله، ورسم لنقيب الجيوش والحاجب بالفحص عن ذلك، فمضيا من الجامع إلى خرائب التتر من القلعة، فإذا فيها كنيسة قد بنيت فهدموها، ولم يفرغوا من هدمها حتى وصل الخبر بواقعة كنائس الحمراء والقاهرة، فكثر تعجب السلطان من شأن ذلك الفقير، وطلب فلم يوقف له على خبر، واتفق أيضا بالجامع الأزهر أن الناس لما اجتمعوا في هذا اليوم لصلاة الجمعة، أخذ شخصا من الفقراء مثل الرعدة، ثم قام بعد ما أذن قبل أن يخرج الخطيب وقال: اهدموا كنائس الطغيان والكفرة، نعم الله أكبر، فتح الله ونصر.

وصار يزعج نفسه ويصرخ من الأساس إلى الأساس، فحدّق الناس بالنظر إليه ولم يدروا ما خبره، وافترقوا في أمره. فقائل هذا مجنون، وقائل هذه إشارة لشيء. فلما خرج الخطيب أمسك عن الصياح، وطلب بعد انقضاء الصلاة فلم يوجد. وخرج الناس إلى باب الجامع فرأوا النهابة ومعهم أخشاب الكنائس وثياب النصارى وغير ذلك من النهوب، فسألوا عن الخبر فقيل: قد نادى السلطان بخراب الكنائس، فظنّ الناس الأمر كما قيل، حتى تبين بعد قليل أن هذا الأمر إنما كان من غير أمر السلطان، وكان الذي هدم في هذا اليوم من الكنائس بالقاهرة، كنيسة بحارة الروم، وكنيسة بالبندقانيين، وكنيستين بحارة زويلة. وفي يوم الأحد الثالث من يوم الجمعة الكائن فيه هدم كنائس القاهرة ومصر، ورد الخبر من الأمير بدر الدين بيلبك المحسنيّ والي الإسكندرية، بأنه لما كان يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر بعد صلاة الجمعة، وقع في الناس هرج، وخرجوا من الجامع وقد وقع الصياح: هدمت الكنائس- فركب المملوك من فوره فوجد الكنائس قد صارت كوما، وعدّتها أربع كنائس، وأن بطاقة وقعت من والي البحيرة بأن كنيستين في مدينة دمنهور هدمتا والناس في صلاة الجمعة من هذا اليوم، فكثر التعجب من ذلك، إلى أن ورد في يوم الجمعة سادس عشرة الخبر من مدينة قوص بأن الناس عند ما فرغوا من صلاة الجمعة في اليوم التاسع من شهر ربيع الآخر، قام رجل من الفقراء وقال يا فقراء اخرجوا إلى هدم الكنائس، وخرج في جمع من الناس فوجدوا الهدم قد وقع في الكنائس، فهدمت ست كنائس كانت بقوص وما حولها في ساعة واحدة، وتواتر الخبر من الوجه القبليّ والوجه البحريّ بكثرة ما هدم في هذا اليوم وقت صلاة الجمعة وما بعدها من الكنائس والأديرة، في جميع إقليم مصر كله، ما بين قوص والإسكندرية ودمياط، فاشتدّ حنق السلطان على العامّة خوفا من فساد الحال، وأخذ الأمراء في تسكين غضبه وقالوا: هذا الأمر ليس من قدرة البشر فعله، ولو أراد السلطان وقوع ذلك على هذه الصورة لما قدر عليه، وما هذا إلّا بأمر الله سبحانه، وبقدره لما علم من كثرة فساد النصارى وزيادة طغيانهم، ليكون ما وقع نقمة وعذابا لهم، هذا والعامّة بالقاهرة ومصر قد اشتدّ خوفهم من السلطان لما كان يبلغهم عنه من التهديد لهم بالقتل، ففرّ عدّة من الأوباش والغوغاء، وأخذ القاضي فخر الدين ناظر الجيش في ترجيع السلطان عن الفتك بالعامّة وسياسة الحال معه، وأخذ كريم الدين الكبير ناظر الخاص يغريه بهم إلى أن أخرجه السلطان إلى الإسكندرية بسبب تحصيل المال، وكشف الكنائس التي خربت بها. فلم يمض سوى شهر من يوم هدم الكنائس حتى وقع الحريق بالقاهرة ومصر في عدّة مواضع، وحصل فيه من الشناعة أضعاف ما كان من هدم الكنائس، فوقع الحريق في ربع بخط الشوّايين من القاهرة، في يوم السبت عاشر جمادى الأولى، وسرت النار إلى ما حوله واستمرّت إلى آخر يوم الأحد، فتلف في هذا الحريق شيء كثير، وعند ما أطفيء وقع الحريق بحارة الديلم في زقاق العريسة بالقرب من دور كريم الدين ناظر الخاص، في خامس عشري

جمادى الأولى، وكانت ليلة شديدة الريح، فسرت النار من كلّ ناحية حتى وصلت إلى بيت كريم الدين، وبلغ ذلك السلطان فانزعج انزعاجا عظيما لما كان هناك من الحواصل السلطانية، وسيّر طائفة من الأمراء لإطفائه، فجمعوا الناس لإطفائه وتكاثروا عليه وقد عظم الخطب من ليلة الاثنين إلى ليلة الثلاثاء، فتزايد الحال في اشتعال النار وعجز الأمراء والناس عن إطفائها لكثرة انتشارها في الأماكن وقوّة الريح التي ألقت باسقات النخل، وغرّقت المراكب، فلم يشكّ الناس في حريق القاهرة كلّها، وصعدوا المآذن، وبرز الفقراء وأهل الخير والصلاح وضجوا بالتكبير والدعاء، وجأروا وكثر صراخ الناس وبكاؤهم، وصعد السلطان إلى أعلى القصر فلم يتمالك الوقوف من شدّة الريح، واستمرّ الحريق والاستحثاث يرد على الأمراء من السلطان في إطفائه إلى يوم الثلاثاء، فنزل نائب السلطان ومعه جميع الأمراء وسائر السقائين، ونزل الأمير بكتمر الساقي، فكان يوما عظيما لم ير الناس أعظم منه ولا أشدّ هولا، ووكل بأبواب القاهرة من يردّ السقائين إذا خرجوا من القاهرة لأجل إطفاء النار، فلم يبق أحد من سقائي الأمراء وسقائي البلد إلّا وعمل، وصاروا ينقلون الماء من المدارس والحمامات، وأخذ جميع النجارين وسائر البنائين لهدم الدور، فهدم في هذه النوبة ما شاء الله من الدور العظيمة والرباع الكبيرة، وعمل في هذا الحريق أربعة وعشرون أميرا من الأمراء المقدّمين، سوى من عداهم من أمراء الطبلخانات والعشراوات والمماليك، وعمل الأمراء بأنفسهم فيه، وصار الماء من باب زويلة إلى حارة الديلم في الشارع بحرا من كثرة الرجال والجمال التي تحمل الماء، ووقف الأمير بكتمر الساقي والأمير أرغون النائب على نقل الحواصل السلطانية من بيت كريم الدين إلى بيت ولده بدرب الرصاصيّ، وخرّبوا ستة عشر دارا من جوار الدار وقبالتها، حتى تمكنوا من نقل الحواصل، فما هو إلا أن كمل إطفاء الحريق ونقل الحواصل، وإذا بالحريق قد وقع في ربع الظاهر خارج باب زويلة، وكان يشتمل على مائة وعشرين بيتا، وتحته قيسارية تعرف بقيسارية الفقراء، وهب مع الحريق ريح قوية، فركب الحاجب والوالي لإطفائه وهدموا عدّة دور من حوله حتى انطفأ، فوقع في ثاني يوم حريق بدار الأمير سلار في خط بين القصرين، ابتدأ من الباذهنج، وكان ارتفاعه عن الأرض مائة ذراع بالعمل، فوقع الاجتهاد فيه حتى أطفيء، فأمر السلطان الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، والأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، بالاحتراز واليقظة، ونودي بأن يعمل عند كلّ حانوت دنّ فيه ماء، أو زير مملوء بالماء، وأن يقام مثل ذلك في جميع الحارات والأزقة والدروب، فبلغ ثمن كل دنّ خمس دراهم بعد درهم، وثمن الزير ثمانية دراهم، ووقع حريق بحارة الروم وعدّة مواضع، حتى أنه لم يخل يوم من وقوع الحريق في موضع، فتنبه الناس لما نزل بهم، وظنوا أنه من أفعال النصارى، وذلك أن النار كانت ترى في منابر الجوامع وحيطان المساجد والمدارس، فاستعدّوا للحريق وتتبعوا الأحوال حتى وجدوا هذا الحريق من نفط قد لف عليه خرق مبلولة بزيت وقطران. فلما كان

ليلة الجمعة النصف من جمادى، قبض على راهبين عند ما خرجا من المدرسة الكهارية بعد العشاء الآخرة، وقد اشتعلت النار في المدرسة، ورائحة الكبريت في أيديهما، فحملا إلى الأمير علم الدين الخازن والي القاهرة، فأعلم السلطان بذلك فأمر بعقوبتهما، فما هو إلّا أن نزل من القلعة وإذا بالعامّة قد أمسكوا نصرانيا وجد في جامع الظاهر ومعه خرق على هيئة الكعكة، في داخلها قطران ونفط، وقد ألقى منها واحدة بجانب المنبر، وما زال واقفا إلى أن خرج الدخان فمشى يريد الخروج من الجامع، وكان قد فطن به شخص وتأمّله من حيث لم يشعر به النصرانيّ، فقبض عليه وتكاثر الناس فجرّوه إلى بيت الوالي وهو بهيئة المسلمين، فعوقب عند الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، فاعترف بأن جماعة من النصارى قد اجتمعوا على عمل نفط وتفريقه مع جماعة من أتباعهم، وأنه ممن أعطي ذلك وأمر بوضعه عند منبر جامع الظاهر، ثم أمر بالراهبين فعوقبا فاعترفا أنهما من سكان دير البغل، وأنهما هما اللذان أحرقا المواضع التي تقدّم ذكرها بالقاهرة، غيرة وحنقا من المسلمين لما كان من هدمهم للكنائس، وأن طائفة النصارى تجمعوا وأخرجوا من بينهم مالا جزيلا لعمل هذا النفط. واتفق وصول كريم الدين ناظر الخاص من الإسكندرية، فعرّفه السلطان ما وقع من القبض على النصارى، فقال: النصارى لهم بطرك يرجعون إليه ويعرف أحوالهم، فرسم السلطان بطلب البطرك عند كريم الدين ليتحدّث معه في أمر الحريق وما ذكره النصارى من قيامهم في ذلك، فجاء في حماية والي القاهرة في الليل خوفا من العامّة، فلما أن دخل بيت كريم الدين بحارة الديلم وأحضر إليه الثلاثة النصارى من عند الوالي، قالوا لكريم الدين بحضرة البطرك والوالي جميع ما اعترفوا به قبل ذلك، فبكى البطرك عند ما سمع كلامهم وقال: هؤلاء سفهاء النصارى، قصدوا مقابلة سفهاء المسلمين على تخريبهم الكنائس، وانصرف من عند كريم الدين مبجلا مكرّما، فوجد كريم الدين قد أقام له بغلة على بابه ليركبها، فركبها وسار، فعظم ذلك على الناس وقاموا عليه يدا واحدة، فلولا أن الوالي كان يسايره وإلّا هلك، وأصبح كريم الدين يريد الركوب إلى القلعة على العادة، فلما خرج إلى الشارع صاحت به العامّة ما يحلّ لك يا قاضي تحامي للنصارى وقد أحرقوا بيوت المسلمين وتركبهم بعد هذا البغال، فشق عليه ما سمع وعظمت نكايته، واجتمع بالسلطان، فأخذ يهوّن أمر النصارى الممسوكين ويذكر أنهم سفهاء وجهال، فرسم السلطان للوالي بتشديد عقوبتهم، فنزل وعاقبهم عقوبة مؤلمة، فاعترفوا بأن أربعة عشر راهبا بدير البغل قد تحالفوا على إحراق ديار المسلمين كلها، وفيهم راهب يصنع النفط، وأنهم اقتسموا القاهرة ومصر، فجعل للقاهرة ثمانية، ولمصر ستة، فكبس دير البغل وقبض على من فيه وأحرق من جماعته أربعة بشارع صليبة جامع ابن طولون في يوم الجمعة، وقد اجتمع لمشاهدتهم عالم عظيم، فضرى من حينئذ جمهور الناس على النصارى وفتكوا بهم، وصاروا يسلبون ما عليهم من الثياب حتى فحش الأمر وتجاوزوا فيهم المقدار، فغضب السلطان من ذلك وهمّ أن يوقع

بالعامّة، واتفق أنه ركب من القلعة يريد الميدان الكبير في يوم السبت، فرأى من الناس أمما عظيمة قد ملأت الطرقات وهم يصيحون نصر الله الإسلام، أنصر دين محمد بن عبد الله. فخرج من ذلك، وعندما نزل الميدان أحضر إليه الخازن نصرانيين قد قبض عليهما وهما يحرقان الدور، فأمر بتحريقهما، فأخرجا وعمل لهما حفرة وأحرقا بمرأى من الناس، وبينا هم في إحراق النصرانيين إذا بديوان الأمير بكتمر الساقي قد مرّ يريد بيت الأمير بكتمر، وكان نصرانيا، فعندما عاينه العامّة ألقوه عن دابته إلى الأرض وجرّدوه من جميع ما عليه من الثياب وحملوه ليلقوه في النار، فصاح بالشهادتين وأظهر الإسلام، فأطلق. واتفق مع هذا مرور كريم الدين، وقد لبس التشريف، من الميدان، فرجمه من هنالك رجما متتابعا وصاحوا به: كم تحامي للنصارى وتشدّ معهم، ولعنوه وسبّوه، فلم يجد بدّا من العود إلى السلطان وهو بالميدان، وقد اشتدّ ضجيج العامّة وصياحهم حتى سمعهم السلطان، فلما دخل عليه وأعلمه الخبر امتلأ غضبا واستشار الأمراء، وكان بحضرته منهم الأمير جمال الدين نائب الكرك، والأمير سيف الدين البوبكريّ، والخطيريّ، وبكتمر الحاجب في عدّة أخرى، فقال الأبوبكريّ: العامة عمي والمصلحة أن يخرج إليهم الحاجب ويسألهم عن اختيارهم حتى يعلم. فكره هذا من قوله السلطان، وأعرض عنه. فقال نائب الكرك: كل هذا من أجل الكتاب النصارى، فإن الناس أبغضوهم، والرأي أن السلطان لا يعمل في العامة شيئا، وإنما يعزل النصارى من الديوان. فلم يعجبه هذا الرأي أيضا، وقال للأمير الماس الحاجب: امض ومعك أربعة من الأمراء وضع السيف في العامّة من حين تخرج من باب الميدان إلى أن تصل إلى باب زويلة، واضرب فيهم بالسيف من باب زويلة إلى باب النصر، بحيث لا ترفع السيف عن أحد البتة. وقال لوالي القاهرة: اركب إلى باب اللوق وإلى باب البحر، ولا تدع أحدا حتى تقبض عليه وتطلع به إلى القلعة، ومتى لم تحضر الذين رجموا وكيلي، يعني كريم الدين، وإلّا وحياة رأسي شنقتك عوضا عنهم، وعين معه عدّة من المماليك السلطانية، فخرج الأمراء بعد ما تلكئوا في المسير حتى اشتهر الخبر، فلم يجدوا أحدا من الناس حتى ولا غلمان الأمراء وحواشيهم، ووقع القول بذلك في القاهرة، فغلقت الأسواق جميعها، وحل بالناس أمر لم يسمع بأشدّ منه، وسار الأمراء فلم يجدوا في طول طريقهم أحدا إلى أن بلغوا باب النصر، وقبض الوالي من باب اللوق وناحية بولاق وباب البحر كثيرا من الكلابزية والنواتية وأسقاط الناس، فاشتدّ الخوف وعدّى كثير من الناس إلى البرّ الغربيّ بالجيزة، وخرج السلطان من الميدان فلم يجد في طريقه إلى أن صعد قلعة الجبل أحدا من العامّة، وعند ما استقرّ بالقلعة سيّر إلى الوالي يستعجل حضوره، فما غربت الشمس حتى أحضر ممن أمسك من العامّة نحو مائتي رجل، فعزل منهم طائفة أمر بشنقهم، وجماعة رسم بتوسيطهم، وجماعة رسم بقطع أيديهم، فصاحوا بأجمعهم: يا خوند ما يحلّ لك، ما نحن الذين رجمنا، فبكى الأمير بكتمر الساقي ومن

حضر من الأمراء رحمة لهم، وما زالوا بالسلطان إلى أن قال للوالي: اعزل منهم جماعة، وانصب الخشب من باب زويلة إلى تحت القلعة بسوق الخيل، وعلّق هؤلاء بأيديهم. فلما أصبح يوم الأحد علق الجميع من باب زويلة إلى سوق الخيل، وكان فيهم من له بزة وهيئة، ومرّ الأمراء بهم فتوجعوا لهم وبكوا عليهم، ولم يفتح أحد من أرباب الحوانيت بالقاهرة ومصر في هذا اليوم حانوتا، وخرج كريم الدين من داره يريد القلعة على العادة فلم يستطع المرور على المصولبين، وعدل عن طريق باب زويلة، وجلس السلطان في الشباك وقد أحضر بين يديه جماعة ممن قبض عليهم الوالي فقطع أيدي وأرجل ثلاثة منهم والأمراء لا يقدرون على الكلام معه في أمرهم لشدّة حنقه، فتقدّم كريم الدين وكشف رأسه وقبّل الأرض وهو يسأل العفو، فقبل سؤاله وأمر بهم أن يعملوا في حفير الجيزة، فأخرجوا وقد مات ممن قطع أيديهم اثنان، وأنزل المعلقون من على الخشب. وعند ما قام السلطان من الشباك وقع الصوت بالحريق في جهة جامع ابن طولون، وفي قلعة الجبل، وفي بيت الأمير ركن الدين الأحمديّ بحارة بهاء الدين، وبالفندق خارج باب البحر من المقس وما فوقه من الربع، وفي صبيحة يوم هذا الحريق قبض على ثلاثة من النصارى وجد معهم فتائل النفط، فأحضروا إلى السلطان واعترفوا بأن الحريق كان منهم، واستمرّ الحريق في الأماكن إلى يوم السبت، فلما ركب السلطان إلى الميدان على عادته، وجد نحو عشرين ألف نفس من العامّة قد صبغوا خرقا بلون أزرق وعلموا فيها صلبانا بيضا، وعند ما رأوا السلطان صاحوا بصوت عال واحد لا دين إلّا دين الإسلام، نصر الله دين محمد بن عبد الله، يا ملك الناصر، يا سلطان الإسلام انصرنا على أهل الكفر، ولا تنصر النصارى. فارتجت الدنيا من هول أصواتهم، وأوقع الله الرعب في قلب السلطان وقلوب الأمراء، وسار وهو في فكر زائد حتى نزل بالميدان وصراخ العامة لا يبطل، فرأى أن الرأي في استعمال المداراة، وأمر الحاجب أن يخرج وينادي بين يديه: من وجد نصرانيا فله ماله ودمه. فخرج ونادى بذلك، فصاحت العامّة وصرخت: نصرك الله. وضجوا بالدعاء، وكان النصارى يلبسون العمائم البيض، فنودي في القاهرة ومصر من وجد نصرانيا بعمامة بيضاء حلّ له دمه وماله، ومن وجد نصرانيا راكبا حلّ له دمه وماله، وخرج مرسوم بلبس النصارى العمامة الزرقاء، وأن لا يركب أحد منهم فرسا ولا بغلا، ومن ركب حمارا فليركبه مقلوبا، ولا يدخل نصرانيّ الحمام إلّا وفي عنقه جرس، ولا يتزيا أحد منهم بزيّ المسلمين، ومنع الأمراء من استخدام النصارى، وأخرجوا من ديوان السلطان. وكتب لسائر الأعمال بصرف جميع المباشرين من النصارى، وكثر إيقاع المسلمين بالنصارى حتى تركوا السعي في الطرقات، وأسلم منهم جماعة كثيرة، وكان اليهود قد سكت عنهم في هذه المدّة، فكان النصرانيّ إذا أراد أن يخرج من منزله يستعير عمامة صفراء من أحد من اليهود ويلبسها، حتى يسلم من العامّة، واتفق أن بعض دواوين النصارى كان له عند يهوديّ مبلغ أربعة آلاف درهم

نقرة، فصار إلى بيت اليهوديّ وهو متنكر في الليل ليطالبه، فأمسكه اليهودي وقال: أنا بالله وبالمسلمين، وصاح. فاجتمع الناس لأخذ النصرانيّ، ففرّ إلى داخل بيت اليهوديّ واستجار بامرأته، وأشهد عليه بإبراء اليهوديّ حتى خلص منه، وعثر على طائفة من النصارى بدير الخندق يعملون النفط لإحراق الأماكن، فقبض عليهم وسمروا ونودي في الناس بالأمان، وأنهم يتفرّجون على عادتهم عند ركوب السلطان إلى الميدان، وذلك أنهم كانوا قد تخوّفوا على أنفسهم لكثرة ما أوقعوا بالنصارى، وزادوا في الخروج عن الحدّ، فاطمأنوا وخرجوا على العادة إلى جهة الميدان، ودعوا للسلطان، وصاروا يقولون نصرك الله يا سلطان الأرض، اصطلحنا اصطلحنا، وأعجب السلطان ذلك وتبسم من قولهم، وفي تلك الليلة وقع حريق في بيت الأمير الماس الحاجب من القلعة، وكان الريح شديدا، فقويت النار وسرت إلى بيت الأمير ايتمش، فانزعج أهل القلعة وأهل القاهرة وحسبوا أن القلعة جميعها احترقت، ولم يسمع بأشنع من هذه الكائنة، فإنه احترق على يد النصارى بالقاهرة ربع في سوق الشوّايين، وزقاق العريسة بحارة الديلم، وستة عشر بيتا بجوار بيت كريم الدين، وعدّة أماكن بحارة الروم، ودار بهادر بجوار المشهد الحسينيّ، وأماكن باصطبل الطارمة وبدرب العسل، وقصر أمير سلاح، وقصر سلار بخط بين القصرين، وقصر بيسرى، وخان الحجر، والجملون، وقيسارية الادم، ودار بيبرس بحارة الصالحية، ودار ابن المغربيّ بحارة زويلة، وعدّة أماكن بخط بئر الوطاويط وبيشكر وفي قلعة الجبل وفي كثير من الجوامع والمساجد إلى غير ذلك من الأماكن بمصر والقاهرة يطول عددها. وخرب من الكنائس كنيسة بخرائب التتر من قلعة الجبل، وكنيسة الزهري في الموضع الذي فيه الآن البركة الناصرية، وكنيسة الحمراء، وكنيسة بجوار السبع سقايات تعرف بكنيسة البنات، وكنيسة أبي المنيا، وكنيسة الفهادين بالقاهرة، وكنيسة بحارة الروم، وكنيسة بالبندقانيين، وكنيستان بحارة زويلة، وكنيسة بخزانة البنود، وكنيسة بالخندق، وأربع كنائس بثغر الإسكندرية، وكنيستان بمدينة دمنهور الوحش، وأربع كنائس بالغربية، وثلاث كنائس بالشرقية، وست كنائس بالبهنساوية، وبسيوط ومنفلوط ومنية الخصيب ثمان كنائس، وبقوص وأسوان إحدى عشرة كنيسة، وبالأطفيحية كنيسة، وبسوق وردان من مدينة مصر، وبالمصاصة وقصر الشمع من مصر ثمان كنائس، وخرب من الديارات شيء كثير، وأقام دير البغل ودير شهران مدّة ليس فيهما أحد، وكانت هذه الخطوب الجليلة في مدّة يسيرة. قلما يقع مثلها في الأزمان المتطاولة، هلك فيها من الأنفس وتلف فيها من الأموال وخرب من الأماكن ما لا يمكن وصفه لكثرته، ولله عاقبة الأمور. كنيسة ميكائيل: هذه الكنيسة كانت عند خليج بني وائل خارج مدينة مصر قبليّ عقبة يحصب، وهي الآن قريبة من جسر الأفرم، أحدثت في الإسلام وهي مليحة البناء.

كنيسة مريم: في بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش خالية ليس بها أحد. كنيسة مريم: بناحية العدوية من قبليها قديمة وقد تلاشت. كنيسة أنطونيوس: بناحية بياض قبليّ اطفيح، وهي محدثة. وكان بناحية شرنوب عدّة كنائس خربت، وبقي بناحية أهريت الجبل قبليّ بياض بيومين. كنيسة السيدة: بناحية أشكر وعلى بابها برج مبنيّ بلبن كبار يذكر أنه موضع ولد موسى بن عمران عليه السلام. كنيسة مريم: بناحية الخصوص وهي بيت فعملوه كنيسة لا يعبأ بها. كنيسة مريم وكنيسة بخنس القصير وكنيسة غبريال: هذه الكنائس الثلاث بناحية أبنوب. كنيسة أسبوطير ومعناه المخلص: هذه الكنيسة بمدينة اخميم، وهي كنيسة معظمة عندهم، وهي على اسم الشهداء، وفيها بئر إذا جعل ماؤها في القنديل صار أحمر قانيا كأنه الدم. كنيسة ميكائيل: بمدينة أخميم أيضا، ومن عادة النصارى بهاتين الكنيستين إذا عملوا عيد الزيتونة المعروف بعيد الشعانين أن يخرج القسوس والشمامسة بالمجامر والبخور والصلبان والأناجيل والشموع المشتعلة ويقفوا على باب القاضي، ثم أبواب الأعيان من المسلمين، فيبخروا ويقرءوا فصلا من الإنجيل، ويطرحوا له طرحا، يعني يمدحونه. كنيسة بوبخوم: بناحية اتفه، وهي آخر كنائس الجانب الشرقيّ، وبخوم ويقال بخوميوس، كان راهبا في زمن بوشنودة، ويقال له أبو الشركة من أجل أنه كان يربي الرهبان، فيجعل لكل راهبين معلما، وكان لا يمكن من دخول الخمر ولا اللحم إلى ديره، ويأمر بالصوم إلى آخر التاسعة من النهار، ويطعم رهبانه الحمص المصلوق، ويقال له عندهم حمص القلة، وقد خرب ديره وبقيت كنيسته هذه باتفه قبليّ اخميم. كنيسة مرقص الإنجيليّ: بالجيزة، خربت بعد سنة ثمانمائة ثم عمرت. ومرقص هذا أحد الحواريين، وهو صاحب كرسيّ مصر والحبشة. كنيسة بوجرج: بناحية أبي النمرس من الجيزة، هدمت في سنة ثمانين وسبعمائة، كما تقدّم ذكره ثم أعيدت بعد ذلك. كنيسة بوفار: آخر أعمال الجيزة. كنيسة شنودة: بناحية هربشت. كنيسة بوجرج: بناحية ببا، وهي جليلة عندهم يأتونها بالنذور ويحلفون بها، ويحكون لها فضائل متعدّدة.

كنيسة ماروطا القدّيس: بناحية شمسطا، وهم يبالغون في ماروطا هذا، وكان من عظماء رهبانهم، وجسده في انبوبة بدير بوبشاء من برّية شيهات، يزورونه إلى اليوم. كنيسة مريم بالبهناس: ويقال أنه كان بالبهنسا ثلاثمائة وستون كنيسة خربت كلها، ولم يبق بها إلّا هذه الكنيسة لا غير. كنيسة صمويل: الراهب بناحية شبري. كنيسة مريم: بناحية طنبدي وهي قديمة. كنيسة ميخائيل: بناحية طنبدي وهي كبيرة قديمة، وكان هناك كنائس كثيرة خربت، وأكثر أهل طنبدي نصارى أصحاب صنائع. كنيسة الأيصطولي: أعني الرسل، بناحية أشنين، وهي كبيرة جدّا. كنيسة مريم: بناحية اشنين أيضا وهي قديمة. كنيسة ميخائيل وكنيسة غبريال: بناحية اشنين أيضا، وكان بهذه الناحية مائة وستون كنيسة خربت كلها إلّا هذه الكنائس الأربع، وأكثر أهل اشنين نصارى، وعليهم الدرك في الخفارة، وبظاهرها آثار كنائس يعملون فيها أعيادهم، منها كنيسة بوجرج، وكنيسة مريم، وكنيسة ماروطا، وكنيسة بربارة، وكنيسة كفريل، وهو جبريل عليه السلام. وفي منية ابن خصيب ست كنائس: كنيسة المعلقة وهي كنيسة السيدة، وكنيسة بطرس وبولص، وكنيسة ميكائيل، وكنيسة بوجرج، وكنيسة انيابولا الطمويهيّ، وكنيسة الثلاث فتية، وهم حنانيا وعزاريا وميصائيل، وكانوا أجنادا في أيام بخت نصر فعبدوا الله تعالى خفية، فلما عثروا عليهم راودهم بخت نصر أن يرجعوا إلى عبادة الأصنام فامتنعوا من ذلك، فسجنهم مدّة ليرجعوا فلم يرجعوا، فأخرجهم وألقاهم في النار فلم تحرقهم، والنصارى تعظمهم، وإن كانوا قبل المسيح بدهر. كنيسة بناحية طحا: على اسم الحواريين الذين يقال لهم عندهم الرسل. كنيسة مريم: بناحية طحا أيضا. كنيسة الحكيمين: بناحية منهري، لها عيد عظيم في بشنس يحضره الأسقف، ويقام هناك سوق كبير في العيد، وهذان الحيكمان هما قزمان ودميان الراهبان. كنيسة السيدة: بناحية بقرقاس قديمة كبيرة. وبناحية ملوى كنيسة كنيسة الرسل، وكنيستان خراب، إحداهما على اسم بوجرج، والأخرى على اسم الملك ميخائيل. وبناحية دلجة كنائس كثيرة لم يبق منها إلّا ثلاث

كنائس: كنيسة السيدة، وهي كبيرة. وكنيسة شنودة، وكنيسة مرقورة، وقد تلاشت كلها. وبناحية صنبو كنيسة انبابولا، وكنيسة بوجرج، وصنبو كثيرة النصارى. وبناحية ببلاو وهي بحريّ صنبو كنيسة قديمة بجانبها الغربيّ على اسم جرجس، وبها نصارى كثيرون فلاحون. وبناحيا دروط كنيسة وفي خارجها شبه الدير على اسم الراهب ساراماتون، وكان في زمان شنودة، وعمل أسقفا، وله أخبار كثيرة. وبناحية بوق بنى زيد كنيسة كبيرة على اسم الرسل، ولها عيد. وبالقوصية كنيسة مريم، وكنيسة غبريال، وبناحية دمشير كنيسة الشهيد مرقوريوس، وهي قديمة وبها عدّة نصارى. وبناحية أمّ القصور كنيسة بوبخنس القصير وهي قديمة. وبناحية بلوط من ضواحي منفلوط كنيسة ميخائيل وهي صغيرة. وبناحية البلاعزة من ضواحي منفلوط كنيسة صغيرة يقيم بها القسيس بأولاده. وبناحية شقلقيل ثلاث كنائس كبار قديمة إحداها على اسم الرسل، وأخرى باسم ميخائيل، وأخرى باسم بومنا. وبناحية منشأة النصارى كنيسة ميخائيل. وبمدينة سيوط كنيسة بوسدرة وكنيسة الرسل، وبخارجها كنيسة بومينا. وبناحية درنكة كنيسة قديمة جدّا على اسم الثلاثة فتية حنانيا وعزاريا وميصائيل، وهي مورد لفقراء النصارى، ودرنكة أهلها من النصارى يعرفون اللغة القبطية، فيتحدّث صغيرهم وكبيرهم بها، ويفسرونها بالعربية. وبناحية ريفة كنيسة بوقلتة الطبيب الراهب صاحب الأحوال العجيبة في مداواة الرمدى من الناس، وله عيد يعمل بهذه الكنيسة. وبها كنيسة ميخائيل أيضا، وقد أكلت الأرضة جانب ريفة الغربيّ. وبناحية موشة كنيسة مركبة على حمام على اسم الشهيد بقطر، وبنيت في أيام قسطنطين ابن هيلانة، ولها رصيف عرضه عشرة أذرع، ولها ثلاث قباب ارتفاع كل منها نحو الثمانين ذراعا، مبنية بالحجر الأبيض كلها، وقد سقط نصفها الغربيّ، ويقال أنّ هذه الكنيسة على كنز تحتها، ويذكر أنه كان من سيوط إلى موشة هذه ممشاة تحت الأرض. وبناحية بقور من ضواحي بوتيج كنيسة قديمة للشهيد اكلوديس، وهو يعدل عندهم مرقوريوس، وجاأرجيوس، وهو أبو جرج والإسفهسلارتا أدروس وميتاوس، وكان أكلوديوس أبوه من قوّاد ديقلطيانوس، وعرف هو بالشجاعة فتنصر، فأخذه الملك وعذبه ليرجع إلى عبادة الأصنام، فثبت حتى قتل وله أخبار كثيرة. وبناحية القطيعة كنيسة على اسم السيدة، وكان بها أسقف يقال له الدوين، بينه وبينهم منافرة فدفنوه حيا، وهم من شرار النصارى معروفون بالشرّ، وكان منهم نصرانيّ يقال له جرجس ابن الراهبة، تعدّى طوره فضرب رقبته الأمير جمال الدين يوسف الأستادار بالقاهرة في أيام الناصر فرج بن برقوق. وبناحية بوتيج كنائس كثيرة قد خربت، وصار النصارى يصلون في بيت لهم سرّا، فإذا طلع النهار خرجوا إلى آثار كنيسة وعملوا لها سياجا من جريد شبه القفص وأقاموا هناك عباداتهم.

وأما الوجه البحري:

وبناحية مقروفه كنيسة قديمة لميخائيل، ولها عيد في كل سنة، وأهل هذه الناحية نصارى، أكثرهم رعاة غنم وهم همج رعاع. وبناحية دوينة كنيسة على اسم بوبخنس القصير، وهي قبة عظيمة وكان بها رجل يقال له يونس، عمل أسقفا واشتهر بمعرفة علوم عديدة فتعصبوا عليه حسدا منهم له على علمه ودفنوه حيا، وقد توعك جسمه. وبالمراغة التي بين طهطا وطما كنيسة. وبناحية قلفا كنيسة كبيرة، وتعرف نصارى هذه البلدة بمعرفة السحر ونحوه، وكان بها في أيام الظاهر برقوق شماس يقال له أبصاطيس له في ذلك يد طولى، ويحكى عنه ما لا أحب حكايته لغرابته، وبناحية فرشوط كنيسة ميخائيل، وكنيسة السيدة مارت مريم، وبمدينة هوّ كنيسة السيدة وكنيسة بومنا. وبناحية بهجورة كنيسة الرسل. وباسنا كنيسة مريم وكنيسة ميخائيل وكنيسة يوحنا المعمدانيّ، وهو يحيى بن زكريا عليهما السلام. وبنقادة كنيسة السيدة، وكنيسة يوحنا المعمدانيّ، وكنيسة غبريال، وكنيسة يوحنا الرحوم، وهو من أهل أنطاكية ذوي الأموال، فزهد وفرّق ماله كله في الفقراء وساح وهو على دين النصرانية في البلاد، فعمل أبواه عزاءه وظنوا أنه قد مات، ثم قدم أنطاكية في حالة لا يعرف فيها، وأقام في كوخ على مزبلة، وأقام رمقه بما يلقى على تلك المزبلة حتى مات، فلما عملت جنازته كان ممن حضرها أبوه، فعرف غلاف إنجيله، ففحص عنه حتى عرف أنه ابنه، فدفنه وبنى عليه كنيسة أنطاكية. وبمدينة قفط كنيسة السيدة، وكان بأصفون عدّة كنائس خربت بخرابها، وبمدينة قوص عدّة أديرة وعدّة كنائس خربت بخرابها، وبقي بها كنيسة السيدة ولم يبق بالوجه القبليّ من الكنائس سوى ما تقدّم ذكرنا له. وأما الوجه البحريّ: ففي منية صرد من ضواحي القاهرة كنيسة السيدة مريم، وهي جليلة عندهم. وبناحية سندوة كنيسة محدثة على اسم بوجرج، وبمر صفا كنيسة مستجدّة على اسم بوجرج أيضا، وبسمنود كنيسة على اسم الرسل عملت في بيت، وبسنباط كنيسة جليلة عندهم على اسم الرسل، وبصندفة كنيسة معتبرة عندهم على اسم بوجرج، وبالريدانية كنيسة السيدة ولها قدر جليل عندهم، وفي دمياط أربع كنائس للسيدة ولميخائيل وليوحنا المعمدانيّ ولماري جرجس، ولها مجد عندهم. وبناحية سبك العبيد كنيسة محدثة في بيت مخفيّ على اسم السيدة، وبالنحراوية كنيسة محدثة في بيت مخفي، وفي لقانة كنيسة بوبخنس القصير، وبدمنهور كنيسة محدثة في بيت مخفي على اسم ميخائيل، وبالإسكندرية المعلقة على اسم السيدة وكنيسة بوجرج وكنيسة يوحنا المعمداني وكنيسة الرسل، فهذه كنائس اليعاقبة بأرض مصر، ولهم بغزة كنيسة مريم، ولهم بالقدس القمامة وكنيسة صهيون.

وأما الملكية فلهم بالقاهرة كنيسة ماري نقولا بالبندقانيين، وبمصر كنيسة غبريال الملاك بخط قصر الشمع، وبها قلاية لبطركهم، وكنيسة السيدة بقصر الشمع أيضا، وكنيسة الملاك ميخائيل بجوار بربارة بمصر، وكنيسة مار يوحنا بخط دير الطين، والله أعلم. وهذا أخر الجزء الثاني وبتمامه تم الكتاب والحمد لله وحده وصلّى الله على من لا نبيّ بعده وسلّم ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا عدوان إلّا على الظالمين. قول المستعين بربه القويّ، محمد ابن المرحوم الشيخ عبد الرحمن قطة العدوي، مصحح دار الطباعة المصرية، بلغه الله من الخير كلّ أمنية: إن من جملة المحاسن الممدوحة بكلّ لسان، وأحاسن الآثار الغنيّ فضلها عن البيان، التي ظهرت في أيام صاحب العز والإقبال، من طبع على المرحمة والعدالة في الأقوال والأفعال، واختص بحسن التبصر وسداد النظر، ورعاية المصالح العامّة لأهل البدو والحضر، ووهب من صفات الكمال وكمال الصفات، ما تقصر دون تعداده العبارات والإشارات، من هو الفرقد الثاني، في أفق الصدارة العثمانيّ، عزيز الديار المصرية، ذي المناقب الفاخرة السنية، حضرة أفندينا الحاج عباس باشا، لا زال بصولة عدله جيش المظالم يتلاشى، ولا برح قرير العين بأنجاله، محفوظ الجناب نافذ القول في حاله واستقباله، ولا فتيء لواء عزه منشورا، ولا انفك سعيه مشكورا، طبع كتاب الخطط للعلامة المقريزيّ الشهير، المجمع على فضله وعموم نفعه بلا نكير، كيف لا وقد جمع من تخطيط الحكومة المصرية، وما يتعلق بها من الموادّ الجغرافية والتاريخية، وذكر أصناف أهلها وولاتها، وما عرض لها من تقلبات الأزمان وتغيراتها، وما تضمنته من الأخلاق والعوائد، الصحيح منها والفاسد، وما توارد عليها من الدول والحكومات، واختلاف الملل والديانات، وغير ذلك من الفوائد، وصحيح الأدلة والشواهد، وعجائب الأخبار، وغرائب الآثار، ما يغني الحاذق اللبيب، ويكفي الماهر الأريب، ويعتبر به المعتبرون، ويتفكه به المتآمرون، بل هو النديم الذي لا يمل، والأنيس الذي في استصحابه تهون الكرائم وتبذل، بيد أنه يتحفك من تاريخ مصر بأظرف تحفه، ويمنحك من طريف جغرافيتها وتليدها ألطف طرقه، ويسكنك من قصور أنبائها على غرفه، وينشقك من زهر روض أخبارها شميمه وعرفه، غير أنه لما كان فنّ التاريخ مع جليل نفعه، وجزيل فائدته عند أرباب المعارف وعظيم وقعه، قد رميت سوقه في هذه الأزمان بالكساد، وتقاصرت عنه الهمم من كل حاضر وباد، كان هذا الكتاب مما خيمت عليه عناكب النسيان، وعزت نسخه في ديارنا حتى كاد لا يعثر بها إنسان، فإنها فيها قليلة محصورة، متروكة الاستعمال مهجورة، فكانت مع قلتها عارية عن صحتها، فكم فيها من تحريف فاحش وسقط متفاحش، وغلط مخل، وخطا مضجر وممل، ويفضي بالقاري إلى الملل، ويعوّضه

عن النشاط الكسل، لكن بحمد الله وعونه، وعظيم فضله ومنه، وبذل المجهود في التصحيح، واستفراغ الوسع في التحرير والتنقيح، جاءت النسخة المطبوعة صحيحة حسب الإمكان، جديرة بأن تحل محل القبول والاستحسان، فإنّ ما كان من عباراته بالتحريف سقيما، ولم يفهم معنى مستقيما، أجلت فيه ذهني مع قصوره، وكلفته التسلق على قصوره، فإن فتح له باب الرشاد، وألهم المعنى المراد، حمدت ربي، حيث نلت أربي، وإن كانت الأخرى، وكبا زند الفهم وما أورى، نبهت على وجه التوقف في الحاشية بالعبارة، أو رقمت فيها رقما هنديا ليكون إلى التوقف إشارة، وربما أشرت إلى الصواب، لكن على سبيل الرجاء في الاستصواب، وربما مرّ بك تعداد بعض أشياء يشم منها مخالفة العربية، وتفصيل أمور تأباه بحسب الظاهر القواعد النحوية، وعذرنا في ذلك، أن المؤلف تقلها كذلك، عمن نقلها عن جريدة حساب، وأثبتها على ما هي عليه في تقييدات الكتاب، فأبقيناها على حالها، ولم ننسجها على غير منوالها، حرصا على عدم التغيير في عبارات المؤلفين، حسبما نص عليه أئمة الدين، لا سيما والمعنى معه ظاهر، لا يخفى على السامع والناظر، ثم إنه لبعض الأسباب، فاتني تصحيح نحو اثنتين وعشرين ملزمة من أوّل الجزء الأوّل، ومثلها من أوّل الثاني من هذا الكتاب، لكن إن شاء الله تعالى يحصل الاطلاع عليها، والنظر بعين التأمل إليها، فإن عثر فيها على ما يلزم التنبيه عليه، والإشارة إليه، نبهت عليه وأثبت ما يخص كلّ جزء بلصقه، ليكون كلّ منهما مستوفيا لحقه، هذا وكأني بمتشقشق متشدّق، يعجل ببذاءة اللسان ولا يحقق، قد استولى عليه الحسد فأعمى بصيرته، ورفع بالذمّ والتشنيع عقيرته، قائلا ما لا يليق إلا به، مذيعا ما هو أولى به، وما درى الجهول أن فنّ التصحيح خطر دقيق، وصاحبه بضدّ ما تبجح به جدير حقيق، ولو ذاق لعرف، وبالعجز أقرّ واعترف، وبالجملة فذمّه يشهد لي بالكمال، أخذا بقول من قول: وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل على أني والله معترف بقلة البضاعة، وعدم الأهلية لهذه الصناعة، ولكنما هي إقامات، وإنما الأعمال بالنيات. وأفوّض أمري إلى اللطيف الخبير، فإنه نعم المولى ونعم النصير، وكان طبع هذا الكتاب بدار الطباعة المصرية، المنشأة ببولاق القاهرة المعزية، لا زالت بأنفاس الحضرة الآصفية، منبعا لنشر الكتب النافعة العلمية، تحت ملاحظة صاحب نظارتها، القائم بتدبيرها وإدارتها، رب القلم الذي لا يبارى، والإنشاء الذي لا يجارى، من أحرز قصب السبق في ميدان البراعة، وانقاد له كلّ معنى أبيّ وأطاعه، حضرة عليّ أفندي جودة، بلغه الله في الدارين مأموله وقصده، وكان طبعه على ذمة ملتزمة، المتسبب بعد الطيّ في نشر علمه، واشتهاره في الأقطار، واستعماله عند أهل القرى والأمصار، الباذل في ذلك نفائس الكرائم،

المستصغر في استحصاله الصعائب والعظائم، المستنصر بمولاه في حالتي الضعف والأيد الخواجة رفائيل عبيد، وقد وافق تاريخ تمامه، وانتهاء الطبع إلى حدّ ختامه، يوم الاثنين التاسع عشر، من شهر اليمن والخير صفر، الذي هو من شهور سنة ألف ومائتين وسبعين، من هجرة سيد النبيين والمرسلين صلّى الله وسلّم عليه وعليهم أجمعين، وعلى كلّ الصحابة والتابعين، ورزقنا بجاههم الاعتصام بحبله على الدوام، ومنحنا التوفيق لما يرضيه، والفوز بحسن الختام. آمين.

§1/1